3 ـ جملة (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ) تدلّ على أنّهم لم يرموه في البئر، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النّزول الى سطح الماء، وقد شدوه يحبل حتى إذا نزل ووصل الى غيابة الجبّ تركوه وحده.

وهناك قسم من الرّوايات التي تفسّر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع.

4 ـ تسويل النفس

جملة «سوّلت» مشتقّة من «التسويل» ومعناه «التزيين» وقد يأتي بمعنى «الترغيب» وقد يأتي بمعنى «الوسوسة» كما في بعض التفاسير ... جميع هذه المعاني ترجع الى شيء واحد ... أي إِنّ هوى النفس زيّن لكم هذا العمل.

وهي إِشارة الى أنّه حين يطغى هوى النفس على الإِنسان ويستبدّ به عناده، فإنه يتصور أن أسوأ الجنايات لديه أمر حسن، كما لو كان ذلك قتل الأخ أو إِبعاده، وقد يتصور أن ذلك أمر مقدّس ... وهذه نافذة على أصل كلي في المسائل


1 ـ المصدر السابق، ص 416.

2 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 216.

[162]

النفسية، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما ـ وخاصّة مع اقترانهما بالرذائل الأخلاقية ـ غشاوة على إِحساس الإِنسان، فتنقلب عنده الحقائق وتتغير صورها.

لذا فإِنّ القضاء الصحيح وإِدراك الواقعيّات العينيّة، لا يمكن لها أن تتحقق دون تهذيب النفس، وإِذا كانت العدالة شرط في القاضي فإنّ هذا الأمر واحد من أسبابها ... وإِذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (282) من سورة البقرة (واتقوا الله ويعلمكم الله) فذلك إِشارة الى هذه الحقيقة أيضاً.

5 ـ الكذاب عديم الحافظة

قصّة يوسف ـ وما جرى له مع إِخوته ـ تثبت مرّة أُخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول: إِنّ الكذاب لا يستطيع أن يكتم سرّه دائماً، لأنّ الواقعيات العينية حين تظهر الى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط ـ أكثر من أن تعدّ ـ مع موضوعات أُخرى تدور حولها، وإِذا أراد الكاذب أن يهيىء مناخاً لمسألة غير واقعية فإنّه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقاً.

ولنفرض أنّه يستطيع أن يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما، ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هيّناً، فإنّ أقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها وتكشف الأمر الواقعي ... وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه ومكانته في المجتمع أن لا يلجأ الى الكذب فيتعرض موقعه الإِجتماعي للخطر وينزل عليه غضب الله.

6 ـ ما هو الصبر الجميل؟

الصبر أمام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدلّ على قوة شخصية الإِنسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.

[163]

ربّما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير، ولكن المحيطات العظيمة كالمحيط الهادي ـ مثلا ـ يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى أمام هدوئه وسعته.

وقد يتصبر الإِنسان أحياناً، ولكنّه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية التي تدل عى عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر.

ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإِرادة قويّة واستيعاب للحوادث، هم أُولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدلّ على عدم الشكر وكفران النعمة أو الجزع أو الهلع.

صبر هؤلاء هو الصبر الجميل ...

قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأُخرى ـ من هذه السورة ـ أنّ يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب صبرَه الجميل؟!

والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: إِن قلوب عباد الله مركز للعواطف، فلا عجب أن ينهلّ دمع عينهم مدراراً، المهم أن يسيطروا على أنفسهم، ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئاً يسخط الله.

ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه الى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حين بكى على موت ولده إِبراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟!

فأجابهم النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ». وفي رواية أُخرى أنه قال: «ليس هذا بكاء إِنّه رحمة»(1).

وهذا إِشارة الى أنّ ما في صدر الإِنسان هو القلب، وليس حجر! وطبيعيّ أن يتأثر الإِنسان أمام المسائل العاطفية، وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع ... إِنَّ هذا لايعدّ عيباً، بل هو أمر حسن، العيب هو أن يقول الإِنسان ما يسخط الربّ.

* * *


1 ـ بحار الأنوار، ج 22، ص 157 و158.

[164]

الآيتان

وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَـبُشْرَى هَـذَا غُلَـمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَـعَةً وَاللهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ(19) وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَهِمَ مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّهِدِينَ(20)

التّفسير

نحو أرض مصر:

قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّةً، ولكنّه بإِيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الإِيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمّل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الإِمتحان.

ولكنّ ... الله أعلم كم يوماً قضى يوسف في هذه الحالة؟

قال بعض المفسّرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.

وعلى كل حال تبلج النّور (وجاءت سيّارة)(1).

وانتخَبت منزلها على مقربة من الجُبّ، وطبيعي أنّ أوّل ما تفكر القافلة فيه ـ


1 ـ سمّيت القافلة «سيارة» لأنّها في سير وحركة دائمين.

[165]

في منزلها الجديد ـ هو تأمين الماء وسد حاجتها منه (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه)(1).

فانتبه يوسف الى صوت وحركة من أعلى البئر، ثمّ رأى الحبل والدلو يسرعان الى النّزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإِلهي وتعلق بالحبل بوثوق.

فأحسّ المأمور بالإِتيان بالماء أن الدلو قد ثقُلَ أكثر ممّا ينبغي، فلمّا سحبه بقوة الى الأعلى فوجىء نظره بغلام كأنّه فلقة قمر، فصرخ وقال: (يا بشرى هذا غلام).

وشيئاً فشيئاً سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه (وأسرّوه بضاعة)(2).

وبالطبع هناك احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة منها أن الذين عثروا على يوسف أسرّوه وأخفوا خبره، وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.

ومنها أن أحد إِخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي الى الجبّ ليطلع على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع إِخوة يوسف على ما جرى أخفوا علاقتهم الأخوية بيوسف وقالوا: هذا غلامنا فرّ من أيدينا واختفى هنا، وهددوا يوسف بالموت إِذ كشف الستار عن الحقيقة.

ولكن التّفسير الأوّل يبدو أقرب للنظر.

وتقول الآية في نهايتها: (والله عليم بما كانوا يعملون) وبالرغم من اختلاف المفسّرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس، وقول بعضهم: هم إِخوة


1 ـ «الوارد» في الأصل من «الورود» وهو من يأتي بالماء، ثمّ توسع استعمال الكلمة وأطلقت على كل ورود ودخول.

2 ـ «البضاعة» في الأصل من مادة «بضع» على وزن «نذر» ومعناها: القطعة من اللحم، ثمّ توسعوا في المعنى وأطلقوا هذا اللفظ على القطعة المهمّة، من المال. والبضعة هي القطعة من الجسد، وحَسنَ البضع معناه: الإِنسان المكتنز لحمه، و«بِضْع» على وزن «حِزب» معناه العدد من ثلاثة الى عشرة (راجع المفردات للراغب).

[166]

يوسف، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة، وقد تمّ البحث عن إِخوته في نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات، وجميع الضمائر في الجُمَل (أرسلوا واردهم)و(أسروه بضاعة) تعود على من كان في القافلة.

هنا يبرز هذا السؤال وهو: لِمَ باعوا يوسف الذي كان يعدّ ـ على الأقل ـ غلاماً ذا قيمة بثمن قليل، أو كما عبّر عنه القرآن (وشروه بثمن بخس)...؟

ولكن هذا أمر مألوف فإنّ السُراق أو أُولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون أي تعب ونصب يبيعونها سريعاً لئلا يطلع الآخرون.

ومن الطبيعي أنّهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.

و«البخس» في الأصل معناه تقليل قيمة الشيء ظلماً، ولذلك فإنّ القرآن يقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(1).

ثمّ إنّ هناك اختلافاً آخر بين المفسّرين في الثمن الذي بيع به يوسف، وكيف قُسّم بينهم؟ فقال البعض: عشرون درهماً، وقالت طائفة: اثنان وعشرون، ومع ملاحظة أنّ الباعة كانوا عشرين يتّضح سهم كل منهم، وكم هو زهيد! ... وتقول الآية: (وكانوا فيه من الزاهدين).

وفي الحقيقة إِنّ هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة، وهي إِشارة الى أنّهم باعوا يوسف بثمن بخس، لأنّهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم يعتنوا بها.

وهذا البيع البخس إِمّا لأنّ أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، والإِنسان إِذا اشترى شيئاً رخيصاً باعه رخيصاً عادةً، أو إِنّهم كانوا يخافون أن يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه، أو من جهة أنّهم لم يجدوا في يوسف أثراً للغلام الذي يباع ويُشترى، بل وجدوا فيه آثار الحرّية واضحة في وجهه، ومن هنا فلا البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.

* * *


1 ـ هود، 85.

[167]

الآيتان

وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ(21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ(22)

التّفسير

في قصر عزيز مصر:

إنتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر ... فقد جيء بيوسف الى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر» الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه، لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات، والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.

يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته

[168]

أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) فلا ينبغي أن تنظري اليه كما ينظرالى العبيد.

يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض).

هذا «التمكين» في الأرض إِمّا أن يكون لمجيىء يوسف الى مصر، وخاصّة أن خطواته، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الإِقتدار والمكانة القصوى، وإِمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر «العزيز» وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة. فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!

ويضيف القرآن أيضاً (ولنعلمه من تأويل الأحاديث).

المراد من «تأويل الأحاديث» ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله، أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الإِختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي. ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر.

ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدع ـ في كثير من الموارد ـ أسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف(عليه السلام)، فلو لا خطة إِخوته لم يصل الى الجبّ أبداً، ولو لم يصل الى الجبّ لما وصل الى مصر، ولو لم يصل الى مصر لما ذهب الى السجن ولما كان


1 ـ «المثوى» من مادة (ثوى) ومعناه المقام، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.

[169]

هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر!

ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ.

لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك!

أجلْ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء، وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ. فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين).

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «شدّ» وتعني فتل العقدة باستحكام ... وهي هنا إِشارة الى الإِستحكام الجسماني والروحاني.

قال بعضهم: إِنّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها ... ولكن البعض الآخر قال: إِنّها جمع (شدّ) على وزن (سدّ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإِنكار على كل حال!

المراد من «الحكم» و«العلم» الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً ...) إِمّا أن يكون مقام النبوّة كما ذهب الى ذلك بعض المفسّرين، وإِمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإِشتباه. والمراد من العلم الإِطلاع الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما

[170]

الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة «المحسنين».

قال بعض المفسّرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم) الواردتين في الآية، وهي:

1 ـ إِنّ الحكم إِشارة الى مقام النبوة (لأنّ النّبي حاكم على الحق) والعلم إِشارة الى علم الدين.

2 ـ إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة، وهو هنا إِشارة الى الحكمة العملية. والعلم إِشارة الى العلم النظري ... وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحاً لا يصل الى العلم الصحيح.

3 ـ إِنّ الحكم معناه أن يبلغ الإِنسان مقام «النفس المطمئنة» ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمّارة ووسوستها ... والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة وأشعة الفيض الإِلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإِنسان الطاهر(1).

* * *

ملاحظات

1 ـ ما هو اسم «عزيز» مصر؟

ممّا يستجلب النظر في الآيات المتقدمة أن اسم عزيز مصر لم يذكر فيها، إِنّما ورد التعبير عنه بـ(الذي اشتراه).

لكن من هو هذا العزيز؟! لم تذكره الآية، كما سنرى في الآيات المقبلة أن عنوانه لم يصرّح به إِلاّ بالتدريج، فمثلا نقرأ في الآية (25) هذا النصّ (وألفيا


1 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 111.

[171]

سيدّها لدى الباب).

وحين نتجاوز هذه الآيات ونصل الى الآية (30) نواجه التعبير عن زوجته  بـ «امرأة العزيز».

وهذا البيان التدريجي إِمّا لأنّ القرآن يتحدث ـ حسب طريقته ـ بالمقدار اللازم، وهذا دليل من أدلة الفصاحة والبلاغة، أو لأنّه ـ كما هو ملاحظ هذا اليوم في «نصوص الآداب» أيضاً ـ حين يبدأ بالقصّة ـ يبدأ بها من نقطة غامضة ليتحرك الإِحساس في الباحث، وليلفت نظره نحو القصّة.

2 ـ يوسف (عليه السلام) وتعبير الأحلام

الملاحظة الأُخرى التي تثير السؤال في الآيات المتقدمة، هي: ما علاقة الإِطلاع على تفسير الأحلام وتأويل الأحاديث بمجيىء يوسف الى قصر عزيز مصر الذي أشير إِليه بلام الغاية في جملة (ولنعلّمه)؟!

لكن مع الإِلتفات الى أنّ هذه النقطة يمكن أن تكون جواباً للسؤال الآنف الذكر، وهي أن كثيراً من المواهب العلمية يهبها الله قبال التقوى من الذنوب ومقاومة الاهواء والميول النفسيّة، أو بتعبير آخر: إِنّ هذه المواهب التي هي ثمرة البصيرة القلبية الثاقبة، هي جائزة إِلهية يهبها الله لمثل هؤلاء الأشخاص.

نقرأ في حالات ابن سيرين مفسر الأحلام المشهور أنّه كان رجلا بزازاً وكان جميلا للغاية فعشقته امرأة وتعلق قلبها به، واستدرجته الى بيتها بأساليب وحيل خاصّة، ثمّ غلّقت الأبواب عليه (لينال منها الحرام) لكنه لم يستسلم لهوى تلك المرأة وأخذ ينصحها ويذكر مفاسد هذا الذنب العظيم، ولكن نار الهوى كانت متأججة في قلبها بحيث لم يطفئها ماء الموعظة، ففكر ابن سيرين في الخلاص من قبضتها، فلوّث جَسده بما كان في بيتها من أقذار تنفّر الرائي، فلما رأته المرأة نفرت منه وأخرجته من البيت.

[172]

يقال أنّ ابن سيربن أصبح ذكيّاً بعد هذه الحادثة ورزق موهبة عظيمة في تفسير الأحلام، وذكروا قصصاً عجيبة عنه في الكتب التي تتناول تفسير الأحلام تدل على عمق اطلاعه في هذا المجال!

فعلى هذا يمكن أن يكون يوسف(عليه السلام) قد نال هذه الموهبة الخاصّة (العلم بتأويل الأحاديث) لتسلّطه على نفسه قبال إِثارة امرأة العزيز لهوى النفس!

ثمّ بعد هذا كله فإنّ قصور الملوك في ذلك الزمان كانت مراكز لمفسري الأحلام، وإِنّ شاباً ـ ذكياً كيوسف ـ كان يستطيع أن يستفيد من تجارب الآخرين، وأن يكون له استعداد روحي لإِفاضة العلم الإِلهي في هذا المجال!

وعلى كل حال فإنّه ليس مستبعداً أن يهب الله سبحانه لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين «جهاد النفس للهوى والشّهوات» مواهب من المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي، ويمكن أن يكون الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» إِشارة الى هذه الحقيقة.

هذا العلم ليس ممّا يقرأ عند الأستاذ، ولا يعطى لأيّ كان وبدون حساب ... بل هو جائزة من الجوائز التي تمنح للمتسابقين في ميادين جهاد النفس!

3 ـ المراد من قوله تعالى: (ولمّا بلغ أشدّه)

قلنا إِن (أشدّ) معناه الإِستحكام الجسماني والروحاني، وبلوغ الرشد معناه الوصول الى هذه المرحلة، ولكن هذا العنوان قد عبّر عنه القرآن الكريم في مراحل مختلفة من عمر الإِنسان.

فتارة أطلقه على سنّ البلوغ كقوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إِلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه)(1).

وتارةً يرد هذا المعنى في وصول الإِنسان الى أربعين سنة، كقوله تعالى:


1 ـ سورة الإِسراء، الآية 34.

[173]

(حتى إِذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)(1).

وتارةً يراد به ما قبل مرحلة الشيخوخة والكبر، كقوله تعالى: (ثمّ يخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ثمّ لتكونوا شيوخاً)(2).

ولعل هذا التفاوت في التعبيرات آت من طيّ الإِنسان مراحل مختلفة لإِستحكام الروح والجسم، ولا شكّ أن الوصول الى سنّ البلوغ واحد من هذه المراحل.

وبلوغ الأربعين الذي يكون توأماً للنضج الفكري والعقلي مرحلة ثانية، كما أن المرحلة الثّالثة تكون قبل أن يسير الإِنسان نحو قوس النّزول ويبلغ الضعف والوهن!

وعلى كل حال فإنّ المقصود في الآية ـ محل البحث ـ هو مرحلة البلوغ الجسمي والروحي الذي ظهر في يوسف بداية شبابه، يقول الفخر الرازي في تفسيره في هذا الصدد: «مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسرٌ، فإِذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرمَ رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع، فالإِنسان إِذا وُلد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب الى أن يتم له سبع سنين، ثمّ إِذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوّة، ثمّ لا يزال في الترقي إلى أن يتمّ له أربع عشرة سنة، فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثّالث وهناك يكمل العقل ويبلغ الى حد التكليف وتتحرك فيه الشهودة، ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة الى أن يتم السنةَ الحاديةَ والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثّالث، ويدخل في السنة الثّانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسبوع النشوء والنماء، فإِذا تمّت السنة الثّامنة والعشرون فقد تمّت مدّة النشوء والنماء وينتقل الإِنسان منه الى زمان الوقوف،


1 ـ سورة الأحقاف، الآية 15.

2 ـ سورة غافر، 67.

[174]

وهو الزمان الذي يبلغ الإِنسان فيه أشدّه، وبتمام هذا الأسبوع الخامس ـ يحصل للإِنسان خمسة وثلاثون سنة ثمّ إنّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان، فهذا الاسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدّة والكمال يبتدىء من السنة التّاسعة والعشرين الى الثّالثة والثّلاثين، وقد يمتّد الى الخامسة والثّلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء»(1).

التقسيم المتقدّم وإِن كان مقبولاَ الى حدٍّ ما ... لكنّه يبدو غير دقيق، لأنّ مرحلة البلوغ أوّلا ليست في انتهاء العقد الثاني، وكذلك فإن التكامل الجسماني ـ طبقاً لما يقول علماء اليوم ـ هو 25 سنة ... والبلوغ الفكري الكامل أربعون سنةً طبقاً لبعض الرّوايات ، وبعد هذا كله فإنّ ما ورد آنفاً لا يصحّ أن يكون قانوناً عامّاً ليصدق على جميع الأشخاص.

4 ـ وآخر ما ينبغي الإِلتفات إِليه هنا هو أن القرآن بعد أن يتحدث عن إِتيان يوسف الحكم والعلم يعقب بالقول: (وكذلك نجزي المحسنين) ومعنى ذلك أن مواهب الله ـ حتى للأنبياء ـ ليست اعتباطاً، وكل ينال بمقدار إِحسانه ويغرف من بحر الله وفيضه اللامحدود كما نال يوسف سهماً وافراً من ذلك بصبره واستقامته أمام كل تلك المشاكل.

* * *


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 18، ص 111.

[175]

الآيتان

وَرَوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاَْبْوَبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ (24)

التّفسير

العشق الملتهب:

لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّماً بجماله!.

وامتدّت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوماً بعد يوم ويزداد إشتعالا ... لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي، لم يفكّر بغير الله، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق الله سبحانه.

وهناك اُمور أُخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف .. فمن جهة لم تُرزق الولَد، ومن جهة أُخرى إنغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ ... ومن جهة

[176]

ثالثة عدم إبتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة .. كلّ ذلك ترك امرأة العزيز ـ الفارغة من الإيمان والتقوى ـ تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيراً عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.

واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثراً من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم: (وراودته التي هو في بيتها).

وجملة «راودته» مأخوذة من مادّة «المراودة» وأصلها البحث عن المرتع والمرعى، وما ورد في المثل المعروف «الرائد لا يكذب أهله» إشارة إلى هذا المعنى، كما يطلق «المرود» على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به العين، ثمّ توسّعوا في هذا اللفظ فاُطلق على كلّ ما يُطلب بالمداراة والملاءمة.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق المسالمة والمساومة ـ كما يصطلح عليه ـ وبدون أي تهديد، وأبدت محبّتها القصوى له بمنتهى اللين.

وأخيراً فكّرت في أن تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب فضفاضة، وعطور عبقة شذيّة، وتجميلات مرغبة، حتّى تستولي على يوسف وتأسره!.

يقول القرآن الكريم: (وغلّقت الأبواب وقالت هيتَ لك).

«غلّقت» تدلّ على المبالغة وأنّها أحكمت غلق الأبواب، وهذا يعني أنّها سحبت يوسف إلى مكان من القصر المتشكّل من غرف متداخلة .. وكما ورد في بعض الرّوايات كانت سبعة أبواب، فغلقتها عليه جميعاً .. لئلاّ يجد يوسف أي طريق للفرار .. إضافةً إلى ذلك أرادت أن تُشعر يوسف أن لا يقلق لإنتشار الخبر فإنّه سوف لا يفتضح، حيث لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى داخل القصر أبداً.

[177]

وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أنّ هذه الأُمور تجري نحو الإثم، ولم ير طريقاً لخلاصه منها، توجّه يوسف إلى زليخا و (قال معاذ الله) وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع .. وأعلمها أنّه لن يستسلم لإرادتها. وأفهمها ضمناً ـ كما أفهم كلّ إنسان ـ أنّه في مثل هذه الظروف الصعبة لا سبيل إلى النجاة من وساوس الشيطان وإغراءاته إلاّ بالإلتجاء إلى الله .. الله الذي لا فرق عنده بين السرّ والعلن، بين الخلوة والإجتماع، فهو مطّلع ومهيمن على كلّ شيء، ولا شيء إلاّ وهو طوع أمره وإرادته!

وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية العملية أيضاً، ثمّ أضاف (إنّه ربّي أحسن مثواي) .. أليس التجاوز ظُلماً وخيانةً واضحة (إنّه لا يفلح الظالمون).

المراد من كلمة «ربّي»

هناك أقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من قوله: (إنّه ربّي) فأكثر المفسّرين، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار وغيرهما، قالوا: إنّ كلمة «ربّ» هنا إستعملت في معناها الواسع، وقالوا: إنّ المراد من كلمة «ربّ» هنا هو «عزيز مصر» الذي لم يألُ جهداً في إكرام يوسف، وكان يوصي امرأته من البداية بالإهتمام به وقال لها: (أكرمي مثواه).

ومن يظنّ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطىء تماماً، لأنّ كلمة «ربّ» في هذه السورة أطلقت عدّة مرّات على غير الله سبحانه. وأحياناً ورد هذا الإستعمال على لسان يوسف نفسه، وأحياناً على لسان غيره!

فمثلا في قصّة تعبير الرؤيا للسجناء، طلب يوسف من الذي بشّره بالنجاة أن يذكر حاله عند ملك مصر (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما أذكرني عند ربّك) (الآية 42).

[178]

كما نلاحظ هذا الإستعمال على لسان يوسف ـ أيضاً ـ حين جاءه مبعوث فرعون مصر، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (فلمّا جاءه الرّسول قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) (الآية 50).

وفي الآية (41) من هذه السورة، وذيل الآية (42) اُطلقت كلمة «ربّ» في لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة. فعلى هذا تلاحظون أنّ كلمة «ربّ» استعملت 4 مرّات ـ سوى الآية محلّ البحث ـ في غير الله، وإن كانت قد إستعملت في هذه السورة وفي سور أُخرى من القرآن في خصوص ربّ العالمين (الله) مراراً.

فالحاصل أنّ هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.

ولكن رجّح بعض المفسّرين أن تكون كلمة «ربّ» في هذه الآية (إنّه ربّي أحسن مثواي) يُقصد بها الله .. لأنّها جاءت بعد كلمة (معاذ الله) مباشرةً، وكونها إلى جنب لفظ الجلالة صار سبباً لعود الضمير في (إنّه ربّي) عليه فيكون معنى الآية: إنّني ألتجىء إلى الله وأعوذ به فهو إلهي الذي أكرمني وعظم مقامي وكلّ ما عندي من النعم فهو منه.

ولكن مع ملاحظة وصيّة عزيز مصر لامرأته (أكرمي مثواه) وتكرارها في الآية ـ محل البحث ـ يكون المعنى الأوّل أقرب وأقوى.

جاء في التوراة الفصل 39 رقم 8 و9 و10 ما مؤدّاه: «وبعد هذا وقعت المقدّمات، إنّ امرأة سيّده ألقت نظرتها على يوسف وقالت: إضطجع معي، لكنّه أبى وقال لامرأة سيّده: إنّه سيّدي غير عارف بما معي في البيت، وكلّ ما يملك مودع عندي، ولا أجد أكبر منّي في هذا البيت، ولم يزاحمني شيء سواك لأنّك امرأته، فكيف اُقدم على هذا العمل القبيح جدّاً، وأتجرّأ في الذنب على الله». فهذه الجمل في التوراة تؤيّد المعنى الأوّل.

وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها، حيث يعبّر

[179]

القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه).

وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى ثلاثة تفاسير:

1 ـ إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجهاً لوجه ... لولا أن رأى برهان الله ... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل!

فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ» أي القصد من امرأة العزيز، والقصد من قبل يوسف، هو أنّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق، أي (عدم وجود برهان ربّه) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً، ولأنّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة، فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء!

ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا: إنّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الإغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته، ولولا أنّي تربّيت سنين طوالا عند اُستاذي العارف الزاهد فلان، لأقدمت على هذا العمل معهم.

فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطاً بشرط لم يتحقّق، وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى، بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك.

وطبقاً لهذا التّفسير لم يبدُ من يوسف أي شيء يدلّ على التصميم على الذنب، بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم.