![]() |
![]() |
![]() |
* * *
1 ـ المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش، والغواش في الاصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضاً، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.
وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَآ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُون (42) وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الاَْنْهرُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَينَا لِهَذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَينَا اللهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
إنّ أُسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنباً إلى جنب لتأكيد الموضوع، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.
ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله، والمستكبرين والظالمين، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول: (والذين آمنوا وعملوا الصّالحات ... أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون).
وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1). توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول: (لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها).
وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين، أمر متعسر غير مقدور إلاّ لأفراد معدودين، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالماً كان أو جاهلا، صغيراً كان أو كبيراً، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.
إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح، وهكذا تفنَّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة، ويقولون: إنّه قربان لخطايا الإنسانية.
إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.
وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة، والتي تكون سبباً لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية، إذ قال (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).
و (الغِل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّاً، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل)، وإنّما يطلق
1 ـ ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض، بل لابدّ أنّ هناك ارتباطاً ما بينها و بين ما قلبها وما بعدها، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاماً متصلا، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي، لا من حيث ا لمعنى.
«الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّاً لإرتكاب خيانة.(1)
وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الإجتماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد.
فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.
إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.
إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون مَن فوقهم أبداً، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.
ولقد نقل بعض المفسّرين حديثاً في المقام عن السدّي قال: «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً»(2).
إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في
1 ـ للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.
2 ـ تفسير المنار، المجلد 8، الصفحة 421.
الأصل، لأنّ هذه الأُمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الإطلاع عليها.
وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطناً وظاهراً، جسماً وروحاً، فهم يتحلون بالجمال الجسماني، والجمال الروحاني معاً، ولهذا فهم لا يعانون، ـ مطلقاً ـ من الحسد والحقد.
فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.
وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية، يُشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية، فيقول: (تجري من تحتها الأنهار).
ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم (ونودوا أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون).
ومرّة أُخرى نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.
و«الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الإنتقال عبر مسير طبيعي تلقائي، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خَلَفه.
وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف يقال لأهل الجنّة: هذه النعم أُورثتموها لقاء أعمالكم؟
والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول: «ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون».(1)
فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة، أو من أهل النّار، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.
ومن البديهي أنّه عندما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر، وثبوت الإِختيار وحرية الإرادة في الإِنسان.
* * *
1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 31، وتفسير القرطبي، المجلد الرّابع، الصفحة 2645، وتفاسير أُخرى.
وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهلْ وَجَدتُم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ(45)
بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريفين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.
فيقول أوّلا: (ونادى أصحابُ الجنّة أصحابَ النّار أن قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً).
فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة (قالوا: نعم).
ويجب الإِلتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضياً، إلاّ أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع فى المستقبل حتماً بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعاً من التأكيد، يعني أنّ
المستقبل واضح جدّاً، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.
على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادةً للمسافة البعيدة، يصوّر بُعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.
وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟
وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائماً للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحياناً صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل. و هذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عندما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلابدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقاباً من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين.
ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين (فأذّنَ مُؤَذِّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).
ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: (الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون)(1).
ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أُخرى أنّ جميع الإنحرافات والمفاسد قد إجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب، والآثام، وخصوصاً الضالون المضِلُّون.
1 ـ يبغونها عوجاً بمعنى يطلبونها عوجاً، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات»: عَوج (بفتح العين) يعني الإعوجاج الحسي، وعوج بكسر العين يطلق على الإعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).
مَن هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟
لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي(عليه السلام).
روى الحاكم أبوالقاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن علي(عليه السلام) أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».
وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّي(عليه السلام) أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى: (فأذن مؤذنُ بينهم) فهو الذي ينادي بين الفريفين أهل الجنّة وأهل النّار، ويقول: «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1).
ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصّدوق(رحمه الله) بسنده عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) خطب بالكوفة منصرفه في نهروان، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً (إلى أن قال): «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عزَّوجلَّ (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين) أنا ذلك المؤذن، وقال: (وأذان من اللّه ورسوله) أنا ذلك الأذان»(2).
ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:
أوّلا: لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأُولى من سورة البراءة على
1 ـ مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.
2 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.
مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله)(1).
ثانياً: إنّ موقف الإمام علي(عليه السلام) طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم، والنضال ضدالظالمين، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.
أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.
فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لإستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار، بأمر من الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو على(عليه السلام).
من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعلي(عليه السلام) فضيلة، إذ يقول: ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأدين إليه كرم الله وجهه معنىً يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح.(2)
إذ يجب أن نقول له: كما أنّ النيابة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله(عليه السلام)، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضاً.
كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضاً ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال: ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم الله تعالى
1 ـ التوبة، 3.
2 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 426.
وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1).
لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم، فلا مجال للتشكيك في صدوره.
* * *
1 ـ روح المعاني، ج 8، ص 123.
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاَْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـرُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـبِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَومِ الظَّلِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحبُ الاَْعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَهُمْ قَالُوا مَآ أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانباً من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.
وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار، إذ يقول: (وبينهما حجاب).
ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه، كما مرّ في الآيات السابقة.
فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه، على أنّ الذين يقفون على الأعراف، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيداً).
ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم، مثل الآيه (55) من سورة الصافات، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار، ولكن مثل هذه الموارد الإستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساساً، وإنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين، وإن كان لهذا القانون ـ أيضاً ـ بعض الإستثناءات، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.
إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأُخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة، بل للتعابير ـ أحياناً ـ صفة التشبيه والتمثيل.
وأحياناً تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم، تماماً مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين. وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاًّ بسيماهم)يرون كلاًّ من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.
و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العُرف، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك»، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضاً (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).
ثمّ يقول: إنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلام عليكم. لم يدخلوها وهم يطمعون).
ولكن عندما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)(1).
والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة (وإذا صرفت أبصارهم) يعني عندما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها، وهذه إشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.
وفي الآية اللاحقة يضيف: إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقاً من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين: أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئاً، فأين تلك الأموال و أُولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟! (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم، وما كنتم
1 ـ «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر، وهو بمعنى المقابلة، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان، أي في المكان المقابل والمحاذي.
تستكبرون).
ومرّة أُخرى يقولون موبخين ومعاتبين، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف: (أهؤلاء الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة).
وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين، ويقال لهم (ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنو وعملوا الصالحات، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون: كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية، فسعدوا ودخلوا الجنّة.
«الأعراف» في الأصل ـ و كما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار، ويشاهد كلا الفريقين، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.
والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟
إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.
فقي الآية الأُولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن
يدخلوا الجنّة، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك، وعندما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم، وعندما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير، ومن أن يكونوا منهم.
ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.
وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضاً.
ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) نقرأ: «نحن الأعراف»(1) أو عبارة: «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.
ونقرأ في طائفة أُخرى عبارة: «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أُخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.
ولكن طائفة أُخرى مثلما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) تقول: «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته».(5)
وثمّة روايات متعددة أُخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و «عبدالله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(6).
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثاني، الصفحة 17 و18 و19.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 33 و 34.
5 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.
6 ـ تفسير الطبري، المجلد 7، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.
ونرى في هذه التفاسير أيضاً مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.
وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدو النظر، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال أراءً مختلفة، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.
وتوضيح ذلك: إنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـالأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.
ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً فيعجزون عن العبور.
كما أنّه من الطبيعي أيضاً أن تقف قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.
وعلى هذا الأساس، فأصحاب الأعراف فريقان: ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.
وعلى هذا فإن الطائفة الأُولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف، وهم الضعفاء، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق الثّاني من أصحاب الأعراف، وهم السادة والأنبياء والأئمّة والصلحاء.
ونرى في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ شاهداً واضحاً وجلياً على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصّادق(عليه السلام) الذي قال فيه: «الأعراف كثبان بين الجنّة
والنّار، والرجال الأئمّة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة بلا حساب». ويقصد من الشيعة الذي يقفون مع الأئمّة على الأعراف العصاة منهم.
ثمّ يضيف قائلا: «فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب، وهو قوله تبارك وتعالى: (سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ثمّ يقال: انظروا إلى أعدائكم في النّار، وهو قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)ثمّ يقولون لمن في النّار من أعدائهم: هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تختلفون (تحلفون) في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة، ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم: ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون(1).
ونظير هذا المضمون روي في تفاسير أهل السنة عن حذيفة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
ونكرر مرّة أُخرى هنا أنّ الحديث حول تفاصيل وجزئيات القيامة وخصوصيات الحياة في العالم الآخر أشبه بما لو أننا أردنا أن نصف شبحاً من بعيد، في حين أنّ بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتاً واسعاً واختلافاً كبيراً، فما نفعله في هذه الصورة هو أنّنا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.
هذا، والنقطة الجديرة بالإلتفات هي أنّ الحياة في العالم الآخر مبتنية على أساس النماذج والعيّنات الموجودة في هذه الدنيا، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف، لأنّ الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق: المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان، ولم يدخروا وسعاً في طريق المجاهدة.
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 19 و 20.
2 ـ تفسير الطبري، ج8 الصفحة، 142 و 143.
والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة. والفريق الثّالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصّعب عبوره ـ في الوسط بين الفريقين، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمّة الحق موجهة إلى هؤلاء، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.
ومن هنا يتّضح أن تدخّل الأنبياء والأئمّة في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبداً قدرة الله وحاكميته على كل شيء، بل كل ما يفعلونه إنّما هو بإذن الله تعالى وأمره.
* * *
وَنَادَى أَصْحَـبُ النَّارِ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَآءِ أَوْ ممّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـفِرينَ(50)الَّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيوةُ الدُّنيَا فَالْيَوْمَ نَنَسـهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُوا بِآيَـتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.
وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله). فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نِعم الجنّة.
ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب (قالوا إنّ الله حرمهما على الكافرين).
هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها:
1 ـ يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر، وهذا ليس بعجيب، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر، بل ويرى ـ في بعض الأحيان ـ الطرف الآخر.
ولو كان القبول بهذا أمراً متعذراً أو متعسراً في الماضي، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جداً انحلّت هذه المشكلة، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.
2 ـ إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء، وهذا أمر طبيعي، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.
3 ـ إنّ عبارة (ممّا رزقكم الله) التي هي عبارة مجملة، وتتسم بالإبهام، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول: (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
![]() |
![]() |
![]() |