![]() |
![]() |
![]() |
«غمّة» من مادة غم، وهي تعني خفاء الشيء وتغطيته، وإِنّما يقولون للحزن: غمّ أيضاً لأنّه يغطي قلب الإِنسان.
ثمّ يقول: (ثمّ اقضوا إِليّ ولا تنظرون)(1).
إِنّ نوحاً رسول الله الكبير صمد مقابل اعداءه الاقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه، وكان يستهزيء بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إِلى أفكارهم.
وإِذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ظروفاً تشبه ظروف نوح، وكان المؤمنون قلّة، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي ـ أيضاً ـ نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة، لأنّ الله يسنده وينصره، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته.
(1) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه ماهو جزاء شرط جملة (إِن كان كبر عليكم)؟ ومن بين الإِحتمالات التي طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب: الأوّل: إِنّ جملة (فاجمعوا أمركم) هي جزاء الشرط، وإِن جملة: (فعلى الله توكلت) جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.
الثّاني: إِنّ الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك، والتقدير هكذا: فافعلوا ما تريدون فإِنّي متوكل على الله. في الواقع، إِنّ جملة: (فعلى الله توكلت) من قبيل العلة حلت محل المعلول، و(شركاءكم) في الجملة التالية إِشارة إِلى الأصنام، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيداً).ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعاً من الإِعجاز، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإِمكانيات الظاهرية فإِنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي، وهذا لايمكن قبوله إلاّ عن طريق الإِعجاز، إلاّ أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإِسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم، بل إِنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إِلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم، فكان هذا عاملا مهمّاً في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.
وذكرت الآية التّالية بياناً آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته، هناك حيث تقول: (فإِن توليتم فما سألتكم من أجر(1) أجري إلاّ على الله)، فإنّي أعمل له، ولا أريد الأجر إلاّ منه (وأُمرت أن أكون من المسلمين).
إِنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإِلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعاً من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة اساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإِبلاغهم، ولهذا السبب فإِنّ الطريق الصحيح في الدعوة إِلى الإِسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إِدارة أُمورهم المعاشية على بيت المال فقط، لا بالإِحتجاج إِلى الناس!
وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك)(2) ولم ننقذهم وحسب، بل(1) جواب هذا الشرط محذوف أيضاً، وتقديره: فإِن توليتم فلا تضروني، أو: فإِن توليتم فأنتم وشأنكم.
(2) «الفلك» بمعنى السفينة، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإِنّها تطلق على المفرد والجمع.
(وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا).
وفي النهاية توجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).
* * *
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوُبِ الْمُعْتَدِينَ(74)
بعد إنتهاء البحث الإِجمالي حول قصّة نوح، أشارت هذه الآية إِلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسى(عليهما السلام) لهداية الناس كإِبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسف(عليهم السلام)، فقالت: (ثمّ بعثنا من بعده رسلا إِلى قومهم فجاؤوهم بالبيّنات)فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإِعجاز والبرامج البناءة، إلاّ أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضاً ولم يؤمنوا بهم (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب (كذلك نطبع على قلوب المعتدين).
* * *
1 ـ جملة: (فماكانوا اليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل) تشير إِلى أنّ فئة من بين الأُمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح، واستمروا في الثبات على موقفهم، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر، وبناءً على هذا فإِن الجملة المذكورة تشير إِلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين (وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).
وقد احتمل أيضاً في معنى هذه الآية أنّها تشير إِلى جماعتين مختلفتين، إِحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته، والأُخرى هم الذين جاؤوا بعد أُولئك وسلكوا طريقهم في إِنكار وتكذيب الأنبياء، وبناء على هذا، فإِنّ معنى الجملة يصبح: إِنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإِيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإِيمان به.
طبعاً، بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان، سيقوى هذا الإِحتمال في تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة، وهي واو الجمع في كانوا، وليؤمنوا، وكذبوا.
2 ـ من الواضح أنّ جملة: (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) لاتدل على الجبر، وقد أخفي تفسير ذلك فيها، لأنّها تقول: إِنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئاً، وبناءً على هذا فإِنّ الإِعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإِلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجياً حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق، ووصل الأمر بهم إِلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم، بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة(1).
* * *
(1) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأوّل ذيل الآية (7) من سورة البقرة.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِأَيَتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ(75) فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ(76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)
لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأُمم السابقة كنماذج حيّة، وبدأ الحديث أوّلا عن نوح(عليه السلام)، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح، ووصل الدور في هذه الآيات إِلى موسى وهارون(عليهما السلام) ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه، فتقول الآية الأُولى: (ثمّ بعثنا من بعدهم موسى وهارون إِلى فرعون وملئه بآياتنا)(1).
