حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ لو كان إمام الجماعة مشغولا بالقراءة في الصلاة، وقرأ شخص آخر آية من القرآن فيستحب للإِمام السكوت حتى ينهي قراءة الآية، ثمّ يكمل الإمام قراءته. حيث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين عليّاً(عليه السلام) كان مشغولا بصلاة الصبح، وكان ابن الكوّا ـ ذلك المنافق الفظّ القلب ـ خلف الإمام مشغولا بالصلاة، فقرأ فجأة (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين) وكان هدفه من قراءة الآية أن يعترض على الإمام عليّ مكنيّاً عن قبول الحكم في صفين ـ كما احتملوا ذلك ـ لكن الإمام سكت احتراماً للقرآن حتى ينتهي ابن الكوّا من قراءة الآية، ثمّ رجع الإمام إلى قراءته فأعاد ابن الكوا عمله مرّة ثانية، فسكت الإمام أيضاً، فكرر ابن الكوّا القراءة ثالثة فسكت علي(عليه السلام) أيضاً، ثمّ تلا قوله تعالى: (فاصبر إنّ وعدَ الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يؤمنون) وهو يشير إلى أن عذاب الله وعقابه الأليم في إنتظار المنافقين وغير المؤمنين، وينبغي أن يتحمل الإِنسان أذاهم، ثمّ أن الإِمام أكمل السورة وهوى إلى الركوع(2).

ويستفاد من مجمع ما تقدّم، ولا سيما من البحث آنف الذكر، أن الإِستماع والسكوت عند قراءة آيات القرآن أمر حسن جدّاً إلاّ أنّه بشكل عام غير واجب... ولعلّ جملة (لعلّكم ترحمون) إضافة إلى الرّوايات والإجماع، تشير إلى استجباب هذا الحكم أيضاً.

والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجباً، هو في صلاة الجماعه، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام، حتى أنّ جمعاً من الفقهاء قالوا: إنّ هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من قبل


1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص 57.

2 ـ تفسير البرهان.

[348]

المأموم «عند صلاه الجماعة».

ومن جملة الرّوايات الدالة على هذا الحكم ما روي من حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) «وإذا قرىء القرآن في الفريضة خلف الإِمام فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم تُرحمون»(1).

وأمّا استعمال «لعل» في هذه الجملة، فهو ـ كما أشرنا سابقاً ـ لغرض أن تشملكم رحمة الله، فمجرّد السكوت غير كاف، بل توجد أمور أُخرى منها العمل بالآي أيضاً.

ولا بأس أن نذكر الملاحظة التي بيّنها الفقيه المعروف الفاضل المقداد السيوري في كتابه «كنز العرفان» إذ فسّر الآية تفسيراً آخر فقال: إنّ المراد من الآية هو الإِصغاء للآيات وإدراك مفاهيمها والإِذعان لإعجازها.

ولعل هذا التّفسير كان بسبب أنّ الآية السابقة كانت تتكلم عن المشركين، إذ كانوا يتذرعون بحجج واهية في شأن نزول القرآن، فالقرآن يقول لهم: (فاستمعوا وانصتوا لعلكم تعرفون الحق)(2).

وليس هناك مانع من أن نعتبر مفهوم الآية واسعاً بحيث يشمل جميع الكفار والمسلمين، فغير المسلمين عليه أن يستمع وينصت للقرآن ويفكر فيه حتى يؤمن فينال رحمة ربّه، والمسلم عليه أن يستمع ويدرك مفهوم الآي ويعمل به لينال رحمة ربّه، لأنّ القرآن كتاب إيمان وعلم وعمل للجميع، لا لطائفة خاصّة أو فريق معين.

وفي الآية التّالية إكمالا للأمر السابق يخاطب القرآن النّبي الكريم ـ وهذا الحكم كلي وعام أيضاً وإن كان الخطاب موجهاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الحال في سائر آيات القرآن الأُخرى وأحكامها ـ إذ يقول سبحانه في كتابه: (واذكر ربّك في


1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 57.

2 ـ كنزالعرفان، ج 1، ص 195.

[349]

نفسك تضرّعاً وخيفة)(1).

ثمّ يضيف قائلا: (ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال).

[والآصال: جمع الأصيل، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب].

(ولا تكن من الغافلين).

فذكر الله في كل حال وفي كل وقت، صباحاً ومساءً، مدعاة لإِيقاظ القلوب وجلائها من الدرن، وإبعاد الغفلة عن الإِنسان. ومثله مثل مزنة الربيع، إذا نزلت أمرعت القلوب بأزهار التوجه والإِحساس بالمسؤولية والبصيرة، وكل عمل إيجابي بنّاء!...

ثمّ تختتم هذه الآية سورة الأعراف بهذه العبارة، وهي أنّكم لستم المكلّفون بذكر الله من يذكر الله ليس هو أنتم فحسب، بل (إنّ الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).

والتعبير بـ (عند ربّك) لا يعني القرب المكاني، لأنّ الله ليس له مكان خاص، بل هو إشارة إلى القرب المقامي، أي أنّ الملائكة وغيرهم من المقربين على رغم مقامهم و منزلتهم عندالله، فهم لا يقصرون في التسبيح والذكر لله والسجود له.

والسجدة عند تلاوة هذه الآية مستحبة، إلاّ أنّ بعض أهل السنة كأصحاب أبي حنيفة وأتباعه يقولون بوجوبها.

ربّنا نور قلوبنا بنور ذكرك، ذلك النور الذي يفتح لنا طريقنا نحو الحقيقة، ونستمد منه المدد في نصرة راية الحق ومكافحة الظالمين وأن تدرك مسؤولينا ونؤدي رسالتنا ـ آمين.

* * *


1 ـ التضرّع مأخوذ من الضرع وهو الثدي، والفعل تضرع يطلق على من يتحلب اللبن بأصابعه، ثمّ توسع في هذا الإِستعمال فأُطلق على إظهار الخضوع والتواضع.

سورة الأنفال

وهي مَدينة

وعددُ آياتها خمس وسَبعُونَ آية

«سورة الأنفال»

نظرة خاطفة إلى محتويات هذه السورة

في الآيات الخمس والسبعين التي تتكون منها سورة الأنفال أثيرت مباحث مهمّة جدّاً.

ففي مستهلها إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يُعدّ كلُّ منهما دعامة لبيت المال. كما تضمّنت هذه السورة مباحث أُخرى منها:

صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به، قصّة معركة بدر، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.

بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدوّ المتواصل.

ماجرى للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلته التاريخية «ليلة المبيت».

حال المشركين قبل الإِسلام وخرافاتهم.

ضعف المسلمين وعجزهم باديء الأمر ثمّ تقويتهم ببركة الإِسلام.

حكم الخمس وكيفية تقسيمه.

وجوب الإِستعداد «العسكري والسياسي والإِجتماعي» للجهاد في كل زمان ومكان.

رجحان قوى المسلمين المعنوية على عدوهم بالرغم من قلّة عددهم ظاهراً.

[354]

حكم أسرى الحرب وكيفية معاملتهم.

المهاجرون والذين لم يهاجروا.

مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيراً نجد في هذه السورة سلسلة مسائل أُخرى أخلاقية وإجتماعية بنّاءة.

فلا غرابة أن نقرأ بعض الرّوايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها، كالرّواية الواردة عن الإِمام الصادق إذ تقول مثلا:

«من قرأ سورة الأنفال وبراءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أميرالمؤمنين حقّاً، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب»(1).

وكما أشرنا من قبل فإنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم الذي وعد به من يتلو هذه السور، كل ذلك لا يتأتى بمجرّد قراءة الألفاظ، بل القراءة مقدمة للتفكّر، والتفكّر وسيلة للفهم، والفهم مقدّمة للعمل. وبما أنّ سورة الأنفال شرحت كيفية البراءة من صفات المنافقين، وكذلك ذكرت صفات المؤمنين الصادقين حقّاً، فمن قرأها وتمثلها في حياته لم يدخله نفاق أبداً.

وكذلك من قرأ صفات المجاهدين في هاتين السورتين، وجوانب من التّضحيات الواردة عن أمير المجاهدين علي(عليه السلام) وتمثلها، كان من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) حقاً.

* * *


1 ـ تفسير مجمع البيان، ذيل الآية.

[355]

الآية

يَسْئَلونَكَ عَنِ الاَْنفَالِ قُلِ الاَْنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(1)

سبب النّزول

ورد عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عيّن في يوم معركة بدر جوائز للمقاتلين المسلمين ترغيباً، كأنّ يقول(صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا: من جاءني بفلان من الأعداء أسيراً فله عندي كذا «جائزة».

وكان هذا الترغيب ـ إضافة إلى اِيقاده روح الإِيمان والجهاد في  وجودهم ـ مدعاة أن يثب المقاتلون الفتية في تسابق «افتخاري» نحو الهدف.

إلاّ أنّ الكهول والشيوخ ظلّوا ثابتين تحت ظلال الرايات، فلمّا إنتهت معركة بدر أسرع المقاتلون الفتيان لأخذ الجوائز من النّبي، إلاّ أنّ الشيوخ وكبار السنّ قالوا: إنّ لنا نصيباً أيضاً، لأنّنا كنّا سنداً وظهيراً لكم، ولو اشتدّ بكم الأمر لرجعتم إلينا حتماً. واحتدم النقاش حينئذ بين رجلين من الأنصار في شأن غنائم المعركة.

فنزلت الآية ـ محل البحث ـ وقالت بصراحة: إنّ الغنائم هي للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فله أن يتصرّف فيها ما يشاء. فقسّمها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين بالتساوي، وأمر أن

[356]

يصطلح الإخوة المسلمون فيما بينهم.

التّفسير

إنّ الآية ـ محل البحث ـ كما قرأنا في سبب النّزول، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم على غنائم الحرب وتبيّن حكماً إسلامياً واسعاً بشكل عام، فتخاطب النّبي بالقول: (يسألونك عن الأنفال قلِّ الأنفال للّه والرّسول!).

فبناءً على ذلك (فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إنّ كنتم مؤمنين).

أي أنّ الإِيمان ليس بالكلام فحسب، بل هو الطاعة لله والرّسول دون قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.

ماهي الأنفال؟

الأنفال في الأصل مأخوذة من مادة «نفل» على زنة «نفع» ومعناها الزيادة، وإنما سمّيت الصلوات المستحبة نافلة لأنّها زيادة على الصلوات الواجبة، وكذلك يُطلَق على الحفيد نافلة لأنّه زيادة في الأبناء.

ويطلق لفظ «نوفل» على من يهب المزيد من العطاء.

وإنّما سمّيت غنائم الحرب أنفالا أيضاً لأنّها كمية من الأموال الإِضافية التي تبقى دون صاحب، وتقع في أيدي المقاتلين دون أن يكون لها مالك خاص. أو لأنّ المقاتلين إنّما يحاربون للإِنتصار على العدو لا للغنائم، فالغنيمة أو الغنائم موضوع إضافي يقع في أيديهم.

* * *

ملاحظات

[357]

1 ـ بالرّغم من أنّ الآية محل البحث نازلة في شأن غنائم الحرب، إلاّ أنّ لمفهومها حكماً كلّياً وعامّاً، وهي تشمل جميع الأموال الإِضافية التي ليس لها مالك خاص. لهذا ورد في الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأنفال لها مفهوم واسع، إذ نقرأ في بعض الرّوايات المعتبرة عن الإِمامين «الباقر والصادق(عليهما السلام)» مايلي:

«إنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال، كالذي إنجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئاً، وميراث من لا وارث له، وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأدوية والموات، فإنّها لله ولرسوله، وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله»(1).

وبالرّغم من أنّ الحديث ـ أنف الذكر ـ لم يتحدّث عن جميع غنائم الحرب، إلاّ أنّنا نقرأ حديثاً آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: «إنّ غنائم بدر كانت للنّبي خاصّة فقسمها بينهم تفضلا منه»(2).

ونستنتج ممّا ذكر آنفاً أنّ مفهوم الأنفال أساساً لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص، وهذه الأموال جميعها لله وللرسول ولمن يلي أمره ويخلفه، وبتعبير آخر: إنّ هذه الأموال للحكومة الإِسلاميّة، وتصرف في منافع المسلمين العامّة.

غاية ما في الأمر أنّ قانون الإِسلام في غنائم الحرب والأموال المنقولة التي تقع في أيدي المقاتلين المسلمين عند القتال ـ كما سنفصل ذلك في هذه  السورة ـ مبنيّ على أن يُعطى أربعةُ أخماسها ـ ترغيباً ـ للمقاتلين المسلمين وتعويضاً عن أتعابهم، ويصرف خمسها في المصارف التي أشارت إليها الآية (41) من هذه السورة.


1 ـ كنز العرفان، ج 1، ص 254.

2 ـ المصدر السابق.

[358]

وعلى هذا الأساس فإنّ الغنائم داخلة في مفهوم الأنفال العام، وهي في الأصل ملك الحكومة الإِسلامية، وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين عطية وتفضل منها.

2 ـ قد يُتصور أنّ الآية محل البحث «بناءً على شمولها غنائم الحرب أيضاً» تتنافى والآية 41 من هذه السورة التي تقول: (واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول) وسائر المصارف. لأنّ مفهومها أنّ أربعة الأخماس الباقية هي للمقاتلين المسلمين.

إلاّ أنّه مع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّ غنائم الحرب في الأصل كلها لله وللرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين نوع من التفضل والهديّة، وبتعبير آخر: إنّ الحكومة الإِسلامية تهب أربعة الأخماس من حقها إلى المجاهدين، فلا يبقى عندئذ أي تناف بين الآيتين.

ويتّضح أيضاً أن آية الخمس لا تنسخ أية الأنفال، ـ كما تصوّر ذلك بعض المفسّرين ـ بل كلُّ منهما باق على قوّتِه!

3 ـ كما قرأنا في شأن النّزول آنفاً، أنّ مشاجرةً وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب، وقطعاً لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير الله والرّسول ثمّ أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.

وأساساً فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع الكدر والبغضاء من صدور المسلمين، وتبديل كل ذلك بالمحبّة، يعدّ من أهم الاغراض الإِسلامية.

وكلمة «ذات» تعني الخلقة والبنية وأساس الشيء، والبين يعني حالة الإِرتباط والعلاقة بين شخصين أو شيئين. فبناءً على هذا فإنّ إصلاح ذات البين يعني إصلاح أساس الإِرتباطات، وتقوية العلاقات وتحكيمها، وإزالة عوامل التفرقة والنفاق.

وقد أولت التعاليم الإِسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدته من أفضل

[359]

العبادات.

يقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في آخر وصاياه ـ عندما عممه ابن ملجم بالسيف ـ لولديه «إنّي سمعت جدّكما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام»(1).

وجاء عن الإمام الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب الكافي أنّه قال: «صَدَقَةٌ يُحبُّها اللهُ إِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذا تَفَاسَدُوا، وتَقارُبٌ بَيْنَهُمْ إذا تَبَاعَدُوا»(2).

كما ورد عنه(عليه السلام) في الكتاب آنف الذكر ذاته أنّه قال للمفضل: «إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فاقتدِها من مالي»(3).

ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات عن أبي حنيفة سابق الحاجّ قال: مرَّ بنا المفضّل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه، قال أمّا إنّها ليست من مالي ولكن أبو عبدالله(عليه السلام)أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن اُصلح بينهما وأفتديها من ماله، فهذا من مال أبي عبدالله(عليه السلام)(4).

والسبب في كل هذا التأكيد في المسائل الإجتماعية يتجلى بقليل من التأمل، لأنّ عظمة الأُمّة وقدرتها وعزّتها لا يمكن تحقيقه إلاّ في ظل التفاهم والتعاون. فإذا لم يتمّ إصلاح ذات البين، ولم تطوِ الخلافات الصغيرة والمشاجرات، تنفذ جذور العداوة والبغضاء في القلوب تدريجاً، وتتحول الأُمّة القوية المتحدة إلى جماعات متفرقة متناحرة، وتضعف أمام الأعداء والحوادث، كما يحدق الخطر


1 ـ نهج البلاغة.

2 ـ الحديثان 1 و 2 من أصول الكافي باب إصلاح بين الناس.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السابق.

[360]

بالمسائل العبادية في مثل هذه الأُمّة من صلاة وصيام، وحتى بحيثية القرآن و (موجوديته).

ولذلك فقد أوجبت الشريعة الإِسلامية إصلاح ذات البين في بعض مراحله، وجازت الإِنفاق من بيت المال لتحقق هذا الأمر، وندبت إلى ذلك في مراحله الأُخرى التي لا تتعلق بمصير المسلمين مباشرة، وعدت ذلك مستحباً مؤكّداً... .

* * *

[361]

الآيات

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـوةَ وَممّا رَزَقْنَـهُمْ يَنفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ دَرَجَتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ(4)

التّفسير

خمس صفات خاصّة بالمؤمنين:

كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم.

وإكمالا لهذا الموضوع فالآيات ـ محل البحث ـ تذكر صفات المؤمنين بحق في عبارات موجزة غزيرة المعنى.

فيشير الذكر الحكيم في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين: ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني، واثنتين منها لها جانب عملي

[362]

وخارجي...

فالثلاث الأُولى عبارة عن «الإحساس بالمسؤولية» و «الإِيمان» و«التوكل».

والإثنتان الأُخريان هما الإِرتباط بالله، والإِرتباط بخلق الله سبحانه.

فتقول الآيات أوّلا: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).

و«الوجل» حالة الخوف التي تنتاب الإِنسان، وهو ناشيءٌ عن أحد أمرين: فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية وإحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإِنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.

وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حدّ لها.

وتوضيح ذلك: قد يتفق للإِنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم هو ـ بحق ـ جدير بالعظمة من جميع الجوانب، فالإِنسان الذي يمضي لرؤيته قد يقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنّه لو أراد الكلام لتعلثم، وقد ينسى ما أراد أن يقوله، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإِنسان ويحب الآخرين جميعاً ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.

فهذا الخوف والإِضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)(1).

كما نقرأ في آية أُخرى من قوله تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(2).

وهكذا فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضاً، وبناءً على ذلك فمن الخطأ أن نعدّ أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.


1 ـ الحشر، 21.

2 ـ فاطر، 28.

[363]

ثمّ تبيّن الآية الصفة الثّانية للمؤمنين فتقول: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).

إنّ النمو والتكامل من خصائص جميع الموجودات الحية، فالموجودات الفاقد للنمو والتكامل إمّا أن يكون ميتاً أو في طريقه إلى الموت. والمؤمنون حقّاً لهم إيمان حيّ ينمو غرسه يوماً بعد يوم بسقيه من آيات الله، وتفتح أزهاره وبراعمه، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة...

وهذه الدّرجات مبهمة لم يعين مقدارها وميزانها، وهذا الإِبهام يشير إلى أنّها درجات كريمة عالية.

وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من الله ومغفرة ورزق كريم.

والحق أنّنا ـ نحن المسلمين ـ الذين ندّعي الإسلام وقد نرى أنفسنا أُولي فضل على الإسلام والقرآن، نتهم القرآن والإِسلام جهلا بأنّهما سبب التأخر والإنحطاط، وتُرى لو أنّنا طبقنا فقط مضامين هذه الآيات محل البحث على أنفسنا و التي تمثل صفات المؤمنين بحق، ولم نتكل على هذا وذاك، وأن نطوي كل يوم مرحلة جديدة من الإِيمان والمعرفة، وأن نحس دائماً بالمسؤولية لتقوية علاقتنا بالله وبعباده فننفق ما رزقنا الله في سبيل تقدم المجتمع، أنكون بمثل ما نحن عليه اليوم؟!

وينبغي ذكر هذا الموضوع أيضاً، وهو أنّ الإِيمان ذو مراحل ودرجات، فقد يكون ضعيفاً في بعض مراحله حتى أنّه لا يبدو منه أي شيء عملي مؤثر، أو يكون ملوّثاً بكثير من السيّئات. إلاّ أنّ الإِيمان المتين الراسخ من المحال أن يكون غير بناءً أو غير مؤثر ومايراه البعض من أن العمل ليس جزءاً من الإِيمان، فلإقتصارهم على أدنى مراحل الإِيمان.

* * *

[364]

الآيتان

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنينَ لَكَـرِهُونَ (5) يُجَـدِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)

التّفسير

قرأنا في الآية الأُولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإِسلام، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حد ما).

ففي الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لأُولئك: هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئاً مع أنّه فيه صلاحكم كما كان الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين باديء الأمر، إلاّ أنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين.

فإذن لا ينبغي أن تقوّم أحكام الله بالنظرات الضيقة المحدودة، بل ينبغي الإِنصياع والتسليم لها ليستفاد من نتائجها النهائية.

تقول الآية الأُولى من الآيتين محل البحث: إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكّة وعدم رضى بعض المؤمنين

[365]

بذلك: (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون).

والتعبير بالحق إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقاً لوحي الإِلهي ودستور سماوي، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي، إلاّ أنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلاّ ظواهر الأُمور، ولهذا: (يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).

إلاّ أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالإِعتراض؟!

والتعبير بـ(فريقاً من المؤمنين) يكشف ضمناً ـ أوّلا ـ أن هذا التشاجر أو المحاورة لم تكن عن نفاق أو عدم إيمان، بل عن ضعف الإيمان وعدم إمتلاك النظرة الثاقبة في المسائل الإِسلامية.

وثانياً: إنّ الذين جادلوا في شأن الغنائم كانوا قلّة وفريقاً من المؤمنين، غير أنّ بقيتهم وغالبيتهم أذعنوا لأمر رسول الله واستجابوا له.

* * *

[366]

الآيتان

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَـتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَفِرينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ (8)

غزوة بدر أوّل مواجهة مسلحة بين الإِسلام والكفر...

لما كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمّة وحساسة في تلك المعركة ليستلهم المسلمون من هذه الآيات الحقائق التي مرّت بهم في الماضي القريب، ويجعلوها أمام أعينهم للعبرة والإِتعاظ.

ولإِيضاح الآيتين محل البحث والآيات التّالية، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة، وكيف كانت هذه المواجهة المسلحة الأُولى وهذا الجهاد الإِسلامي بوجه العدوّ اللدود؟ لتتجلى لنا دقائق الأُمور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى.

بدأت معركة بدر ـ طبقاً لما يقول المؤرخون والمحدّثون والمفسّرون ـ حين

[367]

كان أبوسفيان كبير مكّة عائداً بقافلة تجارية مهمّة مؤلفة من أربعين شخصاً، وتحوي على ثروة تجاربة تقدّر بحمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة.

فأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه أن يتعبأوا ويتهيأوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جل رأس مال العدوّ معها، وبمصادرة أموال القافلة لتوجيه ضربة إقتصادية نحو العدوّ وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.

وكان للنّبي وأصحابه الحق في مثل هذه الحملة أو الهجوم، لأنّه ـ أوّلا ـ عندما هاجر المسلمون من مكّة نحو المدينة استولى أهل مكّة على كثير من أموالهم، ونزلت بهم خسارة كبيرة. فكان لهم الحق أن يجبروا مثل هذه الخسارة.

ثمّ بعد هذا كلّه برهن أهل مكّة طيلة الثلاثة عشر عاماً التي أقام النّبي وأصحابه بمكّة خلالها أنّهم لا يألون جهداً في إيذاء النّبي وأصحابه، بل أرادوا به الوقيعة والمكيدة، فإنّ عدوّاً كهذا لن يسكت عن النّبي ودعوته بمجرّد هجرته إلى المدينة، ومن المسلم به أنّه سيعبىءُ قواه في المستقبل لمواجهة النّبي والإيقاع به.

إذن فالعقل والمنطق يوجبان أن يسارع المسلمون بمبادرة عاجلة لمصادرة أموال أهل مكّة لتدمير دعامتهم الإِقتصادية، وليوفروا على أنفسهم إمكانية التهيؤ العكسري والإِقتصادي لمواجهة العدو مستقبلا.

وهذه المبادرة كانت ولا تزال في جميع الخطط العسكرية قديمها وحديثها وأمّا من يرى أن توجّه النّبي نحو قافلة أبي سفيان ـ ودون الأخذ بنظر الإِعتبار هذه الجهات المشار إليها آنفاً ـ نوعاً من الإغارة، فإمّا أن يكون جاهلا لا يعرف جذور المسائل التأريخية في الإِسلام أو أنّه مغرض يريد تحوير الواقعيات والثوابت التاريخية.

وعلى كل حال، فإنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النّبي على مواجهة قافلته، هذا من جهة، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإِتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان

[368]

أرسل من يمضي إلى مكّة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة.

فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه، وقد شقّ ثوبه ـ أو طمريه ـ وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس «إذ ظهره كان إلى رقبة البعير ووجهه إلى عجزه» ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكّة أخذ يصرخ قائلا: أيّها الناس الأعزة، أدركوا قافلتكم، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها، وإن كنت لا أعتقد أنّكم ستدركونها في الوقت المناسب، فإنّ محمّداً ورجالا مارقين من دينكم قد خرجوا من المدينة ليتعرضوا لقافلتكم.

وكانت عاتكة بنت عبدالمطلب عمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آنئذ قد رأت رؤيا موحشة عجيبة، وقد تناقلت الأفواه رؤياها فيزداد الناس هيجاناً.

وكانت عاتكة قد رأت قبل ثلاثة أيّام من مجيء رسول أبي سفيان إلى مكّة، أنّ شخصاً يصرخ: أيّها الناس تعجّلوا إلى قتلاكم، ثمّ صعد هذا المنادي إلى أعلى جبل أبي قيس وأخذ حجراً كبيراً فرماه فتلاشى الحجر في الهواء، ولم يبق بيت في مكّة لقريش إلاّ نزل فيه منه شيء، كما أن وادي مكّة يجري دماً عبيطاً.

فلمّا استيقظت فزعة مرعوبة من نومها وقصّت رؤياها على أخيها العباس، ذهل الناس لهول هذه الرؤيا.

لكن أبا جهل لما بلغه ذلك قال: ما رأت عاتكة رؤيا، هذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطلب، وباللات والعزّى لننظرن ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتاباً: أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم.

ولكن لم يكد يمضي اليوم الثّالث حتى كان ما كان من أمر ذلك الرجل الذي هزّ مكّة وأهلها.

ولما كان أكثر أهل مكّة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا

[369]

نحو القافلة بحوالي 950 مقاتلا و 700 بعير ومئة فرس، وكان أبوجهل يقود هذا الجيش. ومن جهة أُخرى ولكي يسلم أبو سفيان من تعرض النّبي وأصحابه لقافلته، فقد غير مسيره واتجه نحو مكّة بسرعة.

وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قارب بدراً في نحو من ثلائمائة وثلاث عشر رجلا كانوا يمثلون رجال الإِسلام آنئذ «وبدر منطقة ما بين مكّة والمدينة» وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهتِه.

فتشاور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه: هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها، أو أن عليهم أن يتهيأوا لمواجهة جيش العدوّ؟ فقالت طائفة من أصحابه: نقاتل عدوّنا، وكرهت طائفة أُخرى ذلك وقالت: إنّما خرجنا لمصادرة أموال القافلة.

ودليلها معها، إذ أنّها لم تخرج إلاّ لهذا السبب (من المدينة) ولم يكن النّبي وأصحابه عازمين على مواجهة جيش أبي جهل ولم يتعبأوا لذلك، في حين أن أبا جهل قد تعبأ لهم ويريد قتالهم.

وقد ازداد هذا التردد بين الطائفتين، خاصّة بعد أن عرف أصحاب النّبي أنّ جيش العدوّ ثلاثة أضعافهم وتجهيزاته أضعاف تجهيزاتهم، إلاّ أنّ النّبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل «أي قتال العدوّ» فلما التقى الجيشان لم يصدق العدوّ أن المسلمين قد وردوا الميدان بهذه القلّة، بل ظن العدوّ أنّهم مختبئون وأنّهم سيحدقون به عند المواجهة، لذلك فقد أرسل شخصاً ليرصد الأُمور فرجع وأخبرهم بأنّ المسلمين ليسوا أكثر ممّا رأوهم.

ومن جهة أُخرى ـ كما أشرنا آنفاً ـ فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق وإضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب، إذ لا موازنة بين أصحاب النّبي وأصحاب أبي جهل! لكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طمأنهم بوعد الله وقال: «إنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد» قافلة قريش أو جيش قريش، ولن يخلف الله وعده، فوالله لكأنّي أرى مصرع أبي جهل وجماعة من

[370]

أصحابه بعينيّ.

ثمّ أمر النّبي أن ينزل أصحابه إلى بئر بدر «وبدر في الأصل اسم رجل من قبيلة جُهينة حفر بئراً في ذلك الموضوع فسُميّت باسمه، وسمّيت الأرض بأرض بدر أيضاً».

وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به، واتّجه نحو مكّة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق، وأرسل رسولا إلى قريش: إنّ الله نجيّ قافلتكم، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة، لأنّ له أعداءً يكفونكم أمره. إلاّ أنّ أبا جهل لم يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزّى أنّه سيواجه محمّداً، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه أو سيأسرهم جميعاً ويمضي بهم لمكّة، حتى يبلغ خبر هذا الإِنتصار آذان العرب.

وأخيراً ورد جيش قريش أرض بدر وأرسلوا غلمانهم للإِستقاء من ماء بدر، فأسرهم أصحاب النّبي وأخذوهم للتحقيق إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم النّبي: من أنتم؟ فقالوا: يا محمّد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم ؟! فقالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم جزوراً؟ فقالوا: تسعة إلى عشرة.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): القوم تسعمائة الى ألف (كل مئة يأكلون بعيراً واحداً).

كان الجوّ مكفهراً بالرعب والوحشة، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججاً بالسلاح، ولديه المؤونة والعُدّدِ، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة. وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان.