فلابدّ من ملاحظة المنافع الدينيّة والإجتماعية ومقارنتها مع الأضرار الناتجة، إذ لعلّ الذي يتصدّى للمنصب قد يستطيع في نهاية المطاف أن يزيح الظالم عن الحكم (كما حدث ليوسف بناءً على مضمون بعض الرّوايات الواردة) أو يكون المعين الذي تنبثق منه الحركات والثورات، لأنّه يقوم بتهيئة مقدّمات الثورة من داخل أجهزة الحكم القائم (ويمكن أن يكون مؤمن آل فرعون من هذا القبيل) أو يكون على الأقل ملجأً وملاذاً للمظلومين والمحرومين ومخفّفاً عن آلامهم والضغوط الواردة عليهم من قبل أجهزة النظام.

وكلّ واحد من هذه الأُمور يمكن أن يكون مبرّراً للتصدّي للمناصب وقبولها من الحاكم الظالم، وللإمام الصادق (عليه السلام) رواية معروفة في حقّ هؤلاء الأشخاص يقول (عليه السلام) (كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان)(1).


1 ـ وسائل الشيعة، ج12، 139.

[240]

لكن هذا الموضوع ـ التعاون مع الظالم ـ من الاُمور التي يقترب فيها حدود الحلال من الحرام، وكثيراً ما يؤدّي تهاون صغير من الشخص المتصدّي إلى وقوعه في أشراك النظام وإرتكاب جريمة تعدّ من أكبر الجرائم وأفظعها ـ وهي التعاون مع الظالم ـ في حين يتصوّر أنّه يقوم بعبادة وخدمة إنسانية مشكورة.

وقد يستفيد بعض الإنتهازيين من حياة (يوسف) أو (علي بن يقطين) ويتّخذه ذريعة للتعاون مع الظالم وتغطية لأعمالهم الشريرة، في حين أنّه يوجد بون شاسع بين تصرّفاتهم وتصرّفات يوسف أو علي بن يقطين(1).

هنا سؤال آخر يطرح نفسه وهو أنّه كيف رضخ سلطان مصر الظالم لهذا الأمر ـ وإستجاب لطلب يوسف ـ مع علمه بأنّ يوسف لا يسير بسيرة الظالمين والمستثمرين والمستعمرين، بل يكون على العكس من ذلك معادياً لهم؟

الإجابة على هذا السؤال لا تكون صعبة مع ملاحظة أمر واحد وهو أنّه تارةً تحيط الأزمات الإقتصادية والإجتماعية بالظالم بحيث تزلزل أركان حكومته الظالمة، فيرى الخطر محدقاً بحكومته وبكلّ شيء يتعلّق بها ... في هذه الحالة وتجنّباً من السقوط التامّ لا يمانع، بل يدعم قيام حكومة شعبية عادلة لكي يحافظ على حياته وبجزء من سلطته.

2 ـ أهميّة المسائل الإقتصادية والإدارية

رغم أنّنا لا نتّفق مع الرؤية التي تنظر إلى الأُمور بمنظار واحد وتحصر جميع


1 ـ نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إنّ بعض الجاهلين بالمعايير الإسلامية كانوا يعترضون على الإمام أحياناً، بأنّه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كلّ زهدك في الدنيا وإعراضك عنها؟ فكان الإمام (عليه السلام) يجيبهم: «ياهذا أيّما أفضل النّبي أم الوصي»؟ فقالوا: لا بل النّبي، فقال: أيّهما أفضل مسلم أم مشرك»؟ فقالوا: لا بل مسلم فقال: «فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً، وكان يوسف (عليه السلام) نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم» وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال: (اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم)، وأنا اُجبرت على ذلك» وسائل الشيعة، ج12، ص146.

[241]

الأُمور في القضايا الإقتصادية دون إعطاء أي دور للإنسان، ولكن برغم ذلك فإنّه لا يمكن غضّ النظر عن أهمية القضايا الإقتصادية ودورها في المجتمعات، والآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة، والملاحظ أنّ يوسف ركّز من بين جميع مناصب الدولة على منصب الإشراف على الخزانة، وذلك لعلمه أنّه إذا نجح في ترتيب إقتصاد مصر، فإنّه يتمكّن من إصلاح كثير من المفاسد الإجتماعية، كما أنّ تنفيذه للعدالة الإقتصادية يؤدّي إلى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها تحت إمرته.

وقد إهتّمت الرّوايات الإسلامية بهذا الموضوع إهتماماً كبيراً، فمثلا نرى في الرّواية المعروفة المروية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه جعل (قوام الدين والدنيا) في ركنين: أحدهما القضايا الإقتصادية وما يقوم عليه معاش الناس، والركن الآخر هو العلم والمعرفة.

وبرغم أنّ المسلمين قد أهملوا هذا الجانب من الحياة الفردية والإجتماعية الذي إهتمّ به الإسلام كثيراً وتأخّروا عن أعداء الإسلام في هذا الجانب، إلاّ أنّ يقظة المجتمعات الإسلامية المتزايدة وتوجّههم نحو الإسلام يزيد الأمل في النفوس بأن تزيد من نشاطها الإقتصادي وتعتبره عبادة إسلامية كبرى، وتقوم ببناء نظام إقتصادي مدروس وفق خطط محكمة لكي تعود إليهم قوّتهم ونشاطهم.

وهنا نقطة أُخرى يجب التنبيه عليها، وهي إنّنا نلاحظ أنّ يوسف (عليه السلام)يخاطب الملك ويقول له: (إنّي حفيظ عليم) وهذه إشارة إلى أهميّة عنصر الإدارة إلى جانب عنصر الأمانة وأنّ توفّر عنصر الأمانة والتقوى فقط في شخص لا يؤهّله لأنّ يتصدّى لأحد المناصب الإجتماعية الحسّاسة، بل لابدّ من إجتماع ذلك العامل مع العلم والتخصّص والقدرة على الإدارة، لكونه قرن الـ(عليم) مع الـ(حفيظ) وكثيراً ما نشاهد الأضرار الناتجة عن سوء الإدارة لا تقلّ بل تزيد على

[242]

الخسائر الناتجة عن الخيانة!

فهذه التعليمات الإسلامية صريحة في أهميّة جانب الإدارة والقدرة عليها، ومع ذلك نرى تهاون بعض المسلمين بهذا الجانب، فالمهمّ لديهم هو نصب الأشخاص الذين يطمئنون إلى تقواهم وأمانتهم لإدارة الأُمور، مع أنّ السيرة النبوية الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك سيرة علي (عليه السلام) ترشدان إلى أنّهما كانا يهتمّان إهتماماً كبيراً بالجانب الإداري والقدرة على الإدارة مع إهتمامهم بأمانة الشخص وسلوكه الحسن.

3 ـ الرقابة على الإستهلاك

الملاحظ في القضايا الإقتصادية أنّه قد لا تكون (زيادة الإنتاج) بمكان من الأهميّة بقدر أهميّة (الرقابة على الإستهلاك) ومن هنا نشاهد أنّ يوسف في أيّام حكومته، حاول ـ بشدّة ـ أن يسيطر على الإستهلاك الداخلي في سنوات الوفرة لكي يتمكّن من الإحتفاظ بجزء كبير من المنتوجات الزراعية لسنوات القحط والمجاعة القادمة، وفي الحقيقة أنّ زيادة الإنتاج والرقابة متلازمان لا يفترقان، فالزيادة في الإنتاج لا تثمر إلاّ إذا أعقبتها رقابة صحيحة، كما أنّ الرقابة تكون أكثر فائدة إذا أعقبتها زيادة في الإنتاج.

