![]() |
![]() |
![]() |
وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إِلى الإِنسان سعى لها أم لم يسع. فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضيء في بيتنا من دون سعينا، وأن المطر والهواء يصلان إِلينا دون سعي منّا؟
وهل يمكن أن ننكر أنّ العقل والفكر والإِستعداد المذخور فينا من أوّل يوم وجودنا لم يكن بسعينا؟!
ولكن هذه المواهب التي تنقلها إِلينا الريح ـ كما يقال ـ أو بتعبير أصحّ هذه المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا، إِذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا، أو أنّها ستبقى بلا أثر!
هناك كلام معروف منقول عن الإِمام علي(عليه السلام) في شأن الرزق فيقول «واعلم يا بني أن الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك»(1) وفي هذا الكلام إِشارة إِلى هذه(1) نهج البلاغة، من وصية الإِمام علي(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام).
الحقيقة.
كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعاً لشيء ظاهر وملموس، بل يصلنا على أثر سلسلة من الإِتفاقات والمصادفات، هذه الحوادث وإِن كانت في نظرنا مصادفات، إلاّ أنّها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق. ولاشك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعاً للجد والسعي، والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضاً.
ولكن على كل حال ـ فإِن النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإِسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية، وأن الفرار من العمل ـ بزعم أن الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة ـ غير صحيح! ..
4 ـ في الآيات المتقدمة ـ التي هي محل البحث ـ إِشارة إِلى «الرزق» فحسب، وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إِلى «المتاع الحسن».
وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق معدّ لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة ... الخ. وللمحسنين والمسيئين جميعاً! ... إِلاّ أن «المتاع الحسن» والمواهب الجديرة والثمينة خاصّة بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوّث بماء التوبة، ويتمتعون بنعم الله في مسير طاعته، لا في طريق الهوى والهوس!
* * *
وَهُوَ الَّذىِ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)
في هذه الآية بُحثت ثلاث نقاط أساسية:
المطلب الأوّل: يبحث عن خلق عالم الوجود ـ وخصوصاً بداية الخلق ـ الذي يدل على قدرة الله وعظمته سبحانه (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيّام ...).
ولا حاجة لبيان أنّ المقصود من كلمة «اليوم» في هذه الآية ليس هو اليوم العادي الذي هو مجموع أربع وعشرين ساعة، لأنّ الأرض والسماء لم تكونا موجودتين حينئذ .. فلا الكرة الأرضية كانت موجودة، ولا حركتها حول نفسها التي تُنتج أربعاً وعشرين ساعة .. بل المقصود منه ـ كما بينا سابقاً ـ هو الزمان،
سواء كان قصيراً أو مديداً جداً بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلا، وقد نبهنا على هذا المعنى ـ في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف ـ بشرح واف في هذا المجال، فلا حاجة للتكرار والإِعادة.
وذكرنا هُناك أن خلق العالم كان في ستة أزمنة متوالية ومتتابعة، مع أنّ الله قادر على أن يخلق العالم كلّه في لحظة واحدة، وذلك لأنّ الخلق التدريجي يعطي صورة جديدة ولوناً جديداً وشكلا بديعاً وتتبيّن قدرة الله وعظمته أكثر وأحسن.
فهو يريد أن يبيّن قدرته في آلاف الصور لا بصورة واحدة، وحكمته في آلاف الثياب لا بثوب واحد، لتتيسر معرفته وكذلك معرفة حكمته وقدرته للناس، ولنجد الدلائل ـ من خلال عدد الأيّام والسنوات والقرون والأعصار التي مرّت على العالم ـ على معرفة الله!.. ثمّ يضيف سبحانه أن عرشه كان على الماء (وكانَ عرشهُ على الماء).
ومن أجل أن نفهم تفسير هذه الجملة ينبغي أن نفهم المراد من كلمتي «العرش» و«الماء».
«فالعرش» في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسّرة الملوك والسلاطين الماضين، ويطلق أيضاً على خشب بعض الأشجار، وغير ذلك.
ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضاً ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثُلَّ عرش فلان» كنايةً عن ذهاب قدرته(1).
كما ينبغي الإِلتفات إِلى هذه الدقيقة، وهي أن العرش يطلق أحياناً على عالم الوجود، لأنّ عرش قدرة الله يستوعب جميع هذا العالم.
