![]() |
![]() |
![]() |
وقد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة، مثل سورة هود، الأنبياء، والمؤمنون، الشعراء، كما أنّ هناك سورة قصيرة في القرآن الكريم باسم «سورة نوح» وهي السورة الحادية والسبعون من سور الكتاب العزيز.
وسوف يأتي شرح ودراسة جهود هذا النّبي العظيم، وكيفية صنعه للسفينة، والطوفان الرهيب، وغرق قومه الأنانيين الفاسدين والوثنيين بإسهاب في السور المذكورة، وهنا أكتفي ـ فقط ـ بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي:
يقول أوّلا: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه).
إنّ أوّل شيء ذكّرهم به هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد، ونفي أي نوع من أنواع الوثنية (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
إنّ شعار التوحيد ليس شعار نوح وحده، بل هو أوّل شعار عند جميع الأنبياء والمرسلين الإلهين، ولهذا يشاهد في آيات متعددة من هذه السورة ـ وغيرها من السور القرآنية ـ أنّ أوّل ما يفتتح أكثر الأنبياء دعواتهم به هو هذا الشعار: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (راجع الآيات 65، و 73 و 85 من نفس هذه السورة).
من هذه العبارات يستفاد جيداً أنّ الوثنية كانت أسوأ مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء، وأنّ حملة غصون التوحيد هؤلاء كانوا أوّل ما يفعلونه لغرس هذه الغصون في مزرعة الحياة البشرية وتربية أنواع الورود الزاهية والأشجار المثمرة فيها، هو أنّهم يشمرون عن ساعد الجدّ ليطهروا الحياة البشرية بمنجل تعاليمهم
البناءة من الأشواك، أشواك الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.
ويستفاد من الآية (23) في سورة نوح خاصّة أنّ الناس في زمن النّبي نوح(عليه السلام) كانوا يعبدون أصناماً متعددة تدعى «ودّ» و«سواع» و«يغوث» و«يعوق» و«نسر»، التي سيأتي الحديث عنها عند تفسير تلك الآية بإذن الله.
وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
والمراد من (عذاب يوم عظيم) يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح، الذي قلّما شوهد مثله في العقوبات في العظمة والسِعة، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة، لأنّ هذا التعبير قد ورد في معنيين من القرآن الكريم. فإنّنا نقرأ في سورة الشعراء الآية (189): (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم) الآية وردت حول العقوبة التي نزلت بقوم شعيب في هذه الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ونقرأ في سورة المطففين الآية (5): (ألا يظن أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)(1).
إنّ عبارة «أخاف» (أي أخشى أن تصيبكم هذه العقوبة، بعد ذكر مسألة الشرك في الآية المبحوثة، يمكن أن تكون لأجل أن نوحاً يريد أن يقول لهم: إذا لم تتيقنوا وقوع هذه العقوبة، فعلى الأقل ينبغي أن تخافوا منها، ولهذا لا يجيز العقل أن تسلكوا ـ مع هذا الإحتمال ـ هذا السبيل الوعر، وتستقبلو عذاباً عظيماً أليماً كهذا.
ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النّبي العظيم الإصلاحية، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم، ويرون الدين مانعاً من عبثهم ومجونهم وشهواتهم،
1 ـ كلمة عظيم في الآية أعلاه صفة «ليوم» لا للعذاب.
قالوا لنوح بكل صراحة وقحة: نحن نراك في ضلال واضح (قال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين).
و«الملأ» تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة «الملأ» أصلا من «الملء»، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوضاد والشرور، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم.
ولقد جابه نوح(عليه السلام) تعنتهم وخشونتهم بلحن هاديء ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة، فقال في معرض الردّ عليهم: أنا لست بضال، بل ليست فيّ أية علامة للضلال، ولكنّي مرسل من الله (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول الله من ربّ العالمين).
وهذه إشارة إلى أنّ الارباب التي تعبدوها وتفترضون لكل واحد منها مجالا للسيادة والحاكمية، مثل إله البحر، إله السماء، إله السلام والحرب، وما شاكل ذلك، كله لا أساس لها من الصحة، ورب العالمين ما هو إلاّ الله الواحد الذي خلقها جميعاً وأوجدها من العدم.
ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة (أبلغكم رسالات ربّي).
ولن آلو جهداً في تقديم النصح لكم، وقصد نفعكم، وإيصال الخير إليكم (وانصح لكم).
«أنصح» من مادة «نُصْح» يعني الخلوص والغلو عن الغش وعن الشيء الدخيل، لهذا يقال للعَسل الخالص: ناصح العسل، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية، وبقصد الخير، ومن دون خداع ومكر.
ثمّ أضاف تعالى (وأعلم من الله ما لا تعلمون).
إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم
ومخالفتهم، وكأنّه يريد أن يقول: أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون شيئاً عنها، أو تكون إشارة إلى لطف الله ورحمته، وتعني أنّكم إذا أطعتم اللّه، وكففتم عن تعنتكم، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحدّ الآن على سعتها. أو تكون إشارة إلى أنّني إذا كنت قد كلفت بهدايتكم فإنّني أعلم أُموراً عن الله العظيم وعن أوامره لا تعرفونها، ولهذا يجب أن تطيعوني وتتبعوني. ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة ومجتمعة في مفهوم الجملة الحاضرة.
وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاماً آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية، إذ قال: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا ولعلكم ترحمون).
يعني: أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الإستغراب والتعجب، لأنّ الانسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافاً إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر، لا الملائكة ولا غيرهم.
ولكن بدل أن يقبلوا بدعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي كذبه الجميع، فأرسل الله عليهم طوفاناً فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن (فكذبوه فأنجيناه والذين معه فى الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا).
وفي خاتمة الآية بين دليل هذه العقوبة الصعبة، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق، وأتباعه (إنّهم كانوا قوماً عمين(1)).
وهذا العمى القلبي كان نتيجة أعمالهم السيئة وعنادهم المستمر، لأنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا بقي في الظلام مدة طويلة، أو أغمض عينيه لسبب من
1 ـ «عمين» جمع عمي، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضاً (وعَمْي حينما يدخل عليها الإعراب تتبدل إلى عم).
الأسباب وامتنع عن النظر مدة من الزمن، فإنّه سيفقد قدرته على الرؤية تدريجاً وسيصاب بالعمى في النهاية.
وهكذا سائر أعضاء البدن إذا تركت الفعالية والعمل مدّة من الزمن يبست وتعطلت عن العمل نهائياً.
وبصيرة الإنسان هي الأُخرى غير مستثناة عن هذا القانون، فالتغاضي المستمر عن الحقائق، وعدم استخدام العقل والتفكير في فهم الحقائق والواقعيات بصورة مستمرة، يضعف بصيرة الإنسان تدريجاً إلى أن تعمى عين القلب والعقل في النهاية تماماً.
هذه لمحة عن قصة نوح، وأمّا بقية هذه القصّة وكيفية وقوع الطوفان وتفاصيلها الأُخرى، فسوف نشير إليها في السور التي أشرنا إليها في مطلع هذا البحث.
* * *
وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُودَاً قَالَ يَـقَومِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَريكَ فِى سَفَاهَة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـذِبينَ (66) قَالَ يَـقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَـكِنِّىَ رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ (67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَـلَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَومِ نُوح وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَصطَةً فاذْكُرُوا ءَالآءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَدِلُنَنى فِى أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللهَ بِهَا مِن سُلْطن فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(71) فَأَنْجَيْنهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنينَ(72)
عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصّة نبي آخر من الأنبياء العظام، وهو النّبي هود(عليه السلام)، وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وهذه القصّة ذكرت في سور أُخرى من القرآن الكريم مثل سورة «الشعراء» وسورة «هود» التي تناولت هذه القصّة بشيء من التفصيل، وأمّا في الآيات الحاضرة فقد ذكر شيء مختصر عمّا دار بين هود والمعارضين له ونهايتهم.
يقول تعالى أوّلا: ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً (وإلى عاد أخاهم هوداً).
وقوم «عاد» كانوا أُمّةً تعيش في أرض «اليمن» وكانت أُمّة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي، ولكنّها كانت متخمة بالانحرافات الإعتقادية وبخاصّة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.
وقد كُلِّف «هود» الذي كان منهم ـ وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى ـ من جانب الله بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد، ولعل التعبير بـ «أخاهم» إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.
ثمّ إنّه يحتمل أيضاً أن يكون التعبير بـ «الأخ» في شأن النّبي هود، وكذا في شأن عدّة أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوح(عليه السلام) (سورة الشعراء الآية 106) وصالح (سورة الشعراء الآية 142) ولوط (سورة الشعراء الآية 161) وشعيب (سورة الأعراف الآية 85) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة، والمحبّة مثل أخ حميم، ولا يألون جهداً في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.
إنّ هذه الكلمة تستعمل في من يعطف على أحد أو جماعة غاية العطف، ويتحرق لهم غاية التحرق، مضافاً إلى أنّها تحكي عن نوع من التساوي ونفي أي رغبة في التفوق والزعامة، يعني أن رسل الله لا يحملون في نفوسهم أية دوافع شخصية في صعيد هدايتهم، إنما يجاهدون فقط لإنقاذ شعوبهم وأقوامهم من ورطة الشقاء.
وعلى كل حال، فإنّ من الواضح والبيّن أنّ التعبير بـ «أخاهم» ليس إشارة إلى الأخوة الدينية مطلقاً، لأنّ هؤلاء الأقوام لم تستجب ـ في الأغلب ـ لدعوة أنبيائها الإصلاحية.
ثمّ يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية: (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون).
ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة «الملأ» باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوح(عليه السلام) (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين).
«السفاهة» وخفة العقل كانت تعني في نظرهم أن ينهض أحد ضد تقاليد بيئته مهما كانت تلكم التقاليد خاوية باطلة، ويخاطر حتى بحياته في هذا السبيل.
لقد كانت السفاهة في نظرهم ومنطقهم هي أن لا يوافق المرء على تقاليد مجتمعه وسننه البالية، بل يثور على تلك السنن والتقاليد، ويستقبل برحابة صدر كل ما تخبئه له تلك الثورة والمجابهة.
ولكن هوداً ـ وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون ـ من دون أن ينتابه غضب، أو تعتريه حالة يأس (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكنّي رسول من ربّ العالمين).
ثمّ إنّ هوداً أضاف: إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات الله إليهم، وإرشادهم إلى ما
فيه سعادتهم وخيرهم، وانقادهم من ورطة الشرك والفساد، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق (أبلغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح أمين).
ثمّ إنّ هوداً أشار ـ في معرض الردّ على من تعجب من أن يبعث الله بشراً رسولاً ـ إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه: (أو عجبتم أن جاءكم ذِكرٌ من ربّكم على رجل منكم لينذركم) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّاً، ليحذركم من مغبة أعمالكم، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟
ثمّ إنّه إستثارةً لعواطفهم الغافية، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم، ذكر قسماً من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، فقال: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح)، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.
ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة (وزادكم في الخلق بصطة).
إنّ جملة (زادكم في الخلق بصطة) يمكن أن تكون ـ كما ذكرنا ـ إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة، وكذا من التواريخ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظمية قوية وكبيرة، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة «فصلت» الآية 15 (من أشدّ منا قوة) وفي الآية (7) من سورة الحاقة نقرأ ـعند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم ـ (فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.
ويمكن أن تكون إشارة ـ أيضاً ـ إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أُخرى، ولكن الإحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.
وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ
فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره، علّهم يفلحون (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).
ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية، والتذكير بنعم الله ومواهبه، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم، انبرت إلى المعارضة، وقالوا بصراحة،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلا، كلاّ، لا يمكن هذا بحال (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبُدُ آباؤنا)؟
لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطاً جدّاً ـ كما تلاحظ ـ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرةً من مفاخرهم.
والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلاّ التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف، وإلاّ فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!
وفي النهاية، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب، فلتبادر به، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
وعندما بلغ الحوار إلى هذه النقطة، وأطلق أُولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود، وأيس هود ـ هو الآخر ـ من هدايتهم تماماً، قال: إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم (قال قد وقع عليكم من ربّكم رجس وغضب).
و«الرّجس» في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر، ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع، فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز
والقرف، ولهذا يطلقُ على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ «الرجس» لأنّ جميع هذه الأُمور توجب نفور الإنسان، وابتعاده.
وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإِلهية، ويكون ذكرها مع جملة «قد وقع» التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتماً وقطعاً، وأن العذاب سيحل بكم لا محالة.
كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح، يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الإنحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت اوزار كثيفة من النجاسات، وبذلك استوجبتم غضب الله، وشملكم سخطه.
ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الاوثان من دون ردّ أضاف قائلا: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباءكم ما نزل الله بها من سلطان) فهذه بُراء، وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله.
وفي الحقيقة، أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلاّ أسماء من دون مسمّيات، وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم، وإلاّ فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات.
ثمّ قال: فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعاً، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الإنتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع (فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين).
وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة: (فأنجيناه والذين معه برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) أجل، لقد أنجى الله هوداً ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته، وأمّا الذين كذبوا بآيات الله، ورفضوا الإنضواء تحت لواء دعوته، والإنصياع للحق، فقد
أبيدوا نهائياً.
و«دابر» في اللغة بمعنى آخر الشيء ومؤخرته، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية: أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.
(وسوف نبحث بالتفصيل حول قوم عاد وبقية خصوصيات حياتهم وكيفية عقوبة الله لهم والعذاب الذي نزل وحلّ بهم عند تفسير سورة هود بإذن الله).
* * *
وَإِلى ثَمُودُ أَخَاهُمْ صَـلِحاً قَالَ يَـقَوم اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلاَتَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَاد وَبَوَّأَكُمْ فِى الاَْرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا ءَالاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مَفْسِدينَ (74) قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَومِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلُ بِهِ مُؤمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَـفِرُونَ(76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَـصَـلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ (78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّـصِحِينَ (79)
في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام «صالح» النّبي الإلهي العظيم في قومه «ثمود» الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود.
وقد أُشير إلى هذا القصة أيضاً في سورة: «هود» و«الشعراء» و«القمر» و«الشمس» وجاءت بصورة أكثر تفصيلا في سورة «هود» أمّا هذه الآيات فقد اُوردت ما دار بين صالح(عليه السلام) وقومه قوم ثمود، وعن مصيرهم، وعاقبة أمرهم بصورة مختصرة.
فيقول تعالى في البداية: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً).
وقد مر بيان العلة في إطلاق لفظة «الأخ» على الأنبياء عند تفسير الآية (65) من نفس هذه السورة في قصة هود.
ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيّهم صالح في سبيل هدايتهم، هي الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من آله غيره).
ثمّ أضاف: إنّه لا يقول شيئاً من دون حجة أو دليل، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربّهم (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم هذه ناقة الله لكم آية).
و«النّاقة» أنثى الإبل، وقد أشير إلى ناقة صالح في سبعة مواضع من القرآن الكريم(1).
وأمّا حقيقه هذه الناقة، وكيف كانت معجزة صالح الساطعة، وآيته المفحمة لقومه، فذلك ما سنبحثه في سورة هود، في ذيل الآيات المرتبطة بقوم ثمود بإذن الله.
1 ـ قال الطبرسي في المجمع: الناقة أصلها من التوطئة والتذليل يقال بعير منوق أي مذلل موطأ، ولعل إطلاقها على اُثنى الإبل لكونها أكثر ذلولا للإمتطاء والركوب.
على أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ إضافة «الناقة» إلى «الله» في الآيات الحاضرة من قبيل الإضافة التشريفية ـ كما هو المصطلح ـ فهي إشارة إلى أنّ هذه الناقة المذكورة لم تكن ناقة عادية، بل كانت لها ميزات خاصّة.
ثمّ إنّه يقول لهم: اتركوا الناقة تأكل في أرض الله ولا تمنعوها (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم).
وإضافة الأرض إلى «الله» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لا تزاحم أحداً، فهي تعلف من علف الصحراء فقط، ولهذا يجب أن لا يزاحموها.
ثمّ يقول في الآية اللاحقة (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض) أي من جانب لا تنسوا نعم الله الكثيرة، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب الله بذنوبهم وهلكوا.
ثمّ ركز على بعض النعم الإِلهية كالأرض فقال: (تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحنون الجبال بيوتاً)، فالأرض قد خُلِقَت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.
ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء، ففي فصل الربيع والصيف كانوا يعمدون إلى الزراعة والرعي في السهول الواسعة والخصبة، ولهذا كانت عندهم قصور جميلة في السهول، وعند حلول فصل البرد والإنتهاء من الحصاد يسكنون في بيوت قوية منحوتة في قلب الصخور، وفي أماكن آمنة تحفظهم من خطر السيول والعواصف والاخطار.
وفي ختام الآية يقول تعالى: (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(1).
1 ـ «تعثوا» مشتقة من مادة «عثى» معنى إيجاد الفساد، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية، في حين تطلق مادة «عبث» على المفاسد الحسية، وبناء على هذا يكون كلمة «المفسدين» بعد جملة «لا تعثوا» لغرض التأكيد، لأنّ كليهما يعطيان معنىً واحداً.
ثمّ إنّنا نلاحظ أيضاً أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن، والباطن القبيح الخبيث، الذين عبر عنهم بالملأ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإِلهيّ العظيم، وحيث أنّ عدداً كبيراً من أصحاب القلوب الطيبة والافكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.
فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح: هل تعلمون يقيناً أنّ صالحاً مرسَل من قبل الله (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسَل من ربّه).
على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن، وإضعاف معنوياتهم، وظناً منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.
ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها، حيث قالوا: إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحاً رسول من قبل الله فحسب، بل نحن مؤمنون أيضاً بما جاء به (قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون).
ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم، بل عادوا مرّة أُخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين (قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون). وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة أُخرى.
كانوا المقدّمين في المجتمع والأُسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون
به من قوة وثراء، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضاً، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري، وقوة إرادة.
والجدير بالإنتباه أنّ الأغنياء والملأ وُصِفُوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين، وهذا يفيدالفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ «الطبقة المستغلّة»، والفريق الآخر بالطبقة المستغلَّة.
عندما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالح(عليه السلام)، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعاً مع وجود «الناقة» التي كانت تُعَدّ معجزة صالح(عليه السلام)، لهذا قرّروا قتل الناقة، مخالفين بذلك أمر ربّهم(فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم)(1).
ولم يكتَفوا بهذا أيضاً، بل أَتَوا إلى صالح نفسه وبصراحة (قالو يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين).
يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقاً، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها ... والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالح(عليه السلام)، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.
وعندما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة، وأطفأوا في نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان، حلّت بهم العقوبة الإِلهية طبقاً لقانون انتخاب الأصلح، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا
1 ـ المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها، فإذا قطع سقط الحيوان، وفقد القدرة على الحركة، والتنقل.
في دارهم جاثمين).
إنّها كانت زلزلة و رجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية، واندثرت حياتهم الجميلة، حتى أنّه لم يبق منهم إلاّ أجساد ميتة... هكذا أصبحوا.
و«جاثم» في الأصل مشتق من مادة «جثم» بمعنى القعود على الركب، والتوقف في مكان واحد، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة، فجلسوا على أثرها فجأة، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة، إمّآ خوفاً، وإمّا بسبب إنهيار الجدران عليهم، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!
وهنا يطرح سؤال وهو: يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة، بينما نقرأ في الآية (15) من سورة الحاقة (أمّا ثمود فاهلكوا بالطاغية)يعني أنّ قوم ثمود اُهلكوا بشيء مدمّر، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، أو أنّه يلازم بعضها بعضاً، فكثيراً ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.
وأمّا «الطاغية» فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول: (فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين) أي بعد هذه القضية
تولى صالح وهو يقول: لقد أديت رسالتي إليكم، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.
وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم، أي بعد إتمام الحجّة عليهم... ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟
هناك احتمالان: والحقيقة أنّ الإحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الإحتمال الأوّل هو أيضاً غير بعيد، لأنّه كثيراً ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون، تماماً كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام علي(عليه السلام) فإنّه(عليه السلام) وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال: «ويل أُمّك، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النّار».(1)
![]() |
![]() |
![]() |