إنّ السياسة الإقتصادية التي انتهجها يوسف (عليه السلام) في مصر أظهرت أنّ الخطّة الإقتصادية الصحيحة والمتطورة مع الزمن لا يمكن أن تقتصر على متطلّبات الجيل الحاضر، بل لابدّ وأن تراعي مصالح الأجيال القادمة، لأنّ التفكير بالمصالح المستعجلة للجيل الحاضر والتغاضي عن مصالح الأجيال القادمة ـ كما لو استهلكنا جميع ثروات الأرض ـ تعتبر غاية الأنانية وحبّ الذات، إذ أنّ الأجيال القادمة هم في الواقع اُخوتنا وأبناؤنا فلابدّ من التفكير في مصالحهم وعدم التفريط بها.

[243]

والملفت للنظر أنّه يستفاد من بعض الرّوايات الواردة كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرّضا(عليهما السلام) «وأقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع سنين المخصبة فكبسه في الخزائن، فلمّا مضت تلك السنون وأقبلت المجدية أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دنيار ولا درهم إلاّ صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة الثّانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر إلاّ صار في ملكة يوسف، وباعهم في السنة الثّالثة بالدّواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة الرّابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر ومن حولها عبد ولا أمة إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة السّادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة السّابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ إلاّ صار عبد يوسف، فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال النّاس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً وعلماً وتدبيراً، ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك ما ترى فيما خولني ربّي من ملك مصر وأهلها أشر علينا برأيك، فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء ليكون وبالاً عليهم ولكن اللّه نجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: إنّي أشهد اللّه وأشهدك أيّها الملك أنّي اعتقت أهل مصر كلّهم، ورددت اليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت إليك أيّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي ولا تحكم إلاّ بحكمي قال له الملك: إنّ ذلك لشرفي وفخري لا أسير إلاّ بسيرتك ولا أحكم إلاّ بحكمك، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له، ولقد جعلت سلطاني عزيزاً ما

[244]

يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأنت رسوله فاقم على ما وليتك فإنّك لدينا مكين أمين»(1).

4 ـ مدح النفس

لا شكّ في أنّ مدح الإنسان نفسه يعدّ من الأُمور القبيحة، ولكن ليست هذه قاعدة عامّة، بل قد تقتضي الأُمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع والإعلان عن خبراته وتجاربه، لكي يتعرّف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته ولا يبقى كنزاً مستوراً.

وقد مرّ علينا في الآيات السابقة أنّ يوسف حينما تولّى مسؤولية الإشراف على خزائن مصر وصف نفسه بأنّه: (حفيظ عليم)، وكان هذا الوصف من يوسف لنفسه ضرورياً وذلك حتّى يعرف شعب مصر ومليكها أنّه يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهلّه للتصدّي لهذا المنصب.

ومن هنا نقرأ في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه حينما سئل عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ أجاب (عليه السلام) «نعم إذا اضطرّ إليه، أمّا سمعت قول يوسف إجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، وقول العبد الصالح: وأنا لكم ناصح أمين»(2).

ومن هنا يتّضح لنا جليّاً فلسفة مدح الإمام علي (عليه السلام) نفسه في بعض الخطب، فمثلا يقول في خطبة الشقشقية واصفاً نفسه: «... إنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ...» فمثل هذه الأوصاف هي في الواقع لأجل إيقاظ الغافلين وإرشادهم إلى الإستفادة من هذا المنهل العذب في سبيل الوصول إلى سعادة الفرد والمجتمع.


1 ـ مجمع البيان، المجلّد الثّالث، صفحة 244، تفسير نور الثقلين، ج2، ص435.

2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج2، ص433.

[245]

5 ـ أفضليّة الجزاء المعنوي على سواه

برغم أنّ كثيراً من المؤمنين الخيرين يلقون في هذه الدنيا جزاء أعمالهم الخيرة، كما هو الحال بالنسبة ليوسف حيث جوزي جزاءً حسناً، لعفافه وتقواه وصبره على البلاء، إذ لو كان آثماً لما اعتلى هذا المنصب، ولكن هذا لا يعني أنّ على الإنسان أن ينتظر الجزاء في هذه الدنيا ويتوهّم أنّ الجزاء يجب أن يكون ماديّاً وملموساً وفي هذه الدنيا ويرى تأخير الجزاء ظلماً في حقّه، لكن هذا التصوّر بعيد عن الواقع، لأنّ الجزاء الأوفى هو ما يوافي الإنسان في حياته القادمة.

ولعلّ لدفع هذا التوهّم الخاطىء وإنّ ما جوزي به يوسف هو الجزاء الأوفى، يقول القرآن الكريم (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتّقون).

6 ـ الدفاع عن المسجونين

برغم أنّ السجن لم يكن دائماً محلا للأخيار، بل يستضيف تارةً الأبرياء وتارةً المجرمين، لكنّ القواعد الإنسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء، حتّى ولو كانوا مجرمين.

وقد يتصوّر البعض أنّ الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث، لكن المتّتبع للتاريخ الإسلامي يرى أنّه منذ الأيّام الأُولى لقيام دولة الإسلام كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين ـ كما قرأنا جميعاً وصيّة علي (عليه السلام) في حقّ المجرم الذي قام بإغتياله (وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي) حيث أمر أن يرفق به وحتّى إنّه (عليه السلام) بعث إليه من اللبن الذي كان يشربه وعندما أرادوا قتله قال: ضربة بضربة.

كما أنّ يوسف حينما كان في السجن كان يعدّ أخاً حميماً وصديقاً وفيّاً ومستشاراً أميناً لجميع نزلاء السجن، وحينما خرج من السجن ـ أمر أن يكتب ـ

[246]

لجلب إنتباه العالمين ـ على بابه «هذا قبور الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء»(1).

وأظهر لهم بهذا الدعاء عطفه ومحبّته حيث قال: «اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار»(2).

والطريف أنّنا نقرأ في سياق الحديث السابق أنّه: «فذلك يكون أصحاب السجن أعرف الناس بالأخبار في كلّ بلدة».

وقد مرّت علينا هذه التجربة في أيّام السجن، حيث كانت تصلنا الأخبار وبصورة منتظمة ـ إلاّ في بعض الحالات النادرة ـ وعن طرق خفيّة لا يكشفها السجّانون، وكثيراً ما كان الذي يدخل إلى السجن يطّلع على بعض الأخبار التي لم يكن قد سمعها عندما كان في الخارج، والحديث عن هذا الموضوع طويل وقد يخرجنا عن هدف هذا الكتاب.

* * *


1 ـ نور الثقلين، ج2، ص432.

2 ـ نور الثقلين، ج2، ص432.

[247]

الآيات

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَنِهِ اجْعَلُواْ بِضَعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(62)

التّفسير

إقتراح جديد من يوسف لاُخوته:

وكما كان متوقّعاً، فقد تحسّنت الزراعة في مصر خلال سبع سنوات متتالية وذلك على أثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته، ويوسف الذي كان مسؤولا عن الشؤون الإقتصادية في مصر ومشرفاً على خزائنها، أمر ببناء المخازن الكبيرة والصغيرة التي تستوعب الكميّات الكبيرة من المواد الغذائية

[248]

وتحفظها عن الفساد، وقد أجبر أبناء الشعب على أن يبيعوا للدولة الفائض عن حاجتهم من الإنتاج الزراعي، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية والإستهلاكية ومرّت سبع سنوات من الرخاء والوفرة، وبدأ القحط والجفاف يُظهر وجهه الكريه، ومنعت السّماء قطرها، فلم تينع ثمرة، ولم تحمل نخلة.

وهكذا أصاب عامّة الشعب الضيق وقلّت منتوجاتهم الزراعية، لكنّهم كانوا على علم بخزائن الدولة وإمتلائها بالمواد الغذائية، وساعدهم يوسف حيث إستطاع ـ بخطّة محكمة ومنظّمة مع الأخذ بعين الإعتبار الحاجات المتزايدة، في السنين القادمة ـ أن يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية مراعياً في ذلك العدالة بينهم.

وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصراً على مصر وحدها، بل شمل البلدان المحطية بها أيضاً، ومنهم شعب فلسطين وأرض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة على حدودها في الشمال الشرقي، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثّرت بالجفاف. واشتدّ بهم الضيق، بحيث اضطرّ يعقوب أن يرسل جميع أولاده ـ ما عدا بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف ـ إلى مصر، حيث سافروا مع قافلة كانت تسير إلى مصر ووصلوا إليها ـ كما قيل ـ بعد 18 يوماً.

وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ الأجانب عند دخولهم إلى الأراضي المصرية كانوا ملزمين بتسجيل أسمائهم في قوائم معيّنة لكي تعرض على يوسف، ومن هنا فحينما عرض الموظفون تقريراً على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم للحصول على المؤن والحبوب رأى يوسف أسماء اُخوته بينهم وعرفهم وأمر بإحضارهم إليه، دون أن يتعرّف أحد على حقيقتهم وأنّهم اُخوته ..

يقول القرآن الكريم: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) وكان طبيعيّاً أن لا يتعرّف إخوة يوسف عليه لأنّه في جانب كان قد مضى على فراقهم إيّاه منذ أن أودعوه الجبّ وخرج منه ودخل إلى مصر ما يقرب

[249]

من أربعين سنة، ومن جهة أُخرى كان لا يخطر ببالهم أنّ أخوهم صار عزيزاً لمصر، وحتّى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.

إضافةً إلى هذا فإنّ ملابس يوسف تختلف عن السابق، ومن الصعب عليهم معرفة يوسف وهو في ملابس أهل مصر، كما أنّ إحتمال بقاء يوسف على قيد الحياة بعد هذه المدّة كان ضعيفاً عندهم، وعلى أيّة حال فإنّ إخوة يوسف قد اشتروا ما طلبوه من الحبوب ودفعوا ثمنه بالأموال أو الكُندر أو الأحذية أو بسائر ما جلبوه معهم من كنعان إلى مصر.

أمّا يوسف فإنّه قد رحّب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم، قالوا: نحن عشرة إخوة من أولاد يعقوب، ويعقوب هو ابن إبراهيم الخليل نبي الله العظيم، وأبونا أيضاً من أنبياء الله العظام، وقد كبر سنّه وألمّ به حزن عميق ملك عليه وجوده.

فسألهم يوسف: لماذا هذا الغمّ والحزن؟

قالوا: كان له ولد أصغر من جميع إخوته وكان يحبّه كثيراً، فخرج معنا يوماً للنزهة والتفرّج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي لفراقه.

نقل بعض المفسّرين أنّه كان من عادة يوسف أن لا يعطي ولا يبيع لكلّ شخص إلاّ حمل بعير واحد، وبما أنّ إخوته كانوا عشرة فقد باع لهم 10 أحمال من الحبوب، فقالوا: إنّ لنا أباً شيخاً كبيراً عاجزاً عن السفر وأخاً صغيراً يرعى شؤون الأب الكبير، فطلبوا من العزيز أن يدفع إليهم حصّتهما، فأمر يوسف أن يضاف إلى حصصهم حملان آخران، ثمّ توجّه إليهم مخاطباً إيّاهم وقال: إنّي أرى في وجوهكم النبل والرفعة كما إنّكم تتحلّون بأخلاق طيبة، وقد ذكرتم انّ أباكم يحبّ أخاكم الصغير كثيراً، فيتّضح أنّه يمتلك صفات ومواهب عالية وفذّة ولهذا أحبّ أن أراه إضافة إلى هذا، فإنّ الناس هنا قد أساؤوا الظنّ بكم واتّهموكم،

[250]

لأنّكم من بلد أجنبي، فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم، وتدفعوا التّهمة عن أنفسكم.

وهنا يقول القرآن الكريم: إنّه حينما جهّزهم يوسف بجهازهم وأرادوا الرحيل عن مصر (ولمّا جهزّهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنّي اُوفي الكيل وأنا خير المنزلين) لكنّه ختم كلامه بتهديد مبطّن لهم، وهو إنّني سوف أمنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، وكان يوسف يحاول بشتّى الطرق، تارةً بالتهديد، وأُخرى بالتحبّب، أن يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده. وظهر من سياق الآيات.

أمران: أنّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن، واتّضح أيضاً أنّ يوسف كان يستقبل الضيوف ـ ومنهم اخوته ـ الذين كانوا يفدون إلى مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.

وأجاب اخوة يوسف على طلب أخيهم: (قالوا سنراود عنه أباه وإنّا لفاعلون) ويستفاد من قوله (إنّا لفاعلون) وإجابتهم الصريحة لعزيز مصر، أنّهم كانوا مطمئنين إلى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه، وكيف لا يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم وإلحاحهم أن يفرّقوا بين يوسف وأبيه؟!

وأخيراً أمر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم ـ جلباً لعواطفهم ـ (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون).

* * *

[251]

بحوث

1 ـ لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته

بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو إنّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته، حتّى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا إلى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟

ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة أُخرى، وهو أنّه حينما التقى يوسف باخوته في مصر كان قد مرّ ثمان سنوات على تحريره من السجن، حيث كان في السنة الأُولى من سنوات القحط والجدب، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة والرخاء، وقام بخزن المنتوجات الزراعية ـ وفي السنة الثامنة أو بعدها ـ جاء اُخوة يوسف إلى مصر لشراء الحبوب، فلماذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان أن يبعث إلى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه وينهي مرارته الطويلة؟

حاول جمع من المفسّرين ـ كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان والعلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ـ الإجابة على هذا السؤال، وذكروا له عدّة أجوبة، ولعلّ أحسنها وأقربها هو أنّ يوسف لم يكن مجازاً من قبل الله سبحانه وتعالى في إخبار أبيه، لأنّ قصّة يوسف مع غضّ النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لإختبار يعقوب وحقلا لإمتحانه، فلابدّ من أن يؤدّي يعقوب إمتحانه ويجتاز فترة الإختبار قبل أن يسمح ليوسف بإخباره، وإضافةً إلى هذا فإنّ إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدّي إلى عواقب غير محمودة، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من إنتقام يوسف منهم لما إرتكبوه سابقاً في حقّه فلا يرجعوا إليه.

2 ـ لماذا أرجع يوسف الأموال إلى إخوته

السؤال الذي يطرح نفسه هو أنّه لماذا أمر يوسف أن تردّ أموال إخوته التي

[252]

دفعوها ثمناً للحبوب، وتوضع في رحالهم؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة، ومنهم الرازي في تفسيره حيث ذكر عشرة أجوبة، لكن بعضها بعيد عن الواقع، ولعلّ ملاحظة الآيات السابقة تكفي في الإجابة عن السؤال، لأنّ الآية الشريفة تقول: (لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون) فإنّ يوسف كان يقصد من وراء هذا العمل، أنّ إخوته بعد رجوعهم إلى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبّئت في متاعهم، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره، أكثر ممّا شاهدوه، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الإذن بسفر بنيامين، ويكون السبب والدافع في سفرهم إلى مصر مرّة أُخرى وباطمئنان أكثر مستصحبين معهم أخاهم الصغير.

3 ـ كيف وهب يوسف إلى إخوته أموال بيت المال؟

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو أنّه كيف وهب يوسف الأموال من بيت المال لإخوته دون أي تعويض؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقتين:

الأوّل: أنّ بيت المال في مصر كان يحتوي على حصّة معيّنة من الأموال تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصّة موجودة دائماً) وبما أنّ إخوة يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين، استغلّ يوسف هذه الفرصة وإستفاد من هذه الحصّة لمساعدة إخوته: (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر المستضعفين) ومن المعلوم أنّ الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصّة.

الثّاني: أنّ المناصب العالية في الدولة ـ كمنصب يوسف ـ تتضمّن عادةً على

[253]

إمتيازات وحقوق معيّنة، ومن أقلّ هذه الحقوق هو أن يهيىء لنفسه ولعائلته المحتاجة ولمن يقرب إليه كأبيه وإخوته مستلزمات العيش الكريم، وقد إستفاد يوسف من هذا الحقّ في إعطاء الأموال لإخوته.

