![]() |
![]() |
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الخامس
يبَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُورِى سَوْءَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26) يَـبَنِى ءَادَمَ لاَيَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُما لِبَاسَهُمـا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمآ إِنَّهُ يَرَيكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنا الشَّيطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَـحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28)
إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويراً واقعياً عن حياة جميع أفراد البشر على الارض، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم، وهي تعتبر في الحقيقة إستمراراً لبرامج آدم في الجنّة.
ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور مهم
في قصّة آدم، إذ يقول: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم).
ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءآت، بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه. (وريشاً).
وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها، لهذا أُطلِق على نوع من أنواع الألبسة، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال، هذا مضافاً إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سَرْج الفرس أو جهاز البعير.
وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضاً، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.
ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري، عن حدّ اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي، الظاهري والباطني إذ قال: (ولباس التقوى ذلك خير).
وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة، معبّرٌ جدّاً، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار، ويستر العيوب الجسمانية، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان، ومصدر جمال. كذلك روح التقوى، فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الانسان، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والإجتماعية، تعدّ زينة كبرى له ... زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً، وتزيدها جلالا وبهاءً.
ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى، وأنّه ما هو؟
فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» و بعض بـ «الحياء» و بعض بـ «لباس العبادة»، و بعض بـ « «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة، وحتى الترس، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضاً، كما نقرأ في سورة النحل الآية (81): (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم...).
ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مراراً ـ معنىً واسعاً في الغالب، ولها مصاديق متعددة ومختلفة، وفي الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ يمكن إستفادة جميع هذه المعاني منها.
وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و«العمل الصالح» وأمثالهما.
ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية: (ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم، سواء الألبسة المادية أو المعنوية، اللباس الجسماني أو لباس التقوى، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.
نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر: «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل، إذ يقول: (قد أنزلنا عليكم لباساً) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يُتَّخَذ من الصوف، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.
كما أننا نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وفي سورة الحديد الآية (35) (وأنزلنا الحديد). فماذا يعني هذا؟
يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من
فوق إلى تحت، مثلا يقولون: إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.
وفي مجال الحديد أيضاً يقولون: إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.
ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيراً، فيقال مثلا: أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه، أو يقال: رفعت شكواي إلى القاضي، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.
فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر، لهذا عُبّرَ عن هذا المفهوم بهذا اللفظ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.
ويُشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضاً، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّعِ بمقام مهمّ رفيع، فإنّنا نشير إليه بإسم الإشارة البعيد، فنقول في محاوراتنا مثلا: تلك الشّخصية، ونحن نقصد رجلا حاضراً قريباً، وقد جاء في القرآن الكريم: (ذلك الكتاب لا ريب منه). والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر، ولكن تعظيماً له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.
لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب، ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ و في الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ و القرّ وكذا للزينة والتجمل،
والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأُولى من الأهمية في كثير من الحقول، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء، وعمال المعادن والمناجم والغواصون، وغيرهم كثيرون، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.
لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلا، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.
يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا: «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ماوصلت إليه من الإتقان، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه، وأراد الخروج قدّموا له معطفاً ليلبسه تذكاراً لهذه الزيارة، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظِّفة، فغزلوه بآلات الغزل، فنسجوه بآلات النسج، ففصَّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(1)
ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة و تعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.
لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر، وإشاعة الفساد، وتحريك الشهوات، والتكبر والإسراف والتبذير، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني، وتكون أشبه بكل شيء إلاّ باللباس والثوب.
1 ـ المنار، ج8، ص 359.
والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة، هو أنّ للعُقد النفسية دوراً مهمّاً في إرتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم و ملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الاسلوب ويحاولون بإرتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من إرتداء مثل هذه الثياب.
وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّاً تهدر و تبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها و تبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الإجتماعية بها، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.
هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفداً من النصارى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جداً، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها، فلما حضروا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سلموا عليه، لم يردَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على سلامهم، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة، وأعرض عنهم، فلمّا سألوا عليّاً(عليه السلام) عن سبب إعراض النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال(عليه السلام) لهم: أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكم ثمّ تعودون إليه.
ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام(عليه السلام)، ثمّ دخلوا على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي بعثني بالحق لقد أتوني
المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم».(1)
الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره، ويدعو إلى مراقبته، والحذر منه، لأنّ الشيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى، ولهذا يقول تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشّيطان كما أخرج أبوبكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءتهما).
وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى)، وهذه الآيه تضمنت تحذيراً ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.
على أنّ ظاهر عبارة (لا يفتننكم الشيطان) هو نهي الشيطان عن هذا العمل، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقاً نحبه قائلين: لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة، أى راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.
ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) فلابدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدّو.
وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد، فإنّه من الممكن أن يكون حاضراً معك، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت، ولابدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.
وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال مهم،
1 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 4 ـ 5، مادة لبس.
فقد يتساءل أحد: كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان ... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟!
الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الإحتمالي إذ تقول: (إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون).
أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.
وبعبارة أُخرى: إنّ الخطوات الأُولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع إجتياز حدود الروح ويعبرها إلاّ بعد موافقة من الإنسان نفسه، فاذا أغلق الانسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.
إن الآيات القرآنية الأُخرى شاهدة أيضاً على هذه الحقيقة، ففي سورة النحل في الآية (100) نقرأ (إنّما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.
وفي الآية (47) من سورة الحجر نقرأ (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين).
وبعبارة أُخرى: صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه، إلاّ أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم، ففي كل مجلس معصية، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها، وعند طغيان الغرائز، وعند اشتعال لهيب الغضب، يكون حضور الشيطان حتمياً ومسلَّماً، وكأنَّ الإنسان
يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه، ويرى آثار قدمه بأُمّ عينيه.
وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ يقول:
«لما دعا نوحٌ ربّه عزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً! أُريد أن أكافئك عليها.
فقال نوح: إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد، فما هي؟
قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم، فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.
فقال نوح: ما الذي تريد أن تكافيني به؟
قال: أُذكرني في ثلاثة مواطن، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن:
اُذكرني إذا غضبتَ؟
واُذكرني إذا حكمت بين اثنين!
واُذكرني إذا كنتَ مع امرأة خالياً ليس معكما أحد!»(1).
النقطة الأُخرى التي يجب الإنتباه إليها هنا، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غيرقابل للرؤية للإنسان مطلقاً، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحياناً.
ولكن الظاهر أنّ هذين الإتجاهين غير متعارضين، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يُرى، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات، فلا تناف.
في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي
1 ـ بحارالانوار، الطبعة الجديدة، الجزء 11، الصفحة 318.
تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضاً، وهي أنّه عندما يُسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحاً، عن دليله يجيب قائلا: هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا).
ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أُخرى قائلين: (والله أمرنا بها).
إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء، بالإضافة إلى الإفتراء على الله، عذران مختلفان، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالباً.
والملفت للنظر أنَّ القرآن الكريم لم يَعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به، وكأنّه وجد نفسه في غنىً عن الرّدّ عليه وإبطاله، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه، هذا مضافاً إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال: (قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء).
إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله، فإنّه تعالى لا يأمر إلاّ بالمعروف والخير(1).
ثمّ يختم الآية بهذه العبارة: (أتقولون على اللّه ما لا تعلمون).
ورغم أنّ الأنسب أن يقول: لماذا تنسبون ما هو كذب و ليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك: لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استناداً الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر، فيقال: إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلام، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته، فلماذا تتهمون الله و تقولون على الله ما لا تعلمون؟!.
1 ـ راجع سورة البقرة، 268 و 269.
ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين: إنّها إشارة إلى تقليد كان سائداً بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عرياناً «رجالا ونساءً» ظناً منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.
على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.
ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.
ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوماً واسعاً إذ قالوا: إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنىً واسعاً سعة معنى الكلمة، ومسألة «الطواف بالبيت عرياناً» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.
هذا وقد أعطينا توضيحاً كافياً حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (170) من سورة البقرة.
* * *
قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكَمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ إِنَّهُمُ اًتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أؤْلِيَآءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ (30)
حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوماً كلّ أنواع الفعل القبيح، وتأكَّدَ أنّ الله يأمر بالفحشاء اطلاقاً لهذا أُشير في هذه الآية إلى أصول ومبادىء التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية، أي المبدأ والمعاد، بصورة مختصرة موجزة.
يقول أوّلا: أيها النّبي (قل أمر ربي بالقسط) والعدل.
ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله، ووضع كل شيء في محلّه.
ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتاً، إذ تطلق «العدالة» ويراد منها
إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.
وبعبارة أُخرى: أن لا يرضى بالتبعيض، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.
ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين، متساو تقريباً، وهما يعنيان رعاية الإعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.
ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه، إذ قال: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه، (وادعوه مخلصين له الدين).
وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة، إذ قال: (كما بدأكم تعودون).
* * *
هنا نقطتان يجب الإلتفات إليهما والوقوف عندهما:
ذكر المفسّرون في تفسير (أقيموا وجوهكم عند كل مسجد) تفاسير متنوعة، فتارة قالوا: المراد هو التوجه صوب القبلة.
وأُخرى: إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.
وثالثة احتملوا أيضاً أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.
ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله، ومحاربة كل ألوان
الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضاً.
لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيراً، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمراً صعباً وعسيراً بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحياناً من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون: (افترى على الله كذباً أم به جنّة)(1).
ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم، هو مسألة المعاد الجسماني، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها تراباً، و تبعثر ذراتها بفعل الرياح والاعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار، ومن بين ثنايا ذرات الهواء، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أُخرى.
إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطيء، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال، إذ تقول: أُنظروا إلى بداية الخلق، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.
1 ـ سورة سبأ، 8.
وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأُولى تجتمع تلك الذرّات ثانية، وتتواصل و تترابط ويتشكل الجسم الأوّل، فلو كان هذا الأمر محالا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة.
إذاً «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.
في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول: (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضّلالة).(1)
ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب، أضاف في الجملة ما يلي: (أنّهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله، فضلوا.
والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وإنحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون (ويحسبون أنّهم مهتدون).
إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية، وكان انغماسهم في الفساد، والضلال والإنحراف، والوثنية، كبيراً إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأساً على عقب، فحسبوا القبيح حسناً، والضلالات هداية، وفي هذه الحالة أُغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.
* * *
1 ـ جملة «فريقاً هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي: فريقاً مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين، وفريقاً (الثّانية) مفعول مقدم.
وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».يَـبَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَتُسْرِفُوا إِنَّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبـتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيا خَالِصَةً يَومَ الْقِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ (32)
الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة، وكيفية الإستفادة الصحيحة منها.
في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي، يشمل جميع الأعصار والقرون، أن يتخذوا زينتهم عندما يذهبون إلى المساجد (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).
هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة، ومشط الشعر، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضاً أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات
الإنسانية والملكات الأخلاقية، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.
وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة، فإنّ ذلك لا يدل على الإنحصار، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(1).
وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أُخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(2)، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.
وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان، إلاّ أنّه ينطوي ضمناً على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراةً من دون ساتر يستر عوراتهم، كما أنّه يتضمن ـ أيضاً ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثياباً وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين، في حين أننا مكلّفون ـ طبقاً للآية الحاضرة، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.
ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أُخرى، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة، ويقول: (وكلوا واشربوا).
ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية، يمكن أن يسيء
1 ـ للإطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نورالثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19.
2 ـ المصدر السابق.
استخدام هذين التعليمين، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ، لهذا أضاف مباشرة قائلا: (ولا تسرفوا إنّ الله لا يحبّ المسرفين).
وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّاً بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة، فهو عند الحث على الإستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فوراً من سوء إستخدامها، ويوصي برعاية الإعتدال.
وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ ـ بلهجة أكثر حدّةً ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد، وسبباً للتقرب إلى الله فيقول: أيّها النّبي (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟
إذا كانت هذه الأُمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق، وبين التعاليم الدينية؟!
ثمّ أضاف للتأكيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة، وإن كان الآخرون ـ أيضاً ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط، ويحرم منها الآخرون حرماناً كليّاً.
وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ إنّ الحرام هو ما يورث مفسدة، لا ما هو نعمة وموهبة.
هذا وقد احتمل أيضاً في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا، إلاّ أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).
وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد: (كذلك نفصل الآيات لقوم يَعْلَمون).
لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والإستفادة من أنواع الزينة، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والإستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد، ولا كما يتصور المفرطون في إستعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.
ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماماً مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما، واحتياجاتهما الذاتية.
توضيح ذلك: إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة، والتي تشكل مضافاً إلى غريزة حب الخير، وغريزة حب الإستطلاع، وغريزة التّدين، الأبعاد الأصيلة في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية، والصناعات الجميلة، والفن بمعناه الواقعي، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.
![]() |
![]() |