![]() |
![]() |
![]() |
وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد: (إِنّ الله له ملك السموات والأرض) وأن نظام الحياة والموت أيضاً بيد قدرته، فإنّه هو الذي (يحيي ويميت)وعلى هذا: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)، وهو إِشارة إِلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده، وخاضعة لأمره، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره، وتلتجئوا إِلى البعيدين عن الله وإِلى أعدائه وتوادوهم، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الإِستغفار وغيره.
* * *
لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(117) وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلِيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمِْ ليَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)
درس كبير!
قال المفسّرون: إِنّ الآية الأُولى نزلت في غزوة تبوك، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع، إلاّ أنّ اللطف الإِلهي والتوفيق الرّباني شملهم،، فثبتوا في مكانهم.
ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبوخيثمة، وكان من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا من المنافقين، إلاّ أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إِلى معركة تبوك مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة، وكان الهواء حاراً محرقاً، فحضر يوماً عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد، فتذكر فجأة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وغاص في تفكير عميق، وقال في نفسه: إِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وضمن له آخرته، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة، وتحمل مشقّة هذا السفر، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد، يتمتع بأنواع الأطعمة، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.
فالتفت إلى زوجاته وقال: أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس بنبت شفة، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.
فقال المسلمون بعضهم لبعض: من هذا الراكب على الطريق؟، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس، قالوا: نعم، هو أبو خيثمة، فأناخ راحلته وسلّم على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحدثه بما جرى له، فرحبّ به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا له.
وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل، إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.
* * *
وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية، خلاصته:
إنّ ثلاثة من المسلمين وهم: «كعب بن مالك» و«مرارة بن ربيع»و «وهلال بن أمية»، امتنعوا من المسير مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والإشتراك في غزوة تبوك، إلاّ أن ذلك ليس لكونهم جزءاً من المنافقين، بل لكسلهم وتثاقلهم، فلم يمض زمان حتى ندموا.
فلمّا رجع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن
تقصيرهم، إلاّ أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة، وأمر المسلمين أيضاً أن لا يكلموهم.
لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلاّ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأذن لهم بالمفارقة، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.
إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والإلتجاء إلى قمم الجبال.
ومن المسائل التي أثرت تأثيراً روحياً شديداً، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال: كنت يوماً جالساً في سوق المدينة وأنا مغموم، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها: إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا، فتغير حالي وقلت: الويل لي، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!
خلاصة الأمر: إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام، إلاّ أنّهم لا يكلمونهم قط، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الإنتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم، لكن دون جدوى
في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال: إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا، فلماذا لا يعتزل كل منا صاحبه، صحيح أنّنا مذنبون جميعاً، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضاً، ولم بتكلموا بكلمة واحدة، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيراً ... وبعد خمسين يوماً من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(1).
(1) مجمع البيان، وسفينة البحار، وتفسير أبي الفتوح الرازي.
تتحدّث هذه الآيات أيضاً عن غزوة تبوك، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير، وما جرى خلاله.
فتشير الآية الأُولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة، وتقول: (لقد تاب الله على النّبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة).
ثمّ تُبيّن أن شمول هذه الرحمة الإِلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والإِضطرابات إِلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول: (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم). ثمّ توكّد مرّة أُخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم، فتقول: (ثمّ تاب عليهم إِنّه بهم رؤوف رحيم).
ولم تشمل الرحمة الإِلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا).
إِلاّ أنّ اللطف الإِلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة، بل عندما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعةً اجتماعية شديدة، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية، فتقول: (حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت).
بل إِنّ صدور هؤلاء امتلأت همّاً وغمّاً بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود، فكأنّه ضاق عليهم (وضاقت عليهم أنفسهم) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.
عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا (وظنوا أن لا ملجأ من الله
إِلاّ إِليه) فأدركتهم رحمة الله مرّة أُخرى، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية، والرجوع إِلى طريق الصواب ليتوبوا: (ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إِنّ الله هو التواب الرحيم).
