ومن عجائب هذه القصّة ـ أيضاً ـ أن المدافعين عن الخليفة الثّالث يقولون: إِن تبعيد أبي ذر كان بحكم قانون [تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؟] لأنّه وإِن كان لوجود أبي ذر في المدينة مصلحة كبيرة، وكان الناس يستفيدون من علمه، إِلاّ أنّ عثمان كان يرى أن بقاءه في المدينة يجر المفسدة ـ لطريقة تفكيره ـ ويحدث انعطافاً شديداً لا يمكن تحمله، فلأجل ذلك أغضى عثمان عن المصلحة في وجوده وأخرجه الى الرّبذة دفعاً للمفسدة ولما كان كل من أبي ذر وعثمان مجتهداً، فلا يمكن توجيه النقد أو الإِشكال أو أي شيء آخر إِليه.(1)

ونحن بدورنا نتساءل: آية مفسدة كانت تترتب على وجود أبي ذر في المدينة؟!

ترى هل في إِعادة الناس الى سنة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مفسدة؟!

ولم لا يشكل أبوذر(رضي الله عنه) على الخليفة الأوّل ولا الثّاني اللذين لم يفعلا ما فعله عثمان في أموال المسلمين «وبيت المال»؟!

وهل في إعادة الناس الى المناهج المالية التي كانت في صدر الإِسلام مفسدة؟!

وهل في نفي أبي ذر وقطع لسان الحق مصلحة؟!

ألم تؤد أعمال عثمان واستمراره بإتفاق بيت المال الى أن أصبح ضحية لكل ذلك؟!

ألم يكن ذلك مفسدة وتركه مصلحة؟!

ولكن ما عسى أن نفعل، فإِذا دخل التعصب من باب فرّ المنطق من باب آخر!!

وعلى كل حال، فإنّ سيرة هذا الصحابي الجليل لا تخفى على أي محقق


1 ـ راجع المنار، ج 10، ص 407.

[42]

منصف، ولا مجال لتبرئة الخليفة الثّالث ممّا نال من أبي ذر من الأذى أبداً، والمنطق الحق يدين أعمال عثمان.

جزاء من يكنز!

في الآية التّالية إشارة الى واحد ممّا يحيق بمثل هؤلاء ممّن يكنز المال في العالم الآخر، إِذ تقول الآية: (يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم).

ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذه الحال: (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).

وهذه الآية توكّد مرّة أُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ أعمال الإِنسان لا تمضي سدى، بل تبقى وتتجسّد له يوم القيامة، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه.

وهناك كلام بين المفسّرين في سبب ذكر الجباه والظهور والجنوب وحدها من بين سائر أعضاء الجسم.

غير أنّه روي عن أبي ذرّ(رضي الله عنه) أنّه كان يقول: «حتى يتردد الحرّ في أجوافهم» أي أن الحرارة المحرقة التي تمس هذه الأعضاء الثلاثة تنفذ الى سائر الجسم وتستوعبه كلّه.

كما قيل: إِنّ الوجه في ذكر هذه الإعضاء الثلاثة دون غيرها، هو أنّ أصحاب المال حين كان يأتيهم المحروم أو الفقير، كان ردّ فعلهم يظهر على جباههم أحياناً، فيظهرون عدم الإِعتناء بهم، وتارةً ينحرفون عنهم، وتارةً يديرون ظهورهم لهم، فهذه الأعضاء الثلاثة تكوى في نار جهنم، بما حُمي عليه من الذهب أو الفضة وما كنزوه دون أن ينفقوه في سبيل الله.

ومن نافلة القول أن نشير الى لطيفة بلاغية، في الآية محل البحث وهي التعبير بـ«يوم يحمى عليها» أي يُحمى على الذهب والفضة، والتعبير المطّرد أن يقال: يوم

[43]

تحمى الفضة أو يُحمى الذهب، لا أنّه يحمى عليه، كما يقال مثلا: يحمى الحديد في النّار.

ولعل هذا العبير يشير الى إِحراق الذهب والفضة الى درجة قصوى بحيث توضع النّار عليها. إِذ أن جعل الفضة والذهب على النّار لا يكفي لأن تكون محرقة «للغاية».

فالقرآن لا يقول: يوم تحمى في نار جهنم، بل يقول: يحمى عليها، أي توضع النّار عليها لتكون في اسفل النّار كيما تشتد حرارتها وهذا التعبير الحيّ يجسّد شدة عذاب أولي الثروة الذين يكنزونها في يوم القيامة.

* * *

[44]

الآيتان

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَاعَشَرَ شَهْراً فِى كِتَـبِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَـتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36) إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَـلِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـفِرِينَ(37)

التّفسير

وقف القتال «الإِجباري»:

لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان ـ محل البحث ـ تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإِسلام، وهو احترام الأشهر الحُرم.

فتقول الأُولى: (إِنّ عدّة الشهور عندالله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق

[45]

السماوات والأرض).

والتعبير بـ «كتاب الله» يمكن أن يكون إِشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية، إلاّ أنّه بملاحظة جملة (يوم خلق السماوات والأرض) يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.

وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.

وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعاً نظاماً طبيعياً، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).

ثمّ تضيف الآية ـ آنفة الذكر ـ معقبّةً: (منها أربعة حرم).

يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد «إِبراهيم الخليل(عليه السلام)»، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلاّ أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحياناً تبعاً لميولهم وأهوائهم، إلاّ أنّ الإِسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السَرد وهي: ذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم. وشهر منها منفصل عنها، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.

وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إِنّما يكون نافذ المفعول إِذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم يُنتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدوّ «وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة».

ثمّ تضيف الآية مؤكّدة: (ذلك الدين القيّم).

[46]

ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إِضافة الى شريعة إِبراهيم الخليل(عليه السلام). ولعلّ التعبير بـ(ذلك الدين القيم) إِشارة الى هذه اللّطيفة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت:

ثمّ تقول الآية: (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم).

إِلاّ أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلاّ أنّهم يقاتلونكم في صف واحد، «كافة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلابدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.

وتختتم الآية بالقول: (واعلموا أنّ الله مع المتقين).

وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ إشارة الى إِحدى السُنن الخاطئة في الجاهلية، وهي سنة النسيء «تغيير الأشهر الحرم» إِذ تقول الآية: (إِنّما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا) ففي أحد الاعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة (يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله)!

فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر، ويتلاعبون بحكم الله بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم، وفعلهم هذا كما تقول الآية: (زّين لهم سوء أعمالهم).

فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها، ويعدّون ذلك تدبيراً لحياتهم ومعاشهم، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلابدّ من إِثارة الحرب ... .

[47]

فالله سبحانه إِذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق، خلاه ونفسه: (والله لا يهدي القوم الظالمين).

* * *

بحوث

1 ـ فلسفة الأشهر الحُرُمِ!

كان تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة أحَدَ الطرق لإِيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة، لأنّ المحاربين إِذا وضعوا أسلحتهم في هذه الأشهر الأربعة، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير، فمن غير المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السلام محلّه، لأنّ الشروع المجدد بعد إيقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب فيتنام خلال العشرين سنةً من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإِيقاف القتال خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد، إلاّ أنّ الإِسلام جعل لأتباعه قراراً بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح السلام في الإِسلام والمطالبة بالصلح.

إِلاّ أنّ العدو إِذا أراد أن يستغلّ هذا القانون الإِسلامي، وأن ينتهك حرمة هذه الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل.

2 ـ مفهوم النسيء وفلسفته في الجاهليّة

«النسيء» على وزن «الكثير» من مادة «نسأ» ومعناها التأخير ويمكن أن تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدراً، وتطلق على ما يؤجل من إِعطاء المال أو قبضه.

وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم، فمثلا كانوا ينتخبون شهر

[48]

«صفر» بدل شهر محرم في عام فيحرمونه، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة، إِذ خطب في اجتماع كبير نسبيّاً في موسم الحج بمنى وقال: إِنّني أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه.

