الغرور
وهو : انخداع الإنسان بخِدعةٍ شيطانيّة ورأيٍ خاطئ ، كمَن ينفق المال المغصوب في وجوه البرِّ والإحسان ، معتقداً بنفسه الصلاح ، ومؤمّلاً للأجر والثواب ، وهو مغرورٌ مخدوع بذلك .
وهكذا ينخدع الكثيرون بالغرور ، وتلتبس به أعمالهم ، فيعتقدون صحّتها ونُجحها ، ولو محصوها قليلاً ، لأدركوا ما تتّسم به مِن غرورٍ وبطلان .
لذلك كان الغرور مِن أخطر أشراك الشيطان ، وأمضى أسلحته ، وأخوَف مكائده .
وللغرورِ صِوَرٌ وألوانٌ مختلفة باختلاف نزَعات المغرورين وبواعث غرورهم ، فمنهم المغترّ بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة ، ومنهم المغترّ بالعلم أو الزعامة ، أو المال ، أو العبادة ، ونحو ذلك من صِوَر الغرور وألوانه .
وسأعرض في البحث التالي أهمّ صور الغرور وأبرَز أنواعه ، معقّباً على كلّ نوع منها بنصائح علاجيّة ، تجلو غبش الغرور وتخفّف مِن حدّته .
الصفحة 193
( أ ) الاغترار بالدنيا
وأكثر مَن يتّصف بهذا الغرور هُم : ضُعَفاء الإيمان ، والمخدوعون بمباهج الدنيا ومفاتنها ، فيتناسَون فناءها وزوالها ، وما يَعقبها مِن حياة أبديّة خالدة ، فيتذرّعون إلى تبرير اغترارهم بالدنيا ، وتهالكهم عليها ، بزعمَين فاسِدَين ، وقياسَين باطِلَين :
الأوّل : أنّ الدنيا نقد ، والآخرة نسيئة ، والنقد خيرٌ من النسيئة .
الثاني : أنّ لذائذ الأُولى ومتعها يقينيّة ، ولذائذ الثانية - عندهم - مشكوكة ، والمتيقّن خيرٌ مِن المشكوك .
وقد أخطأوا وضلّوا ضلالاً مبيناً ، إذ فاتهم في زعمهم الأوّل ، أنّ النقد خيرٌ من النسيئة إنْ تعادلا في ميزان النفع ، وإلاّ فإنْ رجُحت النسيئة كانت أفضل وأنفع من النقد ، كمَن يُتاجر بمبلغٍ عاجلٍ من المال ، ليربح أضعافه في الآجل ، أو يحتمي عن شهَوات ولذائذ عاجلة توخّياً للصحّة في الآجل المديد .
هذا إلى الفارق الكبير ، والبون الشاسع ، بين لذائذ الدنيا والآخرة ، فلذائذ الأُولى فانية ، منغّصة بالأكدار والهموم ، والثانية خالدة هانئة .
وهكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكّهم وارتيابهم في الحياة الأخرويّة .
الصفحة 194
فقد أثبتها الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) والعلماء ، وكثيرٌ من الأُمم البدائيّة الأُولى ، وأيقنوا بها يقيناً لا يُخالجه الشكّ ، فارتياب المغرورين بالآخرة والحالة هذه ، هَوَس يستنكره الدين والعقل .
ألا ترى كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء ؟! وإنْ كذّبهم فصبيّ غِر أو مُغفّلٌ بليد .
وبعد أنْ عرَفت فساد ذَينك الزعمَين وبطلانهما ، فاعلم أنّه لم يُصوِّر واقع الدنيا ، ويَعرِض خدعها وأمانيها المُغرِّرة كما صوّرها القرآن الكريم ، وعرّفها أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإذا هي برْقٌ خلّب وسرابٌ خادِع .
أنظر كيف يُصوّر القرآن واقع الدنيا وغرورها ، فيقول تعالى :
(....أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ...)( الحديد :20 ) .
وقال تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )( يونس : 24 ) .
وقال عزّ وجل : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات : 37 - 41 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( ماذئبان ضاريان في غنمٍ قد فارقها
الصفحة 195
رعاؤها ، أحدُهما في أوّلِها ، والآخر في آخرها ، بأفسَدَ فيها ، من حُبِّ الدنيا [المال] والشرف في دين المسلم )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( مَثَلُ الحريص على الدنيا ، مثل دودة القز كلّما ازدادت مِن القزِّ على نفسها لفّاً ، كان أبعَد لها من الخروج ، حتّى تموتَ غمّاً )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( مَن أصبح وأمسى ، والدنيا أكبر همّه ، جعل اللّه تعالى الفقر بين عينيه ، وشتّت أمره ، ولم ينَل مِن الدنيا إلاّ ما قُسِم له ، ومَن أصبح وأمسى والآخرة أكبرُ همّه ، جعل اللّه تعالى الغنى في قلبه ، وجمَع له أمره )(3) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنّما الدنيا فناءٌ وعَناء وغِيَرٌ وعِبَر : فمِن فنائها : أنّك ترى الدهر موتِراً قوسه ، مفوقاً نبله ، لا تُخطئ سهامه ، ولا يشفى جراحه ، يرمي الصحيح بالسقم ، والحيَّ بالموت .
ومِن عنائها : أنّ المرء يجمَع ما لا يأكُل ، ويبني ما لا يَسكن ، ثُمّ يخرج إلى اللّه لا مالاً حمَل ولا بناءً نقَل .
ومن غِيَرِها أنّك ترى المغبوط مرحوماً ، والمرحوم مغبوطاً ، ليس بينهم إلاّ نعيمٌ زلّ ، وبؤسٌ نزَل .
ومن عِبَرها : إنّ المرء يشرف على أمله ، فيتخطّفه أجله ، فلا أمَل مدروك ، ولا مؤمّل متروك )(4) .
_____________________
(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 154 عن الكافي .
(4) سفينة البحار ج 1 ص 467 .
الصفحة 196
وقال الإمام موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) : ( يا هشام ، إنّ العُقلاء زهدوا في الدنيا ، ورغبوا في الآخرة ؛ لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة : فمَن طلَب الآخرة طلبته الدنيا ، حتّى يستوفي منها رزقه ، ومَن طلَب الدنيا طلبته الآخرة ، فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته )(1) .
القانون الخالد :
تواطأ الناس بأسرهم ، على ذمّ الدنيا وشكايتها ، لمعاناة آلامها ، ففرحها مُكدَّر بالحزن ، وراحتها منغصّة بالعَناء ، لا تصفو لأحد ، ولا يهنأ بها إنسان . وبالرغم مِن تواطئهم على ذلك تباينوا في سُلوكهم وموقفهم من الحياة :
فمنهم مَن تعشّقها ، وهام بحبّها ، وتكالَب على حُطامها ، ما صيَرهم في حالة مُزرية ، مِن التنافس والتناحر .
ومنهم مَن زهِد فيها ، وانزوى هارباً مِن مباهجها ومُتعها إلى الأديِرَة والصوامع ، ما جعلَهُم فلولاً مُبعثَرة على هامش الحياة .
وجاء الإسلام ، والناس بين هذين الاتّجاهين المتعاكسين ، فاستطاع بحكمته البالغة ، وإصلاحه الشامل ، أنْ يشرّع نظاماً خالداً ، يؤلّف بين الدين والدنيا ، ويجمَع بين مآرب الحياة وأشواق الروح ، بأُسلوبٍ يُلائم
_____________________
(1) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم .
الصفحة 197
فطرة الإنسان ، ويضمن له السعادة والرخاء .
فتراه تارة يحذّر عشّاق الحياة من خُدعها وغرورها ، ليحررهم من أسرها واسترقاقها ، كما صورته الآثار السالفة .
وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة ، لئلاّ ينقطعوا عن ركب الحياة ، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوَان .
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( ليس منّا مَن ترَك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدُنياه )(1) .
وقال العالم ( عليه السلام ) : ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً )(2) .
وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام ، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال ، ومعارج الرقيّ الماديّ والروحي .
وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية :
1 - التمتّع بملاذ الحياة ، وطيباتها المحلّلة ، مُستحسن لا ضير فيه ، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير ، كما قال سُبحانه : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ )( الأعراف : 32 ) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم
_____________________
(1) ، (2) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه .
الصفحة 198
أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكِنَت ، وأكلوها بأفضل ما أُكِلَت ، فحظُوا مِن الدنيا بما حظى به المُترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون ، ثُمّ انقلبوا عنها بالزاد المُبلّغ والمتْجر الرابح )(1) .
2 - إنّ التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها ، هو كالأوّل مستحسن محمود ، إلاّ ما كان مختَلساً مِن حرام ، أو صارفاً عن ذكر اللّه تعالى وطاعته .
أمّا اكتسابها استعفافا عن الناس ، أو تذرّعاً بها إلى مرضاة اللّه عزَّ وجل كصلة الأرحام ، وإعانة البؤَسَاء ، وإنشاء المشاريع الخيريّة كالمساجد والمدارس والمستشفيات ، فإنّه من أفضل الطاعات وأعظم القُرُبات ، كما صرّح بذلك أهل البيت ( عليهم السلام ) :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( لا خير فيمَن لا يجمع المال مِن حلالٍ ، يكفّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصِل به رحمه )(2) .
وقال رجل لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : واللّه إنّا لنطلب الدنيا ونحبُّ أنْ نُؤتاها .
فقال : ( تحبُّ أنْ تصنع بها ماذا ؟ ) قال : أعُود بها على نفسي وعيالي ، وأصِلُ بها ، وأتصدّق بها ، وأحجُّ ، وأعتمِر . فقال أبو عبد اللّه : ( ليس هذا طلَب الدنيا ، هذا طلب الآخرة )(3) .
_____________________
(1) نهج البلاغة .
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي .
(3) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي .
الصفحة 199
3 - إنّ حبَّ البقاء في الدنيا ليس مذموماً مطلقاً ، وإنّما يختلف بالغايات والأهداف ، فمن أحبّه لغاية سامية ، كالتزود من الطاعة ، واستكثار الحسنات، فهو مستحسن. ومن أحبّه لغاية دنيئة، كممارسة الآثام ، واقتراف الشهوات ، فذلك ذميم مقيت ، كما قال زين العابدين ( عليه السلام ) : ( عَمّرني ما كان عمري بِذلةً في طاعتك ، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك ) .
ونستخلص ممّا أسلفناه أنّ الدنيا المذمومة هي التي تخدع الإنسان ، وتصرفه عن طاعة اللّه والتأهب للحياة الأخرويّة .
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكُفر والإفلاس في الرجل
مساوئ الاغترار بالدنيا :
1 - من أبرز مساوئ الغرور أنّه يُلقي حجاباً حاجزاً بين العقل وواقع الإنسان ، فلا يتبيّن آنذاك نقائصه ومساويه ، من جشعٍ ، وحرصٍ ، وتكالبٍ على الحياة ، ممّا يُسبّب نقصه وذمّه .
2 - إنّ الغرور يُشقي أربابه ، ويدفعهم إلى معاناة الحياة ، ومصارعتها ، دون اقتناعٍ بالكفاف ، أو نظرٍ لزوالها المحتوم ، ممّا يُظنيهم ويُشقيهم ، كمّا صوّره الخبَر الآنف الذكر : ( مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ ، كلّما ازدادت على نفسها لفّاً ، كان أبعد لها مِن الخروج ، حتّى تموت غماً ) .
3 - والغرور بعد هذا وذاك ، مِن أقوى الصوارف والمُلهيات عن
الصفحة 200
التأهّب للآخرة والتزوّد من الأعمال الصالحة ، الموجبة للسعادة الأخرويّة ، ونعيمها الخالد .
وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات : 37 - 41 ) .
علاج هذا الغرور :
وهو كما يلي مجملاً :
1 - استعراض الآيات والنصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا وأخطاره الرهيبة .
2 - إجماع الأنبياء والأوصياء والحكماء على فناء الدنيا ، وخلود الآخرة ، فجديرٌ بالعاقل أنْ يؤثّر الخالد على الفاني ، ويتأهّب للسعادة الأبديّة والنعيم الدائم : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى )( الأعلى : 16 - 19 ) .
3 - الإفادة من المواعظ البليغة ، والحكم الموجهة ، والقصَص الهادفة المعبرة عن ندم الطغاة والجبارين ، على اغترارهم في الدنيا ، وصرف أعمارهم باللهو والفسوق .
ومِن أبلغ العِظات وأقواها أثراً في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليه السلام ) : ( أحي قلبَك بالموعظة ، وأمِته بالزهادة ، وقوّه باليقين ،
الصفحة 201
ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذِكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّره فجائع الدنيا ، وحَذّره صَولة الدهر ، وفُحش تقلّب الليالي والأيّام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلَك مِن الأوّلين ، وسِر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزَلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليلٍ قد صِرت كأحدِهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبِع آخرتَك بدُنياك )(1) .
ومن روائع الحِكَم التشبيه التالي :
( فقد شبّه الحُكماء الإنسان وانهماكه في الدنيا ، واغتراره بها ، وغفلته عمّا وراءها ، كشخصٍ مُدلىً في بئر ، ووسَطه مشدودٌ بحبل ، وفي أسفل ذلك البئر ثُعبانٌ عظيم ، متوجّه إليه ، منتظرٌ لسقوطه ، فاتحٌ فاهُ لالتقامه ، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيضٌ وأسود ، لا يزالان يقرِضان ذلك الحبل ، شيئاً فشيئاً ، ولا يفتران عن قرضِه آناً ما ، وذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان ، ومشاهدته لانقراض الحبل آناً فآناً ، قد أقبل على قليلِ عسلٍ ، قد لُطِخ به جِدارُ ذلك البئر وامتزج بترابه ، واجتمع عليه زنابيرٌ كثيرة ، وهو مشغولٌ بلطعه ، منهمكٌ فيه ، متلذّذٌ بما أصاب منه ، مخاصمٌ لتلك الزنابير التي عليه ، قد صرف جميعَ باله إلى ذلك ، فهو غير ملتفتٍ إلى ما فوقه وما تحته .
فالبئر هو الدنيا ، والحبل هو العمر ، والثعبان الفاتح فاه هو الموت ،
_____________________
(1) نهج البلاغة في وصيّته ( عليه السلام ) لابنه الحسن .
يتبع
وهو : انخداع الإنسان بخِدعةٍ شيطانيّة ورأيٍ خاطئ ، كمَن ينفق المال المغصوب في وجوه البرِّ والإحسان ، معتقداً بنفسه الصلاح ، ومؤمّلاً للأجر والثواب ، وهو مغرورٌ مخدوع بذلك .
وهكذا ينخدع الكثيرون بالغرور ، وتلتبس به أعمالهم ، فيعتقدون صحّتها ونُجحها ، ولو محصوها قليلاً ، لأدركوا ما تتّسم به مِن غرورٍ وبطلان .
لذلك كان الغرور مِن أخطر أشراك الشيطان ، وأمضى أسلحته ، وأخوَف مكائده .
وللغرورِ صِوَرٌ وألوانٌ مختلفة باختلاف نزَعات المغرورين وبواعث غرورهم ، فمنهم المغترّ بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة ، ومنهم المغترّ بالعلم أو الزعامة ، أو المال ، أو العبادة ، ونحو ذلك من صِوَر الغرور وألوانه .
وسأعرض في البحث التالي أهمّ صور الغرور وأبرَز أنواعه ، معقّباً على كلّ نوع منها بنصائح علاجيّة ، تجلو غبش الغرور وتخفّف مِن حدّته .
الصفحة 193
( أ ) الاغترار بالدنيا
وأكثر مَن يتّصف بهذا الغرور هُم : ضُعَفاء الإيمان ، والمخدوعون بمباهج الدنيا ومفاتنها ، فيتناسَون فناءها وزوالها ، وما يَعقبها مِن حياة أبديّة خالدة ، فيتذرّعون إلى تبرير اغترارهم بالدنيا ، وتهالكهم عليها ، بزعمَين فاسِدَين ، وقياسَين باطِلَين :
الأوّل : أنّ الدنيا نقد ، والآخرة نسيئة ، والنقد خيرٌ من النسيئة .
الثاني : أنّ لذائذ الأُولى ومتعها يقينيّة ، ولذائذ الثانية - عندهم - مشكوكة ، والمتيقّن خيرٌ مِن المشكوك .
وقد أخطأوا وضلّوا ضلالاً مبيناً ، إذ فاتهم في زعمهم الأوّل ، أنّ النقد خيرٌ من النسيئة إنْ تعادلا في ميزان النفع ، وإلاّ فإنْ رجُحت النسيئة كانت أفضل وأنفع من النقد ، كمَن يُتاجر بمبلغٍ عاجلٍ من المال ، ليربح أضعافه في الآجل ، أو يحتمي عن شهَوات ولذائذ عاجلة توخّياً للصحّة في الآجل المديد .
هذا إلى الفارق الكبير ، والبون الشاسع ، بين لذائذ الدنيا والآخرة ، فلذائذ الأُولى فانية ، منغّصة بالأكدار والهموم ، والثانية خالدة هانئة .
وهكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكّهم وارتيابهم في الحياة الأخرويّة .
الصفحة 194
فقد أثبتها الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) والعلماء ، وكثيرٌ من الأُمم البدائيّة الأُولى ، وأيقنوا بها يقيناً لا يُخالجه الشكّ ، فارتياب المغرورين بالآخرة والحالة هذه ، هَوَس يستنكره الدين والعقل .
ألا ترى كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء ؟! وإنْ كذّبهم فصبيّ غِر أو مُغفّلٌ بليد .
وبعد أنْ عرَفت فساد ذَينك الزعمَين وبطلانهما ، فاعلم أنّه لم يُصوِّر واقع الدنيا ، ويَعرِض خدعها وأمانيها المُغرِّرة كما صوّرها القرآن الكريم ، وعرّفها أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإذا هي برْقٌ خلّب وسرابٌ خادِع .
أنظر كيف يُصوّر القرآن واقع الدنيا وغرورها ، فيقول تعالى :
(....أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ...)( الحديد :20 ) .
وقال تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )( يونس : 24 ) .
وقال عزّ وجل : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات : 37 - 41 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( ماذئبان ضاريان في غنمٍ قد فارقها
الصفحة 195
رعاؤها ، أحدُهما في أوّلِها ، والآخر في آخرها ، بأفسَدَ فيها ، من حُبِّ الدنيا [المال] والشرف في دين المسلم )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( مَثَلُ الحريص على الدنيا ، مثل دودة القز كلّما ازدادت مِن القزِّ على نفسها لفّاً ، كان أبعَد لها من الخروج ، حتّى تموتَ غمّاً )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( مَن أصبح وأمسى ، والدنيا أكبر همّه ، جعل اللّه تعالى الفقر بين عينيه ، وشتّت أمره ، ولم ينَل مِن الدنيا إلاّ ما قُسِم له ، ومَن أصبح وأمسى والآخرة أكبرُ همّه ، جعل اللّه تعالى الغنى في قلبه ، وجمَع له أمره )(3) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنّما الدنيا فناءٌ وعَناء وغِيَرٌ وعِبَر : فمِن فنائها : أنّك ترى الدهر موتِراً قوسه ، مفوقاً نبله ، لا تُخطئ سهامه ، ولا يشفى جراحه ، يرمي الصحيح بالسقم ، والحيَّ بالموت .
ومِن عنائها : أنّ المرء يجمَع ما لا يأكُل ، ويبني ما لا يَسكن ، ثُمّ يخرج إلى اللّه لا مالاً حمَل ولا بناءً نقَل .
ومن غِيَرِها أنّك ترى المغبوط مرحوماً ، والمرحوم مغبوطاً ، ليس بينهم إلاّ نعيمٌ زلّ ، وبؤسٌ نزَل .
ومن عِبَرها : إنّ المرء يشرف على أمله ، فيتخطّفه أجله ، فلا أمَل مدروك ، ولا مؤمّل متروك )(4) .
_____________________
(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي .
(3) الوافي ج 3 ص 154 عن الكافي .
(4) سفينة البحار ج 1 ص 467 .
الصفحة 196
وقال الإمام موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) : ( يا هشام ، إنّ العُقلاء زهدوا في الدنيا ، ورغبوا في الآخرة ؛ لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة : فمَن طلَب الآخرة طلبته الدنيا ، حتّى يستوفي منها رزقه ، ومَن طلَب الدنيا طلبته الآخرة ، فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته )(1) .
القانون الخالد :
تواطأ الناس بأسرهم ، على ذمّ الدنيا وشكايتها ، لمعاناة آلامها ، ففرحها مُكدَّر بالحزن ، وراحتها منغصّة بالعَناء ، لا تصفو لأحد ، ولا يهنأ بها إنسان . وبالرغم مِن تواطئهم على ذلك تباينوا في سُلوكهم وموقفهم من الحياة :
فمنهم مَن تعشّقها ، وهام بحبّها ، وتكالَب على حُطامها ، ما صيَرهم في حالة مُزرية ، مِن التنافس والتناحر .
ومنهم مَن زهِد فيها ، وانزوى هارباً مِن مباهجها ومُتعها إلى الأديِرَة والصوامع ، ما جعلَهُم فلولاً مُبعثَرة على هامش الحياة .
وجاء الإسلام ، والناس بين هذين الاتّجاهين المتعاكسين ، فاستطاع بحكمته البالغة ، وإصلاحه الشامل ، أنْ يشرّع نظاماً خالداً ، يؤلّف بين الدين والدنيا ، ويجمَع بين مآرب الحياة وأشواق الروح ، بأُسلوبٍ يُلائم
_____________________
(1) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم .
الصفحة 197
فطرة الإنسان ، ويضمن له السعادة والرخاء .
فتراه تارة يحذّر عشّاق الحياة من خُدعها وغرورها ، ليحررهم من أسرها واسترقاقها ، كما صورته الآثار السالفة .
وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها المرفرفة ، لئلاّ ينقطعوا عن ركب الحياة ، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوَان .
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( ليس منّا مَن ترَك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدُنياه )(1) .
وقال العالم ( عليه السلام ) : ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً )(2) .
وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام ، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال ، ومعارج الرقيّ الماديّ والروحي .
وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية :
1 - التمتّع بملاذ الحياة ، وطيباتها المحلّلة ، مُستحسن لا ضير فيه ، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير ، كما قال سُبحانه : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ )( الأعراف : 32 ) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم
_____________________
(1) ، (2) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه .
الصفحة 198
أهل الدنيا في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكِنَت ، وأكلوها بأفضل ما أُكِلَت ، فحظُوا مِن الدنيا بما حظى به المُترفون ، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون ، ثُمّ انقلبوا عنها بالزاد المُبلّغ والمتْجر الرابح )(1) .
2 - إنّ التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها ، هو كالأوّل مستحسن محمود ، إلاّ ما كان مختَلساً مِن حرام ، أو صارفاً عن ذكر اللّه تعالى وطاعته .
أمّا اكتسابها استعفافا عن الناس ، أو تذرّعاً بها إلى مرضاة اللّه عزَّ وجل كصلة الأرحام ، وإعانة البؤَسَاء ، وإنشاء المشاريع الخيريّة كالمساجد والمدارس والمستشفيات ، فإنّه من أفضل الطاعات وأعظم القُرُبات ، كما صرّح بذلك أهل البيت ( عليهم السلام ) :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( لا خير فيمَن لا يجمع المال مِن حلالٍ ، يكفّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصِل به رحمه )(2) .
وقال رجل لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : واللّه إنّا لنطلب الدنيا ونحبُّ أنْ نُؤتاها .
فقال : ( تحبُّ أنْ تصنع بها ماذا ؟ ) قال : أعُود بها على نفسي وعيالي ، وأصِلُ بها ، وأتصدّق بها ، وأحجُّ ، وأعتمِر . فقال أبو عبد اللّه : ( ليس هذا طلَب الدنيا ، هذا طلب الآخرة )(3) .
_____________________
(1) نهج البلاغة .
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي .
(3) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي .
الصفحة 199
3 - إنّ حبَّ البقاء في الدنيا ليس مذموماً مطلقاً ، وإنّما يختلف بالغايات والأهداف ، فمن أحبّه لغاية سامية ، كالتزود من الطاعة ، واستكثار الحسنات، فهو مستحسن. ومن أحبّه لغاية دنيئة، كممارسة الآثام ، واقتراف الشهوات ، فذلك ذميم مقيت ، كما قال زين العابدين ( عليه السلام ) : ( عَمّرني ما كان عمري بِذلةً في طاعتك ، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك ) .
ونستخلص ممّا أسلفناه أنّ الدنيا المذمومة هي التي تخدع الإنسان ، وتصرفه عن طاعة اللّه والتأهب للحياة الأخرويّة .
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكُفر والإفلاس في الرجل
مساوئ الاغترار بالدنيا :
1 - من أبرز مساوئ الغرور أنّه يُلقي حجاباً حاجزاً بين العقل وواقع الإنسان ، فلا يتبيّن آنذاك نقائصه ومساويه ، من جشعٍ ، وحرصٍ ، وتكالبٍ على الحياة ، ممّا يُسبّب نقصه وذمّه .
2 - إنّ الغرور يُشقي أربابه ، ويدفعهم إلى معاناة الحياة ، ومصارعتها ، دون اقتناعٍ بالكفاف ، أو نظرٍ لزوالها المحتوم ، ممّا يُظنيهم ويُشقيهم ، كمّا صوّره الخبَر الآنف الذكر : ( مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ ، كلّما ازدادت على نفسها لفّاً ، كان أبعد لها مِن الخروج ، حتّى تموت غماً ) .
3 - والغرور بعد هذا وذاك ، مِن أقوى الصوارف والمُلهيات عن
الصفحة 200
التأهّب للآخرة والتزوّد من الأعمال الصالحة ، الموجبة للسعادة الأخرويّة ، ونعيمها الخالد .
وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات : 37 - 41 ) .
علاج هذا الغرور :
وهو كما يلي مجملاً :
1 - استعراض الآيات والنصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا وأخطاره الرهيبة .
2 - إجماع الأنبياء والأوصياء والحكماء على فناء الدنيا ، وخلود الآخرة ، فجديرٌ بالعاقل أنْ يؤثّر الخالد على الفاني ، ويتأهّب للسعادة الأبديّة والنعيم الدائم : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى )( الأعلى : 16 - 19 ) .
3 - الإفادة من المواعظ البليغة ، والحكم الموجهة ، والقصَص الهادفة المعبرة عن ندم الطغاة والجبارين ، على اغترارهم في الدنيا ، وصرف أعمارهم باللهو والفسوق .
ومِن أبلغ العِظات وأقواها أثراً في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليه السلام ) : ( أحي قلبَك بالموعظة ، وأمِته بالزهادة ، وقوّه باليقين ،
الصفحة 201
ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذِكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّره فجائع الدنيا ، وحَذّره صَولة الدهر ، وفُحش تقلّب الليالي والأيّام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب مَن كان قبلَك مِن الأوّلين ، وسِر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزَلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليلٍ قد صِرت كأحدِهم ، فأصلح مثواك ، ولا تبِع آخرتَك بدُنياك )(1) .
ومن روائع الحِكَم التشبيه التالي :
( فقد شبّه الحُكماء الإنسان وانهماكه في الدنيا ، واغتراره بها ، وغفلته عمّا وراءها ، كشخصٍ مُدلىً في بئر ، ووسَطه مشدودٌ بحبل ، وفي أسفل ذلك البئر ثُعبانٌ عظيم ، متوجّه إليه ، منتظرٌ لسقوطه ، فاتحٌ فاهُ لالتقامه ، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيضٌ وأسود ، لا يزالان يقرِضان ذلك الحبل ، شيئاً فشيئاً ، ولا يفتران عن قرضِه آناً ما ، وذلك الشخص مع رؤيته ذلك الثعبان ، ومشاهدته لانقراض الحبل آناً فآناً ، قد أقبل على قليلِ عسلٍ ، قد لُطِخ به جِدارُ ذلك البئر وامتزج بترابه ، واجتمع عليه زنابيرٌ كثيرة ، وهو مشغولٌ بلطعه ، منهمكٌ فيه ، متلذّذٌ بما أصاب منه ، مخاصمٌ لتلك الزنابير التي عليه ، قد صرف جميعَ باله إلى ذلك ، فهو غير ملتفتٍ إلى ما فوقه وما تحته .
فالبئر هو الدنيا ، والحبل هو العمر ، والثعبان الفاتح فاه هو الموت ،
_____________________
(1) نهج البلاغة في وصيّته ( عليه السلام ) لابنه الحسن .
يتبع
تعليق