![]() |
![]() |
![]() |
مجموعة من المفسّرين يرى لها أبعاداً خاصّة.
ولإتمام البحث السابق، ومقدّمة للبحث الآتي، يقول تعالى: (وجعلوا لله شركاء).
ثمّ يجيبهم بلا فاصلة وبعدّة طرق:
يقول أوّلا: (قل سمّوهم).
والمقصود من تسميتهم هو إِمّا أن يكونوا ليست لهم أيّة قيمة بحيث لا تستطيعون تسميتهم، فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتّى الأسماء والتي لا قيمة لها، في عداد الخالق القادر المتعال؟
أو يكون المقصود: بيّنوا صفاتهم لكي نرى هل يستحقّون العبادة، فنحن نقول في صفات الله جلّ وعلا بأنّه الخالق، والرازق، والمحيي والعالم والقادر، فهل تستطيعون أن تمنحوا هذه الصفات للأصنام؟! أو بالعكس إذا أردنا تسميتها نقول بأنّها أحجار وأخشاب ساكنة وفاقدة للعقل والشعور، ومحتاجة لمن يعبدها، وخلاصة القول إنّها فاقدة لكلّ شيء! فكيف نجعلها سواء مع الله؟ أفلا تعقلون؟!
أو يكون المقصود: عدّوا لنا أعمالهم، فهل كشفوا الضُرّ لأحد أو منحوا الخير لأحد؟ وهل حلّوا العُقَد والمشاكل؟! ومع هذا الوضع فأي عقل يجيز لكم أن تجعلوهم قرناء مع الله جلّ وعلا وهو مصدر الخير والبركة والنافع والضارّ والمثيب والمعاقب!.
طبعاً لا مانع من أن تجتمع كلّ هذه المعاني في جملة (سمّوهم) !
ويقول ثانياً: (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض).
وهذا التعبير في الحقيقة أفضل اُسلوب للجواب على حديثهم الواهي، وكمثال على ذلك يقول لك أحد الأشخاص: إنّ فلاناً كان ضيفاً عندكم البارحة، فتقول له: هل تخبرني عن ضيف لا علم لي به؟! يعني هل من الممكن أن أحداً
يكون ضيفي ولا أعلم به وأنت تعلم بذلك؟!
ثالثاً: حتّى أنتم في الواقع لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم، بل (أم بظاهر من القول).
ولهذا السبب نرى المشركين عندما تضيق بهم المشاكل الحياتية يلوذون بالله، لأنّهم يعلمون في قلوبهم أنّ الأصنام لا يمكن أن تعمل لهم شيئاً، كما بيّن القرآن الكريم حالهم في الآية (65) من سورة العنكبوت حيث يقول تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون).
رابعاً: إنّ المشركين ليس لهم إدراك صحيح، وبما أنّهم تابعين لأهوائهم وتقليدهم الأعمى، فإنّهم غير قادرين على أن يقضوا بالحقّ وبشكل صحيح، ولهذا السبب ضلّوا الطريق، يقول تعالى: (بل زيّن للذين كفروا مكرهم وصدّوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد).
وقد قلنا مراراً: إنّ هذا الضلال ليس جبراً، ولا هو إعتباطياً وبدون حساب، بل الإضلال الإلهي إنعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيّئة التي تجرّه إلى الضياع، وبما أنّ هذه الخاصيّة قد جعلها الله سبحانه وتعالى لمثل هذه الأعمال فلذلك نسب هذا العمل إليه.
ويشير القرآن الكريم في الآية الأخيرة من هذه المجموعة إلى العقاب الأليم الذي يشملهم في الدنيا والآخرة، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها، حيث تقول: (لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشقّ) لأنّها دائمة ومستمرة، جسدية وروحية، وفيها أنواع الآلام.
وإذا إعتقدوا بأنّ لهم طريقاً للفرار أو سبيلا للدفاع في مقابل ذلك، فإنّهم في إشتباه كبير، لأنّ (وما لهم من الله من واق).
* * *
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَرُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَفِرِينَ النَّارُ (35)
بالنظر إلى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر المعارف الإسلامية الأُخرى، تحدّثت هذه الآية مرّةً أُخرى حول المعاد وخصوصاً نِعَمِ الجنّة وعذاب الجحيم. يقول تعالى أوّلا: (مثل الجنّة التي وعد المتّقون تجري من تحتها الأنهار)(1).
قد يكون التعبير بـ«مثل» إشارة إلى هذه النكتة، وهي أنّ الجنّة وسائر النعم الاُخروية غير قابلة للوصف بالنسبة إلى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيراً جدّاً، ولذلك نستطيع أن نضرب لهم مثلا أو صورة عن ذلك، كما أنّ الجنين في بطن اُمّه لو كان يعقل لا يمكن أن نصوّر له كلّ نعم الدنيا، إلاّ من خلال أمثال ناقصّة وشاحبة!
1 ـ هناك نقاش بين المفسّرين حول تركيب هذه الجملة فقال البعض: إنّ «مثل» مبتدأ و «تجري» خبرها، وقال بعض آخر: إنّ «مثل» مبتدأ وخبره محذوف تقديره «فيما نقص عليكم مثل الجنّة».
الوصف الثّاني للجنّة هو (أكلها دائم).
فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معيّن من السنة، بل في بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماماً، لكن ثمار الجنّة ليست فصلية ولا موسمية وغير مصابة بآفة، بل كإيمان المؤمنين المخلصين دائمة وثابتة.
وكذلك (وظلّها) ليس كظلّ أشجار الدنيا التي يظهر ظلّها إذا كانت الشمس أُفقية ويزول أو يقل إذا صارت عمودية، أو يظهر في الربيع والصيف عندما تكون الأشجار مورقة، ويزول في الخريف والشتاء عند تساقط الأوراق، (بالطبع هناك أشجار قليلة تعطي ثماراً وأزهاراً على مدار السنة، وهذه تكون في المناطق المعتدلة التي ليس فيها شتاء).
الخلاصة: ظلال الجنّة كبقيّة النعم الأُخرى خالدة ودائمة، ومن هذا يتّضح أن ليس في الجنّة فصل لتساقط الأوراق، ونعلم من ذلك ـ أيضاً ـ أنّ شعاع الشمس موجود في الجنّة، وإلاّ كان التعبير بالظلّ هناك بدون شعاع الشمس ليس له أي مفهوم، وأمّا ما جاء في الآية (13) من سورة الدهر (لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً) قد تكون إشارةً إلى إعتدال الهواء، فلا الشمس محرقة ولا البرد قارس، وهذا لا يعني أن لا تكون هناك شمس أصلا.
إنّ إنطفاء الشمس ليس دليلا على زوالها أبداً، لأنّ القرآن الكريم يقول: (يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات)(1) تكون أوسع وبهيئة جديدة.
وإذا قيل: إن كانت شمس الجنّة غير محرقة، فعلام الظلّ؟
نقول في جوابهم: إنّ الظلّ ليس مانعاً لحرارة الشمس فقط، بل إنّ الرطوبة المعتدلة الصادرة من الأوراق بإتّحادها مع الأوكسجين تعطي نشاطاً ولطافة خاصّة للظلّ، ولذلك كان ظلّ الأشجار مختلفاً عن ظلّ السقوف الجافّة.
1 ـ إبراهيم، 48.
وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية: (تلك عقبى الذين اتّقوا وعقبى الكافرين النار).
لقد بيّن وفصّل في هذه العبارة نعم الجنّة، ولكن بالنسبة إلى أصحاب النّار ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر أنّ عاقبة أمرهم إلى النار!
* * *
وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاَْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمْرِتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
أشارت هذه الآية إلى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما أُنزل على الرّسول، بينما المعاندون يخالفون ذلك.
يقول تعالى أوّلا: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما اُنزل إليك).
إنّ الوصف بـ(آتيناهم الكتاب) إشارة إلى اليهود والنصارى وأمثالهم ممّن لهم كتاب سماوي وقد ذكرهم القرآن في مواطن كثيرة، فكان الأشخاص الطالبون للحقّ من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات، ومن جهة أُخرى كان سبباً لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود
والمسيحيّة الذين كانوا يستعبدونهم، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الإنساني.
وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من أنّ المقصود من (الذين آتيناهم الكتاب) هم أصحاب النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعيد جدّاً، لأنّ هذا الوصف ليس معهوداً بالنسبة للمسلمين، بالإضافة إلى ذلك فإنّها غير موافقة مع جملة (بما أُنزل إليك)(1).
وبما أنّ سورة الرعد مكّية فهي غير منافية لما قلناه آنفاً، مع أنّ المركز الأصلي لليهود في الجزيرة العربية كان المدينة وخيبر، والمركز الأصلي للمسيحيين هو نجران وأمثالها، ولكنّهم كانوا يتردّدون على مكّة ويعكسون أفكارهم ومعتقداتهم فيها، ولهذا السبب كان أهل مكّة يعرفون علامات آخر نبي مرسل وكانوا ينتظرونه (قصّة ورقة بن نوفل وأمثالها معروفة).
وهناك شواهد لهذا الموضوع في آيات أُخرى من القرآن الكريم والتي كان يفرح المؤمنين من أهل الكتاب عند نزول الآيات على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمثلا الآية (52) من سورة القصص تقول: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون).
ثمّ تضيف الآية (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم عنهم بأهل الكتاب، لأنّهم لم يتّبعوا كتبهم السّماوية. بل كانوا في الحقيقة أحزاباً وكتلا تابعين لخطّهم الحزبي، وهذه المجموعة كانت تنكر كلّ ما خالف ميلهم ولم يطابق أهواءهم.
ويحتمل أيضاً أنّ كلمة «الأحزاب» إشارة إلى المشركين، لأنّ سورة
1 ـ لأنّه يلازم هذا الحديث أن يكون (ما اُنزل إليك) هو نفس «الكتاب» فالإثنان يشيران إلى القرآن، في الوقت الذي نرى فيه من قرينة المقابلة أنّ المقصود من «الكتاب» غير (ما أُنزل إليك).
الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير، وهؤلاء في الحقيقة ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل أحزاب وكتل متفرّقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.
ونقل العلاّمة الطبرسي وبعض آخر من المفسّرين الكبار عن ابن عبّاس، أنّ هذه الآية إشارة إلى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن، وأهل الكتاب ـ خصوصاً اليهود ـ يفرحون بهذا الوصف «الرحمان» في الآيات القرآنية، ومشركي مكّة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.
وفي آخر الآية يأمر الله النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يعتني بهذا وذاك من المخالفين، بل يدعوه إلى الثبات على الخطّ الأصيل والصراط المستقيم حيث يقول تعالى: (قل إنّما اُمرت أن أعبد الله ولا اُشرك به إليه أدعوا وإليه مآب) وتلك دعوة للموحّدين الصادقين والمؤمنين الرساليين أن يسلّموا أمام الأوامر الإلهيّة، فالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كان خاضعاً لكلّ ما اُنزل عليه، فلا يأخذ ما كان يوافق ميله ويترك غيره.
* * *
رأينا في الآية كيف أنّ الله سبحانه وتعالى عبّر عن المؤمنين من اليهود والنصارى بأهل الكتاب، وعبّر عن أُولئك التابعين للعصبية والأهواء بالأحزاب، وهذا غير منحصر في تاريخ صدر الإسلام، بل إنّ هذا التفاوت موجود دائماً بين المؤمنين الحقيقيين والذين يدّعون الإيمان، فالمؤمنون الحقيقيون يقولون بالتسليم المطلق لكلّ الأوامر الإلهيّة، ولا يقولون بالتبعيض، ويجعلون ميلهم تحت ذاك الشعاع، فهم أهل لأن يسمّيهم القرآن أهل الكتاب والإيمان.
بينما أُولئك فهم مصداق الآية (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) ومعناه كلّ ما
طابق خطّهم الفكري وميلهم الشخصي وأهواءهم يقبلونه، وكلّ ما خالف منافعهم الشخصيّة ينكرونه، فهؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين، بل أحزاب وكتل يبحثون عن مصالحهم في الدين، ولذلك كانوا يقولون بالتبعيض في التعاليم الإسلامية.
* * *
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاق (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُول أَن يَأْتِىَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَل كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
تتابع هذه الآيات المسائل المتعلّقة بالنبوّة، ففي الآية الأُولى يقول تعالى: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً).
«العربي» كما يقول الراغب في مفرداته «الفصيح البيّن من الكلام» ولذلك يُقال للمرأة العفيفة والشريفة: إنّها «امرأة عروبة» ثمّ تضيف الآية (حكماً عربياً)
قيل معناه مفصحاً يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.
ويحتمل في «العربي» أنّ معناه «الشريف» لأنّها جاءت في اللغة بهذا المعنى. وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لأنّ أحكامه واضحة وبيّنة. ولذلك وردت في عدّة آيات أُخرى بعد «عربياً» مسألة الإستقامة وعدم الإعوجاج أو العلم، منها في الآية (28) من سورة الزمر قوله تعالى (قرآناً عربياً غير ذي عوج) وفي الآية (3) من سورة فصلت يقول تعالى: (كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون). وعلى هذا فما قبل هذه الآية وما بعدها يؤيّدان أنّ المراد من «عربياً» هو الفصاحة والوضوح في البيان وخلوّه من الإعوجاج والإلتواء.
وهذه العبارة وردت في سبع سور من القرآن الكريم، ولكن ذكرت في عدّة موارد بشكل (لسان عربي مبين) والتي يمكن أن يكون لها نفس المعنى. ويمكن أن يكون هذا الموضع الخاص إشارة إلى اللسان العربي، لأنّ الله سبحانه وتعالى بعث كلّ نبيّ بلسان قومه، حتّى يهدي قومه أوّلا، ثمّ تنتشر دعوته في المناطق الأُخرى.
ثمّ يخاطب القرآن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول: (ولئن اتّبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق)وبما أنّ إحتمال الإنحراف غير موجود إطلاقاً في شخصيّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة، فهذا التعبير ـ أوّلا ـ يُوضّح أنّ الله سبحانه وتعالى ليس له إرتباط خاص مع أي أحد حتّى لو كان نبيّاً، فمقام الأنبياء الشامخ إنّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم وإستقامتهم.
وثانياً: تأكيد وإنذار للآخرين، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يكن مصوناً من العقوبات الإلهيّة في حالة إنحرافه عن مسيرة الحقّ وإتّجاهه صوب الباطل، فما بال الآخرين؟
ولابدّ من ذكر هذه النقطة، وهي أنّ «ولي» و «واق» مع أنّهما متشابهان في
المعنى، ولكن هناك تفاوت بينهما وهو أنّ أحدهما يبيّن جانب الإثبات والآخر جانب النفي، فواحد بمعنى النصرة والدعم، والآخر بمعنى الدفاع والحفظ.
الآية الأُخرى ـ في الواقع ـ جواب لما كان يستشكله أعداء الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن جملة هذه الإشكالات:
أوّلا: كان البعض يقول: هل من الممكن أن يكون الرّسول من جنس البشر، يتزوّج وتكون له ذرّية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرّية)(1).
ويتبيّن من إشكالهم أنّهم إِمّا أن يكونوا غير عالمين بتاريخ الأنبياء، أو أنّهم يتجاهلون ذلك وإلاّ لم يوردوا هذا الإشكال.
ثانياً: كان ينتظر هؤلاء من الرّسول أن يجيبهم على كلّ معجزة يقترحونها عليه بما تقتضيه أهواؤهم، سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، ولكن يجب أن يعلم هؤلاء أنّ (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله).
ثالثاً: لماذا جاء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيّر أحكام التوراة والإنجيل، أو ليست هذه كتب سماوية؟ وهل من الممكن أن ينقض الله أوامره؟ (هذا الإشكال كان يطابق ما يقوله اليهود من عدم نسخ الأحكام).
وتجيب الجملة الأخيرة من الآية فتقول: (لكلّ أجل كتاب) كيما تبلغ البشرية المرحلة النهائية من الرشد والتكامل فليس من العجيب أن ينزّل يوماً التوراة، ويوماً آخر الإنجيل، ثمّ القرآن، لأنّ البشرية في تحوّلها وتكاملها بحاجة إلى البرامج المتغيّرة والمتفاوتة.
ويحتمل أنّ جملة (لكلّ أجل كتاب) جواب لمن كان يقول: إذا كان الرّسول صادقاً، لماذا لا ينزل الله عذابه وسخطه على المخالفين والمعاندين؟ فيجيبهم
1 ـ يقول بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية: إنّها جواب لما كان يورده البعض من تعدّد أزواج الرّسول، في الوقت الذي نرى أنّ سورة الرعد مكّية وتعدّد الزوجات لم يكن حينذاك.
القرآن بأنّ (لكلّ أجل كتاب) وليس بدون حساب وكتاب، وسوف يصل الوقت المعلوم للعقاب(1).
الآية الأُخرى بمنزلة التأكيد والإستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة، وهو أنّ لكلّ حدث وحكم زمن معيّن كما يقال: إنّ الأُمور مرهونة بأوقاتها، وإذا رأيت أنّ بعض الكتب السّماوية تأخذ مكان البعض الآخر وذلك بسبب (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب) فيحذف بعض الأُمور بمقتضى حكمته وإرادته ويثبت اُموراً أُخرى، ولكن الكتاب الأصل عنده.
وفي النهاية وللتأكيد أكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بها وكانوا ينتظرونها حتّى أنّهم يقولون: لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى (وإن ما نرينّك بعض الذي نعدهم (من إنتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير أتباعك وأسر أتباعهم في حياتك) أو نتوفينّك فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب).
* * *
يجب الإنتباه إلى هاتين النقطتين:
مع أنّ جملة (يمحو الله ما يشاء ...) نزلت في مجال المعاجز والكتب السّماوية إلى الأنبياء، لكنّها تبيّن قانوناً عامّاً وشاملا وقد اُشير إليه في مختلف المصادر الإسلامية، وهو أنّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين: الأُولى المرحلة القطعيّة أو الثابتة، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي
1 ـ ولتطابق هذا المعنى يجب أن يكون هناك تقديم وتأخير في الجملة أعلاه، ويقال في تقديره «لكلّ كتاب أجل» كما قاله بعض المفسّرين.
أشارت إليها الآية أعلاه باُمّ الكتاب) والأُخرى المرحلة المتغيّرة أو بعبارة أُخرى «المشروطة» والتي يجد التغيير سبيلا إليها، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات. وأحياناً يُقال عن المرحلتين: «اللوح المحفوظ» و «لوح المحو والإثبات» كأنّ ما كُتب في اللوح الأوّل محفوظ لا يتغيّر، أمّا الثّاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره.
وأمّا حقيقة الأمر فإنّنا ـ أحياناً ـ ننظر إلى الحوادث بأسباب وعلل ناقصّة، فمثلا إذا أخذنا بنظر الإعتبار السمّ الذي بمقتضى طبعه يؤدّي إلى قتل الإنسان وكلّ من يتناوله سوف يموت، بدون علم مسبق أنّ لهذا السمّ ترياق آخر ضدّه لو شربناه بعده سوف يبطل مفعول الأوّل (وقد نكون على علم به لكن لا نريد أن نتحدّث لسبب أو لآخر عن الترياق) لاحظوا هنا أنّ هذه الحادثة (الموت بسبب إستعمال السمّ) ليس لها جانب قطعي، وببيان آخر إنّ مكانها في (لوح المحو والإثبات) ويجد التغيير سبيلا إليه بالنظر إلى الأسباب الأُخرى المرتبطة به.
ولكن لو نظرنا إلى الحادثة من خلال العلّة التامّة لها، يعني توفّر الشروط اللازمة وإزالة الموانع (إستعمال السمّ بدون إستعمال الترياق) تكون الحادثة هنا قطعيّة وببيان آخر: إنّ مكانها في [اللوح المحفوظ واُمّ الكتاب] ولا سبيل للتغيير فيها.
ويمكن أن نوضّح هذا الحديث بشكل آخر، وهو: إنّ للعلم الإلهي مرحلتين (علم بالمقتضيات والعلل الناقصّة) و (علم بالعلل التامّة) فما إرتبط بالمرحلة الثانية نعبّر عنها بـ(اُمّ الكتاب واللوح المحفوظ) وما إرتبط بالمرحلة الأُولى نعبّر عنها بـ(لوح المحو والإثبات) وإلاّ فليس اللوح موضوعاً في زاوية من السّماء حتّى يكتبوا أو يمحوا فيه شيئاً ويثبتوا بدله شيئاً آخر.
ومن هنا تتضّح الإجابة على كثير من الأسئلة في ضوء ما ورد في المصادر الأصليّة في الإسلام، لأنّنا نقرأ مرّةً في الرّوايات أو بعض الآيات القرآنية، أنّ
العمل الفلاني له الأثر الكذائي، لكنّنا في بعض الأحيان لا نرى هذه النتيجة، وذلك بسبب أنّ تحقّق تلك النتيجة يعتمد على شرائط أو موانع لم تتحقّق.
وهناك روايات كثيرة في باب (اللوح المحفوظ) و (لوح المحو والإثبات) وعلم الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وعلى سبيل المثال نذكر قسماً منها:
1 ـ أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي (عليه السلام) أنّه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن هذه الآية فقال له: «لأقرنّ عينيك بتفسيرها ولأقرنّ عين اُمّتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، وإصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء»(1).
وهذه إشارة إلى أنّ الشقاء والسعادة ليست أُموراً حتمية، حتّى إذا إرتكب الإنسان إثماً وعدّ من الأشقياء فإنّ بإستطاعته أن يُغيّر من سلوكه ويتّجه صوب الخير، وخصوصاً مساعدة وخدمة عباد الله، لأنّ هذه الأُمور مكانها في (لوح المحو والإثبات) لا (اُمّ الكتاب).
ويجب الإلتفات إلى أنّ ما جاء في هذا الحديث يبيّن قسماً من مفهوم الآية.
2 ـ عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «من الأُمور اُمور محتومة كائنة لا محالة، ومن الأُمور اُمور موقوفة عند الله يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء»(2).
وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «لولا آية في كتاب الله لحدثّتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فقلت له: أيّة آية؟ فقال: قال الله (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)(3).
وهذا الحديث دليل على أنّ اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات بكلّ
1 ـ تفسير الميزان، المجلّد 11، ص419.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ نور الثقلين، ج2، صفحة 512.
خصوصياتها مختصّة بالله جلّ وعلا، وهناك قسمٌ منها يُعلم بها الخواص من عباده إذا إقتضت الضرورة.
ونقرأ في أدعية ليالي شهر رمضان المبارك: «وإن كنت من الأشقياء فاكتبني عندك من السعداء».
وعلى أيّة حال فالمحو والإثبات بهذا الشكل الذي قلناه له معنىً جامع يشمل كلّ تغيير في الحال بسبب تغيير الشروط وحدوث الموانع، وأمّا ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة إشارة إلى مسألة محو الذنوب بسبب التوبة، أو زيادة ونقصان الرزق على أثر تغيير الشروط، ليس صحيحاً، إلاّ إذا اعتبروها واحداً من مصاديقها.
«البداء» أحد البحوث العويصة بين الشيعة والسنّة.
يقول الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية ـ محلّ البحث ـ: «يعتقد الشيعة أنّ البداء جائز على الله، وحقيقة البداء عندهم أنّ الشخص يعتقد بشيء ثمّ يظهر له خلاف ذلك الإعتقاد، ولإثبات ذلك يتمسكون بالآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت)ثمّ يضيف الرازي: إنّ هذه العقيدة باطلة، لأنّ علم الله من لوازم ذاته، ومحال التغيير والتبديل فيه».
وممّا يؤسف له حقّاً عدم المعرفة بعقيدة الشيعة في مسألة البداء أدّت إلى أن ينسب كثيرون تهماً غير صحيحة إلى الشيعة الإماميّة.
ولتوضيح ذلك نقول:
«البداء» في اللغة بمعنى الظهور والوضوح الكامل، وله معنىً آخر هو الندم، لأنّ الشخص النادم قد ظهرت له ـ حتماً ـ اُمور جديدة.
لا شكّ، إنّ هذا المعنى الأخير بالنسبة إلى الله تعالى مستحيل، ولا يمكن لأي
عاقل وعارف أن يحتمل أنّ هناك اُموراً خافية على الله ثمّ تظهر له بمرور الأيّام، فهذا القول هو الكفر بعينه، ولازمه نسبة الجهل وعدم المعرفة إلى ذاته المقدّسة، وأنّ ذاته محلاًّ للتغيير والحوادث.
وحاشا للشيعة الإماميّة أن يحتملوا ذلك بالنسبة لذات الله المقدّسة! إنّ ما يعتقده الشيعة من معنى البداء ويصرّون عليه، هو طبقاً لما جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام): ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء.
كثيراً ما يكون ـ وطبقاً لظواهر العلل والأسباب ـ أن نشعر أنّ حادثة ما سوف تقع أو أنّ وقوع مثل هذه الحادثة قد أخبر عنه النّبي، في الوقت الذي نرى أنّ هذه الحادثة لم تقع، فنقول حينها: إنّ «البداء» قد حصل، وهذا يعني أنّ الذي كنّا نراه بحسب الظاهر سوف يقع وإعتقدنا تحقّقه بشكل قاطع قد ظهر خلافه.
والأصل في هذا المعنى هو ما قلناه في بحثنا السابق، وهو أنّ معرفتنا مرّةً تكون فقط بالعلل الناقصّة، ولا نرى الشروط والموانع ونقضي طبقاً لذلك، ولكن بعد أن نواجه فقدان الشرط أو وجود المانع ويتحقّق خلاف ما كنّا نتوقّعه سوف ننتبه إلى هذه المسائل. وكذلك قد يعلم النّبي أو الإمام باُمور مكتوبة في لوح المحو والإثبات القابل للتغيير طبعاً، فقد لا تتحقّق أحياناً لمواجهتها بالموانع وفقدان الشروط.
ولكي تتّضح هذه الحقيقة لابدّ من مقايسة بين «النسخ» و «البداء»: نحن نعلم أنّ النسخ جائز عند جميع المسلمين، يعني من الممكن أن ينزل حكم في الشريعة فيتصوّر الناس أنّ هذا الحكم دائمي، لكي بعد مدّة يعلن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)عن تغيير هذا الحكم وينسخه، ويحلّ محلّه حكماً آخر (كما قرأنا في حادثة تغيير القبلة).
إنّ هذا في الحقيقة نوع من «البداء» ولكن في القضايا التشريعيّة والقوانين والأحكام يسمّونه بـ«النسخ» وفي الأُمور التكوينيّة يسمّى بـ«البداء» ويقال
أحياناً: (النسخ في الأحكام نوع من البداء، والبداء في الأُمور التكوينيّة نوع من النسخ).
فهل يستطيع أحد أن ينكر هذا الأمر المنطقي؟ إلاّ إذا كان لا يفرّق بين العلّة التامّة والعلل الناقصّة، أو كان واقعاً تحت تأثير الدعايات المغرضة ضدّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يجيز له تعصّبه الأعمى أن يطالع عقائد الشيعة من نفس كتبهم، والعجيب أنّ الرازي قد ذكر مسألة «البداء» عند الشيعة في ذيل الآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت) بدون أن يلتفت إلى أنّ البداء ليس أكثر من المحو والإثبات، وهجم على الشيعة بعصبيته المعروفة وإستنكر عليهم قولهم بالبداء.
اسمحوا لنا هنا أن نذكر أمثلة مقبولة عند الجميع:
1 ـ نقرأ في قصّة «يونس» أنّ عدم طاعة قومه أدّت إلى أن ينزل العذاب الإلهي عليهم، وقد تركهم النّبي لعدم هدايتهم وإستحقاقهم العذاب، لكن فجأةً وقع البداء حيث رأى أحد علمائهم آثار العذاب، فجمعهم ودعاهم إلى التوبة، فقبل الجميع ورفع العذاب (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين)(1).
2 ـ وجاء في التأريخ الإسلامي أنّ السيّد المسيح (عليه السلام) أخبر عن عروس أنّها سوف تموت في ليلة زفافها، لكنّها بقيت سالمة! وعندما سألوه عن الحادثة قال: هل تصدّقتم في هذا اليوم؟ قالوا: نعم. قال: الصدقة تدفع البلاء المبرم(2)!.
لقد أخبر السيّد المسيح (عليه السلام) عن هذه الحادثة بسبب إرتباطه بلوح المحو والإثبات، في الوقت الذي كانت هذه الحادثة مشروطة (مشروطة بأن لا يكون هناك مانع مثل الصدقة) وبما أنّها واجهت المانع أصبحت النتيجة شيئاً آخر.
3 ـ ونقرأ في قصّة إبراهيم (عليه السلام) ـ محطّم الأصنام ـ في القرآن الكريم أنّه أُمر
1 ـ يونس، 98.
2 ـ بحار الأنوار الطبعة القديمة المجلّد الثّاني صفحة 131 ـ عن أمالي الصدوق.
بذبح إسماعيل، وذهب بإبنه إلى المذبح وتلّه للجبين، فعندما أظهر إسماعيل إستعداده للذبح ظهر البداء الإلهي وظهر أنّ هذا الأمر إمتحان لكي يرى الله تعالى مستوى الطاعة والتسليم عند إبراهيم (عليه السلام).
4 ـ ونقرأ في سيرة موسى (عليه السلام) أنّه أُمر أن يترك قومه أوّلا ثلاثين يوماً ويذهب إلى مكان الوعد الإلهي لإستلام أحكام التوراة، لكن المدّة زادت عليها عشرة أيّام أُخرى (وذلك إمتحاناً لبني إسرائيل).
هنا يأتي هذا السؤال: ما هي الفائدة من هذه البداءات؟
الجواب على هذا السؤال ليس صعباً بالنظر إلى ما قلناه سابقاً، لأنّه تحدث مسائل مهمّة ـ أحياناً ـ مثل إمتحان شخص مع قومه، أو تأثير التوبة والرجوع إلى الله (كما في قصّة يونس) أو تأثير الصدقة ومساعدة المحتاجين وعمل الخير، كلّ ذلك يؤدّي إلى دفع الحوادث المفجعة وأمثالها، وهذا يعني أنّ الحوادث المستقبلية قد نُظِّمَت بشكل خاص ثمّ تغيّرت الشرائط فأصبحت شيئاً آخر، حتّى يعلم الناس أنّ مصيرهم بأيديهم، وهم قادرون أن يغيّروا مصيرهم من خلال تغيير سيرتهم وسلوكهم، وهذه أكبر فائدة نلمسها من البداء «فتدبّر».
فما ورد من أنّ أحداً إذا لم يعرف الله بالبداء لم يعرفه معرفةً كاملة، فهي إشارة لتلك الحقائق.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ما بعث الله عزّوجلّ نبيّاً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»(1).
وفي الحقيقة إنّ أوّل عهد مرتبط بالطاعة والتسليم لله. وثاني عهد محاربة الشرك، والثّالث مرتبط بمسألة البداء، ونتيجته أنّ مصيره بيده، فيستطيع أن يغيّر الشروط فيشمله اللطف أو العذاب الإلهي.
الملاحظة الأخيرة في هذا المجال .. يقول علماء الشيعة: إنّنا حينما ننسب
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 114 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 61.
البداء إلى الله جلّ وعلا فإنّه يكون بمعنى «الإبداء» بمعنى إظهار الشيء الذي لم يكن ظاهراً لنا من قبل ولم يكن متوقّعاً.
وإنّ ما ينسب إلى الشيعة بأنّهم يعتقدون أنّ الله يندم على عمله أحياناً، أو يخبر عن شيء لم يعلمه سابقاً، فهذه من أكبر التُّهم ولا يمكن الصفح عنها أبداً.
![]() |
![]() |
![]() |