![]() |
![]() |
![]() |
إِلهنا، الآن وقد أنهينا تفسير هذه السورة، ونحن نكتب هذه الأسطر، فإِن أعداءنا قد أحاطوا بنا، وقد ثارت أُمتنا الرشيدة لقلع جذور الظلم والفساد والإِستبداد، بوحدة لانظير لها، واتحاد بين كل الصفوف والطبقات بدون استثناء حتى الأطفال والرضع ساهموا في هذا الجهاد والمقارعة، ولم يتوان أي فرد عن القيام بأي نوع من التضحية والفداء.
ربّاه، إِنّك تعلم كل ذلك وتراه، وأنت منبع الرحمة والحنان، وقد وعدت المجاهدين بالنصر، فعجل النصر وأنزله علينا، واروِ هؤلاء العطاشى والعشاق من زلال الإِيمان والعدل والحرية، إِنّك على كل شيء قدير.
* * *
مَكيَّة
وَعَدَدُ آياتِهَا مَائة وتسْع آياتْ
هذه السورة من السور المكية، وعلى قول بعض المفسّرين فإِنّها نزلت بعد سورة الإِسراء وقبل سورة هود، وتوكّد ـ ككثير من السور المكية ـ على عدة مسائل أساسية وأُصولية، وأهمها مسألة المبدأ والمعاد.
غاية مافي الأمر أنّها تتحدث أوّلا عن مسألة الوحي ومقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ تتطرق إِلى نماذج وعلامات الخلقة العظيمة التي تدل على عظمة الله عزوجل، وبعد ذلك تدعو الناس إِلى الإِلتفات إِلى عدم بقاء الحياة المادية في هذه الدنيا، وحتمية زوالها، ووجوب التوجه إِلى الآخرة والتهيؤ لها عن طريق الإِيمان والعمل الصالح.
وقد ذكرت السورة ـ كدلائل وشواهد على هذه المسائل ـ أقساماً مختلفة من حياة كبار الأنبياء، ومن جملتهم نوح وموسى ويونس(عليهم السلام) ولهذا سمّيت بسورة يونس.
وقد ذكرت كذلك، لتأييد هذه المباحث، كلاماً عن عناد وتصلب عبدة الأوثان، وترسم وتوضح لهم حضور الله سبحانه في كل مكان وشهادته، وتستعين لإِثبات هذه المسألة بأعماق فطرة هؤلاء التي تتعلق بالواحد الأحد عندما يقعون في المشاكل والمعضلات، حيث يتّضح هذا التعلق الفطري بالله سبحانه.
وأخيراً فإِنّها تستغل كل فرصة للبشارة والإِنذار، البشارة بالنعم الإِلهية التي لا حدود لها للصالحين، والإِنذار والإِرعاب للطاغين والعاصين، لتكملة البحوث أعلاه.
ولهذا فإِنّنا نقرأ في رواية عن الإِمام الصّادق(عليه السلام): «من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة مرّة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من المقربين»(1)، وذلك لأنّ آيات التحذير والوعيد وآيات التوعية كثيرة في هذه السورة، وإِذا ماقُرئت بدقة وتأمل، فإنّها ستكشف ظلمة الجهل عن روح ابن آدم، وسيبقى أثرها عدّة أشهر على الأقل، وإِذا ما أدرك الإِنسان محتوى السورة وعمل بها، فإِنّه سيكون ـ يقيناً ـ يوم القيامة من المقربين.
ربّما لانحتاج أن نذكّر بأنّ فضائل السور ـ كما قلنا سابقاً ـ لايمكن تحصيله بمجرّد تلاوة الآيات من دون إِدراك معناها، ومن دون العمل بمحتواها، لأن التلاوة مقدمة للفهم، والفهم مقدمة للعمل!.
* * *
(1) تفسير نور الثقلين، ج2، ص290 ، وتفاسير أُخرى.
الر تِلْكَ أَيتُ الْكِتَبِ الْحَكِيمِ(1)أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُل مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْق عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَفِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَحِرٌ مُّبِينٌ(2)
في هذه السورة نواجه ـ مرّة أُخرى ـ الحروف المقطعة في القرآن، والتي ذكرت بصورة (ألف ولام وراء) وقد تحدثنا في بدايه سورة البقرة وآل عمران والأعراف في تفسير هذه الحروف بالقدر الكافي، وسنبحثها في المستقبل ـ إن شاء الله تعالى ـ في الموارد المناسبة، وسنضيف إِليها مباحث ومطالب جديدة.
بعد هذه الحروف تشير الآية أوّلا إِلى عظمة آيات القرآن وتقول: (تلك آيات الكتاب الحكيم).
إِنّ التعبير بـ (تلك) وهي إِسم إِشارة للبعيد، بدل (هذه) التي تشير للقريب، والذي
جاء نظيره في بداية سورة البقرة، يعتبر من التعبيرات الجميلة واللطيفة في القرآن، وهو كناية عن عظمة ورفعة مفاهيم القرآن، لأنّ المطالب اليسيرة والبسيطة يشار لها غالباً باسم الإِشارة القريب، أمّا المطالب المهمّة العالية المستوى، والتي تعانق السحاب في علو أفقها، فإِنّها تُبيّن باسم الإِشارة البعيد.
إِنّ توصيف الكتاب السماوي ـ أي القرآن ـ بأنّه (حكيم) هو إِشارة إِلى أن آيات القرآن محكمة ومنظمة ودقيقة، بحيث لايمكن أن يأتيها أو يخالطها أي شكل من أشكال الباطل والخرافة، فهي لا تقول إلاّ الحق، ولا تدعو إلاّ إِلى طريق الحق.
أمّا الآية الثّانية فإِنّها تبيّن ـ ولمناسبة تلك الإِشارة التي مرّت إِلى القرآن والوحي الإِلهي في الآية السابقة ـ واحداً من إِشكالات المشركين على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو نفس الإِشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة. وهذا التكرار يبيّن أن هذا الإِشكال من إِشكالات المشركين المتكررة، وهو: لماذا نزل الوحي الإِلهي من الله على إِنسان مثلهم؟ ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه الرسالة الكبيرة؟ فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إِلى رجل منهم).
الواقع أنّ كلمة «منهم» تضمنت الجواب على سؤالهم، أي إِنّ القائد والمرشد إِذا كان من جنس أتباعه، ويعلم أمراضهم، و مطلع على احتياجاتهم، فلا مجال للتعجب، بل العجب أن يكون القائد من غير جنسهم، بحيث يعجز عن قيادتهم نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.
ثمّ تشير إِلى محتوى الوحي الإِلهي. وتلخصه في أمرين:
الأوّل: إِنّ الوحي الذي أرسلناه، مهمته إِنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الكفر والمعاصى: (أن أنذر الناس).
والثّاني: هو (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربّهم).
وفي الوقت الذي يوجد بحث بين المفسّرين في المقصود من «قدم الصدق»، إلاّ
أنّ أحد التفاسير الثلاثة المذكورة هنا ـ أو كل الثلاثة ـ قابل للقبول بصورة علمية.
فالتّفسير الأوّل: إِن «قدم الصدق» هذا إِشارة إِلى أن الإِيمان له بـ «سابقة فطرية»، وإِنّ المؤمنين عندما يظهرون إِيمانهم فهم في الحقيقة يصدقون فطرتهم ـ لأنّ أحد معاني القدم هو السابقة ـ كما يقولون: لفلان قدم في الإِسلام، أو قدم في الحرب، أي إِنّ له سبقاً في الإِسلام أو الحرب.
والثّاني: إِنّه إِشارة إِلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة، لأنّ أحد معاني القدم هو المقام والمنزلة، وهو يناسب كون الإنسان يرد إِلى منزله ومقامه برجله، وهذا التّفسير يعني أنّ للمؤمنين مقاماً ومنزلة ثابتة وحتمية عند الله سبحانه، وأن أي قوّة لا تستطيع تغييرها وجعلها في شكل آخر.
أمّا التّفسير الثّالث فهو أن القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد، أي إِننا أرسلنا للمؤمنين قائداً ومرشداً صادقاً.
لقد وردت عدّة روايات عن طريق الشيعة والسنة لهذه الآية تفسر قدم الصدق بأنّه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولاية علي(عليه السلام) وتؤيد هذا المعنى (1).
وكما قلنا فإنّ من الممكن أن تكون البشارة بكل هذه الأُمور هي المرادة من التعبير أعلاه .
وتنهي الآية حديثها بذكر اتهام طالما كرّره المشركون واتهموا به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت: (قال الكافرون إنّ هذا لساحر مبين) .
إنّ كلمة (إن) و«لام» التأكيد وصفة «المبين»، كلها دلائل على مدى تأكيد أُولئك الكفار على هذه التهمة، وعبروا بـ (هذا) لتصغير مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والتقليل من أهميته.
أمّا لماذا اتهموا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر؟ فجوابه واضح، ذلك أنّهم لم يكونوا
(1) تفسيرالبرهان، ج 2، ص 177، وتفسير القرطبي، ج 5، ص 3145 .
يمتلكون الجواب المقنع مقابل إِعجاز كلامه وشريعته وقوانينه العادلة الرفيعة. فلم يكن لهم سبيل إلاّ أن يفسروا هذه الظواهر الخارقة للعادة بأنّها سحر، وبهذا فقط يمكنهم ابقاء البسطاء تحت سيطرة الجهل وعدم الإِطلاع على الواقع.
إِنّ أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دليل بنفسها على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقوم بأعمال خارقة للعادة، بحيث تجذب القلوب والأفكار نحوها، خاصّة وأن التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب السماوي، ولأجل خداع الناس فإِنّهم كانوا يجعلونه في إِطار السحر.
وسنتحدث عن هذا الموضوع في الآيات المناسبة إِن شاء الله تعالى.
* * *
إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَاالأَرضَ فىِ سِتَّةِ أَيَّامِ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَالِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(3)إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَروُاْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانوُاْ يَكْفُرُونَ(4)
بعد أن أشار القرآن الكريم إِلى مسألة الوحي والنّبوة في بداية هذه السورة، انتقل في حديثه إِلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء، ألا وهما المبدأ والمعاد، وبيّن هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين الآيتين.
فيقول أوّلا: (إِنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيّام). وكما أشرنا سابقاً، فإِنّ كلمة (يوم) في لغة العرب، وما يعادلها في سائر اللغات، تستعمل
في كثير من الموارد بمعنى المرحلة، كما نقول: في يوم ما كان الإِستبداد يحكم بلادنا، أمّا اليوم فهي في ظل الثورة الاسلامية تنعم الحرية، ويعني أن مرحلة الإِستبداد قد إنتهت وجاءت مرحلة استقلال الشعب وحريته(1).
وعلى هذا فإِنّ مفهوم الجملة أعلاه يكون: إِنّ الله سبحانه قد خلق السماء والأرض في ستة مراحل، ولما كنّا قد تحدثنا عن هذه المراحل الستة سابقاً، فإِنّنا لا نكرر الكلام هنا(2).
ثمّ تضيف الآية: (ثمّ استوى على العرش يدبر الأمر). كلمة «العرش» تأتي أحياناً بمعنى السقف، وأحياناً بمعنى الشيء الذي له سقف، وتارةً بمعنى الأسرّة المرتفعة، هذا هو المعنى الأصلي لها، أمّا معناها المجازي فهو القدرة، كما نقول: فلان تربع على العرش، أو تحطمت قوائم عرشه، أو أنزلوه من العرش، فكلها كناية عن تسلم القدرة أو فقدانها، في الوقت الذي يمكن أن لايكون للعرش أو الكرسي وجود في الواقع أصلا، ولهذا فإِنّ (استوى على العرش) تعني أنّ الله سبحانه قد أمسك بزمام أُمور العالم(3).
«التدبر» من مادة (التدبير) وفي الأصل من (دبر) بمعنى الخلف وعاقبة الشيء، وعلى هذا فإِنّ معنى التدبير هو التحقق من عواقب الأعمال، وتقييم المنافع، ثمّ العمل طبق ذلك التقييم. إِذن، وبعد أن تبيّن أنّ الخالق والموجد هو الله سبحانه، اتّضح أنّ الأصنام، ـ هذه الموجودات الميتة والعاجزة ـ لايمكن أن يكون لها أي تأثير في مصير البشر، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية: (مامن شفيع إلاّ من بعد إِذنه)(4).
(1) من أجل مزيد التوضيح، وذكر الأمثلة في هذا المجال راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
(2) المصدر السّابق.
(3) لمزيد التوضيح والإِطلاع على معاني العرش المختلفة، راجع تفسير الآية (54) من سورة الأعراف و (255) من سورة البقرة.
(4) لقد أوضحنا توضيحاً كافياً مسألة الشفاعة المهمّة في المجلد الأوّل في تفسير الآية (47) من سورة البقرة.
وتتحدث الآية التالية ـ كما أشرنا ـ عن المعاد، وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد، والدليل عليها، والهدف منها!.
فتقول أوّلا: (إِليه مرجعكم جميعاً) وبعد الإِستناد إِلى هذه المسألة المهمّة والتأكيد عليها تضيف: (وعد الله حقّاً) ثمّ تشير إِلى الدليل على ذلك بقولها: (إِنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيده) أي إِنّ هؤلاء الذي يشكّون في المعاد يجب عليهم أن ينظروا إِلى بدء الخلق، فإِنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيده من جديد. وقد مر بيان هذا الإِستدلال بصورة أُخرى في الآية (29) من سورة الأعراف ضمن جملة قصيرة تقول: (كما بدأكم تعودون) وقد سبق شرح ذلك في تفسير سورة الأعراف.
إِنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين، هي أنّهم كانوا يشكون في إِمكان حدوث مثل هذا الشيء، وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إِلى تراب، كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إِلى حالتها الأُولى؟ ولهذا نرى أنّ القرآن قد وضع إِصبعه على مسألة الإِمكان هذه ويقول: لا تنسوا أن الذي يبعث الوجود من جديد، ويحيي الموتى هو نفسه الذي أوجد الخلق في البداية.
ثمّ تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت: (ليجزي الذين أمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) أمّا أُولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإِنكار، ولم تكن لديهم أعمال صالحة ـ لأنّ الإِعتقاد الصالح أساس العمل الصالح ـ فإِنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم: (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).
وهنا نقطتان تسترعيان الإِنتباه:
1 ـ لما لم يكن لله سبحانه وتعالى مكان خاص، وخاصّة إِذا علمنا أنّه موجود
في كل مكان في جميع العوالم، وأنّه أقرب إِلينا منّا، فإِنّ هذه الحقيقة قد جعلت المفسّرين يفسرون (إِليه مرجعكم جميعاً) في هذه الآية، والآيات الأُخرى في القرآن، تفاسير مختلفة:
فقيل تارةً أن المقصود هو أنّكم ترجعون إِلى جزاء الله سبحانه.
وربّما اعتبر بعض الجاهلين هذا التعبير دليلا على تجسم الله سبحانه في يوم القيامة، وبطلان هذه العقيدة أوضح من أن يحتاج إِلى بيان وإِثبات.
إِلاّ أنّ الذي يبدو بدقة من خلال آيات القرآن الكريم، إِنّ عالم الحياة كقافلة تحركت من عالم العدم وتستمر في مسيرتها اللانهائية نحو اللانهاية التي هي ذات الله المقدسة، بالرغم من أنّ المخلوقات محدودة، والمحدود لايمكن أن يكون لا نهائياً قط، غير أنّ سيره إِلى التكامل لا يتوقف أيضاً، وحتى بعد قيام القيامة فإِنّ السير التكاملي سيستمر، كما أوضحنا ذلك في بحث المعاد.
يقول القرآن الكريم: (يا أيّها الإِنسان إِنّك كادح إِلى ربّك كدحاً).
ويقول: (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إِلى ربّك).
ولما كان بداية الحركة من جهة الخالق، حيث شعت منه أوّل بارقة للحياة، وأن هذه الحركة التكاملية ـ أيضاً ـ تسير نحوه، فقد عبّرت الآية بالرجوع. وبعبارة مختصرة فإِنّ هذه التعبيرات إِضافةً إِلى أنّها تشير إِلى أن بداية حركة عامّة الموجودات من الله سبحانه، فإِنّها تبيّن أيضاً أنّ هدف هذه الحركة وغايتها، هي ذات الله المقدسة. وإِذا لاحظنا أن تقديم كلمة «إليه» يدل على الحصر، سيتّضح أن اي وجود غير ذات الله المقدسة لايمكن أن يكون هدفاً وغاية لهذه الحركة التكاملية لا الأصنام ولا أي مخلوق آخر، لأنّ كل هذه الوجودات محدودة، ومسير الإنسان مسير لا نهائي.
2 ـ إِنّ كلمة «القسط» تعني في اللغة إِعطاء سهم آخر، ولذلك فقد أخفي فيها
مفهوم العدل والإِنصاف. واللطيف أنّ الآية قد استعملت هذه الكلمة في حق ذوي الأعمال الصالحة فقط، ولم تذكرها في جزاء الكافرين والسيئي الأعمال، وذلك لأنّ العذاب ليس على شكل الحصص والأرباح، وبتعبير أخر فإنّ كلمة القسط تناسب الجزاء الحسن فقط، لا العقاب.
* * *
هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الأَيَاتِ لِقُوْم يَعْلَمُونَ(5) إِنَّ فِى اخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لأَيَات يَتَّقُونَ(6)
لقد مرّت في الآيات السابقة إِشارة عابر إِلى مسألة المبدأ والمعاد، إلاّ أن هذه الآيات وما بعدها تبحث بصورة مفصلة هذين الأصلين الأساسيين اللذين يمثلان أهم دعامة لدعوة الأنبياء، وبتعبير آخر فإِنّ الآيات اللاحقة بالنسبة للسابقة بمثابة التفصيل للإِجمال.
لقد أشارت الآية الأُولى التي نبحثها إِلى جوانب من آيات عظمة الله سبحانه في عالم الخلقة فقالت: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً).
إِنّ الشمس التي تعم العالم بنورها لاتعطي النور الحرارة للموجودات فحسب، بل هي العامل الأساس في نمو النباتات وتربية الحيوانات، و إِذا دقّقنا النظر رأينا
أنّ كل حركة على وجه الكرة الأرضية، حتى حركة الرياح وأمواج البحار وجريان الأنهار والشلالات، هي من بركات نور الشمس، وإِذا ما انقطعت هذه الأشعة الحياتية عن كرتنا الأرضية يوماً فإِنّ السكون والظلمة والموت سيخيّم على كل شيء في فاصلة زمنية قصيرة.
والقمر بنوره الجميل هو مصباح ليالينا المظلمة، ولا تقتصر مهمّته على هداية المسافرين ليلا وإِرشادهم إِلى مقاصدهم، بل هو بنوره المناسب يبعث الهدوء والنشاط لكل سكان الأرض.
ثمّ أشارت الآية إِلى فائدة أُخرى لوجود القمر فقالت: (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) أي إِنّكم لو نظرتم إِلى القمر، وأنّه في أوّل ليلة هلال رفيع، ثمّ يكبر حتى يكون بدراً في ليلة النصف من الشهر، وبعدها يبدأ بالنقصان التدريجي حتى اليوم أو اليومين الأخيرين حيث يغيب في المحاق، ثمّ يظهر على شكل هلال من جديد ويدور إِلى تلك المنازل السابقة، لعلمتم أن هذا الإِختلاف ليس عبثاً ، بل إِنّه تقويم طبيعي دقيق جدّاً يستطيع الجاهل والعالم قراءته، ويقرأ فيه تاريخ أعماله وأُمور حياته(1).
ثمّ تضيف الآية: إِن هذا الخلق والدوران ليس عملا غير هادف، أو هو من باب اللعب، بل (ماخلق الله ذلك إلاّ بالحق).
وفي النهاية توكّد الآية: (يفصل الآيات لقوم يعلمون) إلاّ أنّ هؤلاء الغافلين وفاقدي البصيرة بالرغم من أنهم يمرون كثيراً على هذه الآيات والدلائل، إلاّ أنّهم لا يدركون أدنى شيء منها.
وتتطرق الآية الثّانية إِلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية الدالّة على وجوده سبحانه، فتقول: (إِنّ في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في
(1) لقد بحثنا في المجلد الثّاني حول كون القمر تقويماً طبيعياً يمكن من خلال حالاته المختلفة تعيين أيّام الشهر بدقّة (راجع تفسير الآية 189 من سورة البقرة) .
السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) فليست السماء والأرض بذاتهما من آيات الله وحسب، بل إن كل واحدة من الموجودات التي توجد فيهما تعتبر آية بحد ذاتها، إلاّ أنّ الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي، وهم الذين يقدرون على رؤية وجه الحقيقة وجمال المعشوق.
* * *
1 ـ هناك نقاش طويل بين المفسّرين في الفرق بين كلمتي الضياء والنور، فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحداً، والبعض الأخر قالوا: إِنّ الضياء استعمل في ضوء الشمس فالمراد به النور القوي، أمّا كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر فإِنّها تدل على النور الأضعف.
الرأي الثّالث في هذا الموضوع هو أنّ الضياء بمعنى النور الذاتي، أمّا النور فإِنّه أعم من الضياء ويشمل الذاتي والعرضي، وعلى هذا فإِنّ اختلاف تعبير الآية يشير إِلى هذه النقطة. وهي أنّ الله سبحانه قد جعل الشمس منبعاً فوّاراً للنور، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الإِكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس.
والذي يبدو أنّ هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن، هو الأصح، لأنا نقراً في الآية (16) من سورة نوح: (وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) وفي الآية (61) من سورة الفرقان، (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً) فإِذا لاحظنا أنّ نور السراج ينبع من ذاته، وهو منبع وعين للنور، وأن الشمس قد شُبهت في الآيتين بالسراج، سيتّضح أنّ هذا التفاوت مناسب جداً في الآيات مورد البحث.
2 ـ هناك اختلاف بين أهل الكتاب وكتّاب اللغة في أن (ضياء) جمع أم مفرد،
فالبعض، كصاحب كتاب «القاموس»، اعتبرها مفرداً، إلاّ أن البعض الآخر كالزجّاج إِعتبر الضياء جمعاً للضوء، وقد قبل هذا المعنى صاحبا تفسير «المنار» وتفسير «القرطبي»، وخاصّة صاحب المنار، حيث استفاد على أساس هذا المعنى إِستفادة خاصّة من الآية، فهو يقول: إِن ذكر الضياء بصيغة الجمع في شأن نور الشمس إِشارة إِلى الشيء الذي أثبته العلم اليوم بعد قرون، وهو أنّ نور الشمس مكون من سبعة أنوار، وبتعبير آخر سبعة ألوان، هي الألوان التي تظهر في قوس قزح، وتلاحظ عند مرور النور عبر المناشير البلورية.
ولكن يبقى هنا سؤال، وهو: هل أن نور القمر، رغم أنّه أضعف، غير متكون من الألوان المختلفة؟
3 ـ هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في أنّ ضمير (قدّره منازل) يعود إِلى القمر فقط، أم يرجع إِلى الشمس والقمر؟ فالبعض يعتقد أن الضمير وإِن كان مفرداً، إِلاّ أنّه يعود إِلى الإِثنين معاً، ونظير ذلك في الأدب العربي غير قليل.
اختيار هذا الرأي من أجل أن القمر ليس الوحيد الذي له منازل، بل إِنّ للشمس أيضاً منازل، ففي كل وقت تكون في برج خاص، والإِختلاف في الأبراج هذا هو مبدأ التاريخ والأشهر الشمسية.
والحق أنّ ظاهر الآية يوحي بأنّ هذا الضمير المفرد يعود للقمر فقط، لقربه منه، وهذا بنفسه يحتوي على نكتة، ذلك:
أوّلا: إِنّ الأشهر التي عرفت في الإِسلام والقرآن رسمياً هي الأشهر القمرية.
ثانياً: إِنّ القمر كرة متحركة ولها منازل، أمّا الشمس فإِنّها تقع في وسط المنظومة الشمسية، وليس لها حركة ضمن مجموع هذه المنظومة، وإِنّ اختلاف الأبراج ومسير الشمس في المدار الفلكي ذي الإِثني عشر برجاً، والذي يبداً من الحمل وينتهي بالحوت، ليس بسبب حركة الشمس، بل بسبب حركة الأرض حول الشمس، ودوران الأرض هذا هو السبب في أن نرى الشمس تقابل كل شهر
واحداً من البروج الفلكية الإِثني عشر، وعلى هذا فليس للشمس منازل مختلفة خلافاً للقمر. (دققوا جيداً).
إِنّ هذه الآية في الحقيقة تشير إِلى إِحدى المسائل العلمية المرتبطة بالأجرام السماوية كانت خافية على البشر في ذلك الزمان حيث ما يدركوا هذا الفرق بين حركة الشمس والقمر.
4 ـ لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات الله سبحانه، وذلك لأنّ نور الشمس إِذا استمر في إِشعاعه على الأرض، فإِنّ من المسلّم أن درجة الحرارة سترتفع إِلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض.
وكذلك الليل إِذا استمر فإِنّ كل شيء سينجمد لشدّة البرودة.
إِلاّ أنّ الله سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية(1).
إِنّ أثر العدد والحساب والتاريخ والسنة والشهر في نظام حياة البشر والروابط الإِجتماعية والمكاسب والأعمال لا يخفى على أحد.
5 ـ إِنّ مسألة العدد والحساب التي أشير إِليها في الآيات أعلاه، هي في الواقع واحدة من أهم مسائل حياة البشر في جميع النواحي والمجالات.
نعلم إنّ أهمية أية نعمة تتّضح أكثر عندما نلاحظ الحياة بدون تلك النعمة، وعلى هذا فلو أن حساب التاريخ وامتياز الأيّام والأشهر والسنين رفع من حياة البشر، مثلا لا توجد أيام واضحة ومحددة للأسبوع، ولا أيّام الشهر، ولا عدد الشهور والسنين، ففي هذه الحالة ستتعرض كل المسائل التجارية والإِقتصادية والسياسية وكل الإتفاقيات والبرامج الزمنية المعدة للخلل وعندها سوف لا يثبت حجر على حجر و ستنفرط عقده النظم في الاعمال، وحتى وضع الزراعة وتربية الحيوانات والصناعات الإِنتاجية ستعمها الفوضى والإِضطراب.
(1) لقد أوردنا توضيحات أُخرى حول هذا الموضوع في المجلد الأوّل (راجع تفسير الآية 164 من البقرة).
لكن لما كان الله سبحانه قد خلق الإِنسان ليحيا حياة سعيدة مقرونة بالنظام، فإِنّه قد وضع وسائلها تحت تصرفه.
صحيح أن الإِنسان يمكنه تنظيم أعماله إِلى حدّ ما بالأُمور الاعتبارية، إلاّ أنّه إِذا لم يستند إِلى الميزان الطبيعي فإنّ مقياسه الجعلي لا يكون عاماً و شاملا، وليس قابلا للإِعتماد.
إِنّ دوران الشمس والقمر ـ وبتعبير أصح دوران الأرض حول الشمس ـ والمنازل التي لهما، يشكل تقويماً طبيعياً واضح الأساس ويستفيد منه الجميع في كل مكان، ويعتمدون عليه، فكما أن مقدار اليوم والليلة يعتبر مقياساً تاريخياً صغيراً ينشاً نتيجة عالم طبيعي، أي حركة الأرض حول نفسها، فإِنّ الشهر والسنة يجب أن تستند إِلى دوران طبيعي، وعلى هذا المنوال فإِنّ حركة القمر حول الأرض يشكل مقياساً أكبر، فإِنّ الشهر يساوي ثلاثين يوماً تقريباً، وحركة الأرض حول الشمس ينتج منها مقياس أعظم، وهو السنة.
قلنا: إِنّ التقويم الإِسلامي يستند إِلى التقويم القمري ودوران القمر، ورغم أنّ دوران الشمس في الأبراج الإِثني عشر طريقة جيدة لتعيين الأشهر الشمسية، أنّ هذا التقويم مع أنّه طبيعي، إلاّ أنّه لا ينفع الجميع، وإِنّما يستطيع علماء النجوم فقط عبر رصد النجوم من تحديد كون الشمس في البرج الفلاني، ولهذا السبب فإِنّ الآخرين مجبورون على مراجعة التقاويم التي نظمت من قبل هؤلاء المنجمين.أن دوران القمر المنتظم حول الأرض يعطي تقويماً واضحاً يستطيع قراءة خطوطه وخرائطه حتى الأميون وسكّان البوادي.
وتوضيح ذلك إن هيئة القمر تختلف في كل ليلة في السماء عن الليلة السابقة واللاحقة، بحيث لا توجد ليلتان في طول الشهر تتحد فيها هيئة القمر في السماء، وإِذا دققنا قليلا في وضع القمر كل ليلة فإِنّنا سنعتاد رويداً رويداً على تعيين تلك الليلة من ليالي الشهر.
وقد يتصور البعض أن نصف الشهر الثّاني تتكرر في صور النصف الأوّل بعينها، وأنّ صورة القمر في ليلة الإِحدى والعشرين مثلا هي بعينها صورته في الليلة السابقة، إلاّ أن هذا اشتباه كبير، لأنّ جانب النقص في القمر في النصف الأوّل هو الطرف الأعلى، في حين أنّ جانب نقصه في النصف الثّاني من الطرف الأسفل، وبتعبير آخر فإِنّ أطراف الهلال الدقيقة تكون إِلى الشرق في البداية، بينما هي في الجانب الغربي عند أواخر الشهر، إِضافةً إِلى أنّ القمر يرى في الغرب أوائل الشهر، أمّا في أواخره فإِنّه يرى في الشرق، ويتأخر كثيراً في طلوعه. وعلى هذا فإِنّه يمكن الإِستفادة من شكل القمر مع تغييراته التدريجية كعداد يومي، ولتحديد أيّام الشهر بدقة من خلال شكل القمر.
على كل حال، فإِنّنا في هذه الموهبة التي نسميها «النظام التأريخي»، مدينون لهذا الخلق الإِلهي، ولولا حركات القمر والشمس (والأرض) لكان لنا وضع مضطرب وفوضوي في الحياة لم يكن في الحسبان تصوره.
إِنّ السجناء في الزنزانات الإِنفرادية المظلمة، والذين أضاعوا الزمان والأوقات ولم يهتدوا إِليها، قد أحسوا بهذه الحيرة وعدم الهدفية والتكليف.
يقول أحد السجناء في عصرنا الحاضر الذي قضى شهراً في زنزانة إِنفرادية مظلمة لعملاء الظالمين: لم تكن لي أيّة وسيلة أو طريقة لتحديد أوقات الصلاة، إلاّ أنّهم عندما كانوا يأتونني بالغداء كنت أصلي الظهر والعصر، وإِذا ما أتوا بالعشاء أصلي المغرب والعشاء، وصلاة الصبح عادة مع الفطور! ولكي أحسب الأيّام فإِنّي كنت آخذ وجبات الطعام بنظر الإِعتبار، فكل ثلاث وجبات أعدها يوماً، غير أني لا أعلم ماذا حدث عندما خرجت من السجن، فقد رأيت اختلافاً بين حسابي وحساب الناس!.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ أَيَاتِنَا غَفِلُونَ(7) أُوْلئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(8) إِنَّ الَّذِينَ أَمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَرُ فىِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9)دَعْوَاهُمْ فِيَْهَا سُبْحَنَك اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)
كما مرت الإِشارة، فإِنّ القرآن قد عرض في بداية هذه السورة بحثاً إِجمالياً عن موضوع المبدأ والمعاد، ثمّ بدأ بشرح هذه المسألة، ففي الآيات السابقة كان هناك شرح وبحث حول مسألة المعاد، ويلاحظ في هذه الآيات تفصيل حول المعاد ومصير الناس في العالم الآخر.
ففي البداية يقول: (إِنّ الذين لايرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا
بها) فهم لايعتقدون بالمعاد وتجاهلوا الآيات البينات فلم يتدبروا فيها كيما تستيقظ قلوبهم ويتحرك فيهم روح الاحساس بالمسؤولية (والذين هم عن آياتنا غافلون) فكلا هاتين الطائفتين مصيرهم الى النّار: (أُولئك مأواهم النّار بما كانوا يكسبون).
إِنّ النتيجة الطبيعية والحتمية لعدم الإِيمان بالمعاد هي الإِرتباط بهذه الحياة المحدودة والعلائق المادية، والإِطمئنان بها والإِعتماد عليها، ونتيجة ذلك ـ أيضاً ـ هو تلوّث الاعمال وفساد السلوك في أنماط الحياة المختلفة، ولاتكون عاقبة ذلك إِلاّ النّار.
وكذلك فإِنّ الغفلة عن الآيات الإِلهية هي أساس البعد عن الله سبحانه، والإِبتعاد عن الله هو العلّة لعدم الإِحساس بالمسؤولية والتلوّث بالظلم والفساد والمعصية، وعاقبة ذلك لا تكون إلاّ النّار.
بناءً على هذا، فإِنّ كلا الفريقين أعلاه ـ أي الذين لا يؤمنون بالمبدأ، أو لايؤمنون بالمعاد ـ سيكونان ملوّثين حتماً بالاعمال الذميمة، ومستقبل كلا الفريقين مظلم.
إِنّ هاتين الآيتين توكّدان مرّة أُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ إِصلاح مجتمع ما وإِنقاذه من نار الظلم والفساد، يتطلب تقوية رُكني الإِيمان بالله والمعاد اللذين هما شرطان ضروريان وأساسيان، فإنّ عدم الإِيمان بالله سبحانه سيقتلع الإِحساس بالمسؤولية من وجود الإِنسان، والغفلة عن المعاد يذهب بالخوف من العقاب، وعلى هذا فإِنّ هذين الأساسين العقائديين هما أساس كل الإِصلاحات الإِجتماعية.
![]() |
![]() |
![]() |