![]() |
![]() |
![]() |
فقال (عليه السلام): «نعم ياجابر، إنّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه واُمّه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حُزنٌ حزنت هذه لأنّها منها»(1).
ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ هذا القميص لم يكن قميصاً مألوفاً، بل كان ثوباً من ثياب الجنّة، وقد خلّفه إبراهيم الخليل (عليه السلام) في آل يعقوب وأُسرته ليكون ذكرى له، وأنّ رجلا كيعقوب (عليه السلام) الذي كانت لديه شامّة من «الجنّة» أحسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد(2).
الإشكال المعروف الآخر هنا هو ما أثاره بعضهم في شأن يعقوب من سؤال وهو:
1 ـ اُصول الكافي، ج2، ص123 «والسائل هو جابر الجعفي».
2 ـ لمزيد الإطلاع على هذه الرّوايات يراجع المجلد الثّاني من تفسير نور الثقلين، ص464.
كيف يمكن أن يكون هذا النّبي العظيم قد أحسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخاً، وقال بعضهم: من مسافة عشرة أيّام، مع أنّه لم يطّلع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عندما اُلقي في الجبّ في أرض كنعان؟
والجواب على هذا السؤال ـ مع الإلتفات إلى ما ذكرناه آنفاً في شأن علم الغيب، وحدود علم الأنبياء والأئمّة ـ يسير لا غبار عليه، لأنّ علمهم بالأُمور الغيبيّة يستند إلى علم الله وإرادته، وما يشاؤه الله لهم من العلم «أو عدمه» حتّى ولو كان ذلك في أقرب نقطة من نقاط العالم.
فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم وبينا هي على هذه الحال وإذا السّماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء إلى منتهى أطرافها، فترى القافلة باُمّ أعينها كلّ شيء أمامها، إلاّ أنّ البرق ينطفىء ثانيةً ويستوعب الظلام كلّ مكان فلا يرى أحد شيئاً.
ولعلّ الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن علم الإمام (عليه السلام) إشارة إلى هذا المعنى، إذ جاء عنه (عليه السلام) أنّه قال: «جعل الله بينه وبين الإمام عموداً من نور، ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام به إليه، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النّور فعرفه»(1).
ومع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فلا مجال للتعجّب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ـ لإبتلاء يعقوب وتمحيصه أن لا يعرف يوماً شيئاً عن الحوادث في كنعان وهي تجري قريباً منه، وأن يحسّ برائحة قميص ولده يوسف وهو في مصر في يوم آخر عندما قُدّر له أن تنتهي محنته وبلواه.
1 ـ شرح نهج البلاغة، للخوئي، ج5، ص200.
احتمل بعض المفسّرين أنّ يعقوب (عليه السلام) لم يفقد بصره بصورة كليّة، وإنّما ضعف بصره، وعند حصول مقدّمات الوصال تبدّل تبدّلا بحيث عاد ذلك البصر إلى حالته الطبيعيّة الأُولى، إلاّ أنّ ظاهر آيات القرآن يدلّ على أنّه فقد بصره تماماً وابيضّت عيناه من الحزن، وعلى ذلك فإنّ بصره عاد إليه عن طريق الإعجاز، حيث يقول القرآن الكريم: (فارتدّ بصيراً).
نقرأ في الآيات ـ محل البحث ـ أنّ يوسف (عليه السلام) قال لإخوته عندما أظهروا له ندامتهم: (يغفر الله لكم) إلاّ أنّ يعقوب (عليه السلام) قال لهم عندما اعترفوا عنده بالذنب وأظهروا الندامة: (سوف استغفر لكم) وكان هدفه ـ كما تقول الرّوايات ـ أن يؤخّر إستجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لإستجابة الدعاء وقبول التوبة(1).
والآن ينقدح هذا السؤال وهو: كيف أجابهم يوسف بصورة قطعيّة، وأوكل أبوهم ذلك إلى المستقبل؟!
ولعلّ هذا الإختلاف ناشىء عن أنّ يوسف (عليه السلام) كان يتحدّث عن «إمكان المغفرة» وأنّ هذا الذنب من الممكن أن يعفو الله عنه، ويعقوب كان يتحدّث عن «فعليّة المغفرة» وأنّه ما الذي ينبغي أن يفعل حتّى تتحقّق التوبة والمغفرة «فلاحظوا بدقّة».
1 ـ نقرأ في تفسير القرطبي أنّ هدفه كان الإستغفار لهم في ليلة الجمعة الموافقة ليوم عاشوراء «لمزيد الإطلاع يراجع تفسير القرطبي، ج6، ص3491».
يستفاد من الآيات ـ آنفة الذكر ـ أنّ طلب الإستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف الله سبحانه، وإلاّ فكيف كان يمكن ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على توسّلهم به.
وهذا الأمر يدلّ على أن التوسّل بأولياء الله جائز على الإجمال، والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفاً لأصل التوحيد غافلون عن نصوص القرآن، أو أنّ التعصّب المقيت يحجب أبصارهم عن تلك النصوص.
إنّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدّمة هو أنّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامّة ومحدودة، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئاً (أو غير متحقّق فعلا) فإنّ أيّاً من أُولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة، قادر على أن يضمّد القلوب المجروحة من الفراق، وأن يشفي آلام النفوس.
أجل إنّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ، وهو أنّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير، بل يهون كلّ شيء بأمره وإرادته.
(إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
* * *
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاءَ اللهُ ءَامِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّلِحِينَ(101)
مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر إلى كنعان، وعودة البصر
إلى يعقوب، إرتفعت أهازيج في كنعان. فالبيت الذي لم يخلع أهله عنهم ثياب الحزن والأسى لسنين عديدة، أصبح غارقاً في السرور والحبور، فلم يكتموا رضاهم عن هذه النعم الإلهيّة أبداً.
والآن ينبغي على أهل هذا البيت ـ وفقاً لوصيّة يوسف ـ أن يتحرّكوا ويتّجهوا نحو مصر، وتهيّأت مقدّمات السفر من جميع النواحي، وركب يعقوب راحلته وشفتاهُ رطبتان بذكر الله وتمجيده، وقد منحه عشق يوسف قوّةً وعزماً إلى درجة وكأنّه عاد شاباً من جديد.
وهذا السفر على خلاف الأسفار السابقة ـ التي كانت مقرونة لدى إخوة يوسف بالقلق والحزن ـ كان خالياً من أيّة شائبة من شوائب الهمّ والغمّ. وحتّى لو كان السفر بنفسه متعباً، فهذا التعب لم يكن شيئاً ذا بال قِبالَ ما يهدفون إليه في مسيرهم هذا.
كانوا يطوون الليالي والأيّام ببطء، لأنّ الشوق كان يحيل كلّ دقيقة إلى يوم أو سنة، ولكن إنتهى كلّ شيء ولاحت معالم مصر وأبنيتها من بعيد بمزارعها الخُضر وأشجارها الباسقة السامقة وعماراتها الجميلة.
إلاّ أنّ القرآن الكريم ـ كعادته دائماً ـ حذف هذه المقدّمات التي يمكن أن تدرك بأدنى تفكّر وتأمّل، فقال في هذا الشأن: (فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه).
وكلمة «آوى» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني في الأصل إنضمام شيء إلى شيء آخر، وضمّ يوسف أبويه إليه كناية عن إحتضانهما ومعانقتهما.
وأخيراً تحقّقت أحلى سويعات الحياة ليعقوب، وفي هذا اللقاء والوصال الذي تمّ بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق، مرّت على يعقوب ويوسف لحظات لا يعلم ا الله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة، وأيّة دموع إنسكبت من عينيهما من الفرح.
وعندها التفت يوسف إلى إخوته وأبويه و (قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) لأنّ مصر أصبحت تحت حكم يوسف في أمن وأمان واطمئنان.
