![]() |
![]() |
![]() |
إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي، كان وسيلة لإمتحان وإختبار هذه الجماعة، لهذا يقول القرآن الكريم: وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه (كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون).
وجملة (بما كانوا يفسقون) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه، وإلى المعصية والمخالفة، وجميع الإختبارات كذلك، لأن الإختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.
عندما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الإِمتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا، انقسموا إلى ثلاث فرق:
«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإِلهي.
«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول: (وإذ قالت أُمّة منهم
لِمَ تعظون قوماً اللهُ مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً)(1).
فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر: بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى، وحتى لا نكون مسؤولين تجاهه، هذا مضافاً إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم (قالوا معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتقون).
ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين:
الأوّل: أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.
والآخر: عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.
ولكن لابدّ من الإنتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإِلهية حتى مع عدم احتمال التأثير، وذلك عندما يكون عدم بيان الأحكام الإِلهية، وعدم إنكار المنكر سبباً لتناسي وتنامي البدع، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإِلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.
إنّ هذه النقطة جديرة بالإلتفات، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون: نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضاً مسؤوولون أمام الله، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.
1 ـ التعبير بـ «أُمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوماً» بدون كلمة منهم) ونقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف، وقد ارتكب 70 ألفاً منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 42).
ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول: وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم، وتناسوا الأمر الإِلهي، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم (فلمّا نسوا ما ذِكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون)(1).
ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسياناً حقيقياً غير موجب للعذر، بل هو نوع من عدم الإكتراث والإِعتناء بأمر الله، وكأنّه قد نسي بالمرّة.
ثمّ يشرح العقوبات هكذا: (فلمّا عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)(2).
وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(3).
* * *
وهنا نقاط عديدة يجب الإِلتفات إليها:
وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإِلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة
1 ـ بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.
2 ـ «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الإِمتناع عن طاعة أمر، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الإِمتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.
3 ـ سورة يس، 28.
الشرعية، فقد أحدثوا أحواضاً إلى جانب البحر، وفتحوا لها أبواباً إلى البحر، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها، وأخذها من الأحواض، وكانوا يقولون: إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1).
ويقول بعض المفسّرين: إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبتِ ولكن بصورة ماكرة.
ويظهر من بعض الرّوايات الأُخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبتِ من دون مبالاة بالنهي الإِلهي، وليس بواسطة أية حيلة.
ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر، أو إلقاء الكلاليب والصنارات، ثمّ لما صُغرت هذه المعصية في نظرهم، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجاً وعلناً، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جداً.
الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقاً واحداً من الفرق الثلاثة (العصاة، المتفرجون، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإِلهي وهم افراد الفريق الثّالث.
1 ـ تفسير البرهان، المجلد 2، الصفحة 22، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.
وكما جاء في الرّوايات، فإنّه عندما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا: سنخرج من المدينة، فخرجوا إلى الصحراء ليلا، واتفق أن أصاب العذابُ الإِلهي كلا الفريقين الآخرين.
وأمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط، ونجى الساكتون أيضاً، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.
يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة، لأنّه تعالى يقول: (فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه ...) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضاً ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب، لأنّه تعالى يقول: (أنجينا الذين ينهون عن السوء).
من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء، بالرغم من أن العصاة أيضاً هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)
«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإِنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدثٌ على خلاف العادة والطبيعة.
على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة، وتغيير الشكل والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أُخرى، وقد شكّلت أسُس فرضية
1 ـ وإذا كان يستفاد من بعضِ الرّوايات خلاف هذا الموضوع، فإنّه مضافاً إلى أنّه لا يمكن الإِعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضاً، ويحتمل أن يكون الرواي قد أخطأ في نقل الرواية.
التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.
ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها الـ «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية، لا الصفات الكليّة، يعني أنّه لم يشاهَد إلى الآن نوعاً من أنواع الحيوان تغيّر على أثر الـ «موتاسيون» إلى نوع آخر، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أُمّه.
وعلى هذا الأساس، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمراً خارقاً للعادة.
ولكن تقدم أنّ هناك أُموراً تحدث على خلاف العادة والطبيعة، وهذه الأُمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، وأحياناً تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعاً).
وبناء على هذا، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.
ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو إستثناء وخرق لقانون العلية، ولا هو خلاف العقل، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1).
بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري
1 ـ لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائية، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب، ومن جملة ذلك: إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين، وفي كل مرة ولدت ولداً، أو طفلا كان قلبه خارج صدره، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها، وما شابه ذلك.
الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضاً.
ولكن بعض المفسّرين ـ و هم الأقليّة ـ قالوا: إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والإِنقلاب في الصفات الأخلاقية، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين، مثل الإِقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الإِحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.
وما أخذه البعض على مسألة المسخ، وأنّه خلاف التكامل، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل، لا أُولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل، وخرجوا عن دائره هذا القانون.
فعلى سبيل المثال: الإنسان السليم ينمو نمواً منتظماً في أعوام الطفولة، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجاً.
ولكن يجب الإِنتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة، وجماعة أُخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.
على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجرِ أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية حسبما قال بعض المفسّرين: نزلت حول أصحاب السبت، فالكبار منهم الذين
اطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير، والشباب المقلد لهم تقليداً أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.
ولكن على كل حال يجب الإِلتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا، ولم يتولد منهم نسل أبداً.
إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإِسلامية، وبناء على هذا تكون العقوبة الإِلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبداً بانقلاب ظاهره، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية، فالحرام حرام سواء أتي به صريحاً، أو تحت لفافات كاذبة، ومعاذير واهية.
إنَّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين، ويكرّهه إليهم بشدّة.
إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافاً إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه، ويجرّىء الإِنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئاً فشيئاً لإرتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة أنّ الإِمام عليّاً(عليه السلام) قال: «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربّهم،
ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية، والربا بالبيع» (الخطبة 156).
ويجب الإِنتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حَسَن أمام الناس، وإمّا خداع الضمير، وإكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.
صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقَّتة، وبهدف الإِختبار والإِمتحان عن مثل هذا العمل، ليرى مدى تفانيهم، ويختبر مدى إخلاصهم، وهذا هو أحد أشكال الإِمتحان الإِلهي.
هذا مضافاً إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوماً مقدساً، وكانوا قد كُلّفوا ـ احتراماً لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإِشتغال بالأعمال اليومية، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلَّ هذه الإِعتبارات والمسائل، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.
* * *
1 ـ كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء، عدّة أيّام، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراماً شرعاً، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.
وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيـمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(167)وَقَطَّعْنَهُمْ فِى الاَْرْضِ أُممَاً مِّنْهُمْ الصَّـلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَـهُمْ بِالْحَسَنَتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى، وسحقت الحق والعدل والصدق.
فيقول في البداية: واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقاً يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة (وإذ تأذّن ربّك ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
و«تأذَّن» و«أذّن» كلاهما بمعنى الإِخبار والإِعلام، وكذا جاء بمعنى الحلْف والقَسَم، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل
هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.
ويُستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الإستقرار والطمأنينة أبداً، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر، إلاّ أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها، وتكفّ عن الظلم والفساد.
وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا: (إنّ ربّك لسريع العقاب وإنّه لغفور رحيم) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب، وبالنسبة للمذنبين التائبين غفور رحيم.
وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحاً أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كُتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.
وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول: (وقطعناهم في الأرض أممّا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون، ولهذا عندما سمعوا بنداء الإِسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) آمنوا به، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهرياً، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.
ومرّة أُخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإِسلام لا يعادي العنصر اليهودي، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.
ثمّ يضيف تعالى قائلا: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).
أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر، ويقفوا على عجزهم، لعلهم يستيقظون ويعودون إلى الله، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.
وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.
* * *
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الاَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِّيثَقُ الْكِتَـبِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.
وفي البداية يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.
و«خَلْف» على وزن «حَرْف» يأتي غالباً في الأولاد غيرالصالحين ـ كما ذهب
إلى ذلك بعض المفسّرين، في حين أنّ «الخَلَف» على وزن «شَرَف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1).
ثمّ يضيف قائلا: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة أُخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواءً من حلال أو حرام، والله سيرحمنا ويغفر لنا (ويقولون سيُغفَر لنا).
إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).
و«عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لا ثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب، فهو يقصد الإِنسان يوماً ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإِنسان حسابه ولا يعود قادراً على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره، يوماً آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلاّ الحسرة والتذكر المؤلم، هذا مضافاً إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساساً غير دائمة، وغير ثابته(2).
وعلى كل حال، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الإِرتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.
ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا
1 ـ مجمع البيان، وتفسير ابن الفتوح الرازي، في ذيل الآية الحاضرة.
2 ـ يجب الإنتباه، إلى أن «عَرَض» على وزن «غَرض» يختلف عن «عرْض» على وزن (فرض) فالأوّل بمعنى كل رأس مال دنيوي، والثّاني بمعنى المال النقدي.
على الله إلاّ الحق) أي أنّهم أُخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذباً، ولا يحرفوا كلماته، ولا يقولوا إلاّ الحق.
ثمّ يقول: لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإِلهية، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذاراً، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مراراً وفَهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم (ودرسوا فيه).
و«الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء، وحيث أن الإِنسان عند المطالعة، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على إنمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأُخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.
وفي ختام الآية يقول: إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأُمور، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعاً (والدّار الآخرة خير للذين يتفون).
ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة (أفلا تعقلون)؟؟
وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقاً يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإِلهية وكتمانها فحسب، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفاً بحرف، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم، ويقول عنهم: (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين).
وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر
بظهور نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينفصل عن الإِيمان بهذا النّبي.
إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الإِعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والإلتصاق بشيء لحفظه وصيانته، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإِنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص، ويسعى في حفظها وحراستها.
إنّ التمسك بالكتاب الإِلهي ليس هو أن يمسك الإِنسان بيده أوراقاً من القرآن أو التوراة أو الإِنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.
إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإِلهية، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أُخرى ـ هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة، وبدار الآخرة، بل هو برنامج للحياة البشرية، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر، وإجراء مبادىء العدل والسلام والرفاه والإستقرار، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإِصلاح» الواسعة المعنى.
وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإِلهية، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإِنسان بالله الذي يراه حاضراً وناظراً لجميع أعماله وبرامجه، ومراقباً لجميع أفعاله وأقواله، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أُخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإرتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإِنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
من كل ما قيل يتّضح أنّ هذا المبدأ والمرتكز الفكري لا يختص باليهود، بل هو أصل في حياة الأُمم والشعوب. وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يجمعون متاعاً زائلا بواسطة كتمان الحقائق وتحريفها، ثمّ يرون نتائجه المشؤومة يتّخذون لأنفسهم حالة من التوبة الكاذبة، توبة سرعان ما تزول وتذوب أمام إبتسامة من منفعة مادية متجدّدة، كما يذوب الثلج في حرّ القيظ فهؤلاء هم المخالفون لإصلاح المجتمعات البشرية، وهم الذين يضحون بمصالح الجماعة في سبيل مصالح الفرد، سواء صدر هذا الفعل من يهوديّ أو مسيحي أو مسلم.
* * *
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـكُمْ بِقُوَّة وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
«نتقنا» من مادة «نتق» على وزن «قلع» تعني في الأصل قلع وانتزاع شيء من مكانه، وإلقاءه في جانب آخر، ويطلق على النساء اللواتي يلدن كثيراً أيضاً «ناتق» لأنّهن يفصلن الأولاد من أرحامهن ويخرجنهم بسهولة.
وهذه الآية آخر آية في هذه السورة تتحدث حول حياة بني إسرائيل، وهي تتضمّن تذكير قصّة أُخرى ليهود عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، قصّة فيها عبرة، كما أنّها دليل على إعطاء ميثاق وعهد، إذ يقول: واذكروا إذ قلعنا الجبل من مكانه وجعلناه فوق رؤوسهم كأنّه مظلّة (وإذ نتقنا الجيل فوقهم كأنّه ظلّة).
وقد ظنوا أنّه سيسقط على رؤوسهم، فإنتابهم اضطراب شديد وفزع: (وظنّوا أنّه واقع بهم).
وفي تلك الحالة قلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من الأحكام بقوة وجديّة (خُذوا
ما آتيناكم بقوّة)
واذكروا ما جاء فيه حتى تتقوا، وخافوا من العقاب الإِلهي واعملوا بما أخذناه فيه منكم من المواثيق (واذكروا ما فيه لعلكم تتقون).
إنّ هذه الآية نفسها جاءت ـ بفارق بسيط في الآية (63) من سورة البقرة، وكما قلنا هناك فإنّ هذه القصة وقعت ـ حسب ما قال المفسّر المعروف العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان عن ابن زيد ـ عندما عاد موسى(عليه السلام) من جبل الطور، واصطحب معه أحكام التوراة ... فعندما عرض على قومه الواجبات والوظائف وأحكام الحلال والحرام تصوروا أنّ العمل بكل هذه الوظائف أمر مشكل، ولهذا بنوا على المخالفة والعصيان... في هذا الوقت نفسه، رفعت قطعة عظيمة من الجبل فوق رؤوسهم، بحيث وقعوا في اضطراب عظيم، فالتجأوا إلى موسى(عليه السلام)وطلبوا منه رفع هذا الخطر والخوف عنهم، فقال لهم موسى(عليه السلام) في تلك الحالة: لوتعهدّتم بأن تكونوا أوفياء لهذه الأحكام لزال عنكم هذا الخطر... فسلَّموا وتعهَّدوا وسجدوا لله تعالى فزال عنهم الخطر، وأُزيحت الصخرة من فوق رؤوسهم.
أسئلة وأجوبة:
وهنا سؤالان أشرنا إليهما في سورة البقرة وإلى جوابيهما، ونذكر مختصراً عنهما هنا بالمناسبة.
السّؤال الأوّل: ألم يكن لأخذ الميثاق في هذه الحالة صفة الإجبار؟
والجواب: لا شك أنّه كانت تحكم في ذلك الظرف حالة من الإِجبار والإضطرار، ولكن من المسلَّم أنّه لمّا ارتفع وزال الخطر فيما بعد كان بإمكانهم مواصلة هذا السلوك باختيارهم.
هذا مضافاً إلى أنّه لا معنى للإِجبار في مجال الإِعتقاد، أمّا في مجال العمل
فلا مانع من أن يجبر الناس على اُمور تربوية تضمن خيرهم وسعادتهم وصلاحهم. فهل من العيب لو أنّنا أجبرنا شخصاً على ترك عادة شريرة، أو سلوك طريق آمن من الخطر، وعدم سلوك طريق محفوف بالأخطار؟
السّؤال الثّاني: كيف رفع الجبل فوق رؤوسهم:
الجواب: ذهب بعض المفسّرين إلى أن الجبل قُلِعَ من مكانه بأمر الله، واستقر فو رؤوسهم كمظلّة.
وذهب آخرون إلى أنّه اهتز الجبل اهترازاً شديداً بفعل زلزال شديد بحيث شاهد الناس الذين كانوا يسكنون في سفح الجبل ظلَّ قسمُ منه فوق رؤوسهم.
ويحتمل أيضاً أن قطعة من الجبل انتزعت من مكانها واستقرت فوق رؤوسهم لحظة واحدة، ثمّ مرّت وسقطت في جانب آخر.
ولا شك في أنّ هذا الأمر كان أمراً خارقاً للعادة وليس حدثاً طبيعياً عادياً.
والموضوع الآخر الذي يجب الإِنتباه إليه هو أنّ القرآن لا يقول: إنّ الجبل صار مظلّة فوق رؤوسهم بل قال: (كأنّه ظلّة).
وهذا التعبير إنّما هو لأجل أنّ المظلّة تنصب على رؤوس الأشخاص لإظهار الحب، والحال أنّ هذه العملية ـ المذكورة في الآية الحاضرة ـ كانت من باب التهديد، أو لأجل أنّ المظلة شيء مستقر وثابت، ولكن رفع الجبل فوق رؤوسهم كان يتسم بعدم الثبات والدوام.
قلنا: مع هذه الآية تختم الآيات المتعلقة بقصة بني إسرائيل والحوادث المختلفة، والذكريات الحلوة والمرّة التي وقعت في حياتهم.
وهذه القصّة هي آخر قصص الأنبياء التي جاءت في هذه السورة. وذكر هذه القصّة في نهاية قصصهم ـ مع أنّها ليست آخر حدث من الحوادث المرتبطة بهذه الجماعة ـ لعله لأجل أنّ الهدف من جميع هذه القصص هو التمسك بآيات الله
والعمل بالمواثيق، ولأجل الوصول إلى التقوى الذي جاء بيانه في هذه الآية والآية السابقة.
يعني أنّ رسالة موسى(عليه السلام) وسائر الأنبياء وأعمالهم مواجهاتهم المستمرة والصعبة وما لقوا من صعاب ومتاعب وشدائد مضنية كانت لأجل تطبيق أوامر الله، وتنفيذ مبادىء الحق والعدالة والطهر والتقوى في المجتمعات البشرية بشكل كامل.
* * *
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَـفِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَـتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)
![]() |
![]() |
![]() |