والنقطة الأُخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة، وقرر

[166]

تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيماً كاملا، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.

على أنّه يحتمل ـ أيضاً ـ أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل، فتتحطم معنوياتهم من جهتين: أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم، والأُخرى: من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.

وعلى كل حال أراد بعبارة (إنّا فوقهم قاهرون) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.

سؤال:

وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى، وإنّما قرر ـ فقط ـ القضاء على أبناء بني إسرائيل؟

جواب:

يستفاد من آيات سورة المؤمن ـ جيداً ـ أنّ فرعون كان عازماً في البداية على قتل موسى، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعاً، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإِلهية يتحقق بمقتله، أثرت في روح فرعون وفكره.

هذا مضافاً إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان، ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى. ولعل فرعون خاف إن هو

[167]

اتّخذ من موسى(عليه السلام) موقفاً حاداً واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسى(عليه السلام).

والآية اللاحقة بيّنت ـ في الحقيقة ـ خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مباديء انتصروا على العدو حتماً:

أوّلها: الإِتكال على الله فقط (قال موسى لقومه استعينوا بالله).

والآخر: أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو: (واصبروا).

وللتأكيد على هذا المطلب، ومن باب ذكر الدليل، ذكّرهم بأنّ الأرض كلّها ملك الله، وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها، فهو يعطيها لمن يشاء (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده).

وآخر هذه المباديء هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى (والعاقبة للمتقين).

هذه المبادىء والشروط الثلاثة ـ أحدها في العقيدة (الإستعانة بالله) والثّاني في الأخلاق (الصبر والثبات) والأخير في العمل (التقوى) ـ ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لابدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء الضعفاء الإرادة، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقتاً غير باق.

والملفت للنظر أنّ هذه الشروط الثلاثة كل واحد منها متفرع على الآخر، فالتقوى لا تتوفر من دون الثبات والصبر في مواجهة الشهوات، وأمام بهارج العالم المادّي، كما أنّ الصبر والثبات لا يكون لهما أي بقاء ودوام من دون الإِيمان بالله.

[168]

وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسى(عليه السلام) فيقول: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فإذاً متى يحصل الفرج؟!

وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأُمور بقيام موسى(عليه السلام) في ليلة واحدة .... أن يزول فرعون ويسقط، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإِعجاز، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.

ولكن موسى(عليه السلام) أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل، ولكن أمامهم طريقاً طويلا، وإنّ هذا الإنتصار ـ طبقاً للسنة الإِلهية ـ يتحقق في ظل الإِستقامة والثبات والسعي والإِجتهاد، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة(قال عسى ربّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض).

وذكر كلمة «عسى» مثل كلمة «لعلّ» التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة ـ في الحقيقة ـ إلى أنّ لهذا التوفيق والإنتصار شرائط، من دونها لا يصلون إليه، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية 84 من سورة النساء).

ثمّ يقول في ختام الآية: إنّ الله أعطاكم هذه النعمة، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم(فينظر كيف تعملون)؟

يعني ستبدأ ـ بعد الإنتصار ـ مرحلة امتحانكم واختباركم، اختبار شعب كان فاقداً لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإِلهية.

إنّ هذا التعبير ـ هو ضمناً ـ إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا  الإختبار ـ في المستقبل ـ بنجاح، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.

ونقرأ في رواية وردت في كتاب الكافي مروية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال:

[169]

«وجدنا في كتاب علي صلوات الله عليه: إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون».(1)

وهذه إشارة إلى أن الحكم المذكور في هذه الآية حكم شامل، وقانون عام، والأرض هي الآن ـ في الحقيقة ـ للمتقين.

* * *


1 ـ التّفسير نورالثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 56.

[170]

الآيتان

وَلَقَدْ أَخَذَنَآ ءَالَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِّنَ الَّثمَرتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَـئِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131)

التّفسير

العقوبات التنبيهية:

لقد كان القانون الإِلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الاقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكّسلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.

وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون، إذ يقول تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم

[171]

يذكّرون).

و«السنين» جمع «سنة» بمعنى العام، ولكنّها إذا قرنت بلفظة «أخذ» أعطت معنى الإبتلاء بالقحط والجدب، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو: أُصيب بالقحط والجدب، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعاً جديداً، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الإِستثنائية، أي سنوات القحط وأعوام الجدب.

وكلمة «آل» كانت في الأصل «أهل» ثمّ قلبت فصارت هكذا، والأهل بمعنى أقرباء الإِنسان وخاصته، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه.

ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع، ولكن الخطاب فى الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء، لأنّ بيدهم أزمة الناس..... أن يضلوا الناس، أو يهدونهم، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضاً.

ويجب أن لا نستبعِد هذه النقطة، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاءً عظيماً لمصر، لأنّ مصر كانت بلداً زراعياً، فكان الجدب مؤذياً لجميع الطبقات، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضرراً بهذا البلاء.

ثمّ إنّه يُعلَم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات، لأنّ كلمة «سنين» صيغة جمع، وخاصّة أنّه أُضيف إليها عبارة (نقص من الثمرات) لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئاً من الأثر في الأشجار ولكن عندما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الاشجار أيضاً. ويحتمل أيضاً أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار اُصيبت بآفات قاتلة كذلك.

[172]

وكأنّ جملة (لعلَّهم يذكرون) إشارة إلى هذه النقطة، وهي: أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإِنسان، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجدداً، ومادة «تذكر» تناسب هذا المعنى.

هذا والجدير بالإنتباه أنّ جملة (لعلّهم يضرّعون) جاءت في ذيل الآية (94) وهي مقدمة أُخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإِنسان يتذكر أوّلا، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.

ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة، وفسّروها حسب مزاجهم، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا: إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا، وصلاحنا (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه).

ولكن عندما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى(عليه السلام) وجماعته فوراً ويقولون هذا من شومهم: (وإن تصبهم سيئةٌ يطّيروا بموسى ومن معه).

و«يطّيروا» مشتقة من مادة «تطيُّر» بمعنى التشاؤم، وأصلها من الطير، فقد كان العرب غالباً ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب، أو بطيران الطير، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم.

ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم: اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة، ولكن أكثرهم لا يعلمون (ألا إنّما طائرهم عندالله ولكن أكثرهم لا يعلمون).

والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصاً بالفرعونيين، بل هو

[173]

أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال، فهي ـ بغية قلب الحقائق، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئاً من جدارتها وكفاءتها، وإن لم يَكن في ذلك النَجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فوراً إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق.

يقول القرآن الكريم: إنّ أعداء الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضاً في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية 78 من سورة النساء).

وفي مكان آخر يقول: إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية 50) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز.(1)

التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة):

مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية، فيتفاءلون بأُمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأُمور، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيت كان له غالباً جانب خرا في غير معقول.

إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلاّ أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر، وإنّ التفاؤل غالباً يوجب الأمل والتحرك، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.

ولعله لأجل هذا لم يُنْه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل، بينما


1 ـ ذكر «حسنة» محلاةً بالألف واللام و «إذا» وذكر «سيئة» مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة، بينما كانت البلايا تنزل أحياناً.

[174]

نهي عن التشاؤم بشدّة، ففي حديث معروف مروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «تفاءلوا بالخير تجدوه» وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) الهداة(عليهم السلام) ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء، مثلا عندما كان المسلمون في «الحديبية» وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم «سهيل بن عمرو» مندوب من قريش، فلمّا علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإسمه قال متفاءلا باسمه: «قد سهل عليكم أمركم»(1).

وقد أشار العالم المعروف «الدميري» وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع، وقال: إنّما أحب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء(2).

ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب «التطير» و«الطيرة» ورد في الأحاديث الإِسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد، كما أُشير إليه في القرآن الكريم مراراً وتكراراً أيضاً، وشجب بشدّة(3).

ومن جملة ذلك ما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الطيرة شرك»(4) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.

وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً»(5).

وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الإِعتناء بها، فقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما


1 ـ الميزان، المجلد 19، الصحفة 86.

2 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، الصفحة 102.

3 ـ مثل سورة «يس» الآية (19)، وسورة النمل الآية (47)، والآية المطروحة على بساط البحث هنا.

4 ـ الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا.

5 ـ الميزان، في ذيل الآية المبحوثة هنا.

[175]

نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض (أي لا تعتنِ بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئاً) وإذا ظننتَ فلا تحقق».

والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين، بل وحتى النوابغ المعروفين، ومن جملتها: يعتبر المرور من تحت السلم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة، وإهداء سكين، أموراً يتشاءم بها بشدّة.

على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة، بل لها غالباً آثارٌ حسنة طيبة، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة، ونبذها من الأذهان، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل، والثقة بالله والإِعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإِسلامية.

* * *

[176]

الآيتان

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَة لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ(132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـت مُّفَصَّلَـت فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ(133)

التّفسير

النّوائب المتنوعة:

في هاتين الآيتين أُشير إلى مرحلة أُخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون، فعندما لم تنفع المرحلة الأُولى، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمِرة، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.

وفي الآية الأُولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى، وقالوا: مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك: (وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما

[177]

نحن لك بمؤمنين).

إنّ التعبير بـ «الآية» لعلّه من باب الإِستهزاء والسخرية، لأنّ موسى(عليه السلام)وصف معاجزه بأنّها آيات الله، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.

إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعاً لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الإِستخدام ... إنّ هذا الجهاز الإِعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان، وجعلها شعاراً عاماً ضد موسى(عليه السلام)، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى(عليه السلام) للحيلولة دون إنتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.

ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أُمّة أو قوماً من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون ... فقال أولا: (فأرسلنا عليهم الطوفان).

وكلمة «الطوفان» مشتقّة من مادة «الطوف» على وزن «خَوف» وتعني الشيء الذي يطوف ويدور، ثمّ أُطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإِنسان، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب، وبالتالي تدمر البيوت، وتقتلع الأشجار من جذورها.

ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).

وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيماً جدّاً إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضماً وإتلافاً، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.

وكلّما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى(عليه السلام) ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضاً، وقبل

[178]

موسى(عليه السلام)، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل (والقمل).

وأمّا ما هو المراد من «القمل» فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات، وتفسدها وتتلفها.

وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: (والضفادع)(1).

ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق، ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم (الدّم).

قال البعض: إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام، وأُصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم، بحيث صار تعافه الطباع، ولم يعد قابلا للإِنتفاع.

وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين. (آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).

وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة، والجراد في سنة أُخرى، والآفات الزراعية في سنة ثالثة، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال، لاشك أنّها كانت تقع بصورة


1 ـ الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعاً مختلفة من الضفادع.

[179]

منفصلة، وفي فواصل زمينة مختلفة (كمايقول القرآن: مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.

هذا والجدير بالإِنتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك، ولا شك أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه، وكانت هذه الشواطيء والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم، فقصورهم الجميلة الشامخة، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة، كانت في هذه الضفاف. وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيداً للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.

ومن الطبيعي أنّ الطوفان عندما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها، وكذا عندما كانت الضفادع تخرج من الماء، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأُولى.

كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضاً، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).

* * *

[180]

الآيات

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَـمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَءِيل (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَل هُم بَـلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلِينَ (136)

التّفسير

نقض العهد المتكرر:

في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإِلهيّة، ويستفاد من مجموعها أنّهم عندما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها، ويطلبون من موسى(عليه السلام) أن يدعو لهم، ويسأل الله في خلاصهم، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأُولى.

وفي الآية الأُولى نقرأ: (ولمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى اُدع لنا ربّك بما

[181]

عهد عندك).

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه: (وعهد عندك).

ثمّ يقولون: إذا دعوتَ فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل: (لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل).

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة: البلايا الصعبة، الطاعون، الوثن والوثنية، وسوسة الشيطان، والثلج أو البَرَد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الإِضطراب. وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الإِنحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبه والبلاء، لأنّها تصيب الإِنسان لانحرافه عن الحق، وارتكاب الذنب، وكذا يكون الرجز نوعاً من الإِنحراف عن الحق، والإِضطراب في العقيدة، ولهذا أيضاً يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أُخرى، فيقال لهذا الداء «الرَجَز» على وزن «المَرضْ».

والسبب في إطلاق الرَجَز على الأشعار الحربيّة، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أُشير إليها في الآيات السابقة، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأُخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها في الآيات

[182]

السابقة، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل، الذي وردت الإِشارة إليها في التوراة.

هذا، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة (بما عهد عندك) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإِلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه، ولكن يحتمل أيضاً أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلاّ ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول: (فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون).(1)

إنّ جملة (إلى أجل هم بالغوه) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعيّن أمداً، فكان يقول لهم: في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم، حتى يتّضح لهم أنّ إرتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمراً اتفاقياً وصدقة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة (إذا هم ينكثون) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الإستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسى(عليه السلام) ثمّ نقضهم للعهد، حتى أصبح نقض العهد جزءاً من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت، ونقض العهد، فتقول بصورة مجملة (فانتقمنا منهم).

ثمّ تشرح هذا الإنتقام وتذكر تفصيله (فأغرقناهم في إليم بأنّهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)(2).


1 ـ النكث على وزن مَكْث، يعني فل الحبل المفتول، ثمّ أُطلق على نقض الميثاق والعهد.

2 ـ يستفاد من مصادر اللغة، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر»، وهو يطلق على نهر النيل أيضاً، أمّا أن لفظة اليم هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه إشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل: أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

[183]

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعاً، لأنّ موسى(عليه السلام) ذكّرهم مراراً وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم، بل أنّهم تصرّفوا عملياً كما يفعل الغافلون، فلم يعتنوا بآيات الله أبداً.

ولا شك أن المقصود من الإنتقام الإِلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والإنتقام، بل المقصود من الإِنتقام الإِلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإِصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق، ولابدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والإِنتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

[184]

الآية

وَأَوْرَثْنَا الْقَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـرِقَ الاَْرْضِ وَمَغَـرِبَهَا الَّتِي بَـرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم:

بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية اراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة، سواء كان المنتَقَل منه حياً أو ميّتاً.

و«يستضعفون» مشتقّة من مادة «الإستضعاف» وتطابق كلمة «الإستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

[185]

جماعة أُخرى حتى يمكن للجماعة الأُولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتاً بين هذه اللفظة ولفظة الإِستعمار، وهو: أن الإِستعمار ظاهره تعمير الأرض، وباطنه الإِبادة والتدمير، ولكن الإِستضعفاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير بــ(كانوا يستضعفون) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري، وضعف أخلاقي، وضعف إقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير بـ (مشارق الأرض ومغاربها) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة، وبعبارة أُخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جداً من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّاً.

وجملة (باركنا فيها) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك، وفي هذا الزمان أيضاً، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّاً بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضاً.