وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتماً. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول: (وتمت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) أي تحقق الوعد الإِلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أُشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).

[186]

صحيح أنَّ هذه الآية تحدّثت عن بني إِسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط، إلاّ أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأُخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والإستعمار، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة (ودمرّنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).

و«صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و«ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و«دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإِهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف اُبيدت هذه القصور والبساتين، ولماذا؟

ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غَرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى(عليه السلام)، ومن المسلَّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة، والإمكانيات الإقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيراً جداً لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل، أو الحاق الاذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

[187]

الآيات

وَجَـوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْم يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنَام لَّهُمْ قَالُوا يَـمُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـهَاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاَءِ مَتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبـطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ(140)وَإِذْ أَنجَيْنَـكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن:

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإِنتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97)، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

[188]

وفي الحقيقية فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى(عليه السلام) وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأُولى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام (فأَتَوا على قوم يعكفون على أصنام لهم).

و«عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لإِحترامه وتبجيله.

فتأَثَّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتّخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلِهة).

فانزعج موسى(عليه السلام) من هذا الإِفتراح الأحمق بشدّة، وقال لهم: (قال إنّكم قوم تجهلون).

* * *

بحوث

وهنا لابدّ من الانتباه إلى نقاط:

1 ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإِنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

[189]

أحياناً في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلاّ بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام، وإلاّ فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته، عارف بعلل الحوادث، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا، فيستعمل قسماً منها في بناء بيته، أو صنع سلالم منزله، ويتخذ قسماً آخر معبوداً يسجد أمامه، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسى(عليه السلام) في الآية الحاضرة كيف يقول لهم: أنتم غارقون في الجهل دائماً، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالباً على الإِستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم (اجعل لنا إلهاً) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثميناً ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله، وعدم عبادته البعد عنه تعالى، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم، بل كان مقصودهم هو: إجعل لنا معبوداً نتقرب بعبادته إلى الله، ويكون مصدراً للخير والبركة، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقداً للروح والتأثير مصدراً للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبوداً وإلهاً؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى الجهل

[190]

والخرافة، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)

2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من  الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سبباً لأنواع المفاسد والشقاء، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا إهتم الإِسلام بإصلاح البيئة إهتماماً بالغاً.

3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآيه بوضوح، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى(عليه السلام)، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها، فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلا: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله


1 ـ مرّت أبحاث أُخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.

[191]

عليه قائلا: «إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعَلْ لنا إِلهاً كما لهم آلهة، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلاّ واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة، وقال موسى: إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى(عليه السلام) ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال: إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له (إن هؤلاء متبرٌّ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون).

فعمل هذه الجماعة باطل، وجهودهم غير منتجة، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبَّر» مشتّقة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد: إنّ موسى(عليه السلام) (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين).

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما، فإنّ ذلك أيضاً يرتبط بالله سبحانه، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقاً لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإِلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالإِلتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإِلهية المقدسة فحسب، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئاً أبداً.

يقول في البداية: تذكَّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا

[192]

يعذبونكم دائماً (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب).

و«يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الإِستمرار والمضّي أيضاً، وعلى هذا يكون معنى (يسومونكم سوء العذاب)أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان الأُمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والإسترقاق (يقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم).

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم (وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم).

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسى(عليه السلام) عن الله لنبي إسرائيل عندما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال: إن الآية كانت في الأصل هكذا: قال موسى: قال ربّكم ... وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الإلتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقطع إرتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولابدّ ـ ضمناً ـ من الإلتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جداً بسيط، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

* * *

[193]

الآية

وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لاَِخيهِ هَـرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

التّفسير

الميعاد الكبير:

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل، ومشكلة موسى(عليه السلام) معهم، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرَك بالأبصار، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وإنحرافهم عن مسير التوحيد، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربّه أربعين ليلة).

