![]() |
![]() |
![]() |
وبعد هذا، فإنّ الرّوايات الكثيرة التي نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي(عليه السلام) نفسه، والصحابة ـ في هذا الباب بلغت حد التواتر، وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث:
1 ـ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إِسلاماً، علي بن أبي
(1) تفسير القرطبي، ج 5، ص 3075.
(2) ـ الغدير، ج 3، ص 238 و 237.
(3) المصدر السّابق.
طالب(عليه السلام)».(1)
2 ـ نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أخذ بيد علي(عليه السلام) وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني، وهذا الصديق الأكبر».(2)
3 ـ نقل أبو سعيد الخدري عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه وضع يده بين كتفي علي(عليه السلام) وقال: «يا علي، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أوّل المؤمنين بالله إِيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله...»(3)
وكما أشرنا سابقاً، فإنّ عشرات الرّوايات في مختلف كتب التأريخ والتّفسير والحديث قد نقلت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وآخرين في هذا الباب، ومن أراد مزيد الإطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص 220 ـ 240، وكتاب إحقاق الحق الجزء 3 ص 114 ـ 120.
وهنا التفاتة لطيفة، وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق علي(عليه السلام) في الإِيمان والإِسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي(عليه السلام)، ويدعي أنّه أول من أسلم.
فهم يقولون تارةً إنّ عليّاً(عليه السلام) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره، وهو غير بالغ طبعاً، وعلى هذا فإن إِسلامه يعني إِسلام صبي، ومثل هذا الإِسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء (هذا القول ذكره الفخرالرازي في تفسيره في ذيل الآية).
وهذا عجيب حقّاً، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،
(1) الحديث أعلاه ـ حسب نقل الغدير ـ جاء في مستدرك الحاكم، ج 2، ص 136، والإستيعاب، ج2، ص 457، وشرح ابن أبي الحديد، ج3، ص 258.
(2) في المصدر السابق إنّ هذا الحديث قد نقل عن الطبراني، والبيهقي، والميثمي في المجتمع، والحافظ الكنجي في الكفاية، والإِكمال، وكنز العمال.
(3) هذا الحديث ـ حسب نقل الغدير ـ قد نقل في كتاب حلية الأولياء، ج 1، ص 66.
لأنا نعلم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرض الإِسلام على عشيرته وقومه يوم الدار، ولم يقبله إلاّ عليّ(عليه السلام) حين قام وأعلن اسلامه، فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إسلامه، بل وخاطبه بأنّك: أخي ووصي وخليفتي.
إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث، من الشيعة والسنة، في كتب الصحاح والمسانيد، وكذلك جمع من مؤرخي الإِسلام، واستندوا عليه، يبيّن أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مضافاً إِلى قبوله إِسلام علي(عليه السلام) في ذلك السن الصغير، فإنّه عرفه للحاضرين ـ وللناس فيما بعد ـ بأنّه أخوه ووصيه وخليفته(1).
ويعبرون تارة أُخرى بأنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال أبوبكر، ومن الصبيان علي(عليه السلام)، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي(عليه السلام). (ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية المبحوثة).
إلاّ أنّ أوّلا: كما قلنا، إِنّ سن علي(عليه السلام) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه، ولا يقلل من شأنه، خاصّة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى: (وآتيناه الحكم صبياً)(2)، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى(عليه السلام) من أنّه تكلم وهو في المهد، وخاطب أُولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال: (إِني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا)(3).
إنّنا إِذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إِلى الحديث الذي نقلناه آنفاً من أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)جعل عليّاً(عليه السلام) وصيه وخليفته اتّضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلاّ عن تعصب مقيت.
(1) هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإِسكافي في كتاب (نهج العثمانية)، وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء)، وابن الأثير في (الكامل)، وآخرون. لمزيد الإِطلاع والإِستيضاح راجع الجزء الثّاني من الغدير، ص 278 ـ 286.
(2) مريم، 12.
(3) مريم، 30.
ثانياً: إِنّ من غير المسلم تاريخياً أنّ أبابكر هو ثالث من أسلم، بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أُخرى أسلمت قبله.
وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب، وهو أنّ علياً(عليه السلام) أشار مراراً وتكراراً في خطبه إِلى أنّه أوّل من أسلم، وأوّل من آمن، وأوّل من صلّى مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبيّن موقعه من الإِسلام، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.
إِضافة إِلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإِسكافي المعتزلي، أن البعض يقول: إِذا كان أبو بكر قد سبق إِلى الإِسلام، فلماذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدّع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة.(1)
لقد أشرنا سابقاً إِلى هذا الموضوع، وإِلى أنّ علماء أهل السنة يعتقدون ـ عادة ـ بأن جميع أصحاب النّبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنّة. ولمناسبة الآية لهذا البحث، والتي جعلها البعض دليلا قاطعاً على هذا المُدعى، فإنّنا هنا نحلّل ونفصل هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساساً ومنبعاً لإختلاف كثيرة أُخرى في المسائل الإِسلامية.
إِنّ كثيراً من مفسّري أهل السنة نقلوا حديثاً في ذيل هذه الآية، وهو أن حميد بن زياد قال: ذهبت إِلى محمّد بن كعب القرظي وقلت له: ما تقول في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: جميع أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنّة، محسنهم ومسيئهم ! فقلت: من أين قلت هذا؟ فقال: إقرأ هذه الآية: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار) إلى قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ثمّ قال: لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير (ففي هذه الصورة فقط هم من
(1) الغدير، ج3، ص 240.
الناجين، أمّا الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط)(1).
إلاّ أنّ هذا الإِدعاء لا يمكن قبوله، وهو مردود بأدلة كثيرة:
أوّلا: إِن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضاً، والمقصود من التابعين ـ كما أشرنا سابقاً ـ كل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم وأهدافهم وبرامجهم، وعلى هذا فإنّ كل الأُمّة بدون استثناء ناجية.
وأمّا ما ورد في حديث محمّد بن كعب، من أنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد الإحسان في التابعين، أي أتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة، لا في ذنوبهم، فهو أعجب البحوث وأغربها، لأنّ مفهوم ذلك إِضافة الفرع إِلى الأصل، فعندما يكون شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة، فاشتراط هذا الشرط على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى.
وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى يبيّن في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة، وكل التابعين لهم، لا أنّه قد رضي عن المهاجرين والأنصار، الصالح منهم والطالح، أمّا التابعون فإنّه يرضى عنهم بشرط.
ثانياً: إنّ هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه، لأنّ العقل لا يعطي أي امتياز لأصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله، وبين من آمنوا أوّلا ثمّ انحرفوا عن الدين؟
ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الاشخاص الذين جاؤوا بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسنوات وقرون، ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل ممّا عمله أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّهم عرفوه وآمنوا به؟
إنّ القرآن الذي يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) كيف يرضى هذا التبعيض والتفرقة غير المنطقية؟
(1) تفسير المنار، وتفسير الفخر الرازي في ذيل الآية أعلاه.
إنّ القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة، ويعدهم ممّن استوجب العقاب والعذاب الإِلهي، كيف يوافق ويقرّ هذه الصيانة غير المنطقية للصحابة في مقابل الجزاء الإِلهي؟!
هل إنّ مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للإِستثناء، وأن يخرج من دائرتها قوم معينون؟ لماذا ولأجل أي شي؟!
وإذا تجاوزنا عن كل ذلك، ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إِعطاء الضوء الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم؟
ثالثاً: إِنّ هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإِسلامية، لأنّ كثيراً ممّن كان في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق، وتعرض لغضب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الملازم لغضب الله عزَّوجلّ. ألم نقرأ في الآيات السابقة قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
ونقول بصورة أوضح: إِذا كان مقصود هؤلاء أنّ أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتكبوا أي معصية، وكانوا معصومين، فهذا من قبيل إنكار البديهيات.
وإن كان مقصودهم أنّ هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي، وعملوا المخالفات، إلاّ أنّ الله تعالى راض عنهم رغم ذلك، فإنّ معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية!
من يستطيع أن يبرىء ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك عائشة زوجة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من دماء سبعة عشر ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل؟ هل أنّ الله عزَّوجَلّ كان راضياً عن إِراقة هذه الدماء؟!
هل إنّ مخالفة علي(عليه السلام) خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الذي إِذا لم نقبل النّص على خلافته فرضاً، فعلى الأَقل كان قد انتخب بإجماع الأُمّة ـ وشهر السلاح بوجهه وبوجه أصحابه الأوفياء شيء يرضى الله عنه؟
في الحقيقة، إنّ أنصار نظرية (تنزيه الصحابة) بإصرارهم على هذا المطلب
والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإِيمان والعمل الصالح هو المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى أي الأحوال.
وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنواناً كلياً، وهو الهجرة والنصرة والإِيمان والعمل الصالح، وكل الصحابة والتابعين تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين، فإذا خرجوا منها خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى.
ممّا قلنا يتّضح بصورة جلية أنّ قول المفسّر العالم ـ لكنّه متعصب ـ أي صاحب المنار، الذي يشن هنا هجوماً عنيفاً وتقريعاً لاذعاً على الشيعة لعدم اعتقادهم بنزاهة الصحابة جميعاً، لا قيمة له، إذ الشيعة لا ذنب لهم إلاّ أنّهم قبلوا حكم العقل وشهادة التاريخ، وشواهد القرآن وأدلّته التي وردت في هذه المسألة، ولم يعتبروا الإِمتيازات الواهية، والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق.
* * *
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الاَْعْرابِ مُنَـفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم (101)
مرّة أُخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إِلى أعمال المنافقين وفئاتهم، فيقول: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم على المنافقين الموجودين داخل المدينة، بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الإِعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة، وتحذروهم، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة. وكلمة (أعراب) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية.
ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسماً من أهلها قد وصلوا في النفاق إِلى أقصى درجاته، وثبتوا عليه، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق).
(مردوا) مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرّد، ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه:
(أمرد)، وشجرة مرداء، أي خالية من أي ورقة، والمارد هو الشخص العاصي الذي خرج على القانون وعصاه كلية.
وقال بعض المفسّرين وأهل اللغة: إِنّ هذه المادة تأتي بمعنى (التمرين) أيضاً. (ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة). وربّما كان ذلك، لأنّ التجرد المطلق من الشيء، والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن تحققه بدون تمرين وممارسة.
على كل حال، فإنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة، وتسلطوا على أعمال النفاق إِلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين، دون أن ينتبه أحد إِلى حقيقتهم ومراوغتهم.
إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً، وربّما كان ذلك إِشارة إِلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق، وبالتالي فهم أشد خطراً، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك (لا تعلمهم نحن نعلمهم) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي.
وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء: (سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردون إِلى عذاب عظيم).
لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الإِجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الإِجتماعي، والدليل على ذلك ما
قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر، كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل وربّما طردهم من المسجد.
والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).
ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.
* * *
وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صلِحَاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)
نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية، ونواجه في أكثرها اسم (أبي لبابة الأنصاري) فهو ـ حسب رواية ـ قد امتنع مع اثنين ـ أو أكثر ـ من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من الإِشتراك في غزوة تبوك، لكنّهم لما سمعوا الآيات التي نزلت في ذم المتخلفين ندموا أشدّ الندم، فجاؤوا إِلى مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وربطوا أنفسهم بأعمدته، فلمّا رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبلغه أمرهم قالوا بأنهم أقسموا أن لا يفكوا رباطهم حتى يفكّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه يقسم أيضاً أن لا يفعل ذلك حتى يأذن له الله، فنزلت الآية، وقبل الله توبتهم، ففكّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)رباطهم.
فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك، فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالوا: إِنّ هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد، فاقبلها منّا، وأنفقها في سبيل الله، فأخبرهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لم ينزل عليه شيء في هذا. فلم تمض مدّة
حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية، وأمرت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ قسماً من أموال هؤلاء، وحسب بعض الرّوايات فإنّه قبل ثلثها.
ونقرأ في بعض الرّوايات، أن هذه الآية قد نزلت في قصّة بني قريظة مع أبي لبابة، فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلّموا لحكم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوامره، فأشار إِليهم بأنّهم إن سلّموا له فسيقتلهم جميعاً، ثمّ ندم على ما صدر، فتاب وشدّ نفسه بعمود المسجد، فنزلت الآية، وقبل الله تعالى توبته(1).
بعد أن أشارت الآية السابقة إِلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها، أشارت هذه الآية هنا إِلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم، ورجاء لمحوها: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم)ويشملهم برحمته الواسعة فـ (إنّ الله غفور رحيم).
إنّ التعبير بـ (عسى) في الآية، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه، أو تحقق الأمل وعدمه، ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.
ويحتمل أيضاً أنّ التعبير بـ (عسى) إِشارة إِلى وجوب الإِلتزام بشروط أُخرى في المستقبل، مضافاً إِلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الإِكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا.
إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا أن الآية تُختم ببيان المغفرة والرحمة الإِلهية، فإن جانب
(1) مجمع البيان في ذيل الآية، وتفاسير أُخرى.
الأمل والرجاء هو الذي يرجح.
وهناك ملاحظة واضحة أيضاً، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة، أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية، بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة، وندموا على أعمالهم السيئة.
ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم: إِنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم، لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين، ودعت التّوابين إِلى الله الغفور الرحيم.
* * *
خُذْ مِنْ أمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيِهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتَرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهـدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
في الآية الأُولى من هذه الآيات إِشارة إِلى أحد الأحكام الإِسلامية المهمّة، وهي مسألة الزكاة، حيث تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل عام أن (خذ من أموالهم صدقة).
إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل ـ دائماً ـ جزءاً من الأموال، لا أنّها تستوعب جميع الأموال، أو الجزء الأكبر منها.
ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والإِجتماعية للزكاة، حيث تقول: (تطهّرهم وتزكيهم بها) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية، ومن حبّ الدنيا
وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوىء الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الإِجتماعية والإنحطاط الخلقي والإِجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إِلى وجود طبقة محرومة، كل هذه الأُمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإِلهية وأدائها، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به، وكذلك سيفعّل التكافل الإِجتماعي، وينمو ويتطور الإِقتصاد في ظل مثل هذه البرامج.
وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أُخرى، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضاً، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ مايمكن قوله في الزكاة، فهي تزيل الشوائب من جهة، ووسيلة للتكامل من جانب آخر.
ويحتمل أيضاً في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة، وفاعل (تزكيهم) (النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم))، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إنّ الزكاة تطهرهم، وإن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يربيهم ويزكيهم.
إِلاّ أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.
ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم (وصلّ عليهم). إِنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم، حتى إِذا كان مايؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به، وترغيبهم بكل الطرق، وخاصّة المعنوية والنفسية، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عندما كانوا يأتون بالزكاة إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو لهم يقول: «اللهم صل عليهم».
ثمّ تقول الآية: (إنّ صلاتك سكن لهم) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإِلهية عليهم، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.
مضافاً إِلى ثناء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم، بحيث يشعرون بأنّهم إِن فقدوا شيئاً بحسب الظاهر، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعاً ـ على ما هو أفضل منه.
اللطيف في الأمر، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم، إلاّ أنّ هذا الحكم الذي شُرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإِسلامية يعكس عمق الجانب الإِنساني في هذه الأحكام.
وفي نهاية الآية نقرأ: (والله سميع عليم) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.
* * *
1 ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليصرفها في سبيل الله، إلاّ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) اكتفى بأخذ قسم منها فقط.
إِلاّ أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقاً ـ أن هذه الآية بيّنت حكماً كلياً عاماً في الزكاة، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي، كما قلنا ذلك مكرراً في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحياناً، وأحياناً جزء من عشرين جزءاً، وفي الذهب والفضة (5، 2%)، وفي الأنعام (البقر والغنم والإِبل) لا
يصل إِلى الثلث مطلقاً.
لكن يمكن الإِجابة على هذا السؤال بأنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ قسماً من أموالهم بعنوان الزكاة، والمقدار الإِضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم، وعلى هذا فإنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم، ومقداراً آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.
2 ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإِسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة، وإلاّ فلا.
3 ـ إِنَّ جملة (صلّ عليهم) وإن كانت خطاباً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإِسلامية تجري على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وباقي المسلمين على السواء، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة: «اللّهم صلّ عليهم».
وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي أنّ شخصاً لو قال: (اللّهمَّ صلِّ على عليّ أمير المؤمنين) أو: (صلِّ على فاطمة الزَّهراء) فإِنَّهم اعتبروا ذلك ممنوعاً وحراماً! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إِلى دليل، لا جوازه!
إِضافةً إِلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقاً ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين، فكيف بأهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه؟! لكن، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحياناً مانعة حتى من فهم آيات القرآن.
ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول توبتهم، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إِلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل بالله الغفور الرحيم، لذا قالت: (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إِنَّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأُخرى التي يعطيها العباد تقرباً إِليه، أو تكفيراً لذنوبهم: (ويأخذ الصدقات).
لا شكَّ في أنَّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإِمام المعصوم(عليه السلام) أو خليفة المسلمين وقائدهم، أو الأفراد المستحقون، وفي كلَّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهراً، ولكن لمّا كانت يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنَّهُم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية: إِنَّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون، فإنَّهُم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات، وهم في الحقيقة وكلاء الله، وعلى هذا فإنَّ يدهم يد الله أيضاً.
إِنَّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإِسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلَّ المسلمين ودعوتهم إِلى القيام بهذه الوظيفة الإِلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإِسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إِليه، لأنَّ من يأخذها هو الله عزَّوجَلّ، وإنَّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين، أو اعطائه الزكاة بشكل يؤدي إِلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلِّ أدب وخضوع، كما يوصل العبد شيئاً إِلى مولاه.
ففي رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إِلى يد السائل»(1)!
وفي حديث آخر عن الإِمام السّجاد(عليه السلام): «إِنَّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(2).
بل إِنّ رواية صرّحت بأنّ كلَّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلاّ الصدقة، فإنّها
(1) مجمع البيان، ذيل الآية.
(2) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.
تصل مباشرة إِلى يد الله سبحانه(1).
هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) بعبارات مختلفة، ونقل أيضاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق العامّة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلاّ الطيب ـ إلاّ أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(2).
إنَّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات، والعظيم المعنى، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإِنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإِسلامية.
لقد وردت عبارات حديثية أُخرى في هذا المجال، وهي مهمّة وملفتة للنظر إِلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.
فمثلا نجد في بعض الأحاديث، أن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) كانوا أحياناً يقبلون الصَّدقة احتراماً وتعظيماً للصدقة، ثمّ يعطونها الفقراء، أو إِنَّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبِّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إِليه، لماذا؟ لأنَّهم وضعوها في يدالله سبحانه!
وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإِسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة، بل ويرمون مساعدتهم أحياناً بلا أدب وخلق؟!
وكما قلنا في محلّة، فإنّ الإِسلام يسعى بكلِّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإِسلامي، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلِّ مجتمع أفراداً عاجزين أطفال،
(1) تفسير العياشي، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.
(2) تفسير المنار، ج 11، ص 33. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت(عليهم السلام) عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً. راجع: بحارالانوار، ج 96، ص 134، الطبعة الجديدة.
يتامى، مرضى ... وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.
ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: (وَإِنَّ الله هُوَ التَّوّاب الرَّحِيم).
يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه، كما هو في هذه الآيات، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.
ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنباً مالياً، أو أي ذنب آخر، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية، وذلك بالعمل الصالح، وهذا هو الذي يُرْجِع الروح إِلى طهارتها الأُولى التي كانت عليها قبل الذنب.
![]() |
![]() |
![]() |