(1) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.
«الملأ» كما أشرنا إِلى ذلك سابقاً تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.
ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إِلى فرعون وملئه فقط، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إِسرائيل، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة، وبناءً على هذا فإِنّ أي برنامج إِصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا، كما تقول ذلك الآية (12) من سورة التوبة: (فقاتلوا أئمّة الكفر).
إِلاّ أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى، وعن التسليم في مقابل الحق: (فاستكبروا) ونظراً للتكبر والإِستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإِنّهم لم يلتفتوا إِلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى، وأصرّوا واستمروا في إِجرامهم: (وكانوا قوماً مجرمين).
وتتحدث الآية التّالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإِنكار والتكذيب والإِفتراء واتهامهما بسوء النية، وابطال سنن الأجداد، والإِخلال بالنظام الإِجتماعي، كما يقول القرآن: (فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إِن هذا لسحر مبين).
إِنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة، ومعجزاته الباهرة من جهة أُخرى، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة، دفعت الفراعنة إِلى التفكير في حل لهذه المسألة، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إِلاّ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم، خاصّة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).
إِلاّ أنّ موسى(عليه السلام) نهض للدفاع عن نفسه، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء
وأبطل تهمتهم، ففي البداية: (قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا)(1).
صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم، إلاّ أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق، إِذا لايمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة، فإِنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إِصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.
إِضافة إِلى أنّه: (ولا يفلح الساحرون) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإِثنين وافتراق أحدهما عن الآخر، أمّا هنا فإِنّ الدليل يستعين لإِثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.
إِنّ السحرة، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الإِنحراف والإِغفال، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح، يستغفلون الناس ويخادعونهم، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق، حريصون على هداية الناس، مطهرون، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأُمور المادية.
إِن السحرة لايرون وجه الفلاح مطلقاً، ولا يعملون إلاّ من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإِصلاح المجتمع الإِنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.
ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسى(عليه السلام) بسيل الإِتهامات الصريحة، حيث (قالوا: أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا). الواقع، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون،
(1) الواقع، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام، وكانت في الأصل هكذا: أتقولون للحق لما جاءكم سحر، أسحر هذا.
بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.
ثمّ استمروا في هذا التشويه، وقالوا بأن دعوتكم إِلى دين الله ما هي إلاّ كذب محض، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض).
في الحقيقة، إِنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائماً من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.
(وما نحن لكما بمؤمنين) لأنا على علم بنواياكم و خططكم الهدامة.
وكانت هذه هي المرحلة الأُولى من المواجهة السلبية مع موسى .
* * *
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَحِر عَلِيم(79) فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ(80) فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ(82)
تفصل هذه الآيات مرحلة أُخرى من المجابهة، وتتحدث عن إِجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.
فعندما لاحظ فرعون قسماً من معجزات موسى، كاليد البيضاء والحية العظيمة، ورأى أنّ إدعاء موسى ليس واهياً بدون دليل وبرهان، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيراً، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن: (وقال فرعون أئتوني بكل ساحر عليم) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.
هل إِنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى، وكان يريد أن
يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله، إلاّ أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدىء الناس، ويمنع مؤقتاً خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة، ويقول للناس بأنّه إِن جاء بعمل خارق للعادة فإِنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله، وإِذا شاءت إِرادتنا الملوكية ذلك، فإِنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا!
ويبدو أنّ الإِحتمال الثّاني أقرب، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.
على كل حال: (فلمّا جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).
جملة (ألقوا ما أنتم ملقون) تعني في الأصل: ألقوا كل ما تستطيعون إِلقاءه، وهذا إِشارة إِلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خالياً، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إِذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء، ففي الآية (43)ـ (44) من سورة الشعراء نقرأ: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزّة فرعون إِنّا لنحن الغالبون). ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضاً بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.
على كل حال، فإِنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة: (فلمّا ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إِنّ الله سيبطله)فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين، و(إِنّ الله لا يصلح عمل المفسدين).
في الواقع، إِنّ كل إِنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على اساس من
الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحاً وإِلهياً؟ كلاّ مطلقاً، وبناءً على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.
هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية، إلاّ أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟
إِنّ الآية (116) من سورة الأعراف تقول: إِنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به: (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم) وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعاً من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر، وخاصّة بالإِستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس، كما قال القرآن في سورة طه الآيه (66) : (فإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِليه من سحرهم أنّها تسعى). بناء على هذا، فإِنّ بعض تأثير السحر واقعي، والبعض الآخر وهم وخيال.