وقد روي عن ابن عباس: إِنّ أوّل من سنّ هذه السنّة هو عمرو بن لحي، وقال بعضهم: بل هو قلمس «من بني كنانة».

وفلسفة هذا العمل «التأخير والنسيء» في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حُرم تباعاً كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين، لأنّ عرب الجاهلية كانوا يتوقون الى الإِغارة وسفك الدماء والحرب، وأساساً فإنّ الحرب والإِغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءاً من حياتهم، وكان من الصعب عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم (يتوقف فيها القتال) لذا فقد كانوا يسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو يؤخروه)!

كما يرد هذا الإِحتمال أيضاً، وهو أنّ ذا الحجة قد يقع في الصيف أحياناً، ممّا يسبب عليهم، حرجاً في موضوع الحج، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية عندالعرب فحسب، بل كان موسماً كبيراً منذ زمن إِبراهيم الخليل(عليه السلام) يجتمع فيه خلق كبير، وتقام فيه الأسواق التجارية والإِقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية، ويفيدون منها فوائد عامّة، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب ميولهم ويجعلون مكانه شهراً آخر طيب الأجواء لطيف الهواء.

وربّما كانت كلا الغايتين صحيحتين.

وعلى كل حال، كان هذا العمل باعثاً على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر، وأن تُسحق الغاية من الأشهر الحرُم، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادية.

وقد عدّ القرآن هذا العمل زيادةً في الكفر، لأنّهم إِضافةً إلى شركهم وكفرهم الإِعتقادي فإنّهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفراً عملياً، ولا سيما أنّهم

[49]

كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إِذ كانوا يحرّمون ما أحل الله ويحلّون ما حرّم الله.

3 ـ وحدة الكلمة مقابل العدو

إِنّ القرآن يعلمنا في الآيتين آنفتي الذكر أن نقف صفاً واحداً بوجه العدو عند الحرب، ويستفاد من هذا النص القرآني أنّه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات السياسية والثقافية، والإِقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه الوحدة التي تنتهل من روح الإِسلام وهذا الأمر قد جُعل في طي النسيان وكان مدعاة الى انحطاط المسلمين وتأخرهم.

4 ـ كيف يُزيَّنُ للناسِ سوءُ أعمالهم؟!

إِنّ فطرة الإِنسان إِذا كانت نقيّة تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة، إلاّ أنّه حين يذنبُ الإِنسان ويخطو في طريق الآثام فإنّه يفقد هذا الإحساس «بتمييز الصالح من الطالح» تدريجاً.

ومتى ما واصل الإِقدام على السيئات، تبدو له سيئاته وكأنّها أمر حسن وتتزين له، وهذ ما أشارت إليه آيات القرآن ـ في هذا المورد ـ وفي موارد أُخرى.

وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان، كما في الآية (63) من سورة النحل (فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم) وقد يسند الفعل الى ما لم يُسمَّ فاعله ويُبنى للمجهول كما في الآي محل بحثنا، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء. وقد ينسب الى الشركاء أي الأصنام، كما في الآية (137) من سورة الأنعام، وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة الى الله، كما في الآية (4) من سورة النمل (إِنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم).

وقد قلنا مراراً: إِنّ نسبة مثل هذه الأُمور الى الله مع أنّها تخصّ عمل الإِنسان

[50]

نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله، فهو مسبب الأسباب. وقلنا بأن مثل هذه النسبة لا تنافي مسألة الإِختيار وحرية إرادة الإِنسان.

* * *

[51]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاَْرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الاَْخِرَةِ فَمَا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ(38) إِلاَّ تَنِفُروا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَتَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(39)

سبب النّزول

جاء عن ابن عباس وآخرين أنّ الآيتين ـ محل البحث ـ نزلتا في معركة تبوك حين كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عائداً من الطائف الى المدينة، وهو يهيىء الناس ويعبؤهم لمواجهة الروم.

وقد ورد في الرّوايات الإِسلاميّة أنّ النّبي لم يكن يبيّن أهدافَه وإِقدامه على المعارك للمسلمين قبل المعركة لئلاتقع الأسرار العسكرية بيد أعداء الإِسلام، أنّه في معركة تبوك، لما كانت المسألة لها شكل آخر، فقد بيّن كل شيء للمسلمين بصراحة، وأنّهم سيواجهون الروم، لأنّ مواجهة امبراطورية الروم لم تكن مواجهة بسيطة كمواجهة مشركي مكّة أو يهود خيبر، وينبغي على المسلمين أن يكونوا في

[52]

منتهى الإِستعداد وبناء الشخصية

أضف الى كل ذلك أنّ المسافة بين المدينة وأرض الروم كانت بعيدة غاية البعد، وكان الوقت صيفاً قائظاً، وهو أوان اقتطاف الثمار وحصد الحبوب والغلات.

هذه الأُمور اجتمعت بعضها الى بعض فصعب على المسلمين الخروج للقتال. حتى أنّ بعضهم تردد في استجابته لدعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

فالآيتان ـ محل البحث ـ نزلتا في هذا الظرف، وأنذرتا المسلمين بلهجة صارمة لمواجهة هذه المعركة الحاسمة.(1)

* * *

التّفسير

التّحرك نحو سوح الجهاد مرّة أُخرى

كما أشرنا آنفاً في شأن نزول الآتين، فإنّهما نزلتا في غزوة «تبوك».

وتبوك منطقة بين المدينة والشام، وتعدّ الآن من حدود الحجاز، وكانت آنئذ على مقربة من أرض الروم الشرقية المتسلطة على الشامات.(2)

وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد سنة من فتح مكّة تقريباً.

وبما أن المواجهة في هذا الميدان كانت مواجهةً لإِحدى الدول الكبرى في ذلك العصر، لا مواجهة لإِحدى القبائل العربية، فقد كان جماعة من المسلمين قلقين مشفقين من المساهمة والحضور في هذه المواجهة، ولذلك فقد كانت الأرضية مهيأة لوساوس المنافقين وبذر السموم، فلم يألوا جهداً في إضعاف


1 ـ ذكر شأن النّزول هذا جماعة من المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، والآلوسي في روح المعاني.

2 ـ الفاصلة بين تبوك والمدينة 610 كم والفاصلة بينها وبين الشام 692 كم.

[53]

المعنويات وإحباط المؤمنين أبداً. فقد كان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع المحاصيل الزراعية، وكان هذا الموسم للمزارعين يعدّ فصلا مصيرياً، إِذ فيه رفاه سنتهم هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فإنّ بعد المسافة وحرارة الجوّ ـ كما أشرنا آنفاً ـ كلّ ذلك كان من العوامل المثبطة للمسلمين في حركتهم نحو مواجهة الأعداء.

فنزل الوحي ليشدَّ من أزر الناس، والآيات تترى الواحدة بعد الأُخرى لإزالة الموانع والأسباب المثبطة.

ففي الآية الأُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ يدعو القرآن المسلمين الى الجهاد بلسان الترغيب تارةً وبالعتاب تارةً أُخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم الى الجهاد، ويدخل إِليهم من كل باب.

إِذ تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إِذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم الى الارض).

«اثّاقلتم» فعل مشتق من الثقل، ومعناه واضح إِذ هو خلاف «الخفيف» وجملة «اثاقلتم» كناية عن الرغبة في البقاء في الوطن وعدم التحرك نحو سوح الجهاد، أو الرغبة في عالم المادة واللصوق بزخارفها والإِنشداد نحو الدنيا، وعلى كل حال فالآية تخاطب من كان كذلك من المسلمين ـ ضعاف الإِيمان ـ لا جميعهم، ولا المسلمين الصادقين وعاشقي الجهاد في سبيل الله.

ثمّ تقول الآية مخاطبة إِيّاهم بلهجة الملامة: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل).

فكيف يتسنى للإِنسان العاقل أن يساوم مساومة الخُسران، وكيف يعوّض متاعاً غالياً لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئاً؟!

ثمّ تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب الى لهجة أشدّ وأسلوب تهديديّ جديد، فتقول: (إِلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً).

[54]

فإِذا كنتم تتصورون أنّكم إِذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب الى سوح الجهاد، فإنّ عجلة الإِسلام ستتوقف وينطفىء نور الإِسلام، فأنتم في غاية الخطأ والله غني عنكم (ويستبدل قوماً غيركم) قوماً أفضل منكم من كل جهة، لا من حيث الشخصيّة فحسب، بل من حيث الإِيمان والإِرادة والشهامة والإِستجابة والطاعة (ولا تضرّوه شيئاً).

وهذه حقيقة وليست ضرباً من الخيال أو أمنية بعيدة المدى، فالله عزيز حكيم (والله على كل شيء قدير).

* * *

ملاحظات

1 ـ في الآيتين آنفتي الذكر تأكيد على الجهاد من سبعة وجوه:

الأوّل: أنّها تخاطب المؤمنين (يا أيّها الذين آمنوا).

الثّاني: أنّها تأمر بالتحرك نحو ميدان الجهاد (انفروا).

الثّالث: أنّها عبرت عن الجهاد بـ(في سبيل الله).

الرّابع: الإِستفهام الإِنكاري في تبديل الدنيا بالآخرة (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)؟

الخامس: التهديد (بالعذاب الأليم).

السّادس: الاِستبدال بالمخاطبين (قوماً) غيرهم.

السّابع: أنّ الله على كل شيء قدير ولا يضره شيئاً وإِنّما يعود الضرر على المتخلفين.

2 ـ يستفاد من الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ أن تعلق قلوب المجاهدين بالحياة الدنيا يضعف همتهم في أمر الجهاد، فالمجاهدون ينبغي أن يكونوا معرضين عن الدنيا، زُهّاداً غير مكترثين بزخارفها وزبارجها.

[55]

ونقرأ دعاء للإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) لأهل الثغور وحُماة الحدود، إِذ تقول: «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون».

ولو عرفنا قيمة الدنيا وحالها شأن الآخرة ودوامها معرفة حقّة، لوجدنا أنّ الدنيا زهيدة بالمقارنة والموازنة مع الآخرة الى درجة أنّها لاتحسب شيئاً ونقرأ حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد يقول فيه: «والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثمّ يرفعا فينظر بِمَ ترجع»!

3 ـ هناك كلام بين المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (يستبدل قوماً غيركم)الوارد في الآي محل البحث فمن هم هؤلاء؟!

قال بعضهم: هم الفرس وقال آخرون: بل هم أهل اليمن. ولكلّ منهم أثره في تقدم الإِسلام. وقال آخرون: إِنّ المراد بالنص السابق هم أُولئك القوم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتقبلوا الإِسلام، بعد أن نزلت الآيتان آنفتا الذكر.

* * *

[56]

الآية

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنََيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـحِبِهِ، لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)

التّفسير

المدد الإلهي للرّسول في أشد اللحظات:

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدوّ، وكما أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكّداً بعدّة طرق، من ضمنها أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فستذهب دعوته والإِسلام أدرَاج الرياح.

فالآية محل البحث تعقّب على ما سبق لتقول: (إلاّ تنصروه فقد نصره الله).(1)


1 ـ في هذه الجملة حذف من الناحية الأدبية، وكانت الجملة في الأصل: إِن لا تنصروه ينصره الله. لأنّ الفعل الماضي الذي يدل (مفهومه) على وقوعه في الماضي أيضاً، لا يمكن أن يقع جزاءً للشرط إلاّ أن يكون الفعل الماضي بمعنى المضارع!

[57]

وكان ذلك عندما تآمر مشركو مكّة على اغتيال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقتله، وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية (30) من سورة الأنفال بالتفصيل، حيث قرّروا بعد مداولات كثيرة أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل العرب رجلا مسلّحاً ويحاصروا دار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا، وأن يهجموا عليه الغداة ويحملوا عليه حملَة رجل واحد فيقطعوه بسيوفهم.

ولكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اطّلع ـ بأمر الله ـ على هذه المكيدة، فتهيأ للخروج من (مكّة) والهجرة إلى (المدينة) إلاّ أنّه توجه نحو (غار ثور) الذي يقع جنوب مكّة وفي الجهة المخالفة لجادة المدينة واختبأ فيه، وكان معه (أبوبكر) في هجرته هذه.

وقد سعى الأعداء سعياً حثيثاً للعثور على النّبي، إلاّ أنّهم عادوا آيسين، وبعد ثلاثة أيّام من اختباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه في الغار واطمئنانه من رجوع العدوّ توجه ليلا نحو المدينة (في غير الطريق المطرّق) وبعد بضعة أيّام وصل(صلى الله عليه وآله وسلم)المدينة سالماً، وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإِسلام هناك.

فالآية آنفة الذكر تشير إِلى أشدّ اللحظات حرجاً في هذا السَفَر التاريخي، فتقول: (إِذْ أخرجه الذين كفروا) وبالطبع فإنّهم لم يريدوا إِخراجه بل أرادوا قتله، لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النّبي من مكّة فراراً منهم، فقد نسبت الآية إِخراجه إِليهم.

ثمّ تقول: كان ذلك في حال هو (ثاني اثنين).

وهذا التعبير إِشارة إِلى أنّه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إِلاّ رجل واحد، وهو أبو بكر (إِذ هما في الغار) أي غار ثور، فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يسرّي عنه، وكما تقول الآية: (إِذ يقول لصاحبه لا تحزن إِنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها).

[58]

ولعل هذه الجنود الغيبيّة هي الملائكة التي حفظت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الشاق المخيف، أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما.

(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا).

وهي إشارة إلى أنّ مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم وآراؤهم، وشعّ نور الله في كل مكان، وكان الإِنتصار في كل موطن حليف محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم لا يكون الأمر كذلك (والله عزيز حكيم)؟

فبعزته وقدرته نصر نبيّه، وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح.

قصّة صاحب النّبي في الغار:

هناك كلام طويل بين مفسّري الشيعة وأهل السنة في شأن صحبة أبي بكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره وهجرته، وما جاءت من إشارات مغلقة في شأنه في الآية آنفاً. فمنهم مَن أفرط، ومنهم من فرّط.

فالفخر الرازي في تفسيره سعى بتعصبه الخاص أن يستنبط من هذه الآية اثنتى عشرة فضيلة! لأبي بكر، ومن أجل تكثير عدد فضائله أخذ يفصّل ويسهّب بشكل يطول البحث فيه ممّا يتلف علينا الوقت الكثير.

وعلى العكس من الفخر الرازي هناك من يصرّ على استنباط صفات ذميمة لأبي بكر من سياق الآية.

وينبغي أن نعرف ـ أوّلا ـ هل تدل كلمة «الصاحب» على الفضيلة؟ والظاهر أنّها ليست كذلك، لأنّ الصاحب في اللغة تدلّ على الجليس أو الملازم للمسافر بشكل مطلق، سواء كان صالحاً أم طالحاً، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الكهف عن محاورة رجلين فيما بينَهما، أحدهما مؤمن والآخر كافر (قال له صاحبه أكفرت بالذي خلقك من تراب)؟!

كما يصرّ بعضهم على أنّ مرجع الضمير من «عليه» في قوله تعالى (فأنزل الله

[59]

سكينته عليه) يعود على أبي بكر، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بحاجة إِلى السكينة، فنزول السكينة إِذن كان على صاحبه، أي أبي بكر.

إِلاّ أنّه مع الإِلتفات إِلى الجملة التي تليها (وأيّده بجنود لم تروها) ومع ملاحظة اتحاد المرجع في الضمائر، يتّضح أن الضمير في «عليه» يعود على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أيضاً، ومن الخطأ أن نتصور بأنّ السكينة إنّما هي خاصّة في مواطن الحزن والأسى، بل ورد في القرآن ـ كثيراً ـ التعبير بنزول السكينة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك حين يواجه الشدائد والصعاب، ومن ذلك ما جاء في الآية (26) من هذه السورة أيضاً في شأن معركة حنين (ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين).

كما نقرأ في الآية (26) من سورة الفتح أيضاً (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) مع أنّه لم يَرِدْ في الجمل والتعابير المتقدمة على هاتين الجملتين أي شيء من الحزن وما إِلى ذلك، وإنّما ورد التعبير عن مواجهة الصعاب والتواء الحوادث...

وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدلّ أن نزول السكينة إنّما يكون عند الشدائد، وممّا لا ريب فيه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يواجه اللحظات الصعبة وهو في (غار ثور)!

والأعجب من كل ما تقدم أن بعضاً قال: بأنّ التعبير (وأيده بجنود لم تروها)يعود على أبي بكر. مع أنّ جميع المحاور في هذه الآية تدور حول نصرة الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن يريد أن يكشف أنّ النّبي ليس وحده، وإذا لم ينصره أحد من أصحابه وجماعته، فإنّ الله سينصره. فكيف يمكن لأحد أن يترك الشخص الذي تدور حوله بحوث الآية، ويتّجه نحو شخص ثانوي وتبعي في منظور الآية ؟! وهذا يَدلّ على أن التعصب بلغ حدّاً بأصحابه، بحيث منعهم حتى من الإِلتفات إلى معنى الآية.

* * *

[60]

الآيتان

انفِرُواْ خِفَافاً وثِقَالا وَجَـهِدُوا بِأَمْولِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (42)

التّفسير

الكُسالى الطّامعون:

قلنا: إِنّ معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية، وكانت مقترنة بمقدمات معقّدة وغامضة تماماً، ومن هنا فإن عدداً من ضعاف الإِيمان أو المنافقين أخذ «يتعلّل» في الإِعتذار عن المساهمة في هذه المعركة. وقد وردت في الآيات المتقدمات ملامة للمؤمنين من قبل الله سبحانه لتباطؤهم في نصرة نبيّهم عند صدور الأمر بالجهاد، وعدم الإِسراع إِلى ساحة الحرب وأكّدت بأنّ الأمر بالجهاد لصالحكم، وإِلاّ فإنّ بإمكان الله أن يهيىء جنوداً مؤمنين شجعاناً مكان الكسالى الذين لاحظ لهم في الثبات والإِرادة، بل حتى مع عدمهم فهو قادر على أن يحفظ نبيّه، كما حفظه «ليلة المبيت»، وفي «غار ثور».

[61]

والعجيب أنّ عدداً من «خيوط العنكبوت» المنسوجة على مدخل الغار كانت سبباً لإِنحراف فكر الأعداء الألداء، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إِلى هذا الغار، وأن يسلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كيدهم.

فحيث أنّ بإمكان الله أن يغيّر مسير التأريخ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت، فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كلّ معاذيره !!

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم، لا لرفع الحاجة لدى الله سبحانه... وتعقيباً على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعاً مرّة أُخرى ـ دعوة عامّة ـ نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه: (انفروا خفافاً وثقالا).

«الخفاف» جمع الخفيف، «الثقال» جمع الثقيل، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإِنسان. أي انفروا في أية حالة كنتم شباباً أم شيوخاً، متزوجين أم غير متزوجين، تعولون أحداً أم لا تعولون، أغنياءً أم فقراء، مبتلين بشيء أم غير مبتلين، أصحابَ تجارة أو زراعة أم لستم من أُولئك!

فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إِلى الجهاد، وأن تنصرفوا عن أيّ عمل شغلتم به، وتنهضوا مسرعين إِلى ساحات القتال، وفي أيديكم السلاح.

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحداً ممّا ذكرنا آنفاً، لا دليل عليه أبداً، بل إنّ كل واحد ممّا ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع.