![]() |
![]() |
![]() |
بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة، أشير هنا إِلى وضعهم المؤلم في القيامة. تقول الآية: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم).
الإِحساس بقلة مقدار الإِقامة في دار الدنيا وقصره، إِمّا لأنّه بالنسبة للحياة الاُخروي لايبلغ سوى ساعة واحدة. أو لأنّ هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة بحيث كأنّها لم تكن أكثر من ساعة، أو لأنّهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الإِستفادة الصحيحة، فيتصورون أنّها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة !.
بناء على ماقلناه في التّفسير أعلاه، فإِنّ جملة (يتعارفون بينهم) إِشارة إِلى
مقدار بقائهم في الدنيا، أي إِنّهم يحسون أنّ أعمارهم كانت قصيرة إِلى الحد الذي يكفي لالتقاء شخصين وتعارفهما ثمّ تفرقهما !.
وقد احتمل أيضاً ـ في تفسير هذه الآية ـ أنّ المقصود هو الإِحساس بقصر الزمان بالنسبة لحياة البرزخ، أي إِنّ هؤلاء يعيشون في فترة البرزخ حالة شبيهة بالنوم بحيث لايشعرون بمرور السنين والقرون والأعصار، ويظنون في القيامة أن مرحلة برزخهم التي استغرفت آلاف أو عشرات الآلاف من السنين، لم تكن إلاّ ساعة. والشاهد على هذا التّفسير الآيتان (55) ـ (56) من سورة الروم، اللتان تقولان: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله إِلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لاتعلمون).
يستفاد من هاتين الآيتين أنّ مجموعة من المجرمين يُقسمون في القيامة أن فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة، إلاّ أنّ المؤمنين يقولون لهم: إِنّ المدّة كانت طويلة، والآن قد قامت القيامة وأنتم لاتعلمون. ونحن نعلم أن البرزخ ليس متساوياً بالنسبة للجميع، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.
وبناءً على هذا التّفسير، فإِنّ معنى جملة (يتعارفون بينهم) سيكون: إِنّ هؤلاء يحسون بأنّ زمان البرزخ كان قصيراً بحيث أنّهم لم ينسوا أي أمر من أُمور الدنيا، ويعرف بعضهم البعض الآخر جيداً. أو أنّ كلاً منهم يرى أعمال الآخرين القبيحة هناك، ويطّلع كل منهم على باطن الآخر، وهذا بحد ذاته فضيحة كبرى بالنسبة لهؤلاء.
ثمّ تضيف الآية أنّه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) وانفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى (وماكانوا مهتدين) بسبب هذا التكذيب والإِنكار والإِصرار على الذنب، ولأنّ قلوبهم وأرواحهم كانت مظلمة.
وتقول الآية التالية تهديداً للكفار، وتسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِمّا نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإِلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على مايفعلون).
وتبيّن الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانوناً كلياً في شأن كل الأنبياء، ومن جملتهم نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل الأمم ومن جملتها الأُمّة التي كانت تحيا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (ولكل أُمّة رسول) فإِذا جاء رسولها وبلغ رسالته، وآمن قسم منهم وكفر آخرون، فإِنّ الله سبحانه يقضي بينهم بعدله، ولا يظلم ربّك أحداً، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمعون بالحياة، أمّا الكافرون فإِنّهم فمصيرهم الفناء او الهزيمة: (فإِذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون).
وهذا ما حصل لنبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وأُمته المعاصرة له، فإِنّ أعداءه هلكوا في الحروب، أو انهزموا في النهاية وطردوا من ساحة المجتمع وأخذ المؤمنون زمام الأُمور بأيديهم. وبناء على هذا فإِنّ القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو القضاء التكويني في هذه الدنيا، وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّه إِشارة إِلى حكم الله يوم القيامة. فهو خلاف الظاهر.
* * *
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَدِقِينَ(48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّاًْ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(49) قُلْ أَرءَيْتُمْ إنْ أَتَكُمْ عَذَابُهُ بَيَتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الُْمجْرِمُونَ(50)أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِ ءَآلأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(52)
بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري الحق، فإِنّ هذه الآيات تنقل أوّلا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم وانكارهم. فتقول: (ويقولون متى هذا الوعد إِن كنتم صادقين).
هذا الكلام كان كلام مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتماً، لأنّ الآيات التالية التي
تتضمن جواب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شاهدة على هذا المطلب.
على كل حال، فإِنّ هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم بتهديدات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة، وتقوية قلوب الذين خافوا من هذه التهديدات وتهدئة خواطرهم ليرجعوا إِلى صفوفهم.
وفي مقابل هذا السؤال، فإِنّ الله سبحانه أمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بعدّة طرق:
فيقول أوّلا: (قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ماشاء الله) فإنّي لست إلاّ رسوله ونبيّه، وإِنّ تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط، وإِذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، فمن باب الأُولى أن لا أملكهما لكم.
إِنّ هذه الجملة في الحقيقة إِشارة إِلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شيء في هذا العالم بالله سبحانه، وكل الحركات والافعال معلولة لارادته ومشيئته، فهو الذي ينصر المؤمنين بحكمته، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.
من البديهي أنّ ذلك لا ينافي أنّ الله قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها جلب النفع ودفع الضرر، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا، وبتعبير آخر فإِنّ هذه الآية تنفي الملكية بالذات لا بالغير، وجملة (إِلاّ ما شاء الله) قرينة واضحة على هذا الموضوع.
ومن هنا يُعلم أنّ استدلال بعض المتعصبين ـ ككاتب تفسير المنار ـ بهذه الآية على نفي جواز التوسل بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف جدّاً، لأنّه إِذا كان المقصود من التوسل أن نعتبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذا قدرة ذاتية ومالكاً للنفع والضر، فإِنّ هذا شرك قطعاً، ولا يمكن أن يؤمن بهذا أي مسلم، أمّا إِذا كانت هذه الملكية من الله سبحانه وهي داخلة تحت عنوان: إلاّ ما شاء الله، فما المانع من ذلك؟ وهذا هو عين الإِيمان والتوحيد. إلاّ أنّه نتيجة الغفلة عن هذه النكتة أتلف وقته ووقت قُرّاء تفسيره بالبحوث الطويلة، وهو مع الأسف (رغم كل الإِمتيازات الموجودة في تفسيره) قد ارتكب كثيراً من هذه الأخطاء، والتي يمكن اعتبار التعصب منبعها جميعاً!
ثمّ يتطرق القرآن إِلى جواب آخر ويقول: (لكل أُمّة أجل إِذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وبتعبير آخر فإِنّ أي أُمّة إِذا انحرفت عن مسير الحق، فسوف لا تكون مصونة من العذاب الإِلهي الذي هو نتيجة أعمالها، فعندما ينحرف الناس عن قوانين الخلقة والطبيعة فسيبددون طاقاتهم وملكاتهم في فراغ ويسقطوا في النهاية في هاوية الانحطاط ويحتفظ تاريخ العالم في ذاكرته بنماذج كثيرة من ذلك.
في الواقع إِنّ القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب الإِلهي بأن لا يعجلوا، فعندما يحل موعدهم فإِنّ هذا العذاب سوف لن يتأخر أو يتقدم لحظة.
ويجب الإِلتفات إِلى أنّ الساعة قد تعني أحياناً لحظة، وأحياناً المقدار القليل من الزمن، بالرغم من أنّ معناها المعروف اليوم هو الأربع والعشرون ساعة التي تشكل الليل والنهار.
وتطرح الآية الأُخرى الجواب الثّالث، فتقول: (قل أرأيتم إِنّ أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً) فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجىء غير المرتقب؟ وإِذا كان الحال كذلك فـ (ماذا يستعجل منه المجرمون)؟
وبتعبير آخر، فإِنّ هؤلاء المجرمين الجريئين إِن لم يتيقنوا نزول العذاب فليحتملوا على الأقل أن يأتيهم فجأة، فما الذي يضمن لهؤلاء أنّ تهديدات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن تقع أبداً؟ إِنّ الإِنسان العاقل يجب أن يراعي الإِحتياط على الأقل في مقابل مثل هذا الضرر المحتمل ويكون منه على حذر.
