فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو، وترك الجيشين على حالهما، ولم يحمِ المسلمين لغرورهم ـ مؤقتاً ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلاّ أنّ عليّاً حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم، وفيهم عمه العباس، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.

فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فوراً: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إِلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

[576]

فلّما سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا: لبيّك لبيّك، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة، وتقدّموا بأذن الله ونصره، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مئة شخص من هوازن، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(1).

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم، وأبدى لهم النّبي صفحه وحُبّه، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضاً.

والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين باديء الأمر ـ بالإِضافة إِلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثاً وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعاً، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم، وجماعة منهم كانوا بلا هدف، فأثر فرار هولاء في بقية الجيش.

أمّا السرّ في إنتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) وجماعة قليلة من الأصحاب، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إِلى لطفه الخاص ونصره.

2 ـ من هم الفارّين

ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّت باديء الأمر من ساحة المعركة، وما تبقى منهم كانوا عشرةً فحسب، وقيل أربعة عشر شخصاً، وأقصى ما أوصل عددُهم المؤرخون لم يتجاوزوا مئة شخص.

ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة، فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمراً طبيعياً.


1 ـ مجمع البيان، ج 5، ص 17 ـ 19.

[577]

يقول صاحب تفسير المنار ما ملَخصُه: لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة، وفيهم المنافقون وضعاف الإِيمان والطامعون «للغنائم» ففرّ هؤلاء جميعاً وتقهقروا إِلى الخلف، فاضطرب باقي الجيش طبعاً، وحسب العادة ـ لا خوفاً ـ فقد فرّوا أيضاً، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضاً ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه، حتى يستحقوا غضب الله!!(1)

ونحن لا نعلّق على هذا الكلام، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.

كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ «صحيح البخاري» حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي:

فإذا عمر بن الخطاب في الناس، وقلت: (الراوي): ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثمّ تراجع الناس إِلى رسول الله(2).

غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة، وإلتفتنا إِلى القرآن الكريم، وجدناه لا يذم جماعةً بعينها، بل يذم جميع الفارين.

ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى (ثمّ وليتم مدبرين) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث، وبين عبارة أُخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول (ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إِلى فئة فقد باء بغضب من الله)؟!

فبناءً على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إِلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين إرتكبوا خطأً كبيراً يومئذ إلاّ القليل منهم، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.

3 ـ الإِيمان والسكينة


1 ـ راجع تفسير المنار، وأقرار التفصيل فيه، ج 1، الصفحات 262 و 263 و 265.

2 ـ المصدر السابق.

[578]

السكينة في الأصل مأخوذة من السكون، وتعني نوعاً من الهدوء أو الإِطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والإِستيحاش عن الإِنسان، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإِيمان، أي أنّ السكينة وليدة الإِيمان، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.

وما نراه من تفسير السكينة بالإِيمان في بعض الرّوايات(1)، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(2) كل ذلك ناظر إِلى هذا المعنى.

ونقرأ في القرآن في الآية (4) من سورة الفتح قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)

وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإِنسان أن يهضم الحوادث الصعبة، وأن يحس في نفسه عالماً من الدعة والإِطمئنان برغم كلّ ما يراه.

وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول: ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم)، بل تقول الآية (على رسوله وعلى المؤمنين) وهي إشارة إِلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهماً من السكينة والإِطمئنان، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.

ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(3)، فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه


1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 114.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص201.

3 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 112.

[579]

 إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة وإطمئنان، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.

وكان نزول السكينة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفاً ـ لرفع الإِضطراب الناشيء من فرار أصحابه من المعركة، وإلاّ فهو كالجبل الشامخ الركين، وكذلك ابن عمّه علي(عليه السلام) وقلة من أصحابه (المسلمين).

4 ـ في الآيات محل البحث إشارة إِلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!

هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه، التي أسهم فيها(صلى الله عليه وآله وسلم) شخصيّاً، وقاتل الأعداء، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضراً في المعركة.

إلاّ أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّها تبلغ الثمانين غزوةً.

وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيراً إن هو عوفي من مرضه «ويقال أنّه قد سُمَّ»، فلما عُوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإِيفاء نذره، فلم يعرفوا للمسألة جواباً. وأخيراً سأل الخليفة العباسي الإِمام التاسع محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) فقال: «الكثير ثمانون».

فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإِمام بالآية (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ثمّ قال: عددنا حروب النّبي التي إنتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(1).

5 ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درساً بليغاً، هو أن ينظروا إِلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 197.

[580]

بكثرة العَدَد أو العُدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئاً، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإِرادة والتصميم، حتى لو كانوا قلةً.

كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إِلى إنتصار على العدو وكانت الكثيرة باديء الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإِيمان تماماً.

فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية، لتكون قلوبهم مركزاً للسكينة الإِلهية، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.

* * *

[581]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَيَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)

التّفسير

لايحقُّ للمشركين أنْ يَدخُلُوا المسجد الحَرَام:

قلنا: إن واحداً من الأُمور الأربعة التي بلّغها الإِمام علي(عليه السلام) في موسم الحج في السنة التاسعة للهجرة، هو أنّه لا يحق لأحد من المشركين دخول المسجد الحرام، أو الطواف حول البيت، فالآية محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع وحكمته، فتقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).

وهل الآية هذه دليل على نجاسة المشرك بالمفهوم الفقهي، أو لا؟!

هناك كلام بين الفقهاء والمفسّرين، ومن أجل تحقيق معنى الآية يلزمنا التحقيق في كلمة «نجس» قبل كل شيء...

«النَجَس» على زنة «الهَوس» كلمة ذات معنى مصدري، وتأتي للتأكيد والمبالغة والوصف.

يقول الراغب في مفرداته: إنّ النجاسة والنجس يطلقان على كل قذارة، وهي

[582]

على نوعين: قذارة حسية، وقذارة باطنية.

ويقول الطبرسي في مجمع البيان: كل ما ينفر منه الإِنسان يقال عنه: إنّه نجس.

فلذلك فإنّ كلمة نجس تستعمل في موارد كثيرة ـ حتى في ما لا مفهوم للنجاسة الظاهرية فيه ـ فمثلا يسمّي العرب الأمراض الصعبة المزمنة أو التي لا علاج لها بـ «النجس» كما يطلق على الشخص الشّرير، أو الساقط خُلقياً، أو الشيخ الهرم، أنّه نَجس.

ومن هنا يتّضح أنّه مع ملاحظة ما جاء في الآية ـ محل البحث ـ لا يمكن الحكم بأنّ إطلاق كلمة نجس على المشركين تعني أن أجسامهم قذرة كقذارة البول والدم والخمر وما إِلى ذلك أو لعقيدتهم «الوثنية» فهي قذارة باطنية، ومن هنا لا يمكن الإِستدلال بهذه الآية على نجاسة الكفار، بل ينبغي البحث عن أدلة أُخرى.

ثمّ تعقب الآية على ذوي النظرة السطحية الذين كانوا يزعمون بأن المشركين إذا انقطعوا عن المسجد الحرام ذهبت تجارتهم وغدوا فقراء معوزين فتقول (وإن خفتم علية فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء).

كما فعل ذلك سبحانه على خير وجه، فباتساع رقعة الإِسلام في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ سيل الزائرين يتجه نحو بيت الله في مكّة، وما زال هذا الأمر مستمراً حتى عصرنا الحاضر حيث أصبحت مكّة في أحسن الظروف فهي بين سلسلة جبال صخرية لا ماء فيها ولا زرع، لكنّها مدينة عامرة، وقد صارت بإذن الله مركزاً مهماً للبيع والشراء التجارة.

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (إن الله عليم حكيم) فكل ما يأمركم به الله فهو وفق حكمته، وهو عليم بما سيؤول إليه أمره من نتائج مستقبلية، وهو خبير بذلك.

* * *

[583]

الآية

قَـتِلُوا الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَـغِرُونَ(29)

التّفسير

مسؤوليتنا إزاء أهل الكتاب:

كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أمّا الآية ـ محل البحث (وما يليها من الآي) ـ فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب.

وفي هذه الآيات جعل الإِسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّاً وسطاً بين المسلمين والكفار، لأنّ أهل الكتاب من حيث اتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين، إلاّ أنّهم من جهة أُخرى لهم شبه بالمشركين أيضاً.

ولهذا فإنّ الإِسلام لا يجيز قتلهم، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من لكرة الأرضية، غير أنّ الإِسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم أهل الكتاب

[584]

الإِسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد.

والعلامة الأُخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إِلى الحكومة الاسلامية مبلغاً قليلا من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء الله.

وفي غير هذه الحال فإنّ الإِسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث:

إذ تقول الآيه أوّلا: (قاتلو الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر).

لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب ـ كاليهود والنصارى ـ بالله وباليوم الآخر، مع أننا نراهم في الظاهر يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد أيضاً؟

والجواب: لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام، أمّا في مسألة الإِيمان بالمبدأ وحقيقة التوحيد، فلأنّه:

أوّلا: يعتقد طائفة من اليهود ـ كما سنرى ذلك في الآيات المقبلة ـ أن عزيراً ابن الله، كما يتعقد المسيحيون عامّة بألوهية المسيح والتثليث [الله والابن وروح القدس].

وثانياً: كما يُشار إليه في الآيات المقبلة، فانّ كلاّ من اليهود والنصارى مشركون في عبادتهم، ويعبدون أحبارهم ـ عمليّاً ـ ويطلبون منهم العفو والصفح عن الذنب، وهذا ممّا يختصّ به الله، مضافاً إِلى تحريف الأحكام الإلهية بصورة رسمية.

وأمّا إيمانهم بالمعاد فإيمان محرّف، لأنّ المعاد كما يستفاد من كلامهم منحصر بالمعاد الروحاني، فبناءً على ذلك فإنّ إيمانهم بالمبدأ مخدوش، وإيمانهم بالمعاد كذلك.

ثمّ تشير الآية إِلى الصفة الثّانية لأهل الكتاب، فتقول: (ولا يحرمّون ما حرم

[585]

الله ورسولُه).

ومن الممكن أن يكون المراد من كلمة «رسوله» نبيّهم موسى أو عيسى(عليهما السلام)، لأنّهم لم يكونوا أوفياء لأحكام دينهم، وكانوا يرتكبون كثيراً من المحرمات الموجودة في دين موسى أو عيسى، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل كانوا يحكمون بحليتها أحياناً.

ويمكن أن يكون المراد من «رسوله» نبيَّ الإِسلام محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنّما أمر المسلمون بمقاتلة اليهود والنصاري وجهادهم إيّاهم، لأنّهم لم يذعنوا لما حرّمه الله على يد نبيّه، وارتكبوا جميع أنواع الذنوب.

وهذا الإِحتمال يبدو أقرب للنظر، والشاهد عليه الآية (33) من هذه السورة ذاتها، وسنقف على تفسيرها قريباً، إذ تقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ).

أضف إِلى ذلك حين ترد كلمة (رسوله) في القرآن مطلقةً فالمراد منها النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو سلّمنا بأنّ المراد من (رسوله) هنا نبيّهم، فكان ينبغي أن تكون الكلمة (تثية) أو جمعاً، كما جاء في الآية (13) من سورة يونس (وجاءتهم رسلهم بالبيّنات) ونظير هذا التعبير في القرآن ملحوظ

ويمكن أن يقال: إنّ الآية في هذه الصورة ستكون من باب تحصيل الحاصل أو توضيح الواضح، لأن من البديهي أن غير المسلمين لا يحرمون ما حرمه الإِسلام.

لكن ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ المراد من هذه الصفات هو بيان علة جواز جهاد المسلمين اليهود ومقاتلتهم إيّاهم. أي يجوز أن تجاهدوا اليهود والنصارى ـ لأنّهم لا يحرمون ما حرم الإِسلام إرتكبوا كثيراً من الآثام ـ إذا واجهوكم وخرجوا عن كونهم أقلية مسالمة.

[586]

وتذكر الآية الصفة الثّالثة التي كانوا يتصفون بها فتقول: (ولا يدينون دين الحق).

ويوجد إحتمالان في هذه الجملة أيضاً، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد من دين الحق هو دين الإِسلام المشار إليه بعد بضع آيات.

وذكر هذه الجملة بعد عدم اعتقادهم بالمحرمات الإِسلامية، هو من قبيل ذكر العام بعد الخاص، أي أن الآية أشارت أوّلا إِلى إرتكابهم لمحرمات كثيرة، وهي محرّمات تلفت النظر كشرب الخمر والربا وأكل لحم الخنزير، وإرتكاب كثير من الكبائر التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.

ثمّ تقول الآية: إن هؤلاء لا يدينون بدين الحق أساساً، أي أن أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل، فنسوا كثيراً من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها، فعليهم أن يتقبلوا الإِسلام، وأن يعيدوا بناء أفكارهم من جديد على ضوء الإِسلام وهداه، أو يكونوا مسالمين ـ على الأقل ـ فيعيشوا مع المسلمين، وأن يقبلوا شروط الحياة السلمية مع المسلمين.

وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي في الحقيقة المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب، تقول الآية (من الذين أوتوا الكتاب).

وكلمة «من» في الآية بيانية لا تبعيضية، وبتعبير آخر: إنّ القرآن يريد أن يقول: إن أهل الكتاب السابقين ـ وللأسف ـ لا يدينون بدين الحق وانحرفوا عن المعتقدات الصحيحة، وهذا الحكم يشملهم جميعاً.

ثمّ تبيّن الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم، بالجملة التالية (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).

«والجزية» مأخوذة من مادة الجزاء، ومعناها المال المأخوذة من غير المسلمين الذين يعيشون في ظلّ الحكومة الإِسلامية، وهذه التسمية لأنّها جزاء حفظ أموالهم وأرواحهم (هذا ما يستفاد من كلام الراغب في مفرداته فلا بأس

[587]

بمراجعتها).

«والصاغر» مأخوذ من «الصِغَر» على زنة «الكِبَر» وخلاف معناه، ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أن الجزية ينبغي أن تُدفع في حال من الخضوع للإِسلام والقرآن.

وبتعبير آخر: هي علامه الحياة السلمية، وقبول كون الدافع للجزية من الأقلية المحفوظة والمحترمة بين الأكثرية الحاكمة.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المراد من الجزية في الآية هو تحقير أهل الكتاب وإهانتهم والسُخر منهم، فلا يستفاد ذلك من المفهوم اللغوي لكلمة الآية، ولا ينسجم وروح تعاليم الإِسلام السمحة، ولا ينطبق مع سائر التعاليم أو الدستور الذي وصلنا في شأن معاملة الأقليات.

وما ينبغي التنويه به هنا هو أنّ الآية وإن ذكرت شرط «الجزية» من بين شروط الذمة فحسب، إلاّ أن التعبير بـ(هم صاغرون) إشارة إجمالية إِلى سائر شروط الذمّة، لأنّه يستفاد من هذه الجملة بأنّهم ـ مثلا ـ يعيشون في محيط إسلامي، فليس لهم أن يظاهروا أعداء الإِسلام، ولا يكون لهم إعلام مضاد للإِسلام، ولا يقفوا حجر عثرة في رقيه وتقدمه، وما إِلى ذلك، لأنّ هذه الأُمور تتنافى وروح الخضوع والتسليم للإِسلام والتعاون مع المسلمين.

ما هَي الجزية؟!

تُعدّ الجزية ضريبةً مالية «إسلامية» وهي تتعلق بالأفراد لا بالأموال ولا بالأراضي، أو بتعبير آخر: هي ضريبة مالية سنوية على الرؤوس.

ويعتقد بعضهم أنّها ليست من أصل عربي، بل هي فارسية قديمة وأصلها «كزيت» ومعناها الأموال التي تؤخذ للدعم العسكري، أو ما يصطلح عليه في عصرنا بـ «المجهود الحربي». لكن الكثير يعتقدون أن هذه الكلمة «الجزية» عربية

[588]

خالصة.

وكما ذكرنا آنفاً فهي مأخوذة من الجزاء، لأنّ الضريبة التي تدفع، إنّما هي جزاء الأمن الذي توفره الحكومة الإِسلامية للأقليات المذهبية.

والجزية، كانت قبل الإسلام، ويعتقد بعضهم أن أوّل من أخذ الجزية هو كسرى أنوشروان الملك الساساني، ولو لم نسلّم بأنّه الأوّل فلا أقل من أن أنوشروان كان يأخذ من أبناء وطنه الجزية، وكان يأخذ ممن لم يكن موظفاً في الدولة وعمره أكثر من عشرين عاماً وأقل من خميس عاماً، مبلغاً سنوياً يتراوح بين 12 و8 و6 و4 درهم، على أنّه ضريبة سنوية على كل فرد.

وذكروا أن فلسفة هذه الضرائب أو حكمتها هي الدفاع عن موجودية الوطن واستقلاله وأمنه، وهي وظيفة عامّة على جميع الناس، فبناءً على ذلك متى ما قام جماعة فعلا بالمحافظة على الوطن ولم يستطع الآخرون أن يجندوا أنفسهم للدفاع عن الوطن، لأنّهم يكتسبون ويتّجرون ـ مثلا ـ فإن على الجماعة الثّانية أن تقوم بمصارف المقاتلين فتدفع ضرائب سنوية للدولة.

وما لدينا من القرائن يؤيد فلسفة الجزية ... سواء قبل الإِسلام أو بعده.

فمسألة السنّ في من يعطي الجزية في عصر أنوشروان الذي ذكرناه آنفاً «وهي أنّ الجزية تقع على من عمره عشرون عاماً إِلى خميس عاماً» دليل واضح على هذا المطلب، لأنّ أصحاب هذه المرحلة، من العمر كانوا قادرين على حمل السلاح والمساهمة في الحفاظ على أمن البلاد، إلاّ أنّهم كانوا يدفعون الجزية لأعمالهم وكسبهم.

والشاهد الآخر على ذلك أنّه لا تجب الجزية «في الإِسلام» على المسلمين، لأنّ الجهاد واجب عليهم جميعاً، وعند الضرورة يجب على الجميع أن يتجهوا نحو ساحات القتال ليقفوا بوجه العدوّ، إلاّ أنّه لما كانت الأقليات المذهبية في حلٍّ من أمر الجهاد، فعليها أن تدفع المال مكان الجهاد، ليكون لهم نصيب في الحفاظ على

[589]

أمن الوطن الذي يتمتعون بالحياة فيه.

ثمّ إن سقوط الجزية عن الأطفال والشيوخ والمقعدين والنساء والعُمي، دليل آخر على هذا الموضوع.

ممّا ذكرناه يتّضح أن الجزية إعانة مالية فحسب، يقدمها أهل الكتاب إزاء ما يتحمله المسلمون من مسؤولية في الحفاظ عليهم وعلى أموالهم.

فبناء على ذلك فإنّ من يزعم أنّ الجزية نوع من أنواع حق التسخير، لم يلتفت إِلى روحها وحكمتها وفلسفتها، وهي أن أهل الكتاب متى دخلوا في أهل الذمة فإنّ الحكومة الإِسلامية يجب عليها أن ترعاهم وتحافظ عليهم وتمنعهم من كل أذى أو سوء. وهكذا فإنّ أهل الذمة عند دفعهم الجزية، بالإِضافة إِلى التمتع بالحياة مع المسلمين في راحه وأمان فليس عليهم أي تعهد من المسامهة في القتال مع المسلمين وفي جميع الأُمور الدفاعية ـ ويتّضح أن مسؤوليتهم إزاء الحكومة الإِسلامية أقل من المسلمين بمراتب.

أي أنّهم يتمتعون بجيمع المزايا في الحكومة الإِسلامية بدفعهم مبلغاً ضئيلا، ويكونون سواءً هم والمسلمون. في حين أنّهم لا يواجهون الأخطار ومشاكل الحرب.

ومن الإدلة التي تؤيد فلسفة هذا الموضوع، أنّه في المعاهدات التي كانت ـ في صدر الإِسلام بين المسلمين وأهل الكتاب في شأن الجزية، تصريح بأنّ على أهل الكتاب أن يدفعوا الجزية، وفي قبال ذلك على المسلمين أن يمنعوهم (أي يحفظوهم) وأن يدافعوا عنهم اذا داهمهم العدو الخارجي.

وهذه المعاهدات كثيرة، ونورد مثلا منها، وهي المعاهدة التي تمت بين خالد بن الوليد مع المسيحيين الذين كانوا يقطنون حول «الفرات»:

[590]

نص كتاب المعاهدة:

«هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذّمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية وإلاّ فلا، كتب سنة اثنتى عشرة في صفر »(1).

والذي يسترعي النظر هو أننا نقرأ في هذه المعاهدة وأمثالها أنّه متى ما قصّر المسلمون في الحفاظ على أهل الذمة أو لم يمنعوهم، فالجزية تعاد إليهم أو لا تؤخذ منهم عندئذ أصلا.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الجزية ليس لها مقدار معين وميزانها بحسب استطاعة من تجب عليهم، غير أنّ المستفاد من التواريخ أنّها عبارة عن مبلغ ضئل قد لا يتجاوز الدينار(2) في السنة، وربّما قُيد في المعاهدة أن على دافعي الجزية أن يدفعوا بمقدار استطاعتهم جزيةً.

ومن جميع ما تقدم ذكره يتّضح أنّ جميع ما أثير من شبهات أو إشكالات في هذا الصدد، باطل لا إعتبار له، ويثبت أن هذا الحكم الإِسلامي حكم عادل ومنصف.

* * *


1 ـ نقلا عن تفسير المنار، ج 10، ص 294.

2 ـ من المناسب أن أشير إِلى أن المقصود بالدينار ليس هو الدينار المتعارف بينا كالدينار العراقي أو الدنيار الأردني أو الدينار الكويتي وهلّم جراً، بل هو الدينار الذهبي الذي يعادل مثقالا ونصف أو أدنى من ذلك بقليل.