وأمّا «الماء» فمعناه معروف، وهو السائل المستعمل للشرب والتطهير، إِلاّ أنّه قد يطلق على كل سائل مائع كالفلزّات المائعة وما أشبه ذلك، وبضميمة ما قلناه في
(1) قد يطلق «العرش» ويراد به «الكرسي» وله مفهوم آخر وقد بيّناه في ذيل الآية (225) من سورة البقرة.
تفسير هاتين الكلمتين يستفاد أنّه في بدايه الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».
وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إِلى الخارج، وأخذ هذا الوجود المترابط بالإِنفصال. ثمّ تشكلت بعد ذلك الكواكب السيّارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.
فعلى هذا نقول: إِنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة الله كانت مستقرة بادىء الأمر على المواد المتراكمة الذائبة، وهذا الأمر هو نفسه الذي أشير إِليه في الآية (30) من سورة الأنبياء.
(أوَ لم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ...).
وفي الخُطبة الأُولى من نهج البلاغة إِشارات واضحة إِلى هذا المعنى ..
والمطلب الثّاني: الذي تشير إِليه الآية ـ آنفة الذكر ـ هو الهدف من خلق الكون، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإِنسان نفسه الذي يمثل ذورة الخلائق .. هذا الإِنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو الله تعالى
يقول الله سبحانه: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملا) أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن عملا بهذه الدار الدنيا.
«ليبلوكم» كلمة مشتقّة من مادة «البلاء» و«الإِبتلاء» ومعناها ـ كما أشرنا إِليه آنفاً ـ الإِختبار والإِمتحان..
والإِمتحانات الإِلهية ليست من قبيل معرفة النفس وكشف الحالة التي عليها الإِنسان في محتواه الداخلي وفي فكره وروحه، بل بمعنى التربية (تقدم شرح هذا الموضوع في ذيل الآية 155 من سورة البقرة) والطريف في هذه الآية أنّها تجعل
قيمة كل إِنسان بحسن عمله لا بكثرة عمله، وهذا يعني أن الإِسلام يستند دائماً إِلى الكيفية في العمل لا إِلى الكثرة والكمية فيه.
وفي هذا المجال ينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال «ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصُوَبكم عملا، وإِنّما الإِصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إِلاّ الله عزَّوجلّ»(1).
والمطلب الثّالث: الذي تشير إِليه الآية آنفة الذكر ـ هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإِنسان وتكامل الإِنسان يعني التهّيؤ إِلى الحياة في عالم أوسع وأكمل، ولذلك يقول سبحانه: (ولئن قلت أنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إِلاّ سحر مبين).
وكلمة «هذا» التي وردت ـ في الآية آنفة الذكر ـ على لسان الكفار، إِشارة إِلى كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن المعاد .. أي إِنّ ما تدّعيه أيّها النّبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة، والقول الذي لا أساس له، وبتعبير بسيط: الخدعة والسخرية !! لأنّ السَحَرة يُظهرون للناظرين بأعمالهم أُموراً لا واقع لها، ولهذا قد تطلق كلمة السحر على كل أمر عار عن الحقيقة ..
أمّا من يرى بأنّ «هذا» إِشارة إِلى القرآن المجيد، لأنّ القرآن أخّاذ وفيه جاذبية السحر فإنّه يجانب الصواب، لأنّ الآية تتكلم عن المعاد ولا تتكلم عن القرآن، وإِن كنّا لا ننكر أنّ القرآن فيه جاذبية وأنّه أخّاذ للغاية.
* * *
(1) تفسير البرهان، الجزء الثّاني، ص 207 .
ولَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة مَّعْدُودَة لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يُوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤسٌ كَفُورٌ(9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاَتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11)
في هذه الآيات ـ وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين ـ بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجبر الإِنسان إِلى هاوية الظلام والفساد.
وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإِكتراث بها
وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم ـ حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثمّ تمرّ عليهم عدّة أيّام يؤخر الله تعالى بلطفه فيها العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطن: ما السبب في تأخرّ العذاب الالهي، و أين عقاب الله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إِلى أُمّة معدودة ليقولنَّ مايحبسه).
و «الأُمّة» مشتقّة من مادة «أمّ» وهي بمعنى الوالدة، ومعناها في الأصل انضمام الأشياء بعضها إِلى بعض، ولذلك يقال لكل مجموعة على هدف معين، أو زمان أو مكان واحد «أمة».
وقد جاءت هذه الكلمة بمعنى الوقت والزمان أيضاً، لأنّ أجزاء الزمان مرتبطة بعضها ببعض، أو لأنّ المجموعة أو الجماعة تعيش في عصر وزمان معين، فنحن نقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (45) مثلا (وادّكر بعد أُمّة) ..
ففي الآية ـ محل البحث ـ كلمة «الأُمّة» جاءت بهذا المعنى، ولذلك وصفت بكلمة «معدودة» فمعنى الآية هو: إِذا أخرنا عن هؤلاء العذاب والمجازاة لمدّة قصيرة قالوا: أي شيء يمنعه؟! ..
وعلى كل حال، فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلّما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية، لذلك يتخذون التهديدات والنذر التي توقظ أصحاب الحق وتهزهم .. يتخذونها هزواً ويسخرون منها شأنهم شأن من يلعب بالنّار.
لكن القرآن يحذرهُم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم، ويبين لهم أن لا دافع لعذاب الله إِذا جاءهم (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم) وأن الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم (وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون).
أجل، ستصعد صرخاتهم إِلى السماء في ذلك الحين، ويندمون على كلماتهم المخجلة، لكن لا صرخاتهم تغنيهم وتنقذهم، ولا هذا الندم ينفعهم، ولات حين
مندم.
ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلّة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإِلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم: (ولئن أذقنا الإِنسان منّا رحمة ثمّ نزعناها منه أنّه ليؤس كفور).
وبالرغم من أنّ هذا التعبير يتناول الإِنسان بشكل عام، لكن ـ كما أشرنا إِليه سابقاً ـ المراد من الإِنسان في مثل هذه الآيات هو الافراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق، لذلك يتطابق هذا البحث مع البحث السابق عن الأفراد غير المؤمنين.
ونقطة الضعف الثّالثة عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شيء، ولذلك يشير القرآن الكريم إِلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: (ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسته ليقولن ذهب السيئات عني أنّه لفرح فخور).
وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الجملة (ليقولن ذهب السيئات عني)وهو أن مثل هؤلاء الأشخاص حين يُصابون بالشدائد ثمّ يبدل الله بلطفه هذه الشدائد نعمّا من عنده يقول هؤلاء: إِنّ الشدائد السابقة كانت كفارة عن ذنوبنا وقد غسلت جميع معاصينا، لذلك أصبحنا من المقربين إِلى الله، فلا حاجة للتوبة والعودة إِلى ساحة الله وحضرته.
ثمّ يستثني الله سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق، حيث يقول سبحانه: (إلاّ الذين صبروا وعملوا الصالحات).
هؤلاء لا يَغترّون عند وفور النعمة فينسون الله، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب فيكفرون بالله، بل إِن أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمه جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر الله واداء مسؤولياتهم
ولذلك فإِنّ لهؤلاء ثواباً ومغفرة من الله (أُولئك لهم مغفرة واجر كبير).
* * *
في روايات عديدة وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأُمّة المعدودة تعني النفر القليل، وفيها إِشارة إِلى أصحاب المهدي(عليه السلام) وأنصاره، وعلى هذا يكون معنى الآية: إِذا ما أخرنا العذاب عن الظالمين والمسيئين إِلى ظهور المهدي وأصحابه، فإِنّ أُولئك الظالمين يقولون: أي شيء يقف أمام عذاب الله فيحبسه عنّا!
ولكن كما قلنا أن ظاهر الآية من الأُمّة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين، وقد وردت رواية عن الإِمام علي(عليه السلام) في تفسير الأُمّة المعدودة تشير إِلى ما بيّناه، وهو الزمان المعين، فيمكن أن تكون الرّوايات الآنفة تشير إِلى المعنى الثّاني من الآية، وهو ما اصطلح عليه بـ «بطن الآية» وطبيعي أنّه بمثابة البيان عن القانون الكلي في شأن الظالمين، لا أنّه موضوع خاص بالمشركين الذين عاصروا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نعلم أنّ آيات القرآن تحمل معاني كثيرة مختلفة، فالمعنى الأوّل والظاهر يمكن أن يكون في مسألة خاصّة أو جماعة معينة، والمعنى الآخر يكون عاماً مجرّداً عن الزمان وغير مخصوص بفئة معينة.
رسمت الآيات المتقدمة ثلاث حالات مختلفة من حالات المشركين والمسيئين، وقد ورد في ضمنها أربعة أوصاف لهم:
الأوّل: إِنّ المشرك يؤوس عند قطع النعمة عنه، أي لا يبقى له أمل أبداً.
والآخر: إِنّه كفور، أي غير شاكر أبداً.
والثّالث: إِنّه إِذا غرق بالنعمة أو نال أقلّ نعمة، فهو ـ على العكس من الحالة السابقة ـ ينسى نفسه وينسى كل شيء ويغفل بما ناله من اللّذة والنشاط، فيغدو ثملا مغروراً وينجر إِلى الفساد والتجاوز على حدود الله.
والوصف الرّابع: إنّ حاله عند وفور النعمة حالة الفخر، أي يبلغ درجة كبيرة من التكبر.
وعلى كل حال، هذه الأوصاف الأربعة هي ظواهر من ضيق الاُفق وقلّة الإِستيعاب والرؤية .. وهي لا تختص بجماعة معينة من غير المؤمنين وملوّثي الفكر، بل هي سلسلة من الأوصاف العامّة لجميع هؤلاء ..
أمّا المؤمنون الذين يمتعون بروح كبيرة وفكر عال وصدر رحب ورؤية بعيدة المدى، فلا يهزّهم تبدل الدنيا والزمان، ولا ييأسوا لسلب النعمة عنهم، ولا يغرّهم إقبال النعمة فيكونوا من الغافلين، لذا ينبغي الدقة والملاحظة في آخر الآية التي تستثني المؤمنين، إِذ ورد التعبير فيها عن الإِيمان بالصبر والإِستقامة (إِلاّ الذين صبروا).
والمسألة الدقيقة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها، هي أنّه في الموردين (مورد سلب النعمة بعد إِسباغها ومورد إِسباغ النعمة بعد سلبها) أشير بكلمة «أذقنا» المشتقّة من «الإِذاقة» ويراد بها أن نفوس هؤلاء المشركين ضعيفة إِلى درجة أنّهم لو أعطوا نعمة قليلة ثمّ سُلبت منهم يضجرون وييأسون، كما أنّهم إِذا ذاقوا نعمة بعد شدة يفرحون ويغترّون بها.
الطريف أنّه في الآية الأُولى عبّر عن النعمة بالرحمة (ولئن أذقنا الإِنسان منَّا
رحمة) وفي الآية الثّانية ورد كلمة «النعمة» نفسها، ويمكن أن تكون إِشارة إِلى أنّ نعم الله جميعها تصل إِلى الإِنسان عن طريق التفضل والرحمة لا عن طريق الإِستحقاق، وإِذا كان الأصل أن تكون النعمة على حسب الإِستحقاق، فإِنّ جماعة قليلة ستنالها، أو أن أية جماعة لن تنالها أبداً.
في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وعدٌ بالمغفرة ـ للأفراد المؤمنين الذين يتمتعون بالإِستقامة ـ ووعد بالأجر الكبير أيضاً جزاءاً لأعمالهم الصالحة، فهي إِشارة إِلى أنّ الأعمال الصالحة لها أثران:
الأوّل: غسل الذنوب.
والثّاني: كسب الثواب العظيم والأجر الكبير.
* * *
فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ(12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَت وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ(13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(14)
وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان، ويحتمل أن تكون كليهما صحيحتين جميعاً.
الأُولى: إِنّ جماعة من رؤوساء مكّة جاؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: إِذا كنت صادقاً في دعواك بأنّك نبي فصير جبال مكّة ذهباً أو أئتنا بملائكة من السماء تصدّق نبوتك، فنزلت هذه الآيات.
والثّانية: إِنّه روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «يا علي إنّي سألت ربّي يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل،
وسألت ربّي أن يجعلك وصيي ففعل» فقال رجلان من قريش ـ من المخالفين ـ : والله لصاع تمر في شن بال أحب إلينا ممّا سئل محمّد ربّه، فهلاً سئل ربّه ملكاً يعضده على عدوه، أو كنزاً يستغني به عن فاقته؟ ....(1)فنزلت الآيات السابقة لتكون جواباً لأُولئك ..
يبدو من هذه الآيات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوكل إِبلاغ الآيات ـ نظراً للجاجة الأعداء ومخالفتهم ـ لأخر فرصة، لذا فإِنّ الله سبحانه ينهي نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إِليك وضائق به صدرك)لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء، أو مجيء الملائكة لتصديقه (أنْ يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك).
وكما يستفاد من آيات القرآن الأُخرى كما في سورة الإِسراء (الآيات 90 ـ 93) ـ إِنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النّبي ويتبعوا الحق، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتّحجج الواهي، فلذلك تأتي الآية معقبة (إِنّما أنت نذير)سواءاً قبلوا دعواك أم لم يقبلوا، وسخروا منك أم لم يسخروا، فالله هو الحافظ والناظر على كل شيء (والله على كل شيء وكيل)أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم، والله سبحانه هو الذي يعرف كيف يحاسبهم، وكيف يعاملهم.
وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النّبي كانوا أساساً منكرين لِوحي الله، ويقولون: إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل الله، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد ـ وحاشاه من ذلك ـ على الله كذباً، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة
(1) تفسير نور الثقلين، ج2، ص342، نقلاً عن روضة االكافي.
تامة: (أم يقولون افتراه).
فقلْ لهم يا رسول الله ـ إِن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من الله وأنّه من صنع الإِنسان ـ فيأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات، وليدعوا ـ سوى الله ـ ماشاؤوا (قل فأتوا بعشر سور مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إِن كنتم صادقين).
أمّا إِذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين، ولم يلبوا طلبك على الإِتيان بعشر سور مفتريات كسور القرآن، فاعلموا أن ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أن هذه الآيات نزلت من خزانة علم الله، ولو كانت من صنع بشر، فهم بشرٌ أيضاً .. فلماذا لا يقدرون على ذلك (فإِن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إِنّما أنزل بعلم الله)واعلموا أيضاً أنّه لا معبود سوى الله، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة (وأن لا إِله إِلاّ الله) فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة (فهلْ أنتم مسلمون)؟
أي بعد ما دعوناكم للإِتيان بمثل هذه السور، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك، فهل يبقى شك في أن هذه الآيات منزلة من قبل الله، ومع هذه المعجزة البينة أمّا زلتم منكرين، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقاً؟!
* * *
1 ـ من المعلوم أنّ كلمة «لعلّ» تأتي لإِظهار الرجاء لعمل شيء ما وتحققه، ولكن «لعل» هنا جاءت بمعنى النهي، وهي تماماً مثل مايريد الأب مثلا أن ينهي ولده فيقول له: لعلك ترافق فلاناً فأنت حينئذ غيرمهتم للعاقبة، فمعنى الكلام هنا: لا ترافق فلاناً لأن صحبته تضرك.
إِذاً فعلى الرغم من أن «لعل» تفيد الرجاء، إِلاّ أن المفهوم الإِلتزامي منها النهي عن عمل أيضاً.
في الآيات ـ محل البحث ـ يؤكّد الله سبحانه على النّبي ألاّ يؤخر إِبلاغه الوحي خوفاً من تكذيب المخالفين أو طلبهم معجزات مقترحة من قبلهم.
2 ـ يرد هنا سؤال هو: كيف يمكن للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤخر إبلاغه الوحي، أو لا يبلغه أساساً؟ مع أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم ولا يصدر منه الخطأ والذنب!
الجواب: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) متى ما اُمر بتبليغ حكم فوري فمن المسلّم أنّه يبلغه فوراً ودون ابطاء، ولكن يتفق ـ أحياناً أن يكون وقت التبليغ موسعاً .. والنّبي يؤخر البلاغ تبعاً لأُمور ... هذه الأُمور ليس لها جانب شخصي بحيث تعود للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، بل لها جانب عام ودفاع عن الدين، وهذا التأخير ليس ذنباً قطعاً، مثل ما ورد ـ في سورة المائدة في الآية 67 ـ من أمر الله للرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ، وأن لا يخاف من تهديدات الناس لأنّ الله سيحفظه حيث يقول عزَّوجلّ: (يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إِليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).
وعلى هذا فلم يكن تأخير البلاغ هنا ممنوعاً على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن «الإِسراع» فيه دليل على قاطعيته .. فالإِسراع بالتبليغ يُعدّ أولى من التأخير .. فالله سبحانه يريد أن يشدّ من معنوية نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ويثبت فؤاده ويجعله صلداً أمام المخالفين بحيث يبلغ «بضرس قاطع» ولا يلتفت إِلى طلبات المخالفين وحجج المستهزئين، ولا يستوحش من صخبهم وضجيجهم!
3 ـ احتمل المفسّرون في معنى «أم» التي في أوّل الآية الأُخرى (أم يقولون افتراه) احتمالين:
الأوّل: إِنّه بمعنى «أو».
والثّاني: بأنّه بمعنى «بل».
ففي الصورة الأُولى يكون المعنى على النحو التالي:
لعلك لم تتلُ آياتنا خوفاً من حجج المخالفين، أو أنّك تلوتها ولكنّهم كذبوك
وقالوا افتريتها على اللّه سبحانه.
وفي الصورة الثّانية يكون المعنى على النحو التالي:
لا تؤخر إِبلاغ آياتنا لحجج المخالفين [ثمّ يضيف سبحانه] بل هم أساساً منكرون للوحي وللنّبوة، ويزعمون أن الرّسول يكذب على الله.
وفي الحقيقة. إِنّ الله يخبر نبيّه مع هذا البيان أن ما يطلبه هؤلاء من المعاجز المقترحة فليس لطلب «الحق»، بل لأنّهم أساساً منكرون للنّبوة. وإِنّما هي حجج وتعاليل يتذرعون بها!
وعلى كل حال، فعند التأمل في الآيات آنفة الذكر ـ وخاصّة إِذا دققنا النظر في كلماتها من الناحية الأدبية ـ نجد أن المعنى الثّاني أقرب إِلى مضاد الآيات، فتأملّوا!
4 ـ لا شكّ أنّ على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُريَ معاجزه للذين يطلبون الحق لتكون سنداً لحقانية نبوته، ولا يستطيع أي نبي من الأنبياء أن يستند إِلى ادعائه فحسب. ولكن لا ريب ولا شك أن المخالفين الذين تحدثت عنهم الآيات لم يكونوا يطلبون الحقيقة ويبحثون عنها «وماكانوا يطلبونه من معاجز كانت معاجز اقتراحية على حسب ميولهم وأهوائهم ولا يقتنعون بأية معجزة أُخرى».
ومن المسلّم أنّ هؤلاء محتالون وليسوا بطلاّب حقيقة. فهل كان يجب على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون لديه كنوز عظيمة كما كان يريده منه مشركو مكّة؟! أو أن يكون معه ملك يصدق دعوته وبلاغه؟!
وبعد هذا كلّه ألم يكن القرآن نفسه أعظم وأكبر من كل معجزة .. وإِذا لم يكن أُولئك في صدد التَحَجُّج والتَّحَيُّل، فلماذا لم يذعنوا لآيات القرآن الذي كان يتحدّاهم ويقول لهم: (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إِن كنتم صادقين).
5 ـ إِنّ الآيات ـ المذكورة ـ توكّد إِعجاز القرآن مرّة أُخرى وتقول: ليس هذا
كلاماً عادياً يترشح من الفكر البشري، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم الله اللامحدود وقدرته الواسعة، وعلى هذا فإِنّه يتحدّى جميع البشر أن يواجهوه بمثله ـ مع ملاحظة أنّ المخالفين من معاصري النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعدهم إِلى يومنا هذا عجزوا عن ذلك، وفضلوا مواجهة الكثير من المشاكل على معارضة القرآن، وهكذا يتّضح أن مثل هذا العمل لم يكن من صنع البشر ولايكون، فهل المعجزة شيء غير هذا؟!
هذا نداء القرآن ما زال في أسماعنا، وهذه المعجزة الخالدة تدعو العالمين إليها وتتحدى جميع المحافل البشرية، لا من حيث الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات وجاذبيتها ووضوح المفاهيم فحسب. بل من حيث المحتوى والعلوم التي فيه والتي لم تكن موجودة في ذلك الزمان، والقوانين التي تتكفل بسعادة البشرية ونجاتها، والبيان الخالي من التناقض، والقصص التاريخية الخالية من الخرافات، وأمثالها. وقد بيّنا ذلك وشرحناه في تفسير الآيتين (23 و 24) من سورة البقرة في إِعجاز القرآن.
6 ـ نحن نعلم أنّ القرآن دعا في بعض آياته المنكرين لنبوة محمّد والمخالفين له إِلى الإِتيان بمثل القرآن، كما في سورة الإِسراء الآية (88) . وفي مكان آخر إِلى الإِتيان بعشر سور، كما هو في الآيات التي بين أيدينا ـ محل البحث ـ وفي مكان آخر دعا المخالفين إِلى سورة مثل سور القرآن، كما في سورة البقرة الآية (23).
ولهذا السبب بحث جماعة من المفسّرين هذا «السرّ» في التفاوت في التحدّي والدعوة إِلى المواجهة، فما هو؟! ولِمَ في مكان من القرآن يطلب الإِتيان بمثله. وفي مكان بعشر سور، وفي مكان يطلب الإِتيان بسورة واحدة ؟! وقد اتبعوا طرقاً مختلفة في الإِجابة على هذا السؤال.
ألف ـ يعتقد البعض أنّ هذا التفاوت من قبيل التنازل من مرحلة عُليا إِلى مرحلة أقل على سبيل المثال، أن يقول قائل لآخر: إِذا كنتَ ماهراً مثلي في فن الكتابة والشعر فاكتب كتاباً ككتابي وهات ديوان شعر كديواني، ثمّ يتنازل ويقول فهات فصلا مثل فصول كتابي، إِلى أن يتحدّاه بأن يأتي بصفحة مثل صفحاته.
ولكن هذا الجواب يكون صحيحاً في صورة ما لو كانت سور الإِسراء وهود ويونس والبقرة قد نزلت بهذا الترتيب، كما هو منقول في كتاب «تأريخ القرآن» عن الفهرست لابن النديم، لأنّه يقول إِنّ سورة الإِسراء رقمها في السور (48)، وسورة هود (49)، وسورة يونس (51)، والبقرة هي السورة التسعون النازلة على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن هذا الكلام لاينسجم مع ترتيب السور في التفاسر الإِسلامية.
ب ـ يرى البعض أن ترتيب السور الآنفة رغم عدم توافقها مع ترتيب التحدي من الأعلى الى الأدنى، ولكن نعلم أنّ جميع آيات السورة الواحدة لم تنزل مجموعة في آن واحد، فبعض الآيات كانت تتأخر في النزول مدة ثمّ يُلحقها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة الفلانية بحسب تناسبها معها، وفي محل كلامنا هذا يمكن أن يكون الأمر كذلك، وعلى هذا فإنّ تاريخ السور لا يتنافى مع التنزّل، أو التنازل من مرحلة عليا إِلى مرحلة دنيا.
ج ـ هناك احتمال آخر لحل هذا الإِشكال هو أنّ أجزاء «القرآن» أجزاء تطلق على الكل وعلى البعض منه، فنحن نقرأ في الآية الأُولى من سورة الجن (إِنّا سمعنا قرآناً عجباً) وواضح أنّهم سمعوا بعض القرآن لا أنّهم سمعوا القرآن كلّه، ولفظ القرآن في الأساس مشتق من القراءة، ومن المعلوم أنّ القراءة والتلاوة تصدق على جميع القرآن وعلى جزء منه أيضاً، فعلى هذا يكون التحدي بـ«مثل القرآن» غير مقصود به التحدي بالإِتيان بمثل جميع القرآن، وهو ينسجم بهذا المعنى مع التحدي بعشر سور منه أو حتى بسورة واحدة.
ومن جهة أُخرى فإِنّ السورة في الأصل تعني «المجموعة المحدودة»، فيكون إِطلاقها على مجموعة آيات صحيحاً وإِن لم يكن ذلك غير جار في الإِصطلاح العرفي.
وبتعبير آخر فإِنّ السورة تطلق على معنيين:
الأول: يراد به مجموعة الآيات التي تبحث عن هدف معين.
والثّاني: يراد به ما بدىء بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وينتهي قبل (بسم الله الرحمن الرحيم).
والشاهد على هذا قوله تعالى في سورة التوبة الآية (86): (وإِذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) فالواضح من هذه الآية أن المراد بالسورة من قوله: (وإذا أنزلت سورة) ليس إلاّ الآيات التي تحمل الهدف الآنف، وهو الإيمان بالله والجهاد مع الرّسول، وإن كانت الآيات بعضاً من سورة !..
أمّا «الراغب الأصبهاني» فيقول في مفرداته في تفسير أوّل سورة النّور (سورة أنزلناها) أي جملة من الأحكام والحكم. فكما نلاحظ هنا أن الراغب فسّر السورة بمجموعة من الأحكام والحكم، فلا يبقي فارق مهم بين ألفاظ «القرآن» و «عشر سور» و «سورة» من حيث المفهوم اللغوي.
![]() |
![]() |
![]() |