![]() |
![]() |
![]() |
قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل(108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ(109)
هاتين الآيتين تضمّنت إِحداهما موعظة ونصيحة لعامّة الناس، واختصت الثّانية بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها الله سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس.
فتقول أوّلا، وكقانون عام: (قل يا أيّها الناس قد جاءكم الحق من ربّكم)هذه التعليمات، وهذا الكتاب السماوي، وهذا الدين، وهذا النّبي كلها حق، والأدلّة على كونها حقّاً واضحة، وبملاحظة هذه الحقيقة: (فمن اهتدى فإِنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فإِنّما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل).
أي إِنّي لست مأموراً بإِجباركم على قبول الحق، لأن الإِجبار على قبول
الإِيمان لا معنى له، ولا أستطيع إِذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإِلهي، بل إِنّ واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإِبلاغ والإِرشاد والهداية والقيادة، أمّا الباقي فيتعلق بكم، وعليكم انتخاب طريقكم.
إِنّ هذه الآية إِضافة إِلى أنّها توكّد مرّة أُخرى مسألة الإِختيار وحرية الإِرادة، فإِنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإِنسان نفسه بالدرجة الأُولى، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.
إِنّ توجيهات القادة الإِلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلاّ دروس لتربية وتكامل البشر، فلا يزيد الإِلتزام بها شيئاً على عظمة الله، ولا تنقص مخالفتها من جلاله شيئاً.
ثمّ تبيّن وظيفة وواجب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في جملتين: الأُولى (واتبع ما يوحى إليك) فإنّ الله قد حدّد مسيرك من خلال الوحي، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.
والثّانية: إِنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة، فلا تدع للخوف من سيل المشاكل إِلى نفسك طريقاً، بل (واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) فإِنّ أمره حق، وحكمه عدل، ووعده متحقق لا محالة.
إلهنا ومولانا: إنّك وعدت عبادك الذين يجاهدون في سبيلك باخلاص، والذين يصبرون ويستقيمون في سبيلك بالنصر.
اللّهم وقد أحاطت بالمسلمين مشاكل لاتحصى، ونحن عبيدك الذين لانتوقف عن الجهاد والإِستقامة بمنك وتوفيقك، فاكشف عنا سحب المشاكل المظلمة بلطفك، وأنر أبصارنا بنور الحق والعدالة ... آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة يونس
* * *
مَكيَّة
وَعَدَدُ آياتِهَا مَائة وثلاث وعشرون آياتْ
المشهور بين المفسّرين أنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكّة .. وطبقاً لما ورد في «تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسل(صلى الله عليه وآله وسلم).
وطبقاً لما صرّح به بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ فإنّ هذه السورة نزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بمكّة، أي بعد وفاة عمّه «أبي طالب(عليه السلام)» وزوجته «خديجة(عليها السلام)» ... وبطبيعة الحال فإِنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان يعاني فيها من ضغوط الأعداء وأراجيفهم الإِعلامية الحاقدة المسمومة أكثر ممّا عاناه في السنوات السابقة. ولذلك يُلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وللمؤمنين.
ويُشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصّة قصّة نوح النّبي(عليه السلام) الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.
إِنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء، كما أنّ فيه درساً لمخالفيهم من الاعداء.
وعلى كل حال. فإنّ آيات هذه السورة ـ كسائر السور المكية ـ تتناول أصول «المعارف الإِسلامية» ولا سيّما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت، وصدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يبدو فيها تهديداً ضمنياً للأعداء، وأمراً بالاستقامة للمؤمنين.
في هذه السورة ـ إِضافة إِلى قصّة نوح النّبي وجهاده العنيف التي ذكرت بتفصيل ـ إِشارة إِلى قصص الأنبياء هود وصالح وإِبراهيم ولوط وموسى ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والإِنحراف والظلم ..
إِنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين ـ في الحرب والسلم ـ لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة .. بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم ..
وعلى هذا فإِنّنا نقراً في حديث معروف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «شيبتني سورة هود»(1)
وفي حديث آخر أنّه حين لاحظ أصحاب النّبي آثار الشيب قبل أوانه على محيّاه(صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: يا رسول الله، تعجّل الشيب عليك. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «شيبتني سورة هود والواقعة»(2).
وفي روايات أُخرى أضيف أيضاً سورة المرسلات وسورة النبأ (عم يتساءلون) وسورة التكوير وغيرها إِلى هاتين السورتين.
ونُقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف ـ آنف الذكر ـ أنّه مانزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) آية كان أشدّ عليه ولا أشق من آية (فاستقم كما أمرت ومن تاب
(1) نور الثقلين، ج2، ص 334.
(2) مجمع البيان، ذيل الآية (118) من تفسير سورة هود.
معك).
كما نقل عن بعض المفسّرين أنّ أحد العلماء رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في المنام فسأله عن سبب مانُقل عنه من قوله: «شيبتني سورة هود» أهو ما سلف من الأُمم السابقة وهلاكها؟ فبيّن له(صلى الله عليه وآله وسلم) أن سببه آية (فاستقم كما أُمرت)(1)
وعلى كل حال فإِنّ هذه السورة ـ بالإِضافة إِلى هذه الآية ـ فيها آيات مؤثّرة أُخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإِلهي، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام السابقون من جزاء، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية ... فلا عجب إِذاً أن يشيب الإِنسان عندما يفكر في مثل هذه المسؤوليات ...
مسألة دقيقة أُخرى ينبغي الإِلتفات إِليها في هذا المجال، وهي أنّ كثيراً من هذه الآيات توكّد ماورد في السورة السابقة ـ أي سورة يونس ـ وأوائلها بوجه خاص يشبه أوائل تلك السورة ومضامينها توكّد تلك المضامين.
أمّا بالنسبة لفضيلة هذه السورة، فقد ورد في حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هوداً والأنبياء(عليهم السلام)ومن كذب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حساباً يسيراً»(2).
ومن الوضوح بمكان أنّ مجرّد التلاوة لا يعطي هذا الأثر، وإِنّما يكون هذا الأثر إِذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإِنسان إِلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم، وعلى هذا الأساس يُثاب بعددهم ويعطي أجر كل واحد منهم،
(1) روح المعاني، ج2، ص 206 .
(2) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.
ويكون هدفه كهدف شهداء تلك الأُمم السالفة .. فلا مجال للتعجب من أن ينالَ درجاتهم ويحاسب حساباً يسيراً ...
وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من كتب هذه السورة على رق ظبي ويأخذها معه أعطاه الله قوّةً، ومن يحارب معه لنصر عليهم وغلبهم وكلّ من رآه يخاف منه»(1).
ولعل بعضاً ممن يطلب الراحة وينظر الى الأُمور بسطحيّة يتصوّر في قراءته لمثل هذه الأحاديث أنّ الإِنسان يمكن أن يصل إِلى مثل هذه الأهداف بمجرّد وجود الكتابة أو الرسم القرآني معه، ولكنّه جلي وواضح أنّ المقصود بذلك العمل على طبق ما في السورة، وأن يتخذها منهجاً لحياته وأن يقرأها دائماً ويمضي على العمل بها بحذافيرها .. ولا شك أنّ مثل هذا العمل تتحقق فيه مثل هذه الآثار أيضاً، لأنّ هذه السورة تأمر بالإِستقامة والوقوف بوجه الفساد والإِنسجام مع الأهداف، وتحتوي على التجارب السابقة من تأريخ الأمم السالفة التي يوجد في كلّ واحد منها درس من الإِنتصار على العدوّ.
* * *
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 206.
الر كِتَبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيم خَبِير(1)أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نُذِيزٌ وَبَشِيرٌ(2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَعاً حَسَناً إِلَى أَجَل مُّسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْل فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّى آَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يُوْم كَبِير(3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(4)
تبدأ هذه السورة ـ كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن ـ ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إِلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.
وذكر الحروف المقطعة (الر) ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء
(الر)(1) مع ما فيه من عظمة وإِعجاز بالغين، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.
أوّلا: إِنّ جميع آياته متقنة ومحكمة (كتاب أُحكمت آياته).
وثانياً: إِنّ تفصيل حاجات الإِنسان في حياته الفردية والإِجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيَّن فيها أيضاً (ثمّ فُصِّلَتْ).
هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين أُنزل، وكيف؟! أُنزل من عند ربّ حكيم وخبير (من لدن حكيم خبير).
فبمقتضى حكمته أُحكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإِنسان، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإِنسان لايستطيع أن يصدر احكاماً جديرة بالتكامل.
الواقع، إِنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله .. فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من خبرته.
وفي بيان ماهو الفرق بين (أُحكمت) و(فُصلت) بحث المفسّرون كثيراً وأبدوا احتمالات عديدة .. وأقرب هذه الإِحتمالات ـ بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر ـ هو أنّ الجملة الأُولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت، كما تدل على أنّه نازل من إِله فرد، ولهذا فلايوجد أي تضادٍّ في آياته، ولا يُرى بينها أي اختلاف.
والجملة الثّانية إِشارة إِلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإِنسان الرّوحيّة والمادية، فهو في عين وحدته
(1) شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.
كثير، وفي عين كثرته واحد! ..
وفي الآية التالية يُبيّن أهم مايحتوية القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك (ألاّ تعبدوا إلاّ الله)(1) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.
والثّاني من محتويات الدعوة السماوية: (أنّني لكم منه نذير وبشير).. نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، وأُحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!
وثالث ما في منهج دعوتي إِليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران: (وأن استغفروا ربّكم).
ورابعها هو أن تعودوا إِلى الله بالتوبة، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الإِستغفار ـ بصفات الله، فإِنّ العودة إِليه تعالى لا تعني إِلاّ الإِقتباس من صفاته (ثمّ تُوبوا إِليه).
في الواقع إِنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بُيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام، فقسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسي. وقسمان يتضمنان الجانب «العملي» والفوقاني.
فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك، وقبول رسالة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)أصلان اعتقاديان، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإِلهية ـ اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه ـ أمران عمليان حضّ عليهما القرآن، وإِذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأُصول الأربعة ..
هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن، ولجميع محتوى هذه السورة أيضاً.
ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو
(1) في جملة (ألا تعبدوا إلاّ الله) احتمالان: الأوّل: إِنّه على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما أشرنا إِليه ـ والتقدير: دعوتي وأمري إلاّ تعبدوا إلاّ الله. والثّاني: أنّه كلام الله، والتقدير: آمركم ألاّ تعبدوا إلاّ الله، ولكن جملة (إِنّني لكم منه نذير وبشير) تنسجم مع المعنى الأوّل.
التالي (يمتعكم متاعاً حسناً) فاذا عملنا بهذه الأُصول فإِنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إِلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإنّ كُلاً يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول ... (ويؤت كل ذي فضل فضله) وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية: (وإِن تولوا فإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم كبير) حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإِلهي.
واعلموا أنَّ (إِلى الله مرجعكم) كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم، وهذه الجملة تشير إِلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لاتتصوروا ـ أبداً ـ أن قدرتكم تعدّ شيئاً تجاه قدرة الله، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله .. ولا تتصوروا ـ أيضاً ـ أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة .. (وهو على كل شيء قديرٌ).
مايزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة .. ولا يكترثون أبداً بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر «الدنيا» أيضاً .. وطبيعي إِذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأُخرى أيضاً.
والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة، وربّما يتناول أحياناً الجزئيات من هذه المسائل، كما ورد في سورة نوح(عليه السلام) على لسان هذا النّبي العظيم مخاطباً قومه (فقلتُ استغفروا ربّكم إنّه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً يمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(1).
(1) سورة نوح، 9 ـ 11.
ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الإِستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة، في حين أنّه لا دليل على ذلك، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.
فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقه والفساد تهدم العلاقات الإِجتماعية؟ وأي أحد لايعلم أن الظلم والتبعيض والإِجحاف تجعل من حياة الناس جحيماً وتكدر صفوهم؟! وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام، والتحلّي بالقيم الإِنسانية ـ وهي الأُصول الأربعة ذاتها التي أُشير إليها في الآيات المتقدّمة ـ يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل، ويخلق محيطاً آمناً عامراً بالصفاء والحرية والصلاح؟
وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأُصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى: (يمتعكم متاعاً حَسَناً إِلى أجل مُسمّى).
* * *
أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(5)
اختلف بعض المفسّرين في شأن نزول الآية، فقيل أنّها نزلت في أحد المنافقين واسمه «الأخنس بن شريق» الذي كان ذا لسان ذلق ومظهر جميل، وكان يُبدي للنّيي(صلى الله عليه وآله وسلم) الحب ظاهراً لكنّه كان يخفي العداوة والبغضاء في الباطن.
كما نُقل عن جابر بن عبدالله الأنصاري عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) أنّها نزلت في جماعة من المشركين، حيث كانوا حين يمرون بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يطأطئون برؤوسهم ويستغشون ثيابهم لئلا يراهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن الآية تشير ـ على العموم ـ إِلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإِسلام والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بالإِستفادة من طريقة النفاق والإِبتعاد عن الحق، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق.
لذلك فإِنّ الآية تقول: (ألا إِنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه).
ومن أجل أن نفهم الآية فهماً دقيقاً ينبغي أن تتضح لنا كلمة «يثنون» بجلاء فهي من مادة «ثني» وهي في الأصل تعني ضم أقسام الشيء بعضها إِلى بعض، فمثلا في طي قطعة القماش والثوب يقال «ثنى ثوبه» وإِنّما يقال للشخصين على سبيل المثال: إِثنان، فلأجل أن انضمّ واحد إِلى جانب الآخر، ويقال للمادحين «مثنون» كذلك، لأنّهم يعدون الصفات البارزة واحدة بعد الأُخرى.
وتعني الإِنحناء أيضاً، لأنّ الإِنسان بعمله هذا وهو الإِنحناء يقرّب أجزاء من جسمه بعضها إِلى بعض.
وتأتي هذه المادة بمعنى أن تجد العداوة والبغضاء والحقد طريقها إِلى القلب أيضاً .. لأنّ الإِنسان بهذا العمل يقرب عداء الشخص ـ أو أيّ شيء آخر ـ إِلى القلب، ومثل هذا التعبير موجود في الأدب العربي إذ يقال: «اثنونى صدره على البغضاء»(1).
ومع الأخذ بنظر الإِعتبار بما ورد آنفاً من معان لمادة «ثني» فلا يبعد أن تكون كلمة «يثنون» مشيرة إِلى كل عمل خفي ـ ظاهري وباطنيّ ـ قام به أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن جهة يُضمرون العداوة والبغضاء في القلوب ويبدون المحبّة في لسان ذلق جميل! ومن جهة أُخرى يقربون رؤوسهم بعضها إِلى بعض عند التحدث، ويثنون الصدور ويستغشون الثياب، لئلا تنكشف مؤامراتهم وأقوالهم السيئة ويطّلع أحد على نياتهم.
لذلك فإِنّ القرآن يعقّب مباشرة: أن أحذروهم، فإِنّهم حين يستخفون تحت ثيابهم فإِنّ الله يعلم ما يخفون وما يعلنون .. (إِلا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إِنّه عليم بذات الصدور).
* * *
(1) يراجع «تاج العروس» و «مجمع البيان» و «المنار» و «مفردات الراغب» في هذا الشأن.
وَمَا مِن دَآبَّة فِى الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتُوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كَتَاب مُّبِين (6)
الآية السابقة أشارت إِلى سعة علم الله وإِحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون، والآية محل البحث تُعدّ دليلا على تلك الآية المتقدمة، فإِنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولايمكن يتمّ ذلك إلاّ بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه ..
تقول الآية (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها) ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر، وحيثما كانت فإِنّ الرزق يصل إِليها منه.
وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله (كلُّ في كتاب مبين).
* * *
1 ـ بالرغم من أنّ كلمة «دابّة» مشتقة من مادة «دبيب» التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة، ولكنّها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيرة ببطء أو بسرعة، فنرى كلمة الدابة تطلق على الفرس وعلى كل حيوان يركب عليه، وواضح أنّ الكلمة في هذه الآية ـ محل البحث ـ تشمل جميع الحيوانات الموجودة على سطح الأرض بما فيها الحيوانات التي تدبّ في سيرها ..
2 ـ «الرزق»: هو العطاء المستمر، ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات رزقاً. وينبغي الإِلتفات إِلى أن مفهوم الرزق غير منحصر في الحاجات المادية، بل يشمل كل عطاء ماديّ أو معنوي. ولذلك نقول مثلا: «اللّهم ارزقني علماً كاملا» أو نقول: «اللّهم ارزقني الشهادة في سبيلك».
والظاهر أنّ المراد من الرزق في هذه الآية الرزق المادي، ولكن إِرادة المفهوم العام الذي يندرج تحته الرزق المعنوي غير بعيد ..
3 ـ «المستقر» ـ في الأصل ـ تعني المقّر، لأن جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ» على وزن «حرّ» وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإِنسان والموجودات الأُخرى يركنون إِلى بيوتهم، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضاً.
و «المستودع» و «الوديعة» من مادة واحدة، وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «اطلاق الشيء وتركه» ولذلك تطلق عليه الأُمور غير الثابتة التي ترجع إِلى حالتها الطبيعية، فُيطلق على كل أمر غير ثابت «مستودع» وبسبب رجوع الشيء إِلى صاحبه الأصلي وتركه محله الذي هو فيه يسمى ذلك الشيء «وديعة» أيضاً.
فالآية أنفة الذكر تقول: لا ينبغي التصور أن الله سبحانه يرزق الدواب التي تستقر في أماكنها فحسب، بل هي حيث ماكانت وفي أي ظرف من الظروف تكون فإِنّه تعالى يوصل إِليها أرزاقها، لأنّه يعلم أماكن استقرارها، وكذلك يعلم جميع
المناطق التي تنتقل اليها وترحل عنها من حيوانات بحرية مهولة الحجم، الى أصغر الكائنات المجهرية، فإِنّه تعالى يرزق كلا منها بحسب حاجته وحاله.
وهذا الرزق ملحوظ بحيث يناسب حال الموجودات من حيث الكمية والكيفية، وهو مطابق تماماً لمقدار الحاجة والرغبة، حتى غذاء الجنين الذي في رحم أُمّه يتفاوت كل شهر عن الشهر السابق في النوعية والكمية، بل كل يوم عن اليوم السابق بالرغم ممّا يبدو من أن الدم نوع واحد لا أكثر. وكذلك الطفل في مرحلة الرضاعة حيث يبدو أن غذاءه من نوع واحد، لكن تركيب هذا الغذاء أو اللبن يختلف من يوم لآخر.
4 ـ «الكتاب المبين» معناه المكتوب الواضح البيّن، ويشير إِلى علم الله الواسع، وقد يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ أيضاً.
ويحتمل أن يكون هذا التعبير اشارة إِلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يهتم لرزقه أقلّ اهتمام، أو يحتمل سقطوا اسمه وسهمه من القلم، لأنّ أسماء الجميع مثبتة في (كتاب مبين) كتاب أحصى الجميع بجلاء ووضوح!
هناك أبحاث مهمّة في مسألة «الرزق»، ونأخذ بنظر الإِعتبار ـ هنا ـ قسماً منها: 1 ـ «الرزق» ـ كما قلنا آنفاً ـ يعني في اللغة العطاء المستمر والدائم، وهو أعم من أن يكون رزقاً ماديّاً أو معنوياً .. فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل الله وينتفعون منه ـ من مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإِيمان وإِخلاص ـ يسمى رزقاً، ومن ظنّ أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادّية لم يلتفت إِلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة .. فالقرآن يتحدث عن الشهداء في سبيل الله بأنّهم .. (أحياء عند ربّهم يرزقون)(1).
(1) سورة آل عمران، 169.
وواضح أن رزق الشهداء ـ في عالم البرزخ ـ ليس نعمّا مادية، بل هو عبارة عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصوّرها في هذه الحياة المادية.
2 ـ مسأله تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحية ـ وبتعبير آخر تأمين رزقها ـ من المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتَقدُّم العلم .. وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة.
كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات حيّة، فمن أين يتم تأمين غذائها؟! إِذْ أنّ أصل الغذاء يعود إِلى النباتات والحشائش، وهي تحتاج إِلى نور الشمس، ولكن على عمق 700 متر فصاعداً لا وجود لنور الشمس أبداً، بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك.
ولكن اتّضح بتقدم العلم أن نور الشمس يُغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج، وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إِلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة، وتنظم الى الارزاق الإلهية للاحياء في تلك الاعماق، مائدة نعمة الله للموجودات الحية تحت الماء !
ومن جهة أُخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر، منها طيور تطير في الليل وتهبط الى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها.
ورزق بعض أنواع الطيور يكون مُدّخراً بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر، تحتاج أسنانه إِلى «منظف طبيعي» فيأتي إِلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أُدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخم ـ دون وحشة ولا اضطراب ـ وتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير، فتملأ بطونها من جهة، وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه «هذه الفضلات» من جهة أُخرى .. وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إِلى
أعماق البحر.
طريقة إِيصال الرزق من الله تعالى إِلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً. من الجنين الذي يعيش في بطن أُمّه ولا يعلم أحد أسراره شيئاً، إِلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف .. جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفي على علمه، وكما يقول القرآن (... على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها).
الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعِّبُر عن الموجودات التي تطلب الرزق بـ «الدّابّة» وفيها إِشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة» و«الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابدّ لها من طاقة، أيْ ما يكون منشأً للحركة، والقرآن الكريم يبيّن ـ في الآيات محل البحث ـ أنّ الله يرزق جميع الموجودات المتحركة، وإِذا ما توسعنا في معنى الحركة فإنّ النباتات تندرج في هذا الأمر أيضاً، لأنّ للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها، ولهذا عدّوا في الفلسفة الاسلامية موضوع «النمو» واحداً من أقسام الحركة ...
3 ـ هل أنّ رزق كلّ أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إِلى آخره، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى؟! أم أنّ عليه يسعى في طلبه؟
يظنّ بعض الأفراد السذّج استناداً إِلى الآية آنفة الذكر، وإِلى بعض الرّوايات التي تذكر أنّ الرزق مقدر ومعين، أنّه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش، فإِنّه لابدّ من وصول الرزق، ويقول بكل بساطة: إِنّ من خلق الأشداق قدّر لها الأرزاق.
إِنّ سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لاحظّ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة الى الاعداء حيث يدّعون أن الدين أحد عوامل الركود الإِقتصادي وتقبل الحرمان وإماتة النشاطات الإِيجابيّة في الحياة، فيقول مثلا: إِذا لم تكن الموهبة
الفلانية من نصيبي فإِنّها لم تكن من رزقي قطعاً .. فلو كانت من نصيبي لوصلتني حتماً من دون تكلف عناء الكسب. وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة ... في حين أن أقل معرفة بالقرآن والأحاديث الإِسلامية تكفي في بيان أنّ الإِسلام يعدّ أساس أي استفادة مادية ومعنوية للإِنسان هو السعي والجد والمثابرة، حتى أنّنا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع، وهي الآية الكريمة (ليس للإِنسان إلاّ ماسعى).
وكان أئمّة المسلمين ـ ومن أجل أن يسنّوا للآخرين نهجاً يسيرون عليه ـ يعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة.
والأنبياء السابقون ـ أيضاً ـ لم يُستثنوا من هذا القانون، فكانوا يعملون على الاكتساب، من رعي الأغنام إِلى الخياطة إِلى نسج الدروع إِلى الزراعة. فإِذا كان مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق، فما كان ينبغي للأنبياء والأئمّة ـ الذين هم أعرف بالمفاهيم الدينية ـ أن يسعوا هذا السعي إِلى الرزق!
وعلى هذا نقول: إِنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت، إلاّ أنّه مشروط بالسعي والجد، وإِذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط. وهذا كما نقول: إِن لكلّ فرد أجلا ومدة من العمر. ولكن من المسلم والطبيعيّ أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أنّ الإِنسان حتى لو أقدم على الإِنتحار أو أضرب عن الطعام فإِنّه سيبقى حيّاً إِلى أجل معيّن !! إِنّما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعداداً للبقاء إِلى مدّة معينة ولكن بشرط أن يراعي الظروف الصحيّة وأن يبتعد عن الأخطار، وأن يجنّب نفسه عمّا يكون سبباً في تعجيل الموت.
المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق ـ في الواقع ـ بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب، ويرتكبون أنوا ع الظلم والجنايات، ويتصورون أنّهم إِذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمنوا حياتهم!
إِنّ آيات القرآن والأحاديث الإِسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألاّ يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، وألاّ يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع، والله سبحانه يضمن لهم الرزق فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم.
الله الذي تكفّل رزقهم أيّام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمّهات
الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إِلى الليل ليهيء لهم الغذاء بكل عطف وشفقة ـ بعد أن أنهوا مرحلة الرضاعة ـ وهو مسرور بالتعب من أجلهم ...
أجل، هذا الرّب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإِنسان إِذا ما كبر ووجد القدرة على العمل والكسب.
تُرى هل يجيز الإِيمان والعقل أن يلجأ الإِنسان إِلى الظلم والإِثم والتجاوز على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرّد أنّه يظن عدم توفر رزقه؟
![]() |
![]() |
![]() |