(1) كتاب الخصال، على ما نقل في نور الثقلين، ج 2، ص 241.

[123]

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطيء لمن يقول بأن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإِلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية، ولا يتطرق إِلى النواحي المعنوية، لأن الجملة أعلاه ـ أي: رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم، خاصّة وأنّها وردت بصيعة النكرة، وهي تدل على أن قسماً من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضاً، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف)، فالروح كالآمر والقائد، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ، فالتكامل الروحي هو الهدف، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألماً من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية، وعبرت عنها بأنّ (ذلك هو الفوز العظيم).

* * *

[124]

الآية

يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَـهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين:

وأخيراً، صدر القرار الإِلهي للنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم (يا أيّها النّبي جاهد الكفار والمنافقين) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة، بل شدد (واغلظ عليهم). وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي، أمّا في الآخرة فإن محلهم (ومأواهم جهنم وبئس المصير).

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين، فمن المسلم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجاهدهم عسكرياً ولم يقابلهم بحد السيف، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإِسلامي بالرغم من أنّه يسعي لهدم الإِسلام في الباطن فكم من الأفراد لاحظّ لهم من الإِيمان، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

[125]

المنافقين هو الاشكال والطرق الأُخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة، وربّما تشير جملة (واغلظ عليهم) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآيه: أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الإِحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقاً ـ هو الذي يظهر الإِسلام ويبطن الكفر.

* * *

[126]

الآية

يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـمِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَـهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِى الدُّنيَا وَالاَْخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الاَْرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير (74)

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإِسلام والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذباً بأنّهم لم يتفوهوا بشيء، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، غير أنّها قد أُحبطت.

ومن جملتها: أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضاً من خطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيّام غزوة تبوك، وأنكرها بشدّة وكذبها، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له: عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبلغه كلام جلاس، فلما حضر جلاس وسأله النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك أنكر، فأمرهما

[127]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما، إلاّ أن عامراً دعا بعد القسم وقال: اللّهم أنزل على نبيّك آية تُعرِّف الصادق، فأمّن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية، فلمّا بلغ قوله تعالى: (فإن يتوبوا يك خيراً لهم) قال جلاس: يا رسول الله، إنّ الله اقترح عليَّ التوبة، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي، وأتوب منه، فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.

وكما أشرنا سابقاً فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق عودته من غزوة تبوك، فلمّا وصل إِلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلاّ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام، وأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن يسلكوا طريقاً آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إِلى سمع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا، وكان بعضهم قد أخفى وجهه، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار، إلاّ أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عرفهم وذكر أسماءهم واحداً واحداً لبعض أصحابه(1).

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين: إِحداهما: أقوال هؤلء السيئة. والأُخرى: المؤامرة والخطة التي أحبطت، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معاً.


(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أُخر.

[128]

التّفسير

مؤامرة خطرة:

إنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّاً، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين، وهو أن هؤلاء عندما رأوا أن أمرهم قد انكشف، انكروا ما نُسب إِليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم، ولدفع التهمة فإنّهم (يحلفون بالله ما قالوا) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر (ولقد قالوا كلمة الكفر) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإِسلام (وكفروا بعد اسلامهم.). ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه (وهمّوا بما لم ينالوا) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة العقبة، والتي مرّ ذكرها آنفاً، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقاً.

ممّا يستحق الإِنتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سبباً في معرفة المنافقين وكشفهم، فقد كان المسلمون ـ دائماً ـ يرصدون هؤلاء، فإذا سمعوا منهم كلاماً منافياً فإنّهم يخبرون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

[129]

الجملة الأُخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أي خلاف أو أذى، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإِسلامي، بل على العكس، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية (وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله)(1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون، بل إنّ حقّه الشكر والثناء، إلاّ أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الاحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيراً في المحادثات والمقالات، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة: إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا أويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء، بل فتح باب التوبة والرجوع إِلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك، فقال: (فإنّ يتوبوا يك خيراً لهم). وهذه علامة واقعية الإِسلام واهتمامه بمسألة التربية، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالماً كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضاً.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإِسلام، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون


(1) ممّا يستحق الإِنتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله، إلاّ أن الضمير في (من فضله)جاء مفرداً لا مثنى، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه، وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ما عمل عملاً فهو بأمر الله سبحانه، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

[130]

الإِلام بأنّه دين القوة والإِرهاب والخشونة!

