المعالم‏الجديدة/5

القسم الأول المدخل إلى علم الأصول

 تعريف علم الأصول

تمهيد:

بعد أن آمن الإنسان باللَّه و الإسلام و الشريعة و عرف أنه مسئول بحكم كونه عبدا للّه تعالى عن امتثال أحكام اللّه تعالى، يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة و الشريعة الإسلامية، و مدعوا بحكم عقله إلى بناء كل تصرفاته الخاصة و علاقاته مع الأفراد الآخرين على أساسها، أي اتخاذ الموقف العملي الّذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة بوصفه عبدا للمشرع سبحانه الّذي أنزل الشريعة على رسوله. و لأجل هذا كان لزاما على الإنسان أن يعين الموقف العملي الّذي تفرضه هذه التبعية عليه في كل شأن من شئون الحياة و يحدده، فهل يفعل أو يترك؟ و هل يتصرف بهذه الطريقة أو بتلك؟.

و لو كانت أحكام الشريعة و أوامرها و نواهيها في كل الأحداث و الوقائع واضحة وضوحا كاملا بديهيا للجميع، لكان تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة أمرا ميسورا لكل أحد، لأن كل إنسان يعرف أن الموقف العملي الّذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة في الواجبات هو »أن يفعل« و في المحرمات هو »أن يترك« و في المباحات هو »أنه بالخيار إن شاء فعل و ان شاء ترك«. فلو كانت الواجبات و المحرمات و سائر الأحكام الشرعية محددة و معلومة بصورة عامة و بديهية لكان الموقف العملي المحتم على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة واضحا في كل واقعة، و لما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة إلى بحث علمي و دراسة واسعة.

 

 


المعالم‏الجديدة/6

و لكن عوامل عديدة - منها بعدنا الزمني عن عصر التشريع - أدت إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة و اكتنافها بالغموض. فنشأ نتيجة لذلك غموض في الموقف العملي الّذي تفرضه على الإنسان تبعيته تجاه الشريعة في كثير من الوقائع و الأحداث، لأن الإنسان إذا لم يعلم نوع الحكم الّذي تقرره الشريعة في واقعة ما أ هو وجوب أو حرمة أو إباحة فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الّذي يتحتم عليه أن يتخذه تجاه الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة.

و على هذا الأساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الّذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة و تحديده.

و هكذا كان، فقد أنشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. و الفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث الحياة و ناحية من مناحيها، و هذا ما نطلق عليه في المصطلح العلمي اسم »عملية استنباط الحكم الشرعي«، فاستنباط الحكم الشرعي في واقعة معناه إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي للإنسان تجاه الشريعة في تلك الواقعة، أي تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. و نعني بالموقف العملي تجاه الشريعة السلوك الّذي يفرض على الإنسان بحكم تبعيته للشريعة أن يسلكه تجاهها لكي يفي بحقها و يكون تابعا مخلصا لها.

فعلم الفقه إذن هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كل واقعة، و الموقف العملي من الشريعة الّذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده، هو »السلوك الّذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعا مخلصا لها و قائما بحقها«، و تحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبر


المعالم‏الجديدة/7

عنه ب »عملية استنباط الحكم الشرعي«. و لأجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر.

و تحديد الموقف العملي بدليل يزيل الغموض الّذي يكتنف الموقف، يتم في علم الفقه بأسلوبين:

أحدهما: الأسلوب غير المباشر، و هو تحديد الموقف العملي الّذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الّذي قررته الشريعة في الواقعة و إقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي و بالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة فنحن إذا أقمنا الدليل على أن الحكم الشرعي في واقعة ما هو الوجوب استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الّذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها و هو »أن نفعل«.

و الأسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو الأسلوب المباشر الّذي يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الأسلوب الأول -، بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرة، و ذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة و إقامة الدليل على ذلك فلم ندر ما هو نوع الحكم الّذي جاءت به الشريعة، أ هو وجوب أو حرمة أو إباحة؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الأسلوب الأول لعدم توفر الدليل على نوع الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى أدلة تحدد الموقف العملي بصورة مباشرة و توجهنا كيف نفعل و نتصرف في هذه الحالة؟ و أي موقف عملي نتخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الّذي لم نتمكن من اكتشافه؟ و ما هو السلوك الّذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحق التبعية و نكون

 


 

المعالم‏الجديدة/8

تابعين مخلصين و غير مقصرين؟.

و في كلا الأسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي، أي يحدد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورة غير مباشرة أو مباشرة.

و يتسع علم الفقه لعمليات استنباط كثيرة بقدر الوقائع و الأحداث التي تزخر بها حياة الإنسان، فكل واقعة لها عملية استنباط لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الأسلوبين المتقدمين.

و عمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها و تنوعها تشترك في عناصر موحدة و قواعد عامة تدخل فيها على تعددها و تنوعها، و يتشكل من مجموع تلك العناصر المشتركة الأساس العام لعملية الاستنباط.

و قد تطلبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علم خاص بها لدراستها و تحديدها و تهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الأصول.

تعريف علم الأصول:

و على هذا الأساس نرى أن يعرف علم الأصول بأنه »العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي«. و لكي نستوعب هذا التعريف بفهم يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟.

و لنذكر - لأجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة، لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج و المقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

افرضوا أن فقيها واجه هذه الأسئلة:

1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟ 2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه؟ 3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها؟

 


المعالم‏الجديدة/9

و أراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة، فانه سوف يجيب على السؤال الأول مثلا »نعم يحرم الارتماس على الصائم«. و يستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية: قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق عليه السلام على حرمة الارتماس على الصائم، فقد جاء فيها: إن الصادق عليه السلام قال: لا يرتمس المحرم في الماء و لا الصائم. و الجملة بهذا التركيب تدل في العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورة عامة - على الحرمة، و راوي النص يعقوب بن شعيب ثقة، و الثقة و إن كان قد يخطئ أو يشذ أحيانا و لكن الشارع أمرنا بعدم اتهام الثقة بالخطإ و الشذوذ و اعتبر روايته دليلا و أمرنا باتباعها، دون أن نعير احتمال الخطأ أو الشذوذ بإلا. و النتيجة هي أن الارتماس حرام على الصائم و المكلف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة.

و يجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي لا يجب على الولد أن يدفع الخمس من تركة أبيه، لأن رواية علي بن مهزيار التي حدد فيها الإمام الصادق عليه السلام نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها، ذكرت ان الخمس ثابت في الميراث الّذي لا يحتسب من غير أب و لا ابن. و العرف العام يفهم من هذه الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الّذي ينتقل من الأب إلى ابنه، و الراوي و ان كان من المحتمل وقوعه في خطأ أو شذوذ بالرغم من وثاقته، و لكن الشارع أمرنا باتباع روايات الثقات و التجاوز عن احتمال الخطأ و الشذوذ، فالمكلف إذن غير ملزم بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الّذي يرثه من أبيه.

و يجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب: »القهقهة تبطل الصلاة« بدليل رواية زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: القهقهة لا تنقض الوضوء و تنقض الصلاة. و العرف العام يفهم من النقض أن الصلاة إذا وقعت فيها


المعالم‏الجديدة/10

القهقهة اعتبرت لغوا و وجب استئنافها، و هذا يعني بطلانها. و رواية زرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتباعها و جعلها أدلة كاشفة، فيتحتم على المصلي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته، لأن ذلك هو الموقف العملي الّذي تطلبه الشريعة منه.

و بملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبواب شتى، فالحكم الأول يرتبط بالصوم و الصائم، و الحكم الثاني يرتبط بالخمس و النظام المالي في الإسلام، و الحكم الثالث يرتبط بالصلاة و يحدد بعض حدودها. كما نرى أيضا أن الأدلة التي استند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب و بالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية علي بن مهزيار، و بالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. و لكل من الروايات الثلاث نصها و تركيبها اللفظي الخاصّ الّذي يجب أن يدرس بدقة و يحدد معناه، و لكن توجد في مقابل هذا التنوع و هذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعا:

فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النص [1]، فان الفقيه اعتمد في فهمه للنص في كل موقف على طريقة فهم العرف العام للنص، و ذلك يعني أن العرف العام حجة و مرجع في تعيين مدلول اللفظ.

و هذا ما يطلق عليه في علم الأصول اسم »حجية الظهور« [2] فحجية الظهور[1] نريد بالنص هنا الكلام المنقول عن المعصوم عليه السلام.

[2] الحجية في مصطلح علم الأصول تعني كون الدليل صالحا لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، و لاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخلص من العقاب إذا عمل به. فكل دليل له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجة في المصطلح الأصولي، و ظهور كلام


المعالم‏الجديدة/11

إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث. و كذلك أيضا يوجد عنصر مشترك آخر، و هو أمر الشارع باتباع روايات الثقات، لأن الفقيه في كل عملية من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصا يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ و الشذوذ لعدم كونه معصوما و لكنه تجاوز هذا الاحتمال و أخرجه من حسابه استنادا إلى أمر الشارع باتباع روايات الثقات، و هو ما نطلق عليه اسم »حجية الخبر«. و معنى هذا أن حجية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، و لو لا هذا العنصر المشترك لما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأول، و لا عدم وجوب الخمس من رواية علي بن مهزيار في الموقف الثاني، و لا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.

و هكذا نستنتج أن عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصة كما تشتمل على عناصر مشتركة، و نعني بالعناصر الخاصة تلك العناصر التي تتغير من مسألة إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاص في عملية استنباط حرمة الارتماس، لأنها لم تدخل في عمليات الاستنباط الأخرى، بل دخل بدلا عنها عناصر خاصة أخرى، كرواية علي بن مهزيار و رواية زرارة. و نعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكام عديدة على مواضيع مختلفة، كعنصر حجية الظهور و عنصر حجية الخبر.

و في علم الأصول تدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألة فقهية خاصة بالذات. و في علم الفقه تدرس العناصر الخاصة بكل عملية من عمليات الاستنباط في المسألة التي ترتبط بتلك العملية.

و هكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات الخاصة التي‏المولى من هذا القبيل، و لهذا يوصف بالحجية.


المعالم‏الجديدة/12

ترتبط بتلك المسألة و يدرس قيمة تلك الروايات و يحاول فهم نصوصها و ألفاظها على ضوء العرف العام. بينما يتناول الأصولي البحث عن حجية العرف العام بالذات و البحث عن حجية الخبر، و يطرح أسئلة ليجيب عليها من هذا القبيل:

هل العرف العام حجة؟ و ما هو مدى النطاق الّذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام؟ و بأي دليل نثبت حجية الخبر؟ و ما هي الشروط العامة في الخبر الّذي منحه الشارع صفة الحجية و اعتبره دليلا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

و على هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الّذي أعطيناه لعلم الأصول، إذ قلنا: »إن علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط« أي إنه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباط متعددة لأحكام مواضيع متنوعة، كحجية الظهور العرفي و حجية الخبر، العنصرين المشتركين اللذين دخلا في استنباط أحكام الصوم و الخمس و الصلاة.

و لا يحدد علم الأصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدد أيضا درجات استعمالها في عملية الاستنباط و العلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء اللّه تعالى. و بهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العام الكامل.

و نستخلص من ذلك أن علم الأصول و علم الفقيه مرتبطان معا باستنباط الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، و علم الأصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. و الفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدها من علم الأصول، و الأصولي يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط و يضعها في خدمة الفقيه.


المعالم‏الجديدة/13

موضوع علم الأصول:

لكل علم - عادة - موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه و تدور حوله و تستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص و حالات و قوانين، فالفيزياء مثلا موضوعها الطبيعة، و بحوث الفيزياء ترتبط كلها بالطبيعة و تحاول الكشف عن حالاتها و قوانينها العامة. و النحو موضوعه الكلمة، لأنه يبحث عن حالات إعرابها و بنائها و رفعها و نصبها، فما هو موضوع علم الأصول الّذي يتوفر هذا العلم على دراسته و تدور بحوثه حوله؟.

و نحن إذا لاحظنا التعريف الّذي قدمناه لعلم الأصول استطعنا أن نعرف أن علم الأصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه، و تتعلق بحوثه كلها بتدقيق هذه العملية و إبراز ما فيها من عناصر مشتركة، و على هذا الأساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الأصول باعتباره علما يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية من قبيل حجية الظهور العرفي و حجية الخبر.

علم الأصول منطق الفقه:

و لا بد ان معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثال لعلم الأصول، فإن علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة عملية التفكير، مهما كان لونها و مجالها و حقلها العلمي، و يحدد النظام العام الّذي يجب أن تتبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليما. مثلا: يعلمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكير لكي يكون الاستدلال صحيحا؟ كيف نستدل على أن سقراط فان؟ و كيف نستدل على أن نار الموقد الموضوع أمامي محرقة؟ و كيف نستدل على أن مجموع زوايا


المعالم‏الجديدة/14

المثلث تساوي قائمتين؟ و كيف نستدل على أن الخطّ الممتد بدون نهاية مستحيل؟ و كيف نستدل على أن الخسوف ينتج عن توسط الأرض بين الشمس و القمر؟. كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال، كالقياس و الاستقراء التي تطبق في مختلف هذه الحقول من المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقا، إذ يضع المناهج و العناصر العامة فيها.

و علم الأصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنه يبحث عن نوع خاص من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الأحكام، و يدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط، و تتكيف وفقا لها، لكي يكون الاستنباط سليما و الفقيه موفقا في استنتاجه. فهو يعلمنا: كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكر؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه؟. كل هذا يوضحه علم الأصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط و الكشف عن عناصرها المشتركة.

و على هذا الأساس قد نطلق على علم الأصول اسم »منطق علم الفقه« لأنه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دورا إيجابيا مماثلا للدور الإيجابي الّذي يؤديه علم المنطق للعلوم و الفكر البشري بصورة عامة، فهو على هذا الأساس »منطق علم الفقه« أو »منطق عملية الاستنباط« بتعبير آخر.

و نستخلص من ذلك كله أن علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط، و علم الأصول هو منطق تلك العملية الّذي يبرز عناصرها المشتركة و نظامها العام الّذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.


المعالم‏الجديدة/15

أهمية علم الأصول في عملية الاستنباط:

و لسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الأصول و خطورة دوره في عالم الاستنباط، لأنه ما دام يقدّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط و القوة الموجهة، و بدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص و الأدلة دون أن يستطيع استخدامها و الاستفادة منها في الاستنباط كإنسان يواجه أدوات النجارة و يعطى منشارا و فأسا و ما إليهما من أدوات دون أن يملك أفكارا عامة عن عملية النجارة و طريقة استخدام تلك الأدوات.

و كما أن العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الأصول ضرورية لعملية الاستنباط، فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى، كمفردات الآيات و الروايات المتناثرة التي تشكل العناصر الخاصة و المتغيرة في عملية الاستنباط، فإنها الجزء الضروري الآخر فيها الّذي لا تتم العملية بدونه، و لا يكفي في إنجاحها مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلها علم الأصول و استيعابها.

و من يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصولي فحسب نظير من يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة و لا يوجد لديه فأس و لا منشار و ما إليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن وضع سرير خشبي مثلا فكذلك يعجز الأصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة.

و هكذا نعرف أن العناصر المشتركة و العناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط و لا غنى للعملية عنهما معا، و لهذا يتحتم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة و يحددها في علم الأصول ثم يضيف إليها في


المعالم‏الجديدة/16

بحوث علم الفقه العناصر الخاصة لتكتمل لديه عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.

الأصول و الفقه يمثلان النظرية و التطبيق:

و نخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصور خاطئ، حين قلنا ان المستنبط يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة و يحددها و يتناول في بحوث علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط، إذ قد يتصور البعض أنا إذا درسنا في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط و عرفنا مثلا حجية الخبر و حجية الظهور العرفي و ما إليهما من العناصر الأصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر الا إلى مجرد استخراج الروايات و النصوص من مواضعها، نظير من يستخرج تاريخ غزوة خيبر أو روايات الهجرة من تاريخ السيرة النبوية، و بهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصرا على مجرد التفتيش عن العناصر الخاصة من الروايات و النصوص، لكي تضاف إلى العناصر المشتركة و يستنبط منها الحكم الشرعي، و هو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهد علمي، و نتيجة ذلك أن الجهد العلمي الّذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثل في وضع العناصر المشتركة و تنظيمها و دراستها في علم الأصول، لا في جمع العناصر الخاصة من النصوص و الروايات و غيرها في علم الفقه.

و لكن هذا التصور خاطئ إلى درجة كبيرة، لأن المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط و حددها في علم الأصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الأحاديث و الروايات مثلا، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة و نظرياتها العامة على العناصر الخاصة. و التطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى


المعالم‏الجديدة/17

درس و تمحيص، و لا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا في دراسة العناصر المشتركة و تحديد نظرياتها العامة عن بذل جهد جديد في التطبيق.

و لا نستطيع الآن أن نضرب الأمثلة المتنوعة لتوضيح دقة التطبيق، لأن فهم الأمثلة يتوقف على اطلاع مسبق على النظريات الأصولية العامة. و لهذا نكتفي بمثال واحد بسيط، فنفرض أن المجتهد آمن في علم الأصول بحجية الظهور العرفي بوصفه عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع إصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات الخمس مثلا، ليضيفها إلى العنصر المشترك و يستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام و دراسة كل ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن و أمارات داخل إطار النص أو خارجه، لكي يتمكن بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي؟ فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك و الإيمان بحجية الظهور، مشكلة تعيين نوع الظهور في النص و دراسة جميع ملابساته، حتى إذا تأكد المجتهد من تعيين الظهور في النص و دلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث، طبق على النص النظرية العامة التي يقررها العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي، و استنتج من ذلك أن الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس.

و في هذا الضوء نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط ليس مجرد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقررها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، و تطبيق النظريات العامة له دائما موهبته الخاصة و دقته، و مجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها. ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في الطب يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة و انتباه كامل و تفكير في


المعالم‏الجديدة/18

تطبيق تلك النظريات على المريض الّذي بين يديه؟ فالبحث الأصولي عن العناصر المشتركة و ما تقرره من نظريات عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطب، و دراسة الفقيه للعناصر الخاصة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض في مجال تطبيق النظريات العامة في الطب عليه، و كما قد يحتاج الطبيب إلى قدر كبير من الدقة و الجهد لكي يوفق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقا صحيحا يمكنه من شفائه، فكذلك الفقيه بعد أن يخرج من دراسة علم الأصول بالعناصر المشتركة و النظريات العامة و يواجه مسألة في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما، فهو يحتاج أيضا إلى دقة و تفكير في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصة بالمسألة تطبيقا صحيحا.

و هكذا نعرف أن علم الأصول الّذي يمثل العناصر المشتركة هو »علم النظريات العامة«، و علم الفقه الّذي يشتمل على العناصر الخاصة هو »علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصة«، و لكل منهما دقته و جهده العلمي الخاصّ.

و استنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصة، و عملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، و الدقة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.

و قد أشار الشهيد الثاني إلى أهمية التطبيق الفقهي و ما يتطلبه من دقة إذ كتب في قواعده يقول: »نعم يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات العامة - أن تكون له قوة يتمكن بها من ردّ الفروع إلى أصولها و استنباطها منها، و هذه هي العمدة في هذا الباب... و إنما تلك القوة بيد اللّه يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته و مراده، و لكثرة المجاهدة و الممارسة لأهلها


المعالم‏الجديدة/19

مدخل عظيم في تحصيلها«.

التفاعل بين الفكر الأصولي و الفكر الفقهي:

عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، و العلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق، لأن علم الأصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، و علم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات و العناصر المشتركة على العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى.

و هذا الترابط الوثيق بين علم الأصول و علم الفقه يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الأصولية و مستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية، و بين الذهنية الفقهية و مستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لأن توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الإمام، لأنه يثير أمامها مشاكل و يضطرها إلى وضع النظريات العامة لحلولها، كما أن دقة البحث في النظريات تنعكس على صعيد التطبيق، إذ كلما كانت النظريات أدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة و عمقا و استيعابا أكبر.

و هذا التفاعل المتبادل بين الذهنيتين و المستويين الفكريين لعلم الأصول و علم الفقه يؤكده تاريخ العلمين على طول الخطّ، و تكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي و البحث الأصولي في تاريخ العلم فقد كان علم الأصول يتسع و يثري تدريجا تبعا لتوسع البحث الفقهي، لأن اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة و تتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول. كما أن تدقيق العناصر المشتركة في علم الأصول و تحديد حدودها بشكل صارم كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلما كانت


المعالم‏الجديدة/20

النظريات العامة موضوعة في صيغ أكثر صرامة و بدقة أكبر، كانت أكثر غموضا و تطلبت في مجال التطبيق التفاتا أكبر و انتباها أكمل.

و لا نستطيع الآن - و نحن في الحلقة الأولى - أن نقدم النماذج من العلمين على هذا التفاعل، لأن الطالب لا يملك حتى الآن خبرة واسعة ببحوث علم الأصول، و لكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أن التفاعل بين البحث الفقهي و البحث الأصولي هو مصداق لخط عريض يعبر عن التفاعل المتبادل في كثير من الأحايين بين بحوث النظرية و بحوث تطبيقها. أو ليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مرضاه في نطاق واسع يوحي إليه بمشاكل جديدة باستمرار، فيتولى بحث النظريات العامة العلمية في الطب حل تلك المشاكل، و يتعمق تدريجا و ينعكس بالتالي على التطبيق؟ إذ كلما ازداد الرصيد النظريّ للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملا واسعا. و كلنا نعلم أن طبيب الأمس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات، بينما يظل طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عملية معقدة واسعة النطاق.

و نفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي و الفكر الأصولي الّذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه، نجدها بين الفكر العلمي إطلاقا و الفكر المنطقي العام الّذي يدرس النظام الأساسي للتفكير البشري، إذ كلما اتسع نطاق المعرفة البشرية و تنوعت مجالاتها تجددت مشاكل في مناهج الاستدلال و النظام العام للفكر، فيتولى المنطق تذليل تلك المشاكل و تطوير نظرياته و تكميلها بالشكل الّذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه و التنظيم العليا للفكر البشري.

و على أي حال فإن فكرة التفاعل هذه سواء كانت بين علم الفقه و منطقه الخاصّ المتمثل في الأصول، أو بين العلوم كلها و منطقها العام، أو بين بحث أيّ نظرية و بحث تطبيقها، تحتاج إلى توضيح و شرح أوسع. و لا نستهدف


المعالم‏الجديدة/21

الآن من الإشارة إلى الفكرة الا أن ينفتح ذهن الطالب لها و لو على سبيل الإجمال.

نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم الأصول:

و يحسن بنا أن نقدم قائمة تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الأصول، لنجسد بذلك للطالب الّذي لا يملك الآن خبرة ببحوث هذا العلم أهمية الدور الّذي يلعبه علم الأصول في عملية الاستنباط:

1 - ما هو الدليل على حجية خبر الثقة؟ 2 - لما ذا يجب أن نفسر النص الشرعي على ضوء العرف العام؟ 3 - ما ذا نصنع في مسألة إذا لم نجد فيها دليلا يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها؟ 4 - ما هي قيمة الأكثرية في المسألة الفقهية؟ و هل يكتسب الرّأي طابعا شرعيا ملزما بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عددا.

5 - كيف نتصرف إذا واجهنا نصين لا يتفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر؟ 6 - ما هو الموقف إذا كنا على يقين بحكم شرعي معيّن ثم شككنا في استمراره؟ 7 - ما هي الألفاظ التي تدل مباشرة على الوجوب و الإلزام؟ و هل يعتبر منها فعل الأمر، من قبيل: اغتسل، توضأ، صل؟.

إلى عشرات من الأسئلة التي يتولى علم الأصول الجواب عليها، و يحدد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، و يملأ كل الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.


المعالم‏الجديدة/22

جواز عملية الاستنباط

في ضوء ما تقدم عرفنا أن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط، لأنه يشتمل على عناصرها المشتركة و يمدها بقواعدها العامة و نظامها الشامل، و لهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الأصول.

و ما دام علم الأصول مرتبطا بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كل شي‏ء موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح الشارع لأحد بممارستها أو لا؟ فإن كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم »علم الأصول« لدراسة عناصرها المشتركة، و أما إذا كان الشارع قد حرمها فيلغو الاستنباط، و بالتالي يلغو علم الأصول رأسا لأن هذا العلم إنما وضع للتمكين من الاستنباط، فحيث لا استنباط لا توجد حاجة إلى علم الأصول لأنه يفقد بذلك مبررات وجوده، فلا بد إذن أن تدرس هذه النقطة بصورة أساسية.

و الحقيقة أن هذه النقطة - أي مسألة جواز الاستنباط - حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها، لا يبدو أنها جديرة بالتأمل و البحث العلمي، لأننا حين نتساءل: هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط أو لا؟ يجي‏ء الجواب على البداهة بالإيجاب، لأن عملية الاستنباط هي - كما عرفنا سابقا - عبارة عن »تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا«، و من البديهي أن الإنسان بحكم تبعيته للشريعة و وجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها، و لما لم تكن أحكام الشريعة غالبا في البداهة


المعالم‏الجديدة/23

و الوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل، فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعا تحديد الموقف العملي تحديدا استدلاليا و يحجر عليهم النّظر في الأدلة التي تحدد موقفهم تجاه الشريعة، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزة فحسب بل من الضروري أن تمارس. و هذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة، و النزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.

و لكن لسوء الحظ اتفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغة أخرى لا تخلو عن غموض و تشويش، فأصبحت مثارا للاختلاف نتيجة لذلك الغموض و التشويش، فقد استخدمت كلمة الاجتهاد للتعبير عن عملية الاستنباط و طرح السؤال هكذا »هل يجوز الاجتهاد في الشريعة أو لا؟« و حينما دخلت كلمة الاجتهاد في السؤال - و هي كلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها - أدت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، و نتج عن ذلك أن تقدم جماعة من علمائنا المحدثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، و بالتالي ليشجبوا علم الأصول كله لأنه انما يراد لأجل الاجتهاد، فإذا ألغي الاجتهاد لم تعد حاجة إلى علم الأصول.

و في سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطور الّذي مرت به كلمة الاجتهاد، لكي نتبين كيف ان النزاع الّذي وقع حول جواز عملية الاستنباط و الضجة التي أثيرت ضدها لم يكن إلا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي و غفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد في تاريخ العلم.×××

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد و هو »بذل الوسع للقيام بعمل ما« و قد استعملت هذه الكلمة - لأول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني و سارت على أساسها و هي القاعدة القائلة: »إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا و لم يجد


المعالم‏الجديدة/24

نصا يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص«.

و الاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى تفكيره الخاصّ و يستلهمه و يبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع، و قد يعبر عنه بالرأي أيضا.

و الاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلا من أدلة الفقيه و مصدرا من مصادره فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنة و يستدل بهما كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي و يستدل به.

و قد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، و على رأسها مدرسة أبي حنيفة، و لقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام و الفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم، كما سنرى في البحث المقبل.

و تتبّع كلمة الاجتهاد يدل على أن الكلمة حملت هذا المعنى و كانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلى القرن السابع، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تذم الاجتهاد و تريد به ذلك المبدأ الفقهي الّذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم، و قد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا و الرّواة الذين حملوا آثارهم و كانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الّذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد اللّه بن عبد الرحمن الزبيري كتابا أسماه »الاستفادة في الطعون على الأوائل و الرد على أصحاب الاجتهاد و القياس« و صنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم كتاب »الرد على من ردّ آثار الرسول و اعتمد على نتائج العقول«، و صنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نصّ على ذلك


المعالم‏الجديدة/25

كله النجاشي صاحب الرّجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.

و في أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، و نذكر له - على سبيل المثال - تعقيبه في كتابه على قصة موسى و الخضر، إذ كتب يقول: »إن موسى - مع كمال عقله و فضله و محله من اللّه تعالى - لم يدرك باستنباطه و استدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء اللّه و رسله القياس و الاستدلال و الاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك... فإذا لم يصلح موسى للاختيار - مع فضله و محله - فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام، و كيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية و استخراجها بعقولهم الناقصة و آرائهم المتفاوتة«.

و في أواخر القرن الرابع يجي‏ء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ و يهجم على الاجتهاد، و هو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذّكر و يكتب كتابا في ذلك باسم »النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرّأي«.

و نجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد و يقول: »إن الاجتهاد باطل، و ان الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن و لا الرّأي و لا الاجتهاد« و كتب في كتابه الفقهي »الانتصار« معرضا بابن الجنيد - قائلا: »إنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرّأي و الاجتهاد و خطأه ظاهر« و قال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: »إنا لا نرى الاجتهاد و لا نقول به«.

و استمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا، فالشيخ الطوسي الّذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلا:

»أما القياس و الاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور في


المعالم‏الجديدة/26

الشريعة استعمالهما«.

و في أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عددا من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى، ثم يعقب ذلك قائلا: »و لا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، و القياس و الاستحسان و الاجتهاد باطل عندنا«.

و هكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع، و على هذا الأساس اكتسبت الكلمة لونا مقيتا و طابعا من الكراهية و الاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ و الإيمان ببطلانه.

و لكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا، و لا يوجد لدينا الآن نصّ شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفى سنة (676)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: »و هو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، و بهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا، لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فان قيل: يلزم - على هذا - ان يكون الإمامية من أهل الاجتهاد. قلنا: الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس«.

و يلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الإمامية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، و لهذا يلمح النص إلى أن هناك من يتحرج من هذا الوصف و يثقل عليه أن يسمى فقهاء الإمامية مجتهدين.


المعالم‏الجديدة/27

و لكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي، إذ بينما كان الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه و دليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الّذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته و مصادره، فلم يعد مصدرا من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.

و الفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح الأول للاجتهاد أن يستنبط من تفكيره الشخصي و ذوقه الخاصّ في حالة عدم توفر النص، فإذا قيل له: ما هو دليلك و مصدر حكمك هذا؟ استدل بالاجتهاد و قال: الدليل هو اجتهادي و تفكيري الخاصّ. و أما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أيّ حكم من الأحكام بالاجتهاد، لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها، فإذا قال الفقيه »هذا اجتهادي« كان معناه أن هذا هو ما استنبطه من المصادر و الأدلة، فمن حقنا أن نسأله و نطلب منه أن يدلنا على تلك المصادر و الأدلة التي استنبط الحكم منها.

و قد مر هذا المعنى الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمى اجتهادا دون ما يستند إلى تلك الظواهر. و لعل الدافع إلى هذا التحديد أن استنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهادا.

ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص أيضا، لأن الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية استنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيرا من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور


المعالم‏الجديدة/28

و تحديده و إثبات حجية الظهور العرفي. و لم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخلت في الاجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف العملي مباشرة.

و هكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، و بالتالي أصبح علم الأصول العلم الضروري للاجتهاد لأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

و هذه التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد كمصطلح ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي إلى حد ما، و هذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا لتأريخ علم الأصول.×××

على هذا الضوء يمكننا أن نفسر موقف جماعة من المحدثين عارضوا الاجتهاد و بالتالي شجبوا علم الأصول، فإن هؤلاء استفزتهم كلمة الاجتهاد لما تحمل من تراث المصطلح الأول الّذي شنّ أهل البيت عليهم السلام حملة شديدة عليه، فحرموا الاجتهاد الّذي حمل المجتهدون من فقهائنا رأيته، و استدلوا على ذلك بموقف الأئمة عليهم السلام و مدرستهم الفقهية ضد الاجتهاد، و هم لا يعلمون أن ذلك الموقف كان ضد المعنى الأول للاجتهاد، و الفقهاء من الأصحاب قالوا بالمعنى الثاني للكلمة.

و هكذا واجهت عملية الاستنباط هجوما مريرا من هؤلاء باسم الهجوم على الاجتهاد، و تحملت التبعات التاريخية لهذه الكلمة، و بالتالي امتدّ الهجوم إلى علم الأصول لارتباطه بعملية الاستنباط و الاجتهاد.

و نحن بعد أن ميّزنا بين معنيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى المسألة


المعالم‏الجديدة/29

بداهتها، و تتبين بوضوح أن جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط من البديهيات.

و ما دامت عملية استنباط الحكم الشرعي جائزة بالبداهة فمن الضروري أن يحتفظ بعلم الأصول لدراسة العناصر المشتركة في هذه العملية.

و يبقى علينا - بعد أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الإسلام - أن ندرس نقطتين:

إحداهما هي: أن الإسلام هل يسمح بهذه العملية في كل عصر و لكل فرد، أو لا يسمح بها إلا لبعض الأفراد و في بعض العصور؟ و النقطة الأخرى هي: أن الإسلام كما يسمح للشخص أن يستنبط حكمه هل يسمح له باستنباط حكم غيره و إفتائه بذلك؟ و سوف ندرس هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها لمراحل أعلى من دراسة هذا العلم.


المعالم‏الجديدة/30

الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الأصول

عرفنا أن عملية الاستنباط تتألف من عناصر مشتركة و عناصر خاصة، و أن علم الأصول هو علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ففيه تدرس هذه العناصر و تحدد و تنظم.

و ما دام علم الأصول هو العلم الّذي يتكفل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الأساسي: ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الأصول، لكي يثبت بها حجية الخبر أو حجية الظهور العرفي، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟.

و نظير هذا السؤال يواجهه كل علم، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلا: ما هي وسائل الإثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة و إثباتها؟ و الجواب هو أن وسيلة الإثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة. و بالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضا: ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة و تحديد حالات رفعها و نصبها؟ و الجواب هو أن الوسيلة الرئيسية للإثبات في علم النحو هي النقل عن المصادر الأصلية للغة و كلمات أبنائها الأولين. فلا بد لعلم الأصول إذن أن يواجه هذا السؤال و أن يحدد منذ البدء وسائل الإثبات التي ينبغي أن يستخدمها لإثبات العناصر المشتركة و تحديدها.

و في هذا المجال نقول: إن الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الأصول أن يستخدمها مردّها إلى وسيلتين رئيسيتين، و هما:


المعالم‏الجديدة/13

1 - البيان الشرعي )الكتاب و السنة(.

2 - الإدراك العقلي.

فلا تكتسب أي قضية طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط، و لا يجوز إسهامها في العملية الا إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيتين، فإذا حاول الأصولي مثلا أن يدرس حجية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط - إذا كان حجة - يطرح على نفسه هذين السؤالين:

هل ندرك بعقولنا أن الخبر حجة و ملزم بالاتباع أم لا؟ و هل يوجد بيان شرعي يدل على حجيته؟ و يحاول الأصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقا للمستوى الّذي يتمتع به من الدقة و الانتباه، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنه لا يملك وسيلة لإثبات حجية الخبر، و بالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. و أما إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدى هذا إلى إثبات حجية الخبر و دخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصرا أصوليا مشتركا.. و سوف نرى خلال البحوث المقبلة أن عددا من العناصر المشتركة قد تم إثباتها بالوسيلة الأولى - أي البيان الشرعي - و عددا آخر ثبت بالوسيلة الثانية - أي الإدراك العقلي -. فمن قبيل الأول حجية الخبر و حجية الظهور العرفي، و من نماذج الثاني القانون القائل: »ان الفعل لا يمكن أن يكون واجبا و حراما في وقت واحد«.

و على ضوء ما تقدم نعرف أن من الضروري - قبل البدء في بحوث علم الأصول لدراسة العناصر المشتركة - أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر، و نتكلم عن حدودها لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقا لتلك الحدود.


المعالم‏الجديدة/32

البيان الشرعي:

البيان الشرعي هو إحدى الوسيلتين الرئيسيتين لإثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط. و نقصد بالبيان الشرعي ما يلي:

1 - »الكتاب الكريم« و هو القرآن الّذي أنزل بمعناه و لفظه على سبيل الإعجاز وحيا على أشرف المرسلين صلى اللَّه عليه و آله.

2 - »السنة« و هي كل بيان صادر من الرسول صلى اللَّه عليه و آله أو أحد الأئمة المعصومين عليهم السلام، و البيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - »البيان الإيجابي القولي« و هو الكلام الّذي يتكلم به المعصوم عليه السلام.

2 - »البيان الإيجابي الفعلي« و هو الفعل الّذي يصدر من المعصوم عليه السلام.

3 - »البيان السلبي« و هو تقرير المعصوم عليه السلام، أي سكوته عن وضع معيّن بنحو يكشف عن رضاه بذلك الوضع و انسجامه مع الشريعة.

و يجب الأخذ بكل هذه الأنواع من البيان الشرعي، و إذا دلّ شي‏ء منها على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك و اكتسب طابعه الشرعي.

و في هذا المجال توجد عدة بحوث نتركها للحلقات المقبلة إن شاء اللّه تعالى.

الإدراك العقلي:

الإدراك العقلي هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط مما ندركه بعقولنا دون حاجة إلى بيان شرعي


المعالم‏الجديدة/33

لإثباته، من قبيل القانون القائل: »إن الفعل لا يمكن أن يكون حراما و واجبا في وقت واحد«، فإننا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيان شرعي يشتمل على صيغة للقانون من هذا القبيل، بل هو ثابت عن طريق العقل، لأن العقل يدرك أن الوجوب و الحرمة صفتان متضادتان، و أن الشي‏ء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادتين، فكما لا يمكن أن يتصف الجسم بالحركة و السكون في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يتصف الفعل بالوجوب و الحرمة معا.

و الإدراك العقلي له مصادر متعددة و درجات مختلفة.

فمن ناحية المصادر ينقسم الإدراك العقلي إلى أقسام:

)منها( الإدراك العقلي القائم على أساس الحس و التجربة. و مثاله إدراكنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مائة، و أن وضعه على النار إلى مدة طويلة يؤدي إلى غليانه.

)و منها( الإدراك العقلي القائم على أساس البداهة. و مثاله إدراكنا جميعا أن الواحد نصف الاثنين، و أن الضدين لا يجتمعان، و أن الكل أكبر من الجزء. فإن هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناء أو تأمل.

)و منها( الإدراك القائم على أساس التأمل النظريّ. و مثاله إدراكنا أن المعلول يزول إذا زالت علته، فان هذه الحقيقة ليست بديهية، و لا ينساق إليها الذهن بطبيعته، و إنما ندرك بالتأمل عن طريق البرهان و الاستدلال.

و من ناحية الدرجات ينقسم الإدراك العقلي إلى درجات:

)فمنه( الإدراك الكامل القطعي. و هو أن ندرك بعقولنا حقيقة من الحقائق إدراكا لا نحتمل فيه الخطأ و الاشتباه، كإدراكنا أن زوايا المثلث تساوي قائمتين، و أن الضدين لا يجتمعان، و أن الأرض كروية، و أن الماء


المعالم‏الجديدة/34

يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.

)و من الإدراك العقلي( ما يكون ناقصا. و الإدراك الناقص هو اتجاه العقل نحو ترجيح شي‏ء دون الجزم به لاحتمال الخطأ، كإدراكنا أن الجواد الّذي سبق في مناورات سابقة سوف يسبق في المرة القادمة أيضا، و أن الدواء الّذي نجح في علاج أمراض معينة سوف ينجح في علاج أعراض مرضية مشابهة، و أن الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.

و السؤال الأساسي في هذا البحث: ما هي حدود العقل أو الإدراك العقلي الّذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقلي كوسيلة للإثبات مهما كان مصدره و مهما كانت درجته، أو لا يجوز استخدام الإدراك العقلي كوسيلة للثبات إلا ضمن حدود معينة من ناحية المصدر أو الدرجة.

و قد اتجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتجاهه نحو معالجة المصدر، فاتسعت الدراسات الأصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة، و اختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل و حدوده - بوصفه وسيلة إثبات رئيسية - فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدي إلى مجرد الترجيح أو يختص بالإدراك الكامل المنتج للجزم؟.

و لهذا البحث تاريخه الزاخر في علم الأصول و في تاريخ الفكر الفقهي، كما سنرى.

الاتجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي

و قد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتجاهين متعارضين في هذه النقطة كل التعارض، يدعو أحدهما إلى اتخاذ العقل في نطاقه الواسع الّذي يشمل الإدراكات الناقصة، وسيلة رئيسية للإثبات في مختلف المجالات التي يمارسها


المعالم‏الجديدة/35

الأصولي و الفقيه. و الآخر يشجب العقل و يجرده إطلاقا عن وصفه وسيلة رئيسية للإثبات، و يعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط.

و يقف بين هذين الاتجاهين المتطرفين اتجاه ثالث معتدل يتمثل في جلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، و هو الاتجاه الّذي يؤمن - خلافا للاتجاه الثاني - بأن العقل أو الإدراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للإثبات إلى صف البيان الشرعي، و لكن لا في نطاق منفتح - كما زعمه الاتجاه الأول - بل ضمن النطاق الّذي تتوفر فيه للإنسان القناعة التامة و الإدراك الكامل الّذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ، فكل إدراك عقلي يدخل ضمن هذا النطاق و يستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات، و أما الإدراك العقلي الناقص الّذي يقوم على أساس الترجيح و لا يتوفر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثبات لأي عنصر من عناصر عملية الاستنباط.

فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة، و جديرة بالاعتماد عليها و الإثبات بها إذا أدت إلى إدراك حقيقة من الحقائق إدراكا كاملا لا يشوبه شك. فلا كفران بالعقل كأداة للمعرفة، و لا إفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.

و قد تطلّب هذا الاتجاه المعتدل الّذي مثله جل فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين: إحداهما المعركة ضد أنصار الاتجاه الأول الّذي كانت مدرسة الرّأي في الفقه تتبناه بقيادة جماعة من أقطاب علماء العامة، و الأخرى المعركة ضد حركة داخلية نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميين متمثلة في المحدثين و الأخباريين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل و ادعوا أن البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات، و هكذا نعرف أن المعركة الأولى كانت ضد استغلال


المعالم‏الجديدة/36

العقل و الأخرى كانت إلى صفه.

1 - المعركة ضد استغلال العقل

قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة الرّأي و الاجتهاد بالمعنى الأول الّذي تقدم في البحث السابق، و تطالب باتخاذ العقل بالمعنى الواسع الّذي يشمل الترجيح و الظن و التقدير الشخصي للموقف، أداة رئيسية للإثبات إلى صف البيان الشرعي، و مصدرا للفقيه في الاستنباط، و أطلقت عليه اسم الاجتهاد.

و كان على رأس هذه المدرسة أو من روادها الأولين أبو حنيفة المتوفى سنة (150) و المأثور عن رجالات هذه المدرسة أنهم كانوا حيث لا يجدون بيانا شرعيا يدل على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصة و ما يدركون من مناسبات و ما يتفتق عنه تفكيرهم الخاصّ من مرجحات لهذا التشريع على ذاك و يفتون بما يتفق مع ظنهم و ترجيحهم و يسمون ذلك استحسانا أو اجتهادا.

و المعروف عن أبي حنيفة أنه كان متفوقا في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن أن أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه و يعارضونه حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد.

و جاء في كلام له و هو يحدّد نهجه العام في الاستنباط »إني آخذ بكتاب اللّه إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنة رسول اللّه صلى اللَّه عليه و آله، فإذا لم أجد في كتاب اللّه و لا سنة رسول اللّه صلى اللَّه عليه و آله أخذت بقول أصحابه من شئت و ادع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم و الشعبي و الحسن و ابن سيرين فلي أن اجتهد كما اجتهدوا«.

و الفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة و تبني العقل المنفتح


المعالم‏الجديدة/37

بوصفه وسيلة رئيسية للإثبات و مصدرا لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: »إن البيان الشرعي المتمثل في الكتاب و السنة قاصر لا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، و لا يتسع لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا و المسائل«.

و قد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتجاههم المذهبي السني، إذ كانوا يعتقدون أن البيان الشرعي يتمثل في الكتاب و السنة النبوية المأثورة عن الرسول صلى اللَّه عليه و آله فقط، و لما كان هذا لا يفي إلا بجزء من حاجات الاستنباط اتجهوا إلى علاج الموقف و إشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل و المناداة بمبدإ الاجتهاد. و اما فقهاء الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي، لأنهم كانوا يؤمنون بأن البيان الشرعي لا يزال مستمرا باستمرار الأئمة عليهم السلام فلم يوجد لديهم أي دافع نفسي للتوسع غير المشروع في نطاق العقل.

و على أي حال فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب و السنة لإشباع حاجات الاستنباط، و لعبت دورا خطيرا في عقلية كثير من فقهاء العامة و وجهتهم نحو الاتجاه العقلي المتطرف.

و تطورت هذه الفكرة و تفاقم خطرها بالتدريج، إذ انتقلت الفكرة من اتهام القرآن و السنة - أي البيان الشرعي - بالنقص و عدم الدلالة على الحكم في كثير من القضايا، إلى اتهام نفس الشريعة بالنقص و عدم استيعابها لمختلف شئون الحياة، فلم تعد المسألة مسألة نقصان في البيان و التوضيح بل في التشريع الإلهي بالذات. و دليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو أنها لم تشرع لتبقى في ضمير الغيب محجوبة عن المسلمين، و إنما شرعت و بينت عن طريق الكتاب و السنة لكي يعمل بها و تصبح منهاجا للأمة في حياتها و لما كانت نصوص الكتاب و السنة - في رأي العامة - لا تشتمل على أحكام


المعالم‏الجديدة/38

كثير من القضايا و المسائل، فيدل ذلك على نقص الشريعة و أن اللّه لم يشرع في الإسلام إلا أحكاما معدودة، و هي الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب و السنة و ترك التشريع في سائر المجالات الأخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعبير أخص ليشرعوا الأحكام على أساس الاجتهاد و الاستحسان، على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرعة في الكتاب و السنة النبوية.

و قد رأينا أن الاتجاه العقلي المتطرف كان نتيجة لشيوع فكرة النقص و انعكاسها، و حين تطورت فكرة النقص من اتهام البيان إلى اتهام نفس الشريعة انعكس هذا التطور أيضا على مجال الفكر السني، و نتج عنه القول بالتصويب الّذي وصل فيه ذلك الاتجاه العقلي المتطرف إلى قصارى مداه، و لتوضيح ذلك لا بد من إعطاء فكرة عن القول بالتصويب.

القول بالتصويب:

بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرّأي و الاجتهاد، لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات و الظنون و الاستحسانات وفقا للاتجاه العقلي المتطرف، كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعا لاختلاف أذواقهم و طرائق تفكيرهم و نوع المناسبات التي يهتمون بها. فهذا يرجح في رأيه الحرمة لأن الفعل فيه ضرر، و ذاك يرجح الإباحة لأن في ذلك توسعة على العباد، و هكذا. و من هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى حظ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعا مصيبين ما دام كل واحد منهم قد عبر عن اجتهاده الشخصي؟ أو ان المصيب واحد فقط و الباقون مخطئون؟ و قد شاع في صفوف مدرسة الرّأي القول بأنهم جميعا مصيبون، لأن


المعالم‏الجديدة/39

اللّه ليس له حكم ثابت عام في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفر فيها النص، و إنما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد و ما يؤدي إليه رأيه و استحسانه، و هذا هو القول بالتصويب.

و في هذا الضوء نتبيّن بوضوح ما ذكرناه آنفا من أن القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص و تحولها إلى اتهام مباشر للشريعة بالنقص و عدم الشمول، الأمر الّذي سوغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد و يصوبوا المجتهدين المختلفين جميعا.

و هكذا نعرف أن فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتجاه العقلي المتطرف تعويضا عن النقص المزعوم في البيان الشرعي، و حينما تطورت فكرة النقص إلى اتهام الشريعة نفسها بالنقصان و عدم الشمول أدى ذلك إلى تمخض الاتجاه العقلي المتطرف عن القول بالتصويب.

و هذا التطور في فكرة النقص الّذي أدى إلى اتهام الشريعة بالنقصان و تصويب المجتهدين المختلفين جميعا، أحدث تغييرا كبيرا في مفهوم العقل أو الاجتهاد الّذي يأخذ به أنصار الاتجاه العقلي المتطرف، فحتى الآن كنا نتحدث عن العقل و الإدراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات، أي كاشفا عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنة، و لكن فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملا تشريعيا لا اكتشافيا، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة - كاشفا عن الحكم الشرعي، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد، و إنما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقا لما يؤدي إليه رأيه. و هكذا يتحول الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع، و يصبح الفقيه مشرعا في مجالات


المعالم‏الجديدة/40

و مكتشفا في مجالات النص.

و لسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب و نناقشه، و انما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف و أهمية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت عليهم السلام ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة و تأكيد كمالها و استيعابها و شمولها لمختلف مجالات الحياة، و لهذا استفاضت الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في عصر تلك المعركة تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج إليه الإنسانية من أحكام و تنظيم في شتى مناحي حياتها، و تؤكد أيضا وجود البيان الشرعي الكافي لكل تلك الأحكام متمثلا في الكتاب و السنة النبوية و أقوالهم عليهم السلام. و فيما يلي نذكر جملة من تلك الأحاديث عن أصول الكافي:

1 - عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: »إن اللّه تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي‏ء، حتى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا و قد أنزله اللّه فيه«.

2 - عنه عليه السلام أيضا انه قال: »ما من شي‏ء إلا و فيه كتاب أو سنة«.

3 - و عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام انه قيل له: أ كل شي‏ء في كتاب اللّه و سنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: »بل كل شي‏ء في كتاب اللّه و سنة نبيه«.

4 - و في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يصف فيه الجامعة التي تضم أحكام الشريعة، فيقول: فيها كل حلال و حرام و كل شي‏ء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش.

رد الفعل المعاكس في النطاق السني:

و لا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركة حامية ضد الاتجاه العقلي


المعالم‏الجديدة/41

المتطرف أن هذا الاتجاه كان مقبولا على الصعيد السني بصورة عامة، و أن المعارضة كانت تتمثل في الفقه الإمامي خاصة، بل إن الاتجاه العقلي المتطرف قد لقي معارضة في النطاق السني أيضا، و كانت له ردود فعل معاكسة في مختلف حقول الفكر.

فعلى الصعيد الفقهي تمثل رد الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد داود بن علي بن خلف الأصبهانيّ في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب و السنة و الاقتصار على البيان الشرعي، و يشجب الرجوع إلى العقل.

و انعكس رد الفعل على البحوث العقائدية و الكلامية متمثلا في الاتجاه الأشعري الّذي عطل العقل و زعم أنه ساقط بالمرة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي. فبينما كان المقرر عادة بين العلماء: أن وجوب المعرفة باللَّه و الشريعة ليس حكما شرعيا و انما هو حكم عقلي، لأن الحكم الشرعي ليس له قوة دفع و تأثير في حياة الإنسان إلا بعد أن يعرف الإنسان ربه و شريعته، فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي. أقول: بينما كان هذا هو المقرر عادة بين المتكلمين خالف في ذلك الأشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم و آكد أن وجوب المعرفة باللَّه حكم شرعي كوجوب الصوم و الصلاة.

و امتدّ رد الفعل إلى علم الأخلاق - و كان وقتئذ يعيش في كنف علم الكلام - فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتى في أوضح الأفعال حسنا أو قبحا، فالظلم و العدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما، و إنما صار الأول قبيحا و الثاني حسنا بالبيان الشرعي، و لو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم و يستقبح العدل لم يكن للعقل أيّ حق


المعالم‏الجديدة/42

للاعتراض على ذلك.

و ردود الفعل هذه كانت تشتمل على نكسة و خطر كبير قد لا يقل عن الخطر الّذي كان الاتجاه العقلي المتطرف يستبطنه، لأنها اتجهت إلى القضاء على العقل بشكل مطلق، و تجريده عن كثير من صلاحياته، و إيقاف النموّ العقلي في الذهنية الإسلامية بحجة التعبد بنصوص الشارع و الحرص على الكتاب و السنة. و لهذا كانت تختلف اختلافا جوهريا عن موقف مدرسة أهل البيت عليهم السلام التي كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف، و تؤكد في نفس الوقت أهمية العقل و ضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة و اعتباره ضمن تلك الحدود أداة رئيسية للإثبات إلى صف البيان الشرعي، حتى جاء في نصوص أهل البيت عليهم السلام »إن للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة: فأما الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أما الباطنة فالعقول«.

و هذا النص يقرر - بوضوح - وضع العقل إلى صف البيان الشرعي أداة رئيسية للإثبات.

و هكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص و حماية العقل من مصادرة الجامدين.

و سوف نعود إلى الموضوع بصورة علمية موسعة في الحلقات المقبلة.

2 - المعركة إلى صف العقل

و أما الاتجاه الآخر المتطرف في إنكار العقل و شجبه الّذي وجد داخل نطاق الفكر الإمامي فقد تمثل في جماعة من علمائنا اتخذوا اسم »الأخباريين و المحدثين« و قاوموا دور العقل في مختلف الميادين، و دعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط، لأن العقل عرضة للخطإ و تاريخ الفكر العقلي زاخر بالأخطاء، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أي مجال من المجالات الدينية.


المعالم‏الجديدة/43

و هؤلاء الأخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنت حملة ضد الاجتهاد كما أشرنا في البحث السابق.

و يرجع تاريخ هذا الاتجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر، فقد أعلنه و دعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم »الميرزا محمد أمين الأسترآبادي« المتوفى سنة (1023) ه، و وضع كتابا أسماه »الفوائد المدنية«. بلور فيه هذا الاتجاه و برهن عليه و مذهبه - أي جعله مذهبا -.

و يؤكد الأسترآبادي في هذا الكتاب أن العلوم البشرية على قسمين:

أحدهما العلم الّذي يستمد قضاياه من الحس، و الآخر العلم الّذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحس و لا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي. و يرى المحدث الأسترآبادي أن من القسم الأول الرياضيات التي تستمد خيوطها الأساسية - في زعمه - من الحس، و أما القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدة عن متناول الحس و حدوده، من قبيل تجرد الروح، و بقاء النّفس بعد البدن، و حدوث العالم.

و في عقيدة المحدث الأسترآبادي أن القسم الأول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة لأنه يعتمد على الحس، فالرياضيات مثلا تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحس، نظير أن (4 =2 2). و أما القسم الثاني فلا قيمة له، و لا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحس.

و هكذا يخرج الأسترآبادي من تحليله للمعرفة بجعل الحس معيارا أساسيا لتمييز قيمة المعرفة و مدى إمكان الوثوق بها.

و نحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاها حسيا في إنكار المحدث الأسترآبادي يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائل بأن الحس


المعالم‏الجديدة/44

هو أساس المعرفة، و لأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الاخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب التي تسرب منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا الفكري.

و قد سبقت الاخبارية بما تمثل من اتجاه حسي التيار الفلسفي الحسي الّذي نشأ في الفلسفة الأوروبية على يد »جون لوك« المتوفى سنة (1704) م و »دانيد هيوم« المتوفى سنة (1776) م، فقد كانت وفاة الأسترآبادي قبل وفاة »جون لوك« بمائة سنة تقريبا، و نستطيع أن نعتبره معاصرا ل »فرنسيس بيكون« المتوفى سنة (1626) م الّذي مهد للتيار الحسي في الفلسفة الأوروبية.

و على أي حال فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الاخبارية و المذاهب الحسية و التجربية في الفلسفة الأوروبية، فقد شنت جميعا حملة كبيرة ضد العقل، و ألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس.

و قد أدت حركة المحدث الأسترآبادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس إلى نفس النتائج التي سجلتها الفلسفات الحسية في تاريخ الفكر الأوروبي، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ إلى معارضة كل الأدلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على وجود اللّه سبحانه، لأنها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس.

فنحن نجد مثلا محدثا - كالسيد نعمة اللّه الجزائري - يطعن في تلك الأدلة بكل صراحة وفقا لاتجاهه الأخباري، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفية، و لكن ذلك لم يؤد بالتفكير الأخباري إلى الإلحاد كما أدى بالفلسفات الحسية الأوروبية، لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على نشوء كل منهما، فإن الاتجاهات الحسية و التجريبية في نظرية المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة و إبراز


المعالم‏الجديدة/45

أهميتها، فكان لديها الاستعداد لنفي كل معرفة عقلية منفصلة عن الحس، و اما الحركة الاخبارية فكانت ذات دوافع دينية، و قد اتهمت العقل لحساب الشرع لا لحساب التجربة، فلم يكن من الممكن أن تؤدي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة و الدين.

و لهذا كانت الحركة الاخبارية تستبطن - في رأي كثير من ناقديها - تناقضا، لأنها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع و الفقه للبيان الشرعي، و ظلت من ناحية أخرى متمسكة به لإثبات عقائدها الدينية، لأن إثبات الصانع و الدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب أن يكون عن طريق العقل.


المعالم‏الجديدة/46

تاريخ علم الأصول

مولد علم الأصول:

نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث تبعا للمراحل التي مرّ بها علم الشريعة.

و نريد بعلم الشريعة العلم الّذي يحاول التعرف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند اللّه تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثلا في الجملة التي قام بها عدد كبير من الرّواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام و جمعها، و لهذا كان علم الشريعة في مرحلته الأولى قائما على مستوى علم الحديث، و كان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصرا على جمع الروايات و حفظ النصوص. و أما طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص و الروايات فلم تكن ذات شأن في تلك المرحلة، لأنها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعض في المحاورات الاعتيادية.

و تعمقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص حتى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملا لا يخلو عن دقة و يتطلب شيئا من العمق و الخبرة، فانصبت الجهود و توافرت لاكتساب تلك الدقة التي أصبح فهم الحكم الشرعي من النص و استنباطه من مصادره بحاجة إليها، و بذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي و ولد علم الفقه، و ارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط و الاستدلال العلمي الدّقيق.

و من خلال نموّ علم الفقه و التفكير الفقهي و إقبال علماء الشريعة على


المعالم‏الجديدة/47

ممارسة عملية الاستنباط، و فهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلبها من الدقة و العمق. أقول: من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة )العناصر المشتركة( في عملية الاستنباط تبدو و تتكشف، و أخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، و كان ذلك إيذانا بمولد التفكير الأصولي و علم الأصول و اتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا.

و هكذا ولد علم الأصول في أحضان علم الفقه، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعي كامل بطبيعتها و حدودها و أهمية دورها في العملية، أصبحوا بعد تغلغل الاتجاه الأصولي في التفكير الفقهي يعون تلك العناصر المشتركة و يدرسون حدودها.

و لا نشك في أن بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمة عليهم السلام منذ أيام الصادقين عليهما السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي، و من الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجّهها عدد من الرّواة إلى الإمام الصادق عليه السلام و غيره من الأئمة عليهم السلام و تلقوا جوابها منهم [1]. فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم و اتجاههم إلى وضع القواعد العامة و تحديد العناصر المشتركة. و يعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة عليهم السلام ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الّذي ألف رسالة في الألفاظ.

[1] فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة، و في حجية خبر الثقة، و في أصالة البراءة، و في جواز إعمال الرّأي و الاجتهاد... و ما إلى ذلك من قضايا.


المعالم‏الجديدة/48

و بالرغم من ذلك فإن فكرة العناصر المشتركة و أهمية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح و العمق الكافيين في أول الأمر، و إنما اتضحت معالمها و تعمقت بالتدريج خلال توسع العمل الفقهي و نمو عمليات الاستنباط و لم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة علمية مستقلة عن البحوث الفقهية و تصبح قائمة بنفسها إلا بعد مضي زمن منذ ولادة البذور الأولى للتفكير الأصولي، فقد عاش البحث الأصولي ردحا من الزمن ممتزجا بالبحث الفقهي غير مستقل عنه في التصنيف و التدريس، و كان الفكر الأصولي خلال ذلك يثري و يزداد دوره وضوحا و تحديدا، حتى بلغ في ثرائه و وضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.

و يبدو أن بحوث الأصول حتى حين وصلت إلى مستوى يؤهلها للاستقلال، بقيت تتذبذب بين علم الفقه و علم أصول الدين، حتى أنها كانت أحيانا تخلط ببحوث في أصول الدين و الكلام، كما يشير إلى ذلك السيد المرتضى في كتابه الأصولي »الذريعة« إذ يقول: »قد وجدت بعض من أفرد لأصول الفقه كتابا - و إن كان قد أصاب في سرد معانيه و أوضاعه و مبانيه - و لكنه قد شرد عن أصول الفقه و أسلوبها و تعدّاها كثيرا و تخطاها، فتكلم على حد العلم و النّظر و كيف يولد النّظر العلم و وجوب المسبب عن السبب... إلى غير ذلك من الكلام الّذي هو محض صرف خالص الكلام في أصول الدين دون أصول الفقه«.

و هكذا نجد أن استقلال علم أصول الفقه بوصفه علما للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي و انفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقه و كلام، لم ينجز إلا بعد أن اتضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط و ضرورة وضع نظام عام لها، الأمر الّذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الأصولي و طبيعة البحوث الفقهية و الكلامية، و أدى بالتالي


المعالم‏الجديدة/49

إلى قيام علم مستقل باسم »علم أصول الفقه«.

و بالرغم من تمكن علم الأصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام »علم أصول الدين«، فقد بقيت فيه رواسب فكرية يرجع تاريخها إلى عهد الخلط بينه و بين علم الكلام، و ظلت تلك الرواسب مصدرا للتشويش، فمن تلك الرواسب - على سبيل المثال - الفكرة القائلة بأن أخبار الآحاد »و هي الروايات الظنية التي لا يعلم صدقها« لا يمكن الاستدلال بها في الأصول، لأن الدليل في الأصول يجب أن يكون قطعيا.

فإن مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام، ففي هذا العلم قرر العلماء أن أصول الدين تحتاج إلى دليل قطعي، فلا يمكن أن نثبت صفات اللّه و المعاد مثلا بأخبار الآحاد، و قد أدى الخلط بين علم أصول الدين و علم أصول الفقه و اشتراكهما في كلمة الأصول إلى تعميم تلك الفكرة إلى أصول الفقه، و لهذا نرى الكتب الأصولية ظلت إلى زمان المحقق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقا من تلك الفكرة.

و نحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أصول الفقه و أصول الدين تصورات دقيقة نسبيا و محددة عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد كتب يقول: »اعلم أن الكلام في أصول الفقه انما هو على الحقيقة كلام في أدلة الفقه... و لا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الأدلة و الطرق إلى أحكام و فروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولا، لأن الكلام في أصول الفقه انما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الأصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل، و أدلة الفقهاء إنما هي على نفس المسائل، و الكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل«.

و هذا النص في مصدر من أقدم المصادر الأصولية في التراث الشيعي،


المعالم‏الجديدة/50

يحمل بوضوح فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط و يسميها أدلة الفقه على الإجمال، و يميز بين البحث الأصولي و الفقهي على أساس التمييز بين الأدلة الإجمالية و الأدلة التفصيلية - أي بين العناصر المشتركة و العناصر الخاصة في تعبيرنا - و هذا يعني أن فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرة وقتئذ إلى درجة كبيرة، و الفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي و ابن زهرة و المحقق الحلي و غيرهم، فانهم جميعا عرفوا علم الأصول بأنه »علم أدلة الفقه على وجه الإجمال« و حاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.

ففي كتاب العدة قال الشيخ الطوسي: »أصول الفقه هي أدلة الفقه فإذا تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما يقتضيه من إيجاب و ندب و إباحة و غير ذلك من الأقسام على طريق الجملة، و لا يلزمنا عليها أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه، لأن هذه الأدلة أدلة على تعيين المسائل، و الكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل«.

و مصطلح الإجمالية و التفصيلية يعبر هنا عن العناصر المشتركة و العناصر الخاصة.

و نستخلص مما تقدم أن ظهور علم الأصول و الانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقف على وصول عملية الاستنباط إلى درجة من الدقة و الاتساع و تفتح الفكر الفقهي و تعمقه، و لهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخر ظهور علم الأصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه و الحديث، و أن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نما التفكير الفقهي و ترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة و درسها بأساليب البحث العلمي، و لأجل ذلك كان من الطبيعي أيضا أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجا و تدق على مر الزمن حتى تكتسب صيغتها الصارمة و حدودها الصحيحة و


المعالم‏الجديدة/51

عن بحوث الفقه و بحوث أصول الدين.

الحاجة إلى علم الأصول تاريخية:

و لم يكن تأخر ظهور علم الأصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه و الحديث ناتجا عن ارتباط العقلية الأصولية بمستوى متقدم نسبيا من التفكير الفقهي فحسب، بل هناك سبب آخر له أهمية كبيرة في هذا المجال، و هو أن علم الأصول لم يوجد بوصفه لونا من ألوان الترفه الفكري، و إنما وجد تعبيرا عن حاجة ملحة شديدة لعملية الاستنباط التي تتطلب من علم الأصول، تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها، و معنى هذا أن الحاجة إلى علم الأصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس في هذا العلم و تحدد، و حاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الأصولية هي في الواقع حاجة تاريخية و ليست حاجة مطلقة، أي إنها حاجة توجد و تشتد بعد أن يبتعد الفقه عن عنصر النصوص، و لا توجد بتلك الدرجة في الفقه المعاصر لعصر النصوص.

و لكي تتضح الفكرة لديك افرض نفسك تعيش عصر النبوة على مقربة من النبي صلى اللَّه عليه و آله تسمع منه الأحكام مباشرة و تفهم النصوص الصادرة منه بحكم وضوحها اللغوي و معاصرتك لكل ظروفها و ملابساتها أ فكنت بحاجة - لكي تفهم الحكم الشرعي - أن ترجع إلى عنصر مشترك أصولي كعنصر حجية الخبر و أنت تسمع النص مباشرة من النبي صلى اللَّه عليه و آله أو ينقله لك أناس تعرفهم مباشرة و لا تشك في صدقهم؟ أو كنت في حاجة إلى أن ترجع إلى عنصر مشترك أصولي كعنصر حجية الظهور العرفي و أنت تدرك بسماعك للنص الصادر من النبي معناه الّذي يريده إدراكا واضحا لا يشوبه شك في كثير من الأحيان بحكم اطلاعك على جميع ملابسات النص و ظروفه؟ أو كنت


المعالم‏الجديدة/52

بحاجة إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبي و أنت قادر على سؤاله و الاستيضاح منه بدلا عن التفكير في تلك القواعد؟.

و هذا يعني أن الإنسان كلما كان أقرب إلى عصر التشريع و أكثر امتزاجا بالنصوص، كان أقل حاجة إلى التفكير في القواعد العامة و العناصر المشتركة، لأن استنباط الحكم الشرعي يتم عندئذ بطريقة ميسرة دون أن يواجه الفقيه ثغرات عديدة ليفكر في ملئها عن طريق العناصر الأصولية. و أما إذا ابتعد الفقيه عن عصر النص و اضطر إلى الاعتماد على التاريخ و المؤرخين و الرّواة و المحدثين في نقل النصوص، فسوف يواجه ثغرات كبيرة و فجوات تضطره إلى التفكير في وضع القواعد لملئها، فهل صدر النص المروي - من المعصوم حقيقة أو كذب الراوي أو أخطأ في نقله؟ و ما ذا يريد المعصوم بهذا النص؟ هل يريد المعنى الّذي أفهمه فعلا من النص حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما يوضحه من الظروف و الملابسات التي عاشها النص و لم نعشها معه؟ و ما ذا يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نصّ في المسألة؟. و هكذا يصبح الإنسان بحاجة إلى عنصر كحجية الخبر أو حجية الظهور العرفي أو غيرهما من القواعد الأصولية.

و هذا هو ما نقصده من القول بأن الحاجة إلى علم الأصول حاجة تاريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع و انفصالها عن ظروف النصوص الشرعية و ملابساتها، لأن الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الّذي يخلق الثغرات و الفجوات في عملية الاستنباط. و هذه الثغرات هي التي توجد الحاجة الملحة إلى علم الأصول و القواعد الأصولية.

و ارتباط الحاجة إلى علم الأصول بتلك الثغرات مما أدركه الرواد الأوائل لهذا العلم، فقد كتب السيد الجليل حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي المتوفى سنة (585) ه في القسم الأول من كتابه الغنية يقول: »لما كان


المعالم‏الجديدة/53

الكلام في فروع الفقه يبنى على أصول له وجب الابتداء بأصوله ثم اتباعها بالفروع، و كان الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا يثمر، و قد كان بعض المخالفين سأل فقال: إذا كنتم لا تعملون في الشرعيات إلا بقول المعصوم فأي فقر بكم إلى أصول الفقه، و كلامكم فيها كأنه عبث لا فائدة فيه« ففي هذا النص يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الأصول و الثغرات في عملية الاستنباط، إذ يجعل التزام الإمامية بالعمل بقول الإمام عليه السلام فحسب سببا لاعتراض القائل بأنهم ما داموا كذلك لا حاجة لهم بعلم الأصول، لأن استخراج الحكم إذا كان قائما على أساس قول المعصوم مباشرة فهو عمل ميسر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلب التفكير في وضع القواعد و العناصر الأصولية لملئها.

و نجد في نصّ للمحقق السيد محسن الأعرجي المتوفى سنة (1227) ه في كتابه الفقهي وسائل الشيعة وعيا كاملا لفكرة الحاجة التاريخية لعلم الأصول، فقد تحدث عن اختلاف القريب من عصر النص عن البعيد منه في الظروف و الملابسات و قال في جملة كلامه: »أين من حظي بالقرب ممن ابتلي بالبعد حتى يدعى تساويهما في الغنى و الفقر؟ كلا إن بينهما ما بين السماء و الأرض، فقد حدث بطول الغيبة و شدة المحنة و عموم البلية، ما لو لا اللّه و بركة آل اللّه لردها جاهلية. فسدت اللغات و تغيرت الاصطلاحات و ذهبت قرائن الأحوال و كثرت الأكاذيب و عظمت التقية و اشتد التعارض بين الأدلة حتى لا تكاد تعثر على حكم يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف، و ليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال. و كفاك مائزا بين الفريقين قرائن الأحوال و ما يشاهد في المشافهة من الانبساط و الانقباض... و هذا بخلاف من لم يصب إلا أخبارا مختلفة و أحاديث متعارضة يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب و السنة المعلومة... فانه لا بد له من الإعداد و الاستعداد


المعالم‏الجديدة/54

و التدرب في ذلك كي لا يزل، فانه انما يتناول من بين مشتبك القنا«.

و في هذا الضوء نعرف أن تأخر علم الأصول تاريخيا لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطور الفكر الفقهي و نمو الاستنباط، بل هو ناتج أيضا عن طبيعة الحاجة إلى علم الأصول فانها حاجة تاريخية توجد و تشتد تبعا لمدى الابتعاد عن عصر النصوص.