![]() |
![]() |
![]() |
والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة ـ المشار إِليها آنفاً ـ ويقولون إِنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها..
وفي القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوح(عليه السلام) (ملحمة گيلگامش) ويمكن ـ إضافة إلى ذلك ـ احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان.
وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة «ميسر» وقد لوحظ في هذه الكتيبة اسم «آرارتو».
3 ـ وفي الترجمة الحالية لـ «التوراة»: إِن محل استقرار سفينة نوح في جبال «آرارات» وهو جبل «ماسيس» الواقع في «أرمنستان» وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي، فكان المعنى «ملعون» وقال: بناءً على ما جاء في الرّوايات فإِنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل، ويسميّه العرب بـ «الجودي» ويسمّيه الإِيرانيون بـ «جبل نوح» ويسميه الأتراك بـ «كرداغ» بمعنى الجبل المنحدر، وهو واقع قرب «أرس».
وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل «الجودي» ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل «الأكراد» إلى «أرارات»..
ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال
بحيرة «وان» وجنوبها اسم «آرارات» أو «آراتو».
يقال أنّ النّبي نوحاً بنى مسجداً على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان، ويقول الأرامنة: إِنّ في سفح جبل الجادي «الجودي» قرية تدعى ثمانين أو ثمان، وهي أوّل محلِ نزل فيه أصحاب نوح(عليه السلام)(1).
* * *
(1) أعلام القرآن للغزائلي، ص 281.
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلىِ وَاءِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمْ الْحَكِمِينَ(45) قَالَ يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِح فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ(46) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَسِرِينَ(47)
قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان.
وهذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة، وهو أنّه حين رأى نوح إبنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إِلى ساحة الله منادياً (فقال ربّ إِنّ ابني من أهلي وإِنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين).
وهذا الوعد هو ما أشارت إِليه الآية (40) من هذه السورة حيث يقول سبحانه: (قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول).
فكان أن تصوّر نوح أن قوله تعالى: (إلاّ من سبق عليه القول) خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.
ولكنّه سمع الجواب مباشرة .. جواب يهزّ هزاً كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة .. حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة .. (قال يا نوح إنّه ليس من أهلك أنّه عملٌ غير صالح).
فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. (فلا تسألن ما ليس لك به علم إِنّي أعظك أن تكون من الجاهلين).
فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحاً، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده ممّا وَعَد الله به في نجاة أهله، لذلك توجه إِلى الله معتذراً مستغفراً و(قال ربّ إنّيَ أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاّ تغفر لي وترحمني أكُنْ من الخاسرين).
* * *
يعتقد بعض المفسّرين أنّ في الآية إِيجاز حذف، وأصل الآية هكذا «إنّه ذو عمل غير صالح».
ولكن مع ملاحظة أنّ الإِنسان قد يذوب في عمله إِلى درجة كأنّه يصير بنفسه العمل ذاته، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال: إِنّ فلاناً هو كل العدل والسخاء، أو إِنّ فلاناً هو السرقة والفساد فكأنّه غاص في
العمل حتى صار هو العمل بذاته.
فابن نوح كان كذلك، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة وأفكارهم المنحرفة، بحيث كأنّ وجوده تبدل إِلى عمل غير صالح!..
فعلى هذا.. وإِن كان التعبير المقدم موجزاً ومختصراً جداً، إلاّ أنّه يعبّر عن حقيقة مهمّة في ابن نوح!.
أي لو كان هذا الظلم والإِنحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيّاً لكانت الشفاعة في حقّه ممكنة، ولكنّه أصبح غارقاً في الفساد والإِنحراف، فليس للشفاعة هنا محلّ، فدع الكلام فيه يانوح!..
وما يراه بعض المفسّرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقةً، أو أنّه كان إِبناً غير شرعي، أو أنّه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر، بعيد عن الصواب لأنّ قوله: (إنّه عمل غير صالح) في الواقع علة لقوله: (إنّه ليس من أهلك) أي إِنّما نقول لك إِنّه ليس من أهلك فلأنّه انفصل عنك بعمله وإِن كان الرباط النسبي لا يزال قائماً ..
مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربّه وما أجابه الله به، ينقدح هذا السؤال وهو: كيف لم يلتفت نوح إِلى أنّ ابنه كنعان كان خارج دائرة الوعد الالهي؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال ـ كما أشرنا آنفاً ـ أنّ هذا الابن لم تكن له طريقة واحدة معروفة، فتارةً تراه مع المؤمنين وأُخرى مع الكفار، ممّا يوهم أنّه مؤمن. بالإِضافة إِلى الإِحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه بالنسبة إِلى ولده، كذلك المحبّة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه، والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون، كل ذلك كان سبباً في أن يطلب نوح من
ربّه هذا الطلب..
ولكن بمجرّد أن اطّلع على واقع الأمر، أسِفَ على طلبه فوراً واعتذر إِلى الله راجياً عفوه ـ وإِن لم يكن صدر منه ذنب ـ لأنّ موقع النّبي يقتضي منه أن يراقب كلامه وتصرفاته ، فكان الأولى عليه الترك ، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة ..
ومن هنا يتّضح الجواب على سؤال : هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو والمغفرة ؟ ..
تعكس الآيات الآنفة درساً من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان قصّة نوح .. درساً لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنّه أصل أساس في المذهب الإلهي والمعنوي .
فالعلائق المادية «النسب ، القرابة ، الصداقة ، المرافقة» تخضع دائماً في المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية .
وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة المذهبية .
هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية ، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت النّبي ولا من قريش ولا من أهل مكّة ، بل لم يكن اساساً من العرب ، ولكنّه طبقاً لما ورد في الحديث الشريف المعروف «سلمان منّا أهل البيت» كان يُعدّ من أسرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
إلاّ أنّ الابن الواقعي والمباشر للنّبي ـ كابن نوح ـ يُطرد على أثر قطع علاقته الدينية ، ويقال في شأنه لأبيه نوح : (إنّه ليس من أهلك) .
قد تكون هذه المسألة المهمّة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي لكنّها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعاً .
وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) تتحدث عن بعض الشيعة الذين يحملون اسم التشيّع إلاّ أنّه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيت(عليهم السلام)بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن علي بن موسى (عليه السلام) أنّه سأل بعض أصحابه يوماً : كيف يفسر الناس هذه الآية (إنّه عمل غير صالح) .. فأجابه أحد الحاضرين : إنّهم يعتقدون أن كنعان لم يكن الابن الحقيقي لنوح ، فقال الإمام : «كلاّ لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله نفاه عن أبيه ، كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا»(1) .
ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين ، أو أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة :
1 ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من غش مسلماً فليس منّا»(2) .
2 ـ كما روي عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام»(3) .
3 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي» .
4 ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال : «ليس من شيعتنا من يظلم الناس» .
5 ـ وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(4) .
6 ـ ويقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من سمع رجلاً يناديى يا للمسلمين فلم يجبه فليس
(1) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة .
(2) سفينة البحار، ج2، ص318 .
(3) وسائل الشيعة، ج12، ص53.
(4) بحار الأنوار، الطبعة القديمة ج15 قسم الأخلاق .
بمسلم»(1) .
7 ـ وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه وكان يدعى «جابراً» : «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّاً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء ، لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله»(2).
هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالإسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف ، أو للروابط الايمانية ، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم ، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس .
* * *
(1) أصول الكافي، ج2، ص164.
(2) سفية البحار، ج2، ص691.
قِيلَ يَنُوحُ اهْبِطْ بِسَلَم مِنَّا وَبَرَكَت عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَم مِّمَّن مَّعَكَ وَاُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(48) تِلْكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيَهآ اِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِر إنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49)
هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود ، وفيهما إشارة إلى هبوط نوح(عليه السلام) من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض .
يقول القرآن في الآية الأُولى من هاتين الآيتين : (قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممن معك) .
لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة .. فالأراضي العامرة والمراتع الخُضر والغابات النضرة كلّها أُبيدت ، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء ، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة
إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأً وموفّراً لهم فلا ينبغي الحزن على شيء ..
مضافاً إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر ، فالله سبحانه يطمئن نوحاً وأصحابه أيضاً أنّه لا خطر يهددهم ، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطاً سالماً مليئاً بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك .
هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية ، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة ! .
كلمة «أُمم» هي جمع «أمة» وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه ، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سبباً لوجود قبيلة وأُمّة كبيرة ، أو أنّه فِعْلاً كان مع نوح أفراد من قبائل وأُمم متعددة فيشكل مجموعهم أُمماً أيضاً ..
ويرد هذا الإحتمال أيضاً ، وهو أن الأُمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة ، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأُمّة عليها أيضاً في مكان آخر من آياته ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (38) (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم) .
فيتّضح بهذا أنّ نوحاً وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة ، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض ، فإنّ لطف الله شملها جميعاً كذلك.
ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نوحاً أنّه ستعقب الأُمم التي معك أُمم من نسلها ، ولكن هذه الأُمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله (وأُمم سنمتعهم ثمّ يمسّهم منّا عذاب أليم) .
فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الإنتخاب وآخر الإصلاح ، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضاً يصلون بها الذروة من الرُشد والتكامل ، ولكن الناس قد يسيئون الإستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد ، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأُخرى.
الطريف في الآية أنّها تقول (سنمتعهم) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي ذلك إِشارة إِلى أن الإِستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته، ولكن غالباً ما يزيد المتنعمين طغياناً وكفراً ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.
وينقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: «نمتعهم» الخ: هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلاّ في الدنيا وعمارتها وملذاتها.
هذا الواقع يُرى جيداً في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين ـ فحسب ـ، بل نراهم يوماً بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإِراقة دمائهم أكثر فأكثر، لذلك كثيراً ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتاً لعلهم يفيقون من غفلتهم.
وفي آخر آية تختم بها قصّة نوح ـ في هذه السورة ـ إِشارة كلية عامّة إِلى ما حدث في عهد نوح فتقول: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إِليك ماكنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا).
فالخطاب هنا للنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر واستقام نوح(عليه السلام) عندما واجه المشاكل، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر (فاصبر إِنّ العاقبة للمتقين).
1 ـ إِنّ بيان قصص الأنبياء(عليهم السلام) ـ بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف الخرافة ـ ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب، وإلاّ فإِنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل، وكلما عدنا إِلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر.
فعلى هذا، يعتبر بيان حال الانبياء الماضين والاقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والاسلام والنّبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ يستفاد من هذه الآية ـ خلافاً لما يتصوره البعض ـ أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم، وإِذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم، فهو إِشارة إِلى أنّ علمهم ليس ذاتياً، بل هو من الله.
3 ـ وهذه الآية توضح حقيقة أُخرى، وهي أنّ بيان قصص الأنبياء والأقوام الماضين في القرآن ليس درساً للمسلمين فحسب، بل هو إِضافة إِلى ذلك تسلية لخاطر النّبي وطمأنة لقلبه، لأنّه بشر أيضاً، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان الالهية و يتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في طريقه.
أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إِلى الإِيمان، فعليك يا نبي الإِسلام أن لا تدع الصبر والإِستقامة على كل حال!
والآن نودع قصّة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب، ونتوجه إِلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سُمّيت هذه السورة باسمه.
* * *
وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَومِ اعْبُدُواْ اللهَ مَالَكُم مِّنْ إِله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مَفْتَرُونَ(50) يَقَوْمِ لآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(51) وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ(52)
كما أشرنا آنفاً، فإِنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجههوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوح(عليه السلام) وأمّا الآن فالحديث عن هود(عليه السلام).
جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد، وجميعهم نهضوا لإِنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر، ولدعوتهم إِلى التوحيد بجميع أبعاده.
وكان شعارهم جميعاً الإِيمان والإِخلاص والجد والمثابرة والإِستقامة في سبيل الله، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والارهاب والضغوط..
يقول سبحانه في الآية الأُولى من هذه القصّة.. (وإِلى عاد أخاهم هوداً)ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هوداً بكونه «أخاهم».
وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إِلى أصل واحد..
فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».
أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّاً، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعاً، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنّهم إِخوة لهم..
معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.
كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعاً ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إِن أنتم إلاّ مفترون).
فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشرّ، ولا يصدر منها أي عمل، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إِطلاقاً.
ثمّ يضيف هود قائلا لقومه: لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا أُريد منكم أي أجر (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً) فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء، فهو الخالق والرازق (إِن أجري إلاّ على الله).
وأساساً فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم، إِنّما أفعل ذلك طاعةً لأمره، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم، وإِضافة إِلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم، فكل ما هو لديكم منه سبحانه (أفلا تعقلون).
ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والإِستفادة من
جميع الوسائل الممكنة لإِيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول: (ويا قوم استغفروا ربّكم ثمّ توبوا إِليه) فإِذا فعلتم ذلك فإِنّه (يرسل السماء عليكم مدراراً)(1) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائماً، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إِليه يرعاكم (ويزدكم قوّة إِلى قوتكم).
فلا تتصوروا أنّ الإِيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبداً، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالإِستفادة من القوّة المعنوية .. وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأُمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل، فعلى هذا إيّاكم والإِبتعاد عن طريق الحق (ولا تتولوا مجرمين).
* * *
يبين تاريخ الانبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعاً من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّاً كانت، والواقع فإِنّ أي إِصلاح في المجتمعات الإِنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإِيثار كلها أُمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.
وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية .. وما إِلى ذلك .. وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على
(1) «المدرار» كما وضحنا سابقاً مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء، ثمّ استعمل في انصباب المطر، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت: (يرسل السماء عليكم مدراراً) بمعنى أنّ المطر يهطل إِلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل، وملاحظة أنّ مدراراً صيغة مبالغة أيضاً فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.
أحد!
الشخص الذي يدور حول نفسه ـ أو يجرّ النّار إلى قرصه ـ يرى نفسه فحسب، ولهذا فهو مشرك، لأنّ التوحيد يذيب «الانا» والذات الفردية في محيط إِجتماعي واسع عريض، والموحّد لا يرى شيئاً سوى واحد كبير، أي أن جميع المجتمع الإِنساني عباد الله!
والاشخاص الذين يطلبون الإِستعلاء مشركون من نوع آخر، فهم في صراع مع أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصِلة عن منافع الآخرين، فهذا التجزيء أو «هذه الإِزدواجية» ليس إلاّ شركاً في أوجه مختلفة.
من هنا بدأ الأنبياء في سبيل اصلاح المجتمع بالدعوة الى توحيد المعبود «الله»، ثمّ توحيد الكلمة، وتوحيد العمل، وتوحيد المجتمع.
إِنّ الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادّية، فبذلك يستطيع أن يصحح كل انحراف في أتباعه، وإلاّ فإِنّ الحاجة الماديّة بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلاَّ تصفَّدُ به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.
ومن هذا الطريق .. طريق الحاجة الماديّة يدخل المنحرفون لممارسة ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإِغراء بزيادة المساعدات، ومهما يكن الزعيم والقائد نقياً صافياً ومخلصاً فهو انسان ـ أيضاً ـ ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة ـ وآيات أُخرى من القرآن ـ أنّ الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنّه ليست لهم حاجة مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.
وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين، غاية ما
في الأمر لما كان هؤلاء المصلحون ورجال الدين يقضون أوقاتهم في خدمة الإِسلام والمسلمين، فينبغي أن تؤمن حاجاتهم المادية بطريق صحيح، وأن يقوم صندوق الإِعانة وبيت مال المسلمين بتكَفّل هذه الجماعة، فإِنّ واحداً من أغراض إِنشاء بيت المال في الاسلام هو هذا الغرض، أي ليصرف على رجال الدين المنشغلين بالإِصلاح والتبليغ.
كما نرى أيضاً ـ في الآيات المتقدمة ـ أنّ القرآن يقيم رابطة بين المسائل المعنوية والماديّة، فيعدّ الإِستغفار من الذنب والتوبة إِلى الله أساس العمران والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار.
هذه الحقيقة نلمسها في كثير من آيات القرآن الكريم، من هذه الآيات ما ورد في سورة نوح على لسان هذا النّبي العظيم لقومه، حيث تقول الآيات (فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(1).
الطريف هنا أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الربيع بن صبيح: قال: كنت عند الحسن بن علي(عليهما السلام) فجاءه رجل وشكا له من الجدب والقحط، فقال له الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، فجاءه آخر فشكا له من الفقر، فقال: استغفر اللّه، فجاءه ثالث وقال له: ادع لي أن يرزقني اللّه ولداً، فقال الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، يقول الربيع بن صبيح: فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلاّ أمرته بالإستغفار والتوبة إلى اللّه..
فأجابه: «إنّ ما قلته لم يكن من نفسي، وإنّما استفدت ذلك من كلام اللّه الذي يحكيه
(1) سورة نوح، الآيات 9 ـ 12.
عن لسان نبيّه نوح»، ثمّ تلا الآيات المتقدمة.(1)
بعض الاشخاص أعتادوا على المرور بهذه المسائل مرور الكرام بأن يقيمون ارتباطاً معنوياً وعلاقة «غير معروفة» بين هذه الأُمور ويُريحون أنفسهم من كل تحليل. ولكن إِذا دققنا النظر أكثر نجد بين هذه الأُمور علائق متقاربة تشد المسائل المادية بالمعنوية في المجتمع كالخيط الذي يربط بين قطع القماش مثلا.
فأيّ مجتمع يكون ملوّثاً بالذنب والخيانة والنفاق والسرقة والظلم والكسل وأمثال ذلك، ثمّ يكون هذا المجتمع عامراً كثير البركات!؟
وأي مجتمع ينزع عنه روح التعاون ويلجأ إِلى الحرب والنزاع وسفك الدماء، ثمّ تكون أرضه خصبة خضراء، ويكون مرفهاً في وضعه الاقتصادي أيضاً؟!
وأي مجتمع يغرق أفراده في دوامة الهوى والميول النفسيّة، ثمّ في الوقت ذاته يكون قويّاً راسخ القدم ويثبت أمام عدوّه؟!
ينبغي القول بصراحة أنّه ما من مسألة أخلاقية إلاّ ولها أثر مفيد ونافع في حياة الناس المادّية، ولا يوجد اعتقاد وإِيمان صحيح إلاّ وكان لهما نصيب في بناء مجتمع عامر حرّ مستقلّ وقوي..
الافراد الذين يفصلون المسائل الأخلاقية والإِيمان بالدين والتوحيد عن المسائل الماديّة لا يعرفون المسائل المعنوية حقّاً ولا المسائل الماديّة.
وإِذا كان الدين عبارة عن سلسلة من التشريعات والآداب الظاهرية والخالية من المحتوى بين الناس، فمن البديهي أن لا يكون له تأثير في النظام المادي.
ولكن حين تكون الإِعتقادات المعنوية والروحانيّة نافذة في روح الإِنسان إِلى درجة تظهر آثارها على يده ورجله ولسانه وأذنه وعينه وجميع ذرات وجوده، فإِنّ الآثار البنّاءة لهذه الإِعتقادات في المجتمع لا تخفى على أحد.
وقد لا نستطيع إِدراك علاقة الإِستغفار بنزول البركات المادية جيداً، ولكن
(1) مجمع البيان، ج1، ص361.
دون شك فإِنّ قسماً كبيراً منها يمكن أن ندركه!
لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين الثائرين مع الكفار في هذا العصر والزمن ـ جيداً ـ أنّ الإِعتقادات الإِسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن تنتصر على أحدث الأسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الإِستعمارية، وإِن دلّ ذلك على شيء فإِنّما يدل على أثر العقائد الدينية الإِيجابية والمعنوية إِلى أقصى حدّ في المسائل الإِجتماعيّه والسياسيّة.
إِنّ الظاهر من هذه الآية أنّ الله سبحانه يزيدكم من خلال الإِستغفار قوةً بالإِضافة إِلى قوتكم، يشير بعض المفسّرين إِليه أنّ المراد من هذه القوّة هي القوّة الإِنسَانيّة كما مرّ ذلك في سورة نوح: (ويمددكم بأموال وبنين) ومنهم من قال: إِنّها القوى المادية تضاف إِلى القوّة المعنويّة. ولكنّ تعبير الآية مطلق وهو يشمل أي زيادة في القوى المادية والمعنويّة، ولا يعارض أيّاً من التفاسير، بل يحتضنها جميعاً..
* * *
قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى أَلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعضُ أَلِهَتِنَا بِسُوء قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ ممّا تُشْرِكُونَ(54)مِن دُونِهِ فَكِيدُونىِ جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ(55)إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّة إِلاَّ هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم(56) فَإِن تَوَلَّواْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ(57)
والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين ـ قوم عاد ـ مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إِليهم: (قالوا يا هودُ ما جئتنا ببيّنة) أي لم تأتِنا بدليل مقنع لنا (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) الذي تدعونا به إِلى عبادة الله
وترك الأوثان (وما نحن لك بمؤمنين).
وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية، أنّك يا هودُ مجنون و(إِن نقول إلاّ اعتراك بعض الهتنا بسوء) ولا شكّ أنّ هوداً ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معاجره وعدوّها سحراً وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الإِتفاقية التي لايمكن أن تكون دليلا على المطلوب.
وأساساً، فإِنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إِلى دليل، ومن يكن له أقل شعور وعقل ـ ويترك المخاصمة ـ يدرك هذا الأمر جيداً، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إِلى دليل، فهل يحتاج إِلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية ..؟!
وبتعبير آخر فإِنّ ما جاء في دعوة هود ـ في الآيات المتقدمة ـ هو الدعوة إِلى الله الواحد الأحد، والتوبة إِليه والإِستغفار من الذنوب، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان، كل هذه المسائل يمكن اثباتها بالدليل العقلي.
![]() |
![]() |
![]() |