ويُستشفّ من هذه الجملة أنّ يوسف كان قد خرج إلى خارج بوّابة المدينة لإستقبال والديه وإخوته، ولعلّ التعبير بـ(دَخلوا على يوسف) يحتمل أن يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك «خارج المدينة» وأن تُهيأ مقدّمات الإستقبال لأبويه وإخوته.
فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسف (عليه السلام) (ورفع أبويه على العرش).
وكانت هذه العظمة من النعمة الإلهيّة واللطف والموهبة التي منّ الله بها على يوسف قد أدهشت إخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعاً (وخرّوا له سُجّداً).
وعندها إلتفت يوسف إلى أبيه (وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل).
ألم يكن أنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين؟!
فانظر ياأبت كما كنت تتوقّع من عاقبة أمري (قد جعلها ربّي حقّاً) .. (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن).
الطريف هنا أنّ يوسف تكلّم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله ولم يتكلّم على الجبّ مراعاةً لإخوته.
ثمّ أضاف يوسف قائلا: (وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي).
ومرّة أُخرى يظهر هنا يوسف مثلا آخر من سعة صدره وعظمته، ودون أن يقول: من هو المقصّر، وإنّما يقول بصورة مجملة أنّ الشيطان تدخّل فنزغ بيني وبين إخوتي، فهو لا يريد أن يتشكّى من أخطاء إخوته السالفة.
والتعبير عن أرض كنعان بالبدو تعبير طريف وكاشف عن مدى الإختلاف بين تمدّن مصر وتخلّف كنعان «حضاريّاً».
وأخير يقول يوسف: إنّ جميع هذه المواهب هي من قِبَل الله، ولِمَ لا تكون
كذلك فـ(إنّ ربّي لطيف لما يشاء).
فيتولّى اُمور عباده بالتيسير والتدبير .. وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو الجدير بالإستجابة (إنّه هو العليم الحكيم).
ثمّ يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكراً راجياً: (ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث).
وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر «تأويل الأحاديث» كم كان له من أثر عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك، وما أعظم بركة العلم!
فأنت ياربّ: (فاطر السّماوات والأرض).
ولذلك فقد خضعت وإستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.
ربّاه: (أنت وليّ في الدنيا والآخرة توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين).
أي إنّني لا أطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة الماديّة منك ياربّ، لأنّ هذه الأُمور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذّاب. بل أطلب منك ياربّ أن تكون عاقبة أمري على خير، وأن أقضي حياتي وأموت مؤمناً في سبيلك مسلِّماً لإرادتك، وأن أكون في صفوف الصالحين. فهذه الأُمور هي المهمّة لديّ فحسب.
* * *
كما بيّنا في الجزء الأوّل من هذا التّفسير عند بحثنا في شأن سجود الملائكة لآدم، فقلنا: إنّ السجود بمعنى العبادة يختص بالله تعالى ولا تجوز العبادة لأي أحد في أيّ مذهب إلاّ لله سبحانه وهذا هو المراد من توحيد العبادة الذي هو قسم مهمّ من التوحيد الذي دعا إليه جميع الأنبياء.
فبناءً على هذا لم يكن يوسف وهو نبيّ الله يسمح لأحد أن يسجد له ويعبده من دون الله، ولا النّبي العظيم يعقوب كان يقدّم على مثل هذا الأمر، ولا القرآن الكريم كان يعبّر عنه بأنّه عمل جدير أو على الأقل عمل مجاز.
فبناءً على ذلك فإنّ السجود المشار إليه في الآية ـ محلّ البحث ـ إِمّا أنّه كان «سجدة الشكر» لله تعالى الذي أولى يوسف هذه المواهب والمقام العظيم، وفرّج عن آل يعقوب كربهم وأزال عنهم همومهم، وهذا السجود في الوقت الذي كان لله، بما أنّه كان من أجل عظمة موهبة يوسف، فإنّه كان يعتبر تعظيماً وتكريماً ليوسف أيضاً، ومن هذا المنطلق فإنّ الضمير في (له) الذي يعود على يوسف قطعاً ينسجم وهذا المعنى تماماً.
أو أنّ المراد من السجود هو مفهومه الواسع، أي الخضوع والتواضع، لأنّ السجدة ـ أو السجود ـ لا يأتي أي منهما بمعناه المعروف دائماً، بل ربّما يرد بمعنى الخضوع والتواضع أحياناً، فلذا قال بعض المفسّرين: إنّ التحيّة أو التواضع المتداول آنئذ كان الإنحناء والتعظيم، وأنّ المراد من السجود في الآية هو هذا المعنى.
إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى جملة «خرّوا» التي يعني مفهومها الهويّ نحو الأرض فإنّه لا يستفاد من السجود في الآية الإنحناء والخضوع (هنا).
وقال بعض المفسّرين العظام: إنّ سجود يعقوب وإخوة يوسف وأُمّهم كان لله سبحانه، إلاّ أنّ يوسف كان ـ بمثابة الكعبة ـ قبلةً لهم، ولهذا جاء في بعض تعابير العرب قولهم: فلان صلّى للقبلة(1).
إلاّ أنّ المعنى الأوّل يبدو أقرب للنظر، وخاصّة أنّ بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تقول: «كان سجودهم لله، أو عبادةً لله»(2).
1 ـ راجع تفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص467.
كما جاء في بعض الرّوايات أنّ سجودهم كان طاعة لله وتحيّة ليوسف(1).
كما أنّ السجود لآدم كان سجوداً لله العظيم الذي خلق مثل هذا الخلق البديع، وهو في الوقت الذي يعدّ عبادةً لله فهو دليل على إحترام آدم وعظمته.
وهذا الأمر يشبه تماماً أن يؤدّي رجل ـ مثلا ـ عملا مهمّاً عظيماً، فنسجد نحن لله الذي خلق مثل هذا الإنسان، فهذا السجود هو لله كما أنّه في الوقت ذاته يعدّ إحتراماً وتعظيماً للرجل أيضاً.
إنّ جملة (نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) مع ملاحظة أنّ نزغ بمعنى الدخول في أمرّ ما بقصد الفساد أو الإفساد تدلّ على أنّ لوساوس الشيطان في مثل هذه الحوادث أثراً مهمّاً دائماً، إلاّ أنّنا نوّهنا من قبل بأنّ هذه الوساوس لوحدها لا تعمل شيئاً، فالمصمّم الأخير هو الإنسان نفسه، بل هو الذي يفتح أبواب قلبه للشيطان ويسمح له بالدخول.
فبناءً على ذلك فليس في الآية ـ محلّ البحث ـ أمر خلاف أصل حريّة الإرادة أساساً. غاية ما في الأمر أنّ يوسف (عليه السلام) بما لديه من حلم وسعة صدر لم يرغب أن يحرج إخوته ويزيد في خجلهم، فهم كانوا خجلين إلى درجة كافية، ولهذا لم يشر إلى المصمّم النهائي وإنّما ذكر وساوس الشيطان التي تعدّ العالم الثانوي فحسب.
لقد أشار يوسف إلى مسألة الأمن من بين جميع المواهب والنِعم بمصر، وقال لأبويه وإخوته (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وهذا الأمر يدلّ على أنّ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص468.
نعمة الأمن أساس جميع النعم، والحقّ أنّها كذلك، لأنّه متى ذهبت نعمة الأمن، فإنّ سائر مسائل الرفاه والمواهب المادية والمعنوية يحدق بها الخطر.
ففي جوّ أو محيط غير آمن، ليس بالمقدور إطاعة الله فيه ولا الحياة الحرّة الكريمة، كما ليس بمقدور الإنسان أن يفكّر تفكيراً مطمئناً هادئاً، ولا السعي والجدّ والجهاد نحو تحقّق الأهداف الإجتماعية أيضاً.
وهذه الجملة لعلّها إشارة إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ يوسف يريد أن يقول: إنّ أرض مصر في عهدي وحكومتي ليست هي تلك الأرض في عهد الفراعنة وحكمهم، فأُولئك الظالمون المستكبرون المستثمرون الأنانيون ولّوا ومضوا كما مضى ذلك التعذيب والأذى، فالجوّ جو آمن تماماً.
ومرّة أُخرى يعوّل يوسف (عليه السلام) في إنتهاء عمله وأمره على مسألة علم تعبير الرؤيا، ويجعل هذا العلم البسيط ـ ظاهراً ـ إلى جانب تلك الحكومة العظمى ومن دون منازع، وهذا يكشف عن تأكيده على أهميّة العلم مهما كان بسيطاً، فيقول: (ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث).
قد يتقلّب الإنسان في طول عمره في أشكال مختلفة متعدّدة، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ الصفحات الأخيرة من حياته أهمّ من جميع ما مضى عليه، لأنّ سجل عمره ينتهي بانتهائها ويتعلّق الحكم النهائي، لذا فإنّ الرجال المؤمنين يطلبون من الله دائماً أن تكون هذه الصفحات من العمر مشرقة نيّرة، وأن يختم لهم بالخير.
ونجد يوسف (عليه السلام) يطلب من الله ـ هنا ـ هذا الأمر نفسه فيقول: (توفّني مسلماً
وألحقني بالصالحين).
وليس معنى هذا الكلام طلب الموت من الله، كما تصوّره ابن عبّاس فقال: لِمَ يطلب أحد من الأنبياء الموت من الله إلاّ يوسف، فعندما توفّرت له أسباب حكومته تأجّج العشق (والتعلّق بالله) في نفسه فتمنّى لقاء الله.
بل طلب يوسف إنّما كان الشرط والحالة فحسب، أي أنّه طلب أن يكون عند الوفاة مؤمناً مسلماً، وقد كان إبراهيم ويعقوب يوصيان أبناءهما بهذه الوصيّة أيضاً بقولهما لهم: (فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون).(1)
وقد إختار كثير من المفسّرين هذا المعنى.
يستفاد من ظاهر الآيات ـ آنفة الذكر ـ بصورة جيّدة أنّ أُمّ يوسف كانت يومئذ حيّة، وقد جاءت مع يعقوب وأبنائها إلى مصر، وسجدت شاكرةً هذه النعمة. إلاّ أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ اُمّ يوسف «راحيل» كانت قد إنتقلت من الدنيا يومئذ، وإنّما التي جاءت إلى مصر خالته التي تعدّ بمثابة اُمّه.
ونقرأ في سفر التكوين من التوراة ـ الفصل 35 الجملة 18 ـ أنّ راحيل بعد أن ولدت بنيامين رحلت عن الدنيا. وجاء في بعض الرّوايات عن (وهب بن منبه) و (كعب الأحبار) هذا المعنى ذاته أيضاً، ويبدو أنّه مأخوذ من التوراة.
وعلى أي حال، فليس بوسعنا أن نغضي عن ظاهر آيات القرآن التي تقول: إنّ اُمّ يوسف كانت حيّة آنئذ، ونؤول ذلك ونوجّهه دون أي دليل.
نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال (عليه السلام): «قال يعقوب ليوسف:
1 ـ البقرة، 132.
يابُني حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟!
قال: ياأبت دعني.
فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني!
فقال له: أخذوني وأقعدوني على رأس الجبّ، ثمّ قالوا لي: انزع قميصك، فقلت لهم إنّي أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي، فرفع فلان السكّين عليّ، وقال: انزل.
فصاح يعقوب فسقط مغشيّاً عليه ثمّ أفاق، فقال له: يابني كيف صنعوا بك؟!
فقال يوسف: إنّي أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلاّ أعفيتني.
قال: فتركه» الخ(1).
وهذا الأمر يدلّ على أنّ يوسف لم يرغب بأيّ وجه أبداً أن يُعيد في ذهنه أو في ذهن أبيه الماضي المرير، بالرغم من أنّ رغبة يعقوب في التقصّي عن الأمر لم تدعه يستقرّ.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج5، ص265.
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ(104) وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَة فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ(106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)
بعد ما إنتهت قصّة يوسف (عليه السلام) بكلّ دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخيّة .. إنتقل الكلام إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول القرآن الكريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ...).
إنّ هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها إلاّ الله، أو واحدٌ من الذين كانوا حاضرين هناك، وبما أنّك لم تكن حاضراً لديهم فالوحي الإلهي فقط هو الذي جاءك بهذه الأخبار.
ومن هنا يتّضح أنّ قصّة يوسف بما أنّها وردت في التوراة فأهل الحجاز عندهم معلومات تقريبيّة عنها، ولكن كلّ هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقّة في جزئياتها أبداً، وحتّى في المحافل الخاصّة السابقة لم تكن تُعرف بدون إضافة وخرافة.
وعلى أي حال كان لزاماً على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الإلهيّة، وأن يتراجعوا عن طريق الغيّ، ولكن ياأيّها النّبي: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين).
إنّ الوصف بـ(الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ يؤمن الناس، ولكن ما الفائدة، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين، فمن شرط الإيمان الإستعداد والقابلية في نفس الشخص.
إنّ أبناء يعقوب (عليه السلام) كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوّة، ومع ذلك نرى كيف عصفت بهم الأهواء حتّى كادوا أن يقتلوا أخاهم، فكيف نتوقّع من جميع الناس أن يتغلّبوا على أهوائهم وشهواتهم مرّةً واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا بالله؟
وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسليةً لقلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لا ييأس أبداً من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلّة أصحابه، كما نقرأ في آيات أُخرى من القرآن الكريم الكهف (6): (لعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) وقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر)فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرّر لعدم قبول الدعوة بالإضافة إلى ما اتّضح من علامات الحقّ أنّك لم تسألهم أجراً حتّى يكون مبرّراً لمخالفتك:
(إن هو إلاّ ذكر للعالمين).
وهذه الدعوة عامّة للجميع، ومائدة واسعة للعام والخاص وكلّ البشرية.
(وكأين من آية في السّماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون).
فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كلّ يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار، وتغرب عند المساء ويعمّ الليل بستاره المظلم كلّ مكان.
إنّ أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان، وهدير المياه، وحركة النسيم، وكلّ هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبّر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.
كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمّة، فنحن نمرّ عليها كلّ يوم ولا نعير لها أهميّة، وفجأةً يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين أسرار هذه الدلائل ويُذِهَل العالم بها.
المهمّ أن نعلم أنّ كلّ ما في العالم ليس زخرفاً وبدون فائدة، لأنّها من مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حدّ لحكمته. وإنّما الساذج والزخرف فهم أُولئك الذين يعتقدون بأنّ العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة. ولهذا فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان (وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون).
قد يتصوّر هؤلاء أنّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالباً ما توجد جذور الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.
ليس الإيمان هو الإعتقاد بوجود الله فقط، فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله، فتكون أقواله وأعماله وكلّ أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون الله، ولا يضع طوق العبوديّة في رقبته لغيره، ويمتثل بقلبه
وروحه لكلّ الأوامر الإلهيّة ولو كانت مخالفة لهواه، ويُقدّم دائماً الإله على الهوى، هذا هو الإيمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل، فلو حسبنا حساباً دقيقاً في هذا المجال لوجدنا أنّ الموحّدين الصادقين والمخلصين قليلون جدّاً.
ولهذا السبب نقرأ في الرّوايات الإسلامية ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)«الشرك أخفى من دبيب النحل»(1).
أو نقرأ: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»(2).
ونُقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه حيث يقول «شرك طاعة وليس شرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره»(3).
وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى أنّ الله يهب الإنسان شيئاً فيقول: إنّ فلاناً قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنتُ من الهالكين! وكانت حياتي هباءاً منثوراً، فهنا قد إعتبر الشريك مع الله الشخص الذي جرت على يده نعمة الله!
الخلاصة: إنّ ما يُفهم من الشرك ليس الكفر وإنكار الإله وعبادة الأصنام فقط، كما جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) «شرك لا يبلغُ به الكفر» ولكن الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأُمور.
1 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 697.
2 ـ في ظلال القرآن، المجلّد الخامس، صفحة 53.
3 ـ نور الثقلين، ج2، صفحة 275 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، صفحة 292.
وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم أُولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة مرّ الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتةً وهم لا يشعرون).
«الغاشية»: الغطاء أو الستار، ويقال للثوب الكبير الذي يغطّي سرج الجواد. ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعمّ المفسدين(1).
«والساعة»: القيامة، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.
ويحتمل أن تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة مثل الزلازل والعواصف والصواعق، أو إشارة إلى ساعة الموت، ولكن التّفسير الأوّل أقرب إلى المعنى كما نرى.
* * *
1 ـ غاشية مؤنثة لأنّها صفة «للعقوبة» التي هي مقدّرة.
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُواْ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَنَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الُْمجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِى الاَْلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ (111)
في الآية الأُولى من هذه المجموعة يتلقّى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأوامر لتحديد الطريق
والمنهج الذي يتّبعه، فيقول القرآن الكريم: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله) ثمّ يضيف: (على بصيرة أنا ومن اتّبعني).
وهذه الجملة توضّح أنّ كلّ فرد مسلم مقتد بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له نفس الدور في الدعوة إلى الحقّ، ولابدّ من دعوة الآخرين إلى الله، من خلال أفعالهم وأقوالهم، وكذلك تؤكّد هذه الجملة على أنّ القائد يجب أن تكون له بصيرة ومعرفة كافية، وإلاّ فإنّ دعوته ليست إلى الحقّ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم: (وسبحان الله وما أنا من المشركين).
فهو يؤكّد على نزاهة الخالق الذي يدعو إليه وكماله المطلق الخالي من النقصان وأنّه لا يتّخذ معه شريكاً.
هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق، أن يعلن بصراحة عن أهدافه وخُططه، وأن يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم، لا أن تسودهم هالة من الإبهام في الهدف والطريقة. أو أن يسير كلّ واحد منهم في جهة معيّنة.
فواحدة من الطرق التي نتعرّف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو أنّ القيادة الصادقة تتميّز بصراحة القول ووضوح الطريق أمّا الأُخرى فهي لكي تحاول التغطية على سلوكها وتلتجىء إلى الحديث المبهم والمتعدّد الجوانب.
إنّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلّقة بيوسف تشير إلى أنّ طريقة ومنهج النّبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النّبي. فهو كان يدعو إلى «الله الواحد القهّار» حتّى في زوايا السجن، أمّا غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب التقليد من جاهل إلى جاهل آخر. أمّا سيرة الأنبياء والرسل كلّها واحدة.
وبما أنّ الأقوام الضالّة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بَشر؟! ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامّة، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول: (وما أرسلنا من
قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم من أهل القرى).
هؤلاء الرّسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم.
فالوصف هنا بـ(من أهل القرى) بالإضافة إلى ما تشمله القرية في اللغة من معنى المدينة أو الريف في مقابل «البدو» التي تطلق على أهل الصحراء، فإنّها قد تشير إلى أنّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء ـ كما صرّح بذلك بعض المفسّرين ـ لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلّباتها.
صحيح أنّ أكثر سكّان أرض الحجاز كانوا من البدو، ولكن الرّسول من أهل مكّة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً، وصحيح أيضاً أنّ مدينة كنعان لو قِيست بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمّة ولذلك كان يعبّر عنها بالبدو. ولكن نحن نعلم أنّ يعقوب وأبناءه لم يكونوا من أهل البادية أبداً، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.
![]() |
![]() |
![]() |