كما نقرأ ـ أيضاً ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام علياً(عليه السلام) عندما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا، ثمّ قال: «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».

* * *


1 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج1، ص248.

[105]

الآيات

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَومِهِ أَتَأْتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوابَ قَومِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (83) وَأمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الُْمجْرِمِينَ(84)

التّفسير

مصير قوم لوط المؤلم:

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريمُ فَصلا آخر غنياً بالعبر من قصص الأنبياء، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإِلهي العظيم «لوط».

ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم، منها سورة «هود» و«الحجر» و«الشعراء» و«الأنبياء» و«النمل» و«العنكبوت».

وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن

[106]

الحوار الذي دار بين لوط، وقومه.

ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأُخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).

الآية الأُولى تقول في البدء: اذكروا وإذ قال لوط لقومه: أترتكبون فعلا قبيحاً لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟ (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين)؟!

فهذه المعصية مضافاً إلى كونها عملا قبيحاً جدّاً ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفاً، لأنّه أصبح أساساً لسنّة سيئة، وسبباً لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.

ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط، وكانوا قوماً أثرياء مترفين شهوانيين، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: (إنّكم لتأتون الرّجال شهوة من دون النّساء).

وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى «الجنس الموافق»، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساساً ـ الفطرة، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين، والغريزة السوية الصحيحة، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

وبعبارة أُخرى: يكون أثره الوحيد، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة

[107]

الجنسية، والقضاء على الهدف الأصلي، وهو إستمرار النسل البشري.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية: (بل أنتم قوم مسرفون) أي تجاوزتم حدود الله، ووقعتم في متاهة الإنحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب، بل تورطوا في مثل هذا الإنحراف والإسراف في كل شي، وفي كل عمل.

والجذير بالذكر أنّ الآية الأُولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة، فإذا فعل أحد عملا شيئاً قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم، لبيان أهمية الموضوع: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، فإذا قال له الشخص، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أُخرى: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.

إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجاً على شناعة عمله القبيح وخطورته، وهو أبلغ في التأثير.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط، وقال: إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح، إلاّ أن قالوا: أخرجوا لوطاً وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية (وماكان جواب قومه إلاّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون).

وهذا ليس موضع تعجب وإستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصاً طاهرين لا لشيء إلاّ لأنّهم أنقياء الجيب، يجتنبون المنكرات، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم، فكانت نقاط القوة لدى أُولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.

ويحتمل أيضاً في تفسير جملة (إنّهم أناس يتطهرون) أنّ قوم لوط كانوا

[108]

يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيراً حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.

مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والإتهام، ولا يعرفون إلاّ لغة القوة والقهر، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة: (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين)(1) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطاً وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين، إلاّ زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.

قال البعض: إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضاً ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءاً من أهله وعائلته أيضاً، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلاّ عائلته وأقرباؤه، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي، أي أقرباؤه.

من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جداً ـ ولكن ذات مغزى ومعنى  عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم، إذ قال تعالى:


1 ـ يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي هو وحده، كما ذهبت عائلة لوط معه، وبقيت زوجته وحدها معه، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

[109]

(وأمطرنا عليهم مطراً) أيّ مطر ... إنّه كان مطراً عجيباً حيث إنهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!!.

إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطراً عادياً، بل كان مطراً من الحجارة، كما سيأتي في سورة هود الآية (83).

(فانظر كيف كان عاقبة المجرمين).

إنّ هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو إعتبار جميع المؤمنين به.

هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة، وكذا مضار اللواط المتعددة، وحكمه في الشريعة الإسلامية، عند تفسير آيات سورة «هود» و«الحجر».

* * *

[110]

الآيات

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبَاً قَالَ يَـقَوْم اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ(85) وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَط تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً واذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يُؤمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحَـكِمِينَ (87)

التّفسير

رسالة شعيب في مدين:

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامساً من قصص الأقوام الماضين، ومواجهة الأنبياء العظام معهم، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

[111]

بعث شعيب(عليه السلام) الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية، وكذا الحيلة، والتطفيف في المكيال والميزان، والبخس في المعاملة.

وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم و بين أهل مدين، في سور متعددة من القرآن الكريم، وبخاصّة في سورة «هود» و«الشعراء»، ونحن تبعاً للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئاً عن هذه القصّة باختصار طبقاً للآيات المطروحة هنا.

في البداية يقول سبحانه: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً (وإلى مدين أخاهم شعيباً).

روى جماعة من المفسّرين، مثل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره المعروف، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

هذا وقد أوضحنا السرّ في إستعمال لفظة «أخاهم» في الآية (65) من هذه السورة.

ثمّ إنّه تعالى أضاف: إنّ شعيباً مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

وقال: إنّ هذا الحكم مضافاً إلى كونه من وحي العقل، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضاً: (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم).

أمّا أنّ هذه «البيّنة» ماهي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيب(عليه السلام).

[112]

ثمّ أنّه(عليه السلام) بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية السائدة فيهم، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف، والغش في المعاملة، يقول: (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(1).

وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لإقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.

ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أُصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء، وفي ضوء الإيمان فقال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد، سواء كان فساداً أخلاقياً، أو من قبيل فقدان الإيمان، أو عدم وجود الأمن، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا: (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).

وكأنّ إضافة عبارة: «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الإجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية، لم يكن لها بقاء ودوام.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس، وصدّهم عن سبيل الله، وتضليل الناس بإلقاء


1 ـ البخس يعني نقص حقوق الأشخاص، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

[113]

الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم، فقال: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون، وتصدون عن سبيل الله من آمن به، وتبغونها عوجاً).

وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإِيمان، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال إحتمالات متعددة، فالبعض إحتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأُخرى في الآية هو المعنى الأوّل.

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم، فيقول: تذكّروا عندما كنتم أفراداً قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم).

ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به، فيقول: (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين).

ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد، طبعاً شريطة أن تضمن معيشتهم وفقاً لبرامج منظمة، من الناحية المادية والمعنوية.

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم: إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟

وكان معارضوهم ـ أيضاً ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فوراً يقولون: إذا كنت من جانب الله حقّاً فلماذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به

[114]

من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب: إن كانت طائفة منكم آمنت بما بُعِثت به، وأعرض أُخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغرور الكفار، ويأس المؤمنين، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق، ومن يكون على باطل (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).

* * *

[115]

الآيتان

قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَـشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَـرِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّْنا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْء عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَـتِحِينَ (89)

التّفسير

هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.

إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيباً معتمدين على قوتهم وقدرتهم، كما يقول القرآن الكريم: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا).

قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيباً كان قبل

[116]

ذلك في صفوف الوثنيين، والحال ليس كذلك، بل حيث إنّ شعيباً لم يكن مكلّفاً بالتبليغ، لذلك كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية، في حين أنّ أحداً من النّبيين لم يكن وثنياً حتى قبل زمان النّبوة، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافاً إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجهاً إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضاً ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أُخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: (قال أو لو كنّا كارهين)(1)؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق ديناً ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافاً إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبريّ؟!

وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: (قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها).

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإِلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد إفترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.


1 ـ إنّ في هذه الجملة حذفاً وتقديراً، فالكلام في الأصل على هذه الصورة: «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

[117]

ثمّ يضيف شعيب قائلا: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله).

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.

ثمّ من دون إبطاء يضيف: إنّ الله يأمر بمثل هذا، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علماً بجميع الأُمور (وسع ربّنا كل شيء علماً) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلاّ من كان علمه محدوداً، واشتبه ثمّ ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأُمور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: (على الله توكلنا).

وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).

أي: يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين.

وقد روي عن ابن عباس أنّه قال: ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها: أفاتحك عند القاضي، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين)(1).

* * *


1 ـ تفسير منهج الصادقين.

