![]() |
![]() |
![]() |
إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لإجتياح المدينة قاعدة الإِسلام، ولهذا عمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخلف في غيبته شخصيّةً قويّةً يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس، ولم تكن هذه الشخصية سوى علي(عليه السلام).
الإشكال الثّاني: نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضاً ـ أنّ هارون
توفي في عصر موسى(عليه السلام) نفسه، ولهذا لا يُثبت التشبيه بهارون أن عليّاً(عليه السلام) خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به، ولكن جملة «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» تجيب على هذا الإشكال بوضوح، لأنّه إذا كان كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي يقول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، خاصاً بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كانت هناك ضرورة إلى جملة «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبداً (إذ يكون لهذا الإِستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الإِستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).
وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الإستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر، و لا يعتبر أحدٌ عليّاً(عليه السلام) نبيّاً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّاً بعدي.
فيكون مفهوم كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل، لا في حياتي فقط، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلاّ مقام النّبوة.
وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبية علي(عليه السلام) بهارون، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب، لا من حيث مدّة إستمرار هذه المنازل والمناصب، ولو أنّ هارون كان يبقى حياً لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معاً.
ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة والمعاونة لموسى، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّاً، تثبت جميع هذه المنازل لعلي(عليه السلام) إلاّ النّبوة، حتى بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بشهادة عبارة (إلاّ أنّه لا نبي بعدي).
الإشكال الثّالث: إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعلي(عليه السلام) منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.
ولكن مع الإِلتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضاً، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسى(عليه السلام)، ولكن لا بقيادة مستقلة، بل كان قائداً يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان علي(عليه السلام) في زمان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معاوناً للنّبي في قيادة الأُمّة أيضاً، وعلى هذا الأساس يصير قائداً مستقلا بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى كل حال، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا إستثناء، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإِنصاف من حيث الدلالة أفضلية علي(عليه السلام)على الأُمّة جمعاء، وأيضاً خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة، بل قال: إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّ(عليه السلام).. وهذا حقّاً أمر محيّر.
* * *
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرانِى وَلَـكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـنَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أوَّلُ الْمُؤْمِنينَ(143)
في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى(عليه السلام) ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.
وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56)، وقسم آخر
منه في سورة النساء الآية (153)، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.
ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك).
ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً (قال لن تراني ولكن اُنطر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكاً)(1).
فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه (وخرّ موسى صعقاً).
وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك (فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين).
* * *
وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:
إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو: كيف طلب موسى(عليه السلام) ـ و هو النّبي العظيم ومن أُولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيداً أن الله ليس بجسم، وليس له مكان، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟
1 ـ «دك» في الأصل بمعنى سوّى الأرض، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّاً» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض و جاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساماً، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائياً.
صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسى(عليه السلام) طرح مطلب قومه، لأنّ جماعة من جَهَلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسى (عليه السلام) من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي، وقد صُرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في كتاب عيون أخبار الرضا أيضاً(1).
ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة، من أنّ موسى(عليه السلام) قال بعدما حدث ما حدث: (أتهلِكُنا بما فَعَل السفهاءُ منّا).
فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسى(عليه السلام) لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب اطلاقاً، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضاً لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغيرالمنطقي، إنّهم كانوا مجرّد علماء، ومندويين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسى(عليه السلام) لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.
نقرأ في الآية الحاضرة أن الله سبحانه قال لموسى(عليه السلام): (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فهل مفهوم هذا الكلام هو أن الله قابل للرؤية أساساً؟
الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له، لهذا ذكر هذا التعبير.
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 65.
لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظمية التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن، أو أنّه نموذج من قوة الذرَّة العظيمة، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقاً خاطفاً للأبصار وصوتاً مهيباً رهيباً وقوّة عظيمة جداً، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّاً(1)؟!
وكأنّ الله تعالى أراد أن يُرِىَ ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسى(عليه السلام) وبني إسرائيل:
الأوّل: أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.
الثاني: كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر، ليست قابله للرؤية بذاتها، بل المرئي هو آثارها، أي الرجة العظيمة، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامصة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعَين، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأُخرى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية، ويقول: حيث أنّنا لا نرى ذاتها، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.
فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى: بما أنّه غير قابل للرؤية، إذن لا يمكننا الإيمان به، مع أنّه ملأت آثاره
1 ـ الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عندما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية، وهي خطرة مدمرة في الغالب، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب، والآخر سلبي، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطراً في العادة إلاّ للطائرات. والسفن الفضائية.
كل مكان؟
وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسى(عليه السلام) طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى، وتنافي نبوة موسى(عليه السلام)، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري، لأنّه كثيراً ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول: «أنا أرى في نفسي قدرةً على القيام بهذا العمل» في حين أنّ القدرة ليست شيئاً قابلا للرؤية، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.
كان موسى(عليه السلام) يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكناً في الدنيا، وإن كان ممكناً في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.
ولكن الله تعالى أجاب موسى(عليه السلام) قائلا: إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل، فتحطَّم الجبل وتلاشى، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب.(1)
ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(2) هذا مضافاً إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضاً، فالحق هو التّفسير الأول.
1 ـ ملخص من تفسير الميزان، المجلد الثامن، الصفحة 249 إلى 254.
2 ـ فهو مخالف لمفهوم الرؤية، ولإطلاق جملة «لن تراني» وجملة «أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا».
هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمراً سيئاً ليتوب منه موسى، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضاً ولبى الله طلبه. ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو: أن موسى(عليه السلام) بعد أن أفاق قال: (تبتُ إليك) في حين أنّه لم يرتكب إثماً أو معصية، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل، وكان طرحه بتكليف من الله، فهو أدى واجبه إذن، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يُحسب هذا العمل إثماً؟؟
ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين:
الأوّل: أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه، وأظهر الإِيمان.
الآخر: أنّ موسى(عليه السلام) وإن كان مكلَّفاً بأن يطرح طلب بني إسرائيل، ولكنّه عندما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر، انتهت مدّة هذا التكليف، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأُولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد، وقد بيّن ذلك بجملة، (إنّي تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين).
إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقاً، لأنّ كلمة «لن» حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة (لن تراني) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.
ولو أنّ أحداً شكّك ـ افتراضاً ـ في أن يكون «لن» للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.
إنّ الأدلة العقلية هي الأُخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة، لأنّ الرؤية تختص
بالأجسام.
وعلى هذا الأساس، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء الله» فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أُخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.
* * *
قَالَ يَـمُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـلَتِى وَبِكَلَـمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـكِرِينَ(144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاَْلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَامُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأحْسَنِهَا سَأُوِريكُمْ دَارَ الْفَـسِقِينَ(145)
وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسى(عليه السلام).
ففي البداية: (قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي).
فإذا كان الأمر كذلك (فخذ ما آيتناك وكن من الشاكرين).
فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من إمتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟
الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين
لموسى على الناس: أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها، والآخر التكلّم مع الله، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.
ثمّ أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى(عليه السلام) بقوله: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء).
ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة (فخذها بقوّة).
وأن يأمر قومه أيضاً بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها).
كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم (سأوريكم دار الفاسقين).
* * *
ثمّ إن ها هنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:
إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحاً على موسى(عليه السلام) قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها، لا أنّه كانت في يدي موسى(عليه السلام) ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.
ولكن ماذا كانت تلك الألواح، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر، وإنما أشار إليها بصورة الإِجمال وبلفظة «الألواح» فقط، وهذه الكلمة جمع «لوح»، وهي مشتّقة من مادة «لاح يلوح» بمعنى الظهور والسطوع، وحيث أنّ
المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة، تسمى الصفحة لوحا(1).
ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.
يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسى(عليه السلام)، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جموداً على الألفاظ تصوُّر خاطىء بعيد عن الصواب.
على أنّه لا شك في أن ذلك التكلُّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسى(عليه السلام) كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله، وكان هذا العلم حاصلا لموسى، إمّا عن طريق الوحي والإِلهام أو من قرائن أُخرى.
يستفاد من عبارة (من كل شيء موعظة) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسى(عليه السلام) لأنّ الله يقول: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة) وهذا لأجل أن دين موسى(عليه السلام) لم يكن آخر دين، ولم يكن موسى(عليه السلام) خاتم الإنبياء، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان، ولكن عندما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات
1 ـ تفسير التبيان، المجلد الرّابع، الصفحة 539.
الناس المادية والمعنوية.
وتتّضح من هذا أيضاً علة تفضيل مقام علي(عليه السلام) على مقام موسى(عليه السلام) في بعض الرّوايات(1)، وهي أن علياً(عليه السلام) كان عارفاً بجميع القرآن، الذي فيه تبيان كل شيء (نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلاّ بعض المسائل.
إنّ ما نقرؤه في الآية (وامر قومك يأخذوا بأحسنها) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم «حسنة» وأُخرى «سيئة» وأنّهم كانوا مكلَّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة، أو كان فيها الحسن والأحسن، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط، بل ربّما تأتي كلمة «أفعل التفضيل» بمعنى الصفة المشبهة، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهراً، يعني أن «الأحسنْ» هنا بمعنى «الحسن» وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.
ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أُمور مباحة (مثل القصاص) وأُمور أُخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني: قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلاّ في موارد خاصّة).(2)
5 ـ في مجال قوله: (سأوريكم دار الفاسقين) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم، وهي مستقرّ كل أُولئك الذين يخرجون من طاعة الله، ولا يقومون بوظائفهم
1 ـ للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 68.
2 ـ ويحتمل أيضاً أن الضمير في «أحسنها» يرجع إلى «القوة» أو «الأخذ بقوة» وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.
الإلهية.
ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(1).
* * *
1 ـ تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة 193.
سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـتِى الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَ إِن يَرَوْا سَبيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَلِقَآءِ الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئَه والعصاة من بني إسرائيل، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي: إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.
وبعبارة أُخرى: إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإِلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثراً عجيباً، بحيث خلق منهم أفراداً متصلبين منغلقين دون الحق، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.
ولهذا يقول أوّلا: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحقّ).
ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبداً الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إِلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم، ونظراً لإنتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.
وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر، ولا مستلزم لأي محذور آخر، حتى نَعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.
هذا، ولابدّ من الإلتفات ـ ضمنياً ـ إلى أنّ ذكر عبارة (بغير الحق) بعد لفظة: (التّكبر) إنّما هو لأجل التأكيد، لأنّ التكبر والشعور بالإستعلاء على الآخرين وإحتقار عباد الله يكون دائماً بغير حق، وهذا التعبير يشبه الآيه (61) من سورة البقرة، عندما يقول سبحانه: (ويقتلون النّبيين بغير الحق) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائماً بغير حق.
خاصّة أنّها أُردِفَت بكلمة «في الأرض» الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائماً بغير حق.
ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.
الأُولى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية، (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه
سبيلا)والثّالثة إنّهم على العكس (وإن يروا سبيل الغي يتّخذوه سبيلا).
بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق، أشار إلى عللها وأسبابها، فقال: (ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).
ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح، والمستقيم والمعوج، أي يسلب القدرة على التمييز بين «الرشد» و«الغي».
ثمّ تبيّنُ الآيةُ اللاحقةُ عقوبةَ مثل هؤلاء الأشخاص وتقول: (والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم).
و «الحبط» يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصيه، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيراً فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة).
وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الإنتقام منهم، إنما هو نتيجة أعمالهم هم، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون)؟!
إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.
* * *
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَـلِمينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ(149)
في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى(عليه السلام) إلى ميقات ربّه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.
إنّ هذه القصّة مهمّة جدّاً بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93)، وفي سورة النساء الآية (153)، والأعراف الآيات المبحوثة هنا، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.
على أنَّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الإِجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيَّة، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عندما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأُخرى مشهداً من الوثنية، حيث وجدوا قوماً يعبدون البقر، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسى(عليه السلام) صنماً كتلك الأصنام، ولكن موسى(عليه السلام)وبّخهم وردّهم، ولامهم بشدّة.
وثالث، تمديد مدّة ميقات موسى(عليه السلام) من ثلاثين إلى أربعين، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسى(عليه السلام) بواسطة بعض المنافقين، كما جاء في بعض التفاسير.
والأمر الرابع، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خِطته المشؤومة، كل هذه الأُمور ساعدت على أن تُقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.
وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا: إنّ قوم موسى(عليه السلام) بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه، ولكنّه كان له صوت كصوتِ البقر، واختاروه معبوداً لهم: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسداً له خوار).
ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحلي) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلاّ أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيراً منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده، وبذلك كانوا شركاء في جريمته، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.
وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل، إلاّ أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة، التي تقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة هنا
ليس كلّهم، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.
و«الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.
ويقول آخرون: كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمَع منه صوتٌ على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعاً بِهيئة هندسية خاصّة.
أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئاً من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائناً حياً، وأخذ يخور خواراً طبيعياً فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.
وكلمة «جسداً» شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيواناً حياً، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1).
وبغض النظر عن جميع هذه الأُمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجلَ المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يُشبه معجزة النّبي موسى(عليه السلام)، ويحيي جسماً ميتاً، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتماً ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.
1 ـ راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء، و (34) من سورة ص.
أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم، وكان من الممكن أن يكون وسيلة لإختبار الأشخاص لا شيء آخر.
والنقطة الأُخرى التي يجب الإِنتباه إليها، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسى(عليه السلام) قد عانوا سنين عديدة من الحرمان، مضافاً إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراماً خاصّاً، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه إهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.
أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟ فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإِقامة أحد أعيادهن، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1).
![]() |
![]() |
![]() |