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

[194]

بعمل ما، ويطلق عادة على الزمان، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلاّ محرماً.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه، وأن لا يتبع سبيل المفسدين: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والإِلتفات إليها:

1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة، هو: لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاماً مع أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوماً، إلاّ أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوماً ثمّ مدّده عشرة أيّام أُخرى، اختباراً لبني إسرائيل كي يُعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) أنّه قال: إنّ موسى(عليه السلام) لما خرج وافداً إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوماً، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشراً قال قومه، قد

[195]

أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1).

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإِسلامية، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوماً، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالباً في الليالي.

2 ـ كيف نصب موسى(عليه السلام) هارون قائداً وإماماً؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا، هو: إنّ هارون كان نبيّاً، فكيف نصبه موسى(عليه السلام) خليفة له وإماماً وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الإلتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر، ولقد كان هارون نبيّاً، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني اسرائيل، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصاً بموسى(عليه السلام)، ولكنّه عندما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماماً وقائداً.

3 ـ لماذا طلب موسى(عليه السلام) من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا قال موسى(عليه السلام) لأخيه: اصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب: إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل


1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 33 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 61.

[196]

ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قِصَرِهم وصغرهم ... بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعاً ومطيعاً لنصائح موسى(عليه السلام).

4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة، وهي هذه الأربعون يوماً، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوماً، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبداً، في هذه الأربعين يوماً نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة، أحدها لأخذ الأحكام، وفي الأُخرى اصطحب كبار قومه، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أُخرى غير هذه، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).

وهنا أيضاً وقع كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأُمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة (ولما جاء موسى لميقاتنا) تناسب تماماً وحدة هاتين القصّتين، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعُها في نفس هذا السفر أيضاً.

5 ـ حديث المنزلة

[197]

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف، بفارق واحد هو: أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة علي(عليه السلام) لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار، ثمّ نبحث في دلالته، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة:

1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حول غزوة تبوك: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضاً ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السُنّة، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(2).

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.


1 ـ صحيح البخاري، الجزء السّادس، الصفحة 3، طبعة دار إحياء التراث العربي.

2 ـ صحيح مسلم، المجلد الرّابع، الصفحة 187، طبعة دار إحياء التراث العربي.

[198]

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضاً(1).

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم: ما يمنعك أن تسبَّ أبا تراب؟! قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلن أسبَّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حُمْر النَعَم. ثمّ عدد الأُمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهو قوله: «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوة بعدي»(2).

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3).

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط، فقالوا: يا ابن عباس، إمّا أن تقوم معنا، وإمّا أن تخلونا هؤلاء، فقال ابن عباس: بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) وأضاف: «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي»(4).

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6)، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)


1 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 43، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

2 ـ المجلد الخامس، الصفحة 638، طبعة المكتبة الإِسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

3 ـ مسند أحمد بن حنبل، المجلد الأول، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231، و المجلد السّادس، الصفحة 369 و 438.

4 ـ مسند أحمد، المجلد الأوّل، الصفحة 231.

5 ـ خصائص النسائي، ص 4 و 14.

6 ـ المجلد الثالث، الصفحة 108 و 109.

7 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 65.

8 ـ الصفحة 177.

[199]

وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أُخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة، والمصادر الأُولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وحده، بل رواه ـ أيضاً ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصاً منهم: «جابر بن عبدالله» و «أبو سعيد الخدري» و«أسماء بنت عميس» و«ابن عباس» و«أم سلمة» و«عبدالله بن مسعود» و«أنس بن مالك» و«زيد بن أرقم» و«أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «معاوية بن أبي سفيان» و«عمر بن الخطاب» أيضاً.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

فال: بئسما قلتَ، لقد كرهت رجلا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يغره بالعلم غراً، وقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3).

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاً(عليه السلام) فقال: إنّي أظنّك منافقاً، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(4).


1 ـ السيرة النبوية، المجلد الثّالث، الصفحة 163 طبعة مصر.

2 ـ السيرة الحلبية، المجلد الثّالث، الصفحة 151 طبعة مصر.

3 ـ ذخائر العقبى، الصفحة 79، طبعة مكتبة القدس، الصواعق المحرقة، ص 177، طبعة مكتبة القاهرة.

4 ـ تاريخ بغداد، المجلد السابع، الصفحة 452 طبعة السعادة.

[200]

حديث المنزلة في سبعة مواضع:

النقطة الأُخرى، إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ و خلافاً لما يتصوّره البعض ـ لم يقل هذا البحث في علي(عليه السلام) في غروة تبوك فقط، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها:

1 ـ في المؤاخاة الأُولى: يعني في المرّة الأُولى التي آخى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بين المهاجرين واختار عليّاً(عليه السلام) في هذه المؤاخاة لنفسه وقال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(1).

2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية: وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، واصطفى لنفسه منهم عليّاً واتخذه من دونهم أخاه، وقال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(2).

3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل، وكانت تعدّ من أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإِسلام، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإِسلام، وكان رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها ذات يوم: «إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(3).

4 ـ قال ابن عباس: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كُفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيتُ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبَّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس، كنتُ أنا وأبوبكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي


1 ـ كنز العمال، الحديث 918، المجلد الخامس، الصفحة 40، والمجلد السّادس، الصفحة 390.

2 ـ منتخب كنزالعمال، (في حاشية مسند أحمد)، المجلد الخامس، من مسند أحمد، الصفحة 31.

3 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 164.

[201]

قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسرنا إليه، فأتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال: «أنت (يا علي) أوّل المومنين إيماناً، وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(1).

5 ـ روى النسائي في كتاب «الخصائص» أن علياً وزيداً وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(2).

6 ـ روى جابر بن عبدالله أنّه عندما أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلاّ باب بيت علي(عليه السلام)، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(3).

هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة، وإلاّ فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أُخرى قال فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العبارة في شأن علي(عليه السلام) أيضاً.

من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصاً بغزوة تبوك، بل هو أمر عام ودائم في شأن علي(عليه السلام).

ومن هنا يتّضح أيضاً ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل «الآمدي» من أن هذا الحديث يتكفل حكماً خاصاً في مجال خلافة علي(عليه السلام) وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات، تصوّر باطل أساساً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكماً عاماً.

محتوى حديث المنزلة:


1 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 395.

2 ـ خصائص النسائي، الصفحة 19.

3 ـ ينابيع المودة، آخر باب 17، الصفحة 88 الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.

[202]

لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث، وتجنَّبْنا الأحكام المسبَّقة والتحججات الناشئة من العصبية، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاً(عليه السلام) كان  له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلاّ النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام، والاستثناء (إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأُمور التالية:

1 ـ إنّ الإمام علياً(عليه السلام) أفضل الأئمّة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان لهارون مثل هذا المقام.

2 ـ إنّ علياً وزير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاونه الخاص وعضده، وشريكه في قيادته، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عندما يقول حاكياً عن موسى قوله: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، أشدد به أزري واشركه في أمري)(1).

3 ـ إنّه كان لعلي(عليه السلام) ـ مضافاً إلى الأخوة الإِسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

4 ـ إنّ عليّاً(عليه السلام) كان خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.

أسئلة حول حديث المنزلة:

لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات وإعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.

بعض الإشكالات والإِعتراضات واهية جداً إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلاّ أن يتأسف على حال البعض


1 ـ سورة طه، 29 الى 32.

[203]

كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟

أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة:

الإشكال الأوّل: إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكماً خاصاً محدوداً، لأنّه ورد في غزوة تبوك، وذلك عندما انزعج علي(عليه السلام) من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان، فسلاّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العبارة:

وعلى هذا الأساس كان المقصود هو: إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.

وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكماً كليّاً، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.

هذا مضافاً إلى أنّ بقاء عليّ(عليه السلام) في المدينة لم يكن أمراً بسيطاً يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط، بل لو كان الهدف هو هذا، لتيّسر للآخرين القيام به، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).