وهي إِشارة إِلى أنّ الصفوف قد أمتازت بشكل تام، والدعوة للإِيمان والإِصلاح غير مجدية، فلابدّ إِذاً من الإِستعداد لتصفية والتحول النهائي.

وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح(عليه السلام) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ونستفيد من هذه الآية ـ ضمناً ـ أنّ الله يطلع نبيّه نوحاً على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لَنْ يؤمن بدعوته في المستقبل غير أُولئك الذين آمنوا به من قبل، وعلى كل حال لابدّ من انزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم، وهكذا صدر الامر بإغراقهم، ولكن لابدّ لكل شيء من سبب، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضاً.

وجاء الأمر لنوح أن (... اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).

إِنّ المقصود من كلمة «أعيننا» إِشارة إِلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآى ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال.

وطبيعي أنّ هذا الإِحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإِنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.

كما يستفاد من كلمة «وحينا» أيضاً أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحاً(عليه السلام) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإِنّما هو وحي الله الذي يعينه في

[526]

انتخاب أحسن الكيفيات.

وفي نهاية الآية ينذر الله نوحاً أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإِن الغرق قد كتب عليهم حتماً (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).

هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص، بل للشفاعة شروطها، فإِذا لم تتوفر في أحد الاشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).

أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد ـ ولو لحظة واحدة ـ في دعوة النّبي نوح(عليه السلام) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإِصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي الله» فتكون مسأله العذاب والطوفان حتمية !! إلاّ أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أُخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إِن تسخروا منّا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).

«الملأ» والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!! ومضافاً بل حتى أفكارهم وإِن كانت سامية، ومذهبهم وإن كان ثابتاً وراسخاً، وأعمالهم وإِن كانت عظيمة وجليلة .. كل ذلك في حساب «الملأ» حقير تافه..! ولذلك لم ينفعهم الإِنذار والنصيحة. فلابدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم

يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعاً من السخرية والإِستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الإِستهزاء!

فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر!

[527]

ومنهم من يقول: حسناً تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحراً، أرأيت إِنساناً عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول: واهاً لهذه السفينة العظيمة، كان بإِمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إِلى البحر.

كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عالياً، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح واصحابه وقلّة عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بِكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحاً!!

ولكن نوحاً كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإِيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإِنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوماً بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهياً لذلك اليوم العظيم، وكان نوح(عليه السلام) أحياناً يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة (قال إِن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون).

ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ماتصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.

(فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) إِشارة إِلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانياً، وهذان الأمران معاً لا يقبلان القياس.

* * *

[528]

ملاحظات

1 ـ التصفية لا الإِنتقام

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ عذاب الله يفتقد جنبة الإنتقام، لأنّه عبارة عن تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة، وليبقى الصالحون من بعدهم.. إِنّ مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإِيمانهم، ولا حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق، وهكذا كان قوم نوح لأنّ الآيات السابقة تبيّن له أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع «الفلك» (ولا تخاطبني في الذين ظلموا).

وهذا الموضوع يبدو جلياً في دعاء هذا النّبي على قومه، فنحن نقرأ في سورة نوح(عليه السلام) (قال ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفاراً).

وأساساً فإِنّ لكل موجود هدفاً في نظام الخلقة، وحين ينحرف هذا الموجود عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإِصلاح، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى، ولا بد من أن يزول شاء أم أبى، وكا يقول الشاعر:

لا نضرةٌ عندي ولا ورق ولا وردٌ ولا ثمرٌ ففيم بقائي

2 ـ علائم المستكبرين:

إِنّ المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغابتهم وميولهم ومنافعهم إِلى لعب واستهزاء. ولهذا السبب فإِنّ الإِستهزاء بالحقائق ـ ولا سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين ـ يشكل جزءاً من حياتهم .. فكثيراً ما نجدهم من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقاً وجمالا يبحثون عن مؤمن خالي اليد ليسخروا منه ويستهزئوا به.

وإذا اتفق أنّ أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحداً من

[529]

المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون!.. إِنّهم يتصورون أنفسهم بأنّهم العقل المطلق، ويظنون أنّ الثروة العظيمة ـ والتي هي من الحرام ـ دليل على شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم! وأنّ الآخرين فاقدو الشخصية ولا قيمة لهم وغير لائقين!

ولكن القرآن المجيد يوجه أشدّ هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين المتكبرين، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!

نقرأ في التاريخ الإِسلامي ـ على سبيل المثال ـ أن «أبا عقيل الأنصاري» هذا العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار «المدينة» إِلى البيوت ويستوفي أجره بتميرات، ثمّ يأتي بهذه التُميرات إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في عزوة «تبوك» على أنّها مساعدة لجيش الإِسلام، فيلتفت المنافقون المستكبرون ويسخرون منه، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).

3 ـ سفينة نُوح:

لا شكّ أنّ سفينة نوح لَم تكنْ سفينة عاديَّة ولم تنتهِ بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته، إِذْ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإِضافة إِلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً يكفي للمدّة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة بهذا الججم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمرَّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.

[530]

لذلك تقول بعض روايات المفسّرين: إِنّ طول السفينة كان ألفاً ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع «كل ذراع يعادل نصف متر تقريباً».

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّاً بالعقم وعدم الإِنجاب، وكان ذلك مقدمةً لعذابهم وعقابهم.

* * *

[531]

الآيات

حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنَّورُ قَلْنَا احْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ أَمَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ(40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْراهَا وَمُرْسَهَآ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(41) وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْج كَالْجِبَالِ وَنَادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِل يَبُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ(42) قَالَ سَأَوِى إِلَى جَبَل يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ  لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)

التّفسير

شروع الطّوفان:

رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوح(عليه السلام) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين

[532]

الكفرة.

والآيات ـ محل البحث ـ تتعرض لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟

وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فتبيّنه بهذا التعبير (حتى إِذا جاء أمرنا وفار التنّور)

التَنّوُر: بتشديد النون، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجيناً.

لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟

إختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك..

قال بعضهم: كان العلامة بين نوح وربّه لحلول الطوفان أن يفور التنّور، ليلتفت نوح وأصحابه إِلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.

وقال جماعة آخرون: إِنّ كلمة «التنور» استعملت هنا مجازاً وكنايةً عن غضب الله، ويعني أن غضب الله اشتدّت شعلته وفار، فهو إشارة الى اقتراب حلول العذاب المدمّر، وهذا التعبير مطرّد حيث يشبّهون شدّة الغضب بالفورة والإِشتعال!

ولكن يبدو أنّ احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى، والمراد بالتنّور ليس تنّوراً خاصّاً، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة، وهي أن حين فار التنّور بالماء ـ وهو محل النّار عادةً ـ التفت نوح(عليه السلام) وأصحابه إِلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنّه حدثت المفاجأة، فأين «الماء من النّار»؟!

وبتعبير آخر: حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يُصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمراً مهمّاً قد حدث وأنّه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح(عليه السلام)وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.

ولَعَلّ قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم

[533]

يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إِنذارات نوح حقيقية.

في هذه الحالة بلغ الأمر الإِلهي نوحاً (وقلنا أحمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن).

لكنْ كم هم الذين آمنوا معه؟ (وما آمن معه إلاّ قليل).

هذه الآية تشير من جهة إِلى امرأة نوح وابنه كنعان ـ اللذين ستأتي قصتهما في الآيات المقبلة ـ وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإِيمان.

وتشير الآية من جهة أُخرى إِلى أنّ ثمرة جهاد نوح(عليه السلام) بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل!

بعض الرّوايات تقول أنّه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصاً فقط، وتشير بعض الرّوايات الأُخرى إِلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النّبي العظيم نوح(عليه السلام) من الصبر والإِستقامة «في درجة قصوى بحيث كان معدل مايبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريباً، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.

جمع نوح(عليه السلام) ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأوشك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة (وقال اركبوا فيه بسم الله مجراها ومرساها)(1).

لماذا؟! لكي يعلمهم أنّه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر الله تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره (إِنّ ربّي غفور رحيم).

فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من


(1) المجرى والمرسى: اسما زمان، ويعني الأوّل وقت التحرك، والثّاني وقت التوقف.

[534]

الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.

وأخيراً حانت اللحظة الحاسمة، إِذ صدر الأمر الإِلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنّها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة «مهولة ومرعبة جدّاً».

شرعَ المطر وتوالى مسرعاً منهمراً أكثر فأكثر، وكما يصفه القرآن في سورة القمر (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرضَ عيوناً فالتقى الماءُ على أمر قد قدر).

ومن جهة أُخرى إرتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان.

وهكذا إتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلاّ استوعبه الماء وصار بحراً محيطاً خضمّاً .. أمّا الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) فإنّ مصيرك الى الفناء إِذا لم تركب معنا.

لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أباً فحسب، بل كان مربيّاً لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن ـ للأسف ـ كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه.

لذلك فإِنّ هذا الولد اللجوج الاحمق، وظنّاً منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحاً و(قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ولكنّ نوحاً لم ييأس مرّة أُخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و(قال لا عاصم اليوم من أمر الله) ولا ينجو من هذا الغرق إلاّ من شمله لطف الله (إلاّ من رحم).

[535]

الجبل أمره سهل وهين، وكرة الأرض أمرها هين كذلك .. الشمس والمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرّة إِزاء قدرة الله الأزليّة.

أليس أعلى الجبال بالنسبة لكرة الأرض بمثابة نتوءات صغيرة على سطح برتقالة؟! أليست هذه الأرض التي ينبغي أن يتضاعف حجمها إِلى مليون ومئتي ألف مرّة حتى تبلغ حجم الشمس، وهذه الشمس التي تعدّ نجماً متوسطاً في السماء من بين ملايين الملايين من النجوم في متسع عالم الخلق، فأيّ خيال ساذج وفكر بليد يتوقع من الجبل أن يصنع شيئاً؟

وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح إبنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين).

* * *

بحوث

1 ـ هل كان طوفان نوح مستوعباً للعالم؟!

من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا أنّ الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون أُخرى، بل غطى كل سطح الأرض ، لأنّ كلمة «الأرض» ذكرت بصورة مطلقة، كما في الآية (26) من سورة نوح (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) كما في الآية (44) المقبلة من سورة هود (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي)وهكذا ذكر كثير من المؤرخين ـ أيضاً ـ أنّ طوفان نوح كان عالمياً، ولذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إِلى واحد من أبناء نوح الثلاثة «حام وسام ويافث» الذين بقوا بعده مدةً!

وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول، فلو لم تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولّد الحيوانات، فهي تنطبق على طوفان نوح.

[536]

وهذه النظرية موجودة أيضاً التاريخ الطبيعي للأرض، وهي أن محور الكرة الأرضية يتغير تدريجاً، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط الإِستواء ، ويحلّ خط الإِستواء محلّهما، وواضح أنّ الحرارة التي تكون في أعلى درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيراً من اليابسة، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة، وكل ذلك يبعث على كثرة السحب و الأمطار.

كما أنّ مسألة اختيار نوح(عليه السلام) من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملها معه على السفينه يؤيد كون الطوفان عالميّاً أيضاً، وإِذا عرفنا أنّ نوحاً كان يسكن الكوفة ـ كما تقول الرّوايات ـ وأن طرف الطوفان وحافته ـ طبقاً للرّوايات الأُخرى ـ كان في مكّة وبيت الله الحرام، فهذا نفسه أيضاً مؤيد «لعالميّة الطوفان».

ولكن مع هذه الحال، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض، لأنّ إِطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات القرآن، كما نقرأ في قصّة بني إِسرائيل (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها)(1).

وحمل الحيوانات في السفينة ربّما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من الأرض، خصوصاً أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمراً هيّناً «فتدبر»!

وهناك قرائن أُخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أنّ الطوفان لم يستوعب الكرة الأرضية كلّها.

وهناك مسألة تسترعي الإِنتباه ـ أيضاً ـ وهي أنّ طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها، وعادةً فإنّ وصول دعوة نوح في مثل زمانه إِلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد .. ولكن على كل حال


(1) الأعراف، 127.

[537]

فالهدف القرآني من بيان هذه القصّة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين، سواءً كان الطوفان عالمياً أو غير عالمي.

2 ـ هل تُقبل التوبة بعد نزول العذاب؟!

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ نوحاً(عليه السلام) استمر يدعو ولده حتى بعد شروع الطوفان، وهذا دليل على أنّه لو آمن ابنه «كنعان» لقُبل إِيمانه.

ويرد هنا سؤال وهو أنّه بالنظر إلى آيات القرآن الأُخرى والتي مرّت «نماذج» منها، تنصُّ على أنّ أبواب التوبة تغلق بعد نزول العذاب .. لأنّ المجرمين في هذه الحالة إِذ يرون العذاب محدقاً بهم فالغالبية منهم يتوبون عن اكراه واضطرار لرؤية العذاب بأعينهم، فعندئذ تكون توبتهم بلا محتوى وفاقدة للاعتبار.

ولكن بالتدقيق في الآيات السابقة يمكن الجواب على هذا السؤال، هو أنّ شروع الطوفان وما جرى في بداية الأمر، لم يكن علامة واضحة للعذاب، بل كان يُتصور أنّه مطر شديد لا مثيل له .. وعلى هذا فإِنّ ابن نوح حين قال لأبيه (سآوي إِلى جبل يعصمني من الماء) ظنّاً منه أنّ الطوفان والمطر كانا طبيعيين. ففي هذه الحالة لا يبعد أن تكون أبواب التوبة ما تزال مفتوحة،

ويمكن أن يرد سؤال آخر في شأن ابن نوح، وهو أنّه لِمَ نادى نوح ابنه دون سائر الناس في هذه اللحظة الحرجة؟!

ويمكن أن يكون الجواب أنّ نوحاً أدّى وظيفته في الدعوة العامّة للآخرين وبضمنها دعوته لولده، إلاّ أنّه كان يتحمل وظيفةً أصعب بالنسبة لولده، وهي وظيفة «الاُبوّة» إِلى جانب وظيفة «النّبوة» فلهذا السبب كان يؤكّد على أداء وظيفته بالنسبة لولده إِلى آخر لحظة.

والإِحتمال الآخر وكما يقول المفسّرون أنّ ابن نوح لم يكن في صفّ الكفار ولا في صف المؤمنين، بل كما يقول القرآن: (كان في معزل) فلأنّه لم يكن مع

[538]

المؤمنين فإنّه كان يستحق العقاب، ولأنّه لم يكن مع الكافرين فإِنّه كان يستحق أن يتوجه إِليه التبليغ واللطف والمحبّة بصورة أكثر.. أضف إِلى ذلك أن ابتعاده عن الكفار وكونه في معزل، كان يقوي أمل نوح في أن يندم ولده على الإِبتعاد عنه.

وهناك احتمال آخر، وهو أنّ ابن نوح لم يكن يخالف أباه بصراحة، بل كان منافقاً وكان يوافق أباه في الظاهر أحياناً، فلذلك طلب نوح من ربّه له النجاة.

وعلى كل حال فإِنّ الآية السابقة لا تنافي مضامين الآيات الأُخرى التي تشير إِلى انسداد أبواب التوبة حال نزول العذاب.

3 ـ دروس تربوية من طوفان نوح:

إِنّ هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل تربوية، وفي هذا القسم من قصّة نوح مسائل مهمّة جدّاً نشير إِلى قسم منها:

أ ـ تطهير وجه الأرض:

صحيح أنّ الله رحيم ودود، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّه حكيم أيضاً، فبمقتضى حكمته أنّه عندما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربيّن الإِلهيين في قوم فاسدين، فلا حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الإِجتماعية أو الطبيعية وتحت وطأة التنظيم الحياتي.

وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين، إِنما هو سنة الله في خلقه وعبادة في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر، وأي إشكال في أن تكون كلٌ من الحرب العالمية الأُولى والحرب العالمية الثّانية صورة من صُور «تطهير الأرض».

[539]

ب ـ لم كان العقاب أو الطوفان؟!

صحيح أن قوماً أو أُمّة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إِزالتهم فالنتيجة واحدة، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أنّ هناك تناسباً بين الذنوب وعقاب الله دائماً وأبداً.«فتدبر جيداً»

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في «نهر النيل» ومياهه كثير البركات، لكن الطريف أنّ هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.

وكان نمرود يعتمد على «جيشه» العظيم، لكننا نعلم أنّ جيشاً ـ لا يعتد به ـ من الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.

وكان قوم نوح أهل زراعة «وأنعام» وكانوا يجدون كل خيراتهم في «حبات المطر» لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضاً ..

ومن هنا يتّضح جلياً أنّ حساب الله في غاية الدقّة، ولو لاحظنا الطغاة العتاة في عصرنا وفي الحرب العالمية الأُولى والثّانية كيف أُبيدوا بأسلحتهم الحديثة والمتطورة لاتضح المعنى اكثر.

فلا ينبغي أن نعجب أنّ هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم .. أدت إِلى زوالهم.

ج ـ اسم الله على كل حال وفي كل مكان

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ نوحاً(عليه السلام) يوصي أصحابه أن لا ينسوا ذكر اسم الله في بداية حركة السفينة وعند توقفها، فكل شيء يتقوم باسمه وبذكره، وينبغي أن نستمد العون من ذاته القدسيّة، كل حركة وكل توقف، حال الهدوء وحال الإِعصار والطوفان، كل هذه الحالات ينبغي أن تبدأ باسمه، لأنّ كل عمل يبدأ دون ذكر اسمه فهو «أبتر ومقطوع»، وكما ورد عن نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف

[540]

«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(1) وليس ذكر الله من باب التشريف، بل هو هدف وغاية، فكل عمل ليس فيه هدف إِلهي فهو أبتر، لأنّ الأهداف المادية تتلاشى وتنتهي إلاّ الأهداف الإِلهية فهي غير قابلة للفناء، وحين تبلغ الأهداف المادية الذروة تنطفىء وتزول، إلاّ أنّ الأهداف الإِلهية خالدة وباقية كذاته المقدسة.

د ـ المرتكزات الجوفاء:

من الطبيعي أنّ كل أحد يعتمد في التغلّب على الصعاب ومواجهة المشاكل في حياته إِلى أمر ما، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال، وجماعة على المقام والمنصب، وجماعة يلجأون إِلى القدرة الجسمية، وآخرون إِلى أفكارهم.. ولكن ـ كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ ـ لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أدنى مقاومة أمام أمر الله وقدرته، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى أمام هبوب الرياح الشديدة.

فابن نوح(عليه السلام) لغروره وغفلته كان غارقاً في مثل هذا الوهم، وظن أنّ الجبل سيعصمه من طوفان غضب الله ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان المتلاطم كشفت سراب ظنّه وأنهت حياته.

من هنا نقرأ في بعض الأدعية «إِنّي هارب منك إِليك»(2) أي: لو كان هناك ملجأ أمام طوفان غضبك ياربّ، فهذا الملجأ هو ذاتك المقدسة والعودة إِليك لا إِلى سواك.


(1) سفينة البحار ص 663 الجزء الأول.

(2) دعاء أبي حمزة الثمالي.

[541]

هـ ـ سفينة النجاة:

لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة، وليس شرطاً أن تكون هذه السفينة من الخشب والحديد، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة ديناً يقوّم السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الإِنحراف الفكري، ويوصل أتباعه إِلى ساحل النجاة.

وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مصارد الشيعة والسنة تعبر عن أهل بيته ـ وهم الأئمّة الطاهرون وحملة الإِسلام ـ بأنّهم «سفينة النجاة».

يقول حنش بن المغيرة وأبوذرٍّ آخذُ بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أنا أبوذر الغفاري، من لم يعرفني فأنا جُندب صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا»(1).

وفي بعض الرّوايات أضيف إليها هذا النص «ومن تخلف عنها غرق»(2) أو «من تخلف عنها هلك»(3).

هذا الحديث الشريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يبيّن بصراحة أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والإِجتماعي في المجتمع الإِسلامي، فإِنّ طريق النجاة الوحيد هو الإِلتجاء إِلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) دون المذهب التي اصطنعتها السلطات السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيت(عليهم السلام).

* * *


(1) عيون الأخبار، ج 1، ص 211.

(2) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني، صفحة 30 مخطوط.

(3) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي، الجزء التاسع من أحقاف الحق، ص280 لمزيد الإِيضاح جديدة.

[542]

الآية

وَقِيلَ يَأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَاسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِىَ االأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّلِمِينَ(44)

التّفسير

نهاية الحادث:

قرأنا في الآيات السابقة ـ إِجمالا ـ أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجاً، أمّا المجرمون الجهلة فظناً منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إِلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضاً وخفي تحت الماء كل شيء، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.

وكان نوح(عليه السلام) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماماً (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب

[543]

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطاً متعددة من الأرض، وطبقاً لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيراً صدر الأمر الإِلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إِلى حالتها الطبيعية، والآية ـ محل البحث ـ تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّاً، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة، وقد جاءت الآية في جمل ست:

1 ـ (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

2 ـ (ويا سماء اقلعي) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

3 ـ (وغيض الماء) ونزل الماء في جوف الأرض.

4 ـ (وقضي الأمر) انتهى حكم الله.

5 ـ (واستوت على الجودي) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

6 ـ (وقيل بعداً للقوم الظالمين) عندئذ لُعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.

كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إِن هذه الآية تعدُّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإِن كانت آياته جميعاً في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقراً في روايات التاريخ الإِسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوماً، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ـ لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيهاً لها، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية ـ محل البعث ـ هزتهم بحيث نظر بعضهم إِلى بعض وقال كل للآخر: هذا كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساساً لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا

[544]

عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين(1).

أين يقع الجودي؟

ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة ـ كما مرّ ذكره في الآية ـ جبل معروف قرب الموصل(2) وقال آخرون: هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب «آمد»

وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).

ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد، «فالموصل» و«الجزيرة» و«آمد» جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.

وقال آخرون: يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية، ومَعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل.

وفي كتاب «أعلام القرآن» تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي:

«الجودي» اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته، وقد ورد اسمه في الآية (44) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أُمور أُخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي:

1 ـ بناءً على قول «الاصفهاني» فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء).

2 ـ إِنّ الجودي هو سلسلة جبال «كاردين» الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عمر) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم، ويسميها


(1) راجع مجمع البيان، ح 5، ص 165، وروح المعاني، ج 12، صفحة 57.

(2) راجع مجمع البيان، وروح المعاني، والقرطبي، ذيل الآية محل البحث.

[545]

اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب «الجودي».

في «الترگوم» وهي الترجمة الكلدانية لـ «التوراة» وكذلك الترجمة السريانية  لـ «التوراة»: إِنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد، أي «كاردين».