فلمّا رأي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أصحابه قلقون وربّما لا ينامون الليل من الخوف فيواجهون العدو غداً بمعنويات مهزورة قال لهم كما وعده الله: لا تحزنوا فإنّ كان عددكم قليلا فإنّ الله سيمدكم بالملائكة، وسرّى عن قلوبهم حتى ناموا ليلتهم مطمئنين راجين النصر على عدوّهم.

[371]

المشكلة الأُخرى التي كان أصحاب النّبي يواجهونها، هي أن أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال، فنزل المطر تلك الليلة، فأفاد منه أصحاب النّبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صُلبة صالحة للنزال، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدوّ شديداً بحيث أربكهم وأزعجهم.

والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النّبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلا حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف، فكأنّ الله أنزل عليها جيشاً من الرعب والوحشة.

وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا عدوّهم، ولكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إتماماً للحجّة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية ـ أرسل إلى قريش ممثلا عنه ليقول لهم: إنّ النّبي لا يرغب في قتالكم لا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه. فوافق بعض قادة قريش على هذا الإِقتراح ورغبوا في الصلح، إلاّ أنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة.

وأخيراً اشتعلت نار الحرب، فالتقى أبطال الإِسلام بجيش الشرك والكفر، ووقف حمزة عمّ النّبي وعلي ابن عمّ النّبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّاً وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فإنهار ما تبقى من معنويات العدوّ، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة، وكان قد أمر بقتل أصحاب النّبي من أهل المدينة «الأنصار» وأن يؤسر المهاجرون من أهل مكّة. فقال النّبي لأصحابه: «غضّوا أبصاركم وعضو على نواجذ ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم».

ثمّ مدّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يديه إلى الدعاء، ورفع بهما نحو السماء فقال: «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لاتعبد...»

فهبت ريح عاصف على العدوّ، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا

[372]

للقتال حتى قتلوا منهم سبعين «وأبوجهل من القتلى» وأسروا سبعين، وانهزم الجمع وولّوا الدُبُر، ولم يُقتل من المسلمين إلاّ نفر قليل، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش، وإنتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم(1).

التّفسير

والآن وبعد أن عرفنا باختصار كيف كانت غزوة بدر، نعود ثانية إلى تفسير الآيتين.

في الآية الأُولى ـ من الآي محل البحث ـ إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالا، إذ تقول الآية: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم).

لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها (وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم).

وقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلامية أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: «إحدى الطائفتين لكم، إمّا العير وإمّا النفير».

وكلمة العير تعني القافلة، والنفير يعني الجيش.

إلاّ أنّه ـ كما يلاحظ في الآية الكريمة، أنّ التعبير جاء بذات الشوكة مكان الجيش والنفير، وبغير ذات الشوكة مكان القافلة أو العير.

وهذا التعبير يحمل في نفسه معنى لطيفاً، لأن الشوكة ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، ثمّ استعملت هذه الكلمة «الشوكة» في نصول الرماح، ثمّ أطلق هذا الإِستعمال توسعاً على كل نوح من الأسلحة، ولما كان السلاح يمثل القوّة والقدرة، والشدّة فقد عُبر عنه بالشوكة.


1 ـ لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير نور الثقلين، ج2، ص 121 إلى 136 و مجمع البيان ج 4، ص 521، 523، وما ذكرناه بتصرف واختصار.

[373]

فبناءً على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غيرالمسلحة، ولو إتفق أن يوجد فيها رجال مسلحون فهم معدودون لا يكترث بهم. أي أن فيكم من يرغب في مواجهة العدو غير مسلحة، وذلك بمصادرة أموال تجارته، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّاً منه للمنافع المادية، في حين أن الحرب اثبتت بعد تمامها أن الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية، لتكون الطريق لاحبةً لإِنتصارات كبيرة في المستقبل، ولهذا فإنّ الآية تعقب بالقول (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)(1).

