![]() |
![]() |
![]() |
والأحاديث الإِسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضاً تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه: لم يدرس وأُخرى: بأنّه مكّي(1).
1 ـ للإِطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 78 و 79، وتفسير روح المعاني، المجلد التّاسع، الصفحة 70، في تفسير الآية الحاضرة.
ولكن لا مانع أبداً من أن تكون كلمة «الأُمّي» إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة، وقد قلنا مراراً: إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان، ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي. (وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفراغ من تفسير هذه الآية).
3 ـ ثمّ إنّ هذا النّبي هو (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل).
وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) حتى التوراة والإِنجيل المحرفين الحاضرين أيضاً، سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية.
4 ـ ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر).
5 ـ كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإِنسانية السليمة، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه (ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث).
6 ـ أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الإستعمار والإستثمار والإِستغلال، بل هو على العكس من ذلك، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(1).
وحيث أنّ هذه الصفات الست بالاضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه، فيضيف القرآن الكريم: (فالذين آمنوا به وعزروه، ونصروه، واتّبعوا النّور الذي أنزل معه
1 ـ «الإصر» يعني في الأصل عقد الشيء وحبسه، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة، ويطلق على العهد والميثاق أو العقوبات، لفظ الإصر، لأنّ هذه الأُمور تحدّ من حركة الإنسان.
أُولئك هم المفلحون).
و «عزروه» المشتقّة من مادة «تعزير» تعني الحماية والنصرة المقترنة بالإِحترام والتبجيل، ويقول البعض إن هذه اللفظة تعني ـ في الأصل ـ المنع، فإذا كان المنع من العدوّ، كان مفهومه النصرة، وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه، ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة «تعزير».
والجدير بالإِنتباه استعمال كلمة (أُنزل معه) بدل «أُنزل إليه» في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نزول من السماء، ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله، لهذا عبر بـ «أنزل معه».
* * *
وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي:
لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في هذه الآية ... فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإِثبات نبوته:
الأوّل: أنّه «أمّي» لم يدرس، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.
فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟
الثّاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علماً لدى المرء بحقانيته.... فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلاّ عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط.
الثّالث: أن محتويات دعوته تنسجم انسجاماً كاملا مع العقل، لأنّه يدعو إلى المعروف، والنهي عن المنكر والقبائح، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.
الرّابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.
الخامس: لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.
أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.
أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.
أغلال التمييز بكل أنواعه، والحياة الطبقية بجميع أصنافها، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإِسلامية، والمساواة أمام القانون.
وهكذا سائر الأغلال الأُخرى.
إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.
هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأُمّي» كما قلنا سابقاً:
أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس.
الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة، والناهض منها.
الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.
ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، وهو أكثر انسجاماً مع موارد استعمال هذه اللفظة، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضاً، كما قلنا.
ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدرس، ولم يكتب شيئاً، وقد قال القرآن الكريم ـ أيضاً ـ في الآية (48) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لإرتاب المبطلون).
وأساساً كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّاً، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (17) شخصاً، ومن النساء أمرأة واحدة(1).
من المسلّم أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ في مثل هذه البيئة ـ لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمراً معروفاً للجميع، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، ولكن كيف يمكنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفي ـ في كتابه ـ بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون: إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟
إنّ هذه قرينة واضحة على أُميّة النّبي.
وعلى كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان تأكيداً على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في إرتباطه إلاّ بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.
هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه
1 ـ فتوح البلدان، للبلاذري، ط مصر، الصفحة 459.
تلقى القراءة أو الكتابة من أحد، وعلى هذا بقي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمُيّته حتى نهاية عمره.
ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة، والذين فسّروا «الأّمّية» بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.
ولا مانع أبداً من أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بالقراءة والكتابة بتعليم الله، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإِنسانية ، ومكملة لمقام النّبوة.
ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت(عليهم السلام)(1) أن نص الرواية
ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكن(صلى الله عليه وآله وسلم)يستفيد من هذه المقدرة.
وقول البعض: إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة، وليسا بحدّ ذاتها علماً حقيقياً ولا كمالا واقعياً فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضاً.
قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بصراحة تفسير «الأُمّي» بعدم القراءة والكتابة، بل بالمنسوب إلى «أم القرى» (مكّة).
ونقول في الردّ: إنّ إحدى هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، والرواية الأُخرى منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» وهو مجهول.
وأمّا ما تصوَّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة(يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وآيات أُخرى دليل على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان
1 ـ تفسير البرهان المجلد الخامس، الصفحة 373 ذيل آيات سورة الجمعة.
يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء، كما تطلق على القراءة حفظاً ومن ظهر القلب، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرأون الأشعار أو الأدعية حفظاً ومن على ظهر القلب كثير.
من مجموع ما قلناه نستنتج:
1 ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتماً، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.
2 ـ أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ أو كتب شيئاً قبل النبوة، أو بعدها.
3 ـ إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ الشواهد التأريخية القطعية، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإِنجيل) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) وأن يد التحريف قد طالتهما، بل إنّ بعضها اندرس واندثر، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلاّ خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.
وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن اشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب
ومؤلفات مستقلة، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.
1 ـ جاء في سفر التكوين الإصطلاح 17 العبارة 17 إلى 20: «وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله... وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه (أي دعاءك في حقه) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جيداً. اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أُمّة كبيرة».
2 ـ «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب».
والجدير بالإِنتباه أن أحد معاني شيلون ـ حسب تصريح المسترهاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس ـ هو الإِرسال، وهو يوافق كلمة «رسول» أو «رسول الله».
3 ـ وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي: «وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم».
4 ـ وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الإصطلاح 16 العبارة رقم7: «لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لَم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية».(1)
والنقطة الجديرة بالإِهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية
1 ـ كل النصوص المنقولة هنا مقتبسة من كتاب العهد القديم والجديد طباعة وإصدار دارالكتاب المقدس في العالم العربي عام 1979.
«المسلّي» ولكنّها في الإِنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام 1857) جاء مكانها: «فارقليطا».
* * *
قُلْ يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَـأَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيّ الاُْمِّيّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَـتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
جاء في حديث عن الإِمام الحسن المجتبى(عليه السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمّد، أنت الذي تزعم أنّك رسول الله، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران؟ فسكت النّبي ساعة ثمّ قال: «نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النّبيين، وإمام المتقين، ورسول ربّ العالمين.» قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم، أم إلينا؟ فأنزل الله هذه الآية التي صرّحت بأنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رسالة عالمية(1).
ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار إرتباط هذه الآية بالآية السابقة المتعلقة
1 ـ عن المجالس حسب نقل تفسير الصافي، ج 1، في ذيل هذه الآية.
بصفات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والدعوة إلى اتباع دينه وشريعته.
وفي البداية يأمر الله تعالى رسول الله قائلا: (قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعاً).
إنّ هذه الآية مثل آيات كثيرة أُخرى من القرآن الكريم دليل واضح على عالمية دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية (28) من سورة «سبأ» أيضاً نقرأ: (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس).
وفي الآية (19) من سورة الأنعام أيضاً نقرأ: (وأوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي بلغه القرآن.
وفي مطلع سورة الفرقان نقرأ: (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) فهو أُرسل إلى الناس كافة ليحذرهم من المسؤوليات.
هذه نماذج من الآيات التي تشهد بعالمية دعوة الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسوف نبحث حول هذه المسألة أيضاً في ذيل الآية (7) من سورة الشورى، وقد مر لنا في ذيل الآية (92) من سورة الأنعام ـ أيضاً ـ بحثٌ مبسوط نوعاً ما في هذا الصعيد.
ثمّ إنّه وصف الإله الذي يدعو إليه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاث صفات:
1 ـ (الذي له ملك السماوات والأرض) فله الحاكمية المطلقة.
2 ـ (لا إله إلاّ هو) فلا معبود يليق للعبادة سواه.
3 ـ (يحي ويميت) بيده نظام الحياة والموت.
وبهذه الطريقة تنفي هذه الآية أُلوهية غير خالق السماوات والأرض، وأُلُوهيّة كل صنم، وكذا تنفي التثليث المسيحي، كما وتؤكّد على رسالة النّبي العالمية وقدرة الله تعالى على أمر المعاد.
وفي الختام تدعو جميع أهل العالم إلى الإِيمان بالله وبرسوله الذي لم يتعلّم القرآءة والكتابة والقائم من بين الناس (فآمنوا بالله ورسوله النّبي الأُمّي).
النّبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق فحسب، بل يؤمن هو في الدرجة الأُولى ـ بما يقول، يعني الإِيمان بالله وكلماته (الذي يؤمن بالله وكلماته).
إنّه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقة للأنبياء السابقين.
إنّ إيمانه بدينه والذي يتجلى من خلال أعماله وتصرّفاته دليل واضح على حقانيته، لأن عمل الآمر بشيء يعكس مدى إيمانه بما يأمر به ويدعو إليه. وإيمانه بقوله أحد الأدلة على صدقه. إنّ تأريخ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برمّته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكثر من غيره إلتزاماً بالتعاليم التي جاء بها.
أجل، لابدّ لكم من اتّباع مثل هذا النّبي حتى تسطع أنوار الهدايه على قلوبكم، لتهتدوا إلى طريق السعادة (واتّبعوه لعلكم تهتدون).
وهذا إشارة إلى أنّه لا يكفي مجرّد الإِيمان، وإنما يفيد الإِيمان إذا إقترن بالإِتباع العمليّ.
والجدير بالإِلتفات إلى أن الآية الحاضرة نزلت في مكّة يوم كان المسلمون يشكلون أقلية صغيرة جدّاً بحيث إنّه قلّما كان هناك من يحتمل أن يسيطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على مكّة فضلا عن جزيرة العرب، أو قسم كبير من العالم.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الذين يتصورون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ادعى في البداية تبليغ الرسالة لأهل مكّة فقط، وعندما إنتشر دينه وعلا أمره فكر في السيطرة على الحجاز، ثمّ فكر في البلاد الأُخرى، وراسل ملوك العالم وأمراءه وقادته، وأعلن عن رسالته العالمية. تجيب الآية الحاضرة التي نزلت في مكّة على كل تصوراتهم هذه، فهي تصرح في غير إبهام ولا غموض بأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) اعلن عن دعوته العالمية منذ البداية.
* * *
وَمِن قَومِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(159)وَقَطَّعْنَـهُمٌ اثْنَتىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُممَاً وَأَوْحَيْنَآ إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَـهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةً عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَـمَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإِفساد، وبأنّ هذا العرق القومي برمته ضالّ متمرد من دون إستثناء، بل اعترف بأن منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية، وقد أولى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهؤلاء فيقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون).
إنَّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائماً وأبداً، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأُخرى التي جاءت بعد موسى(عليه السلام).
ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية، لأن «يهدون» و«يعدلون» قعل مضارع، وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال، يعني عصر نزول القرآن، ويثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان، إلاّ أن نقدّر فعل «كان» فتكون الآية إشارة إلى الزمان الماضي، ونعلم أن التقدير من دون قرينة خلاف الظاهر.
وكذلك يمكن أن يكون ناظراً إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذين اعتنقوا الإسلام تدريجاً وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين. وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.
وما جاء في بعض روايات الشيعة والسنة من أنّ هذه الآية إشارة إلى فريق صغير من بني إسرائيل يعيشون فيما وراء الصين، عيشة عدل وتقوى وتوحيد وعبودية الله تعالى فغير مقبول، لأنّه مضافاً إلى عدم موافقته لما نعلمه من جغرافيا العالم اليوم، ومضافاً إلى أن التواريخ الحاضرة الموجودة لا تؤيد هذا الموضوع، فإنّ الأحاديث المذكورة غير معتبرة من حيث السند، ولا يمكن أن يُعتمد عليها كأحاديث صحيحة حسب قواعد علم الرجال.
وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم الله على بني إسرائيل.
فيقول أوّلا: (وقطعناهم إثنتى عشرة أسباطاً أُمماً) وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل، بعيد عن المصادمات الخشنة.
وواضح أنّه عندما يكون في شعب من الشعوب تقسيمات إدارية صحيحة ومنظمة، ويخضع كل قسم من تلك الأقسام لقيادة قائد قدير، فإنّ إدارتهم ورعاية
العدالة بينهم تكون أسهل، ولنفس هذا السبب عمدت جميع الدول إلى مثل هذا العمل وأخذت بهذه القاعدة.
و«أسباط» جمع سبط (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الإِنبساط في سهولة، ثمّ يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.
والمراد من الأسباط ـ هنا ـ هو قبائل بني إسرائيل وفروعها، الذين كان كل واحد منها منشعباً ومنحدراً من أحد أولاد يعقوب(عليه السلام).
والنّعمة الأُخرى هي: أنّه عندما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء، وطلبوا من موسى(عليه السلام) الماء، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر... ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاء قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا).
وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه(قد علم كل أناس مشربهم).
ويستفاد من هذه الجملة أنّ هذه الينابيع الإِثنى عشر التي نبعت من تلك الصخرة العظيمة كانت معلّمة بعلامات ومتميز بعضها عن بعض بفوارق، بحيث كان يعرف كل فريق من فرق بني إسرائيل نبعه المختص به والمقرّر له، لا يقع بينهم أي خلاف ويسود النظم والإِنضباط في جماعتهم، ويتمّ الشرب بصورة أسهل وأفضل.
والنّعمة الثالثة هي: أن الله تعالى أرسل لهم ـ في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ظلال ـ سحباً ظلّلتهم (وظلّلنا عليهم الغمام).
والنّعمة الرّابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين (وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى).
ثمّ إنّ المفسّرين أعطوا تفسيرات متنوعة لهذين الغذاءين «المنّ» و«السلوى» اللذين أنزلهما الله على بني إسرائيل في تلك الصحراء القاحلة (وقد ذكرنا هذه التفاسير عند دراسة الآية 57 من سورة البقرة) وقلنا بأنّه لا يبعد أنّ «المن» كان نوعاً من العسل الطبيعي الذي كان في بطون الجبال المجاورة، أو عصارات وإفرازات نَباتية كانت تظهر على أشجار كانت نابتة هنا وهناك في تلك الصحراء، و«السلوى» نوع من الطير الحلال اللحم شبيه بالحمام.
ثمّ يقول الله تعالى: وقلنا (كلوا من طيبات ما رزقناكم).
ولكنّهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا في الحقيقة أنفسهم (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
ويجب الإِنتباه إلى أن مضمون هذه الآية جاء في الآيات (57) و (60) من سورة البقرة مع فارق بسيط، غاية ما في الأمر أنّه عبر عن نبوع الماء من الصخر هنا بـ «انبجست» وهناك بـ «انفجرت»، وحسب اعتقاد جماعة من المفسّرين أنّ التفاوت بين هاتين العبارتين هو أن «انفجرت» تعني «خروج الماء بدفع، وكثرة» و«انبجست» تعني «خروج الماء بقلّة» ولعل هذا التفاوت لأجل الإشارة إلى أنّ عيون الماء المذكورة لم تنبع من الصخرة العظيمة دفعة حتى يصير ذلك سبباً لإستيحاشهم وخوفهم وقلقهم، ولا تكون لهم قدرة على تنظيم المياه المندفقة وحصرها، بل خرجت ابتداءً بهدوء وقلة، ثمّ توسعت المجاري وكثرت المياه النابعة.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى مفهوم واحد.
* * *
وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَتِكُمْ سَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ(162)
في تعقيب الآيات السابقة تشير هاتان الآيتان إلى قسم آخر من المواهب الإِلهية لبني إسرائيل وطغيانهم تجاه تلك النعم، وكفرانهم بها.
يقول تعالى: (و) اذكروا (إذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم).
وقلنا لهم اطلبوا من الله حطّ الذنوب عنكم وعفوه عن خطاياكم، وادخلوا من باب بيت المقدس بخضوع (وقولوا حِطَّة وادخلوا الباب سجداً).
فاذا قمتم بهذه الأُمور غفرنا لكم خطاياكم، وأعطينا للمحسين ثواباً أكبر (ونغفر لكم خطيئاتكم وسنريد المحسنين).
وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة، ولو أردوا إغتنام الفرصة لاستطاعوا حتماً إصلاح ماضيهم وحاضرهم، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب، بل بدّلوا أمر الله، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه: (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم).
وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء (فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون).
ويجب الإِنتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضاً ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59)، وقد أوردنا تفسيراً أكثراً تفصيلا هناك.
والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا: (بما كانوا يظلمون)، وقال هناك: (بما كانوا يفسقون)، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأَجل أن الذنوب لها جانبان: أحدهما الجانب المرتبط بالله، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».
الجدير بالذِكر أن بني إسرائيل كانوا مكلَّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المفغرة لكل تلك الجرائم التي إرتكبوها، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.
وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا، لأنّ «حطّة» معناها إنزال الشيء من علو
وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأُخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيراً من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي، وجعلوه وسيلة للّهو والإِستهزاء والسخرية.
* * *
وسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيِهمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيِهمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مَعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِين يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابِ بَئِيس بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَْسِئينَ (166)
في هذه الآيات يستعرض مشهداً آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول له: اسأل يهود
عصرك حول تلك الجماعة، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.
إنّ هذه القصّة ـ كما أُشير إليها في الأحاديث الإِسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الإختبار والإِمتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.
في البداية تقول الآية: (واسألْهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر). أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.
ثمّ تقول: وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإِلهي (إذ يَعدون في السبت) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.
ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبارة التالية: (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.
و«السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للإستراحة، وما نقرأوه في سورة النبأ (وجعلنا نومكم سباتاً) اشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع، وسمّى «يوم السبتِ» بهذا الإسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم، ثمّ بقي هذا الإِسم لهذا اليوم علماً له.
ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت تحس
بنوع من الأمن من ناحية الصيادين، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجاً أفواجاً، بينما كانت تتوغل بعيداً في البحر في الأيّام الأُخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.
![]() |
![]() |
![]() |