* * *
وهنا بحوث نلفت النظر إِليها:
قرأنا في الآية الأُولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمهاجرين والأنصار، وقَبِل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته، وإِن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أحداث تبوك.
إِلاّ أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إِلى عدم صحة هذا التّفسير، لأن:
أوّلا: إِن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم). ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإِرشاد إِلى سنن الماضين القيمة المفيدة، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.
ثانياً: لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة: رجع عليه بفضله
وقبوله:
ثالثاً: إِنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإِلهية تعم الجميع، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد، بل هي الرحمة الإِلهية الخاصّة التي أدركت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.
«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني، سواء كان قصيراً أم طويلا، ولا يقال للزمن الطويل جداً: ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.
إِن تاريخ الاسلام يُبيّن أنّ المسلمين لم يعانوامثل ماعانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة، لأنّ المسير إِلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.
ومن جهة أُخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.
وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار، ولابدّ من جمع ما على الاشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.
وإِذا تجاوزنا جميع ذلك، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.
والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إِمبراطورية الروم الشرقية، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.
إِضافةً إِلى ما مرّ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إِلى الحد الذي قد يضطر أحياناً عشرة أشخاص إِلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل، وكانوا مضطرين إِلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية ...
أمّا من ناحية الطعام والشراب، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.
بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحياناً، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إِلى النواة ... وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء !!
لكن، ورغم كل هذه الأوضاع، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات، فإنّهم توجهوا برفقة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نحو العدو، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون، درساً كبيراً خالداً في ذاكرة الزمن ... درساً كافياً لكل الأجيال، وطريقاً للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ...
ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم بـ(من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.
لكن، وكما رأينا، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين، ولطف الله سبحانه بهم، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.
لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين بـ(خُلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره، وذلك لأن المسلمين عندما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد، فإنّهم لا يعبؤون به، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إِلى جبهات الجهاد.
أو لأنّ هؤلاء عندما حضروا عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم، وأخّر قبول توبتهم.
من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الإِجتماعي وقطع الروابط والعلاقات، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.
إِنّ هذا الأُسلوب قد أثر في المجتمع الإِسلامي آنذاك تأثيراً قوياً جدّاً، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرأوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.
إِنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إِلى متاعب وميزانية السجون، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون، إلاّ أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن، فهو نوع من الإِضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الإِجتماعية الحساسة، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعاً، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.
أمّا روح المجاملة والمساومة والإِستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإِسلامية كمرض عضال، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.
منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إِليها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزواته، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.
إِنّ انتشار الإِسلام السريع في جزيرة العرب كان سبباً في أن يدوي صوت
الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم، فلما بزغ فجر الإِسلام، وظهرت قوّة جيش النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.
إِنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإِسلام السريع، لذلك فقد جهزت جيشاً قوامه أربعون ألف مقاتل، وكان مجهزاً بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم، واستقر الجيش في حدود الحجاز، فوصل الخبر إِلى مسامع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق المسافرين، فأراد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقن الروم وباقي جيرانه درساً يكون لهم عبرة. فلم يتأخر عن إِصدار أمره بالتهيؤ والإِستعداد للجهاد، وبعث الرسل الى المناطق الأُخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفاً لقتال الروميين، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.
كان الهواء شديد الحّر، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعدُ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّاً، إلاّ أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.
إِنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الإِقتصادية، والمسير الطويل، والرياح السَموم المحرقة، وعواصف الرمال الكاسحة، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل، قد عرف بـ (جيش العسرة)، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل، ووصل إِلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد خلف علياً(عليه السلام) مكانه، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أميرالمؤمنين(عليه السلام).
إِن قيام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامة علي(عليه السلام) مكانه كان عملا ضرورياً وفي محله، فإنّه
كان من المحتمل جداً أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الإِشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الطويلة، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة، إِلاّ أنّ وجود علي(عليه السلام) كان سدّاً منيعاً في وجه مؤامراتهم وخططهم.
وعلى كل حال، فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما وصل إِلى تبوك لم ير أثراً لجيوش الروم، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإِسلامي العظيم، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إِلى داخل بلادهم، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة، شائعة لا أساس لها، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية، فخافوا من ذلك.
إِلاّ أنّ حضور جنود الإِسلام إِلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس:
أولا: إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإِسلام، كانت قوية إِلى الدرجة التي لا يخافون معها من الإِشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.
ثانياً: إِنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمضوا عهوداً بعدم التعرض للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومحاربته، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية، وأمنوا خطرهم.
ثالثاً: إِنّ إِشعاع الإِسلام وأمواجه قد نفذت إِلى داخل حدود إِمبراطورية الروم، ودوّى صدى الإِسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإِسلام والإِيمان به.
رابعاً: إِنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق، وتحملهم لهذه الصعاب، قد عبّدوا
الطريق لفتح الشام في المستقبل، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.
وهكذا، فانّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.
وعلى كل حال، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الإِستمرار في التقدم أو الرجوع، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإِسلامية، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق، وضعفت مقاومتهم الجسمية، فأقر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إِلى المدينة.
* * *
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ كُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ(119)
في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله، وأظهروا عملياً تكذيبهم للإِيمان بالله واليوم الآخر، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إِلى حظيرة الإِيمان بمقاطعتهم، ونبّهوههم على خطئهم.
أمّا هذه الآية فقد أشارت إِلى النقطة المقابلة لهؤلاء، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.
في البداية تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت: (وكونوا مع الصادقين).
وقد إحتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين، ومن هم؟ إِلاّ أنّنا إِذا أردنا اختصار الطريق، يجب أن نرجع إِلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.
فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (177): (ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيين وأتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إِذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أُولئك الذين صدقوا وأُولئك هم المتقون).
فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإِيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء، ثمّ الإِنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين، وإِقامة الصلاة، وإِيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والإِستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول: إِنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.
وعلى هذا، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي،
وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقراً: (إِنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون) فإنّ هذه الآية أيضاً تُعرِّف الصدق بأنّه مجموع الإِيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.
ونقراً في الآية (8) من سورة الحشر: (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أُولئك هم الصادقون) فهذه الآية عَرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).
من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة، وهي أنّ الصادقين هم الذين
يؤدون تعهداتهم أمام الإِيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات، بل يُثبتون صدق إِيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.
ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات، فقد يكون البعض في قمتها، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.
بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين - كما ذكرنا سابقاً ـ مفهوم واسع، إلاّ أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.
يروي سليم بن قيس الهلالي: إِنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) كان له يوماً كلام مع جمع من المسلمين، ومن جملة ما قال: «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). فقال سلمان: يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أُمروا بذلك، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إِلى يوم القيامة»؟ قالوا: اللّهم نعم(1).
ويروي نافع عن عبدالله بن عمر: إِنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال: (كونوا مع الصّادقين)يعني مع محمّد وأهل بيته(2).
وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا: مع محمّد وأصحابه، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان، وصحابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا في زمن خاص، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبدالله بن عمر هي الأصح.
ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة، وقال: إِنّ
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 170.
(2) المصدر السّابق.
موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس، يروي في ذيل هذه الآية: هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول: أورد ذلك أيضاً عبدالرزاق في كتاب رموز الكنوز(1).
أمّا المطلب الأهم، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى، ثمّ بالكون مع الصادقين، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّاً وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين، لكان اللازم أن يقال: وكونوا من الصادقين، لا مع الصادقين. (فتأمل جيداً).
إِنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.
ومن جهة أُخرى، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإِنسان مجالساً ومعاشراً لهم، بل المراد قطعاً هو اتباعهم والسير في خطاهم.
إِذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟
وعلى هذا، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إِذا دققنا النظر فيها.
إِن الملفت للنظر هنا، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإِن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول: إِنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الإِقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته، وسيكون هذا الأمر في كل زمان، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
إِلاّ أنّه يضيف بعد ذلك: إِنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت، إلاّ أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأُمّة، لا أنّه فرد
(1) تفسير البرهان، ج 2، ص 170.
واحد! وبتعبير آخر: إِنّ هذه الآية دليل على حجية إِجماع المؤمنين، وعدم خطأ مجموع الأُمّة(1).
وبهذا الترتيب، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيداً، إلاّ أنّه زاغ في النصف الثّاني، ولو أنّه التفت إِلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضاً بسلامة، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأُمّة، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإِمام، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي، والتابعين غير المتبوعين، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).
ونتيجة ذلك: إِنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.
ويبقى سؤال أخير، وهو أنّ الصادقين جمع، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟
والجواب على هذا السؤال واضح أيضاً، وهو أنّ الخطاب ليس مختصاً بأهل زمن وعصر معين، بل إِنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم، فإنّنا إِذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإِعتبار، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.
والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أحد تجب طاعته غير شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.
* * *
(1) تفسير الفخر الرازي، ج 16، ص 220 ـ 221.
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَ لاَيَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَيُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَلِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ(120)وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَيَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(121)
كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الإِشتراك في غزوة تبوك، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.
فالآية الأُولى تقول: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) لأنّه قائد الأُمّة، ورسول الله، ورمز
بقاء وحياة الأُمّة الإِسلامية، وإِن تركه وحيداً لا يعرض حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)للخطر فحسب، بل يعرّض دين الله، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضاً أمام الخطر الجدي.
إِنّ القرآن ـ في الواقع ـ يرغّب كل المؤمنين بملازمة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحمايته والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير العاطفي، فهو يقول: إِنّ أرواحكم ليست بأعزّ من روح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحياتكم ليست بأفضل من حياته، فهل يسمح لكم إِيمانكم أن تدعو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه الخطر وهو أفضل وأعز موجود إِنساني، وقد بُعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون التضحية في سبيله حفاظاً على أرواحكم وسلامتكم؟!
من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إِنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإِسلام يومئذ ومركزه المشع، وإِلاّ فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها، وغير مختص بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ واجب كل المسلمين، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم، بل أكثر، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأُمّة جميعاً.
ثمّ تشير الآية إِلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها، فتقول: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظماً
ولا نصب
ولا مخمصة في سبيل الله
ولا يطؤؤن موطئاً يغيظ الكفار
ولا ينالون من عدو نيلا
إِلاّ كتب لهم به عمل صالح)، ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله
سبحانه، واحدة بواحدة، فـ(إِنّ الله لا يضيع أجر المحسنين). وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئاً في امر الجهاد:
(ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ولا يقطعون أرضاً في ذهابهم للوصول إِلى ميدان القتال، أو عند رجوعهم منه إلاّ ثبت كل ذلك في كتبهم:
(ولا يقطعون وادياً إلاّ كتب لهم) وإِنّما يثبت ذلك (ليجزيهم الله أحسن ماكانوا يعملون).
وهنا يجب الإِنتباه لمسائل:
1 ـ إِنّ جملة (لا ينالون من عدوّ نيلا) قد فسّرها أغلب المفسّرين كما ذكر اعلاه، وقالوا: إِنّ المقصود هو أن المجاهدين في سبيل الله لا يتلقون ضربة من قبل العدو، سواء جُرحوا بها أو قُتلوا أو أُسروا وأمثال ذلك، إلاّ وتُسَجَّل في صحائف أعمالهم ليُجزَوا عليها، ومقابل كل تعب وصعوبة مايناسبها من الأجر، ومن الطبيعي أننا إِذا لاحظنا أنّ الآية في مقام ذكر المصاعب وحسابها، فإن ذلك ممّا يناسب هذا المعنى.
إِلاّ أنّنا إِذا أردنا أن نفسر هذه العبارة بملاحظة ترتيب الفقرات وموقع هذه الجملة منها، وما يناسبها لغوياً، فإنّ معنى الجملة يكون: إِنّهم لا يُنزلون بالعدو ضربة إلاّ كتبت لهم، لأنّ معنى (نال من عدوه) في اللغة: ضربه، إلاّ أن النظر إِلى مجموع الآية يرجح التّفسير الأوّل.
![]() |
![]() |
![]() |