* * *

[254]

الآيات

فَلَمَّا رَجَعُواْ إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَأبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ (63) قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَفِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِى هَذِهِ بِضَعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

التّفسير

موافقة يعقوب:

رجع اُخوة يوسف إلى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين، لكنّهم كانوا يفكّرون بمصيرهم في المستقبل وأنّه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر أخيهم الصغير (بنيامين) فإنّ عزيز مصر سوف لن يستقبلهم، كما إنّه لا يعطيهم

[255]

حصّتهم من الحبوب والمؤن.

ومن هنا يقول القرآن: (فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منّا الكيل)ولا سبيل لنا للحصول عليه إلاّ أن ترسل معنا أخانا (فأرسل معنا أخانا نكتل)وكن على يقين من أنّنا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين (وإنّا له لحافظون).

أمّا الأب الشيخ الكبير الذي لم يمح صورة (يوسف) عن ذاكرته مرّ السنين فإنّه حينما سمع هذا الكلام استولى عليه الخوف وقال لهم معاتباً: (هل آمنكم عليه إلاّ كما آمنتكم على أخيه من قبل) فكيف تتوقّعون منّي أن أطمئن بكم واُلبّي طلبكم واُوافق على سفر ولدي وفلذّة كبدي معكم إلى بلاد بعيدة، ولا زلت أذكر تخلفّكم في المرّة السابقة عن عهدكم، ثمّ أضاف (فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين)هذه العبارة لعلّها إشارة إلى ما تحدّثت به نفس يعقوب من أنّه يصعب عليّ أن اُوافق على سفر بنيامين معكم وقد عرفت سوؤكم في المرّة السابقة، لكن حتّى لو وافقت على ذلك فإنّني أتّكل على الله سبحانه وتعالى الذي هو أرحم الراحمين وأطلب رعايته وحفظه منه لا منكم.

الآية السابقة لا تدلّ على الموافقة القطعيّة وقبوله لطلبهم، وإنّما هي مجرّد إحتمال منه حيث أنّ الآيات القادمة تظهر أنّ يعقوب لم يكن قد وافق على طلبهم إلاّ بعد أن أخذ منهم العهود والمواثيق، والإحتمال الآخر هو أنّ هذه الآية لعلّها إشارة إلى يوسف، حيث كان يعلم إنّه على قيد الحياة (وسوف نقرأ في الآيات القادمة إنّه كان على يقين بحياة يوسف) فدعا له بالحفظ.

ثمّ إنّ الاُخوة حينما عادوا من مصر (ولمّا فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم) فشاهدوا أنّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم، فجاؤوا إلى أبيهم و (قالوا ياأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردّت إلينا) وهل هناك فضل وكرم أكثر من هذا أن يقوم حاكم أجنبي وفي ظروف القحط والجفاف،

[256]

بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثمّ يردّ إلينا ما دفعناه ثمناً له؟!

ثمّ أنّه ردّ بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل ـ أليس هذا غاية الجود والكرم؟! فياأبانا ليس هناك مجال للتأخير ـ ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام (ونمير أهلنا) وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا (ونحفظ أخانا)، وهكذا نتمكّن من أن نشتري كيل بعير من الحبوب (ونزداد كيل بعير) وإنّنا على يقين في أنّ سماحة العزيز وكرمه ـ سوف يسهّلان حصوله و (ذلك كيل يسير).

وفي كلّ الأحوال ـ رفض يعقوب إرسال إبنه بنيامين معهم، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ إلى التنازل على مطلبهم ولم يَر بدّاً من القبول، ولكنّه وافق بشرط: (قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقاً من الله لتأتنّني به إلاّ أن يحاط بكم)، والمقصود من قوله (موثقاً من الله) هو العهد واليمين المتضمّن لإسم الله سبحانه وتعالى، وأمّا جملة (إلاّ أن يحاط بكم) فهي في الواقع بمعنى ـ إلاّ إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث، ولعلّها إشارة إلى حوادث الموت أو غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزاً.

وذكر هذا الإستثناء دليل بازر على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته، فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم: إنّكم مسؤولون عن سلامة ولدي العزيز وأنّي سوف أطلبه منكم إلاّ أن تغلبكم الحوادث القاهرة، فحينئذ لا حرج عليكم.

وعلى كلّ حال فقد وافق اُخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم، وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب: (فلمّا أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل).

* * *

[257]

بحوث

1 ـ بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن، هو أنّه كيف وافق يعقوب على سفر بنيامين مع اُخوته برغم ما أظهروه في المرّة السابقة من سوء المعاملة مع يوسف، إضافة إلى هذا فإنّنا نعلم أنّهم كانوا يبطنون الحقد والحسد لبنيامين ـ وإن كان أخفّ من حقدهم وحسدهم على يوسف ـ حيث وردت في الآيات الإفتتاحية لهذه السورة قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة) أي أنّ يوسف وأخاه أحبّ إلى أبينا برغم ما نملكه نحن من قوّة وكثرة.

لكن تظهر الإجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا أنّه قد مضى ثلاثون إلى أربعين سنة على حادثة يوسف، وقد صار اُخوة يوسف الشبّان كهولا، ومن الطبيعي أنّهم نضجوا أكثر من السابق، كما وقفوا على الآثار السلبية والسيّئة لما فعلوه مع يوسف، سواء في داخل أُسرتهم أم في وجدانهم، حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة أنّ فقد يوسف كان لا يزيد حبّ أبيهم لهم، بل إزداد نفوره منهم وخلق لهم مشاكل جديدة.

إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ يعقوب لم يواجه طلباً للخروج إلى التنزّه والصيد، بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة، وهي إعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي سنوات القحط والمجاعة.

فمجموع هذه الأُمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة على سفر بنيامين ولكنّه أخذ منهم العهود والمواثيق على أن يرجعوه سالماً.

2 ـ السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو أنّه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق منهم كان كافياً لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم؟

الجواب: أنّه من الطبيعي أنّ مجرّد الحلف واليمين لم يكن كافياً لذلك، ولكن في هذه المرّة كانت الشواهد والقرائن تدلّ على أنّ هناك حقيقة واضحة قد برزت

[258]

إلى الوجود، وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل (كما هو الحال في المرّة السابقة) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها أقرب إلى التنفيذ سوى العهد واليمين، مثل ما نشاهده في هذه الأيّام من تحليف الزعماء السياسيين كرئيس الجمهورية أو نوّاب البرلمان، حيث يحلفون بالوفاء للدستور والعمل على طبقه وذلك بعد أن انتخبهم الشعب من خلال إنتخابات حرّة ونزيهة.

* * *

[259]

الآيتان

وَقَالَ يَبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَاب وَحِد وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَب مُّتَفَرِّقَة وَمَا أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَىْء إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَىْء إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْم لِّمَا عَلَّمْنَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)

التّفسير

وأخيراً توجّه إخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد إذن أبيهم وموافقته على إصطحاب أخيهم الصغير معهم، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصياً إيّاهم بقوله: (وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرّقة) ثمّ أضاف: إنّه ليس في مقدوري أن أمنع ما قد قدّر لكم في علم الله سبحانه وتعالى (وما اُغني عنكم من الله من شيء) ولكن هناك بعض الأُمور التي يمكن للإنسان أن يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقّها القدر الإلهي

[260]

المحتوم، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأُمور الطارئة والتي بإمكان الإنسان أن يدفعها عن نفسه ثمّ قال: أخيراً (إنّ الحكم إلاّ لله عليه وتوكّلت وعليه فليتوكّل المتوكّلون).

لا شكّ في أنّ عاصمة مصر في تلك الأيّام شأنها شأن جميع البلدان، كانت تمتلك سوراً عالياً وأبواباً متعدّدة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرّقوا إلى جماعات صغيرة، وتدخل كلّ جماعة من باب واحد، لكن الآية السابقة لم تبيّن لنا فلسفة هذه النصيحة.