التّفسير

العهدِ الأوّل وعالم الذّر:

الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإِيمان في أعماق روح الإِنسان ... ولذلك فإنّ هذه الآيات تُكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الإِستدلالي»!

وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر، إلاّ أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!

يقول الله سبحانه مخاطباً نبيّه في هذه الآية (وإذْ أخذ ربُّك من بني آدم من

[287]

ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا!...).

«الذريّة» كما يقول أهل اللغة وعلماؤها، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون، إلاّ أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد، كما قد تستعمل في معنى الجمع، إلاّ أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع!

والجذر اللغوي لهذه الكلمة مُختَلفٌ فيه، إذ احتملوا له أوجهاً متعددة..

فقال بعضهم: إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من «ذَرَأَ» على زنة «زَرَعَ» ومعناه الخلق، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساوياً «للمخلوق».

وقال بعضهم: بل الجذر مأخوذ من «ذَرَّ» على وزن «شَرَّ» ويعني الموجودات الصغيرة جدّاً كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير، ومن هنا فإنّ أبناء الإِنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جداً.

والإِحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذَرْو ومعناه النثر والتفريق والتنقية [ومنه ذَرْوُ الحنطة(1)] وإنما سمي أبناء الإِنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!

ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد، فيقول: (أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين).

الآية التّالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد، وهو أنّه إنّما أخذ ربّك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا (أوتقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذريّة من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون).

أجَلْ ... (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون).


1 ـ يقال ذرأ فلان الحنطة ذروأ أو ذرّاها تذرية، أي نقّاها من الشوائب.

[288]

إيضاح لما ورد عن عَالَم الذَّرِ.

رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم، لكن كيف أُخِذَ هذا العهدُ؟!

لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع، إلاّ أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإِسلامية «الواردة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)» ومن أهم هذه الآراء رأيان.

1 ـ حين خُلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسلِ له من البشر «وطبقاً لبعض الرّوايات ظَهرَ هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه» وكان لهذا الذرّ عقلٌ وشعور كافً للإِستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا (الستُ بربّكم)؟!...

فَأجاب الذرّ جميعاً: (بلى شهدنا).

ثمّ عاد هذا الذرّ «أو هذه الذرات» جميعاً إلى صُلب آدم «أو إلى طينته» ومن هنا فقد سُميَ بهذا العالم بعالم الذرّ ... وهذا العهدُ بعهد «ألست»؟

فبناءً على ذلك، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفاً هو عهد تشريعي، ويقوم على أساس «الوعي الذاتي» بين الله والناس.

2 ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الإِستعداد «والكفاءات»، و«عهد الفطرة» والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأُمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الإستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السرّ الإِلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.

فبناءً على هذا، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته!

[289]

ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة، إذ نقول مثلا: لون الوجه يُخبر عن سره الباطني «سيماهم في وجوهم»، أو نقول: إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية.

وقد رُوي عن بعض أُدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامِهِ: سَل الأرض من شق أنهارَكِ وغرس أشجارَكِ وأينع ثمارَكِ؟ فإنّ لم تُجبكَ حواراً أجابتك اعتباراً!...

كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال، كالآية (11) من سورة فصلت، إذ جاءَ فيها (فقال لها وللأرض إتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).

هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر...

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات، ونعرضها في ما يلي:

1 ـ ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم، إذ قال تعالى... (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم.

2 ـ إذا كان هذا العهد قد أُخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور، فكيف نسيه الجميعُ؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعدَ مدىً من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر «أو القيامة»؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواءً كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة، فلا يمكن أن يُوجَّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبداً «ولا مجال لتأويله!».

3 ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد، وألاّ يسلكوا إلاّ طريق معرفة الله، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبداً وبأي وجه كان، لأنّ

[290]

الجميع نسوه!!...

وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغواً ولا فائدة فيه.

4 ـ إنّ الإِعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ، لأنّه ينبغي ـ طبقاً لهذا التّفسير ـ أن تكون روح الإِنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانيةً، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيراً من الإِشكالات في شأن التناسخ!

غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني، فلا يرد عليه أيُّ إشكال ممّا سبق، لأنّ السؤال والجواب، أو العهد المذكور ـ عهد فطري، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه، وكما يعبر عنه علماء النفس بـ «الشعور الديني» الذي هو من الإِحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإِنسان. وهذا الإِحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى «طريق» معرفة الله... ومع وجود هذا الإِحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدةً للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!....

(فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها)(1).

والإِشكال الوحيد الذى يَرِدُ على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا «كنائيّاً» ويتسم بلغة الحوار. إلاّ أنّه مع الإِلتفات إلى ما بيّناه آنفاً بأن مثل هذه التعابير كثير في لُغَةِ العرب وجميع اللغات، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال.

ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه!


1 ـ الروم، 30.

[291]

عالم الذر في الرّوايات الإِسلاميّة:

وردت روايات كثيرة في مختلف المصادر الإِسلاميّة من كتب الشيعة وأهل السنة حول عالم الذّر... بحيث تتصور لأوّل وهلة وكأنّها رواية متواترة... فمثلا في تفسير البرهان وردت 37 روايةً، وفي تفسير نور الثقلين وردت ذيل الآيات الآنفة 30 رواية بعضها مشترك والآخر مختلف، وبملاحظة الإِختلاف فيها فقد يصل مجموع ما ورد من الرّوايات إلى أربعين روايةً....

إلاّ أنّنا سنجد ـ بعد التدقيق في مضامينها ومحتواها وتقسيمها إلى مجاميع، وفحصها ـ أنّه لا يمكن أن نعثر رواية واحدة معتبرة منها، فكيف يمكن الإِعتقاد بتواترها؟!

إنّ أكثر تلك الرّوايات منقول عن زرارة، وبعضها عن صالح بن سَهْل، وبعضها عن أبي بصير، وبعضها عن جابر، وبعضها عن عبدالله بن سنان، ومن ذلك يظهر لنا أنّه لو روى شخص واحد روايات كثيرة لكنّها متحدة المضمون فهي تعد بحكم الرواية الواحدة، وبناءً على ذلك فسيقلّ عدد تلك الرّوايات الكثيرة وتتضاءل نسبتها وتبلغ ما بين 10 إلى 20 رواية، هذا من ناحية السند.

أمّا من ناحية المضمومن والدليل فإنّ مضامينها تختلف بعضها عن بعض، فمنها ما يوافق التّفسير الأوّل، ومنها ما يوافق التّفسير الثّاني، وبعضها لا يوافق التّفسيرين...

فالرّوايات المرقمة (3) و(4) و(8) و(11) و(28) و(29) والمروية عن زرارة في تفسير البرهان ـ ذيل الآيات محل البحث ـ تتفق والتّفسير الأوّل. وما روى عن عبدالله بن سنان في الروايتين (7) و(12) في تفسير البرهان نفسه، يتفق والتّفسير الثاني...

أي أنّ بعض هذه الرّوايات مبهم، وبعضها يمثّلُ رموزاً وعبارات مجازية، كما في الروايتين (18) و(23) المرويتين عن أبي سعيد الخدري وعبدالله الكلبي،

[292]

الواردتين في التّفسير آنف الذكر.

وبعض الرّوايات يذكر «أرواح بني آدم» كما في الرواية (20) المرويّة عن المفضّل!...

ثمّ إن الرّوايات ـ المذكورة آنفاً ـ بعضها ذو سند معتبر، وبعضها فاقد للسند أو مرسل.

فبناءً على ذلك ـ وبملاحظة التعارض بين الرّوايات ـ لا يمكننا التعويل عليها على أنّها وثيقة معتبرة... وكما عبّر أكابر علمائنا في مثل هذه الموارد فإنّه ينبغي أن نتجنّب الحكم على مثل هذه الرّوايات، وأن نكلها إلى أصحابها ورواتها.

وفي هذه الصورة نبقى متمسّكين بالنص القرآني، وكما ذكرنا أنفاً فإن التّفسير الثّاني أكثر انسجاماً مع الآيات.

ولو كان أسلوبُنا في البحث التفسري يسمح لنا أن نذكر جميع طوائف الرّوايات، والتحقيق فيها ـ كنا أشرنا آنفاً ـ لفعلنا ذلك ليكون البحث أكثر وضوحاً.

إلاّ أنّ الراغبين يمكنهم الرجوع إلى التّفسير «نور الثقلين، وتفسير البرهان، وبحار الأنوار»، وليبحثوا في مجاميعها ويصنفوها، وينظروا في أسانيدها ومضامينها.

* * *

[293]

الآيات

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـهُ ءَايَـتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَآءَ مَثَلا الْقَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ(177)مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ(178)

التّفسير

في هذه الآيات إشارة لقصّة أُخرى من قصص بني إسرائيل، وهي تعد مثلا وأنموذجاً لجميع أُولئك الذين يتصفون بمثل هذه الصفات.

وكما سنلاحظ خلال تفسير الآيات ـ محل البحث ـ فإنّ للمفسّرين احتمالات متعددة في الذي تتحدث عنه أو (عليه) الآيات ... إلاّ أنّه ممّا لا ريب

[294]

فيه أن مفهوم الآيات ـ كسائر الآيات النازلة في ظروف خاصّة ـ عامٌ وشامل.

والآية الأُولى من هذه الآيات يُخاطَبُ بها النّبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول القرآن الكريم(واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).

فهذه الآية واضحة أنّها تحكي قصّة رجل كان في البداية في صف المؤمنين، وحاملا للعلوم الإِلهية والآيات، إلاّ أنّه إنحرف عن هذا النهج، فوسوس له الشيطان، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء!...

والتعبير بـ «إنسلخ» وهو من مادة «الإنسلاخ» معناه في الأصل الخروج من الجلد... يدلّ على أن الآيات والعلوم الإِلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن، إلاّ أنّه خرج منها على حين غرّة واستدار إلى الوراء وغيّر مسيره بسرعة!

كما أنّ التعبير القرآني «فأتبعه الشيطان» يستفاد منه أنّ الشيطان كان أوّل الأمر آيساً منه تقريباً، لأنّه كان يسلك سبيل الحق تماماً، وبعد أن انحرف لحقه الشيطان وتربص له وأخذ يوسوس له حتى انتهى أمره إلى أن يكون من الضالين المنحرفين الأشقياء(1).

والآية التّالية تكمل هذا الموضوع على النحو التّالي (ولو شئنا لرفعناه بها).

إلاّ أن من المسلّم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإِدارة، ولا يكون ذلك دليلا على عظمة الشخص، لهذا فإنّ الآية تضيف مباشرة. إنّنا تركناه وهواه، وبدلا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ (ولكنّه أخلد إلى الأرض واتبع هواه).

وكلمة (أخلد) من (الإِخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع حرية الإِرادة، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض، وهي


1 ـ تبع واتبع بمعنى لحق أو أدرك.

[295]

كناية عن عالم المادة وبهارجها، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.

ثمّ تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يُخرج لسانه لاهثاً دائماً كالحيوانات العطاشى فتقول (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).

فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من التعطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا، وكل ذلك لم يكن لحاجة، بل لحالة مرضيّة، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن إرواؤها وهي حالة عبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبداً.

ثمّ تضيف الآية: إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين، بل: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون).

العالِم المنحرف «بلعم بن باعوراء»:

كما لاحظنا أنّ الآيات السالِفة لم تذكر اسم أحد بعينه، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداءً وبشكل لا يفكر معه أحد بأنّه سينحرف يوماً، إلاّ أنّه نتيجةً لإتّباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.

غير أنّنا نستفيد من أغلب الرّوايات وأحاديث المفسّرين أن هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الذي عاصر النّبي موسى(عليه السلام) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتى أن موسى(عليه السلام) كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جل وعلا، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة أعداء موسى(عليه السلام)(1).


1 ـ في التوراة الحالية نجد ورود قضية «بلعم بن باعوراء» أيضاً، إلاّ أنّ التوراة تبرئه في النهاية من الإِنحراف، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب 22.

[296]

إلاّ أننا نستبعد ما يحتمله بعضهم من أن المقصود هو (أمية بن الصلت) الشاعر المعروف في زمان الجاهلية، الذي كان باديء أمره ونتيجة لإطلاعه على الكتب السماوية ينتظر نبي آخر الزمان، ثمّ حصل له هاجس أن النّبي قد يكون هو نفسه، ولذلك بعد أن بُعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه الحسد له وعاداه.

وبعيد كذلك ما إحتمله بعضهم من أنّه كان (أبا عامر) الراهب المعروف في الجاهلية، الذي كان يبشر الناس بظهور رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه بعد ظهوره صار من أعدائه. لأنّ جملة (واتل) وكلمة (نبأ) وجملة (فاقصص القصص) تدل على أنّ تلك الأُمور لا تتعلق بأشخاص عاصروا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). بل بأقوام سابقين، مضافاً إلى تلك فإنّ سورة الأعراف من السور المكية وقضيتا [أبي عامر الراهب] و[أمية بن الصلت] تتعلقان بحواث المدينة.

ولكن بما أن أشخاصاً على غرار «بلعم» كانوا موجودين في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كـ (أبي عامر) و(أمية بن الصلت) فإنّ الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان، وإلاّ فإنّ مورد القصّة هو «بلعم بن باعوراء» لاغير.

وقد نقل تفسير (المنار) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأُمية بن أبي الصلت في هذه الأُمّة.

وورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «الأصل من ذلك بلعم، ثمّ ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة».

ومن هذا يتبيّن أن الخطر الاكيد الذي يهدد المجتمعات الإِنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم وميولهم الدنيوية (والإِخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لإِستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس.

ولا يختص الأمر بزمن النّبي موسى(عليه السلام) أو غيره من الأنبياء، بل حتى بعد

[297]

عصرالنّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الإِجتماعي من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد، تحت إختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت.

ويمكن معرفة أُولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محل البحث، فإنّهم ممن نسي ربّه واتبع هواه، وهم ذوو نزوات سخروها للرذيلة بدل التوجه نحو الله وخدمة خلقه، وبسبب هذا التسافل فقدوا كل شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسِه، فسهل بيعهم وشراؤهم، وهم كالكلاب المسعورة التي لا ترتوي أبداً، ولهذه الأُمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلوا عن الطريق حتى غدوا أئمّة الضلال.

ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم وإجتنابهم.

والآيتان التاليتان ـ كنتيجة عامّة وشاملة لقضية ـ (بلعم) والعلماء الدنيويين فتقول أُولاهما (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون).

فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير ـ ويضعها تحت إختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الاخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أن الخلاص من مثل هذا الإِنحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلاّ بتوفيق وتسديد من الله عزوجل (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأُولئك هم الخاسرون).

وتقدم كرّات بأنّ (الهداية) و(الإِضلال) الإِلهيين لا يعدان إجباراً ولا بدون حساب أو دليل، ويقصد بهما إعداد الأرضية للهداية وفتح سبلها أو إيصادها، وذلك بسبب الأعمال الصالحة أو الطالِحة التي صدرت من الإِنسان من قبْل، وعلى أية حال فالتصميم النهائي بيد الإِنسان نفسه...

[298]

فبناءً على هذا فإنّ الآية محل البحث تنسجم مع الآيات المتقدمة التي تذهب إلى أصل حرية الإِرادة... ولا منافاة بين هذه الآية وتلكم الآيات بتاتاً...

* * *

[299]

الآيات

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِّنَ الجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ  لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاَذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَئِكَ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـئِكَ هُمُ الْغَـفِلُونَ (179) وَللهِ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون(181)

التّفسير

علائم أهل النّار:

هذه الآيات تكمل الموضوع الذي تناولته الآيات المتقدمة حول العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا، وعوامل الهداية والضلال. والآيات ـ محل البحث ـ تقسم الناس إلى مجموعتين... وتحكي عن صفاتهما وهما أهل النّار، وأهل الجنّة.

فتتحدث عن المجموعة الأُولى ـ أهل النّار أوّلا، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس).

وكلمة «ذرأنا» مشتقّة من «ذَرَأَ»، وتعني هنا الإِيجاد والخلق، غير أنّها في

[300]

أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه، وقد وردت بهذا المعنى «الثّاني» في القرآن أيضاً، كما في عبارة (تذروه الرّياح)(1).

ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض، فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق «المخلوق» أيضاً:

وعلى كل حال، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)؟ في حين قال في مكان آخر (وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون)(2) وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.

لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها، كما هو بيّن في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً ... بحيث لا يدع مجالا لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد. مثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.

ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً «أصيلا» وهدفاً (تبعيّاً).

فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار...

إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه


1 ـ الكهف، 45.

2 ـ سورة الذاريات: 56.

[301]

ليكون حَطباً للحرق والإشعال، فهذا الهدف «تبعيّ» لا أصلي.

والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أنّ الإختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.

وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنّة، وفريق في السعير.

وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل، إلاّ أنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً ... وأن قسماً منهم إختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة....

ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل، إذ تقول الآية: (لهم قلوب لا يفقهون بها)...

وقد قلنا مراراً: إنّ التعبير بـ «القلب» في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل، أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير، وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإِدراك، إلاّ أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة.

والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار (ولهم أعين لا يبصرون بها).

والصفة الثّالثة الواردة في حقهم (ولهم آذان لا يسمعون بها أُولئك كالأنعام بل هم أضل).

لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الإِستعدادات والإِمكانات، إلاّ أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب الرقي والتكامل، إلاّ أنّهم نتيجةً لإتباعهم هواهم ورغبتهم ـ بكل هذه التوافه من

[302]

الأُمور تركوا هذه الإِستعدادات جانباً ... وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب: (أُولئك هم الغافلون).

فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه، إلاّ أنّهم يتصارخون من الظمأ. وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.

ويتّضح ممّا ذكرناه أنفاً أنّهم إختاروا بأنفسهم سُبلَ شقائهم وهدروا النعم الكبرى «العقل والعين والأذن ...» لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار.

لماذا هم كالأنعام؟

لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مراراً، إلاّ أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب إنهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب، فهم كالأُمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإِنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الإِجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء...

وكما يشبهها الإِمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة قائلا: «كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها»(1).

وبتعبير آخر: إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تُدجن لتسمن، وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء، إلاّ أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلاّ!.

وهذا الذي ذكرناه أنفاً قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أُمّة كاملة برمّتها، فالأُمم التي لا تفكر بنفسها وتتلّهى بالأُمور التافهة غير الصائبة، ولا تعالج


1 ـ نهج البلاغة، من كتاب له و 24 رقم 45.

[303]

جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة، فهي من أهل النّار أيضاً، لا نار القيامة فحسب، بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك.

وفي الآية التّالية إشارة إلى حال أهل الجنّة وبيان لصفاتهم، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبّر والتوجّه إلى أسماء الله الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النّار، فتقول: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

والمرد من «أسماء الله الحسنى» هي صفات الله المختلفة التي هي حُسنى جميعاً، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم، كما أنّ له صفات أُخرى حسنى من هذا القبيل أيضاً.

فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب، كأن نقول مثلا: يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين. بل ينبغي أن نتمثّلَ هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن يشع إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا.

وبتعبير آخر: ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه، لنستطيع بهذا الشعاع، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل أن نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النّار...

