![]() |
![]() |
![]() |
2 ـ ذكر المفسّرون تفسيرين لجملة: (أحسن ماكانوا يعملون): أحدهما على أساس أن كلمة (أحسن) وصف لأفعالهم، والآخر على أنّها وصف لجزائهم.
فعلى التّفسير الأوّل وهو ما اخترناه، وهو الأوفق لظاهر الآية ـ فأنّ أعمال المجاهدين هذه قد اعتُبرت وعُرِّفت بأنّها أحسن أعمالهم في حياتهم، وأنّ الله سبحانه سيعطيهم من الجزاء ما يناسب أعمالهم.
وعلى التّفسير الثّاني الذي يحتاج إِلى تقدير كلمة (من) بعد كلمة (أحسن) فإنّها
تعني إن جزاء الله أفضل وأثمن من أعمالهم، وتقدير الجملة: ليجزيهم الله أحسن ممّا كانوا يعملون، أي سيعطيهم الله أفضل ممّا أعطوا.
3 ـ إِنّ الآيات المذكورة لا تختص بمسلمي الأمس، بل هي للأمس واليوم ولكل القرون والأزمنة.
ولا شك أنّ الإِشتراك في أي نوع من الجهاد، صغيراً كان أم كبيراً، يستبطن مواجهة المصاعب والمشاكل المختلفة، الجسمية منها والروحية والمالية وأمثالها، إِلاّ أن المجاهدين أناروا قلوبهم وأرواحهم بالإِيمان بالله ووعوده الكبيرة. وعلموا أن كل نَفَس وكلمة وخطوة يخطونها في هذا السبيل لا تذهب سدىً، بل إِنّها محفوظة بكل دقة دون زيادة أو نقصان، وإِنّ الله سبحانه سيعطيهم في مقابل هذه الأعمال ـ باعتبارها أفضل الأعمال ـ من بحر لطفه اللامتناهي أنسب المكافئات وأليقها ...
إِنّهم إِذا عاشوا هذا الإِحساس فسوف لا يمتنعون مطلقاً من تحمل هذه المصاعب مهما عظمت وثقلت، وسوف لا يدعون للضعف طريقاً إِلى أنفسهم مهما كان الجهاد مريراً ومليئاً بالحوادث والعقبات.
* * *
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِروُاْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122)
روي الطبرسي(رحمه الله) في مجمع البيان عن ابن عباس، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما سار إِلى ميدان القتال، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين، إلاّ أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين، وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إِلى ميادين الحرب، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد، ويدعون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسليمن إِلى الجهاد، بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإِسلامية وأحكام الدين من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال.
وقد نقل هذا المفسّر الكبير سبباً آخر للنّزول بهذا المضمون أيضاً، وهو أنّ
جماعة من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انتشروا بين القبائل يدعونهم إِلى الإِسلام، فرحبّوا بهم وأحسنوا إِليهم، إلاّ أنّ بعضهم قد لامهم على تركهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والتوجه إِليهم، وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إِلى الإِسلام، وأزالت قلقهم.
وروي سبب ثالث للنزول في تفسير «التبيان»، وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعاً نحو المدينة لتعلم الأحكام الإِسلامية، فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية، وإِيجاد مشاكل ومشاغل أُخرى لمسلمي المدينة، فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لايجب توجههم جميعاً إِلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها، بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم.
إِنّ لهذه الآية ارتباطاً بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد، وتشير إِلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين، وهي: أنّ الجهاد وإِن كان عظيم الأهمية، والتخلف عنه ذنب وعار، إلاّ أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إِلى ساحات الجهاد، خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إِلى الجهاد: (وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين).
فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإِسلامية، ويحذرونهم من مخالفتها: (ولينذروا قومهم إِذا رجعوا إِليهم) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بانذارهم (لعلهم يحذرون).
* * *
وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها:
1 ـ إِنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إِضافةً إِلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف، فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر، إلاّ أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة «لتبقى طائفة» بعد «من كل طائفة» أي: لتذهب طائفة من كل فرقة، وتبقى طائفة أُخرى، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إِشكالا. (فتأمل بدقة).
إِلاّ أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية، والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إِلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي، ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإِسلام وتعاليمه، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين، وإِذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإِخوانهم ماجرى(1).
والإِحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين. وهو أنّ الآية تبيّن حكماً مستقلا عن مباحث الجهاد، وهو أنّه يجب على المسلمين واجباً كفائياً أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإِسلامية، ويذهبوا إِلى معاهد العلم الإِسلامية الكبيرة، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إِلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين(2).
ولكن التّفسير الأوّل كما تقدم ـ أقرب إِلى مفهوم الآية، وإِن كانت إِرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد(3).
2 ـ لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة، إِذ
(1) اختار الطبري هذا الرأي، نقل ذلك القرطبي في تفسيره، وذكره جماعة من المفسّرين في ذيل الآية كاحتمال.
(2) هذا التّفسير يناسب سبب النزول الذي أورده المرحوم الشيخ الطوسي في التبيان.
(3) نلفت انتباهكم إِلى أنّنا نعتبر استعمال كلمة واحدة في عدّة معان أمراً جائزاً.
الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إِلى ساحات الجهاد، ووبخت المتخلفين بشدة، أمّا هذه الآية فتقول. أنّه لاينبغي للجميع ان يتوجهوا إِلى ميدان الحرب.
ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة، فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إِلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إِمبراطورية الروم لمحاربة الإِسلام والقضاء عليه. أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إِلى الحرب، خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فإنّه يجب عليهم أن لا يُخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإِسلامية.
وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات، وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض.
3 ـ لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإِسلامية، وهي أعم من الأصول والفروع، لأنّ كل هذه الأُمور قد جمعت في مفهوم التفقه، وعلى هذا، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوباً كفائياً على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإِسلامية، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إِلى مختلف البلدان، وخصوصاً بلدانهم وأقوامهم، ويعلمونهم مختلف المسائل الإِسلامية.
وبناء على ذلك، فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإِسلامية، وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معاً، وإِذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإِجباري، فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرناً هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين.
4 ـ استدل جماعة من علماء الإِسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد، لأنّ التقليد إِنّما هو تعلم العلوم الإِسلامية وإِيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين،
ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين، بل تشمل حتى المسائل الأُصولية، وتتضمن الفروع أيضاً على كل حال.
الإِشكال الوحيد الذي يثار هنا، هو أنّ الإِجتهاد والتقليد لم يكن موجوداً في ذلك اليوم، والاشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإِرسال في يومنا هذا، لاحكم المجتهدين، أي إِنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إِبداء أي رأي أو وجهة نظر.
ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للإِجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإِشكال.
وتوضيح ذلك: إِن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإِسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إِلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل مالم يسمعوا حكمها بالذات من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّها كانت موجودة في عمومات واطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعاً يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات ـ وفي الإِصطلاح العلمي: رد الفروع إِلى الأُصول ورد الأُصول على الفروع ـ لمعرفة حكم هذه المسائل، وكان هذا بحد ذاته نوعاً من الإِجتهاد البسيط.
إِنّ هذا العمل وأمثاله كان موجوداً في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتماً، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للإِجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعاً بهذه الدرجة.
ولما كان لهذه الآية مفهوماً عاماً، فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي
الأحكام، كما تشمل قبول قول المجتهدين، وعلى هذا، فيمكن الإِستدلال بعموم الآية على جواز التقليد.
5 ـ المسألة المهمّة الأُخرى التي يمكن استخلاصها من الآية، هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإِسلام لمسألة التعليم والتعلم، إِلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعاً إِلى ميدان الحرب، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإِسلامية.
إِنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إِن المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع، فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء، (لأنّ الأُمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائماً).
أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثاً جميلا، وقال: كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإِداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ـ فقال لي مرّة: لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعاً وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ يعرّض بي ـ أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة: بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدىء مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعاً(1).
* * *
(1) تفسير المنار، ج 11، ص 78.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123)
أشارت الآية في سياق احكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة ـ إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإِسلامي المهم، فوجهت الخطاب أوّلا إِلى المؤمنين وقالت: (يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).
صحيح أنّه تجب محاربة الكفار جميعاً، ولا فرق بينهم في ذلك، إلاّ أنّه من الوجهة التكتيكية وطريقة القتال يجب البدء بالعدو الأقرب، لأنّ خطر العدوّ القريب أكبر، كما أنّ الدعوة للإِسلام وهداية الناس إِلى دين الحق يجب أن تبدأ من الأقرب، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد بدأ بأمر الله سبحانه بدعوة أقاربه وعشيرته، ثمّ دعا أهل مكّة. ثمّ جزيرة العرب وقام بإِرسال الرسل إِليها، وبعدها كتب الرسائل إِلى ملوك العالم، ولاشك أن هذا الأسلوب هو الأقرب للنجاح والوصول إِلى الهدف.
ومن الطبيعي أن لكل قانون استثناء، فقد يكون العدو الأبعد ـ في بعض الأحيان ـ أشد خطراً من العدو القريب، وعندها تجب المبادرة إِلى دفعه أوّلا، لكن، كما قلنا، فإِن هذا استثناء لا قانون ثابت ودائم.
وأمّا ما قلناه من أنّ المبادرة إِلى مجابهة العدو الأقرب هي الأهم والأوجب. فإِنّ أسبابه واضحة، وذلك:
أوّلا: إِنّ خطر العدو القريب أكبر وأشد من العدو البعيد.
ثانياً: إِنّ اطلاعنا وعلمنا بالعدو القريب أكثر، وهذا من العوامل المساعدة والمقربة للنصر.
ثالثاً: إِنّ التوجه لمحاربة العدو البعيد لا يخلو من خطورة اضافية، فالعدو القريب قد يستغل الفرصة ويحمل على الجيش من الخلف، أو يستغل خلو المقر الأصلي للإِسلام فيهجم عليه.
رابعاً: إِنّ الوسائل اللازمة ونفقات محاربة العدوّ القريب أقل وأبسط، والتسلط على ساحة الحرب في ظل ذلك أسهل.
لهذه الأسباب وأسباب أُخرى، فإِنّ دفع العدو الأقرب هو الأوجب والأهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الآية لما نزلت كان الإِسلام قد استولى على كل جزيرة العرب تقريباً، وعلى هذا فإِن أقرب عدو في ذلك اليوم ربّما كان أمبراطورية الروم الشرقية التي توجه المسلمون إِلى تبوك لمحاربتها.
وكذلك يجب أن لا ننسى أنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني، إلاّ أنّه ليس من المستبعد أن روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية، أي إِنّ المسلمين عندما يعزمون على المجابهة المنطقية والإِعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إِلى المجتمع الإِسلامي وأشدّ خطراً عليه، فمثلا في عصرنا الحاضر نرى أن خطر الإِلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الأُخرى، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء، بل يجب اعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر، وهكذا في مواجهة الإِستعمار الفكري والسياسي والإِقتصادي التي تحوز الدرجة الأُولى من الأهمية.
والأمر الثّاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية، هو اسلوب الحزم والشدّة، فهي تقول: إِن العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعاً من الخشونة والشدّة: (وليجدوا فيكم غلظة) وهي تشير إِلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والإِستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات، وهذا بنفسه سيؤدي إِلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.
وبعبارة أُخرى فإِنّ امتلاك القدرة ليس كافياً، بل يجب استعراض هذه القوّة أمام العدو. ولهذا نقرأ في تأريخ الإِسلام أنّ المسلمين عندما أتوا إِلى مكّة لزيارة بيت الله، أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسرعوا في طوافهم، بل أن يعدوا ويركضوا ليرى العدو ـ الذي كان يراقبهم عن كتُب ـ قوتهم وسرعتهم ولياقتهم البدنية.
وكذلك نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر المسلمين في الليل أن يشعلوا نيراناً في الصحراء ليعرف أهل مكّة عظمة جيش الإِسلام، وقد أثر هذا العمل في معنوياتهم. وكذلك أمر أن يُجعل أبوسفيان كبير مكّة في زواية ويستعرض جيش الإِسلام العظيم قواته أمامه.
وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة: (واعلموا أنّ الله مع المتقين) ويمكن أن يشير هذا التعبير ـ إِضافةً لما قيل ـ إِلى أن استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى، ولا يتعدى الحدود الإِنسانية في أي حال.
* * *
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءاَمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَفِرُونَ(125)
تشير هاتان الآيتان إِلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة، تكملةً لما مرّ من البحوث حولهما.
فتقول أوّلا: (وإِذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إِيماناً)(1)وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم، وعدم اعتنائهم بها، ويقولون: إِنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشيء المهم والمحتوى الغني، بل هى كلمات عادية ومعروفة.
(1) إِنّ (ما) في جملة (إِذا ما أنزلت) زائدة في الحقيقة، وهي للتأكيد. وقال البعض أنّها صلة وهي تسلط أداة الشرط ـ إي (إذا) على جزائها، وتؤكّد الجملة.
ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة، ويقول ضمن تقسيم الناس الى طائفتين: (فأمّا الذين آمنوا فزادتهم ايماناً وهم يستبشرون).
وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد (وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً الى رجسهم).
وفي النهاية، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر: (وماتوا وهم كافرون).
* * *
وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها:
1 ـ إِنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ بنظر الإِعتبار وجود الأرضية المهيئة والإِستعداد للتلقي كشرط أساسي.
إِنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة، فالذين ينظرون إِلى الحقائق بروح التسليم والإِيمان والعشق، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درساً يزيد في إِيمانهم، ويفعّل سمات الإِنسانية لديهم.
أمّا الذين ينظرون إِلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق، فإِنّهم لايستفيدون منها، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإِنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إِلى معاصيهم، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه، ويصرون على رفض كل حقيقة، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم، وفي النهاية اغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.
وبتعبير آخر فإِنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها، بل إِنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط اساسي أيضاً.
2 ـ «الرجس» في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيء، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات، فإِنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع: فتارةً يُنظر إِليه من جهة الغريزة والطبع، وأُخرى من جهة الفكر والعقل، وثالثة من جهة الشرع، ورابعة من كل الجهات.
ولاشك أنّ السوء والخبث الناشىء من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعاً من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإِنسان وكلامه وسلوكه.
3 ـ إِنّ جملة (وهم يستبشرون) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإِنسان، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فوراً على وجوههم.
4 ـ لقد اعتبرت هذه الآيات «المرض القلبي» نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقاً فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والإِنحرافات النفسية، وهذا التعبير يوضح أنّ الإِنسان إِذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإِنسان، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الإِنحراف عن المسير الأصلي والطبيعي، ودليل على المرض الروحي والنفسي(1).
5 ـ إِنّ هذه الآيات تعطي درساً كبيراً لكل المسلمين، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من
(1) كان لنا بحث آخر عن مرض القلب ومفهومه في القرآن راجع الآية (16) من سورة البقرة.
القرآن، ويتربون تربية جديدة تصل إِلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم، بينما نرى اليوم أشخاصاً، ظاهرهم أنّهم مسلمون، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرأوها، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!
هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار، ومرض القلوب، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إِلى خلق حالة عدم الإِهتمام، وجعلت على القلوب أكنة لايمكن اختراقها؟
يجب علينا أن نلتجىء إِلى الله من حالنا هذا، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.
* * *
أَوَلاَ يِرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَام مَّرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ ثمّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)وَ إِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض هَلْ يَرَاكُم مِّن أَحَد ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قُوْمٌ لاَّيَفْقَهُونَ(127)
يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول: (أو لا يرون أنّهم يفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين) والعجيب أنّهم رغم هذه الإِمتحانات المتلاحقة لايعتبرون (ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكرون).
وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو المراد من هذا الإختبار السنوي الذي يجري مرّة أو مرّتين؟
فالبعض يقول: إِنّه الأمراض، والبعض الآخر يقول: إِنّه الجوع والشدائد الأُخرى، وثالث يقول: إِنّه مشاهدة آثار عظمة الإِسلام وأحقية النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)في ساحات الجهاد التي كان يحضرها هؤلاء المنافقون بحكم الضغط الإِجتماعي وظروف البيئة التي يعيشونها، ورابع يعتقد أنّه رفع الستار عن أسرارهم،
وفضيحتهم.
غير أنا إِذا قرأنا آخر الآية حيث تذكر أنّ هؤلاء لم يتذكروا رغم كل ذلك، سيتّضح أنّ هذا الإِختبار من الإِختبارات التي ينبغي أن تكون سبباً في توعية هذه المجموعة.
ويظهر أيضاً من تعبير الآية أنّ هذا الإختبار يختلف عن الإِختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم. وإِذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الإِعتبار فسيظهر أن التّفسير الرّابع ـ أي إِزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم ـ أقرب إِلى مفهوم الآية.
ويحتمل أيضاً أن يكون للإِمتحان والإِبتلاء في هذه الآية مفهوم جامع بحيث يشمل كل هذه المواضيع.
ثمّ تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية، فتقول: (وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض).
إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي، من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئاً لعمى قلوبهم، والإِنسان عدو ما يجهل.
وعلى كل حال، فإِنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإِلهية، إلاّ أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله: (هل يراكم من أحد)؟ وإِذا ما أطمأنوا إِلى أن الناس منشغلون بسماع كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغير ملتفتين إِليهم خرجوا: (ثمّ انصرفوا).
إنّ جملة (هل يراكم من أحد)، كانوا يقولونها إمّا بألسنتهم، أو بإشارة العيون، في حين أن الجملة الثّانية (نظر بعضهم إلى بعض) تبيّن أمراً واحداً هو نفس ما عينته الجملة الأُولى، وفي الحقيقة فإنّ (هل يراكم أحد) تفسير لنظر بعضهم إلى البعض الآخر.
وتطرقت الآية في الختام إِلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت: إِنّ هؤلاء إِنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولايرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق، وأصبحوا أعداءً للحق لأنّهم أناس جاهلون لافكر لهم: (صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لايفقهون).
وقد ذكر المفسّرون لقوله تعالى: (صرف الله قلوبهم) احتمالين:
الأوّل: إِنّها جملة خبرية. كما فسرناها قبل قليل.
الثّاني: إِنّها جملة إِنشائية، ويكون معناها اللعنة، أي إِنّ الله سبحانه يصرف قلوب هؤلاء عن الحق. إلاّ أن الإِحتمال الأوّل هو الأقرب كما يبدو.
* * *
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤمِنِينَ رَؤُفٌ رَّحِيمٌ(128)فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللهُ لاَإِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)
إِنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين، هي آخر الآيات التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبها تنتهي سورة براءة، فهي في الواقع إِشارة إِلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة، لأنّها تبيّن من جهة لجميع الناس، سواء المؤمنون منهم أم الكافرون والمنافقون، أنّ جميع الضغوط والتكاليف التي فرضها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والقرآن الكريم، والتي ذكرت نماذج منها في هذه السورة، كانت كلها بسبب عشق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الناس وتربيتهم وتكاملهم.
ومن جهة أُخرى فإِنّها تخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يقلق ولا يتحرق لعصيان وتمرد الناس، والذي ذكرت منه ـ أيضاً ـ نماذج كثيرة في هذه السورة، وليعلم أنّ الله سبحانه حافظه ومعينه على كل حال.
ومن هنا فإِنّ خطاب الآية الأُولى موجه للناس، فهي تقول: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم)، خاصّة وأنّه قد وردت لفظة (من أنفسكم) بدل (منكم)، وهي تشير إِلى شدة إرتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس، حتى كأنّ قطعة من روح الناس والمجتمع قد ظهرت بشكل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). ولهذا السبب فإِنّه يعلم كل آلامهم، ومطلع على مشاكلهم، وشريكهم في غمومهم وهمومهم، وبالتالي لايمكن أن يُتصور صدور كلام منه إلاّ في مصلحتهم، ولا يخطو خطوة إلاّ في سبيلهم، وهذا في الواقع أوّل وصف للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر في هذه الآية.
ومن العجيب أنّ جماعة من المفسّرين الذين وقعوا تحت تأثير العصبية القومية والعربية قالوا: إِنّ المخاطب في هذه الآية هم العرب! أي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاءكم من هذا الأصل!.
إِنّنا نعتقد أن هذا هو أسوأ تفسير ذكر لهذه الآية، لأنا نعلم أنّ الشيء الذي لم يجر له ذكر في القرآن الكريم هو مسألة الأصل والعرق، ففي كل مكان تبدأ خطابات القرآن بـ(يا أيّها الناس) و (يا أيّها الذين آمنوا) وأمثالها، ولايوجد في أي مورد «يا أيّها العرب» و «يا قريش» وأمثال ذلك.
إِضافة الى أنّ ذيل الآية الذي يقول: (بالمؤمنين رؤوف رحيم)ينفي هذا التّفسير بوضوح، لأنّ الكلام فيه عن كل المؤمنين، من أي قومية أو عرق كانوا.
وممّا يثير الأسف أنّ بعض العلماء المتعصبين قد حجّموا عالمية القرآن وعموميته لكل البشر، وحاولوا حصره في حدود القومية والعرق المحدودة.
وعلى كل حال، فبعد ذكر هذه الصفة (من أنفسكم) أشارت الآية إِلى أربع صفات أُخرى من صفات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) السامية، والتي لها الأثر العميق في إِثارة عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم.
ففي البداية تقول: (عزيز عليه ماعنتم) أي أن الأمر لاينتهي في أنّه لا يفرح لأذاكم ومصاعبكم، بل إِنّه لايقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى، فهو يتألم
لألمكم، وإِذا كان يصرّ على هدايتكم ويتحمل الحروب المضنية الرهيبة، فإِنّ ذلك لنجاتكم أيضاً، ولتخليصكم من قبضة الظلم والإِستبداد والمعاصي والتعاسة.
ثمّ تضيف أنّه (حريص عليكم) ويتحمس لهدايتكم.
«الحرص» في اللغة بمعنى قوة وشدة العلاقة بالشيء، واللطيف هنا أن الآية أطلقت القول وقالت: (حريص عليكم) فلم يرد حديث عن الهداية، ولا عن أي شيء آخر، وهي تشير إِلى عشقه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكل خير وسعادة ورقي لكم. وكما يقال: إِن حذف المتعلق دليل على العموم.
وعلى هذا، فإنّه إذا دعاكم وسار بكم إلى ساحات الجهاد المريرة، وإذا شدّد النكير على المنافقين، فإِنّ كل ذلك من أجل عشقه لحريتكم وشرفكم وعزتكم. وهدايتكم وتطهير مجتمعكم.
ثمّ تشير إِلى الصفتين الثّالثة والرّابعة وتقول: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وعلى هذا فإِنّ كل الأوامر الصعبة التي يصدرها، (حتى المسير عبر الصحاري المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة تبوك) فإِنّ ذلك نوع من محبته ولطفه.
وهناك بحث بين المفسّرين في الفرق بين «الرؤوف» و «الرحيم»، إلاّ أنّ الذي يبدو أن أفضل تفسير لهما هو أنّ الرؤوف إِشارة إِلى محبّة خاصّة في حقّ المطيعين، في حين أنّ الرحيم إِشارة إِلى الرحمة تجاه العاصين، إلاّ أنّه يجب أن لا يغفل عن أن هاتين الكلمتين عندما تفصلان يمكن أن تستعملا في معنى واحد، أمّا إِذا اجتمعتا فتعطيان معنى مختلفاً أحياناً.
وفي الآية التي تليها، وهي آخر آية في هذه السورة، وصف للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّه شجاع وصلب في طريق الحق، ولا ييأس بسبب عصيان الناس وتمردهم، بل يستمر في دعوتهم إِلى دين الحق: (فإِن تولوا فقل حسبي الله لا إِله إلاّ هو) فهو حصنه الوحيد .. أجل لا حصن لي إلاّ الله، فإِليه استندت و (عليه توكلت وهو
ربّالعرش العظيم).
إِنّ الذي بيده العرش والعالم العلوي وما وراء الطبيعة بكل عظمتها، وهي تحت حمايته ورعايته، كيف يتركني وحيداً ولا يعينني على الأعداء؟ فهل توجد قدرة لها قابلية مقاومة قدرته؟ أم يمكن تصور رحمة وعطف أشد من رحمته وعطفه؟
![]() |
![]() |
![]() |