النظام السوري يواجه مأزقا هو الاخطر في تاريخه، فالاتهامات التي اوردها القاضي الالماني ديتليف ميليس في تقريره حول اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الراحل تدين رموزه، وتضعها في موضع اتهام مباشر، الامر الذي يتطلب تعاملا استراتيجيا مدروسا باتقان، لمواجهة ما يمكن ان يترتب عليها من خطوات وعقوبات.
الاكتفاء بالقول ان التقرير مسيس ، مثلما قال وزير الاعلام السوري مهدي دخل الله او التأكيد بان سورية مستهدفة من الولايات المتحدة، مثلما ردد فيصل المقداد مندوب سورية في مجلس الامن، لا يعكس ادراكا واضحا، وقراءة صحيحة للتقرير، وانما يعكس ارتباكا وربما نهجا استخفافيا ادي تبنيه الي وقوع سورية، نظاما وشعبا، في هذا المأزق!
هناك خياران امام النظام السوري لا ثالث لهما في ما يتعلق بتقرير ميليس:
الاول: خيار صدام حسين، اي عدم التعاون بالشكل المطلوب مع الامم المتحدة، والقاضي ميليس، اي عدم تسليم المطلوبين الكبار الذين وردت اسماؤهم وهم ماهر الأسد، آصف شوكت، حسن خليل، بهجت سليمان، رستم غزالة، وفاروق الشرع واحمد جبريل.
الثاني: خيار معمر القذافي، أي الرضوخ للضغوط الدولية التي هي امريكية، وتسليم جميع المطلوبين، وتفكيك البرامج النووية والكيماوية، والتعاون بالكامل مع الاجهزة والسياسات الامريكية، وتغيير سياسة النظام وتوجهاته مئة وثمانين درجة.
المشكلة التي تواجه النظام السوري ان سورية ليست ليبيا، وزعيمه بشار الاسد وليس معمر القذافي. وموقعه الجغرافي استراتيجي في قلب الشرق الاوسط، حيث يحده من الشرق العراق، ومن الجنوب اسرائيل، مضافا الي ذلك ان المطلوب تسليمهم هم اعمدة النظام الامنية الرئيسية، وليس ضابط مخابرات بسيط مثل المقراحي المتهم في قضية لوكربي.
الامن في سورية هو عماد النظام الرئيسي وسبب استمراره لاكثر من خمسة وثلاثين عاما، والتفريط بقادة الاجهزة الامنية بهذه الطريقة المهينة ربما يكون بداية النهاية للنظام.
الادارة الامريكية ستستغل التقرير لفرض عقوبات علي سورية، ومن الغباء تصور غير ذلك. فالنظام السوري علي قائمة التغيير، لانه لم يتعاون بالكامل مع المشاريع الامريكية في المنطقة، فنصف التعاون غير مقبول، والحياد ايضا لم يعد عملة متداولة، فالادارة الامريكية الحالية قالتها صريحة للزعماء العرب، البقاء في الحكم مرهون بتنفيذ الاملاءات الامريكية كاملة. واولها الانخراط في الحرب علي الارهاب، وتأييد الاحتلال وكل افرازاته في العراق، واسقاط قضية فلسطين والعمل العربي المشترك، فمن يقبل بهذه الصفقة لا غبار عليه، مهما انتهك من حقوق الانسان، وارتكب من جرائم، ومن يرفض فمصيره مصير صدام حسين!
هذا لا يعني ان رفض النظام السوري التعاون مع القوات الامريكية في احتلالها للعراق، وتمسكه بخيار المقاومة في فلسطين، اعطاءه ضوءا أخضر لانتهاك حقوق الانسان، وتغييب الحريات، والتورط بطريقة مباشرة، او غير مباشرة في اغتيال رئيس وزراء في حجم رفيق الحريري ومكانته.
الرئيس بشار الاسد سيجد نفسه وحيدا في مواجهة الضغوط الامريكية، وسينفض من حوله كل اصدقائه، واصدقاء والده من الزعماء العرب، لان هؤلاء قبلوا بالصفقة الامريكية وتنازلوا عن ما تبقي لهم من كرامة وطنية من اجل البقاء في السلطة، واقصي ما يمكن ان يقدمه له رئيس مصر الدولة العربية الكبري هو ما قدمه للرئيس العراقي صدام حسين، اي نصائح بالتعاون مع الشرعية الدولية وقراراتها بالكامل!
نصائح الرئيس مبارك لنظيره العراقي اوصلته الي قفص الاتهام في محكمة امريكية عنصرية هزلية، ولا نعرف اين ستنتهي نصائحه المتوقعة للرئيس بشار، وان كنا لا نعتقد ان تكون نهايته افضل من نهاية الرئيس صدام، مع فارق بسيط وهو انه قد يحاكم في لاهاي او جنيف، اذا ما طالب ميليس بتسليمه والتحقيق معه اسوة بالآخرين.
ثلاث ظواهر اساسية كشف عنها تقرير ميليس، لا بد من التوقف عندها طويلا:
الظاهرة الاولي: ان التقرير لم يتحدث مطلقا عن اللواء غازي كنعان كمتورط في عملية اغتيال الحريري، الامر الذي يلقي بالعديد من الشكوك علي مسألة انتحاره، ويعطي بعض المصداقية الي الروايات التي تقول انه عارض التمديد، وكان من البدائل الامريكية للنظام الحالي، اي ان يقوم بانقلاب قصر علي غرار انقلاب برويز مشرف في باكستان. وهذا ما عجل بنهايته بالطريقة التي انتهي عليها.
الظاهرة الثانية: لا توجد كرامة او خصوصية لأي زعيم عربي. فقد كشفت تحقيقات ميليس ان جميع المكالمات الهاتفية للرئيس اللبناني اميل لحود وكبار مساعديه مسجلة بالكامل لدي جهة ما في واشنطن او تل ابيب.
الظاهرة الثالثة: الزج بالعنصر الفلسطيني في عملية اغتيال الحريري، سواء بطريق مباشر او غير مباشر، لتوظيف سياسي مستقبلي في لبنان وسورية. فقد استخدم احــــمد ابو عدس في تسجيل رواية اعلان جند الشام وتبنيه لعملية الاغتيال الانتحارية المزعومة، وورد اسم احمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية القيادة العامة ضمن قائمة المتورطين.
الايام المقبلة ستكون الاصعب بالنسبة الي سورية، نظاما وشعبا، وربما يكون فات الوقت لتوجيه اي نصائح، ليس فقط لان الوقت متأخر، ولان القابضين علي زمام الامور لم يستمعوا لها في الماضي ولا نعتقد انهم سيستمعون اليها الان.
التعاون مع ميليس ومطالبه سيؤدي الي النتيجة نفسها التي سيؤدي اليها عدم التعاون، لاننا وبعد تجربتي العراق وليبيا، بتنا نعرف اين تبدأ هذه المطالب واين تنتهي، اي الاذلال الكامل وفقدان الكرامتين الوطنية والشخصية. فهناك من فضل البقاء في الحكم دون كرامة، وهناك من فضل خسارة حكم، والذهاب الي المعتقل علي رعي خنازير الادارة الامريكية.
الرهان علي الصين وروسيا لمنع عقوبات في مجلس الامن ربما يكون مقامرة غير مضمونة النجاح. فالرئيس العراقي اعطي روسيا وشركاتها عقود نفط باربعين مليار دولار، ولكنها تخلت عنه في اللحظات الحرجة، وفضلت الصين الامتناع عن التصويت. السبب بسيط وهو انه لم يعد احد يحترم العرب ويثق بهم، وهذا امر مفهوم وغير مستغرب، فالعرب باتوا في المعادلات الدولية في مرتبة الصفر او ما دونه للأسف الشديد!(منقول)
كتبه ... عبد الباري عطوان
عدد: 24/10/2005 ( القدس العربي )
تعليق