![]() |
![]() |
![]() |
وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مَرَّت بصورة جديدة، وتأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ الناس: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ) فهي تشير إِلى أن لا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه، بل إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين يعلمون به إِضافةً إِلى علم الله عزَّوجلّ.
إِنَّ الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات، فإنّ الإِنسان ـ عادة ـ إِذا أحسّ بأنّ أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته، فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفاً لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه، فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!
إِنَّ هذا الإِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
* * *
إِنّ بين أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام)، عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) يطلعون على أعمال كل الأُمّة، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.
إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، وربّما بلغت حدّ التواتر، وننقل هنا أقساماً منها كنماذج:
روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عزَّوجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله)وسكت(1).
وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر(عليه السلام): «إِنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(2).
وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي، فاستعظمت ذلك، فقال لي، «أمّا تقرأ كتاب الله عزَّوجَلّ: (وقل
(1) أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.
(2) تفسير البرهان، ج2، ص 158.
اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، هو والله علي بن أبي طالب»(1).
إِنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، وفي بعضها علي(عليه السلام)، وفي بعضها الآخر ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس، وبعضها جعله كل يوم، وبعضها في الأسبوع مرّتين، وبعضها في أوّل كل شهر، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.
ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة، تماماً كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّرو العامّة، وهو أنّ الآية تشير إِلى أمر طبيعي، وهو أنّ الإِنسان إِذا عمل أي عمل، فإنّه سيظهر، شاء أم أبي، ومضافاً إِلى علم الله سبحانه، فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال: الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية، وذلك:
أوّلا: إِنّ الآية مطلقة، وهي تشمل جميع الأعمال، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالباً، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضاً تُعمل في السرّ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال، الصالحة منها والطالحة، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون
(1) أصول الكافي، ج1، ص 171، باب عرض الأعمال.
عن طريق غير طبيعي، بل عن طريق التعليم الإِلهي.
ثانياً: إِنّ آخر الآية يقول: (فينبئكم بما كنتم تعملون) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضاً كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.
وبتعبير آخر، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال، فهنا مرحلتان: إِحداهما: مرحلة الإِطلاع والعلم، والأُخرى: مرحلة الجزاء، والموضوع واحد في المرحلتين.
ثالثاً: إِنّ ضميمة المؤمنين في الآية إِلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية، وإِلاّ فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء، ومن هنا تتّضح مسألة أُخرى بصورة ضمنية، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضاً ـ ليس جميع المؤمنين، بل فئة خاصّة منهم، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى، ونعني بهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الحقيقيين.
والمسألة الأُخرى التي يجب الإِنتباه لها هنا، وهي ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإنّي إِذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي، وبالإِضافة إِلى ذلك فإنّ نبيي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّتي(عليهم السلام)يطلعون على كل أعمالي، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم، أو في كل أسبوع، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن، تماماً كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريراً يومياً أو أسبوعياً، تسجل فيه جزئيات أعمالهم، يُرفع إِلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.
المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى: (فسيرى الله عملكم...) تعني المعرفة، لا العلم، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.
لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي، وهو مشاهدة المحسوسات، لا بمعنى العلم، ولا بمعنى المعرفة، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.
وأمّا بالنسبة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، فلا مانع من ذلك أيضاً، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإِنسان لا تفنى، بل تبقى إِلى يوم القيامة.
3 ـ لا شك أنّ الله عزَّوجَلّ يعلم بالأعمال قبل وقوعها، والذي في جملة: (فسيرى الله) إِشارة إِلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.
* * *
وَءَاخَرُون مُرْجَوْنَ لاِمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قال جماعة من المفسّرين: إِنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك، وهم: «هلال بن أُمية» و«مرارة بن ربيع» و«كعب بن مالك»، وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (118) من هذه السورة، إن شاء الله تعالى.
ويستفاده من بعض الرّوايات الأُخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإِسلامية الكبرى ـ كحمزة سيد الشهداء ـ في ساحات الحروب، ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإِسلام.