[118]

الآيات

وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ(91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبَاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِين كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَـسِرينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـلَـتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلى قَوْم كَـفِرِينَ (93)

التّفسير

تتحدث الآية الأُولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيباً إنّكم إذاً لخاسرون).

والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.

وهناك إحتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية

[119]

بالإضافة إلى الأضرار المادية، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.

وعندما وَصَل أمرهُم إلى الإصرار على ضلاتهم، وَعلى إضلال غيرهم أيضاً، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم، حلّت بهم العقوبة إلالهية بحكم قانون حسم مادة الفساد، فأصابهم زلزالٌ رهيبٌ شديدٌ بحيث تهاوى الجميع أجساداً ميّتة، في داخل بيوتهم ومنازلهم (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة ـ تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.

فمثلا: جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو: «الزلزال» وفي الآية (94) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (189) من سورة الشعراء: أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة، واستهدفت مدينتهم، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية: (الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها)(1). أي أنّ الذين كذبوا شعيباً أُبيدوا إبادة عجيبة، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول: (الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرون).

وكأنّ هاتين الجملتين جواباً لأقوال معارضي شعيب، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين


1 ـ «يغنوا» مشقة من مادة «غنيَ» بمعنى «الإقامة في المكان» يقول الطبرسي في مجمع البيان: لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة، لأنّ من كان عنده منزل حاضر، فهو مستغن عن منزل آخر.

[120]

السابق، فقال القرآن: إنّهم أُبيدوا كاملة، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم: إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران، قال القرآن الكريم: إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال: لقد بلّغت رسالات ربّي، ونصحتكم بالمقدار الكافي، ولم آلُ جهداً في إرشادكم: (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم).

ثمّ قال (فكيف آسي على قوم كافرين) أي لست متأسّفاً على مصير الكافرين، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.

ولكن مع الإلتفات إلى آخر عبارة، والتي يقول فيها: إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبداً، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (79) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيراً (وقدأشرنا إلى شواهد ذلك).

* * *

[121]

الآيتان

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة مِّن نَّبِيٍّ إِلاّ أَخَذَنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثمّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالَوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرِّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنـَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ:

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث، وهي قواعد وأُصول إذا فكَّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعاً ـ ارتباطاً وثيقاً.

في البداية يقول: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرعون) فالصِعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا، ويتركوا طغيانهم، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

[122]

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة وقلما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عندما يتورّطون في المحنة والبلاء، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهراً بلا اختيار، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عندما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضعظ المشكلات والحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم (ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) .

و«عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحياناً بمعنى الكثرة، وأحياناً بمعنى الترك والإعراض، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأُمور هو الترك، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر، ويتوالد ويتناسل ويزداد، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجاً وشيئاً فشيئاً. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معاً.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضاً:

الأوّل: أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والاموال.

الآخر: أنّنا أعطيناهم نعماً كثيرة جداً بحيث غرتهم، فنسوا الله، وتركوا شكره.

الثّالث: أنّنا أعطيناهم نعماً كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

[123]

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف: أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي«النعمة» و«النقمة» بيدالله، وأنّهم راجعون إلى الله، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا، فإنّ ذلك ليس بجديد، فقد مس آباءنا الضراء والسراء، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء، فالحياة لها صعود ونزول، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال (وقالوا قد مسّ آباءَنا الضّراء والسّراء). فهي إذن قضية طبيعية، ومسألة إعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام: إنّ الأمر عندما بلغ إلى هذا الحد، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبداً ـ بل ازدادوا غروراً وعنجهيّة وتكبراً أهلكناهم فجأة ومن غير سابق انذار، لأنّ ذلك أشد إيلاماً ونكالا لهم، وعبرة لغيرهم: (فأخذناهم بغتة وهم لايشعرون).

* * *

[124]

الآيات

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَـت مِّن السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَـهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَـسِرُونَ (99)أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الاَْرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى:

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

[125]

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.