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإِسلام السامي مع مناوئيه، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل، وقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين (وإنّ يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة) وإذا كانوا يظنون أنّ أحداً يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإِلهي فإنّهم في خطأ كبير، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين: (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير).

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم، وهو نار جهنم، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

[131]

الآيات

وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَـنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـلِحِينَ(75) فَلَمَّآ ءَاتَيهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنجْوَيهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ(78)

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدى ثعلبة بن حاطب، وكان رجلا فقيراً يختلف إلى المسجد دائماً، وكان يصر على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيراً، فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأُولى لك أن تتأسى بنبيّ اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله، وأخيراً قال للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): والّذي بعثك بالحق نبيّاً، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات، فدعا له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له، وكان غنيّاً جدّاً،

[132]

فوصلت إليه ثروة عظيمة، وعلى رواية أُخرى أنّه اشترى غنماً، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمراً غير ممكن، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة، فألهته أمواله عن حضور الجماعة، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عاملا إِلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق اللّه تعالى، ولم يكتف بذلك، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال: إنّ حكم الزكاة كالجزية، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة، أو أنّه فهمه، إلاّ أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق، فلمّا بلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ما قاله قال: «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة»، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أُخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير. ويُفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب:

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أُخرى من صفات المنافقين السيّئة، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإِسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوماً من جملة المنافقين، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

[133]

إلاّ أنّ هؤلاء أنفسهم، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس، ويغرقون في حبّ الدنيا، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم، ويبدؤون بالتفكير بصورة أُخرى وبمنظار مختلف تماماً، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإِنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إِلى الحق.

فالآية الأُولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقنّ ولنكونن من الصالحين).

إِلاّ أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود مادامت أيديهم خالية من الأموال (فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إِلى يوم القيامة متمكناً منهم (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يوم يلقونه) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم، واستفهمت بأنّهم (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب).

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الإِنتباه إِلى عدّة ملاحظات:

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم)أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة، بل وحتى بين الكفر

[134]

والنفاق، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة: إِنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم، وكذلك الذنوب والمخالفات الأُخرى التي ارتكبوها، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سبباً في أن يموت الإِنسان وهو غير مؤمن، إذ ينسلخ منه روح الإِيمان بسببها.

2 ـ إِنّ المقصود من (يوم يلقونه) والذي يعود ضميره إِلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة، لأن تعبير (لقاء ربّه) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإِنسان، وبموته يُغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة، إلاّ أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإِنسان إِلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إِلى البخل، فيكون المعنى: حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله: لحظة الموت. إلاّ أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويُستفاد أيضاً ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم، والحديث المعروف المنقول عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد هذه الحقيقة، حيث يقول(صلى الله عليه وآله وسلم): «للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان»(1).

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب، وأخلف وعده، وخان أمانة الله، وهي الأموال التي رزقه الله


(1) مجمع البيان، ذيل الآية.

[135]

إِيّاها، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيداً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: «ثلاث من كن فيه كان منافقاً، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم: من إِذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف»(1).

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين، إلاّ أنّها نادرة، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أُخرى ينبغي أن ننبه عليها، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثاً تاريخياً مختصاً بحقبة مضت من الزمان، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لاحظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إِلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إِعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية، وينضوون تحت كل لواء يدعو إِلى الإِصلاح وإِنقاذ المجتمع، ويضمون أصواتهم إِلى كل مناد الحق والعدالة، ولا يألون جهداً في سبيل أعمال الخير، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس، فستتغير صورهم وسلوكهم، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية، فلايساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة


(1) سفنية البحار، ج2، ص 607.