في هذه الآية إِشارة إِلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيداً عاقبة أمرهم، فلا هم مستحقون حتماً للرحمة الإِلهية، ولا من المغضوب عليهم حتماً، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم: (وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم أو
يتوب عليهم).
«مرجون» مأخوذ من مادة (إِرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئاً ما أحياناً رجاء تحقق هدف من هذا التأخير، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير، إلاّ أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.
إِنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإِيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يُكتبون من الأشقياء، بل يوكل أمرهم إِلى اللطف الإِلهي كيف سيعامل هؤلاء، وهذا طبعاً حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.
وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب، بل يقتضي بعلمه وحكمته: (والله عليم حكيم).
سؤال:
وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية، وهو ما الفرق بين هذه الفئة، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (102) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين، وكلا المجموعتين تابوا، لأنّ المجموعة الأُولى اعترفوا بذنوبهم، وأظهروا الندم عليها، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى: (وإمّا يتوب عليهم). وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإِلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.
وللجواب على هذا السؤال نقول: إِنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين:
1 ـ إِنّ الطائفة الأُولى تابوا بسرعة، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد، وبعبارة موجزة: إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم
صريحاً، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.
أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم، ولم يُظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم، فهم في الواقع كانوا يطمحون إِلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر.
إنّ هؤلاء ـ ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أُشير إِليهم، وسيأتي بيان وضعهم ـ بقوا في حالة الخوف والرجاء، ولهذا نرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية، فقد بقي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في انتظار الوحي، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوماً أو أقل.
ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأُولى قد ختمت بقوله: (إِن الله غفور رحيم) وهو دليل على قبول توبتهم، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة: (والله عليم حكيم) التي لا تدل من قريب أوبعيد على قبول توبتهم.
ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافياً لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة، خاصّة في عصر نزول الآيات، بل يشترط مع ذلك الإِقدام على الإِعتراف الصريح بالذنب، والإِستعداد لتحمل كفارته وعقوبته، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة.
2 ـ الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين، هو أنّ الطائفة الأُولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إِلى الأعداء، إلاّ أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله
لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإِرادته، إِمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم.
وعلى أي حال، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إِلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما(1).
ولو دققنا النظر حقاً لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين، ويمكن أن يكون كل منهما مقصوداً في تفسير الآية.
* * *
(1) للإِطلاع على هذه الرّوايات، راجع تفسير نور الثقلين، ج2، ص 265، وتفسير البرهان، ج2، ص 106.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وَإِرصَاداً لِمَنْ حَارِبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَآ إِلاََّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيـنَهُ عَلَى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوَن خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَـنَهُ عَلى شَفَا جُرُف هَار فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْظَّـلِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَـنُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أُخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة، عرف فيما بعد بـ (مسجد الضرار).
وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإِسلاميين، وكثير من كتب التاريخ والحديث، مع وجود اختلافات في جزئياته.
وخلاصة القضية ـ كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة ـ أنّ جماعة من المنافقين أتوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم ـ قرب مسجد قبا ـ حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة، ويؤدوا فرائضهم الإِسلامية، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عازماً على التوجه إِلى تبوك.
فأذن لهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّهم لم يكتفوا بذلك، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.
فلمّا رجع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه، وأن يدعوا الله لهم بالبركة، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل بعد أبواب المدينة، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور، وبهدم بقاياه، وأن يُجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.
إِذا نظرنا إِلى الوجه الظاهري لهذا العمل، فسوف نتحير في البداية، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إِنسانية، يعدّ عملا مضراً وسيئاً حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟ إلاّ أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.
وتوضيح ذلك، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له: أبو عامر، كان قد اعتنق النصرانية، وسلك مسلك الرهبانية، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في
طائفة الخزرج.
وعندما هاجر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر، رأى أبو عامر ـ الذي كان يوماً من المبشرين بظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أنّ الناس قد انفضوا من حوله، وبقي وحيداً، وعند ذلك قرر محاربة الإِسلام، فهرب من المدينة إِلى كفار مكّة، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءاً من مخططات معركة أحد، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أحدها فجرحت جبهته وكُسرت رباعيته.
فلمّا إنتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب، دوى صوت الإِسلام أكثر من ذي قبل، وعمّ كل الأرجاء، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إِلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليرجع إِلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.
ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة، وهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقاً).
يقول البعض: إنّ الموت لم يمهله حتى يُطلع هرقل على نواياه ومشاريعه، إلاّ أنّ البعض الآخر يقول: إِنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!
على كل حال، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إِلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزاً ومقرّاً في المدينة ليكون منطلقاً لنشاطات المستقبل.
ولما كان بناء مثل هذا المقر، وباسم أعداء الإِسلام غير ممكن عملياً، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.
وأخيراً تمّ بناء المسجد، ويقال أنّهم اختاروا شاباً عارفاً بالقرآن من بين
المسلمين يقال له: «مجمع بن حارثة» أو «مجمع بن جارية» وأوكلوا له إمامة المسجد.
إِلاّ أنّ الوحي الإِلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء، وربّما لم يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بشيء قبل ذهابه إِلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة، ولئلا ينشغل فكرياً وهو في مسيرة إِلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.
وكيف كان، فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب، بل إنّه ـ كما قلنا ـ أمر بعض المسلمين ـ وهم مالك بن دخشم، ومعنى بن عدي، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي ـ أن يحرقوا المسجد ويهدموه، فنفذ هؤلاء ما أُمروا به، فعمدوا إِلى سقف المسجد فحرّقوه، ثمّ هدموا الجدران، وأخيراً حولوه إِلى محل لجمع الفضلات والقاذورات(1).
أشارت الآيات السابقة إِلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين، وتُعَرِّف الآيات التي نبحثها مجموعة أُخرى منهم، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية، إلاّ أن اللطف الإِلهي أدرك المسلمين، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.
فالآية الأُولى تقول: (والذين اتخذوا مسجداً)(2) وأخفوا أهدافهم الشريرة(1) مجمع البيان، وتفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير المنار، وتفسير الميزان، وتفسير نور الثقلين، وكتب أُخرى.
(2) بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة، إلاّ أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين، وتقديرها هكذا: «ومنهم الذين اتخذوا مسجداً...».
تحت هذا الإسم المقدس، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف:
1 ـ إِنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إِلحاق الضرر بالمسلمين، فكان مسجدهم (ضراراً).
«الضرار» تعني الإضرار العمدي، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إِلى المكيدة بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته، وسحق المسلمين، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.
2 ـ تقوية أُسس الكفر، ومحاولة إِرجاع الناس إِلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإِسلام: (وكفراً).
3 ـ إِيجاد الفرقة بين المسلمين، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريباً منه، أو مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي كان يبعد عنه، (وتفريقاً بين المؤمنين).
ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسّرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الإِجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إِلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإِسلامية.
4 ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق، السيئة، والإِنطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم: (وإِرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل).
إِلاّ أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة
والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع، وأنّهم لايريدون إلاّ الخير: (وليحلفن إِن أردنا إلاّ الحسنى) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور، فإنّهم إضافة إِلى تلبسهم بلباس حسن، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام، وإنحراف الأفكار.
إِلاّ أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء: (والله يشهد إِنّهم لكاذبون).
في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء، فهي جملة اسمية أوّلا، ثمّ إنّ كلمة (إِن) للتأكيد، وأيضاً اللام في (لكاذبون)، والتي تسمى لام الإِبتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.
يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيداً شديداً على مسألة حياتية مهمّة، ويأمر نبيّه بصراحة أن (لا تقم فيه أبداً) بل (لمسجد أُسس على التقوى من أوّل يوم أحق أن تقوم فيه) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.
إِنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل، إلاّ أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه، والملاءمة وعدمها، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيراً في آيات القرآن الكريم والأحاديث، بل وفي محادثاتنا اليومية، وله نماذج عديدة.
فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق: إنّ الإستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن، وأن الإِستقامة والطهارة أحسن، بل معناه أن الإِستقامة وحسن السيرة شيء حسن،
وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.
وقال المفسّرون: إِنّ المسجد الذي أشارت الآية إِلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو «مسجد قبا» حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.
واحتُمل أيضاً أن يكون المقصود منه مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى، إلاّ أنّنا لاحظنا تعبير (أوّل يوم) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة(1)، علمنا أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضاً مساجد أُخرى كمسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإِضافة إِلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى، فإنّ(فيه رجال يحبّون أن يتطهروا والله يحبّ المطهرين).
ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية، أم المعنوية؟
هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و(مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لأهل قبا: «ماذا تفعلون في طهركم، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟» قالوا: نغسل أثر الغائط.
وقد نقلت روايات أُخرى بهذا المضمون عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام)، لكن ـ كما قلنا سابقاً وأشرنا مراراً ـ مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق، بل ـ وكما يشير ظاهر إطلاق الآية ـ أنّ للطهارة هنا معنى واسعاً يشمل كل أنواع التطهير، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.
وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين: المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلا: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله
(1) الكامل لابن الأثير، ج2، ص 107.
ورضوان خير أم من أسس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم).
«بنيان» مصدر بمعنى اسم مفعول، ويعني المبنى، و(شفا) بمعنى حافة الشيء وطرفه، و(جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها. و(هار) بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط، أو هو في حال السقوط.
إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء، فإنّه ينتخب الأرض الجيدة القوية التي تتحمل البناء، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيداً.
أمّا المنافقون فإنّه يشبّههم بمن يبني بيته على حافة النهر ـ ومثل هذه الأرض جوفاء ـ لأن جريان الماء قد نخرها، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة، وكذلك النفاق، فإنّ ظاهره حسن لكنّه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات الأساس النخر.
إنّ هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة، ومذهب أهل النفاق أيضاً يمكن أن يُظهر واقع أتباعه وباطنهم، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.
إنّ التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع، والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.
أمّا النفاق فإنّه يعني الإنفصال عن الواقع والإِبتعاد عن قوانين الوجود، وهذا بلا شك هو عامل الزوال والفناء.
ومن هنا، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضاً ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين). وكما قلنا مراراً، فإنّ الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إِلى الغاية، وهي تشمل ـ فقط ـ أُولئك الذين لديهم الإِستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها، أمّا الظالمون الفاقدون لمثل هذا الإِستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقاً، لأنّ الله حكيم، ومشيئته وإِرادته
وفق حساب دقيق.
وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم، وعنادهم في نفاقهم، وحيرتهم في ظلمة كفرهم، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه، أو في النتيجة المرجوة منه، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلاّ أن تقطع قلوبهم).
إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والإِضطراب، وإن مقر النفاق الذي أقاموه، والمسجد الضرار الذي بنوه، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء، فبالرغم من أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أحرق هذا البناء وهدمه، إلاّ أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب.
وتقول الآية أخيراً: (والله عليم حكيم) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهراً، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإِلهي هو عين الحكمة، وحسب صلاح المجتمع الإِسلامي، وقد صدر على هذا الأساس، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.
* * *
إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوضحان تماماً بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقاً، وأن لا يكتفوا بالنظر إِلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر البراق.
المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.
إنّ الإِستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئاً جديداً، بل هو طريق الإِستعمار وأُسلوبه على الدوام، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأُسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.
وأساساً فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.
ومن البديهي أنّ محاربة الإِسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة، وذلك في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك النفوذ الخارق للإِسلام والقرآن، أمر غير ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.
إلاّ أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحياً إِلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق القرائن الأُخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.
المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة.
المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إِليه، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعاراً دينياً، أو يتعهد بالإِنضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إِلى كل بناء يشيد باسم الدين.
![]() |
![]() |
![]() |