![]() |
![]() |
![]() |
ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) اذا أضحى شعاراً شاملا في كل مكان، ينادي، به الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، والمؤلف والخطيب، والجندي والضابط، والفلاح والتاجر، وإلتزموا به في حياتهم وطبقوه، كان كافياً لجبران التخلفّ والتأخر.
إنّ سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العملية وأئمّة الإِسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعاً، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح، وشد الأزر ورفع المعنويات، وبناء معسكرات التدريب، وإختيار الزمان المناسب للهجوم، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.
والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيّام معركة حنين، فأرسل النّبي جماعة إِلى اليمن لشرائه فوراً.
ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ على شعار المشركين «اُعلُ هبل، اعلُ هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم: «إنّ لنا العزى ولا عزى لكم»، بقوله: «الله مولانا ولا مولى لكم»، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.
ومن التعاليم الإِسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة، فهو مثل آخر على تفكير الإِسلام العميق إِلى جانب الإِستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.
2 ـ واللطيفة المهمّة الأُخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تَخْلَقُ على مرور الزمان ولا تغدو باليةً أو منسوخة برغم القدم، فجملة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام، كما هي الحال اليوم، وسيبقى مفهومها حياً إِلى عشرات الآلاف من السنين الأُخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة، إذ أن جملة «ما استعطتم» عامّة، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.
3 ـ ويرد هنا سؤال وهو: لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.
وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانوناً شاملا لكل عصر وزمان، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليماً مهماً خاصاً بعصر النّبي، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.
ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إِلى الهدف المنطقي والإِنساني من وراء هذا الموضوع، فيقول: إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الاخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم، وليس الهدف هو توسعة
الإِستعباد والإِستعمار في العالم، بل الهدف من ذلك هو (ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)!
لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإِنسانية، ولا يفهمون غير منطق القوّة!
فإذا كان المسلمون ضعافاً، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية، فإنّ أعداء الحق والعدل والإستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.
واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسماً من الأراضي الإِسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل، وقتلوا المئات من الأبرياء، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية، وأحالوها إِلى أنقاض، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أُخرى إِلى سجلهم الأسود.... في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل، وأصدرت الأمم المتحدة بياناً دعت فيه إِلى إخلاء هذه الأرض، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الإِستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.
فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا، لتقول لنا: جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إِلى مكانه الأوّل.
وممّا يثير النظر وبسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و«عدوّكم» وذلك إشارة إِلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد
والدفاع عن الإسلام، بل الهدف هو حفظ رسالة الإِسلام الإِنسانية، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداءُ الله وأعداء الحق والعدل والإِيمان والتوحيد والأخلاق الإِنسانية، فينبغي الردّ عليهم انطلاقاً من هذا المجال.
وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإِسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله، وفي مسير إحياء الحق والعدل.
ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لاتعرفونهم فتقول: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم).
* * *
بالرّغم من أنّ المفسّرين إحتملوا في هذه الطائفة (الذين لا تعلمونهم)إحتمالات كثيرة، فقال بعضهم: إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم، وقال آخرون: إنّها إشارة إِلى الأعداء مستقبلا، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.
إلاّ أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم، فإذا قوي جيش الإِسلام فإنّ أُولئك سيقعون في حيرة واضطراب ويرحلون، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).
ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الاسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.
وتتضمن الآية تعليماً لمسلمي اليوم أيضاً، وهو أنّه لا ينبغي الإِكتفاء بالاستعداد لأعداء الإِسلام الذين تعرفونهم، بل عليكم أن تنتبهو للأعداء الإِحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما مُنوا بهجمات الأعداء المفاجئة.
وفي نهاية الآية إشارة إِلى موضوع مهم آخر، وهو أنّ الإستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله، ولن ينقص منه شيء أبداً (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم) فيرجع إليكم جميعه، بل أكثر ممّا أنفقتم (وأنتم لا تظلمون)، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإِسلام وقوته وعظمته، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضاً، فبناءً على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.
كما أنّ ثواباً أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله، فمع هذه الحال لا تظلمون، بل ستنالون خيراً كثيراً.
وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء، مالا كان أو نفساً أو فكراً أو منطقاً أو قوةً أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية
والعسكرية، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.
وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم، وبناءً على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبداً.
واللطيفة الأُخرى التي تستفاد من هذه الآية، وتكون جواباً على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه، فالآية تقول بوضوح: إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الإِعتداء على حقوق الآخرين، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّاً في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.
فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم، وما صَرّحَ به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإِسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإِسلام هو دين السيف، وتارةً يقولون بأنّ الإِسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد، ويقيسون النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بسائر محتلي البلدان في التاريخ.
وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعودوا إِلى القرآن، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع، لتتّضح لهم كل تلك الأُمور.
مع أنّ الآية السابقة أوضحت هدف الجهاد في الإِسلام بقدر كاف، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى
فتقول (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).
ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضاً، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضاً، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إِلى جهة، لذلك يمكن الإِستناد في تفسير هذه الآية إِلى جذر اللغة تارةً، وإِلى مفهومها الثّانوي تارةً أُخرى.
ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عندما يراد التوقيع على معاهدة الصلح، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل، فتقول: (وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم).
ومع ذلك فهي تحذر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من احتمال الإِحتيال والخداع في دعوة الأعداء، إِلى الصلح، فقد تكون دعوةً للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر، إِلاّ أنّ الآية تطمئن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يخشى هذا الأمر أيضاً، لأنّ الله عزّ وجلّ سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال، إذ تقول: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله).
وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة، لأنّ الله (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).
فكم أرادوا بك كيداً، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنةً، لكنّه عزّ وجلّ حفظك ورعاك في مواجهة كل ذلك.
أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكنَّ الله
شرح صدورهم بأنوار الهداية (وألف بين قلوبهم).
وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظاً وحقداً بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما، وسيكونون صفاً واحداً متراصاً، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن، ولم يكن هذا الإمر مقتصراً على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضاً الذين جاءوا من مكّة، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإِسلام ـ حب ومودّة، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضاً، لكن الله عزّ وجلّ غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثماثة وثلاثة عشر من أبطال بدر، منهم حوالي ثمانين نفراً من المهاجرين والباقي من الأنصار، فكانوا جيشاً صغيراً، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.
ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم).
إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالإِنتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن
الحضيض الذي كانوا فيه، للتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء.
وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب.
وتضيف الآية معقبة في الختام (إنّه عزيز حكيم).
فعزته تقتضي عجز الاخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.
* * *
1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين هم من الأنصار فحسب، ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.
ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والإِجتماعية بين الفقراء والأغنياء، والكبار والصغار، بين هذه القبيلة وتلك، تلك الخلافات و«الإِنشقاقات» أذهبها الإِسلام ومحا آثارها، كما يقول القرآن الكريم في مكان آخر: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخواناً) (1).
2 ـ إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب، فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل، لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق، وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس.
وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول: (يا أيّها النّبي حسبك الله وما اتبعك من المؤمنين).
ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عندما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن نسلم ونتبعك، يعني إنّنا مستعدون لا تباعك ونصرتك، فنزلت هذه الآية محذرةً النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون(2).
وقد أورد الحافظ أبو نعيم ـ وهو من أكابر علماء السنة ـ في كتابه فضائل الصحابة، بسنده، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أميرالمؤمنين، فالمقصود بالمؤمنين هو علي(عليه السلام)(3).
وقد قلنا مراراً: إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات
1 ـ آل عمران، 103.
2 ـ تفسير التبيان، ج 5، ص 152.
3 ـ موسوعة الغدير، ج 2، ص 51.
محدودة ومنحصرةً، بل المقصود فيها هو أنّ شخصاً كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعوانه.
* * *
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنَ يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـبِرُونَ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّيَفْقَهُونَ(65) الْئَـنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ واللَّهُ مَعَ الصَّـبِرِينَ(66)
في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضاً.
فالآية الأُولى منهما تخاطب الرّسول فتقول: (يا أيّها النّبي حرض المؤمنين على القتال).
إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند ساحة
القتال، فيلقون خطباً تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن.
غايه ما في الأمر أنّ مثل مسألة الترغيب والتشويق إِلى القتال محدودة في المدارس الماديّة، ولكنّها واسعة في الأديان السماوية، نظراً للتعاليم الربانية، وتأثير الإِيمان بالله، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإِسلاميّة تشحذ الجندي عزماً وقوّة وإقداماً لا حدود له، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء.
وعلى كل حال، فإنّ الآية توضح أهمية الإِعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليماً إسلامياً مهماً.
وتعقب الآية بالتعليم الثّاني فتقول: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا).
وبالرغم من أنّ الآية في صورة إخبار عن غلبة الرجل على عشرة، لكن بقرينة الآية بعدها (الآن خفّف الله عنكم) يتّضح أنّ المراد من ذلك هو تعيين الحكم أو الوظيفة والخطة والمنهج، لا أنّه مجرّد خبر وهكذا فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقداراً يُكافىء قوة العدو وأفراده، ليتحركوا إِلى ساحة القتال والجهاد، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.
ثمّ تشير الآية إِلى علّة هذا الحكم فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) وهذا التعليل يبدو عجيباً لأوّل وهلة، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم، ويؤمنون بنتائجه الإِيجابية في هذا العالم، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في
العالم الآخر، فهم يعلمون، لِمَ يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟
فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والإِستقامة.
أمّا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كعبدة الأصنام، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قُتلوا فمن يؤدّي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا رواء هذه الأفكار، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على إنهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم،وتجعل منهم كائنات ضعيفة.
وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف الله عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول: (الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً).
ثمّ يقول: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله).
ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد الله (والله مع الصابرين).
* * *
وهنا لابدّ من الإلتفات الى عدّة اُمور:
كما لاحظنا فإنّ الآية الأُولى تأمر المسلمين أن لا يتقاعسوا عن مواجهة الأعداء حتى إذا كانوا عشرة أضعافهم، غير أنّ الآية الثّانية تخفض هذا العدد إِلى ضعفين فحسب.
وهذا الإِختلاف الظاهر بين الآيتين جعل بعضهم يقول: إن الآية الاُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ نسختها الآية الثّانية، أو أنّه حمل الآية الأُولى على الإِستحباب والثّانية على الوجوب، أي إذا كان عدد الأعداء ضعف عدد المسلمين فيجب عليهم عدم التراجع عن ساحة الجهاد والقتال، أمّا إذا زاد عددهم عن الضعف حتى بلغ عشرة أضعافهم فلهم عندئذ أن لا يقاتلوهم، وإن كان الأفضل لهم أن لا ينسحبوا عن جهادهم العدوّ.
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرون أن الإختلاف الظاهري الموجود بين الآيتين لا يدل على النسخ، ولا يدل على الإِستحباب، بل إن لكل واحدة من الآيتين حكماً معيناً، فعندما يُبتلى المسلمون بالضعف والخور ويكثر فيهم المقاتلون غير المحنّكين أو غير المدرّبين ولا المتهيئين للقتال، فعندئذ يكون معيار العدد هو نسبة الضعف. أمّا إذا كان المقاتلون على إستعداد تام، أشداء في إيمانهم وعزائمهم كالكثير من أبطال بدر، فالنسبة عندئذ ترتقي إلى عشرة أضعاف.
فبناءً على ذلك فإنّ الحكمين في الآيتين محل البحث يرتبطان بالطائفتين المختلفتين وفي ظرفين متفاوتين.
وبهذا لا يوجد نسخ في الآي هنا، وإذا وجد في الرّوايات التعبير بالنسخ فينبغي الإِلتفات إِلى أن النسخ ذو معنى واسع ويشمل التخصيص في بعض الموارد.
إنّ الآيتين ـ محل البحث ـ تتضمنان هذا الحكم المسلّم به، وهو أنّ على المسلمين ألاّ ينتظروا موازنة القوى الظاهرية بينهم وبين العدو، بل عليهم أن ينهضوا لمواجهته وإن كان ضعف عددهم، بل حتى لو كان عشرة أضعاف عددهم أحياناً، وأن لا يفروا من العدوّ بسبب قلّة العدد أبداً.
وممّا يستجلب النظر أنّ أغلب المعارك التي كانت تجري بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّةً غالباً، ولم يكن هذا الأمر قد وقع في حروب الإِسلام في عصر النّبي فحسب ـ كبدر وأحد والأحزاب أو كمعركة مؤتة التي رووا أن جيش المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل، أمّا جيش العدو فأقل ما ذكروا عنه أنّه كان حوالي مئة وخمسين ألفاً، بل حتى الحروب بعد عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ذكروا أن فرقاً مذهلا كان بين جيش الإِسلام الذي حرر فارس وجيش الساسانيين، فقد قيل مثلا: إنّ الجيش الإِسلامي كان لا يتجاوز خمسين ألف مقاتل، بينما كان جيش خسرو پرويز خمسمائة ألف مقاتل!
وأمّا في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم، فقد ذكر المؤرخون أن الجيش الذي جمعه هرقل كان حوالي مئتي ألف مقاتل، بينما كان جيش الإِسلام لا يتجاوز أربعة وعشرين ألفاً!
والأعجب من ذلك أن المؤرخين يذكرون أنّ قتلى جيش الروم في معركة اليرموك كانوا يزيدون على سبعين ألفاً!!
وما من شك أن الموازنة بين القوى أو التفوق العسكري أحد أسباب النصر بحسب الظاهر، ولكن ما هو السبب الذي كان وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك؟
والإِجابة على هذا السؤال المهم ذكرها القرآن في الآيتين محل البحث في ثلاثة تعابير:
التّعبير الأوّل: يقول فيه: (عشرون صابرون) ثمّ قوله في الآية بعدها: (مائة صابرة) أي ذوو استقامة وثبات.
والمراد هنا أنّ روح الإِستقامة والثبات، التي هي ثمرة شجرة الإِيمان، كانت سبباً في أن يغلب الرجلُ المسلم عشرة أمثاله من الكفار.
التّعبير الثّاني: وفي مكان آخر يقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) أي أنّ عدم معرفة العدو هدفه، ومعرفتكم هدفكم المقدس، يستعاض عن موضوع قلتكم إزاء كثرة العدو.
التّعبير الثّالث: هو قوله سبحانه في الآي محل البحث: (بإذن الله) أي أن الإِمدادات الغيبية ولطف الله ورحمته تشمل مثل هؤلاء المجاهدين الصابرين فتنصرهم على عدوّهم.
وفي عصرنا يواجه المسلمون أعداءً ألدّاء أقوياء أيضاً، لكن العجيب أن جيش المسلمين في كثير من المعارك أكثر من جيش العدوّ، ولكن مع ذلك لا أثر لإِنتصار المسلمين، وكأنّهم يسيرون باتجاه مخالف عمّا كان يسير عليه المسلمون الأوائل.
والسّبب هو أنّ المسلمين اليوم لا يتمتعون بمعرفة كافية ويا للأسف، وقد فقدوا روح الصبر والإِستقامة بسبب ركونهم إِلى عوامل الفساد وزخرف الحياة المادية وزبرجها، كما أنّ الإِمداد الغيبي ورعاية الله قد سُلبا منهم بسبب تلوّثهم بالذنوب، فأبتلوا بمثل هذه العاقبة!
إلاّ أنّ طريق العدوة ما يزال مفتوحاً، وتأمل أن يأتي اليوم الذي يعي المسلمون مرّة أُخرى مفهوم هاتين الآيتين وأمثالهما ليخلعوا عن أنفسهم حالة الذل والتقهقر.
ممّا يستجلب النظر أنّ الكلام في الآية الأُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ كان على نسبة الواحد إِلى العشرة، فمثلت الآية بـ(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين).
إلاّ أن الكلام في الآية الثّانية كان عن نسبة الضعف مثل المئة في قبال
المئتين، والألف في قبال الألفين: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين الخ ...).
وكأن هذا المثال البليغ يريد أن يبيّن هذا الحقيقة، وهي أنّ الرجال الأشداء من ذوي العزيمة والإِيمان يمكنهم أن يشكلّوا جيشاً مقتدراً حتى لو كانوا عشرين رجلا، إلاّ أنّهم لو كانوا ضعفاء، فليس بإمكانهم أن يصنعوا جيشاً من عشرين، بل لابدّ أن يكونوا أضعاف هذا العدد لتشكيل جيش، «فلاحظوا بدقة».
* * *
مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الاَْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاَْخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَّوْلاَ كِتَـبٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68) فَكُلُوا ممّا غَنِمْتُمْ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(69) يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُمْ مِّنَ الاَْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(70) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)
بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب، لأنّ أغلب الحروب تقترن بتأسير جماعة من المتقاتلين من قبل الطرف الآخر، وقد أولى
الإِسلام أهمية قصوى لمسألة أسرى الحرب، من حيث أُسلوب التعامل معهم، ومن حيث بعض النواحي الإِنسانية وأهداف الجهاد أيضاً.
وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن، هو ما قالته الآية الكريمة من أن كل نبي ليس له الحق في أسرار افراد العدو الاّ بعد أن يثبت اقدامه في الارض ويكيل الضربات القاضية للأعداء: (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).
والفعل «يثخن» مأخوذ من «الثِخَن» على زنة «المِحَن» ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل، ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقُدرة، للسبب المذكور آنفاً.
وقال بعض المفسّرين: إنّ معنى (حتى يثخن في الأرض) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء، وقالوا: إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض» والإِلتفات إِلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه، بل القصد هو التفوق على العدو تماماً وإضهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.
إلاّ أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحياناً، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.
على أية حال، فإنّ الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة مهمّة في الحرب، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والإِنشغال بأخذ الأسرى قبل إندحار العدوّ بالكامل، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين ـ كما يستفاد من بعض الرّوايات ـ كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم، لأنّ العادة كانت أن يُدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإِفراج عنه بعد نهاية
الحرب.
ويعدّ هذا الأمر عملا حسناً في بعض المواقع، إلاّ أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا، لأنّ الإِنشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إِلى مكان آمن، كل ذلك يبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه، كما حدث في غزوة أحد، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.
وبناءً على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الإِطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإِنسانية توجب إيقاف القتل والإِكتفاء بأسرهم.
وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين: العسكرية، والإِنسانية، في عبارة موجزة:
ثمّ ألقت باللوم على أُولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة).
«والعرض» يعني الأُمور غير الثابتة، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عُبّر عنها بالعرض.
وكما قلنا آنفاً فإن الإِهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي، أي الإِنتصار على العدو، لا أنّه يحبط الثواب الأُخروي فحسب، بل يسيء إِلى الانسان في حياته الدنيا وإِلى عزّته ورفعته واستقراره، ففي الحقيقة، هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أُمور الدنيا الثابتة، فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة!
وتُختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر ـ في الواقع ـ مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير، لأنّه صادر من قبل الله تعالى (والله عزيز حكيم).
![]() |
![]() |
![]() |