فعلى هذا، كانت واقعة بدر درساً كبير للمسلمين للإفادة منه في الحوادث الآتية، ويؤكّد لهم أن يتدبروا عواقب الأمور، ولا يكونوا سطحيين يأخذون بالمصالح الآنية، وبالرغم من أنّ بعد النظر يقترن بالمصاعب عادة، وقصر النظر على العكس من ذلك يقترن بالمنافع المادية والراحة المؤقتة، إلاّ أنّ النصر في الحالة الأُولى يكون شاملا ومتجذّراً، أمّا في الحالة الثّانية فهو انتصار سطحي موقت.

ولم يكن هذا درساً لمسلمي ذلك اليوم فحسب، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي، فعليهم ألاّ يغضوا أبصارهم عن المناهج الأصولية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير الأُصولية قليلة الأتعاب.

وفي آخر آية يماط اللثام عن الأمر بصورة أجلى، إذ تقول الآية الكريمة (ليحق الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).

ترى هل الآية هذه تأكيد لما ورد في الآية السابقة، كما يبدو لأوّل وهلة، أم هو موضوع جديد تتضمنه الآية؟!


1 ـ الدابر بمعنى ذيل الشيء وعقبه، فبناءً على هذا يكون معنى «ويقطع دابر الكافرين» هو استئصال جذورهم.

[374]

قال بعض المفسّرين، كالفخر الرّازي في تفسيره الكبير، وصاحب المنار: إنّ الحقَّ في الآية المتقدمة إشارةٌ لإِنتصار المسلمين في معركة بدر، إن الحقّ في الآية محل البحث، «الثّانية» إشارة لإِنتصار الإِسلام والقرآن الذي كان نتيجة الإِنتصار العسكري في معركة بدر، وهكذا فإنّ الإِنتصار العسكري ـ في تلك الظروف الخاصّة ـ مقدمة لإِنتصار الاسلام والمسملين.

كما يرد هذا الإِحتمال، وهو أن الآية السابقة تشير إلى إرادة الله «الإِرادة التشريعية» التي كانت جلية في أوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآية الثّانية تشير إلى نتيجة هذا الحكم والأمر (فلاحظوا بدقة!)...

* * *

[375]

الآيات

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْف مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطـنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَْقْدَامَ (11) إِذ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَـئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوْا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوقَ الاَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَفِرِينَ عَذابَ النَّارِ(14)

[376]

التّفسير

دروس مفيدة من ساحة المعركة:

إنّ هذه الآيات تتحدث عن اللحظات الحساسة من واقعة بدر، والألطاف الإِلهية الكثيرة التي شملت المسلمين لتثير في نفوسهم الإِحساس بالطاعة والشكر، ولتعبيد الدرب نحو إنتصارات المستقبل.

وتشير إبتداءً لإِمداد الملائكة فتقول: (وإذ تستغيثون ربّكم).

جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغيث ويدعو ربّه مع بقية المسلمين، وقد رفع يديه نحو السماء قائلا: «اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللّهم إنّ تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)(1).

وعند ذلك (فاستجاب لكم أنّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين).

وكلمة (مردفين) من (الإِرداف) بمعنى اتّخاذ محل خلف الشيء، فيكون مفهومها أنّ الملائكة كانت تتابع بعضها بعضاً في النّزول لنصرة المسلمين.

واحتمل معنى آخر في الآية، وهو أنّ مجموعة الألف من الملائكة كانت تتبعها مجموعات أُخرى، ليتطابق هذا المعنى والآية (124) من سورة آل عمران، والتي تقول عن لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذ تقول للمؤمنين ألنْ يكفيكم أن يمدكم ربّكم بثلاثةِ آلاف من الملائكة منزلين).

إلاّ أنّ الظاهر أنّ عدد الملائكة في بدر هو الألف، وكلمة مردفين صفة هذا الألف. وآية سورة آل عمران كانت وعداً للمسلمين في أنزال ملائكة أكثر لنصرة المسلمين إذا ما اقتضى الأمر.

ولئلا يعتقد بعضٌ بأنّ النصر كان بيد الملائكة فحسب، فإنّ الآية تقول: (وما جعله الله إلاّ بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلاّ من عند الله إنّ الله عزيز


1 ـ مجمع البيان ذيل الآية.

[377]

حكيم). لأنّ الله عزيز ومقتدر لا يستطيع أحد الوقوف مقابل إرادته، وحكيم لا ينزل نصرته إلاّ للأفراد الصالحين والمستحقين لذلك.

هل قاتلت الملائكة؟

لقد جرى البحث في هذه المسألة كثيراً بين المفسّرين، فبعضهم يرى أنّ الملائكة دخلت ساحة القتال وهاجمت الأعداء بأسلحتها الخاصّة، وقتلت بعضهم. ونقلت بعض الرّوايات في تأييد ذلك.

إلاّ أنّ القرائن تؤيد الرأي الذي يقول: إنّ الملائكة نزلت لتطمئن قلوب المؤمنين، ويزداد عزمهم، وهذا الرأي أقرب إلى الواقع لعدّة أدلة:

أوّلا: لقد قرأنا في الآية قوله تعالى: (ولتطمئن قلوبكم). فإذا ما علم المسلمون بهذا المدد فإنّهم يقاتلون بصورة أفضل، لا أن الملائكة شاركت في الحرب.

ثانياً: إذا كانت الملائكة هي التي قتلت جنود الأعداء، فأيّة فضيلة للمجاهدين في معركة بدر وما ورد عن مقامهم ومنزلتهم من روايات كثيرة؟

ثالثاً: كان عدد المقتولين في بدر هو (70 نفراً) وقد كان الكثير منهم قد سقط بسيف علي(عليه السلام)، والقسم الآخر بيد المقاتلين الآخرين، وهؤلاء معروفون بأسمائهم في التاريخ، فبناءً على ذلك ـ من الذي ـ بقي لتقتله الملائكة؟!

ثمّ تذكر الآية النعمة الثّانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه).

و (يغشى) من مادة (الغشيان) بمعنى تغطية الشيء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وُضعَ عليهم فغطّاهم.

و(النعاس) يطلق على بداية النوم، أو النوم القليل أو الخفيف الناعم ولعلها إشارة إلى أنّه بالرغم من هدوئكم النفسِ لم يأتكم نوم عميق يمكّن الأعداء من

[378]

استغلاله والهجوم عليكم. وهكذا استفاد المسلمون من هذه النعمة العظيمة من تلك الليلة.

والرحمة الثّالثة التي وصلتكم هي: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان).

وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان، أو رجزاً بدنياً كجنابة بعضهم، أو الأمرين معاً. وعلى أية حال، فإنّ الماء ملأ الوديان من أطراف بدر بعد أن استولى الأعداء على آبار بدر وكان المسلمون بحاجة ماسة للغسل ورفع العطش، فاذا هذا الماء قد ذهب بكل تلك الأرجاس.

ثمّ أنّ الله تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر: (وليربط على قلوبكم ويثبّت به أقدامكم)... ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والإِستقامة ببركة تلك النعمة، أو إشارة إلى هذين الأمرين.

والنعمة الأُخرى التي أنعمها الله على المجاهدين في بدر، هي الرعب الذي أصاب به الله قلوب أعدائهم، فزلزل معنوياتهم بشدة، فيقول تعالى (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة إنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا).

(سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب).

وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل، وأن تذهب معنوياتهم ـ كما ينقل التاريخ ـ بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصاً مألوفين، وكانوا يقولون بأنّ المسلمين قد جاؤوكم من قرب يثرب (المدينة) بهدايا يحملونها على إبلهم هي الموت.

ولا شك أنّ هذا الرعب الذي أصاب قلوب المشركين، والذي كان من عوامل النصر، لم يكن جزافاً، فلقد أثبت المسلمون شجاعتهم وأقاموا صلاة الجماعة،

[379]

وكانت شعارتهم قوية. فإظهار المؤمنون الصادقين وفاءهم وخطبة بعضهم مثل سعد بن معاذ نيابة عن الأنصار أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا:

«بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عندالله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منه ما شئت والذي أخذت منه أحبّ اليّ من الذي تركت منه، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لنحضنا معك .... إِنّنا لنرجوا أن يقرّ الله عزّوجلّ عينيك بنا....».

مثل هذا الحديث سرعان ما انتشر بين الأعداء والأصدقاء، أضف إِلى ذلك ما رآه المشركون من ثبات راسخ عند المسلمين يوم كانوا في مكّة رجالا ونساءً.

اجتمعت كل هذه الأُمور لترسم صورة الخوف عند المشركين.

ثمّ الريح العاتية التي كانت تهب على المشركين والمطر الشديد عليهم والخواطر المخفية لرؤيا (عاتكة) في مكّة، وغيرها من العوامل التي كانت تبعث فيهم الخوف والهلع الشديد.

ثمّ آن القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين، حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه، بل عليهم توجيه ضربات مؤثرة وقاطعة (فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان).

و(البنان) جمع (البنانة) بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل، أو الأصابع نفسها، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه، فإنّ قطع الأصابع من الأيدي يمنع من حمل السلاح، وقطعها من الارجل يمنع الحركة، ويحتمل أن يكون المعنى هو إذا كان العدو مترجلا، فيجب أن تكون الأهداف رؤوسهم، وإذ كان راكباً فالأهداف أيديهم وأرجلهم.

كما أنّ بعضاً ى يرى أنّ هذه الجملة هي خطاب للملائكة، إلاّ أنّ القرائن تدل على أنّ المخاطبين هم المسلمون، وإذا كان الملائكة هم المخاطبين فيها فيمكن

[380]

أن يكون الهدف من الضرب على الرؤوس والأيدي والأرجل، هو إيجاد الرعب فيهم لترتبك أيديهم وأرجلهم فتسقط وتنحني رؤوسهم. (وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يخالف الظاهر من العبارة، ويجب إثباته بالقرائن تحدثنا عنها سابقاً من مسألة عدم قتال الملائكة).

وبعد كل تلك الأحاديث، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة، فإنّ الآية تقول: (ذلك بأنّهم شاقوا الله ورسوله).

و(شاقوا) من مادة (الشقاق) وهي في الأصل بمعنى الإِنفطار والإِنفصال، وبما أنّ المخالف أو العدوّ ويبتعد عن الآخرين فقد سمي عمله شقاقاً: (ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب).

ثمّ يؤكّد هذا الموضوع: ويقول: ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة، ومع ذلك انتظروا عذاب الاخرة أيضاً: (ذلكم فذوقوه وإنّ للكافرين عذاب النّار).

* * *

[381]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفَاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الاَْدْبَارَ(15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَال أَوْ مُتَحَيَّزاً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَآءَ بِغَضَب مِّنَ اللهَ وَمَأْوَهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ و َمَا رَمَيْتَ إِذْ ر َمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنَينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـفِرِينَ(18)

التّفسير

الفرار من الجهاد ممنوع!

كما ذكرنا في تفسير الآيات السابقة، فإنّ الحديث عن قصّة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتّخذ منه المسلمين العبرة والدرس في المستقبل، لذلك فإنّ هذه الآيات توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عاماً بالقتال: (يا آيّها الذين آمنوا إِذ لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار)

[382]

و(لقيتم) من مادة (اللقاء) بمعنى الإِجتماع والمواجهة، وتأتي في أكثر أحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب.

و(الزّحف) في الأصل بمعنى الحركة إِلى أمر ما بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي، أو الإِبل المرهقة التي تخط أقدامها على الأرض أثناء سيرها، ويطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنّه يحفر الأرض أثناء مسيره.

واستخدام كلمة (زحف) ـ في الآية آنفاً ـ تشير إِلى أنّه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير، وأنتم قليلون، فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب، وكما كان عدوكم كثيراً في ميدان بدر فثبتّم وانتصرتم.

فالفرار من الحرب يعدّ في الإِسلام من كبائر الذنوب، إلاّ أنّ ذلك مرتبط ـ كما نبيّن بعض الآيات ـ بكون الأعداء ضِعفي عدد المسلمين، وسنبحث هذا الأمر بعون الله في الآيتين (65) و(66) من هذه السورة. ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإِشارة لمن يستثنون منهم فتقول: (ومن يُولّهم يومئذ دُبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله).

وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.

الصورة الأُولى: عُبّر عنها بـ («متحرّفاً لقتال) و«متحرف» من مادة (التحرّف) أي الإِبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء: ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإِنسحاب المتتابع وكما يقول العرب: (الحرب كرّ وفرّ).

الصورة الثّانية: أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال، فينسحب للإلتحاق بأخوأنه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.

[383]

وعلى كل حال، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها، والتي هي أساس كثير من الإِنتصارات.

وتُختتم الآية محل البحث بالقول: إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إِلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إِلى النّار: (ومأواه جهنم وبئس المصير).

والفعل «باء» مشتق من «البواء» ومعناه الرجوع وإِتّخاذ المنزل، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه، وحيث إنّ الإِنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى. وفي الآية إشارة إِلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله.

وكلمة «المأوى» في الأصل معناها «الملجأ» وما نقرؤه في الآية، محل البحث (ومأواه جهنم) فهو إشارة إِلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة، إِلاّ أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون، إذ ستكون جهنم مأواهم، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والإِنكسار والضياع.

ولذا فقد جاء في «عيون الأخبار» عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال: «وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والإِستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة عليهم السلام، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإِقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرءة العدوّ على المسلمين، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله عزّ وجلّ وغيره من الفساد».(1)

ومن ضمن الإِمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإِمام علي(عليه السلام)، وربّما يشير


1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 138.

[384]

إِلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله «إِنّي لم أفر من الزحف قطّ، ولم يبارزني أحد إلاّ سقيت الأرض من دمه»(1).

والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين.

وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى «ولهذا الحكم شروط طبعاً سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله».

ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في إنتصارهم، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً، وليتعلقوا به طلباً لألطافه، فإنّ الآية التّالية تقول: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى).

لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي يوم بدر: أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها، فناوله علي ذلك، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى).(2)

قالوا: كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعباً.

لاشك أنّ الظاهر يشير إِلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر، لكن القرآن يقول: إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإِيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم


1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 139.

2 ـ راجع نور الثقلين،ج2، ص140.

[385]

بقوة الله وفي سبيل الله. وثانياً قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقاً، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة، وإنهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه.

وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إِلى لطيفة في مذهب «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأُمور (فتأمل بدقّة).

ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضاً، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد.

وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها.

والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأُسلوب لطيف، لأنّه إِذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إِليهم تارةً وينفي عنهم تارةً أُخرى، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىَّ من المذاهب الضّالة، بل هي تشير إِلى المذهب الوسط «أمر بين أمرين» فحسب.

وهذه الإِشارة لأجل هدف تربوي، وهو إِزالة الغرور وآثاره، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الإِنتصارات.

وتشير الآية في ختامها إِلى لطيفة مهمّة أُخرى، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان وإختبار، إذ تقول: (وليبلي المؤمنون منه بلاءً حسناً).

والبلاء معناه الإختبار في الأصل، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاءً حسناً، وتارةً بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاءً سيئاً، كما تشير إِلى ذلك الآية

[386]

(168) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل (وبلوناهم بالحسنات والسيئات).

لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل، وهذه الموهبة الإِلهية كانت إختباراً لهم جميعاً، وإلاّ أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإِنتصار أبداً، فتكون النتيجة سلبية، وذلك بأن يروا عدوهم حقيراً وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الإِعتماد على الله.

لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة (إنّ الله سميع عليم).

أي أنّ الله سمعَ صوت استغاثة النّبي والمؤمنين، واطلع على صدق نياتهم، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيراً، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون.

وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ماسمعتم، فيقول: (ذلكم)(1) ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلّة (وإن الله موهن كيد الكافرين).

* * *


1 ـ في الحقيقة أن هذا الكلمة إشارة إِلى جملة مقدرة هي «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين ...».

[387]

الآية

إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)

التّفسير

لقد جرى بحث كثير بين المفسّرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث، فبعضهم يعتقد بأنّهم المشركين، لأنّهم قبل خروجهم من مكّة إِلى بدر اجتمعوا حول الكعبة وضربوا على ستائرها (لغرورهم واعتقادهم بأنّهم على الحق). وقالوا: «اللّهم أنصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين»(1).

وروي أنّ أباجهل دعا فقال: (اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فأنصر أهله اليوم)(2) ... ولذلك فقد نزلت هذه الآية لتقول لهم: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خيرلكم وإن تعودوا نَعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإنّ الله مع المؤمنين).


1 ـ هذه الجملة في الحقيقة «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين».

2 ـ مجمع البيان وتفاسير أُخرى.

[388]

والذي يبعد هذا التّفسير أن الحديث في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية موجه للمؤمنين، فيستبعد أن تكون بينها آية واحدة تتحدث مع المشركين، ويضاف لذلك الإِرتباط المعنوي الموجود بين مضامين كل هذه الآيات ـ ولذلك اعتبر بعض المفسّرين أنّ المخاطبين في الآية هم المؤمنون، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي:

لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ـ كما رأينا ـ ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف شخص الرّسول كاملا(صلى الله عليه وآله وسلم)فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي، بغية تربيتهم وتعليمهم، ثمّ ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي.

وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم: إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم، وإذ تركتم الإِعتراض والجدال عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فبذلك مصلحتكم، وإذا عدتم لنفس الأُسلوب من الإِعتراض فسنعود نحن أيضاً، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيراً فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.

وهكذا يستفاد من الآيات وخاصّة من إلقاء اللوم على المسلمين لبعض مخالفتهم، وكذلك سياق الايات السابقة وما فيها من أواصر وروابط معنوية واضحة، فإن التّفسير الثّاني يكون أقرب إِلى النظر ... .

* * *

[389]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَيَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ(22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لاََّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ(23)

التّفسير

الذين قالوا سمعنا وهم لا يَسمعُونَ!

تتابع هذه الآيات البحوث السابقة، فتدعو المسلمين إِلى الطاعة التامة لأوامر الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في السلم أو الحرب أو في أي أمر آخر، وأُسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التفيذ والطاعة، فتبدأ بالقول: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله).

وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد: (ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون).

لاشك في أنّ إطاعة أوامر الله تعالى واجبة على الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين، ولكن بما أنّ المخاطبين والمعنيين بهذا الحديث التربوي هم المؤمنون

[390]

فلهذا كان الكلام في هذه الآية الشريفة موجهاً إليهم.

الآية الثّانية: تؤكّد هذا المعنى أيضاً فتقول: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون).

إنّ هذا التعبير الطريف يُشير للذين يعلمون ولا يعملون، ويسمعون ولا يتأثرون، وفي ظاهرهم أنّهم من المؤمنين، ولكنّهم لا يطيعون أوامر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهؤلاء لهم آذان سامعة لكل الأحاديث ويعون مفاهيمها، وبما أنّهم لا يعملون بها ولا يطبقونها فكأنّهم صمُّ لا يسعمون، لأنّ الكلام مقدمة للعمل فلو عدم العمل فلا فائدة من أية مقدمة.

وأمّا المراد من هؤلاء الأشخاص الذين يحذّر القرآن المسلمين لكيلا يصيروا مثلهم، فيرى بعض أنّهم المنافقون الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع في صفوف المسلمين، وقال آخرون: إنّما تشير إِلى طائفة من اليهود، وذهب بعض بأنّهم المشركون من العرب. ولا مانع من إنطباق الآية على هذه الطوائف الثلاث، وكل ذي قول بلا عمل.