وفي الآية الأخيرة، إِنّ موسى قال لهؤلاء: إِنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتماً. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع، ومعجزات أنبيائه القاهرة، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإِن كره المجرمون ذلك: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون).
و المراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإِحقاق الحق، أو معجزاته القاهرة القوية(1).
* * *
(1) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (113) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (102) سورة البقرة، فراجع.
فَمَآ ءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْف مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلاءِيْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرعَوْنَ لَعَال فِى الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسرِفِينَ(83) وَقَالَ مُوسَى يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ(84) فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقُوْمِ الظَّلِمِينَ(85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ(86)
عكست هذه الآيات مرحلة أُخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول: (فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه).
إِنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الامر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة: (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإِنّ فرعون لعال في
الأرض وإِنّه لمن المسرفين).
وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإِلى من يعود ضمير (من قومه) إِلى موسى أم فرعون؟
فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفراً قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير بـ (ذرية من قومه) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.
إِلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إِسرائيل، والضمير يعود إِلى موسى، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله، وحسب قواعد اللغة والنحو فإِنّ الضمير يجب أن يرجع إِليه.
ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول: (وقال موسى يا قوم ...) أي إِنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».
الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير، هو أنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى، لا جماعة منهم.
إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها، فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة، فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعو الكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.
بناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّاً.
هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك، وكانوا ضعفاء وعاجزين، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول: اذهب وادعُ الأولاد، بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً، وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية، فإِنّ الإِحتمال الأوّل يبقى على قوته.
إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد، إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.
والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة (أن يفتنهم) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب، أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.
على كل حال، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم: (وقال موسى يا قوم إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إِن كنتم مسلمين).
إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل، وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إِنّ الله معتمدي وكفى، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه، فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه، بل يصمد أمامها بالتوكل والإِعتماد على لطف الله والإِستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.
هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء، وكل عسير مقابل إِرادته سهل
يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.
إِنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل: (فقالوا على الله توكلنا). ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم: (ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين).
(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من (المسرفين) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظالمين)، وفي آخر آية بأنّهم من (الكافرين).
إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا، أي التعدي على الحدود، ثمّ الظلم، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والالحاد!
* * *
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(87)وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيَما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(89)
شرحت هذه الآيات مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا: (وأوحينا إِلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.
ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: (وأقيموا الصلاة)ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت: (وبشّر المؤمنين).
يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.
لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:
1 ـ الإِهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّة فوائد:
إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.
والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.
والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.
2 ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة(1).
وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك
(1) بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل، بل فسروها بنفس معناها، اي قبلة الصلاة، ويعتبرون جملة: (وأقيموا الصلاة) شاهداً على ذلك، إلاّ أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي، إِضافة إِلى أن إِرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إِشكال فيه أيضاً، كما مر علينا نظير هذا مراراً.
وضع المسائل الإِجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.
3 ـ التوجه إِلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالإِعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.
4 ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائداً ـ بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.
الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو و اخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي. إِنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.
ثمّ أشارت إِلى إِحدى علل طغيان فرعون وأزلامه، فتقول على لسان موسى: (وقال موسى ربّنا إِنّك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيلك).
إِنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة، أي إِنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إِضلال الناس شاؤوا أم أبوا، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإِلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك
لايبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء.
ثمّ يطلب موسى(عليه السلام) من الله طلباً فيقول: (ربّنا اطمس على أموالهم).
«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ماورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!
ثمّ اضافت (وأشدد على قلوبهم) اي: اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء، وسينفتح أمامنا طريق الثورة، وتوجيه الضربه النهائية لهؤلاء.
اللّهم إِن كنتُ قد طلبتُ ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإِنتقام والحقد، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإِيمان أبداً: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ومن الطبيعي أنّ الإِيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريباً ـ لا ينفع هؤلاء أيضاً.
ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه: الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إِسرائيل (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين، بل استمرا في برنامجكما الثوري (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).
* * *
وَجَوَزْنَا بِبَنىِ إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ أَمَنتُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِى ءَاَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) ءَآلْئَنَ وَقدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّن النَّاسِ عَنْ ءَايَتِنَا لَغَفِلُونَ(92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَائيلَ مُبَؤَّأَ صِدْق وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93)
هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إِسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأُخرى تُفهم من الجمل السابقة واللاحقة.
![]() |
![]() |
![]() |