![]() |
![]() |
![]() |
والدليل الآخر على هذا الكلام، العلة التي ذكرت في آخر الآية، وهي: (ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) وهي توضح أنّ الإستغفار لأمثال هؤلاء مهما كثر وعظم فإنّه سوف لا ينجيهم، ولا يمكن أن يكون سبباً في خلاصهم ممّا ينتظرهم.
العجيب في الأمر أنّ عدّة روايات نقلت من مصادر أهل السنة، ورد فيها أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال بعد أن نزلت هذه الآية: «لأزيدن في الإِستغفار لهم على سبعين مرّة»! رجاء منه أن يغفر الله لهم، فنزلت: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم)(1).
وهذه الرّوايات تعني أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد فهم من هذه الآية أنّ المراد من السبعين هو العدد بالذات، ولهذا قال: «لأزيدن في الإِستغفار لهم على سبعين مرّة» في الوقت الذي تريد الآية ـ كما قلنا ـ أن تقول لنا: إن العدد المذكور ذُكر على وجه الكثرة والمبالغة، وكناية عن النفي المطلق المقترن بالتأكيد، خصوصاً مع ملاحظة العلة التي ذكرت في ذيل الآية التي توضح ما ذكرناه.
وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الرّوايات لا يمكن قبولها لأنّها تخالف القرآن، خاصّة وأن أسانيدها غير معتبرة عندنا.
التوجيه الوحيد الممكن لهذه الرّوايات ـ بالرغم من أنّه خلاف الظاهر ـ هو أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول ذلك قبل نزول الآيات المذكورة، ولما نزلت هذه الآيات كف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإِستغفار لهؤلاء.
ونقلت رواية أُخرى في هذا الموضوع، قد تكون هي الأصل للرّوايات
(1) لقد وردت روايات كثيرة بهذا المضمون ذكرت في تفسير الطبري، ج10، ص 138.
الأُخرى المذكورة، وإنّما اختلفت الرّوايات لأنّها نقلت بالمعنى لا بالنص، وهي أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لو علمت إنّني لو زدت على السبعين مرّة غفر لهم لفعلت»، ومعنى هذا الكلام ـ خاصه مع ملاحظة (لو) الدالة على الإمتناع ـ أنّي أعلم أن الله سبحانه لا يغفر لهؤلاء، غير أن قلبي يحرص على هداية عباد اللّه ونجاتهم، بحيث لو عملت ـ فرضاً ـ أن الزيادة في الإِستغفار عن السبعين مرّة ستنجيهم لفعلت ذلك.
وعلى كل حال، فإن معنى الآيات المذكورة واضح، وكل حديث يخالفها فإمّا أن يوجه بحيث يوافقها أو يطرح جانباً.
* * *
فَرِحَ الُْمخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَـهِدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَة مِّنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُروجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَداً وَلَن تَقَـتِلُوا مَعِىَ عَدُوَّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْعُقُودِ أَوَّلَ مَرَّة فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَـلِفينَ(83)
يستمر الحديث في هذه الآيات حول تعريف المنافقين وأساليب عملهم وسلوكهم وأفكارهم ليعرفهم المسلمون جيداً، ولا يقعوا تحت تأثير وسائل إِعلامهم وخططهم الخبيثة وسمومهم.
في البداية تتحدث الآية عن هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك،
وتعذروا بأعذار واهية كبيت العنكبوت، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب رغم أنّها مخالفة لأوامر الله ورسوله: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) وبدل أن يضعوا كل وجودهم وإمكاناتهم في سبيل الله لينالوا افتخار الجهاد وعنوان المجاهدين، فإنّهم امتنعوا (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله).
إِلاّ أنّ هؤلاء النفر لم يكتفوا بتخلفهم وتركهم لهذا الواجب المهم، بل إنّهم سعوا في تحذيل الناس عن الجهاد بوساوسهم الشّيطانية ومحاولة إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدور المسلمين وتشبث المنافقون بكل عذر يمكن أن يحقق الهدف حتى ولو كان العذر الحَرّ!! (وقالوا لا تنفروا في الحرّ). وفي الحقيقة إنّ هؤلاء كانوا يطمعون في أضعاف إِرادة المسلمين، ومن جهة أُخرى كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن إِلى مستنقع رذيلتهم، حتى لا ينفردوا بالجرم.
ثمّ تتغير وجهة الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيأمره الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم بلهجة شديدة وأُسلوب قاطع: (قل نار جهنّم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون). لكنّهم للأسف لضعف إِيمانهم، وعدم الإِدراك الكافي لا يعلمون آية نار تنتظرهم، فشرارة واحدة من تلك النّار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألماً.
وتشير الآية الثّانية إِلى أنّ هؤلاء قد ظنوا بأنّهم قد حققوا نصراً بتخلفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن مسألة الجهاد، وضحكوا لذلك وقهقهوا بملء أفواههم، وهذا هو حال المنافقين في كل عصر وزمن، إلاّ أنّ القرآن حذّرهم من مغبة أعمالهم فقال: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً).
نعم، ليبكوا على مستقبلهم المظلم ليبكوا على العذاب الأليم الذي ينتظرهم ليبكوا على أنّهم أعلقوا كل أبواب العودة بوجوههم، وأخيراً ليبكوا على ما أنفقوا من قوتهم وقدراتهم وعمرهم الثّمين، واشتروا به الخزي والفضيحة وسوء العاقبة وتعاسة الحظ.
وفي نهاية الآية يبيّن الله تعالى أنّ هذه العاقبة التي تنتظرهم هي (جزاء بما كانوا يكسبون).
ممّا قلناه يتّضح أنّ المقصود هو: إنّ هذه الجماعة يجب أن يضحكوا قليلا في هذه الدنيا ويبكوا كثيراً، لأنّهم لو اطلعوا على ما ينتظرهم من العذاب الأليم لبكوا كثيراً ولضحكوا قليلا بالفعل.
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يذكر رأياً آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّهم مهما ضحكوا فإنّ ضحكهم قليل لقصر عمر الدنيا، وسيبكون في الآخرة بكاء بحيث أن كل بكاء الدنيا لا يعادل شيئاً من ذلك البكاء.
غير أن التّفسير الأوّل أنسب وأوفق لظاهر الآية، وللتعبيرات المشابهة لها سواء وردت في الأقوال أم الكتابات، خاصّة إذا علمنا أن اللازم من التّفسير الثّاني أن يكون معنى الأمر في الأية هو الإِخبار لا الأمر، وهذا خلاف الظاهر.
ويشهد للمعنى الأوّل الحديث المعروف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي ذكره كثير من المفسّرين، حيث قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً». (فتأمل جيداً).
وفي آخر آية - من الآيات محل البحث ـ إِشارة إِلى طريقة أُخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم حينما يفعلون ما يخالف القانون الإِسلامي، فإنّهم يُظهرون أعمالا يحاولون بها جبران ما صدر منهم، ومحاولة تبرئة ساحتهم ممّا يستحقون من العقوبة، وبهذه الأعمال المناقضة لأعمالهم المخالفة للقانون فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقة، أو يسعون إِلى ذلك.
إنّ الآية الكريمة تقول: (فإنّ رجعك الله إِلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) أي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن يزرع اليأس في نفوس هؤلاء، ويُعلمهم أن هذا التلون سوف لا ينطلي على أحد، ولن يُخدع بهم أحد، والأُولى لهم أن يحزموا أمتعتهم ويرحلوا من هذا المكان إِلى
مكان آخر، فإنّ أحداً سوف لايقع في مكائدهم وحبائلهم في هذه المدينة.
وتوجد هنا مسألة ينبغي التنبيه إِليها، وهي أنّ جملة (طائفة منهم) توحي أن هؤلاء المنافقين لم يكونوا بأجمعهم يمتلكون الشجاعة حتى يحضروا ويطلبوا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) السماح لهم في الخروج إِلى الجهاد، ربّما لأن بعضهم كانوا مفضوحين إِلى حد يخجلون معه من الحضور في مجلس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلب الخروج معه.
ثمّ تبيّن الآية أن سبب عدم قبول اقتراح هؤلاء وطلبهم بـ (إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع القاعدين).
* * *
1 ـ لا شك أنّ هذه المجموعة من المنافقين لو كانوا قد ندموا على تخلفهم وتابوا منه، وأرادوا الجهاد في ميدان آخر من أجل غسل ذنبهم السابق، لقبل الله تعالى منهم ذلك، ولم يردهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلى هذا يتبيّن لنا أن طلبهم هذا بنفسه نوع من المراوغة والشيطنة وعمل نفاقي، أو قل: إنّه كان تكتيكاً من أجل إِخفاء الوجه القبيح لهم، والإِستمرار في أعمالهم السابقة.
2 ـ إنّ كلمة (خالف) تأتي بمعنى المتخلف، وهي إشارة إِلى المتخلفين عن الحضور في ساحات القتال، سواء كان تخلفهم لعذر أو بدون عذر.
وذهب البعض قال: إنّ خالِف بمعنى مخالِف، أي اذهبوا أيّها المخالفون وضموا أصواتكم إِلى المنافقين لتكونوا جميعاً صوتاً واحداً.
وفسّرها البعض بأنّ معناها (فاسد) لأنّ الخُلُوف بمعنى الفساد، وخالِف: جاء في اللغة بمعنى فاسِد.
ويوجد احتمال آخر، وهو أنّه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة، لأنّ المنافقين وأنصارهم توجد فيهم كل هذه الصفات الرذيلة.
3 ـ وكذا ينبغي أن نذكر بأنّ المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة المنافقين في الأعصار الماضية، ويطبقوها في مواجهة منافقي محيطهم ومجتمعهم، كما يجب اتباع نفس أسلوب النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، ويجب الحذر من السقوط في شباكهم وأن لا ينخدع المسلم بهم، ولا يرق قلبه لدموع التماسيح التي يذرفونها، «فإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين».
* * *
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَد مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَـسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَأَوْلَـدُهُمْ إِنَّـمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَـفِرُونَ (85)
بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال، وعلم الناس تخلفهم الصريح، وفشا سرّهم، أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بأن يتبع أسلوباً أشدّ وأكثر صراحة ليقتلع وإِلى الأبد ـ جذور النفاق والأفكار الشيطانية، وليعلم المنافقون بأنّهم لا محل لهم في المجتمع الإِسلامي، وكخطوة عملية في مجال تطبيق هذا الأسلوب الجديد، صدر الأمر الإِلهي (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره).
إِن هذا الأسلوب ـ في الواقع ـ هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة المنافقين، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستطع ـ للأسباب التي ذكرناها آنفاً ـ أن يأمر بقتل
هؤلاء صراحة لتطهير المجتمع الإِسلامي منهم، أمّا هذا الأسلوب السلبي فهو مؤثر في احتقار هؤلاء وتحجيم دورهم، وتقزيمهم وطردهم من المجتمع الإِسلامي.
من المعلوم أنّ المؤمن الحقيقي محترم في الشرع الإِسلامي حيّاً وميتاً، ولهذا نرى الدين الإِسلامي الحنيف قد أصدر ضمن تشريعاته الأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وأوجب أن يولى احتراماً كبيراً، وأن يودع التراب بمراسم خاصّة، وحتى بعد دفنه فإنّ من حقوقه أن يزور المؤمنون قبره، ويستغفروا له، ويطلبوا الرحمة له.
إنّ عدم إجراء هذه المراسم لفرد معين يعني طرده من المجتمع الإِسلامي، وإذا كان الطارد له هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، فإنّ الصدمة والأثر النفسي على نفسيته ووجوده سيكون شديداً جداً.
إن هذا البرنامج والأسلوب الدقيق ـ في الواقع ـ كان قد أعد لمقابلة منافقي ذلك العصر، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب، أي أنّ هؤلاء المنافقين ما داموا يُظهرون الإِسلام، فمن الواجب عليهم أن يعاملوهم كمسلمين وإن كان باطنهم شيئاً آخر، أمّا إِذ أظهروا نفاقهم، وكشفوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، فعندئذ يجب أن يعاملوهم كأجانب عن الإِسلام.
وفي آخر الآية يتّضح سبب هذا الأمر الإِلهي بـ (أنّهم كفرو بالله ورسوله)ورغم ذلك فإنّهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة، بل إنّهم بقوا على أفعالهم (وماتوا وهم كافرون).
وهنا يمكن أن يسأل أحدكم: إِنّ المنافقين إِذا كانوا ـ حقيقة ـ بهذا البعد عن رحمة الله، وعلى المسلمين أن لا يُظهروا أي ود أو محبّة تجاههم، فلماذا فضّلهم الله تعالى ومنحهم كل هذه القوى الإِقتصادية من الأموال والأولاد؟
في الآية الأُخرى يوجه الله سبحانه وتعالى الخطاب إِلى النّبي (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) فإنّها ليست منحة ومحبة من الله تعالى لهؤلاء المنافقين، بل
على العكس تماماً، فإنّ هذه الأموال والأولاد ليست لسعادتهم، بل (إنّما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
إنّ هذه الآية ـ كنظيرتها التي مرّت في هذه السورة، وهي الآية 55 ـ تشير إلى حقيقة، وهي أن هذه الإمكانيات والقدرات الإِقتصادية والقوى الإنسانية للاشخاص الفاسدين ليست غير نافعة لهم فحسب، بل هي ـ غالباً ـ سبب لإبتلائهم وتعاستهم، لأنّ أشخاصاً كهؤلاء لا هم يصرفون أموالهم في مواردها الصحيحة ليستفيدوا منها الفائدة البناءة، ولا يتمتعون بأبناء صالحين كي يكونوا قرة عين لهم ومعتمدهم في حياتهم. بل إنّ أموالهم تصرف غالباً في طريق الشهوات والمعاصي ونشر الفساد وتحكيم أعمدة الظلم والطغيان، وهي السبب في غفلتهم عن الله سبحانه وتعالى ، وكذلك أولادهم في خدمة الظلمة والفاسدين، ومبتلين بمختلف الإنحرافات الأخلاقية، وبذلك سيكونون سبباً في تراكم البلايا والمصائب.
غاية الأمر إنّ الذين يظنون أن الأصل في سعادة الإنسان هو الثروة والقوة البشرية فقط، أمّا كيفية صرف هذه الثروة والقوّة فليس بذلك الأمر المهم، تكون لوحة حياتهم مفرحة ومبهجة ظاهراً، إلاّ أنّنا لو اقتربنا منها واطلعنا على دقائقها، وعلمنا أنّ الأساس في سعادة الإنسان هو كيفية الإِستفادة من هذه الإمكانيات والقدرات لعلمنا أنّ هؤلاء ليسوا سعداء مطلقاً.
* * *
1 ـ لقد وردت في سبب نزول الآية الأُولى روايات متعددة لا تخلو من الإختلاف.
فيستفاد من بعض الرّوايات، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما مات عبدالله بن أُبي ـ المنافق المشهور ـ صلى عليه، ووقف على قبره ودعا له، بل لَفَّه بقميصه ليكون كفناً له،
فنزلت الآية ونهت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا الفعل.
في الوقت الذي يُفهم من روايات أُخرى أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد صمّم أن يصلي عليه، فنزل جبرئيل وتلا هذه الآية، ومنعه من هذا العمل.
وتقول عدة روايات أُخرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل عليه، ولم يكن عزم على هذا العمل، غاية ما في الأمر أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل قميصه ليكفن به لترغيب قبيلة عبدالله بن أُبي في الإسلام، ولما سئل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب فعله هذا أجاب(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّ قميصه سوف لن ينجيه من العذاب، لكنّه يأمل أن يسلم الكثير بسبب هذا العمل، وبالفعل قد حدث هذا، فإنّ الكثير من قبيلة الخزرج قد أسلموا بعد هذه الحادثة.
وبالنظر إِلى اختلاف هذه الرّوايات اختلافاً كثير،، فإنّا قد صرفنا النظر عن ذكرها كسب للنزول، خصوصاً على قول بعض المفسّرين الكبار بأنّ وفاة عبدالله بن أُبي كانت سنة (9) هجرية، أمّا هذه الآيات فقد نزلت في حدود السنة الثّامنة.(1)
غير أن الذي لا يمكن إنكاره، أنّ الظاهر من أسلوب الآية ونبرتها أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على المنافقين، وكان يقف على قبورهم قبل نزول هذه الآيات، لأنّ هؤلاء كانوا مسلمين ظاهراً(2)، لكنّه امتنع من هذه الأعمال بعد نزول هذه الآية.
2 ـ وكذلك يستفاد من الآية المذكورة جواز الوقوف على قبور المؤمنين
(1) راجع الميزان، ج9، ص367.
(2) يستفاد من مجموعة من الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي على المنافقين بعد نزول هذه الآية أيضاً، إلاّ أنّه يكبر أربعاً لا أكثر، أي أنّه كان يصرف النظر عن التكبير الخامس الذي هو دعاء للميت. إنّ هذه الرّواية يمكن قبولها فيما لو كان معنى الصلاة هنا الدعاء، و(لا تصل) في الآية هو (لا تدعُ)، أمّا لو كان المراد (لا تصل) فإنّ هذه الرّواية تخالف ظاهر القرآن، ولا يمكن قبولها. ولا يمكن إنكار أن جملة (لا تصل) ظاهرة بالمعنى الثاني، ولذلك فإنّنا لا نستطيع ـ من وجهة نظر الحكم الإسلامي ـ أن نصلي على المنافقين الذين اشتهر نفاقهم بين الناس، وأن نرفع اليد عن ظهور الآية لرواية مبهمة.
والدعاء لهم والترحم عليهم، لأنّ النهي الوارد في الآية مختص بالمنافقين، وعلى هذا فإنّ هذه الآية تعني بمهفومها جواز زيارة قبور المؤمنين، أي: الوقوف على قبورهم والدعاء لهم. إلاّ أن الآية قد سكتت عن مسألة إمكان التوسل بقبور هؤلاء المؤمنين، وطلب قضاء الحاجات ببركتهم من الله تعالى، رغم جواز ذلك من وجهة نظر الرّوايات الإِسلامية.
* * *
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللهِ وَجَـهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَـعِدينَ(86) رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِن الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَـهَدُوا بِأَمْولِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَـلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول المنافقين، إلاّ أنّ هذه الآيات تقارن بين الأعمال القبيحة للمنافقين وأعمال المؤمنين الحقيقيين الحسنة، وتوضح من خلال هذه المقارنة انحراف هؤلاء المنافقين ودناءتهم.
فالآية الأُولى تتحدث عن حال المنافقين إِذا ما دعا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إِلى
الثبات على الإِيمان والجهاد في سبيل الله، فإنّهم ـ أي المنافقون ـ رغم قدرتهم الجسمية والمالية سيطلبون العذر والسماح لهم بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين).
كلمة «الطول» على وزن فعل ـ جاءت بمعنى القدرة والإستطاعة المالية، وعلى هذا فإنّ (أولوا الطول) بمعنى المستطيعين والقادرين مالياً وجسمياً على الحضور في ميدان الحرب، ورغم ذلك فهم يميلون إِلى التخلف مع أُولئك الذين لا قدرة لديهم ـ مادياً أو بدنياً ـ على الحضور والمشاركة في الجهاد.
وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «الطول» ضد العرض، والإِشتراك والإِرتباط بين هذين المعنيين واضح، لأنّ القدرة المالية والجسمية يعطي معنى الإستمرارية والدوام وطول القدرة.
وفي الآية التي تليها وبخ القرآن هؤلاء وذمّهم وقبّحهم بأنّهم (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)، وكما أشرنا سابقاً، فإنّ خوالف جمع خالفة، وأصلها من (خلف)، ولذلك يقال للمرأة إِذا خرج الرجل من المنزل، وبقيت في المنزل: إنّها خالفة. والمقصود من الخوالف في هذه الآية كل الذين عُذِروا عن المشاركة في الجهاد بشكل أو آخر، أعم من أنّ يكونوا نساء أو مسنّين أو مرضى أو صبيان. وقد أشارت بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية إِلى هذا الموضوع.
ثمّ أضافت الآية: بأن هؤلاء نتيجة لكثرة الذنوب والنفاق وصلوا إِلى مرحلة (وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون). وقد بحثنا في بداية سورة البقرة معنى الطبع على القلب.(1)
ثمّ تحدثت الآية التي تليها في الجانب المقابل عن صفات وروحيات الفئة التي تقابل المنافقين، وهم المؤمنون المخلصون، وعن أعمالهم الحسنة، وبالتالي عاقبة
(1) راجع المجلد الأوّل من الأمثل (ذيل آية 7 من سورة البقرة).
أعمالهم المعاكسة تماماً لعاقبة أُولئك. فهي تقول: (لكن الرّسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) فكانت عاقبتهم أن يتمتعوا بكل الخيرات والسعادة واللذائذ المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة (وأُولئك لهم الخيرات وأُولئك هم المفلحون).
كلمة (الخيرات) صيغة جمع محلّى بالألف واللام، ومن ذلك يستفاد عموميتها، فهي تعبير جامع لكل توفيق وخير ونصر وموهبة، وهي تشمل المادية منها والمعنوية.
كما أن تعبير هاتين الجملتين ـ حسب القواعد التي قررت في المعاني والبيان ـ يدل على الحصر، أي أن هذا التعبير يدل على أن (المخلصين) وحدهم يمثلون هذا الجانب المقابل، ويدل على أنّ هؤلاء وحدهم الذين يستحقون كل خير وسعادة، هؤلاء الذين يجاهدون بكل وجودهم وبكل ما يمتلكون.
ويستفاد بوضوح من هذه الآية أن «الإيمان» و«الجهاد» إذا اتحدا في شخص، فسيصحبهما كل خير وبركة، ولا سبيل إِلى الفلاح والإخلاص، أو إِلى شيء من الخيرات والبركات المادية والمعنوية إلاّ في ظل هذين العامَليْن.
وهناك نقطة أُخرى تستحق التنبيه لها، وهي أنّنا نستفيد من خلال مقارنة صفات هاتين المجموعتين أنّ المنافقين ـ لفقدانهم الإِيمان، وتلوثهم المضاعف بالمعاصي والذنوب ـ أفراد جاهلون، لذلك فهم محرومون من (علو الهمة) التي هي وليدة الفهم والشعور والوعي، فهم يرضون أن يكونوا مع القاعدين من المرضى والصبيان، ويأبون الحضور في سوح الجهاد رغم افتخاراته وامتيازاته.
أمّا في المقابل، فإنّ المؤمنين قد اتضحت لهم الأُمور وأدركوا عواقبها فعلت همتهم بحيث رأوا أن الجهاد هو الطريق الوحيد للإِنتصار على المشاكل التي تعترضهم، فسعوا إليه بكل وجودهم وقدراتهم.
إن هذا الدرس الكبير هو الذي علمنا القرآن إياه في كثير من آياته، ومع ذلك
فنحن غافلون عنه.
وفي آخر آية من الآيات التي نبحثها إشارة إلى قسم من الجزاء الأُخروي المعد لهؤلاء المؤمنين، فهي تبشرهم بأنّهم قد (أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) وتوكّد لهم بأنّ هذه المواهب والنعم سوف لا تفنى ولا تنفد، بل سيبقون (خالدين فيها)، ثمّ تبيّن أن (ذلك هو الفوز العظيم).
إنّ تعبير (أعدّ الله) علاّمة جلية على مدى الإحترام الذي أولى الله هؤلاء المؤمنين به، حيث أعد لهم من قبل كل هذه المواهب والنعم.
* * *
وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاَْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(90)
في هذه الآية ـ ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين يتعذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج ـ إِشارة إِلى وضع وواقع مجموعتين من المتخلفين عن الجهاد:
الأُولى: وهم المعذورون فعلا في عدم مشاركتهم في القتال.
والثّانية: وهم المتخلفون عن أداء هذا الواجب الكبير تمرداً وعصياناً، وليس لهم أي عذر في تخلفهم هذا.
ففي البداية تقول الآية أنّ هؤلاء الأعراب رغم أنّهم كانوا معذورين في عدم الإِشتراك في الجهاد، فإنّهم حضروا بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم في الجهاد: (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم). وفي مقابل ذلك فإن الفئة الأُخرى التي كذبت على الله ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر، (وقعد
الذين كذبوا الله ورسوله). وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثّانية تهديداً شديداً وأنذرتهم بأنّه (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم).
إن ما قلناه في تفسير الآية المذكورة هو الأنسب للقرائن الموجودة، فإننا نرى من جهة أن هاتين الفئتين تقابل إحداهما الأُخرى، ومن جهة أُخرى فإنّ كلمة (منهم) تدل على أن أفراد المجموعتين لم يكونوا كفاراً بأجمعهم، ومن هاتين القرينتين يفهم أن (المعذرين) هم المعذورون حقيقة.
إلاّ أنّه قيل في مقابل هذا التّفسير تفسيران آخران:
الأوّل: إنّ المقصود من (المعذرين) هم الذين كانوا يتمسكون بالأعذار الواهية والكاذبة للفرار من الجهاد. والمقصود من المجموعة الثّانية هم الذين لا يكلفون أنفسهم حتى مشقّة الإِعتذار، بل إنّهم يمتنعون علناً وبكل صراحة عن إطاعة أوامر الله عزّوجلّ.
الثّاني: إِنّ كلمة (المعذرين) تشمل كل الفئات التي تعتذر بأعذار ما عن الذهاب إِلى ميادين الحرب والجهاد، سواء كانت هذه الأعذار صادقة أم كاذبة.
إِلاّ أنّ القرائن تدل على أنّ (المعذرين) هم المعذورون الحقيقيون.
* * *
لَّيْسَ عَلىَ الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِن سَبِيل وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّما السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93)
نقل في سبب نزول الآية الأُولى أن أحد أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المخلصين قال للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، إِني شيخ كبير أعمى وعاجز، وليس لي حتى من يأخذ بيدي ليذهب بي إِلى ميدان القتال، فهل أعذر إِذا لم أحضر وأشارك في الجهاد؟ فسكت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية وعذرت مثل هؤلاء الأفراد.
ويستفاد من سبب النزول هذا أن المسلمين ـ حتى الأعمى منهم ـ لم يكونوا
ليسمحوا لأنفسهم أن يمتنعوا عن الحضور في ميدان الجهاد، وربّما كان ذلك لأنّهم كانوا يحتملون أن وجودهم بهذه الحالة قد يرغّب المجاهدين في الإنضمام إِلى جيوش المسلمين ومشاركتهم في أمر الجهاد، أو أنّهم يكثرون السواد على أقل التقادير.
وبالنسبة للآية الثّانية ورد في الرّوايات أنّ سبعة نفر من فقراء الأنصار جاءوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه وسيلة للمشاركة في الجهاد، ولما لم يكن لدى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من ذلك خرجوا من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعينهم تفيض من الدمع، ثمّ عُرفوا بعد ذلك بـ «البكّائين».
هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد، أو العجز عنه، وأشارت إِلى خمس مجموعات: أربع منها معذورة حقيقة وواقعاً، والخامسة هم المنافقون.
الآية الأُولى تقول: إنّ الضعفاء، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء، والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد، لا حرج عليهم إِذا تخلفوا عن هذا الواجب الإِسلامي المهم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج). هذه الأقسام الثلاث تعذر في كل قانون إِذا لم تشارك، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح، ومن المسلم أنّ القوانين الإِسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.
كلمة «الحرج» في الأصل تعني مركز اجتماع الشيء، ولما كان اجتماع الناس وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الضيق والإِزعاج والمسؤولية والتكليف، ويكون معناها في هذه الآية هو
المعنى الأخير، أي المسؤولية والتكليف.
ثمّ بيّنت الآية شرطاً مهماً في السماح لهؤلاء بالإِنصراف، وهو إخلاصهم وحبّهم لله ورسوله، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف، لذا قالت: (إذا نصحوا لله ورسوله) أي إنّ هؤلاء إذا لم يكونوا قادرين على حمل السلاح والمشاركة في القتال، فإنّهم قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك الإِسلامي الأمثل، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين، ويثيرون الحماس في نفوس المقاتلين، ويرفعون معنوياتهم بذكرهم الثمرات المترتبة على الجهاد وثوابه العظيم.
وكذلك يجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو، وتهيئة أرضية الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع لأنّ كلمة (نصح) في الأصل بمعنى (الإخلاص) وهي كلمة جامعة شاملة لكل شكل من أشكال طلب الخير والإِقدام المخلص في هذا السبيل، ولما كان الكلام عن الجهاد، فإنّها تنظر إِلى كل جهد وسعي يبذل في هذا المجال.
ثمّ تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يألون جهداً في عمل الخير، لا يمكن أن يعاتبوا أو يُوبَّخوا أو يُعاقبوا، إذ (ما على المحسنين من سبيل).
بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات الله عزّوجلّ ـ وكل صفاته عظيمة ـ كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن المجموعات الثلاث فقالت: (والله غفور رحيم).
(غفور) مأخوذة من مادة الغفران، أي الستر والإخفاء، أي إن الله سبحانه وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم، وكون الله «رحيماً» يقتضي أن لا يكلف أحداً فوق طاقته، بل يعفيه من ذلك، وإذا أُجبر هؤلاء على الحضور في ميدان القتال، فإنّ ذلك لا يناسب غفران الله ورحمته، وهذا يعني
أنّ الله الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتماً، ويعفو عنهم.
ويستفاد من جملة من الرّوايات التي نقلها المفسّرون في ذيل هذه الآية، أنّ هذه المجموعات المعذورة لا يقتصر الأمر فيهم على السماح لهم في التخلف وعدم مؤاخذتهم فحسب، بل إنّ أفرادها لهم من الجزاء والثواب كثواب المجاهدين الذين حضروا وقاتلوا، كل على قدر اشتياقه وتحرقه للمشاركة، فنحن نقف على حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقرأ: إِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: «لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم فيه قالوا: «وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر»(1).
![]() |
![]() |
![]() |