![]() |
![]() |
![]() |
ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً، بل هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طرق أهل البيت(1)، وتوجد أدلة أُخرى على ذلك في كتب أهل السنة.
1 ـ يراجع كتاب وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس.
فبناءً على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهماً من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه هذا السؤال وهو: ما هذا إِمتياز الذي أولاه الإِسلام لأقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه، مع أنّ الإِسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!
لكنّنا إذا خصصنا «بذي القربى» الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الحكومة الإِسلامية، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.
وبعبارة أُخرى: إنّ السهام الثّلاثة «سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي» ترجع جميعها إِلى قائد الحكومة الإِسلامية، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة، وينفق الباقى منها في ما يوجبه مقام القيادة، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.
وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة «كصاحب المنار» يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب، فقد تخبط في الإِجابة على السؤال آنف الذكر وظلَّ في حيرة من أمره، حتى جعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أشبه بالملوك والسلاطين، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!
ومن الواضح بطلان هذا المنطق، إذ يتنافي ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالإِمتيازات القبليّة «وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة، إن شاء اللّه».
إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، ونعلم بأنّ كثيراً من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطاً
وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثاراً للغرابة والتعجب.
أضف إِلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم، فيلزم توفير مصدر آخرلهم، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصُّ المحتاجين من بني هاشم.
لذا نقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله:«إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال»(1).
الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها، هو: هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب، أو الموضوعُ أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!
ففي الصورة الأُولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات، ولا مانع أن يشير القرآن إِلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.
فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن، كما أشير إِلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضاً، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إِلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإِسلامية من أهل السنة والشيعة كافة، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإِتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إِلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبداً.
فبناءً على ذلك، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسماً واحداً من أقسام الخمس
1 ـ وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس، ومجمع البيان ذيل الآية ... .
فحسب، ويكلُّ توضيح الباقي إِلى السنّة، وفي الفقه الإِسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.
إلاّ أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إِلى معنى «الغنيمة» في اللغة والعرف!
فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!
الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.
ونشير هنا إِلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأُدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب «لسان العرب» الجزء الثّاني عشر قوله «الغُنم الفوز بالشيء من غير مشقّة، والغُنم والغنيمة، والمنغم: الفيء، وفي الحديث: الرهن لمن رهنه له غُنمه وعليه غرمه، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ... وغنم الشيء غُنماً فاز به ... ».
ونقرأ في الجزء التاسع من «تاج العروس»: والغنم: الفوز بالشيء بلا مشقّة».
وفي كتاب «القاموس» هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضاً.
وجاء في كتاب «المفردات» للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغَنَم، ثمّ يقول: ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.
وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإِنسان بدون عناء ومشقة.
وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.
وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيراً بالمعنى المذكور نفسه، إذ نقرأ في الخطبة (76) قوله(عليه السلام): «اغتنم المُهل».
وفي الخطبة (120) يقول(عليه السلام): «من أخذها لِحق وغنم».
ويقول في كتابه (53) إِلى مالك الأشتر: «ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم».
ويقول في كتابه (45) إِلى عثمان بن حنيف: «فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرتُ من غنائمها وفراً».
ويقول في بعض كلماته القصار برقم (331): «إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس».
ويقول في كتابه (41): «واغتنم من استقرضك في حال غناك».
ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.
إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعاً في الغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإِنسان من دون مشقّة، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب «لفتوى فقهاء السنة» يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد، بل قيّدوه بدليل آخر.
«القرطبي» مفسّر أهل السنة المعروف، كتب في ذيل الآية: «إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»(1).
وينبغي أن يُعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية (واعلموا إنّما غنمتم من شيء) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة، لكنّه ورد في العرف الشرعي.
1 ـ راجع تفسير القرطبي، ج 4، ص 280.
ويقول «الفخر الرازي» في تفسيره: الغنم الفوز بالشيء. يقول بعد هذا: إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب.(1)
كما أنّ «صاحب المنار» قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي، وتخصيص الآية بغنائم الحرب.(2)
وقال «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني: «إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة»(3).
وقال صاحب «مجمع البيان» في بداية كلامه: إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب، إلاّ أنّه لما بين معنى الآية قال: «قال أصحابنا: إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإِنسان من المكاسب وأرباح التجارات، وفي الكنوز والمعادن والفوضى، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة»(4).
والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس، حيث ذكروا عبارته الأُولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب، ولكنّهم لم يشيروا إِلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيراً، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإِسلامي الكبير، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب، بل تصرفوا في كتب أُخرى فأخذوا بما
1 ـ الفخر الرازي، ج 15، ص 164.
2 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 703.
3 ـ تفسير روح المعاني: ج 10، ص 2.
4 ـ تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 543.
ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.
وفي تفسير «الميزان» ورد بصراحة ـ إستناداً إِلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب، إلاّ أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(1).
ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً مايلي:
إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.
والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية (ما غنمتم) تتعلق بغنائم الحرب.
في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم، وبعبارة أجلى: لامانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.
ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن يكون حكمها عاماً ومصداقها جزيئاً «خاصّاً».
فمثلا في الآية (7) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى: (ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الإِلتزام بأوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب، ويطلق على ذلك اصطلاحاً «الفيء».
وكذلك نجد في الآية (233) من سورة البقرة حكماً كلياً في قوله: (لا تكلّف نفس إلاّ وسعها) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء الأطفال
1 ـ الميزان، ج 9، ص 89.
الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.
الخلاصة، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد، إلاّ أنّها تقول: «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه».
وخاصّة أنّ «ما» الموصولة «ومن شيء» لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.
يتصوّر بعضٌ أن هذه الضربية الإِسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، نوعٌ من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الإِجتماعية للإِسلام وكونها شاملة لجميع العالم.
الجوابُ:
إنّ هؤلاء لم يدرسوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية، فالإِجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.
وتوضيح ذلك: أوّلا: إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر، فبناءً على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الاسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل «بالفعل أو بالقوّة» والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية، ليس لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئاً من الخمس.
أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبداً.
ثانياً: إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(1)
ثالثاً: إذا زاد القسم المختصص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إِلى بيت المال حتى يُنفق في مصارف أُخرى، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.
وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.
فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.
فيوجد في الحقيقة صندوقان، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما، أي ما يحتاجه كلُّ لعام واحد (فتأمل).
فالذين لم يُمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بإمتياز خاص.
والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا قلنا بعدم الفرق بين الإِثنين آخر الإمر، فما جدوى هذه الخطة إذاً؟!
ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد، وهو أنّ بين
1 ـ إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية، فهل يعقل بأنّ الإِسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.
الزكاة والخمس بوناً شاسعاً، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإِسلامي فتصرف عموماً في هذه الجهة، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإِسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإِسلامية وتؤمن حاجتها منه.
فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة، «الزّكاة» كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سلط أقرباءه على الإموال العامّة.
إلاّ أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإِسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس إمتيازاً لبني هاشم، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(1).
والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة، ففي حديث عن الإِمام الصادق نقرأ: «إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل الله عزّ وجلّ للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبدالمطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم، ولكنّي وعدت الشفاعة، إِلى أن قال: «أتروني موثراً عليكم غيركم»(2).
ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرماناً، وقد وعدهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشفع لهم.
ونقرأ حديثاً في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاءا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبا منه أن
1 ـ وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ «كرامة لهم من أوساخ الناس» فهو ليُقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إِلى المحتاجين ما استطاعوا إِلى ذلك سبيلا.
2 ـ وسائل الشيعه، ج 6، ص 186.
يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبدالمطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهماً منه شأنهما كشأن الآخرين، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما، فامتنع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.
ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصرّاً على إبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.
من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس إمتيازاً للسّادة، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة...
إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإِسلامية وحاكمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً.
أي كما أنّ الله جعل سهماً باسمه وهو أحق بالتصرف فيه، فقد أعطى النّبي والإِمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك، إلاّ فإنّ سهم الله يُجعل تحت تصرف النّبي أو الإِمام يصرفه في المكان المناسب، وليس لله حاجة في سهم معين.
* * *
إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَـدِ وَلَـكِن لِّيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَة وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَْكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـزَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَلَـكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ(44)
يعود القرآن في هذة الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إِلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على
أهمية ذلك النصر العظيم.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى).
«العُدوة» مأخوذة من «العدو» على زنة «السَّرْو» ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إِلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي «الطرف، والجانب».
«والدنيا» مأخوذة من الدنّو، على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.
وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إِلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.
ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لإِضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.
ثمّ تعقّب الآية قائلةً: (والركُب أسفلَ منكم).
وكما رأينا من قَبلُ فإنّ أبا سفيان حين علم بتحّرك المسلمين غيّر مسير قافلته إِلى جهة أُخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريباً من مكّة، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).
لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: (ليقضي الله أمراً كان
مفعولا).
وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و(ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بينة).
والمراد من «الحياة» و«الهلكة» هنا هو الهداية والضلال، لأنّ يوم بدر الذي سُمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإِمداد الإِلهي لنصرة المسلمين، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.
وتعقبّ الآية قائلةً: (وإنّ الله لسميع عليم).
فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نيّاتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.
إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم، مع أنّ طائفة أُخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة جميع الشدائد، لهذا فإنّ الله جعل الأُمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم، فكانت المواجهة المصيرية.
وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إِلى النصر وبشارة به، فقد رواه(صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.
وبالطبع فإنّ رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه كانت صحيحة، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية، إلاّ أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأُمور.
والآية الثّانية: من الآيات محل البحث تشير إِلى الحكمة من هذا الأمر، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق، فتقول: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)ولهبطت معنوياتكم، ولم يقف الامر عند
هذا الحدّ، بل لإدّى ذلك إِلى التنازع واختلاف الكلمة (ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلَّم) وانقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء، و لأنّ الله يعرف باطنكم (إنّه عليم بذات الصدور).
وتُذكّر الآية الأُخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العَطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: (وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا).
أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إِلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّاً، بل رآهم أقل ممّا هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد (ويقلّلكم في أعينهم).
حتى روي عن أبي جهل أنّه قال: إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.
وعلى كل حال: فقد كان تأثير هذين الامرين كبيراً في نصر المسلمين، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فزال كل خوف ورعب من نفوسهم، ومن جهة أُخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إِلى هزيمتهم.
لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلةً: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب، بل إن إرادته نافذة في كل شيء (وإلى الله تُرجَع الإمور).
وفي الآية (13) من سورة آل عمران إشارة إِلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر، إذ تشير إِلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الاسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق، أصابهم الذعر والخوف الشديد، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإِسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إِلى هزيمتهم وتمزقهم.
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض، لا بين الآيات محل البحث، ولا بينها وبين الآية (13) من سورة آل عمران، لإنّ كلاًّ من هذه الآيات تبيّن مرحلةً من مراحل المعركة.
فالمرحلة الأُولى: هي ما قبل القتال، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.
والمرحلة الثّانية: هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعَدَد الأعداء وعُدَدِه وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.
والمرحلة الثّالثة: هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم، وما رأوه من مشاهد قللّت عدد أعدائم في أعينهم «فتأملوا بدقّة!».
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ(46)وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47)
قال المفسّرون: إنّ أباسفيان بعدما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين، أرسل مبعوثاً إِلى قريش الذاهبين إِلى ساحة بدر ودعاهم إِلى العودة، لأنّه رأى أن لا حاجة إِلى القتال، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر «وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز إجتماع العرب، وتقام فيها سوق تجارية كل عام» ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام، وينحروا الإِبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر، وتغني لهم المغنيّات، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!...
لكن أمرهم آل إِلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر، وجلست المغنيات ينُحن على جنائزهم!!
والآيات محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إِلى ما سبق من هذه الأُمور.
وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي:
1 ـ أنّها تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) أي أن إحدى علائم الإِيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، وخاصّة في مواجهة الأعداء.
2 ـ (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).
ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، وذكر عِلمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة، فهذا التوجه إِلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، ويُشعر الجندي بأنّ سنداً قويّاً لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمهُ في ساحة القتال. وإذا قُتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى، وجوار رحمة الله، فذكر الله يبعث على الإِطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.
بالإِضافة إِلى ذلك، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال، والأولاد من قلبه، فإنّ التوجه إِلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله، كما يقول الإِمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور: «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنّة نصبَ أعينهم».
3 ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الإِلتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول: (وأطيعوا الله ورسوله).
4 ـ (ولا تنازعوا فتفشلوا) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إِلى
الضعف وخور العزيمة، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم (وتذهب ريحكم).
«والريح» في اللغة، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.
وأمّا ذَهاب الريح، فهو إشارة لطيفة إِلى زوال القوّة والعظمة، وعدم سير الأُمور كما يرام، وعدم تحقق المقصود، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إِلى مقاصدها، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.
وحركة الرّيح في الرّايات والبيارق تدل على إرتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.
5 ـ ثمّ تأمر الآية بالإِستقامة بوجه العدوّ، وفي قبال الحوادث الصعبة، فتقول: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين).
والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، والإِستقامة والصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية، «الجسمية» أمّا الإِستقامة والصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.
6 ـ وتدعو الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إِلى اجتناب الأعمال الساذجة البَلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة، وتشير إِلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه، فتقول: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله).
فأهدافهم غير مقدسة، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة، وسقط بعضهم مضرجاً بدمائه في التراب، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم، بدل أن يشربوا الخمر في حفل إبتهاجهم، وتختتم الآية بالقول: (والله بما يعلمون محيط).
* * *
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكُمْ إِنِّى أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الِّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـرَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ(51)
![]() |
![]() |
![]() |