وورد نظير هذا المعنى في آيات أُخرى من القرآن، وبتعبيرات أُخرى، مثل: (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البرّ أو يرسل عليكم حاصباً ثمّ لا تجدوا لكم وكيلا)سورة الإِسراء، الآية (68) . وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الكلام والأُصول
بقاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل»(1).
وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء، فهي تقول: إِذا كنتم تفكرون أن تؤمنوا حين نزول العذاب، وأنّ إِيمانكم سيقبل منكم، فإِنّ ظنّكم هذا باطل لا صحّة له: (أثمّ إِذا ماوقع أمنتم به)، لأنّ أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد نزول العذاب، وليس للإِيمان حينئذ أدنى أثر، بل يقال لكم: (الآن وقد كنتم به تستعجلون).
هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي، وفي الآخرة: (ثمّ قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون)، فإِنّ أعمالكم في الواقع هي التي أخذت بأطرافكم، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.
* * *
1 ـ كما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة الأعراف، فإِنّ بعض أهل البدع والاديان المختلقة في عصرنا استدلوا بآيات. مثل: (لكل أُمّة أجل) التي وردت مرّتين في القرآن، على نفي خاتمية نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوصلوا إِلى أن كل دين ومذهب ينتهي في النهاية ويخلي مكانه لمذهب آخر. في حين أن الأُمّة تعني القوم والجماعة. لا المذهب.
إِنّ هدف هذه الآيات هو أنّ قانون الحياة والموت لا يختص بالأفراد، بل إِنّه يشمل الأقوام والأمم أيضاً، فاذا سلكوا طريق الظلم والفساد فإِنّهم سينقرضون لا
(1) يتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ الآية المذكورة تشتمل على قضية شرطية، ذكر شرطها، إِلاّ أنّ جزاءها مقدر، وجملة: (ماذا يستعجل منه المجرمون) جملة مستقلة. وتقدير الآية هكذا: أرأيتم إِن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً كنتم تقدرون على دفعه أو تعدونه أمراً محالا فإِذا كان الأمر كذلك (ماذا يستعجل منه المجرمون). وما احتمله البعض من أن جملة: ماذا يستعجل .. هي جزاء الشرط بعيداً جداً. دققوا ذلك.
محالة، خاصّة إِذا لاحظنا في هذا البحث الآية التي قبلها والتي بعدها، فستثبت هذه الحقيقة بوضوح، وهي أنّ الكلام ليس عن نسخ المذهب، بل عن نزول العذاب وفناء قوم أو أُمّة، لأنّ الآية السابقة واللاحقة تتحدثان عن نزول العذاب والعقاب الدنيوي.
2 ـ إِذا لاحظنا الآيات أعلاه سيأتي هذا السؤال، وهو: هل ستبتلي المجتمعات الإِسلامية أيضاً بهذا العقاب والعذاب في هذا العالم؟
والجواب عن هذا السؤال بالإِيجاب، إِذ لا دليل لدينا على أنّ هذه الأُمّة مستثناة، بل إِنّ هذا القانون في حق كل الأُمم والملل، وما قرأناه في بعض آيات القرآن ـ الأنفال / 33 ـ من أنّ الله سبحانه سوف لا يعذب هذه الأُمّة، فهو مشروط بواحد من شرطين: إِمّا وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين أُولئك، أو الإِستغفار والتوبة من الذنوب، لا أنّه بدون قيد أو شرط.
3 ـ توكّد الآيات أعلاه مرّة أُخرى على هذه الحقيقة، وهي أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ، وسبب ذلك واضح، لأنّ التوبة في مثل هذه الأحوال تكون عن اكراه واجبار، ومثل هذه التوبة لاقيمة لها.
* * *
وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبَّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْس ظَلَمَتْ مَا فِى الأرْضَ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(54) أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(55) هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(56)
كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضاً.
