![]() |
![]() |
![]() |
فتقول أوّلا: إِنّنا جاوزنا ببني إِسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء: (وجاوزنا ببني إِسرائيل البحر) إلاّ أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إِسرائيل: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً).
«البغي» يعني الظلم، «والعدو» بمعنى التعدي، أي إِنّ هؤلاء إِنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم، أي على بني إِسرائيل.
جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إِسرائيل طوعاً، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى، إلاّ أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.
أمّا كيفية عبور بني إِسرائيل للبحر، وأي إِعجاز وقع في ذلك الحين، فإِنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء، إِن شاء الله تعالى.
على كل حال، فإِنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإِيمان: (حتى إِذ أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنوا إِسرائيل) فلست مؤمناً بقلبي فقط، بل إِنّي من المسلمين عملياً: (وأنّا من المسلمين).
ولما تحققت تنبؤات موسى(عليه السلام) الواحدة تلو الأُخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إِلى إِظهار الإِيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إِسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل!
إِلاّ أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإِيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت، إِيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله، ولهذا فإِنّ الله سبحانه خاطبه
فقال: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).
وقد قرأنا سابقاً في الآية (18) من سورة النساء: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إِلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضاً في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم، مثل:
أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
لكن (فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.
هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث أنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.
اللطيف هنا، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلىء الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!
إِلاّ أنّ البعض الآخر قالوا: إِنّ أحد معاني البدن هو الدرع، وهذا إِشارة إِلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.
هذه النقطة أيضاً تستحق الإِنتباه، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.
والنقطة الأُخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة: (فاليوم ننجّيك) قد بدأت بفاء التفريع، ومن الممكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى أن إِيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح، حتى لايكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!
ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينهاحيث حفظوه فيما بعد بالمومياء، أم لا؟
لايمكننا اثبات ذلك، إلاّ أنّ تعبير (لمن خلفك) يقوي هذا الإِحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الاجيال في المستقبل (فتدبر جيداً).
ويقول في نهاية الآية: إِنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإِنّ الكثير معرضون عنها (وإِنّ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون).
وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إِسرائيل، والرجوع إِلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة، فتقول: (ولقد بوأنا بني إِسرائيل مبوأ صدق).
إِنّ التعبير بـ (مبوأ صدق) يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إِسرائيل وأرجعهم إِلى الوطن الموعود، أو أنّ (مبوّأ صدق) إِشارة إِلى طهارة وقدسية هذه الأرض، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.
وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (25) ـ (28) : (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناهما قوماً آخرين).
وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) ـ (59) من سورة الشعراء، ونقرأ في آخرها: (وأورثناها بني إِسرائيل).
من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إِلى الشام، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: (ورزقناهم من الطيبات) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلاّ أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فما أختلفوا حتى جاءهم العلم) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى، وأدلة صدق دعوته، إلاّ (أن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وإِذا لم يتذوقوا طعم عقاب الإِختلاف اليوم، فسيذوقونه غداً.
وقد احتمل ـ أيضاً ـ في تفسير هذه الآية، أن يكن المراد من الإِختلاف هو الإِختلاف بين بني إِسرائيل واليهود المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول دعوته، أي إِنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية، فإِنّهم اختلفوا، فآمن بعضهم، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته، وإِنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.
إِلاّ أنّ الإِحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.
كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إِسرائيل المليء بالعبر، والذي بُيّن ضمن آيات في هذه السورة، وما أشبه حال أُولئك بمسلمي اليوم، فإِنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إِعجازية، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أُولئك المتجبرين، إلاّ أنّهم وللأسف الشديد، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإِسلام في جميع أرجاء العالم، فإِنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإِيجاد النفاق والإِختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللّهم نجّنا من كفران النعمة هذا.
* * *
فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(94) وَلاَتَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الْخَسِرِينَ(95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمَ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ(96) وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَة حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(97)
لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأُمم السابقة، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في صحة ذلك، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال، وليسألوهم عن ذلك، لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.
إِلاّ أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء، خاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (فإِن كنت في شك ممّا أنزلنا إِليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين).
ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تطرح بحثاً جديداً ومستقلا في صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعلم المخالفين أنّهم إِن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإِنجيل.
ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير(1) يؤيد هذا المعنى، وهو أن جمعاً من كفار قريش كانوا يقولون: إِنّ هذا القرآن لم ينزل من الله، بل إِنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد، فأجابهم بهذه الآية.
يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان شاكّاً في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه، وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه.
ولكن واقع الأمر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة ـ كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى ـ ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد. إِضافةً إِلى أنّ هذا الاُسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف، وهذا هو المراد من المثل المعروف: إِيّاك أعني واسمعي يا جارة، وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.
إِضافةً إِلى أن ذكر الجملة الشرطية لايدل دائماً على احتمال وجود الشرط، بل هو للتأكيد على مسأله ما أحياناً، أو لبيان قانون كلي عام، فنقرأ مثلا في الآية (23) من سورة الإِسراء: (وقضى ربّك أن لاتعبدوا إلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف) وينبغي الإِنتباه إِلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهراً، إلاّ أنّه لما كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أباه قبل ولادته وأُمّه في
(1) تفسير أبي الفتوح الرازي، الجزء 6، ص 227 ذيل الآية.
طفولته، فإِنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طُرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهراً هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وكذلك نقرأ في سورة الطلاق: (يا أيّهاالنّبي إِذا طلقتم النساء) وهذا التعبير لايدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته، بل هو بيان قانون عام، والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي، وفي نهايتها كل الناس.
ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.
ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح، عندما يسأله الله يوم القيامة: (ءأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله)؟ فإِنّه ينكر هذه المسألة بصراحة، ويضيف: (إِن كنت قلته فقد علمته) سورة المائدة من الآية (116).
ثمّ تضيف الآية التّالية: (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.
إِنّ الآية السابقة تقول بأنّك إِن كنت في شك فاسأل أُولئك المطلعين العالمين، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك، وإِلاّ فإِنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلاّ الخسران.
إِنّ هذه الآية قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيه السابقة هم عموم الناس بالرغم من أن الخطاب موجه إِلى شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ من البديهي أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يكذب الآيات الإِلهية مطلقاً، بل كان المدافع المستميت الصلب عن دينه.
ثمّ أنّها تخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إِيمانهم، فإِنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية، وتوغلوا في طريق الباطل إِلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإِنساني الحي تماماً، وتحولوا إِلى
موجودات لايمكن اختراقها، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التبعير: (إِنّ الذين حقت عليهم كلمة ربّك لايؤمنون).
وحتى إِذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإِنّهم لايؤمنون: (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ولا أثر لإِيمانهم في ذلك الوقت.
إِنّ الآيات الأُولى من الآيات مورد البحث تدعو عامّة الناس إِلى المطالعة والتحقيق والسؤال من أهل العلم، ثمّ طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه بعد أن اتّضح لهم. إلاّ أنّ الآيات الأخيرة تقول: لا تتوقّع أن يؤمن كل هؤلاء، لأنّ البعض قد فسد قلبه بحيث لايمكن إِصلاحه، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم، بل توجه إِلى الأكثرية من الناس ممّن لهم أهلية الهداية.
وكما كررنا مراراً، فإِنّ التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على الجبر أبداً، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإِنسان، لكن لما كان أثر كل شيء بأمر الله، فإِنّ هذه الأُمور تنسب إِلى الله أحياناً.
ويبدو أنّ ذكر هذه النقطة مهم أيضاً، وهي أنّنا قرأنا في بعض الآيات السابقة في شأن فرعون أنّه قد أظهر الإِيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان، إِلاّ أن مثل هذا الإِيمان لما كان يتصف بالإِضطرار لم ينفعه. إلاّ أنّ هذه الآيات تقول إِنّ هذا لم يكن أُسلوب وطريق فرعون وحده، بل هو طريق كل العنودين الأنانيين المستكبرين المُسْوَدّه قلوبهم الذين وصلوا إِلى قمة الطغيان ولديهم نفس هذه الحالة، فإِنّ هؤلاء أيضاً لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ذلك الإِيمان العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.
* * *
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيَمانُهَآ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَـمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين(98)
تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة، والأقوام السابقة بصورة عامّة، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإِيمان بالله في وقت الإِختيار والسلامة، إلاّ أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإِلهي أظهروا الإِيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك.
وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إِيمانها). ثمّ استثنت قوم يونس فقالت: (إِلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إِلى حين)أي إِلى آخر عمرهم.
إِنّ كلمة «لولا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين، ولذلك تمّ الإِستثناء منها بواسطة «إِلاّ» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة: لم يؤمن أي من الأقوام والأُمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله
بصورة جماعية إلاّ قوم يونس.
إِلاّ أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لولا» لم تأت بمعنى النفي، بل أتت دائماً بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلاّ أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفياً، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ«إِلاّ».
وعلى كل حال، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضاً، إِلاّ أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإِلهي الحتمي، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأُخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإِلهي بالعذاب الحتمي، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإِيمان، إلاّ أنّ إِيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقاً ـ لم يكن له أثر ولا نفع.
كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنّه عندما يئس يونس من إِيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم، وأن يستمر في إِرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.
يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد، إلاّ أنّ علاماته قد شرعت في الظهور، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء، وأظهروا الإِيمان والتوبة، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأُمهات والأولاد، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.
إِلاّ أنّ هذه التوبة والإِيمان والرجوع إِلى الله، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن
وعي مقترن بالإِخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إِلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.
وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 ـ 148) من سورة الصافات، إِن شاء الله تعالى.
والجدير بالذكر، إِنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإِلهي، الحتمي، وإِلاّ لم تقبل توبتهم، بل كانت تأتيهم الإِنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي، وقد كان مقدارها كافياً للتوعية، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإِنذارات مراراً ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلاّ أنّهم لم يعبؤوا بها مطلقاً ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الإِبتلاءات ليؤمنوا، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقاً.
ثمّ إِنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأُمّة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإِسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإِحساس بالمسؤولية.
* * *
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لاََمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(99) وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ(100)
لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإِيمان الإِضطراري لا يجدي نفعاً أبداً، ولهذا فإِنّ الآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إِيمان جماعة من هؤلاء، فإِنّ من مستلزمات أصل حرية الإِرادة والإِختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون، وإِذا كان الأمر كذلك (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟
إِنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أُخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإِسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إِنّ الإِسلام دين السيف، وقد فرض بالقوّة والإِجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأُخرى ـ بأنّ الإِيمان الإِجباري لا قيمة له، والدين والإِيمان شيء ينبع عادة من أعماق
الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصّة وأنّها حذرت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من إِكراه وإِجبار الناس على الإِيمان والإِسلام.
الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ البشر وإِن كانوا أحراراً في اختيارهم، إلاّ أنّه (وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإِذن الله) ولهذا فإِنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل، ولم يكونوا مستعدين للإِستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم، وسوف لا يوفقون للإِيمان وهم على هذا الحال، إِذ (ويجعل الرجس على الذين لايعقلون).
* * *
1 ـ من الممكن أن يُتصور في البداية أنّ هناك تنافياً وتضاداً بين الآية الأُولى والثّانية، إِذ أنّ الآية الأُولى تقول: إِنّ الله لا يجبر أحداً على الإِيمان، في حين أن الآية الثّانية تقول: إِنّ أحداً لايمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!
إِلاّ أنّ التنبه إِلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري، وهي أنّنا نعتقد بأنّ الجبر غير صحيح، كما أنّ التفويض غير صحيح أيضاً، أي أن الناس ليسوا مجبورين تماماً على أعمالهم، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون مايشاؤون، بل إِنّهم في الوقت الذي يكونون فيه أحراراً في الإِرادة، فإِنّهم في حاجة للمعونة الالهية، لأنّ الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإِرادة، فالعقل والوجدان الطاهر هما من مواهبه وعطاياه، وإِرشاد الأنبياء وهدايه الكتب السماوية من جانبه أيضاً، وبناء على هذا ففي عين حرية الإِرادة والإِختيار، فإِنّ منبع هذه الهبة وما ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.
2 ـ إِنّ آخر جملة من الآية الأخيرة، أي (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) لاينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقاً، لأنّ جملة (لا يعقلون)دليل على
اختيار هؤلاء، أي أنّ هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أوّلا. فابتلوا في النهاية بهذا العقاب، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على الإِيمان، إلاّ أنّه ينبغي الإِنتباه إِلى أنّ مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم، وفي مثل هذه الأحوال فإنّ الله تعالى لايأذن في إِيمان هؤلاء.
وبتعبير آخر، فإِنّ هذه الجملة تشير إِلى أنّ إِذن الله وأمره ليس أمراً اعتباطياً غير مدروس ومحسوب، بل إِنّه يشمل أُولئك الذين لهم أهلية الإِيمان، أمّا غير اللائقين فإِنّهم سيحرمون منه.
* * *
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الأَيَتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْم لاَّيُؤْمِنُونَ(101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(102) ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ حَقَّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ(103)
كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإِيمان يجب أن يكون اختيارياً لا بالجبر والاكراه، ولهذا فإِن الآية الأُولى هنا ترشد الناس إِلى الإِيمان الإِختياري، وتخاطب النّبي فتقول: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)؟
إِن كل هذه النجوم اللامعة والكواكب السماوية المختلفة التي يدور كل منها في مداره، وهذه المنظومات الكبيرة والمجرات العملاقة، وهذا النظام الدقيق الحاكم على كل تلك الكواكب، وكذلك هذه الكرة الأرضية بكل عجائبها واسرارها، وكل هذه الكائنات الحية المتنوعة المختلفة .. تدل بالتمعن في دقائق صنعها والتدبّر في
نظامها على المبدأ الأزلي للعالم. وستتعرفون أكثر على خالق هذه الكائنات.
إِنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإِرادة، فهي تقول: إِنّ الإِيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة، أي إِنّ هذا الأمر في اختياركم.
ثمّ تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالّة على الحق، فلا داعي للعجب من عدم إِيمان البعض، لأنّ الآيات والدلالات والإِنذارات تنفع الذين لهم الإِستعداد لتقبل الحق، أمّا هؤلاء فإِنّه (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون)(1).
إِنّ هذه الجملة إِشارة إِلى الحقيقة التي قرأناها مراراً في القرآن، وهي أن الدلائل وكلمات الحق والمواعظ لاتكفي لوحدها، بل إِنّ الأرضية المستعدة شرط أيضاً في حصول النتيجة.
ثمّ تقول ـ بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والإِستفهام ـ : هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلاّ أن يروا مصيراً كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإِلهي. مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟! (فهل ينتظرون إلاّ مثل أيّام الذين خلوا من قبلهم).
وتحذرهم الآية أخيراً فتقول: يا أيّها النّبي (قل فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين) فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه، مصير المتكبرين الماضين.
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الإِستفهام في جملة (فهل ينتظرون) استفهام إِنكاري، أي إِنّ هؤلاء بطبيعة سلوكهم هذا لايمكن أن ينتظروا إلاّ حلول مصير مشؤوم
(1) نذر جمع نذير، أي المنذر، وهو كنايه عن الأنبياء والقادة الإِلهيين، أو هي جمع إِنذار، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإِلهيين.
وقد اعتبر البعض (ما) جملة (ما تغني الآيات) نافية، والبعض جعلها بمعنى الإِستفهام الإِنكاري، وهي واحدة من حيث النتيجة، إلاّ أنّ الظاهر أن (ما) نافية.مظلم.
كلمة (أيّام) وإِن كانت في اللغة جمع يوم، إلاّ أنّها هنا تعني الحوادث المهلكة التي وقعت للأقوام والاُمم السالفة.
ومن أجل أن لايتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح، تضيف الآية: إِننا إِذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين: (ثمّ ننجي رسلنا والذين آمنوا).
ثمّ تقول في النهاية: إِنّ هذا ليس مختصاً بالأُمم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين، بل (كذلك حقّاً علينا ننج المؤمنين)(1).
* * *
(1) إِنّ جملة (كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) كانت بهذا المعنى: كذلك ننج المؤمنين وكان ذلك حقّاً علينا، أي إِنّ جملة (حقاً علينا) جملة معترضة بين (كذلك) و(ننج المؤمنين). ويحتمل أيضاً أن تكون (كذلك) متعلقة بالجملة السابقة، أي جملة (ننجي رسلنا والذين آمنوا).
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِى يَتَوَفَّكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ حَنِيفاً وَلاَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهُ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّلِمِينَ (106)وإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَير فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)
هذه الآيات والآيات التي تليها، هي آخر آيات هذه السورة، وتتحدث جميعاً حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إِلى الحق، وهي في الحقيقة فهرست أوخلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت
مراراً في هذه السورة.
إِنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحياناً أن من الممكن أن يلين النّبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئياً إِلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الانحاء.
إِلاّ أنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم احلامهم هذه إِلى الأبد، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام، ولا معبود إلاّ الله، لاتزيد كلمة ولا تنقص أُخرى.
ففي البداية يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب جميع الناس: (قل يا أيّها الناس إِن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة أُولئك، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم). ومن أجل تأكيد أكبر تضيف: أنّ هذه ليست إِرادتي فقط، بل (وأمرت أن أكون من المؤمنين).
إِنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله، أمّا لأنّ الإِنسان إِذا كان يشك في كل شيء فإِنّه لا يستطيع أن يشك في الموت، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إِلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إِليها في الآيات السابقة، ولوحت بالتهديد بالغضب الإِلهي.
وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة، تطرقت إِلى بيان دليل ذلك، دليل من الفطرة. ودليل من العقل:
(وأن أقم وجهك للدين حنيفاً) وهنا أيضاً لم يكتف بجانب الإِثبات، بل نفي الطرف المقابل لتأكيد الامر، فقالت الآية: (ولا تكونن من المشركين).
«الحنيف» ـ كما قلنا سابقاً ـ تعني: الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الإِنحراف إِلى جادة الصواب والإِستقامة، وبتعبير آخر: يغض الطرف عن المذاهب والأفكار المنحرفة، ويتوجه إِلى دين الله المستقيم، ذلك الدين الموافق
للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة. وبناء على هذا فإِنّ هذا التعبير يستبطن الإِشارة إِلى كون التوحيد فطرياً في الأعماق، لأنّ الإِنحراف شيء خلاف الفطرة، (فتدبّر).
وبعد الإِشارة إِلى بطلان الشريك بالدليل الفطري، تشير إلى دليل عقلي واضح، فتقول: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإِن فعلت فإِنّك إِذاً من الظالمين) إِذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.
أي عقل يسمح أن يتوجه الإِنسان لعبادة أشياء وموجودات لاتضر ولا تنفع أبداً، ولايمكن أن يكون لها أدنى أثر في مصير الإِنسان؟
وهنا أيضاً لم تكتف الآية بجانب النفي، بل إِنّها توكّد إِضافةً إِلى النفي على جانب الإِثبات فتقول: (وإن يمسسك الله يضرّ فلا كاشف له إلاّ هو)، وكذلك (وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده) لأنّ عفوه ورحمته وسعت كل شيء (وهو الغفور الرحيم).
* * *
![]() |
![]() |
![]() |