ثمّ تحذر الآية من هذا الأمر، وهو أن لا تُحرّف أسماؤه فتقول: (وذروا الذين يُلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).

والإلحاد ـ في الأصل ـ مأخوذ من مادة «اللَّحْد» على زنة «المَهْد» التي تعني الحفرة التي تقع في طرف واحد، وعلى هذا الأساس فقد سمّيت الحفرة التي تكون في جانب القبر «لحداً».

ثمّ أُطلق هذا الإِستعمال «الإِلحاد» على كل عمل ينحرف عن الحدّ الوسط نحو الإِفراط أو التفريط، ولذلك فقد سمّي الشرك وعبادة الأوثان إلحاداً أيضاً.

[304]

والمقصود من الإِلحاد في أسماء الله هو أن نحرف ألفاظها أو مفاهيمها. بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة، كما يصفه المسيحيون بالتثليث «الله والابن وروح القدس» أو أن نطبّق صفاته على المخلوقين كما فعل ذلك المشركون وعبدة الأوثان إذ اشتقوا لأصنامهم أسماءً من أسماء الله فسمّوها... اللات والعزّى ومناة ..(وغيرها) فهذه الأسماء مشتقّة من الله والعزيز والمنان «على التوالي».

أو أنّهم حرفوا صفاته حتى شبّهوه بالمخلوقات، أو عطلوا صفاته، وما إلى ذلك.

أو أنّهم اكتفوا بذكر الإسم فحسب دون أن يتمثلوه ويعرفوا آثاره في أنفسهم وفي مجتمعاتهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنّة، إذ تقول الآية: (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون).

وفي الواقع، إنّ لأهل الجنّة منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة، وهي في اتجاه الحق أيضاً، كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.

* * *

بحوث

1 ـ ما هي الأسماء الحسنى؟

في كتب الأحاديث «لأهل السنة والشيعة» أبحاث كثيرة عن أسماء الله الحسنى، نورد خلاصتها في هذا المجال مضافاً إليها ما نعتقده نحن في هذا الصدد.

لا شك أنّ الأسماء الحسنى تعني الأسماء الكريمة، ونحن نعرف أن أسماء الله كلّها تحمل مفاهيم حُسنى، ولذلك فجميع أسمائه أسماءُ حسنى، سواءً كانت صفات لذاته المقدّسة الثبوتية كالعلم والقادر، أم كانت صفات سلبية كالقُدّوس

[305]

مثلا، أو صفات تحكي فعلا من أفعاله كالخالق أو الغفور أو الرحمان أو الرحيم الخ...

ومن ناحية أُخرى، لا شك أنّ صفات الله لا يمكن إحصاؤها، لأنّ كمالاته غير متناهية، ويمكن أن يذكر لكل صفة من صفاته أو كمال من كمالاته اسم...

إلاّ أن ما نستفيده من الأحاديث أنّ لبعض صفاته أهمية أكثر من سواها، ولعل «الأسماء الحسنى» الواردة من الآية في الآية محل البحث إشارة إلى هذه الطائفة من الأسماء المتميّزة، إذ ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) من أهل بيته روايات كثيرة بهذا المعنى كالرواية الواردة في كتاب التوحيد «للصّدوق» عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه(عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ لله تبارك وتعالى تسعةً وتسعين إسماً ـ مئة إلاّ واحدة ـ من أحصاها دخل الجنّة »(1).

كما ورد في كتاب التوحيد عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) عن آبائه عن علي(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ لله عزوجل تسعة وتسعين إسماً من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنّة»(2).

وقد جاء في كتب أحاديث (أهل السنَّة) «كما في كتاب صحيح البخاري وصحيح مسلم ... والترمذي وكتب أُخرى» هذا المضمون ذاته: إنّ لله تسعة وتسعين إسماً فمن دعاء بها استجاب دعاءَه، ومن أحصاها فهو من أهل الجنّة(3).

ويستفاد من بعض الأحاديث أن هذه الأسماء التسعة والتسعين كلها في القرآن، كالرّواية الواردة عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لله تسعة وتسعون