فالآية الأُولى تقول: إِنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإِلهي في هذا العالم والعالم الآخر: (ويستنبئونك أحق هو) ومن المعلوم أنّ «الحق» هنا ليس في مقابل الباطل، بل المراد منه هو: هل إِنّ لهذه العقوبة حقيقة وواقعاً وأنّها ستتحقق؟ لأنّ الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة، ومن البديهي
أنّ الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.
ويأمر الله سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: (قل أي وربّي إِنّه لحق) وإِذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإِلهي فانتم على خطأ كبير: (وما أنتم بمعجزين).
الواقع إِنّ هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع، ففي الجملة الأُولى يقول: إِن عذاب المجرمين امر واقعي، ويضيف في الجملة الثّانية أن أية قدرة لاتستطيع أن تقف أمامه، تماماً كالآيات (8) ـ (9) من سورة الطور: (إِنّ عذاب ربّك لواقع ما له من دافع).
إِنّ التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الإِنتباه، فمن جهة القسم، ومن جهة أُخرى إِنّ ولام التأكيد، ومن جهة ثالثة جملة (وما أنتم بمعجزين) وكل هذه توكّد على أنّ العقاب الإِلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.
وتوكّد الآية الأُخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصّة في القيامة، فتقول: (ولو أن لكل نفس ظلمت مافي الأرض لافتدت به)(1). في الواقع، إِنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإِلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئاً، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس اُبرة، خاصّة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنّهم: يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم ممّا يوجب لهم اظهار الندم مزيداً من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم ابراز الندم: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب).
ثمّ توكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك، فإِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: (وقضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون). إِنّ هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائماً في مسأله العقوبة والعدالة، لأنّ تأكيدات
(1) في الواقع، إِن في الجملة أعلاه جملة مقدرة، وهي: (من هول القيامة والعذاب).
الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين تَوَهُّمَ أَنَّ المسألة مسألة انتقام، ولذا فإِنّ القرآن يقول أوّلا إِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط، ثمّ يؤكّد على أنّ أي أحد من هؤلاء سوف لايظلم.
ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإِلهية مأخذ الهزل، ولكي لايظنوا أنّ الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: (ألا إِنّ لله ما في السماوات والأرض ألا إِنّ وعد الله حق ولكن أكثرهم لايعلمون) لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.
وتوكّد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرّة أُخرى، حيث تقول: (هو يحيي ويميت) وبناء على ذلك فإِن له القدرة على إِماتة العباد، كما أن له القدرة على إِحيائهم لمحكمة الآخرة، وفي النهاية: (وإِليه ترجعون) وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك.
* * *
1 ـ من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه: هل أنّ لسؤال المشركين عن واقعية العقاب الإِلهي صفة الإِستهزاء، أم أنّه كان سؤالا حقيقياً؟
ذهب البعض الى أنّ السؤال الحقيقي علامة الشك، وهو لا يناسب وضع المشركين، إلاّ أنّه بملاحظة أنّ كثيراً من المشركين كانوا في حالة تردد، وجماعة منهم أيضاً كانوا على علم بأحقية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب والعناد وأمثال ذلك، فسيبدو واضحاً أن كون سؤال هؤلاء حقيقياً ليس بعيداً أبداً.
2 ـ إِن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتّضحت آثاره السلبية سواء استطاع الإِنسان أن يجبر ذلك أم لا، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثّاني، وإِنّما كتموه لأنّ إِظهاره سيزيد من فضيحتهم.
* * *
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)
لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضاً، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطاباً عالمياً وشمولياً وتقول:
(يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم
وشفاء لما في الصدور
وهدى
ورحمة للمؤمنين).
لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لابدّ أن نعتمد أوّلا على لغاتها ومعناها.
«الوعظ» و«الموعظة»، كما جاء في المفردات: هو النهي الممتزج بالتهديد، أنّ معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهراً، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في نفس كتاب المفردات، أنّ الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب. وفي الحقيقة فإِنّ كل نصح وإِرشاد يترك أثراً في المخاطب، ويخوفه من السيئات ويرغّبه في الصالحات يسمى وعظاً وموعظة. وطبعاً ليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير، بل المراد أنّها تؤثر في القلوب المستعدة.
والمقصود من شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.
والمقصود من «الهداية» هو الهداية نحو المقصود، أي تكامل ورقي الإِنسان في كافة الجوانب الإِيجابية.
والمراد من «الرحمة» هي النعم المادية والمعنوية الإِلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، كما نقراً في كتاب المفردات أنّ الرحمة متى ما نسبت إِلى الله فإِنّها تعني بذله وهبته للنعم، وإِذا ما نسبت إِلى البشر فإِنّها تعني العطف ورقة القلب.
في الواقع، إِنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإِنسان في ظل القرآن.
المرحلة الأُولى: مرحلة الموعظة والنصيحة.
المرحلة الثّانية: مرحلة تطهير روح الإِنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.
المرحلة الثّالثة: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.
المرحلة الرّابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإِنسان إِلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة الله ونعمته.
وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها، والجميل في الأمر أنّها تتمّ جميعاً في ظل نور القرآن وتوجيهاته.
القرآن هو الذي يعظ البشر، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، والقرآن أيضاً هو الذي ينزل النعم الإِلهية على الفرد والمجتمع.
ويوضح أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير، حيث يقول: «فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على ولائكم، فإِنّ فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال»(1).
وهذا بنفسه يبيّن أنّ القرآن وَصْفَة لتحسين حال الفرد والمجتمع، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي، فإِنّهم يبحثون عن دوائهم وعلاجهم في المذاهب الأُخرى، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط، لا كتاب تفكر وعمل!
وتقول الآية الأُخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإِلهية الكبرى ـ أي القرآن المجيد ـ: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)ولا يفرحوا بمقدار الثروات، وعظم المراكز، وعزة القوم والقبيلة، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن، فهو أفضل من كل ما جمعوه، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع، إِذا (هو خير ممّا يجمعون).
* * *
(1) نهج البلاغة، الخطبة 176.
ظاهر الآية الأُولى من هذه الآيات، كما هو ظاهر بعض آيات أُخرى من القرآن، أنّ مركز الأمراض الأخلاقية هو القلب.
إِنّ هذا الكلام يمكن أن يعارضه في البداية هذا الإِشكال، وهو أنّنا نعلم أن كل الأوصاف الأخلاقية والمسائل الفكرية والعاطفية ترجع إِلى روح الإِنسان، وليس القلب إلاّ مضخة أتوماتيكية لنقل الدم وتغذية خلايا البدن.
هذا حقّ طبعاً، فإِنّ القلب له وظيفة إِدارة جسم الإِنسان، والمسائل النفسية مرتبطة بروح الإِنسان، لكن توجد هنا نكتة دقيقة إِذا ما لوحظت سيتّضح رمز هذا التعبير القرآني، وهي أنّ في جسم الإِنسان مركزين كل منهما مظهر لبعض الأعمال النفسية للإِنسان، أي أنّ كلا من هذين المركزين إِذا تأثر بالإِنفعالات النفسية فإِنّه سيظهر رد الفعل مباشرة: أحدهما المخ، والآخر القلب.
عندما نبحث المسائل الفكرية في محيط الروح، فإِنّ انعكاس ذلك التفكير سيتّضح فوراً في المخ، وبتعبير آخر فإِنّ المخ آلة تساعد الروح في مسألة التفكر، ولذلك فإِنّ الدم يدور بصورة أسرع في المخ في حالة التفكير، وتتفاعل خلايا المخ بصورة أكبر، وبالتالي سوف تمتص كمية أكبر من الغذاء وترسل أمواجاً أكثر.
أمّا عندما يكون الكلام والبحث حول المسائل العاطفية كالعشق والمحبّة، والتصميم والإِرادة والغضب والحقد والحسد، والعفو والصفح، فإِنّ نشاطاً عجيباً يبدأ في قلب الإِنسان، فأحياناً تشتد ضرباته، وأحياناً تقل إِلى الحد الذي يُظن معه أنّه سيتوقف عن العمل، ونشعر أحياناً أن قلبنا يريد أن ينفجر. كل ذلك نتيجة للارتباط الوثيق للقلب مع هذه المسائل.
لهذه الجهة ينسب القرآن المجيد الإِيمان إِلى القلب، فيقول: (ولما يدخل الإِيمان
في قلوبكم)(1). ويعبر عن الجهل والعناد وعدم الإِذعان للحق بأنّه عمى القلب: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(2).
ومن نافلة القول، فإِن مثل هذه التعبيرات ليست مختصة بالقرآن، بل تلاحظ في أدب اللغات المختلفة في الأزمنة الغابرة، وتلاحظ اليوم أيضاً مظاهر هذه المسألة بأشكال مختلفة. فغالباً ما نقول للشخص الذي نحترمه ونحبّه: إِنّ لك مكاناً في قلوبنا، أو أنّ قلوبنا منشدة إِليك، والأُدباء يجسدون هذا المعنى ويجعلون سنبلة العشق نابعة من القلب دائماً.
كل ذلك لأنّ الإِنسان يحس دائماً بتأثير خاص في قلبه في حالة العشق والغرام، أو الحقد والحسد، أي أنّ أوّل قدحة في هذه المسائل النفسية عند انتقالها إِلى الجسم تتجلّى في القلب.
إِضافة إِلى كل هذا، فقد أشرنا سابقاً إِلى أن أحد معاني القلب في اللغة هو عقل وروح الانسان، ومعنى ذلك أن القلب لاينحصر بهذا العضو الخاص الموجود داخل الصدر، وهذا بنفسه يمكن أن يكون تفسيراً آخر لآيات القلب، لكن لاجميعها، لأن بعضها صرحت بأنّها القلوب التي في الصدور ـ دققوا ذلك ـ .
هناك بحث مفصّل بين المفسّرين في الفرق بين الفضل والرحمة اللذين أشير إِليهما في الآية الثّانية.
أ ـ فالبعض اعتبر الفضل الإِلهي إِلى النعم الظاهرية. والرحمة إِشارة إِلى النعم الباطنية، وبتعبير آخر إِنّ إِحداها النعم المادية، والأُخرى النعم المعنوية. وقد جاءت مراراً في آيات القرآن جملة: (وابتغوا من فضله) أو (لتبتغوا من فضله)
(1) الحجرات، 14.
(2) الحج، 46.
بمعنى تحصيل الرزق والموارد المادية.
ب ـ وقال البعض الآخر: إِنّ الفضل الإِلهي بداية النعمة، ورحمته دوام النعمة. وإِذا ما لاحظنا أنّ الفضل هو بذل النعمة وهبتها، وأن ذكر الرحمة بعد ذلك يجب أن يكون شيئاً مضافاً على ذلك يتّضح المراد من هذا التّفسير. وما نقرؤه في روايات متعددة من أنّ المراد من الفضل الإِلهي هو وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونعمة النّبوة، وأنّ المراد من رحمة الله وجود علي(عليه السلام) ونعمة الولاية ربّما كان إِشارة إِلى هذا التّفسير، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بداية الإِسلام، والإمام علي(عليه السلام) سبب بقائه واستمراره فأحدهما علّة محدثة وموجدة، والآخر علّة مبقية(1).
واحتمل البعض الآخر أن يكون الفضل إِشارة إِلى نعم الجنّة، والرحمة إِشارة إِلى العفو عن الذنب وغفرانه.
ج ـ ويحتمل أيضاً أن الفضل إِشارة إِلى نعمة الله العامّة التي تعم العدو والصديق، والرحمة ـ بملاحظة كلمة (للمؤمنين) التي ذكرت كقيد للرحمة في الآية السابقة ـ إِشارة إِلى رحمته الخاصّة بالمؤمنين.
التّفسير الآخر الذي ذكر لهاتين الكلمتين، هو أنّ فضل الله إِشارة إِلى مسألة الإِيمان، والرحمة إِشارة إِلى القرآن المجيد الذي سبق الكلام عنه في الآية السابقة.
طبعاً، إِنّ أغلب هذه المعاني لا تضاد بينها، ويمكن أن تجمع جميعها في المفهوم الجامع للفضل والرحمة.
* * *
(1) للإِطلاع على هذه الرّوايات، راجع تفسير نور الثقلين الجزء 2 ص 307 ـ 308.
قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْق فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلا قُلْ ءَآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ(59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ(60) وَمَا تَكُونُ فِى شَأْن وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَان وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَاب مُّبِين(61)
كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإِلهية والهداية والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة، لأنّ الذي يؤمن بالله ويعلم أن كل
المواهب والأرزاق منه، يجب أن يقبل هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ بيان حكم هذه المواهب من حيث الحلية والحرمة بيده، وإِنّ التدخل في هذا العمل بدون إِذنه عمل غير صحيح.
الآية الأُولى وجهت الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا) إِذا أنّهم طبقاً لسننهم الخرافية حرموا قسماً من الدواب باسم «السائبة» و«البحيرة» و«الوصيلة(1)»، وكذلك حرّموا جزءاً من محاصيلهم الزراعية، وحرموا أنفسهم من هذه النعم الطاهرة المحلّلة، إِضافةً إِلى ذلك فإِن كون الشيء حراماً أو حلالا ليس مرتبطاً بكم، بل هو مختص بأمر الله خالق تلك الموجودات.
ثمّ تقول: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون)، أي إِنّ لهذا العمل صورتين لا ثالث لهما: فأمّا أن يكون بإِذن الله، أو أنّه تهمة وافتراء، ولما كان الإِحتمال الأوّل منتفياً، فلم يبق إلاّ الثّاني.
الآن وقد أصبح من المسلم أنّ هؤلاء بهذه الأحكام الخرافية المبتدعة، إِضافةً إِلى أنّهم حُرموا من النعم الإِلهية، فإِنّهم قد افتروا على الساحة الإِلهية المقدسة، ولذلك تضيف الآية: (وما ظن الذي يفترون على الله الكذب يوم القيامة إِنّ الله لذو فضل على العالمين) ولذلك فإِنّه لسعة رحمته لا يعاقب هؤلاء فوراً على أعمالهم القبيحة.
إِلاّ أنّ هؤلاء بدل أن يستغلوا هذه الفرصة الإِلهية ويشكروا اللّه على ذلك وينيبوا إِليه، فإِنّ أكثرهم غافلون: (ولكن أكثر الناس لايشكرون).
ويحتمل في تفسير هذه الآية أيضاً، أن كون كل هذه المواهب والأرزاق ـ عدا
(1) (البحيرة) هي الحيوان الذي يلد عدّة مرّات، و(السائبة) هو البعير الذي أنتج عشرة أو اثني عشر ولداً، و(الوصيلة) كانت تطلق على الغنم إِذا ولدت سبعة بطون. ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (103) من سورة المائدة.
الأشياء المضرة والخبيثة المستثناة ـ محللة هو بنفسه نعمة إِلهية كبرى، وإِنّ كثيراً من الناس بدل أن يؤدوا شكر هذه النعمة، فإِنّهم يكفرون بها، ويحرّمون أنفسهم من هذه النعمة بأحكامهم الخرافية وممنوعاتها.
وحتى لايتصور أحد أنّ هذه المهلة الإِلهية دليل على عدم إِحاطة علم الله سبحانه بكل أعمال هؤلاء، فإِنّ آخر آية من آيات البحث تبيّن هذه الحقيقة بأبلغ عبارة وتوضح أن الله مطلع على كل ذرات الموجودات في خفايا السماء والأرض، ومطلع على دقائق أعمال العباد، فتقول: (وماتكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إِذ تفيضون فيه)(1).
«الشهود» جمع شاهد، وهو في الأصل بمعنى الحضور المقترن بالمشاهدة بالعين أو القلب أو الفكر، والتعبير بالجمع إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه ليس وحده المراقب لأعمال البشر، بل إِنّ الملائكة المطيعين لأمره مطلعون أيضاً على كل هذه الأعمال وناظرون إِليها.
![]() |
![]() |
![]() |