[136]

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإِعراب، أو أثر في المجتمع، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإِشكالات والإِنتقادات فىُ حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأُمور، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها، وستتبخر كل تلك الإِيرادات والإِنتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين، وهل النفاق إلاّ كون صاحبه ذا وجهين، وبتعبير آخر: هل هو إلاّ ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة، لأن الإِنسان الاصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة، كالإِيمان، تماماً، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإِيمان بالله من قلوبهم، ولم تُبق لها أثراً، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيماناً ضعيفاً، وهم مسلمون بالفعل، إلاّ أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين، وتفوح منها رائحة الإِزدواجية، فهؤلاء ديدنهم الكذب، إلاّ أن ظاهرهم الصدق والصلاح، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضاً أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذىُ عرف بالأمانة لظاهره الصالح، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم، إلاّ أنّه يخونهم في أماناتهم، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

[137]

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق، لكنّهم لا يفون بها مطلقاً، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إنِ من أكبر الأمراض الإِجتماعية، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هولاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية اذا كنّا واقعيين ولم نكذب على انفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإِسلامية، فإننا نحمّل الإِسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

[138]

الآيتان

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَـتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةَ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهَ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَومَ الْفَـسِقِينَ (80)

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث، يستفاد من مجموعها أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد صمّم على إِعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجاً لمعونة الناس في هذا الأمر، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إِلى بذل الكثير من أموالهم، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإِنفاق، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا الفقراء، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإِسلام، فقد عمدوا إِلى مضاعفة عملهم، واستقاء الماء

[139]

ليلا، فحصلوا على صاعين من التمر، فادخروا منه صاعاً لمعيشتهم ومعيشة أهليهم، وأتوا بالآخر إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقدموه، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهراً ـ في هذا المشروع الإِسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلاّ تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إِنّما ينفقون رياءً وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلاّ جهدهم، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإِسلام هل يحتاج إِلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات، وهددتهم تهديداً شديداً وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين:

في هذه الآيات إشارة إِلى صفة أُخرى من الصفات العامّة للمنافقين، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع، وبالتالي إيقاف عجلة الإِبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلاّق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أُخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإِسلامي.

ففي البداية يقول: إِنّ هؤلاء (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب

[140]

أليم).

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لَمْز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات، و«المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة، ويسخرون من الأُخرى، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإِسلام، وعلى هذا لابدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطاً بأُولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإِسلام العزيز، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيداً أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إِلى الخطاب، والمخاطب هذه المرّة هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم).

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله، واختاروا طريق الكفر، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة (ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله). ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول: (والله لا يهدي القوم الفاسقين).

* * *

[141]

ملاحظات

وهنا نلفت الأنظار إِلى عدّة ملاحظات:

1 ـ إنّ نوع العمل هو المهم لا مقداره، وهذه الحقيقة في القرآن واضحة جلية، فالإسلام لم يستند في أي مورد إلى كثرة العمل ومقداره، بل هو يؤكّد دائماً ـ وفي كل الموارد ـ على أن الأساس هو نوع العمل وكيفيته، وهو يولي الإِخلاص في العمل أهمية خاصّة، والآيات المذكورة نموذج واضح لهذا المنطق القرآني.

وكما رأينا ـ أنّ القرآن الكريم مجّد عملا مختصراً لعامل مسلم بقي يعمل إِلى الصباح في استقاء الماء بقلب يغمره عشق الله ومحبته، وينبض بالمسؤولية تجاه مشاكل المجتمع الإسلامي ليحصل على صاع من تمر ويقدّمه لمقاتلي الإِسلام في لحظات حساسة وفي مقابل ذلك نرى القرآن قد ذمّ الذين حقّروا هذا العمل الصغير ظاهراً، الكبير واقعاً، وهدّدهم وأوعدهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم.

ومن هذه الواقعة تتّضح حقيقة أُخرى، وهي أنّ المسلمين في المجتمع الإِسلامي الواقعي السالم يجب أن يحسوا جميعاً بالمسؤولية تجاه المشاكل التي تعترض المجتمع وتظهر فيه، ولا يجب أن ينتظروا الأغنياء والمتمكنين يقوموا وحدهم بحل هذه المشاكل والمصاعب، بل على الضعفاء أيضاً أن يساهموا بما يستطيعون، مهما صغر وقل ما يقدمونه، لأنّ الإسلام يتعلق بالجميع لا بفئة منهم، وعلى هذا، فعلى الجميع أن يسعوا في حفظ الإِسلام ولو ببذل النفوس والدماء، ويعملوا بكل وجودهم من أجل حياته وصيانته. المهم أن كل فرد يجب أن يبذل ما يستطيع، ولا يلتفت إِلى مقدار عطائه، فليس المعيار كثرة العطاء وقلته، بل الإِحساس بالمسؤولية والإِخلاص في العمل.

ومن المناسب في هذا المقام أن نطالع حديثاً نقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «جهد المقل».

2 ـ إِنّ الصفة التي ذكرتها الآيات السابقة كسائر صفات المنافقين الأُخرى لا

[142]

تختص بمنافقي عصر النبوة، بل هي مشتركة بين منافقي كل العصور والأزمنة، فإنّ هؤلاء يسعون بسوء ظنهم ودناءة سريرتهم أن يقللوا من أهمية أعمال الخير بأساليب مختلفة، وإماتة الحوافز الخيّرة في الناس والسخرية والإِستهزاء، والإستهانة بأعمال الفقراء المخلصة والخالية من كل شائبة، وتحطيم شخصية هؤلاء، كل ذلك من أجل إطفاء جذوة الخير في المجتمع لينالوا ما يطمحون إليه من الشر والفساد.

إلاّ أنّ الواجب على المسلمين الواعين في كل عصر وزمن أن ينتبهوا إلى أهداف المنافقين وخططهم، وأن يشمروا الساعد ويحثوا السير في الإِتجاه المضاد لعمل هؤلاء، فيدعون الناس إِلى عمل الخير، ويوقرون ويعظمون العمل الصغير إِذا صدر من الفقراء، ويُكْبرون فيهم تلك النفوس التي لم تُقصّر عن خدمة الإِسلام حسب طاقتهم، وعن هذا الطريق سيشجعون الصغير والكبير على الإِستمرار في هذه الأعمال، بل ويكثرون منها إِذا قدروا، وكذلك عليهم أن يبينوا لهم خطط المنافقين الهدامة في سبيل تحطيمهم، فإذا عرفها المجتمع فسوف لا تؤثر فيه دعاياهم وسمومهم، وعندها سيستمر في طريق الخير وخدمة الدين الحنيف وتثبيت هذه العقيدة التي اختارها.

3 ـ ليس المراد من جملة (سخر الله منهم) أنّ الله سيعمل أعمالا تشابه أعمالهم، بل المراد ـ كما قاله المفسّرون ـ أنّ الله سبحانه تعالى سيجازيهم على ما عملوا من الأعمال السيئة، أو أنّه تعالى سيحقرهم كما حقروا عباده وسخروا منهم.

4 ـ لا شك أنّ عدد السبعين الوارد في الآية يدل على الكثرة لا على نفس العدد، وبعبارة أُخرى: إن معنى الآية، أنّك مهما استغفرت لهؤلاء فلن يغفر الله لهم، تماماً كما يقول شخص لآخر: إذا أصررت وكررت قولك مائة مرّة فلن أقبل منك، ولا يعني هذا أنّه لو كرر قوله مائة مرّة وزاد واحدة فسوف يُقبل قوله، بل المراد أن قوله سوف لن يقبل مطلقاً مهما كرره.

[143]

إنّ مثل هذا التعبير يفيد تأكيد المراد، ولهذا فقد ذكر هذا الموضوع بنفسه في الآية (6) من سورة المنافقين، وقد نفي نفياً مطلقاً، حيث تقول الآية: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم).