![]() |
![]() |
![]() |
ربّنا، أيقظ مجتمعنا الإِسلامي بلطفك. ونَبهّنا إِلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
* * *
وهي مَدنيّة
وعددُ آياتِهَا مَائة وتسع وعشرون آية فحَسب
ينبغي الإِلتفات إِلى الأُمور التالية قبل الشروع في تفسير السورة
ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماءً عديدة تبلغ العشرة، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي: سورة البراءة، وسورة التوبة، والسورة الفاضحة. ولكلّ من التسميات سبب جلي.
فالبراءة، لأنّها تُبتدأ بإعلان براءة الله من المشركين، والذين ينقضون عهدهم.
والتوبة، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة.
والفاضحة، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم وخزيهم وفضيحتهم.
هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة، وهي كما قلنا ذات 129 آية فحسب.
والمعروف أن بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة، ويدلّ تتبع آياتها على أنّ قسماً منها نزل قبل معركة تبوك، وقسماً منها نزل عند الإِستعداد للمعركة أو «الغزوة»، وقسماً منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.
ومن بداية السورة حتى الآية (28) نزل قُبيل موسم الحج، كما سنبيّن ذلك بعون الله، والآيات الأُولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أميرالمؤمنين(عليه السلام) في موسم الحج.
لمّا كان نزول هذه السورة إبّان انتشار الإِسلام في الجزيزة العربية، وتحطيم آخر مقاومة للمشركين فقد كان لما حوته من مفاهيم أهمية بالغة ومواضيع حساسة. إذ يتعلق قسم منها بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين، وقطع العلاقات معهم، وإلغاء المعاهدات والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين، لنقضهم لها مراراً، ليتم تطهير المحيط الإِسلامي من رجس الوثنية الي الأبد.
وحيث إن بعض الأعداء عند انتشار رقعة الإسلام وتحطيم قوى الشرك غيّر مظهره بغية النفوذ بين المسلمين، ولتوجيه ضربة قاضية للإِسلام من قبل المنافقين فإنّ قسماً مهماً من آيات هذه السورة تتحدّت عن المنافقين وعاقبهم، وتحذر المسلمين منهم.
وبعض آيات هذه السورة تتحّدث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته، لأنّ الغفلة عن هذا الأمر الحياتي في ذلك الظرف الحساس تبعث على ضعف المسلمين وتقهقرهم أو انكسارهم.
كما أنّ قسماً منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.
وفي بعض آيات هذه السورة حثّ للمسلمين على الإِتحاد ورص الصفوف ـ تعقيباً على ما جاء آنفاً في الحث على الجهاد ـ وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب، ثمّ إنّ فيها ثناءً
على المهاجرين السابقين إِلى الهجرة، والصفوة من المؤمنين الصادقين.
وحيث سبّب انتشار الإِسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة، وتناولت بحوثاً متنوعة أُخرى كقصة هجرة النّبي، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإِسلامية كاليهود والنصارى، وما إِلى ذلك.
يُجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بُدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين، وإعلان الحرب عليهم، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم، وبيان غضب الله عليهم، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب; والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإِلهي.
وقد ورد هذا التعليل عن علي(عليه السلام)(1).
ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة ـ في الحقيقة ـ تتمة لسورة لأنفال، لأنّ الأنفال تتحدث عن العهود، وبراءة تتحدث عن نقض تلك العهود، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لإِرتباط بعضهما ببعض. وقد ورد عن الإِمام الصادق هذا المعنى أيضاً(2).
ولا مانع أن يكون السبب في عدم ذكر البسملة مجموع الأمرين آنفي الذكر ـ
1 ـ جاء في مجمع البيان عن الشيخ الطبرسي عن علي(عليه السلام) أنّه قال «لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة «براءة» لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان والسيف فيه!».
2 ـ قال الطبري نقلا عن الإِمام الصادق(عليه السلام) «الأنفال وبراءة واحدة!».
معاً ـ فالأوّل ناظر إِلى الرواية الأُولى «رواية الإِمام علي» والثّاني يشير إِلى رواية الإِمام الصادق(عليه السلام).
أولَتْ الرّوايات الإِسلامية أهميّة خاصّة لتلاوة سورتي براءة والأنفال، وممّا جاء في شأنهما عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال «من قرأ براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) حقّاً».
وقد قلنا مراراً: إنّ ما ورد من أهمية قصوى في الرّوايات الإِسلامية في قراءة مختلف السور لا يعني ظهور آثار تلك القراءة من دون تفكّر وتطبيق لمضامينها، فنقول مثلا: من قرأ سورتي براءة والأنفال دون إدراك لمعانيهما فسيُدرَأ عنه النفاق، ويكون من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، بل المراد في الحقيقة أن يكون مضمون السورة مؤثّراً في بناء شخصية الفرد والمجتمع، ولا يتحقق ذلك إلاّ بإدراك مغزى السو رة واستيعاب معناها، والإِستعداد والتهيؤ لتطبيقها.
وحيث أن السورتين قد أوضحتا الخطوط العريضة العامّة في حياة المؤمنين الصادقين ومن في قبالهم من المنافقين، وأنارتا الطريق للعاملين لا للمدّعين فحسب، فستكون ثمرة تلاوتهما والإِعتبار بمضمونيهما هو ما ذكرته الرواية وبهذا تكون التلاوة مؤثرة بنّاءَة.
وأمّا من ينظر إِلى القرآن وآياته الشريفة بشكل آخر، فهو أبعد ما يكون عن روح هذا الكتاب التربوي الذي جاء لبناء الإِنسانية وهدايتها.
وقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان الأهمية القصوى لما نوهنا عنه من لطائف، أنّه قال «نزلت عليّ براءة والتوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة، وكان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين».
من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريباً أنّه لما نزلت الآيات الأُولى من سورة براءة، وأُلْغَيَت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين، أمر النّبي أبابكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياً(عليه السلام)ليقوم بتبليغها، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة، إلاّ أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة:
1 ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل فلاناً «المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ» وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج، ثمّ أرسل عليّاً خلفه وأخذها منه وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه»(1).
2 ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضاً ـ وهو وعلى بُعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريباً، قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يبلغها إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي(عليه السلام)(2).
3 ـ وورد أيضاً في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال: يا رسول الله لست خطيباً، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا محيص عن ذلك، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها، فقال علي: إذا كان ولابدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك»(3).
4 ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه، عن زيد بن سبيع،
1 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 331، ط مصر.!
2 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 3، ص 212.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 150.
عن علي(عليه السلام)، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إِلى أهل مكّة، ثمّ بعث عليّاً خلفه ليأخذ الكتاب منه «يعني السورة» فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه، فعاد أبو بكر حزيناً أسيفاً، وقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا، إلاّ أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي»(1).
5 ـ وفي سند آخر أيضاً، عن عبدالله بن أرقم، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر بسورة براءة، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي علياً فلحقه وأخذ منه السورة، فذهب بها علي إِلى مكّة، فرجع أبو بكر إِلى النّبي متأثراً فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤدي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي»(2).
6 ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل، عن حَنَش، عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)، أنّه عندما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه، فعاد أبو بكر إِلى النّبي وقال: أنزل فيّ شيء؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال: لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك»(3).
7 ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(4).
8 ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقر(عليه السلام)) في تفسيره(5).
9 ـ وروى العلاّمة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السُنة الكبار، في «جامع الأُصول» عن الترمذي عن أنس بن مالك، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل سورة براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه، وقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلاّ رجل من أهلي»
1 ـ الخصائص ... للنسائي، ص 28.
2 ـ المصدر السّابق.
3 ـ تفسير ابن كثير، ج 2، ص 322.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ المصدر السابق.
فدعا علياً فأعطاه إيّاها(1).
10 ـ وروى محب الدين الطبري، في كتابه ذخائر العقبى، عن أبو سعيد أو أبي هريرة، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه، فجاء إِلى علي وقال: فيم جئت؟ فقال(عليه السلام): أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إِلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير «الرسالة» قال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني» يعني علياً(2).
وقد صرحت روايات أُخرى أنّ النّبي أعطى ناقته علياً ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبوبكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.
وهذا النص ـ مع ما ورد آنفاً ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّاً، لأهمية ما أُمر به.
وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسنداً تارةً، ومرسلا تارةً أُخرى، وهو من الأحاديث المتفق عليها، ولا يطعن فيه أبداً.
وطبقاً لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صُرف عن إبلاغ سورة براءة، جعل أميراً على الحاج بمكّة.
توضيح وتحقيق:
هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإِمام علي(عليه السلام)، إلاّ أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإِنصاف والحق، إذ يسعى بعضهم إِلى محوها ونسيانها كليّاً، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية:
1 ـ جامع الأصول، ج 9، ص 475.
2 ـ ذخائر العقبى، ص 69.
1 ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارةً ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميراً على الحاج، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال فيه(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يبلغها إلاّ أنا أو رجل منّي» يعني عليّاً(عليه السلام).
مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن علي(عليه السلام) ولا نأخذها بنظر الإِعتبار!!
فأُسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه، وأن لا يصدر عليها حكماً مسبقاً.
2 ـ ويقوم بعض المفسّرين تارةً بتضعيف سند الحديث، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك «كما فعله المفسّر آنف الذكر».
مع أّن هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان، بل له طرق شتي في كتبهم المعتبرة.
3 ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيهاً مثيراً، فيقولون: إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّاً، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحداً من أهله.
مع أنّه ورد التصريح عن النّبي:
أوّلا: من طرق متعددة، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أُمرت!...
ثانياً: إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): ينبغي أن تبلغ سورة براءة، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).
تُرى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجوداً يومئذ بين
المسلمين ! حتى يقول النّبي لعلي: إن لم تذهب فينبغي أن أذهب، لأنّه لا يبلغها عني إلاّ أنا أو رجل منّي؟!
ثالثاً: لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم!...
رابعاً: جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه» أو ما شابه ذلك.
وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّاً كنفسه، ويعد نفسه كعلي أيضاً. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.
ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانباً، وَجدنا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله هذا أبان أفضلية علي(عليه السلام) على جميع الصحابة (إنّه هذا إلاّ بلاغ).
* * *
بَرَآءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَـهَدتُّهم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ(1) فَسِيحُوا فِى الاَْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَـفِرِينَ(2)
كانت في المجتمع الإِسلامي ومحيطه طوائف شتى، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتخذ منها موقفاً خاصّاً يتناسب وموقفها منه.
فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيُّ عهد مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.
وطوائف أُخرى عاهدت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مُسمى.
وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإِسلام. أو حاولت اغتيال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.
الآية الأُولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافةً (براءة من الله ورسوله إِلى الذين عاهدتم من المشركين).
ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإِسلام، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام، أو يتهيأوا للمواجهة والقتال، فقالت: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر(1) واعملوا أنّكم غير معجزي الله وأنّ الله مخزي الكافرين).
* * *
نحن نعرف أنّ الإِسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والإِلتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين، وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!
ويتّضح الجواب بملاحظة الأُمور التالية:
أوّلا: كما صرّح في الآيتين (7) و(8) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربةً قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها، ومن المنطقي أنّه إذا رأى الإِنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده، ولديه قرائن على ذلك
1 ـ «سيحوا» فعل أمر مشتق من «السياحة» ومعناها الجولة الهادثة.
وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.
ثانياً: ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تُفرض في ظروف استثنائية على بعض الأُمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإِلغائها.
وعبادة الأصنام ليست عقيدةً ولا فكراً، بل هي خرافة ووهم باطل خطر، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإِنساني، فإذا كانت قوة عَبَدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيزة العربية، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مجبوراً على معاهدتهم ومصالحتهم، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.
وهذا يشبه تماماً ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر، فيقوم بعمل إعلامي كبير، وحين يواجه ضغوطاً شديدة يضطر إِلى عقد هدنة بينهم وعندما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإِزالة هذه الخرافة، والأفكار المنحطة، ويلغي معاهدته.
ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كانَ بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.
أضف إِلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر، وأُعلن هذا القرار في الملأ العام، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى، وفي البيت الحرام، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير، ولتحديد الموقف، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم وتشتتهم وجهلهم، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين
عن هذا القرار، فلم يسلبهم فرصة التفّكر، فإنّ لم يُسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للإِستعداد للمواجهة القتالية والحرب، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.
فلو لم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليرعى الأُصول الإِنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم; أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.
أجل، لو لم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!
ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أُولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّاً في التعاليم الإِسلامية حتى ثابوا إِلى رشدهم واعتنقوا الإِسلام.
هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال، إلاّ أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين، أي من يوم عيد الأضحى، وهو العاشر من شهر ذي الحجة، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.
ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في هذا الشأن «راجع تفسير البرهان، ج 2، ص 103».
* * *
وَأَذنٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاْسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَْكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم(3) إِلاَّ الَّذِينَ عَـهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَـهرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)
نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين، حتى أنّ تاريخ الإِلغاء قد أُعلن في هذه الآية إذ نقول: (وأذان من الله ورسوله إِلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه)(1).
1 ـ جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة: براءة من الله. وهناك إحتمالات أُخرى في تركيب الجملة «ونظمها»، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهوراً كما يبدوا.
وفي الحقيقة، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإِعلان العام في مكّة المكرمة، وفي ذلك اليوم العظيم، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء، ويقطع ألسنة المفسدين، لئلا يقولوا: إنّهم أستغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.
كما أنّ التّعبير بـ «إلى الناس» مكان أن يقال «إِلى المشركين» يَدل على وجوب إبلاغ هذا «الأذان» والإِعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم، ليكون غير المشركين شاهداً على هذا الأمر أيضاً.
ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إِلى المشركين أنفسهم ترغيباً وترهيباً، لعلهم يهتدون، إذ تقول الآية: (فإن تبتم فهو خير لكم).
أي أنّ الإِستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.
ثمّ إنّ الآية تُحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول: (وإن توليتم فاعلموا أنّكم غير معجزي الله). فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.
وأخيراً فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة: (وبشّرِ الذين كفروا بعذاب أليم).
وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأُولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره، لذلك فإنّ الآية استثنت قسماً منهم لوفائهم بالعهد، فقالت (إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحَداً فأتموا إليهم عهدهم إِلى مدتهم إنّ الله يحبّ المتقين).
* * *
اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى: (يوم الحج الأكبر) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين، روايات أهل البيت(عليهم السلام)وأهل السنة، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة «عيد الأضحى» وبتعبير آخر «يوم النحر».
وإنتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني «للسنة العاشرة»، وفقاً لما جاء في المصادر الإِسلامية، دليل آخر على هذا الموضوع: أضف إِلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(1).
وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين، [كما اعتادوا عليه في موسم الحج] إلاّ أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية «لمنع غير المسلمين من الحج».
وهناك تفسير آخر مضافاً إِلى التّفسير المذكور آنفاً وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.
وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإِسلامية، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاةً لهذه التسمية(2).
وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق، إلاّ أنّ
1 ـ جاء في تفسير نور الثقلين، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج2، ص184)
2 ـ وجاء في التّفسير المذكور آنفاً عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في جوابه لبعض أصحابه: الأكبر هويوم النحر والأصغر العمرة (ج 2، ص 186)
الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاً(عليه السلام) قد أُمر بإبلاغ أربع مواد إِلى الناس، وهي:
1 ـ إلغاء عهد المشركين.
2 ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.
3 ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعاً ومألوفاً حتى ذلك الوقت.
4 ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.
وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإِمام علياً خطب في موسم الحج ذلك العام فقال: «لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كان له مدة فهو إلى مدته، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر».
وفي بعض الرويات إشارة إِلى المادة الرّابعة، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(1).
يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر، وقد بقي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده وفيّاً، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإِسلام حيت إنتهت مدّتهم(2).
وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(3)
* * *
1 ـ جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.
2 ـ تفسير مجمع البيان، ج 5، ذيل الآية محل البحث.
3 ـ تفسير المنار، ج 10، ذيل الآية محل البحث.
فَإِذَا انسَلَخَ الاَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـمَ اللهِ ثمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ(6)
نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد إنتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1).
ثمّ يقول: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)(2).
1 ـ الفعل «انسلخ» مأخوذ من الإِنسلاخ ومعناه الخروج، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.
2 ـ المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.
ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم، محاصرتهم، أسرهم، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأُمور الأربعة ليست على نحو التخيير، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص، والعمل بما يناسب هذه الأمور، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها، وإلاّ فلا محيص عن قتالهم.
وهذه الشدّة متناغمة ومتوأئمّة مع منهج الإِسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها، وكما أشرنا إِلى ذلك سلفاً، فإنّ حرية الإِعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأُخرى على قبول الإِسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا تشمل عبدة الأوثان، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة، ولا ديناً كي تُلحظ بعين الإِحترام، بل هي تخلّف وخرافة وإنحراف وجهل، ولابدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.
وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم، بل لهم أن يثوبوا إِلى رشدهم ويعودوا إِلى سبيل الحق، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلّوا سَبيلَهُم).
وفي هذه الحال، أي عند رجوعهم نحو الإِسلام، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين، وسيكونون سواءً وإياهم في الحقوق والأحكام.
(فإنّ الله غفور رحيم). يتوب على عباده المنيبين إليه.
وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإِسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة، وليس هو الإِستثمار أو الإِستعمار وإمتصاص المال، أو الإِستيلاء على أراضي الآخرين، إذ تقول الآية: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
أي عليك أن تعامل من يلجأ اليك من المشركين برفق ولطف، وامنحه المجال
للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإِرادة والحرية، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.
![]() |
![]() |
![]() |