![]() |
![]() |
وعلى كل حال . فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم «صالح» في شأن الناقة ، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها ، لأنّ وجودها مع مافيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النّبي صالح ، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم ، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار ، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض ، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض (فعقروها) .
«عقروها» مشتقة من مادة «العُقر» على وزن «الظلم» ومعناه : أصل الشيء وأساسه وجذره ، و«عقرت البعير» معناه نحرته واحتززت رأسه ، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل ، وأحياناً تستعمل هذه الكلمة لطعن الناقة في بطنها . أو لتقطيع أطراف الناقة بدل النحر وكل ذلك في الواقع يرجع إلى معنى واحد «فتأمل» !...» .
(1) الشعراء، الآية 146 ـ 148.
الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الذي عقر الناقة لم يكن إلاّ واحداً ، لكن القرآن ينسب هذا العمل إلى جميع المخالفين من قوم صالح «ثمود» ويقول بصيغة الجمع : (فعقروها) وذلك لأنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه ارتباطاً عاطفياً بمنزلة الإشتراك فيه ، وفي الواقع فإنّ التآمر على هذا العمل لم يكن له جانب فردي ، وحتى ذلك الذي أقدم على عمله لم يكن معتمداً على قوته الشخصيّة فجميعهم كانوا مرتاحين لعمله وكانوا يسندونه ، ومن المسلّم أنّه لا يمكن أن يعدّ هذا العمل عملاً فردياً . بل يعد عملاً جماعياً . يقول الإمام علي(عليه السلام) : «وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا»(1) .
وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الإسلام وأهل بيته الكرام ، وهي تكشف غاية الإهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء ، ونورد هنا على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ عدداً منها .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «من شهد أمراً فَكرِهه كمن غاب عنه ومن غاب عن أمر فرضيه كمن شهده»(2) .
ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) «لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزَّوجلَّ شريك القاتل»(3).
ونقل عن الإمام علي (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه
(1) نهج البلاغة ، ومن كلام له ، رقم 201 .
(2) وسائل الشيعة، ج11، ص 409 .
(3) وسائل الشيعة، ج11، ص 410 .
وعلى كل داخل في باطل إثمان إثم العمل به وإثم الرضا به»(1).
ومن أجل أن نعرف عمق العلاقة الفكرية والعاطفية في الإسلام وسعتها بحيث لا يُعرف لها حد من جهة الزمان والمكان ، فيكفي أن نذكر هذا الكلام للإمام علي(عليه السلام) من نهج البلاغة لنلفت إليه الأنظار : «حين انتصر الإمام علي في حرب الجمل على المتمردين ومثيري الفتنة وفرح أصحاب علي بهذا الإنتصار الذي يُعدّ انتصاراً للإسلام على الشرك والجاهلية ، قال له أحد أصحابه : «وودت لو أنّ أخي شهدنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوك» .
فالتفت الإمام (عليه السلام) إليه قائلاً : «أهوى أخيك معنا» فقال : «نعم» فقال الإمام (عليه السلام) : «شَهِدنَا» ثمّ قال : «ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان»(2) .
ولا شك أنّ أُولئك الذين يساهمون في منهج ما ويشتركون فيه ويتحملون كل مشاكله وأتعابه ، لهم امتياز خاص ، ولكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يشتركوا في ذلك أبداً ، بل سواءً كانوا في عصرهم أو العصور والقرون المقبلة ولهم ارتباط عاطفي وفكري بهم فهم مشتركون معهم بنحو من الانحاء .
هذه المسألة التي قد لا نجد لها نظيراً في أي مذهب من مذاهب العالم ، قائمة على أساس من حقيقة اجتماعية هامة ، وهي أن المنسجمون فكرياً وعقائدياً حتى لو لم يشتركوا في منهج معيّن ، إلاّ أنّهم سيدخلون قطعاً في مناهج مشابهة له في محيطهم وزمانهم ، لأنّ أعمال الناس منعكسة عن أفكارهم ، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بمذهب معين ولا يظهر أثره في عمله .
والإسلام منذ الخطوة الأُولى يهتم بايجاد اصلاحات في روح الإنسان ونفسه لإصلاح عمله تلقائياً وعلى ضوء الرّوايات المتقدمة فإنّ أي مسلم يبلغه أنّ فلاناً
(1) وسائل الشيعة، ج11، ص411 .
(2) نهج البلاغة، الكلام رقم 12 .
عمل عملاً صالحاً ـ أو سيئاً ـ ينبغي أن يتخذ الموقف الصحيح من ذلك العمل فوراً ويجعل قلبه وروحه منسجمين مع «الصالحات» وأن ينفر من «السيئات» فهذا السعي و«الجد» الداخلي لا شك سيكون له أثر في أعماله ، وسيتعمق الترابط بين الفكر والعمل .
وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النّبي «صالحاً» بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم (فقال تمتعوا في دارك ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب) فهو وعد الله الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين .
* * *
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَلِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذ إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فى دِيَرِهِمْ جَثِمِنَ(67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ أَلاَ إنَّ ثَمُودَاً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَـمُودَ(68)
في هذه الآيات يتبيّن كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن أمهلهم وقال لهم : (تمتعوا في داركم ثلاثة أيّام) فتقول الآيات : (فلما جاء أمرنا نجّينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منّا) لا من العذاب الجسماني والمادي فحسب ، بل (ومن خزي يومئذ)(1) .
لأنّ الله قوي وقادر على كل شيء ، وله السلطة على كل أمر ، ولا يصعب عليه أي شيء ولا قدرة فوق قدرته (إنّ ربّك هو القوي العزيز ) .
وعلى هذا فإنّ نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب
(1) الخزي في اللغة الإنكسار الذي يصيب الإنسان سواءً من نفسه أو من سواه ، ويشمل كل أنواع الذل أيضاً .
الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى .
إنّ رحمة الله تستوجب ألاّ يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين ، وألاّ يؤاخذ المؤمنون بجريرة غير المؤمنين (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وهكذا هلكوا وصاروا «شذر مذر» ومضت آثارهم مع الريح (كأن لم يغنوا فيها إلاّ أن ثمود كفروا بربّهم ألا بعداً لثمود) عن لطف الله ورحمته .
* * *
1 ـ نجد في هذه الآيات أن رحمة الله بالنسبة للمؤمنين واسعة وشاملة ، بحيث تنقلهم جميعاً إلى مكان آمن ، ولا تحرق الأخضر واليابس بالعذاب .
ومن الممكن أن تحدث حوادث مؤلمة كالسيول والأوبئة والزلازل التي قد تأتي على الصغير والكبير ، وليست هذه الحوادث ترجمة لعذاب الله ، وإلاّ فإنّه محال على الله في منطق عدله أن يعذب حتى واحداً بريئاً بجرم ملايين المذنبين .
طبعاً يمكن أن يوجد أناس ساكتون بين جماعة مذنبين فيؤخذوا بوزرهم ، لأنّهم لا يردعونهم عن الظلم والفساد ، فمصيرهم ـ إذاً ـ سيكون كمصير المجرمين. ولكنّهم إذا عملوا بواجبهم فمحال أن تنزل عليهم حادثة أو يحيق بهم العذاب «فصّلنا هذا الموضوع في الأبحاث المرتبطة بمعرفة الله ونزول البلاء والحوادث في كتب معرفة الله»(1) .
2 ـ ويظهرُ جيداً من الآيات المتقدمة أنّ عقاب المعاندين والطغاة لا يختصّ بالجانب المادي فحسب ، بل يشمل الجانب المعنوي ، لأنّ نتيجة أعمالهم ومصيرهم المخزي وحياتهم الملوّثة تسجل فصولها في التاريخ بما يكون عاراً عليهم ، في حين يكتب التاريخ حياة المؤمنين بسطور من ذهب وصحائف من
(1) في المجلد الخامس من التّفسير الأمثل وردت توضيحات مفيدة لفهم هذا المقصود .
نور .
3 ـ ما المراد من الصيحة ؟
الصيحة في اللغة معناها الصوت العظيم الذي يصدر من فم الإنسان أو الحيوان عادة .. ولكن لا تختصّ بهذا المعنى ، بل تشمل كل صوت عظيم .. نقرأ في القرآن الكريم أن عدّة أقوام آثمين أخذتهم الصيحة من السماء عقاباً لهم على ذنوبهم ، «ثمود» الذين نتحدث عنهم «وقوم لوط» كما نقرأ في سورة الحجر الآية (73) «قوم شعيب» كما ذُكروا في سورة هود الآية (94) .
ويستفاد من بعض الآيات الأُخرى من القرآن أنّ قوم صالح «ثموداً» عوقبوا بالصاعقة (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود)(1) ومن هنا يتبيّن أنّ المراد من الصيحة هو صوت الصاعقة الموحش!
سؤال : هل يستطيع صوت الصاعقة الموحش أن يبيد قوماً أو جماعة بأسرهم؟! والجواب : نعم ، حتماً ! .. لأنّنا نعرف أن الأمواج الصوتية إذا تجاوزت حدّاً معيناً تستطيع أن تكسّر الزجاج ، وقد تتهدم على أثرها عمارات ، وقد تشل أعضاء البدن الداخلية .
الطائرات حين تخترق الجدار الصوتي وتكون سرعتها أكثر من سرعة أمواج الصوت يسقط بعض الأفراد فاقدو الوعي ، أو تُسقط الحامل جنينها بسبب ذلك وقد يتكسر جميع الزّجاج في عمارات المنطقة التي تمرّ عليها هذه الطائرات .
وطبيعي أنّه إذا كانت شدّة الأمواج الصوتية أكثر ممّا ذكرنا ، فمن السهولة أن تحدث اختلالاً قاتلاً في شبكات الاعصاب الدماغ وحركات القلب وتسبب موت الإنسان! :
ومن الثابت ـ طبقاً لما في آيات القرآن ـ أنّ نهاية هذا العالم تكون بصيحة
(1) فصلت، الآية 13.
عامّة أيضاً .. (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون)(1)، كما أنّ يوم القيامة يبدأ بصيحة موقظة أيضاً (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) .
4 ـ «الجاثم» من مادة «جثم» ومعناه المصدري الجلوس على الركب ، كما يأتي بمعنى السقوط للوجه (ولزيادة التوضيح في هذا المجال يراجع في التّفسير الأمثل ذيل الآية 79 من سورة الأعراف) .
ويستفاد طبعاً من التعبير بـ «جاثمين» أنّ الصيحة من السماء كانت السبب في موتهم ، إلاّ أنّ أجسادهم كانت ملقاةً على الأرض ، لكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ الصاعقة احرقتهم بنارها ، ولا منافاة بين الأمرين ، لأنّ أثر الصوت الموحش للصاعقة يتّضح فوراً ، وأمّا آثار حرقها ـ وخاصّة لمن هم داخل البيوت ـ فيظهر بعدئذ .
5 ـ لفظ «لم يغنوا» مشتق من مادة «غني» ومعناه الإقامة في المكان ، ولا يبعد أن يكون مأخوذاً من المفهوم الأصلي وهو «الغنى» ومعناه عدم الحاجة ، لأنّ الغني غير المحتاج له بيت مهيّأ ومعدّ وليس مجبوراً أن ينتقل كل زمان من منزل إلى آخر ـ والتعبير بجملة (كأن لم يغنوا فيها) وارد في ثمود ، كما هو وارد في قوم شعيب ، ومفهوم هذا التعبير أنّ طومار حياتهم قد طُوي حتى تظن أنّهم لم يكونوا من سكنة هذه الأرض.
* * *
نهاية المجلد السّادس
(1) سورة يس، 49.
![]() |
![]() |