الأبعاد السياسية لثورة الإمام الحسين عليه السلام
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الأبعاد السياسية لثورة الإمام الحسين عليه السلام
كان أول شيء اهتم به يزيد بن معاوية بعد أن تولى الخلافة من بعد أبيه هو فرض البيعة على الحرمين الشريفين . وكان الحرمان الشريفان يعتبران نقطتا الثقل السياسي في إعطاء الشرعية أو سلب الشرعية من مركز الخلافة في الشام . وأكثر ما كان يهم يزيد من أمر البيعة ثلاثة أشخاص : الإمام الحسين عليه السلام وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير .
رفض خيار البيعة
فكتب إلى عامله على المدينة (( الوليد بن عتبة )) ليأخذ البيعة من الإمام عليه السلام فامتنع الحسين عليه السلام امتناعاً شديداً في قصة طويلة ، يذكرها الطبري وابن أعثم ، وغيرهما من المؤرخين ، فقد قال الحسين عليه السلام لمروان ، وكان حاضراً ذلك المجلس ، وكان يحث الوليد ألا يترك الحسين حتى يأخذ البيعة منه في ذلك المجلس ، وإلاّ فيضرب عنقه .. فقال له الإمام الحسين عليه السلام : (( ويلي عليك يا ابن الزرقاء أتأمر بضرب عنقي ، كذبت والله . والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك . فرم ضرب عنقي إن كنت صادقاً )) .
ثم أقبل الحسين عليه السلام على الوليد بن عتبة فقال : (( أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )) .
وعندما خرج الحسين عليه السلام من عند الوليد لامه مروان على ذلك لوماً شديداً : فقال له عامل يزيد : (( ويحك أتشير عليّ أن أقتل الحسين : فوالله ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها ، وما أحسب أن قاتله يلقى الله بدمه إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة )) .فقال له مروان مستهزئاً ( إن كنت إنما تركت ذلك لذلك فقد أصبت )) .
وقد كان موقف الإمام عليه السلام في الإمتناع من البيعة ليزيد موقفاً واضحاً لا يشك فيه أحد ، وكلمات الإمام في مواقف متعددة في مسيره من المدينة إلى كربلاء توضح هذه الحقيقة . يقول الإمام عليه السلام لمحمد بن الحنفية ( أخيه ) : (( يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً )) .
وخطب الإمام يوم عاشوراء في جيش بني أمية فقال : (( ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت تؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام )) .
فلم يكن الإمام – إذن – ليبايع يزيد مهما يكن من أمر . ومن طرف آخر لم يكن يزيد ليترك الإمام عليه السلام من دون بيعة مهما تكن النتيجة .
وقد كان الإمام الحسين عليه السلام يؤمن بهاتين القضيتين معاً . فلا سبيل إلى بيعة يزيد مهما يكن من أمر ، ولا يمكن أن يتركه يزيد من دون بيعة أيضاً . وكانت النتيجة المترتبة على هذين الأمرين واضحة للإمام كل الوضوح ، لا يشك فيها لحظة واحدة .
وقال الإمام لأصحابه حينما أرادوا الخروج من الحجاز إلى العراق : (( وأيم الله لو كنت في جحر هامة لاستخرجوني )) .
ولما علم عبد الله بن جعفر أن الحسين يريد الخروج إلى العراق كتب إليه يدعوه إلى البقاء . فكتب إليه الحسين عليه السلام : (( والله يا بن عمي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني . والله يا بن عمي ليعدين عليّ كما عدت اليهود على السبت )) .
خيار الشهادة
إذا فلم يكن للإمام الحسين عليه السلام غير طريق واحد هو الشهادة … يزيد لا يقبل من الإمام إلاّ البيعة ، وما دام الحسين عليه السلام لا يعطي البيعة ليزيد مهما تكن الأسباب ، فلا طريق للحسين عليه السلام إلاّ الشهادة ولا بد أن يكون الحسين عليه السلام مقدماً على الشهادة ، حين خرج من الحجاز إلى العراق .
خيار العزلة
وكان هناك طريق ثالث ، اقترحه عليه بعض الناصحين له ، رفضه الإمام رفضاً قاطعاً ، وهو أن يبتعد عن ساحة المعركة ، ويعتزل الناس ، ويذهب بعيداً إلى اليمن ، أو إلى بعض شعب الجبال ، ويحتجب الناس فيكون قد حقق الغاية ، وهو الامتناع عن البيعة ليزيد ، دون أن يعرض نفسه وأهل بيته وأصحابه للأذى والهلاك من قبل يزيد وولاته وعمّاله ، يقول ابن ألأثير : لما عزم الحسين عليه السلام على الخروج من الحجاز إلى العراق جاءه ابن عباس فقال : (( يا بن العم أني أتصبّر ، ولا أصبر . إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال . إن أهل العراق قوم غدّر فلا تقربنهم . أقم في هذا البلد ( مكة المكرمة ) فإنك سيد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم ، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعوباً وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة )) .
وكان ممن يحمل هذا الرأي أخوه محمد بن الحنفية إذ جاء إلى الحسين عليه السلام لما عزم على مغادرة المدينة بأهل بيته فقال له كما يروي ابن الأثير ( يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك ، تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ، وابعث رسلك إلى الناس … فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك .. قال الحسين عليه السلام : فأين أذهب ؟ قال : أنزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فبسبيل ذلك ، وإن نأت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس )) .
وفي العراق اقترح الطرّماح بن عدي على الإمام أن يمتنع عن جيش يزيد بن معاوية بمعاقل طي المنيعة ، فقال للإمام : (( فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك وتستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى ( أجا) امتنعنا والله به عن ملوك غسان ، وحمير ومن النعمان بن المنذر ، ومن الأسود والأحمر . والله إن دخل علينا ذل قط ، فأسير معك حتى أنزلك القرية ))
إلاّ أن الإمام ردّ هؤلاء جميعاً من دون تردد ، لا لأنه كان يشك في صدقهم ونصحهم له ، ولا لأنهم كانوا موضع ارتياب وشك ، عند الإمام ، ولكن لأن هؤلاء لم يكونوا يفهمون الإمام ورأيه وموقفه بالشكل الصحيح ، فلم يكن همّ الإمام فقط أن لا يبايع يزيد ، وألا يضع يده في يد ابن معاوية ، ولو كان الإمام يكتفي بهذا الحد ما كلّفه ذلك كثيراً . فما كان أيسر على الإمام أن يعتزل الناس ويغادر الحجاز إلى بلد ناء من هذه البلاد النائية التي نصحه بها أخوه محمد وابن عمه عبد الله بن عباس ، أو نصحه بها الطرماح بن عدي ، إلاّ أن الإمام لم يكن يكتفي بهذا الموقف السلبي في أمر خلافة يزيد بن معاوية ، ولم يكن هذا الموقف السلبي في رفض البيعة إلاّ وجهاً واحداً من وجهي الموقف . أما الوجه الآخر وهو الأهم ، والذي كلّف الإمام نفسه وأهل بيته وأصحابه وشيعته فهو إعلان هذا الرفض على الملأ من المسلمين .
وهذا الإعلان هو الذي أغضب بني أمية وأثارهم ، فقد اعتبروه تحدياً صارخاً لسلطانهم وحكمهم وشقاً لصفهم ، وخروجاً على حكمهم وسلطانهم ، ولم يكن بنو أمية يتحملون شيئاً من ذلك في أيام سطوتهم وسلطانهم وزهوهم .
وكان الإمام الحسين عليه السلام يتوخى من هذا الإعلان مطلباً سياسياً لم يكن يتحقق لولا اعلان الرفض وهو إسقاط شرعية خلافة بني أمية في نظر العامة من المسلمين . فقد كانت الخلافة رغم كل السلبيات التي أحاطت بها إلى هذا الحين تتمتع بالشرعية في نظر الأكثرية من المسلمين ، وكانت هذه الشرعية تمكن بني أمية من رقاب المسلمين ، وتشل عمل ودور المعارضة ، وتعطي للنظام الأموي قوة ومقاومة كبيرة ، وأخطر من هذا كله ، إن هذه الشرعية كانت تمكّن بني أمية من إدخال الانحرافات الجاهلية – التي جاء بها بنو أمية معهم إلى الحكم – إلى الإسلام ، فيمس الخطر عند ذلك الإسلام ، وتكون مصيبة المسلمين مصيبتين ، مصيبة في حياتهم ونظام أمورهم ، ومصيبة أخرى أكبر وأخطر في دينهم . وكانت هذه النقطة الثانية تشغل بال سيد الشهداء أكثر من أي شيء آخر ، فقد بدأ هذا الانحراف يتسرب إلى الإسلام نفسه من داخل قصور بني أمية مما يقترفون من لهو وفساد وظلم . وإلى هذه النقطة بالذات يشير الإمام عليه السلام ، ففي كلامه مع مروان بن الحكم صبيحة الليلة التي خرج فيها الإمام من بيت الوليد ، رافضاً البيعة ، حيث التقى مروان بالإمام في الطريق فنصح الإمام بالبيعة ليزيد ، فقال الإمام لمروان ( على الإسلام السلام ، إذ بليت الأمة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان )) .
إذن كان الإمام يخشى أكثر ما يخشى على الإسلام – بالذات – من أن يدخل عليه ما جاء به بنو أمية إلى الحكم من انحراف وفساد ، وإذا كان لا يمكن إسقاط الخليفة وانتزاع السلطان منه ، فإن من الممكن انتزاع الشعبية من الخلافة وتجريد الحكم الأموي من الشرعية التي كان يحرص عليها حكام بني أمية . ومثل هذا الأمر يتطلب موقفاً صريحاً معلناً في رفض البيعة ، والامتناع عن قبول خلافة يزيد من جانب الإمام في وسط الرأي العام الإسلامي حينذاك . وهذا ما عمد إليه الحسين عليه السلام عندما رفض البيعة ورفض أن يخفي موقفه السلبي هذا ، ويعتزل الوسط السياسي إلى بعض الشعاب والوديان والجبال ، ليسلم بنفسه وأهل بيته وأصحابه من ملاحقة حكام بني أمية . لقد كان الإمام يخطط ليجعل من موقفه هذا موقفاً سياسياً صارخاً ، واحتجاجاً في وجه حكام بني أمية وإعلاناً لسحب الثقة والشرعية من حكام بني أمية وإعلام الأمة كلها بذلك . وهذه بعض النماذج من كلمات الإمام ومواقفه الصريحة في هذا الصدد :
أولاً : غادر الإمام المدينة إلى مكة ليلاً بجميع أهله وسار على الجادة التي يسلكها الناس ، فقال له ابن عمه مسلم بن عقيل : (( لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة ، كما فعل عبد الله بن الزبير كان عندي الرأي ، فإنا نخاف أن يلحقنا الطلب )) فقال له الحسين عليه السلام : (( لا والله يا ابن عمي لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى )) .
ثانياُ : دخل الإمام مكة بصورة علنية متحدياً سلطان بني أمية . ويصف الخوارزمي نزول الحسين عليه السلام بمكة فيقول : (( وكان قد نزل بأعلى مكة ، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً ، ثم تحول الحسين إلى دار العباس ، حوّله إليها عبد الله بن عباس … فأقام الحسين مؤذناً يؤذن ، رافعاً صوته ، فيصلي بالناس )). وتجمع الناس حول أبن بنت رسول الله في مكة اجتماعاً كبيراً . يقول ابن أعثم : (( دخل الحسين إلى مكة ففرح به أهلها ، فرحاً شديداً ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، واشتد ذلك على عبد الله بن الزبير لأنه قد كان طمع أن يبايعه أهل مكة . فلما قدم الحسين شق ذلك عليه … لكنه كان يختلف إليه ( إلى الحسين ) ، ويصلي بصلاته ، ويقعد عنده ويسمع من حديثه ، وهو مع ذلك يعلم أنه لا يبايعه أحد من أهل مكة ، والحسين بن علي بها . لأن الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير ، وكان عمرو أبن سعيد الأشدق يومئذ عامل يزيد على مكة ، فهاب الحسين ، وهرب إلى المدينة ، وكتب إلى يزيد بأمر الحسين : يقول الخوارزمي : (( وهاب ابن سعيد أن يميل الحجاج مع الحسين ، لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد )).
ثالثاً : تتفق المصادر التاريخية : أن الحسين عليه السلام خرج من مكة إلى العراق يوم الثامن من ذي الحجة ( يوم التروية ) ، عندما كان الحجاج يتوجهون إلى عرفات استعداداً ليوم عرفة ، وقد أثار خروج ابن بنت رسول الله يوم التروية . من بين الحجاج إلى العراق انتباه عامة الحجاج الذين كانوا قد أمّوا البيت الحرام من مختلف الآفاق . فهذا ابن بنت رسول الله يحل من العمرة ويغادر مكة في وقت يتوجه فيه الحجاج إلى عرفات لأداء الحج .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الأبعاد السياسية لثورة الإمام الحسين عليه السلام
كان أول شيء اهتم به يزيد بن معاوية بعد أن تولى الخلافة من بعد أبيه هو فرض البيعة على الحرمين الشريفين . وكان الحرمان الشريفان يعتبران نقطتا الثقل السياسي في إعطاء الشرعية أو سلب الشرعية من مركز الخلافة في الشام . وأكثر ما كان يهم يزيد من أمر البيعة ثلاثة أشخاص : الإمام الحسين عليه السلام وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير .
رفض خيار البيعة
فكتب إلى عامله على المدينة (( الوليد بن عتبة )) ليأخذ البيعة من الإمام عليه السلام فامتنع الحسين عليه السلام امتناعاً شديداً في قصة طويلة ، يذكرها الطبري وابن أعثم ، وغيرهما من المؤرخين ، فقد قال الحسين عليه السلام لمروان ، وكان حاضراً ذلك المجلس ، وكان يحث الوليد ألا يترك الحسين حتى يأخذ البيعة منه في ذلك المجلس ، وإلاّ فيضرب عنقه .. فقال له الإمام الحسين عليه السلام : (( ويلي عليك يا ابن الزرقاء أتأمر بضرب عنقي ، كذبت والله . والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك . فرم ضرب عنقي إن كنت صادقاً )) .
ثم أقبل الحسين عليه السلام على الوليد بن عتبة فقال : (( أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )) .
وعندما خرج الحسين عليه السلام من عند الوليد لامه مروان على ذلك لوماً شديداً : فقال له عامل يزيد : (( ويحك أتشير عليّ أن أقتل الحسين : فوالله ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها ، وما أحسب أن قاتله يلقى الله بدمه إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة )) .فقال له مروان مستهزئاً ( إن كنت إنما تركت ذلك لذلك فقد أصبت )) .
وقد كان موقف الإمام عليه السلام في الإمتناع من البيعة ليزيد موقفاً واضحاً لا يشك فيه أحد ، وكلمات الإمام في مواقف متعددة في مسيره من المدينة إلى كربلاء توضح هذه الحقيقة . يقول الإمام عليه السلام لمحمد بن الحنفية ( أخيه ) : (( يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً )) .
وخطب الإمام يوم عاشوراء في جيش بني أمية فقال : (( ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت تؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام )) .
فلم يكن الإمام – إذن – ليبايع يزيد مهما يكن من أمر . ومن طرف آخر لم يكن يزيد ليترك الإمام عليه السلام من دون بيعة مهما تكن النتيجة .
وقد كان الإمام الحسين عليه السلام يؤمن بهاتين القضيتين معاً . فلا سبيل إلى بيعة يزيد مهما يكن من أمر ، ولا يمكن أن يتركه يزيد من دون بيعة أيضاً . وكانت النتيجة المترتبة على هذين الأمرين واضحة للإمام كل الوضوح ، لا يشك فيها لحظة واحدة .
وقال الإمام لأصحابه حينما أرادوا الخروج من الحجاز إلى العراق : (( وأيم الله لو كنت في جحر هامة لاستخرجوني )) .
ولما علم عبد الله بن جعفر أن الحسين يريد الخروج إلى العراق كتب إليه يدعوه إلى البقاء . فكتب إليه الحسين عليه السلام : (( والله يا بن عمي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني . والله يا بن عمي ليعدين عليّ كما عدت اليهود على السبت )) .
خيار الشهادة
إذا فلم يكن للإمام الحسين عليه السلام غير طريق واحد هو الشهادة … يزيد لا يقبل من الإمام إلاّ البيعة ، وما دام الحسين عليه السلام لا يعطي البيعة ليزيد مهما تكن الأسباب ، فلا طريق للحسين عليه السلام إلاّ الشهادة ولا بد أن يكون الحسين عليه السلام مقدماً على الشهادة ، حين خرج من الحجاز إلى العراق .
خيار العزلة
وكان هناك طريق ثالث ، اقترحه عليه بعض الناصحين له ، رفضه الإمام رفضاً قاطعاً ، وهو أن يبتعد عن ساحة المعركة ، ويعتزل الناس ، ويذهب بعيداً إلى اليمن ، أو إلى بعض شعب الجبال ، ويحتجب الناس فيكون قد حقق الغاية ، وهو الامتناع عن البيعة ليزيد ، دون أن يعرض نفسه وأهل بيته وأصحابه للأذى والهلاك من قبل يزيد وولاته وعمّاله ، يقول ابن ألأثير : لما عزم الحسين عليه السلام على الخروج من الحجاز إلى العراق جاءه ابن عباس فقال : (( يا بن العم أني أتصبّر ، ولا أصبر . إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال . إن أهل العراق قوم غدّر فلا تقربنهم . أقم في هذا البلد ( مكة المكرمة ) فإنك سيد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا ، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم ، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعوباً وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة )) .
وكان ممن يحمل هذا الرأي أخوه محمد بن الحنفية إذ جاء إلى الحسين عليه السلام لما عزم على مغادرة المدينة بأهل بيته فقال له كما يروي ابن الأثير ( يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك ، تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ، وابعث رسلك إلى الناس … فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك .. قال الحسين عليه السلام : فأين أذهب ؟ قال : أنزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فبسبيل ذلك ، وإن نأت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس )) .
وفي العراق اقترح الطرّماح بن عدي على الإمام أن يمتنع عن جيش يزيد بن معاوية بمعاقل طي المنيعة ، فقال للإمام : (( فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك وتستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى ( أجا) امتنعنا والله به عن ملوك غسان ، وحمير ومن النعمان بن المنذر ، ومن الأسود والأحمر . والله إن دخل علينا ذل قط ، فأسير معك حتى أنزلك القرية ))
إلاّ أن الإمام ردّ هؤلاء جميعاً من دون تردد ، لا لأنه كان يشك في صدقهم ونصحهم له ، ولا لأنهم كانوا موضع ارتياب وشك ، عند الإمام ، ولكن لأن هؤلاء لم يكونوا يفهمون الإمام ورأيه وموقفه بالشكل الصحيح ، فلم يكن همّ الإمام فقط أن لا يبايع يزيد ، وألا يضع يده في يد ابن معاوية ، ولو كان الإمام يكتفي بهذا الحد ما كلّفه ذلك كثيراً . فما كان أيسر على الإمام أن يعتزل الناس ويغادر الحجاز إلى بلد ناء من هذه البلاد النائية التي نصحه بها أخوه محمد وابن عمه عبد الله بن عباس ، أو نصحه بها الطرماح بن عدي ، إلاّ أن الإمام لم يكن يكتفي بهذا الموقف السلبي في أمر خلافة يزيد بن معاوية ، ولم يكن هذا الموقف السلبي في رفض البيعة إلاّ وجهاً واحداً من وجهي الموقف . أما الوجه الآخر وهو الأهم ، والذي كلّف الإمام نفسه وأهل بيته وأصحابه وشيعته فهو إعلان هذا الرفض على الملأ من المسلمين .
وهذا الإعلان هو الذي أغضب بني أمية وأثارهم ، فقد اعتبروه تحدياً صارخاً لسلطانهم وحكمهم وشقاً لصفهم ، وخروجاً على حكمهم وسلطانهم ، ولم يكن بنو أمية يتحملون شيئاً من ذلك في أيام سطوتهم وسلطانهم وزهوهم .
وكان الإمام الحسين عليه السلام يتوخى من هذا الإعلان مطلباً سياسياً لم يكن يتحقق لولا اعلان الرفض وهو إسقاط شرعية خلافة بني أمية في نظر العامة من المسلمين . فقد كانت الخلافة رغم كل السلبيات التي أحاطت بها إلى هذا الحين تتمتع بالشرعية في نظر الأكثرية من المسلمين ، وكانت هذه الشرعية تمكن بني أمية من رقاب المسلمين ، وتشل عمل ودور المعارضة ، وتعطي للنظام الأموي قوة ومقاومة كبيرة ، وأخطر من هذا كله ، إن هذه الشرعية كانت تمكّن بني أمية من إدخال الانحرافات الجاهلية – التي جاء بها بنو أمية معهم إلى الحكم – إلى الإسلام ، فيمس الخطر عند ذلك الإسلام ، وتكون مصيبة المسلمين مصيبتين ، مصيبة في حياتهم ونظام أمورهم ، ومصيبة أخرى أكبر وأخطر في دينهم . وكانت هذه النقطة الثانية تشغل بال سيد الشهداء أكثر من أي شيء آخر ، فقد بدأ هذا الانحراف يتسرب إلى الإسلام نفسه من داخل قصور بني أمية مما يقترفون من لهو وفساد وظلم . وإلى هذه النقطة بالذات يشير الإمام عليه السلام ، ففي كلامه مع مروان بن الحكم صبيحة الليلة التي خرج فيها الإمام من بيت الوليد ، رافضاً البيعة ، حيث التقى مروان بالإمام في الطريق فنصح الإمام بالبيعة ليزيد ، فقال الإمام لمروان ( على الإسلام السلام ، إذ بليت الأمة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان )) .
إذن كان الإمام يخشى أكثر ما يخشى على الإسلام – بالذات – من أن يدخل عليه ما جاء به بنو أمية إلى الحكم من انحراف وفساد ، وإذا كان لا يمكن إسقاط الخليفة وانتزاع السلطان منه ، فإن من الممكن انتزاع الشعبية من الخلافة وتجريد الحكم الأموي من الشرعية التي كان يحرص عليها حكام بني أمية . ومثل هذا الأمر يتطلب موقفاً صريحاً معلناً في رفض البيعة ، والامتناع عن قبول خلافة يزيد من جانب الإمام في وسط الرأي العام الإسلامي حينذاك . وهذا ما عمد إليه الحسين عليه السلام عندما رفض البيعة ورفض أن يخفي موقفه السلبي هذا ، ويعتزل الوسط السياسي إلى بعض الشعاب والوديان والجبال ، ليسلم بنفسه وأهل بيته وأصحابه من ملاحقة حكام بني أمية . لقد كان الإمام يخطط ليجعل من موقفه هذا موقفاً سياسياً صارخاً ، واحتجاجاً في وجه حكام بني أمية وإعلاناً لسحب الثقة والشرعية من حكام بني أمية وإعلام الأمة كلها بذلك . وهذه بعض النماذج من كلمات الإمام ومواقفه الصريحة في هذا الصدد :
أولاً : غادر الإمام المدينة إلى مكة ليلاً بجميع أهله وسار على الجادة التي يسلكها الناس ، فقال له ابن عمه مسلم بن عقيل : (( لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة ، كما فعل عبد الله بن الزبير كان عندي الرأي ، فإنا نخاف أن يلحقنا الطلب )) فقال له الحسين عليه السلام : (( لا والله يا ابن عمي لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى )) .
ثانياُ : دخل الإمام مكة بصورة علنية متحدياً سلطان بني أمية . ويصف الخوارزمي نزول الحسين عليه السلام بمكة فيقول : (( وكان قد نزل بأعلى مكة ، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً ، ثم تحول الحسين إلى دار العباس ، حوّله إليها عبد الله بن عباس … فأقام الحسين مؤذناً يؤذن ، رافعاً صوته ، فيصلي بالناس )). وتجمع الناس حول أبن بنت رسول الله في مكة اجتماعاً كبيراً . يقول ابن أعثم : (( دخل الحسين إلى مكة ففرح به أهلها ، فرحاً شديداً ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، واشتد ذلك على عبد الله بن الزبير لأنه قد كان طمع أن يبايعه أهل مكة . فلما قدم الحسين شق ذلك عليه … لكنه كان يختلف إليه ( إلى الحسين ) ، ويصلي بصلاته ، ويقعد عنده ويسمع من حديثه ، وهو مع ذلك يعلم أنه لا يبايعه أحد من أهل مكة ، والحسين بن علي بها . لأن الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير ، وكان عمرو أبن سعيد الأشدق يومئذ عامل يزيد على مكة ، فهاب الحسين ، وهرب إلى المدينة ، وكتب إلى يزيد بأمر الحسين : يقول الخوارزمي : (( وهاب ابن سعيد أن يميل الحجاج مع الحسين ، لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد )).
ثالثاً : تتفق المصادر التاريخية : أن الحسين عليه السلام خرج من مكة إلى العراق يوم الثامن من ذي الحجة ( يوم التروية ) ، عندما كان الحجاج يتوجهون إلى عرفات استعداداً ليوم عرفة ، وقد أثار خروج ابن بنت رسول الله يوم التروية . من بين الحجاج إلى العراق انتباه عامة الحجاج الذين كانوا قد أمّوا البيت الحرام من مختلف الآفاق . فهذا ابن بنت رسول الله يحل من العمرة ويغادر مكة في وقت يتوجه فيه الحجاج إلى عرفات لأداء الحج .
تعليق