التّفسير

المشركون والمنافقون ووساوس الشّيطان:

مرّة أُخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي

[453]

تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.

فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.

وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين، فتبدأ بالقول: (وإذ زيّن لهم الشّيطان أعمالهم).

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائياً من جميع الجهات، ويراه منطقياً نبيلا.

ثمّ تقول الآية: (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم).

ولن آلوَ جهداً في الدفاع عنكم، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه، وأُلازمكم ملازمة الظل للشاخص.

كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ اليها من اصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أُوتيت من قوّة.

فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.

ثمّ تقول الآية: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنّي بريء منكم).

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقهري بدليلين هما:

أوّلا قوله: (إنّي أرى ما لا ترون).

فإنّه يرى آثار النصر جيداً في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها سمات اللطف الإِلهي والإِمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم، فمن الطبيعي أن يتراجع عندما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبية.

[454]

والثّاني قوله: (إنّي أخاف الله).

فإنّ الجزاء الإِلهي ليس أمراً يسيراً يمكنه أن يقف بوجهه، بل إنّه هو العذاب الأليم (والله شديد العقاب).

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسداً لهم؟

جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إِلى قلوب المشركين، وقوله لهم في ساحة معركة بدر، وكيفية حصول ذلك، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين:

1 ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم، إلاّ أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين، والحوادث الإِعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم، أحسوا بالإِنكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبداً سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإِلهي والعذاب الشديد.

2 ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإِنسان، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيراً: إنّ قريشاً عندما قررت التحرك والمسير نحو بدر، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر، وأنّهم سينتصرون، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عندما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.

وقالت قريش بعد عودتها لمكّة: إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش، فوصل الخبر إِلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك، وعندما قصّ عليه بعضهم ما كان منه

[455]

في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأُمور شيء أبداً، فُعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(1).

ودليل الطائفة الأُولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.

بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبداً، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مجي، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إِلى دار الندوة، وإضافة إِلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأُمور والقضايا الجماعية، فإنّ سلسلة من الإِمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم، وهي تظهر في مختلف الصور، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.

وتشير الآية بعدها إِلى روحيّة جماعة ممن يميلون إِلى الشرك في ساحة بدر، فتقول: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم). حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإِمداد الإِلهي أنكروا تلك الحقائق البينة، لأنّه كما تقول الآية المباركة: (ومن يتوكل على الله فإنَّ الله عزيز حكيم).

وقد اختلف المفسّرون في المراد من (المنافقين) و(الذين في قلوبهم مرض)ولا يُستبعد أن تكون العبارتان تشيران إِلى المنافقين في المدينة، لأنّ القرآن الكريم عندما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)(2).


1 ـ نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين، وسائر التفاسير، ذيل الآية.

2 ـ البقرة، 10.

[456]

فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة، وكانوا يظهرون الإِسلام والإِيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإِيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إِلى المدينة وانضموا في معركة بدر إِلى صفوف المشركين، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا: إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إِلى هذه الساحة.

وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.

وتجّسد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم، فتتوجه بالخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).

ومع أنّ الفعل «ترى» فعل مضارع، لكنّه مع وجود «لو» يدل على الماضي، فتكون الآية إشارة إِلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إِلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلاّ أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقاً ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يُمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.

و(عذاب الحريق) إشارة إِلى جزاء يوم القيامة وعقابه، وقد جاء هذا التعبير في آيات أُخرى من القرآن كالآية (22) من سورة الحج، والآية (10) من سورة المعارج بالمعنى ذاته... .

ثمّ يقال لأُولئك: (ذلك بما قدمت أيديكم).

والتعبير بـ«أيديكم» إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإِنسان يجريها بالإِستعانة

[457]

باليّد، وإلاّ فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول: (وإِنّ الله ليس بظلام للعبيد).

ومصطلح «الظلاّم» صيغة مبالغة، ومعناها شديد الظلم، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.

* * *

[458]

الآيات

كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِأَيَـتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيُّروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53) كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآءَ الَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـلِمِينَ(54)

التّفسير

سنّةُ الله تقبل التغيير والتبديل:

في هذه الآيات إشارة إِلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأُمم والمجتمعات، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمراً استثنائياً، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قوي شديد العقاب).

[459]

فبناءً على هذه فإن قريشاً والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإِنسانية، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما إقترفوه، بل أنّ ذلك قانون دائم، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى  منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وبعبارة أُخرى: إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق، لكنّها تبلغُ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئاً بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأُمم، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والإِستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه، بالإِفادة منها إفادةً صحيحة، فإنّ الله سبحانه سيثّبت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والإِنحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إِلى بلاء ومصيبة، بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلاّ فإنّ النعماء الإِلهية لا تزول! ...

وتعقيباً على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إِلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضاً.

الجواب على سؤال:

قد يرد هنا سؤالٌ وهو: لِمَ تكررت عبارة (كدأب آل فرعون)

في الآي بفاصلة قليلة مرّتين، ومع إختلاف يسير في التعبير؟!

وللإِجابة على هذا التساؤل ينبغي الإِلتفات إِلى لطيفة، وهي أنّه بالرغم من أنّ

[460]

التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أُصول البلاغة، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقاً مهماً يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأُولى تشير إِلى الجزاء الإِلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.

إلاّ أنّ الآية الثّانية تشير إِلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية، مثل الإِنتصارات والأمن والقدرات وما يُفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.

ففي الحقيقة أنّ جانباً من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.

* * *

ملاحظتان

1 ـ أسباب حياة الشعوب وموتها

يعرضُ التأريخ لنا شعوباً وأُممّا كثيرة، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة، ووصلت طائفة ثانية إِلى أسفل مراحل الإِنحطاط، وطائفة ثالثة عاشت يوماً في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة، ثمّ قويت في يوم آخر، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إِلى قعر وديان الذلة والضياع.

والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إِلى أسباب وهمية وخيالية.

ويرجعوها آخرون إِلى حركة الأفلاك ودورانها إيجاباً وسلباً.

وأخيراً فإنّ بعضهم لجأ إِلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحّرف، أو إِلى مسائل حسنِ الطالع والحظ وعدمهما، وما شابه ذلك، فيرجعون كل الحوادث

[461]

الحسنة أو المرّة إِلى هذه الأُمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأُمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول: لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين، ولا وراء الأوهام والخيال، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم، وفي نظمكم والإِجتماعية، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّاً وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها، وكانت قوية العزم والإِرادة، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك، هذه الشعوب منتصرة حتماً.

أمّا إذا حَلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث، وحلّ التراجعُ مكان الجرأة والنفاقُ والتفرقة مكان الإِتحاد، وحبُّ النفس مكان الفداء، وحل التظاهر والرياء محل الإِخلاص والإِيمان، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تبيّن أسمى قانون في حياة الإِنسانية، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإِنسانية، وأوضحها حتى لأُولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإِنسان، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإِقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء: إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيداً، فإنّ تأريخ الإِسلام، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد إنتصارات باهرة في بداياته، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة بعدها.

ففي القرون الأُولى كان الإِسلام يتقدم في العالم بسرعة، ويبث في كل مكان

[462]

منه أنوار العلم والحريّة، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معاً، وجاء بمدنية زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إِلى الآخرين طلباً لوسائل الحياة الإِبتدائية، ويبعثون بأبنائهم إِلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إِليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة. لكن الأُمور بلغت حداً بحيث أنّهم لم يصدورا علماً وصناعة، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوماً مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مئتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلاّ أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهراً وسنين لإِرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إِلى أية نتيجة سيصلون؟

ألم يَعِدُ الله عباده بالقول:(وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين)(1).

أو قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(2)

أو قوله: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون)(3).

فهل الله عاجز ـ ولعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟


1 ـ الروم، 47.

2 ـ المنافقون، 8.

3 ـ الأنبياء، 105.

[463]

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات، ويدعو إِلى العوده إِلى أعماق الوجدان، والنظر في ثنايا المجتمع، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم، وأنّ الألطاف والرحمة الإِلهية تعم الجميع، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدراً فصرتم إِلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال: إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة، وانتهى ولن يعود، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضاً، فإنّكم إذا عدتم إِلى الله وأحكمتم أُسس إيمانكم، ووعت عقولكم، وذكرتم عهودكم ومسؤولياتكم، وتصافحت الإيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدويّة للنهضة، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد، فسوف تعود المياه إِلى مجاريها، وستنقضي الأيّام السود وترون أُفقاً مشرقاً وضاءً، وستعود أمجادكم العظيمة، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم، وليكتب علماؤكم، ويجاهد مقاتلوكم، ويسعى التجار والعمال، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والإِستعطاف!!...

ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية سلسلة من الإِمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافاً، بل لابدّ من الإِستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

[464]

الأُولى: ما ورد عن الإِمام الصّادق في هذا الشأن إذ قال(عليه السلام) «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحقق بذلك السلب»(1).

والثّانية: مَا نقرؤه في حديث آخر له(عليه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء، فتحولوا عمّا أحبّ إِلى ما أكره إلاّ تحولت لهم عمّا يحبّون إِلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إِلى ما أحبّ إلاّ تحولت لهم عمّا يكرهون إِلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ، ولا في سائر الأُمور ...

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح، هو أنّه ليس للإِنسان مصير خاص قد تعين من قبلُ، ولا يقعُ تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التاريخ» و«جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإِنسانية، ويجعل التحوّلات في الأُسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها، وهو إرادة الإِنسان نفسه!

فبناءً على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقَدر الجبري، ويقولون: إنّ الأُمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإِجبارية، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإِنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير وأُصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الإِقتصادية والمعامل والمصانع.


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 193.

[465]

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإِسلامية، ويرفضه القرآن، فالإِنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإِنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه، فيصنع لها الفخر والنصر، وهو الذي يسوق نفسه إِلى الإِبتلاء والمذلة، فداؤه منه ودواؤه بيده، فإذا لم يغير نفسَه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

[466]

الآيات

إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَـهَدتَّ مِنْهُمْ ثمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّة وَهُمْ  لاَ يَتَّقُونَ(56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىْ سَوَآء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَآئِنِينَ(58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ(59)

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إِلى طائفة أُخرى من أعداء الإِسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالأحداث، إلاّ أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مُرّاً وكانت عاقبة أمرهم خُسراً. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحقّهم، الأُسلوب الذي فيه عبرة للآخرين، كما فيه درءٌ لخطر هذه الطائفة.

[467]

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول: (إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون).

ولعل التعبير بـ(الذين كفروا) يشير إِلى أنّ كثيراً من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهر(صلى الله عليه وآله وسلم) وفقاً لما وجدوه مكتوباً عنه في كتبهم، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأُمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر، فكفروا به وأظهروا عناداً شديداً في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم، وكما يقول القرآن الكريم: (فهم لا يؤمنون).

وتقول الآية الأُخرى: (الذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كل مرّة)(1). والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الاضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلاهم يخافون الله تعالى، ولا يحذرون من مخالفة أوامره، ولا يراعون القواعد والاصول الانسانية: (وهم لا يتقون).

والتعبير بـ «ينقضون» و«لا يتقون» وهما فعلان مضارعان، هذا التعبير بهما يدلّ على الإِستمرار، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضُوا عهودهم مراراً.(2)

والآية بعدها توضح كيفية أُسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: (فإِمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم مَن خلفهم) أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ


1 ـ «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم...

كما يرد هذا الإِحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

2 ـ بالإِضافة إِلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضاً وهي «في كل مرّة» ... .

[468]

الشيء بدقة وسرعة، وهي إشارة إِلى وجوب التنبه والإِطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالإِضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأُخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا (لعلهم يذكّرون).

(وأمّا تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد (إنّ الله لا يحب الخائنين).

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم، إلاّ أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافاً ودون سبب بل عندما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإِنباذ» وهي بمعنى «الإِلقاء» أو «الإِعلام» و«الرّد» أي: ردّ عليهم عهودهم واعلن عن إلغائها جهراً.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها، فألغهِ أنت من جهتك أيضاً، فهذا حكم عادل، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

[469]

المسلمين من نقض العهد، وتحذرهم أن يكونوا هدفاً وغرضاً لهجوم العدّو، فهي تدعوهم إِلى رعاية مبادىء الإِنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يُوجه تعالى الخطاب إِلى ناقضي العهد، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أنّهم لا يعجزون).

* * *

[470]

الآيات

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ  لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْء فِى سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61) وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هَوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63) يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64)

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها:

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إِلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر، وهو لزوم

[471]

الإِستعداد العسكري لمواجهة الأعداء، فتقول: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة).

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والإِستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلةً: (ومن رباط الخيل).

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء، ويرد هذا الإِستعمال كثيراً بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و«المرابطة» تعني حفظ الحدود، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطاً أيضاً.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر، والتعبير في الآية واسع إِلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماماً.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظاً، إلاّ أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثراً ما في الإنتصار على الأعداء، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للإنتصار على الأعداء هو كمية السلاح، هم على خطأ كبير، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوباً قليلة العدد وأسلحتها غير متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة، كما حصل

[472]

للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناءً على ذلك، ومضافاً إِلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الإِقتصادية والثقافية والسياسية، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإِسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبلُ»(1).

ونقرأ في رواية أُخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح.(2)

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3).

ونجد روايةً أُخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول: «منه الخضاب بالسواد»(4).

فترى أنّ الإِسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماماً ليستعملوا الخضاب، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناءً على ذلك، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب جدّاً.


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 164 ـ 165.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السّابق.

[473]

ولكن مع الاسف، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح، لا نجد فيهم أثراً لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم، كأنّهم قد نسوا كل شيء،. ولا هم يستغلّون قواهم الإِقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا مازلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وإنحطاطنا على رقبة الإِسلام، ونقول: إذا كان الإِسلام داعية ترقٍّ وتقدم، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!