2 ـ يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة: (إِنّما الغيب لله)إِشارة إِلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب، وليست من اختيارات الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هي مختصة بالله تعالى.

أو أن تكون إِشارة إِلى أن مصالح الأُمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزه، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة، أنزل المعجزة، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.

إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

* * *

[329]

الآيات

وَإِذَآ أذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى أَيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ(21)هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَةِ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحُ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لهُ اُلدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(22) فَلَمَّآ أَنجَهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَآأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(23)

التّفسير

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضاً ـ حول عقائد وأعمال المشركين، ثُمَّ دعوتهم إِلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.

فالآية الأُولى تشير إِلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء، وتقول: أِنّنا عندما

[330]

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إِيقاظهم وتنبيههم، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء، فإِنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إِلى الصواب، يسخرون بها، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة، فمثلا يفسرون الإِبتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأُمور صدفة محضة: (وإِذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إِذا لهم مكر في آياتنا).

إِنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر، تشير إِلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية، وظهور أنواع البلايا والنعم.

إِلاّ أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه، وأمره أن (قل الله أسرع مكراً). وكما أشرنا مراراً، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الإِقتران بنوع من الشيطنة، وعلى هذا فإِنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(1). لكن ما هو مصداق المكر الإِلهي في هذه الآية؟

الظاهر أنّها إِشارة إِلى نفس تلك العقوبات الإِلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون، بل إِنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحياناً. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب، ستكون خططه ـ أيضاً ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإِنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه، فإِنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.

ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستُنسى، بل إِنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إِلى إِطفاء نور الحق: (إِنّ


(1) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثّاني من تفسيرنا هذا، ذيل الآية (54) من سورة آل عمران.

[331]

رسلنا يكتبون ما تمكرون) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأُخرى.

وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري، وكيف أن الإِنسان عندما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر، ينسى كل شيء إلاّ الله تبارك وتعالى ويتعلق به، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة، فإِنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.

تقول الآية: (هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إِذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنّهم أحيط بهم) في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك، و (دعوا الله مخلصين له الدين) فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء: (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين). فلا نظلم احداً ولانشرك بعبادتك غيرك.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إِلى شاطىء النجاة بدؤوا بالظلّم والجور: (فلمّا أنجاهم إِذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إِنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم (يا أيّها الناس إِنّما بغيكم على أنفسكم) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا: (متاع الحياة الدنيا(1) ثمّ إِلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون).

* * *


(1) إِنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر، وفي الأصل كانت: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

[332]

ملاحظات

وهنا يجب الإِلتفات إِلى عدّة ملاحظات:

1 ـ إِنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء، ولا يرون لهم ناصراً ولا معينا، فإِنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إِن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.

إِلاّ أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإِنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لاتنقشع عن تلك القلوب إلاّ بالطوفان.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّاً، أنّها تقيم الحجّة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا، فإِنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم. وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح، فإِنّ توجههم إِلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إِليه في الضراء، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إِليهم، وتبدو ظاهراً أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية ، فإِنّها في الواقع من الله تعالى.

وعلى كل حال، فإِنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيراً في آيات القرآن المجيد.

2 ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء»، ولم تذكر السراء، وهي إِشارة إِلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إِلى الإِنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في حين أنّ السوء والنقمات إِذا لم تكن للعبرة، فإِنّها من آثار أعمال

[333]

الإِنسان نفسه.

3 ـ إِنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب، إلاّ أنّها في الأثناء بصيغة الغائب، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما:

قال بعض المفسّرين: إِنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درساً وعبرة للآخرين، ولهذا فإِنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضوراً.

وقال البعض الآخر: إِنّ النكتة هي عدم الإِعتناء بهؤلاء وتحقيرهم، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإِنّهم في إطار المجتمع، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين، أمّا عندما تبعدهم السفينة عن الساحل، ويختفون عن الأنظار تدريجياً، فإِنّهم يعتبرون كالغائبين، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.

4 ـ إِنّ جملة (أحيط بهم) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب، إلاّ أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

* * *

[334]

الآيتان

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ممّا يأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَهَآ أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَهَا حَصِيداً كَأَن لّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأَيَتِ لِقُوْم يَتَفَكَّرُونَ(24) وَاللهُ يَدْعُواْ إِلى دَارِ السَّلَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم(25)

التّفسير

لوحة الحياة الدّنيا:

مرّت الإِشارة في الآيات السابقة إِلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا، ففي الآية الأُولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة (إِنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء).

إِنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. و بهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإِنسان، ومن بعضها

[335]

الآخر الحيوانات (فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل الناس والأنعام).

إِنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمّة للكائنات الحيّة الأُخرى، فإِنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعاً من الجمال (حتى إِذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت) في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس، وتتمايل الأغصان طرباً مع النسيم، وتُظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئاً فشيئاً وتجسم جانباً دائب الحركة من الحياة بكل معنى الكلمة، وتملأ القلوب بالأمل، والعيون بالسرور والفرح، بحيث (وظن أهلها أنّهم قادرون عليها).. في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها، سواء ببرد قارص، أو ثلوج كثيرة، أو إعصار مدمّر، ونجعلها كأنّ لم تكن شيئاً مذكوراً (أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس).

(لم تغن) مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإِقامة في مكان معين، وعلى هذا فإِنّ جملة (ولم تغن بالأمس) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقاً !.

وللتأكيد تقول الآية في النهاية: (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).

إنّ ما ذكر اعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الإنقضاء والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف، فلا دوام لثرواتها ونعيمها، ولا هي مكان أمن وسلامة. ولهذا فإِنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إِلى الحياة المقابلة لهذه الحياة، وقالت: (والله يدعو إِلى دار السلام).

فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية، ولا حرب ولا إِراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السلام.

وإِذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد،

[336]

فإِنّها ستتبدل أيضاً إِلى دار السلام، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.

ثمّ تضيف الآية: إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إِذا كان لائقاً لهذه الهداية ـ إِلى صراطه المستقيم، ذلك الصراط التي ينتهي إِلى دار السلام ومركز الأمن والأمان (ويهدي من يشاء إِلى صراط مستقيم).

* * *

ملاحظات

1 ـ لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإِنسان، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.

إِنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإِنسان ما، أو جيل ما، والذي قد يطول لمائة سنة أحياناً ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين، أمّا عندما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات، من الولادة إِلى الرشد والنمو والجمال، ثمّ الهلاك والموت، وتظهر أمام الإِنسان، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.

جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماماً: حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر، وصخب الحياة يعم كل أرجائها ... وفجأة في ليلة مظلمة، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء، وترعد وتبرق ثمّ تهب الاعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.

غداً نأتي لرؤية تلك الحديقة ... الأشجار متكسرة ... النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة، وكل شيء أمامنا ملقىً على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.

[337]

نعم، هكذا هي الحوادث في حياة البشر، خصوصاً في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لاتطور إلاّ ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة، ولا تبقي منها إِلاّ الأنقاض. واجساد متنائرة هنا وهناك.

آه ... ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية ؟!

2 ـ في جملة (فاختلط به نبات الأرض) ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الإِختلاط في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هو الجمع بين شيئين أو أكثر، سواء كانت سائلة أو جامدة. والإِختلاط أعم من الإِمتزاج، لأن الإِمتزاج يطلق عادة على السوائل، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر، سواء النباتات التي تنفع الإِنسان، أو الحيوان(1).

وتشير الجملة أعلاه ـ أيضاً ـ إِشارة ضمنية إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر، الذي هو نوع واحد وليس له إلاّ حقيقة واحدة، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الانسان والحيوان من المواد الغذائية.

* * *


(1) يتّضح ممّا قيل أعلاه أنّ الباء في (به) سببية، ولكن قد احتمل البعض أنّها بمعنى (مع)، أي إِنّ ماء ينزل من السماء ويختلط بالنباتات، وينميها وينضجها. إلاّ أنّ هذا الإِحتمال الثّاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول: (ممّا يأكل الناس والأنعام) لأنّ ظاهر هذه الجملة أنّ المقصود هو الإختلاط بين أنواع الأعشاب، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.

[338]

الآيتان

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَذِلَّةٌ أُوْلئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(26) وَالّذِينَ كَسَبُواْ السِّيِّئاَتِ جَزَآءُ سِيِّئة بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُتُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِم كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(27)

التّفسير

بيض الوجوه وسود الوجوه:

مرّت الإِشارة في الآيات السابقة إِلى عالم الآخرة ويوم القيامة، ولهذه المناسبة فإِنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)(1).

ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة، إلاّ أنّنا إِذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، رأينا أنّ المراد هو الإِشارة إِلى الثواب


(1) ينبغي التنبه إِلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة، وقد حلّت محلّ الموصوف.

[339]

المضاعف الكثير، الذي يتضاعف أحياناً عشر مرات، وأُخرى آلاف المرات حسب نسبة الإِخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل، فنقرأ في الآية (160) من سورة الأنعام. (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).

وفي الآية (127) من سورة النساء : (فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله).

وفي الآيات المرتبطة بالإِنفاق في سورة البقرة آية (261) يدور الحديث أيضاً عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إِلى سبعمائة ضعف، أو مضاعفته أضعافاً كثيرة من قبل الله سبحانه.

والنقطة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإِضافة حتى في عالم الآخرة، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفاً جديداً، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لانهاية.

والرّوايات التي وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إِلى نور الذات الإِلهية المقدسة والإِستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إِشارة إِلى هذه النكتة.

وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام)، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة، ولكن لامانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إِشارة إِلى كل هذه المواهب.

ثمّ تضيف الآية: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة). «يرهق» مأخوذة من مادة «رهق»، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول: (أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون)التعبير بالأصحاب إِشارة إِلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.

ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف

[340]

المقابل للمجموعة الأُولى، فتقول: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها)وهنا لايوجد كلام عن الزيادة، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة، أمّا في العقاب فإِنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلاّ أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم (وترهقهم ذلة)(1).

ويمكن أن يقول قائل: إِنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلاّ بقدر ذنوبهم، وأنّ اسوداد الوجه هذا، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الإِنتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإِنسان إِلى الخارج، تماماً كما نقول: إِنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإِنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.

وعلى كل حال، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم، إلاّ أن الجملة التالية تقول بصراحة: (مالهم من الله من عاصم).

إِنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إِلى الحد الذي (كأنّما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

* * *


(1) من الممكن، بقرينة الآية السابقة، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير: (يرهقهم قتر وذلة)، وبقرينة المقابلة حذفتُ (قتر) لأجل الإِختصار.

[341]

الآيات

وَيُوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ(28) فَكَفَى بِالله شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ(29) هُنالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْس مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلىَ اللهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(30)

التّفسير

مشهد من قيامة عبدة الأوثان:

تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإِلهي، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.

فتقول أوّلا: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم)(1). واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم، في


(1) إِنّ (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (24) من سورة الصافات، حيث تقول (وقفوهم إِنهم مسؤولون).

[342]

حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لاشريكة أنفسهم.

إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة لطيفة إِلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام، وهذا يشبه تماماً ما لو عيّن المشرف على التعليم معلماً أو مديراً غير صالح لمدرسة ما، صدرت ومنهما أعمال قبيحة وغير لائقة. فتقول للمشرف: تعال وانظر، هذا معلمك وهذا مديرك يرتكبان مثل هذه الاعمال، في حين أنّه ليس معلمه ولامديره، بل معلم المدرسة ومديرها الذي اختارهما.

ثمّ تضيف: أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين ـ أي العابدون والمعبودون ـ عن بعضهم البعض، ونسأل كلا منهما على انفراد، تماماً كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد، فنسأل العابدين: بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين: لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟ (فزيلنا بينهم)(1).

في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: (وقال شركاؤهم ما كنتم إِيانا تعبدون) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم، لا أنّكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمّنا ذلك فإِنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.

ثمّ، ومن أجل التأكيد الأشد، يقولون: (فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إِن كنّا عن عبادتكم لغافلين)(2).

هناك بحث بين المفسّرين في المراد من الأصنام والشركاء، أي معبودات هي؟ وكيف أنّها تتكلم بهذا الكلام؟


(1) «زيلنا» من مادة التزييل، بمعنى التفريق، قال بعض أرباب اللغة: إِن مادتها الثلاثية، زال يزيل، بمعنى الفرقة، لا أنّها من مادة: زال يزول بمعنى الزوال.

(2) (إِن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو: إِنّنا كنّا عن عبادتكم لغافلين.

[343]

فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإِنسانية والشيطانية، أو من الملائكة التي لها عقل وشعور وإِدراك، إلاّ أنّهم رغم ذلك لا يعلمون بأنّ فئة تعبدهم، أمّا لأنّهم يعبدونهم حال غيابهم، أو بعد موتهم، وعلى هذا فإِنّ تكلم هؤلاء سيكون أمراً طبيعياً جدّاً، وهذه الآية نظيرة الآية (41) من سورة سبأ، التي تقول: (ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إِيّاكم كانوا يعبدون).

والإِحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسّرين، هو أن الله سبحانه يبعث الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إِعادة الحقائق وذكرها، والجملة أعلاه للاصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة، وأنّهم كانوا غافلين عن عبادة من يعبدهم، وبذلك تكون أكثر تناسباً مع هذا المعنى، لأنّ الأصنام الحجرية والخشبية لا تفهم شيئاً أصلا.

ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات، غاية ما في الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها، أمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإِنّ الكلام عن لسان حالها، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل، تماماً كما نقول: إِنّ سيماءك تخبر عن سرك، والقرآن الكريم يبيّن أيضاً في الآية (21) من من سورة فصلت أن جلود الإِنسان ستنطق يوم القيامة، وكذلك في سورة الزلزلة يبيّن أنّ الأرض التي كان يسكنها الإِنسان ستذكر الحقائق.

إِنّ هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر، فإِذا كان شريط أصم يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضاً واقع أعمال عابديها!.

على كل حال، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال ـ كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث ـ فإِنّ كل إِنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقاً ويرى نتيجتها، بل نفس أعماله، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا

[344]

يدعون الناس إِلى عبادتهم، وسواء المشركون والمؤمنون، من أي قوم ومن أي قبيل: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إِلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لايتم إلاّ بأمره (وردوا إِلى الله مولاهم الحق).

وأخيراً فإِنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذباً ستفنى وتمحى: (وضل عنهم ماكانوا يفترون)فإِنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى آية حقيقة إلاّ وتُظهر نفسها. ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إِلى سؤال أو جدال وبحث، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء، ولا حاجة للمقال.

* * *

[345]

الآيات

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَ الأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّيتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الاْمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَتَتَّقُونَ(31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32)كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ  لاَ يُؤْمِنُونَ(33)

التّفسير

الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته للعبادة، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع.

ففي البداية تقول: قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟ (قل من يرزقكم من السماء والأرض).

«الرزق» يعني العطاء والبذل المستمر، ولما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه، فإِنّ «الرازق» و «الرزّاق» بمعناهما الحقيقي لايستعملان

[346]

إلاّ فيه فقط، وإِذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز، كالآية (233) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

وينبغي ـ أيضاً ـ أن نذكّر بهذه النقطة، وهي أنّ أكثر أرزاق الإنسان من السماء، فالمطر المحيي للنبات من السماء، الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في فضاء الأرض، والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لايبقي بدونها أي كائن حي، ولاتنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنّها تأتي من السماء، وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنّها حية بنور الشمس، لأنا نعلم أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدّاً تنمو في طيات الأمواج على سطح المحيط مقابل أشعة الشمس، والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذي على لحوم الحيوانات البحرية الأُخرى التي تتغذى على تلك النباتات .

والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية، وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلا عن أرزاق السماء، ثمّ عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية .

ثمّ تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان، واللتان لايمكن كسب العلم وتحصيله بدونهما، فقالت: (أمن يملك السمع والأبصار). وفي الواقع فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلا، ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.

إن كلمة (سَمع) مفردة، وهي بمعنى الأذن، و«الأبصار» وجمع بصر بمعنى العين، وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد، وأمّا البصر فإنّها جاءت تارة بصيغة المفرد، وتارةً اُخرى بصيغة الجمع جواب هذا السؤال مذكور في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية (7) من سوره البقرة .

ثمّ تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم

[347]

الخلقة، فتقول: (ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعية وعلماء الاحياء، وهو كيف أتى الموجود الحي إِلى الوجود من موجود ميت؟ فهل إِنّ مثل هذه المسألة ـ التي لم تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إِلى الآن في كشف أسرارها ـ أمراً بسيطاً ومرتبطاً بالصدفة وبدون برنامج وهدف؟ لا شك أنّ من وراء ظاهرة الحياة المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي.

إِنّه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب، بل إِنّه قرر عدم خلود الحياة، ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل.

ويحتمل ـ أيضاً ـ في تفسير هذه الآية أنّها تشمل الموت والحياة المعنويين إِضافة إِلى الموت والحياة الماديين، لأنّنا نرى أناساً عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحياناً من أبوين ملوثين منحرفين لا إِيمان لهما، ويلاحظ أيضاً عكس ذلك حيث يأتي إِلى الوجود إِناساً تافهون لاقيمة لهم من أبوين فاضلين(1). خلافاً لقانون الوراثة.

طبعاً، لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إِلى كلا القسمين، لأنّ كليهما من عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم، وهما موضحان لهذه الحقيقة، وهي أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأُمور إِضافةً إِلى الأُمور الطبيعية.

وقد أعطينا توضيحات أُخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل الآية (95) من سورة الأنعام.

ثمّ تضيف الآية: (ومن يدبر الأمر)، والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب، ثمّ عن حافظها وحارسها ومدبرها. وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة


(1) لقد جاء هذا المضمون في روايات متعددة في الجزء الأوّل ص 543 من تفسير البرهان في ذيل الآية (59)من سورة الأنعام.

[348]

الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة: (فسيقولون الله).