![]() |
![]() |
![]() |
ثمّ تضيف الآية قائلة: (ثمّ أبلغه مأمنه) وأوصله إِلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.
وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم، فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون).
فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب إكتساب المعرفة بوجوهم، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ وإلتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.
وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاً(عليه السلام) بعد إلغاء المعاهدة فقال: يابن أبي طالب، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام الله منه، أهو آمن؟!
فقال علي(عليه السلام): أجل، إنّ الله يقول: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجرهُ)(1).
وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأُولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين، ليكون منهما الدواء الناجع.
* * *
بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيراً في هذا الشأن، إلاّ أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة الإِمهال للمشركين، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وإنتهت
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 106 وتفسير الفخر الرازي، ص 226.
بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.
وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين، والأهم من ذلك أنّ كثيراً من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضاً(1).
يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لابدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.
إلاّ أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإِسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما، كما هي الحال في المشركين يومئذ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين «الصلاة، والزكاة».
أو أنّ المراد هو أن يُقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافراً، بل يعدّ إسلامه ناقصاً.
وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر، إلاّ أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.
يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإِيمان هو الجهل، وأساس الإِيمان الأصيل هو العلم، لهذا فينبغي توفير الإِمكانات اللازمة لإِرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ، ولا يقبلوا الإِسلام بواسطة التقليد الاعميق.
* * *
1 ـ ورد في تفسير نور الثقلين، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَـهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَـمُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفَوهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـسِقُونَ(8) اشْتَرَوْا بِأَيَـتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون(9) لاَيَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِن إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ(10)
كما لاحظنا في الآيات السابقة الإِسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلاّ جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.
وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قِبل الإِسلام، فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاماً إنكارياً: (كيف يكون للمشركين عهد
عند الله وعند رسوله)؟!
أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قِبَلِ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ومن جانب واحد، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.
ثمّ استثنت الآية مباشرةً أُولئك الذين لم ينقضوا عهدهم، بل بقوا أوفياء له، فقالت: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين).
وفي الآية التالية يُثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد، ويُستفهم عنه استفهاماً إنكارياً أيضاً، إذ تقول الآية: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة).
وكلمة «الإلُّ» معناها القرابة، وقال بعضهم: إنّها تعني هنا العهد والميثاق.
فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشاً تربطها برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض المسلمين علاقة قربى، إلاّ أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حُرمتها، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترامَ علاقتهم بها.
وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكَّدةً بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضاً، قال الراغب في المفردات: إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(1).
وتضيف الآيه معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت: (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم).
لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الإِنتقام وعدم الإِعتناء بالعهد وعلاقة القربى، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.
1 ـ المفردات، ص 20.
وفي نهاية الآية إشارة إِلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم، فتقول: (وأكثرهم فاسقون).
وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله).
وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعةً من الناس، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الطريق.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إِلى هذه القصة، إلاّ أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.
ثمّ تعقب الآية بالقول: (إنّهم ساء ما كانوا يعملون) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها، وحّرموا الهداية، وهُم في الوقت ذاته أوصدوا الطريق بوجه الآخرين، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!
أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة، إذ تقول الآية: (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمة).
وهذه الخصلة فيهم لم يُبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم (وأُولئك هم المعتدون).
وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة، إلاّ أنّ هناك فرقاً بينهما، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمةً لخصوص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المتقّين حوله (كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمّة).
أي إن المشركين لا ينظرون اليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ يَنظر بها المشركون إِلى كلّ
مؤمن، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهداً، فهم في الحقيقة أعداء الإِيمان والحقّ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضاً حيث يقول: (وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)(1).
* * *
جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!
إلاّ أنّه بملاحظة الآيات السابقة، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أُولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنَانة وبني خزيمة وأضرابهم.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.
وما قوله تعالى: (عاهدتم عند المسجد الحرام) فلعل هذا التعبير يشير إِلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفاً بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام، إلاّ أن مشركي قريش نقضوا عهدهم، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة. أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.
1 ـ سورة البروج، الآية 8.
ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي 48 ميلا» فقد عُدّت المنطقة كلها جزءاً من المسجد الحرام، كما نقرأ عن ذلك في الآية (196) من سورة البقرة، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).
والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من 48 ميلا عن مكّة.
فبناءً على ذلك لا مانع أبداً من أن يطلق على الحديبية، التي تبعد 15 ميلا عن مكّة، تعبير: عند المسجد الحرام.
وأمّا قول بعضهم: إن الإِستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترماً، فهذا القول يبدو بعيداً، بل هو غير صحيحى، لأنّه.
أوّلا: من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد، فنقضهم مقطوع به، ولا مراء فيه، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذاً؟!
ثانياً: إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة، فبناءً على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة، لا يمكن أن تكون ناظرةً إليهم.
كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّاً مراراً، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إِلى الإسلام دون الإِلتفات إِلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإِلغاء عهدهم.
* * *
فَإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّيِنِ وَنُفَصِّلُ الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(11) وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـنَهُمْ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَـتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَـنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ(12) أَلاَ تُقَـتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَـنَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(13)قَـتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُّؤْمِنينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15)
إنّ أحدَ أساليب الفصَاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير
المحيط الإِسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها، من المسائل ذات الأهميّة القصوى، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار، ولو التكرار المجازي.
فتقول الآية الأُولى من هذا الآيات محل البحث: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين).
وتضيف معقبةً (ونفصّل الآيات لقوم يعلمون).
وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإِسلامية، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة (فخلوا سبيلهم) أمّا التعبير في هذه الآية (فإخوانكم في الدين) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الإِحترام والمحبّة، كما لا فارق بين الإِخوان.
وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإِسلام، إذ تقول في حقّهم تارةً (فخلوا سبيلهم) وتارة (فإخوانكم في الدين)الخ...
ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود، فتقول الآية التالية: (وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم).
صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة، إلاّ أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مراراً، وكونها قابلةً للنقض في المستقبل ـ لا إعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.
وتعقّب الآية مضيفةً (لعلهم ينتهون).
وفي الآية الأُخرى خطاب للمسلمين لإِثارة هممهم، وإبعاد روح الضعف والخوف والترددَ عنهم في هذا الأمر الخطير، إذ تقول الآية: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول).
فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم (وهم بدأوكم
أوّل مرّة)؟
وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية، منهم، فإنّ هذه الخشية لا محل لها (أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).
وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين، إذ تقول (قاتلوهم يعذبّهم الله بأيديكم).
وليس ذلك فحسب، بل، (ويخزِهم) (وينصركم عليهم).
وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر (ويُشفِ صدور قوم مؤمنين).
قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من (قوم مؤمنين) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدراً.
وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإِسلام، ولما وصلوا مكّة عُذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.
إلاّ أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أُولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دماً منهم.
أمّا الآية التالية فتضيف: إنّ في إنتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سروراً للمؤمنين، وإنَّ الله يسدّدهم (ويذهب غيظ قلوبهم).
ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيداً للجملة السابقة (ويشفِ صدور قوم مؤمنين) كما يحتمل أن تكون مستقلةً عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إِلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإِسلام والنّبي الكريم، شُفيت بإنتصار الإِسلام.
وأمّا الجملة الثّانية (ويذهب غيظ قلوبهم) فهي إشارة أن أُولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لاقوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين فأغاظوهم، سُيقّر
الله عيونهم بهلاك المشركين (ويذهب غيظ قلوبهم).
وتُختتم الآية بالقول: (ويتوب الله على من يشاءُ والله عليم حكيم).
كما تشير العبارة الأخيرة ضمناً إِلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإِسلام ويشملهم توفيق الله، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.
وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات، وهي من دلائل صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.
* * *
1 ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) من هم؟!
قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلى اليهود، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفُرس والرُّوم.
وقال بعضهم: هي إشارة إلى كفّار قريش.
وقال بعضهم: بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.
إلاّ أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصّة، إلاّ أنّهم نقضوا عهدهم.
وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.
كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إِلى قريش، لأنّ قريشاً
ورئيسها ـ أباسفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهراً ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
كما أنّ الإِحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّاً عن مفهوم الآية، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.
كما أنّ الإِحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإِسلام، بعيد غاية البعد، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.
ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إِلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة، لا إلى قبول الإِسلام. فلاحظوا بدقة.
وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإِسلامية أنّ هذه الآية طُبّقَتْ على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.
والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإِجابة، هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: (وإن نكثوا أيمانهم) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.
والجواب: إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفاً ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان، ولم يثوبوا إِلى رشدهم، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمّر هدايته إيانا.
والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة (وإن نكثوا أيمانهم) جاءت في مقابل (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأُولى هم إخوانكم في الدين، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.
2 ـ ممّا يسترعي الإِنتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار، بل تقول: (فقاتلوا أئمّة الكفر) وهي إشارة إِلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعاً مادام أئمتهم في الوجود، أضف إِلى ذلك فإنّ هذا التعبير يُعدّ ضرباً من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.
والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.
واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقياً على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الإِستعمار والفساد والظلم، لابدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين، وإلاّ فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد، فلا حظوا بدقة.
3 ـ إنّ التّعبير بـ (إخوانكم في الدين) الوارد في الآيات المتقدمة، من ألطف التعابير التي يمكن أن يُعبَّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع، وبيان أوثق العلائق العاطفية، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل
المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.
إلاّ أنّ من المؤسف أن الإِنقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإِسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها، ووقف الإِخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يُصدق، وقد يقاتل كلُّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.
4 ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الإِستجابة للأمر بالجهاد، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنباً.
فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإِيمان ونقض العهد ليست في محلها، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!
5 ـ يبدو أنّ جملة (همّوا بإخراج الرسول) إشارة إِلى مسألة عزمهم على إخراج الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة (عند هجرته إِلى المدينة) باديء الأمر، إلاّ أن نياتهم تغيرت وتبدلت إِلى الإقدام على قتله، إلاّ أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.
وعلى كل حال، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام، حيث اشتركت قريش والبقائل الأُخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحاً من طرق أُخرى.
6 ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية (فاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم، وهذا يشبه تماماً لو أردنا أن ننجز
عملا ـ مثلا ـ فنمضي إِلى بعض أصدقائنا ونقول له: نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر، بل المراد أنّ الله منحك قدرةً ونية طاهرة، وبالإِفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.
* * *
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَـهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنيِنَ وَلِيجَةً واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16)
في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر، حيث تُحمِّلُ الآية المسلمين مسؤولية ذات عبء كبير، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّاً بادعائكم الإِيمان فحسب، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإِيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصاً من أي نوع من أنواع النفاق.
فتقول الآية أوّلا: (أم حسبتم أن تُتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله المؤمنين وليجة)(1).
و«الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول، وتطلق الوليجة على من يُعتمد عليه في الأسرار ومعناها يُشبه معنى البطانة تقريباً.
1 ـ «أم» حرف عطف ويُعطف بها جملة إستفامية على جملة إستفهامية أُخرى، ولهذا فهي تعطي معنى الإِستفهام، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة إستفهامية دائماً، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بُدئت بها الآية (13).
وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تُنّبه المسلمين إِلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإِيمان فحسب، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين:
الأوّل: الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.
الثاني: ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.
فالأوّل لدفع العدو الخارجي، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.
وجملة (لمّا يعلم الله) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأُخر، تعني أن أمركم لم يتحقق بعدُ، وبتعبير آخر: إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلاّ فإنّ الله ـ طبقاً للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالماً بكل شيء، وسيبقى عالماً بكل شيء.
وهذه الآية تشبه الآية الأُولى من سورة العنكبوت، إذ تقول: (ألم* أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتتنون).
وكما ذكرنا آنفاً في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ إختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الإِستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.
وتُختتم الآية بما يدلّ على الإِخطار والتأكيد (والله خبير بما تعملون).
فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الافراد وبين المنافقين، بل يعرف كل شيء جيداً وهو خبير بالأعمال كلها.
ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يومئذ من كان حديث العهد بالإِسلام ولم يكن على استعداد للجهاد، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مراراً.
* * *
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـجِدَ اللهِ شَـهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أَوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـلَهُمْ وَفِى النَّارِهُمْ خَـلِدُونَ(17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـجِدَ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيُومِ الاَْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أَوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)
من جُملة المسائل التي يمكن أن تخالط اذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد، هو: لِمَ نُبْعِد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله
فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس
لها، وتصّرح الآية الأُولى منهما بالقول: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر).
وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وأعمالهم، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.
ثمّ تشير الآية إِلى فلسفة هذا الحكم فتقول: (أُولئك حبطت أعمالهم).
ولذلك فهي لا تجديهم نفعاً: (وفي النّار هم خالدون).
فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إِلى ذلك، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.
فالله طاهر منزّه، وينبغي أن يكون بيته طاهراً منزّهاً كذلك، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.
أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد، فتقول; (إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر).
وهذا النص إشارة إِلى الشرطين الأوّل والثّاني، اللذين يمثلان الأساس العقائدي، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإِنسان أي عمل خالص نزيه، بل لو كان عمله في الظاهر سليماً فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.
ثمّ تشير الآية إِلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
أي أن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب، بل تؤيده الأعمال الكريمة، فعلاقة الإِنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة، وأن يؤدي صلاته باخلاص، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية، فيؤدي الزكاة إليهم.
وتشير الآية إِلى الشرط الخامس والأخير فتقول: (ولم يخشَ إلاّ الله).
فقلبه مليءٌ بعشق الله، ولا يحسُّ إلاّ بالمسؤولية في امتثال أمره ولايرى لأحد من عبيده أثراً في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.
ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول: (فعسى أُولئك أو يكونوا من المهتدين)فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.
* * *
هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه، أو تعني الإِجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!
إختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأُمور وما شاكلّها جميعاً. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد، وليس لهم أن يبنوا مسجداً ـ وما إِلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.
![]() |
![]() |
![]() |