![]() |
![]() |
![]() |
وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة:
2 ـ إِذ جاء في بعضها: بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.
3 ـ وفي بعضها: كمن قارع مع رسول الله بسيفه.
4 ـ وفي بعضها: بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم.
5 ـ وفي بعضها: بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.
6 ـ وفي بعضها: بمنزلة من اسُتشهد مع رسول الله.
1 ـ محاسن البرقي، طبقاً لما ورد في البحار، الطبعة القديمة، ج 13، ص 136.
فهذه التشبيهات السبعة في الرّوايات الست المذكورة، آنفاً في شأن المهدي(عليه السلام)، تبيّن هذه الواقعية وهي أنّ هناك علاقه وارتباط بين مسألة الإِنتظار من جانب، وجهاد العدوّ في أشدّ أشكاله من جانب آخر «فتأملوا بدقّة».
7 ـ كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل العبادات، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الإِمام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام).
فقد ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أفضل أعمال أُمّتي إنتظار الفرج من الله عزّوجلّ».(1)
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: «أفضل العبادة انتظار الفرج».(2)
وهذان الحديثان يشيران إِلى انتظار الفرج، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو بمفهومه الخاص أي انتظار ظهور المصلح ويبيّنان أهمية الإِنتظار بجلاء أيضاً.
ومثل هذه التعابير تعني أنّ الإِنتظار معناه الثورية المقرونة بالتهيؤ للجهاد، فلابدّ أن نتصوّر هذا المعنى لنفهم المراد من الإِنتظار، ثمّ نحصل على النتيجة المتوخاة.
الإِنتظار: يطلق عادةً على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإِيجاد وضع أحسن.
فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر، فهما أي المريض والأب مشفقان، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.
وكذلك ـ مثلا ـ حال التّاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط
1 ـ الكافي، حسب ما جاء في البحار، ص 136 و 137.
2 ـ المصدر السّابق.
الإِقتصادى. فهاتان الحالتان أي: الاحساس بالأزمة، والسعيُ نَحْوَ الأحسن هما من الإِنتظار.
فبناءً على ذلك، فإنّ مسألة إنتظار حكومة الحق والعدل، أي حكومة «المهدي(عليه السلام)» وظهور المصلح العالمي، مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي، وعنصر إِثبات، فعنصر النفي هو الإِحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر، وعنصر الإِثبات هو طلب الحال الأحسن!
وإِذا قُدّر لهذين العنصرين أن يحلاّ في روح الإِنسان فإِنّهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما:
1 ـ ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها، هذا من جهة.
2 ـ وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الإِستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإِنسانية، من جهة أُخرى.
ولو أمعنّا النظر لوجدنا أنّ هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي.
ومع الإِلتفات إِلى مفهوم الإِنتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الرّوايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لم سمّت الرّوايات المنتظرين بحقّ بأنّهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه «عجل الله فرجه» أو أنّهم تحت لوائه، أو أنّهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه، أو كالمتشحط بدمه! ... الخ ... .
تُرى أليست هذه التعابير تشير إِلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الإِستعداد ودرجة انتظار الناس؟
كما أنّ ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إِذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، فكذلك الإِنتظار
وبناء الشخصيّة والإِستعداد، كل ذلك ليس في درجة واحدة، وإِن كان كلّ من هذه «العناوين» من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكلّ منهما جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنّه مستقر في مركز القيادة، وعند آمرية الحكومة الاسلامية! فلا يمكن أن يكون إِنساناً غافلا جاهلا، فذلك المكان ليس مكاناً لكل أحد وإِنّما هو مكان من يستحقه بجدارة!
فكذلك الأمر عندما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح، فعليه أن يكون مستعداً بشكل كامل روحياً وفكرياً وقتالياً.
ولمزيد التعرف على الآثار الواقعية لإِنتظار ظهور المهدي(عليه السلام) لاحظوا التوضيح التّالي:
اِذا كنتُ ظالماً مجرماً، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟!
وإِذا كنتُ ملوّثاً غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوّثين؟!
والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إِن وجدت، لأنّ كيفية الإِنتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن في انتظاره.
1 ـ انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.
2 ـ انتظار عودة حبيب عزيز جداً.
3 ـ انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.
كل من هذه الأنواع من الإِنتظار مقرون بنوع من الإِستعداد، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الادوات
والسلال وهكذا ... والآن سنتصوّر كيف يكون إنتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإِنسانية مثيلا له؟
الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطفة ما، بل هي عامّة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسية، ثقافية، اقتصادية، أخلاقية.
إِنّ بناء الشّخصية ـ قبل كل شيء ـ بحاجة إِلى عناصر معدّة ذات قيم إِنسانية، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإِصلاحي للعالم، وهذا الأمر بحاجة ـ أوّلا ـ إِلى الإِرتقاء الفكري والعلمي والإِستعداد الروحي، لتطبيق ذلك المنهج العظيم. فالتحجر، وضيق النظر والحسد، والإِختلافات الصبيانية، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.
والمسألة المهمّة ـ هنا ـ أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ممّا أشرنا إِليه آنفاً، بل لابدّ أن يقف في الصف الآخر، أي صف الثائرين المصلحين، فالإِيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول، لا يسمح له أبداً أن يكون في صف «المثبطين» المتقاعسين، بل يكون في صف المخلصين المصلحين، ويكون عمله خالصاً وروحه أكثر نقاءً، وأن يكون شهماً عارفاً معرفةً كافية بالأُمور.
فإِذا كنتُ فاسداً معوجّاً فكيف يمكنني أن أنتظر نظاماً لا مكان فيه للفاسدين؟ أليس مثل هذا الإِنتظار كافياً لأن أُطهّر نفسي وفكري، وأغسل جسمي وروحي من التلوّث؟!
والجيش الذي ينتظر جهاداً تحررياً لابدّ له أن يكون في حالة من الإِستعداد الكامل، وأن يُهيىء السلاح الجدير بالمعركة، وأن يصنع الملاجىء والمواضع
العسكرية اللازمة وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده، ويقوي روحيّاتهم، يُسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة فإنّ جيشاً ليس فيه مثل هذه الإِستعدادات لا يكون جيشاً (منتظراً) وإذا ادعى الإِنتظار فهو «كاذب»!
إنّ انتظار المصلح، « العالمي» معناه الإِستعداد الكامل فكرياً، وأخلاقياً، مادياً ومعنوياً، الإِستعداد لإِصلاح العالم كلّه. فتصوّروا أنّ مثل هذا الإِستعداد كم يكون بنّاء؟!
فإصلاح المعمورة كلّها، وإِنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملا بسيطاً، ولا هو بالمزاح أو الهزل، بل الإِستعداد لمثل هذا الهدف الكبير ينبغي أن يتناسب معه، وأن يكون بسعته وعمقه!
فلابدّ من وجود رجال كبار مصممين ذوي إرادة أقوياء لاينكصون ولا ينهزمون أبداً، ذوي نظرة واسعة واستعداد تام وتفكير عميق، حتى تتحقق مثل هذه الثورة الإِصلاحية العالمية.
وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف يستلزم الإِرتباط بأشد المناهج الأخلاقية، والفكرية والإِجتماعية أصالة وعمقاً، فهذا هو معنى الإِنتظار الواقعي! تُرى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول: إِن مثل هذا الإِنتظار لا يكون فاعلا.
إِنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء «شخصيتهم» عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إِصلاح ذاتهم... لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فرديّاً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية، وأن يكون العمل جماعياً عاماً، وأن تتسقَ المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.
ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنباً إِلى جنب، لا يمكن لاحد
منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشدّ أزرهم وأن يسدّ الثغرة ويصلح نقطة الضعف إِن وُجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها، لأنّه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعّالة متسقة متناسقة!
فبناءً على ذلك فالمنتظرون بحقّ عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإِضافة إِلى اصلاح حالهم.
فهذا هو الأثر الآخر البنّاء، الذي يورثه الإِنتظار لقيام مصلح عالمي، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها، المنتظرون بحق.
إِنّ الأثر المهم الآخر للإِنتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الإِنقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبداً.
وتوضيح ذلك: أنّه حين يعم الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإِنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: في طريق مسدود «لليأس من الإِصلاحات التي يتوخّاها».
وربّما يتصور «المنتظرون» أنّه لا مجال للإِصلاح، وأن السعي والجدّ من أجل البقاء على «النقاء» والطهارة وعدم التلوّث، كل ذلك لا طائل تحته، أو لا جدوى منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإِنسان نحو الفساد والإِصطباغ بصبغة المجتمع الفساد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة، وأنّهم سيفتضحون إِن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.
والشيء الوحيد الذي ينعشُ فيهم الأمل ويدعوهم الى المقاومة والتجلد وعدم الذّوبان والإِنحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي، فهم في هذه الحال ـ فحسب ـ لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في
سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإِصلاحهم أيضاً.
وحين نجد ـ في التعاليم الإِسلامية ـ أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر، فقد يتعجب بعض الجهّال: كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية، حتى أنّه أشدّ من سائر الذنوب الأُخرى، فإنّ حكمته و«فلسفتة» في الحقيقة هو ما أشرنا إِليه آنفاً، لأنّ العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئاً ينقذه ويخلصه من عذاب الله، فلا يفكر بإِصلاح الخلل، أو ـ يكفّ عن الذنب على الأقل لأنّه يقول في نفسه: أنا الغريقُ فهل أحشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنّم، وقد أشتريتها، فما عسى أن أفعل؟ ... وما الى ذلك.
إِلاّ أنّه حين تنفتح له نافذة الأمل، فإنّه سيرجو عفو ربّه، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه الى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإِصلاح.
ومن هنا يمكننا أن نعتبر أنّ الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إِذا لم يكن لهم أمل بالإِنتصار على المفاسد.
والنتيجة أنّ معنى إنتظار ظهور المصلح، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر، والإِنتظار يكون له أثر نفسي كبير، فيضمن للنفوس القوّة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد، فهم ليسوا أربط جأشاً فحسب، بل بمقتضى قول الشاعر:
عندما يأزف ميعاد الوصال فلظى العشّاق في أيّ اشتعَال
إِذن فهم يسعون أكثر للوصول الى الهدف المنشود، وتنشد همتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه.
وممّا ذكرناه ـ آنفاً ـ نستنتج أن الأثر السلبي للإِنتظار إِنّما يكون في صوره ما لو مسخ مفهومه أو حُرّف عن واقعه، كما حرفه المخالفون والأعداء، ومسخه
الموافقون، غير أنّه لو أخذ بمفهومه الواقعي لكان عاملا تربويّاً مهمّاً بنّاءً محرّكاً باعثاً على الأمل والرجاء.
وممّا يؤيد هذا الكلام ما ورد عن الأئمّة الطّاهرين(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض) إِذ جاء أنّ المراد من الآية هو «القائم وأصحابه».(1)
كما جاء في حديث آخر أنّها، أي هذه الآية نزلت في المهدي(عليه السلام).
وقد عبّرت هذه الآية عن الإمام المهدي وأصحابه بـ(الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
فبناءً على ذلك فإنّ تحقّق هذه الثورة الإِصلاحية بدون إِيمان مستحكم يقضي على كل أنواع الضعف والتحلّل وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإِصلاح العالم، فإن هذا التحقّق مستبعد جدّاً.
والطالبون لهذا التحقّق عليهم أن يزدادوا إِيماناً ومعرفة، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإِصلاح ذاتهم.
وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق، لا من ركن الى الظلم والجور ... .
وليس المنتظر لتلك الحكومة الاشخاص الضعاف الهمة والجبناء الذين يخافون حتى من ظلّهم.
ولا البطّالون الساكتون عن الحق التّاركون للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيطهم الفاسد. أجل ... هذا هو الأثر الإيجابي البناء لانتظار قيام المهدي(عليه السلام)في المجتمع الأسلامي.
* * *
(1) راجع البحار الطبعة القديمة ج 13، ص 14.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاَْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَلَ النَّاسِ بِالْبَـطِلِ وَيَصَدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَيُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لاَِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك، إِذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله.
الآية الأُولى محل البحث تقول: إِنّ أُولئك مضافاً إلى كونهم غير جديرين بالأُلوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضاً، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة.
فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول: (يا أيّها الذين آمنوا إِنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله).
الطريف هنا أنّنا نواجه الأُسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أُخرى من آياته، فالآية هنا لم تقل: إِنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون، بل قالت: (إِن كثيراً) فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن، وقد أشرنا الى ذلك سابقاً.
لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» فقد أشرنا سابقاً الى ذلك في آيات أُخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضاً، وذلك:
أوّلاً::إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى(عليه السلام) في توراته وعيسى(عليه السلام)في إِنجيله، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد، «الدين الإِسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر، كما أشارت الى ذلك الآيات (41) و(79) و(174) من سورة البقرة.
والثّاني: إنّهم بأخذهم «الرّشوة» كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّاً، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء، كما أشارت الى ذلك الآية (41) من سورة المائدة.
ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى بـ «صكوك الغفران وبيع الجنّة» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس، ويبيعون الجنّة بـ «صكوك الغفران» والغفران ودخول الجنّة منحصران بإِرادة الله وأمره، وهذا الموضوع ـ أي صكوك الغفران ـ يضجُّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم.
وأمّا صدّهم عن سبيل الله فهو واضح، لأنّهم كانوا يحرفون آيات الله، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفاً لمقامهم ومنافعهم، ويحاكمونه ـ في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ
وجه، ويصدرون عليه أحكاماً جائرة قاسية جدّاً.
ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يُقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل الله، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإِسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم، فبناءً على ذلك يمكن أن يقال ـ بكل جرأة ودون تحفظ ـ أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أُولئك «الرهبان والأحبار» لأنّهم كانوا سبباً في بقائهم في الظلمات، ظلمات الكفر والضلال ... .
وما زالت الكنيسة لحدّ الاّن تبذل قصارى وسعها ـ ولا يقصر في ذلك اليهود أيضاً ـ لتغيير أفكار عامّة الناس، وإِلفاتهم عن الإِسلام، كما وجه اليهود تهماً كثيرة عجيبة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أُسلوب الكنيسة في مواجهة الإِسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالاسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر.
وتعقيباً على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء، الذين يكنزون أموالهم، فيقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
والفعل «يكنزُون» مأخوذ من مادة «الكنز» وهو المال المدفون في الأرض، وهو في الاصل جمع أجزاء الشيء، ومن هنا فقد سمّي البعير ذواللحم الكثير بأنّه «كناز اللحم» ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وإِدخاره ودفنه، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن.
فبناءً على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإِخفاء والمحافظة.
«الذهب والفضة» معدنان مشهوران، وكان النقد أو العملة سابقاً بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ.
ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولُغتيهما «كما ذكر ذلك العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان» فقال: إِنّما سمّي الذهب ذهباً لذهابه عن اليد عاجلا، وإِنّما سمّيت الفضة لإِنفضاضها أي لتفرّقها، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين ـ الذهب والفضة).
ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة ـ سلعةً بسلعة ـ رائجة بين الناس، فكان كلُّ يبيعُ ما يجده زائداً على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر، أو بضاعة أُخرى، لأنّ النقد «الدينار أو الدرهم» لم يكن آنئذ، لكن لما كانت المبادلة ـ أعني مبادلة الأجناس أو البضائع ـ تُحدث بعض المشاكل أو المصاعب، لعدم وجود ما يحتاجه البائع، دائماً فقد يكون هناك شيء آخر ـ مثلا ـ يراد تبديله، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد.
وقد كان وجود الفضة، بل الأهم منه وجود الذهب، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية، وبهما اتّخذت المعاملات رونقاً جديداً بارزاً.
فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد ـ الذهب والفضة ـ هي سرعة تحرك عَجلةِ المبادلات الإِقتصادية.
أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة، فهم لا يكونون سبباً لركود الوضع الإِقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب، بل إِنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه.
فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال، والثروة بصراحة، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق، وإِلاّ فلينتظروا «العذاب الأليم».
وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب، بل يشملهم في الدنيا ـ لإِرباكهم الحالة الإِقتصادية ولإِيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضاً.
وإِذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإِسلامي بالأمس، فنحن نستطيع أن ندركه جيداً، لأنّ الأزمات الإِقتصادية التي أُبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة «أنانية»; وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء، غير خاف على أحد أبداً.
هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية ـ محل البحث ـ فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزاً، لأنّه زائد على حاجة الإِنسان، فهو حرام وفق مفهوم الآية...
أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثّم ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة...
أو أنّه يجب على الإِنسان دفع زكاته سنوياً لا غير، فإذا دفع الإِنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟
في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيت(عليهم السلام) وروايات أهل السّنة، يلوح لنا التّفسير الثّالث، ففي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز».(1)
كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر، فقالوا: ليس لنا أن ندخر شيئاً لأبنائنا إِذاً، ثمّ سألوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِن الله لم يفرض الزكاة إلاّ ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإِنّما فرض المواريث من أموال تبقى بَعْدَكم».(2)
أي أن جمع المال لو كان ـ بشكل عام ممنوعاً ـ لما وجدنا لقانون الإِرث موضوعاً.
1 ـ المنار، ج 10، ص 404.
2 ـ المصدر السّابق.
وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي(قدس سره) ورد هذا المضمون ذاته عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز».(1)
إِلاّ أنّنا نقرأ روايات أُخرى في المصادر الإِسلامية لا ينسجم ظاهراً ـ ولأوّل وهلة ـ والتّفسير الآنف الذكر، ومنها ما ورد عن الإِمام علي(عليه السلام) في مجمع البيان أنّه قال: «ما زاد على أربعة آلاف(2) فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها، وما دونها فهي نفقة، فبشرهم بعذاب أليم».(3)
وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير، أنّه سمع عن الصادق(عليه السلام) يقول: «لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات، وما بقي فهو حلال لهم، إلاّ أنّه إِذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه، وذلك معنى قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة).(4)
ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام، كان يقرأ الآية ـ محل البحث ـ في شأن معاوية، ويقول بصوت عال صباح مساء: «بشر أهل الكنوز بكىّ في الجباه وكىّ بالجنوب وكىّ بالظهور أبداً حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم».(5)
كما يظهر من استدلال أبي ذر(رضي الله عنه) بالآية في وجه عثمان، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة، بل تشمل غيرهم أيضاً.
ويمكن الإِستنتاج من مجموع الأحاديث ـ آنفة الذكر ـ منضمةً إِليها الآية محل البحث، أنّه في الظروف الإِعتيادية المألوفة، حيثُ يرى الناس آمنين، أو غير محدق بهم الخطر، والمجتمع في حال مستقر، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا
1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 213.
2 ـ المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة.
3 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث، ونورالثقلين، ج 2، ص 213.
4 ـ نورالثقلين، ج 2، ص 213.
5 ـ نورالثقلين، ج 2، ص 214 و تفسير البرهان، ج 1، ص 122.
يعد كنزاً. وينبغي الإِلتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإِسلامية، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة، لأنّ الإِسلام وضع قيوداً وشروطاً للمال لا يتسنى للانسان معها جمع الاموال وادّخارها.
وأمّا في الحالات غيرالطبيعية وغير الإِعتيادية، وعندما يقتضي حفظُ مصالح المجتمع الإِسلامي ذلك، فإنّ الحكومة الإِسلامية، تحدّد لجمع المال مقداراً، كما مرّ في حديث الإِمام علي(عليه السلام) أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّاً، كما هو الحال في قيام المهدي، إِذ مرّت رواية الإِمام الصادق(عليه السلام) مع ذكر العلّة ... «فيستعين به (أي المال) على عدوّه».
إِلاّ أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإِسلامية، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والإِقتضاء «فلاحظوا بدقّة».
وأمّا قصّة أبي ذر(رضي الله عنه) فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته، إِذا كان المجتمع الإِسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال، وكان جمع المال وكنزه مخالفاً لمنافع المجتمع وحفظ وجوده.
ومع أن أبا ذر(رضي الله عنه) كان ناظراً الى أموال «بيت المال» التي كانت عند عثمان ومعاوية، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة، بل يجب دفعه الى أصحابه فوراً، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبداً.
على أنّ التواريخ الإِسلامية ـ سنّية وشيعية ـ مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصراً ضحماً أحيا به أساطير قصور الساسانيين، وكان لأبي ذر رضوان الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها.
من المؤاخذات على الخليفة الثّالث مسألة إبعاد أبي ذر(رضي الله عنه) المصحوب بالقسوة والخشونة الى الرّبذه، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبوذر والتي كانت غير صالحة من حيث الماء والهواء، حتى إنتهى الأمر الى موت هذا الصحابي الجليل والمجاهد المضحي في سبيل الإِسلام، وهو الذي قال فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».
ونعرف أنّ الإِختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأنّ أباذر كان يتمنى المال أو المقام، بل على العكس فقد كان أبوذر زاهداً عابداً ورعاً من جميع الوجوه، بل منشأ الخلاف وأساسه، هو أن عثمان فرّق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه وأصحابه وأنفقه بلاحساب.
وكان أبوذر(رضي الله عنه) متشدداً في الأُمور المالية، ولا سيّما ما كان منها متعلقاً ببيت مال المسلمين، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النّبي في هذا المجال، والتصرف بالمال، لكننا نعرف أنّ الأُمور أخذت طابعاً آخر في عصر الخليفة الثّالث عثمان.
وعلى كل حال، فإنّ أباذر(رضي الله عنه) لما واجه الخليفة الثّالث بشدّة، وعنّفه في إِنفاق المال، أرسله عثمان الى الشام بادىء الأمر، فواجه أبوذر معاوية هناك بصورة أشدّ نقداً وأكثر صراحة، حتى أنّ ابن عباس قال: لقد برم معاوية من كلام أبي ذر وكتب الى عثمان: إِنّه إِن كانت لك حاجة في الشام فخذ أباذر، فإنّه إِن بقي فيها فسوف يصرف أهلها عنك.
فكتب عثمان كتاباً وأحضر أباذر الى المدينة، وكما يقول بعض المؤرّخين: كتب عثمان الى معاوية، أن ابعث أباذر في جماعة من شرطتك ولا ترفّه عليه، وليجدّوا به السير ليل نهار، ولا يدعوه يستريح لحظة، حتى أن أباذر لما وصل المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هيّناً على عثمان وأتباعه، فقد
نفوه الى «الرّبذة» حتى مات(رحمه الله) فيها.
وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثّالث ويتّهم أباذر أحياناً بأنّه اشتراكي، إِذ كان يرى أنّ جميع الأموال عائدة الى الله، وكان ينكر الملكية الفردية!!
وهذا الإِتهام في منتهى الغرابة، فمع أنّ القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة ـ وفق شروط معينة ـ وكان أبوذر(رضي الله عنه) من المقرّبين الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتربّى في حضن الإِسلام والقرآن، وما أظلت الخضراء أصدق منه، فكيف يتهم أبوذر بمثل هذا الإِتهام؟!
إِنّ قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإِسلامي، وكانوا قد سمعوا الآيات التي تتعلق بالتجارة والإِرث، فكيف يمكن أن يُصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟
أليس ذلك لأنّ المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثّالث والأعجب من ذلك تبرئة معاوية وحكومته ـ إتهموا أباذرّ بمثل هذا الإِتهام، وما يزال بعض من عمي العيون صمّ الآذان يقلدون أسلافهم؟!
أجَل إِن أباذر(رضي الله عنه) ـ بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصّة آية الكنز ـ كان يعتقد ويصرّح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول الى ملكية فردية بيد الأشخاص، ويجب ألاّ يُحرم المستضعفون والمحتاجون منه، وينبغي أن ينفق في سبيل تقوية الإِسلام ومصالح المسلمين، فلايجوز تبذير الأموال، وأن بيت المال ليس ملكاً لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور الأكاسرة والقياصرة!
ثمّ إِنّ أباذر كان يعتقد يومئذ أنّه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف، ليواسوا إخوانهم الفقراء، وينفقوا أموالهم في سبيل الله.
فإِذا كان أبوذر(رحمه الله) ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلاّ أن المؤرّخين المتملقين، أو الذين يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم، غيرّوا صورة هذا الصحابي المجاهد
الناصع فجعلوه اشتراكياً!!
وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضاً هو حبّه الشديد للإِمام علي(عليه السلام)، فقد كان هذا كافياً لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية باسقاط حيثية أبي ذر، إلاّ أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإِسلامية كانت ناصعة الى درجة أنّهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم.
ومن جُملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثّالث، ما ذكره ابن سعد في «الطبقات»: إِنّ جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أباذر عندما نفاه عثمان الى الرّبذه فقالوا: إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك، فهل مستعد أن ترفع راية تقاتل بها عثمان، ونحن نقاتله تحت رايتك؟ فقال أبوذر: كلاّ، لو أرسلني عثمان من المشرق الى المغرب لكنت مطيعاً لأمره.(1)
ولم يلتفت هؤلاء الوضّاعون الى أنّه لو كان مطيعاً لأمره، لما كان عثمان يضيق ذرعاً به فيكون عليه ـ في المدينة ـ عبئاً ثقيلا لايستطيع حمله أبداً.
والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار ـ ذيل الآية محل البحث ـ مشيراً الى قصّة أبي ذر وماجرى بينه وبين عثمان، فيقول: إِن قصّة أبي ذر تدل على أن عصر الصحابة ـ ولا سيما عصر عثمان ـ كان إِظهار العقيدة فيه مألوفاً، وكان العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء، حتى أن معاوية لم يجرؤ أن يقول شيئاً لأبي ذر، بل كتب كتاباً الى من هو فوقه مرتبة ـ أي عثمان ـ وطلب منه أن يرى فيه رأيه!!
والحق أنّ التعصّب قد يصنع الاعاجيب، فهل كان ـ التبعيد والنفي الى الأرض اليابسة الحارة المحرقة «الرّبذة» أرض الموت والنّار تعبير عن احترام حرية الفكر ومحبّة العلماء !!
هل أنّ تسليم هذا الصحابي الجليل «بيد الموت» يعدّ دليلا على حرية العقيدة!!
1 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 406.
وإِذا كان معاوية لم يستطيع أن يجرؤ على قتل أبي ذر أو التآمر عليه ـ خوفاً من إِنكار عامّة الناس ـ فهل يعدّ ذلك احتراماً لأبي ذر من قبل معاوية؟!
![]() |
![]() |
![]() |