![]() |
![]() |
![]() |
ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إِلى الحوادث التي أدت إِلى هجرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إِلى المدينة.
هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلاّ أنّها تتفق جميعاً على حقيقة أنّ الله عزّ وجلّ قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإِعجاز من خطر محدق به، ونروي هذه الحادثة وفقاً لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفاً ... .
قال المفسّرون: إنّها نزلت في شأن «دار النّدوة» وذلك أنّ نفراً من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب، وتآمروا في أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبوا البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبوجهل: ما هذا برأي، ولكن اُقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد... فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة، فصوّب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ
الأولّين.
فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيل(عليه السلام) فأخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلى الغار وأمَر عليّاً فبات على فراشه، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش، وجدوا عليّاً(عليه السلام) وقد ردّ الله مكرهم فقالوا: أين محمّد؟ فقال: لا أدري، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسجَ العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً ثمّ قدم المدينة»(1).
يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية، وخمس آيات تليها، نزلت في مكّة لأنّها تشير إِلى هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة، إذ تتكلم على حادثة سابقة.
فبناءً على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، فتقول في بدايتها (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).
كلمة «المكر» كما ذكرنا سلفاً تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.
ثمّ تضيفُ الآية قائلة: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مئة ناقة، وهذا العدد من
1 ـ الدر المنثور وفقاً لما نقل عنه صاحب المنار، ومجمع البيان ذيل الآية.
الإِبل كانَ يُعَدُّ ثروة كبرى يومئذ «هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى بعد أن خرج عن قبضتهم» وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلباً لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!
ونظراً إِلى أنّ هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإِسلامي، بل التأريخ الإِنساني، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! ...
وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في جميع تأريخ الأنبياء، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض، أو الطير الصغيرة التي تُسمّى بالأبابيل، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإِنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.
وممّا يسترعي النظر أنّ الإِلتجاء إِلى هذه الأساليب الثّلاثة: السجن والنفي والقتل، لم يكن منحصراً بالمشركين في مواجهة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، فإنّ الطغاة يلجأون إِلى هذه الإساليب الثّلاثة دائماً للقضاء على المصلحين وإسكاتهم، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين، إلاّ أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أُخرى بعكس ما كان متوقعاً.(1)
* * *
1 ـ الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيراً بطيئاً، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نُفي من قبل حكومة الطاغوت إِلى مدينة «مهاباد» و«أنارك» فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكلمت تمام هذا الجزء في ذلك المنفى.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ(31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَاب أَلِيم(32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(34)وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(35)
ذُكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامةً في الفكر
ولا صحة في العمل، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.
تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذه إن هذا إلاّ أساطير الأولين).
كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته، وكانوا يعرفون جيداً أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن، إلاّ أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس، كانوا يقولون: إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبداً، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إِلى ابقاء كيانهم الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إِلى أمر معدود.
والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول: (وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).
لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلاّ فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإِسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟
كما ويحتمل أيضاً أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبساطائهم أنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باطلة تماماً، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين، وإنّ الله قد أهلك أعداءَهم بحجارة أمطرها عليهم «كما هي الحال في شأن قوم لوط» فإن كنت صادقاً فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!
وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري، فقال: أمرتنا من الله
أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عندالله؟
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(1).
وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأُولى من سورة المعارج (سأل سائل بعذاب واقع) بإذن الله».
وفي ماتقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)اشكالين.
الأوّل منهما: واضح البُطلان، وهو قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الإِدعاء أجوف كاذب، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبداً ولجاءوا به، فلا حاجة إذن للردّ عليه.
والإِشكال الثّاني: لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة، من الآيات محل البحث، بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين، يمنع من نزول البلاء بسبب هذه الذنوب، فيهلك قومُك كما هلكت الأُمم السابقة جماعات
1 ـ راجع مجمع البيان، ج 5، ص 352 و تفسير نورالثقلين، ج 2، ص 151.
أو متفرقين.
ثمّ تعقيب الآية بالقول: (وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون).
وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا: غفرانك ربّنا، وكان ذلك سبباً لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة.
وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إِلى من بقي من المؤمنين في مكّة، لأنّ بعضاً ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منع من نزول العذاب.
كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إِلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.
كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الإِحتمالات كلّها في تفسير الآية، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إِلى جميع هذه الإِحتمالات.
وعلى أية حال، فإنّ مفهوم الآية لا يختصُّ بمعاصري النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإِمام علي، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإِمام علي «ابن عباس» أنّه قال(عليه السلام): «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية»(1).
ويتّضح من الآية ـ محل البحث، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياء(عليهم السلام)مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الإِستغفار والتوبة والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الإِستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.
1 ـ نهج البلاغه، الكلمات القصار.
فإذا انعدم الإِستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب اللّه لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.
وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة، كالسيل مثلا، أو الحروب المدمّرة، أو في صور أُخرى. وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإِمام على(عليه السلام) قوله «اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».
فهذا التّعبير يدل على أنّه لولا الإِستغفار فإنّ كثيراً من الذنوب قد تكون سبباً في البلاء والكوارث.
وينبغي التذكير بهذه اللطيفة، وهي أنّ الإِستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة، كأن يقول المرءُ «اللهم اغفر لي» بل المراد منه روح الإِستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.
والآية التّالية: تقول: إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام).
وهذا التعبير في الآية يشير إِلى يوم كان المسلمون في مكّة، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية، والإِطمئنان عند المسجد الحرام، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.
أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة، فلم يأذنوا لهم بالتردد إِلى المسجد الحرام.
والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفَما شاءوا في المسجد الحرام، وأنّهم أولياؤه. إلاّ أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا: (وما كانوا أولياءه) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه فـ(إن أولياؤه إلاّ المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).
ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلاّ أنّه يشمل جميع المراكز الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم
وأكثرهم إهتماماً بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإِيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنةٌ من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب، الذين يسعون إِلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إِلى محال تجاربة، أو جعلها مكاناً لتخدير الأفكار، والإِبتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد، لكانت المجتمعات الإِسلامية اليوم لها وجه آخر وصورةٌ مشرقةٌ!
والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءاً وتصدية).
ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عندما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة، وورد أيضاً أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس، ويشرع بالصلاة، كان يقف إِلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.
تعقب الآية على ما تقدم لتقول: إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
إنّ الإِنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثاً عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عُرف بعصر الفضاء والذرة من يُعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية، ويتصوّر نفسه في عبادة، فيقرؤون الآيات القرآنية أو الأشعار في مدح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والامام علي(عليه السلام) بالألحان الموسيقية ذات الإِيقاع المثير، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص، ويسمّون ذلك ذكراً
ومدائح، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع أنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال «الجاهلية».
ويبقى هنا سؤال واحد، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعاً، والآية الرّابعة أثبتت تُرىْ ألا يقع التضاد بين الآيتين؟
والجواب: إنّ الآية السابقة إِلى العقاب الدنيوي، والآية اللاحقة لعلها إشارة إِلى العقاب الأُخروي، أو أنّها إشارة إِلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم، فإذا مضى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثمّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36) لِيـَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ(37)
جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأُخرى، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم، إلاّ أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيراً، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأُولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإِسلام ومحاربته، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.
وقال بعضهم: إنّ الآية نزلت في ما بذله أبوسفيان لألفي مقاتل «مرتزق» في
معركة أحد.
إلاّ أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.
مهما يكن شأن نزول الآية، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة، إذ تقول في مستهلها: (إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله).
إلاّ أنّ هذا الإِنفاق والبذل لن يحقق لهم نصراً (فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون).
ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب، بل هم كذلك في الآخرة أيضاً (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
* * *
1 ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ «هؤلاء» يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غَلبهم وانهزامهم، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال، فسيبتلون بالألم والحسرة، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.
أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه، فهو فشل خططهم ومناهجهم، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.
وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تُغري
مقاتليها بالمال والرغبات المادية، كثيراً ما تصاب بالخزي والإِفتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة!...
وبالإِضافة إِلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة، وهو «الغضب الإِلهي».
2 ـ ما ذكرته الآية محل البحث، نجد له أمثلةً في عصرنا الحاضر، كقوى الإِستكبار، واتباع الظلم والفساد، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق، وهم يظهرون بأزياء متعددة، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهراً ـ كبناء المستشفيات، وأُخرى في صورة التعاون الثقافي، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.
لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة، فكل همّهم التوسعة الإِستعمارية والظلم والجور، ولو وقف المؤمنون حقّاً صفاً بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل، ولجعلوا هذا الإِنفاق وبالا وحسرة على المسكتبرين، ولساقوهم إِلى جهنم وساءت مصيراً.
3 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد، وقد غُلب بها أعداء الإِسلام، ومع أن أُولئك بذلوا أموالا طائلة لإِنتصارهم!!
وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإِسلامية.
وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإِنفاق أعداء الإِسلام، فإنّ الآية التي تليها تقول: (ليميز الله الخبيث من الطيّب).
هذه سنة إلّهية دائمة أن يُعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير
الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبداً، بل لابدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعاً ـ عندما يكون أتباع الحق ـ كأُولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.
ثمّ تضيف الآية (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم).
فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إِلى الخسران، كما تقول الآية في نهاية المطاف (أُولئك هم الخاسرون).
* * *
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينَ(38) وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَـكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)
من المعلوم في أُسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.
والآية الأُولى: من الآيات محل البحث تتبع هذا الأُسلوب ذاته، فتأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل للذين كفروا إن ينتهوا بغفر لهم ما قد سلف).
ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإِسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام، كما في عبارة «الإِسلام يجبُّ ماقبله» أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن «الإِسلام يهدم ما كان قبله،
وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله»(1).
والمقصود من الحديث آنفاً هو أنّ كل ما عمله الإِنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قَبلَ إِسلامه فسوف يُمحى عنه بقبوله الإِسلام، ولا يكون قبوله للاسلام أثر رجعي لما سبق، لهذا ورد في كتب الفقه عدمُ وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلم.
وتضيف الآية قائلة: إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم (وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأولين).
والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء، وما أصاب المشركين عندما واجهوا النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر.
فنحن نقرأ في سورة غافر، الآية: (51): (إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
ونقرأ في سورة الاسراء، الآية (77): بعد بيان سحق أعداء الإِسلام قوله تعالى: (سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إِلى الحق، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله).
وكلمة «الفتنة» ـ كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.
وتطلق الفتنه أيضاً على الضغوط التي يفرضها الأعداء، للوقوف بوجه اتساع
1 ـ صحيح مسلم وفقاً لما نقله صاحب المنار في تفسيره، ج 9، ص 665.
دعوة الإِسلام، ولإِسكات صوت أهل الحق، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.
وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والإِجتماعية من المسلمين. ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك، بقرينة قوله: (ويكون الدين لله)وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.
تشير الآية آنفة الذكر إِلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما:
1 ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الارض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإِنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم، ولكن عبادة الأصنام ليست ديناً ولا فكراً، بل هي خرافة وجهل وإنحراف، وعلى الحكومة الإِسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإِعلام و التبليغ الإِسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إِلى نتيجة فيجب اللجوء إِلى القوة لتدمير معابد الأوثان.
2 ـ نيل الحرية في نشر الإِسلام والتبليغ له، وفي هذا القسم أجاز الإِسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.
وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير «روح البيان» للآلوسي، وتفاسير شيعية أُخرى، عن الإِمام الصادق(عليه السلام) «لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعدُ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى».(1)
1 ـ راجع مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص155، تفاسير أُخرى.
ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهدي (عليه السلام)، وذلك لحكمه المُسبق المخطيء في هذه القضية، والعجيب أن له ميلا خاصاً في تفسيره إِلى الفكر الوهابي، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام) من الأُمور المسلّم بها، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.
وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة، كما سنشير إِلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا «المصلح العالمي الكبير».
وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إِلى الإِعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!
وأخيراً فإنّ الآية في نهايتها، وتزامناً مع الشدة في العمل، تمدّ يد المحبّة والرأفه إِلى الأعداء مرّة أُخرى فتقول: (فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون خبير)ولكن اذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين: (وإن تولوا فاعلموا أنّ الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير).
* * *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْء فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم باللهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(41)
وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر، وقد أمرالله سبحانه ـ درءاً لأُصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينفقها بما يراه صالحاً، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.
وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم، لتناسب الآيات التي سبقتها، والتي كانت تتكلم على الجهاد، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالباً، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم «بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إِلى أبعد من
مسألة الغنائم، ونظر إِلى جميع الموارد».
يقول الحق سبحانه: (واعلموا أنّما غنمتم من شيء فانّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى (الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)) واليتامى والمساكين وابن السبيل) ـ من ذرية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً. ويضيف مؤكّداً (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ـ أي يوم بدر ـ يوم التقى الجمعان).
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إِلى المؤمنين، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإِسلامي، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن، لكنّها مع ذلك تقول: (إن كنتم آمنتم بالله) وفي ذلك إشارة إِلى أنّ إدعاء الإِيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإِيمان، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإِيمان، فقد تكون وراء ذلك أُمور أُخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لإوامر الله كافة وينقاد لها، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضاً، وتشير الآية في نهايتها إِلى قدرة الله غير المحدودة، فتقول: (واللّه على كل شيء قدير).
أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.
* * *
سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل، ويوم الإِلتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإِيمان، وفي ذلك إشارة إِلى مايلي:
أوّلا: إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك، ولقد اتّحدت
تلك الإسباب بشكل غير متوقع فكان النصر، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والإِتفاق فبناءً على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك اليوم كان كامناً في الآيات نفسها.
ثانياً: إنّ المعركة في بدر: «يوم التقى الجمعان» كانت في الواقع إحدى النعم الإِلهية الكبرى على المسلمين، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوماً شديداً على الأُمّة الإِسلامية القليلة أنئذ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.
2 ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية، ولا موجب الإِعتبار إحداهما ناسخة للأُخرى، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية «ولمزيد الإِيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الاُولى من هذه السورة».
![]() |
![]() |
![]() |