ويسعى المحتكرون في إحتكار النعم الإلهيّة الواسعة والسيطرة على منابعها الحياتية، مع أنّهم لا يستهلكون إلاّ الشيء القليل ويحرمون الآخرين منها، ويظهر هذا الظلم بأشكال مختلفة من السيطرة على الشعوب الضعيفة وإستعمارها والتجاوز على حقوق الآخرين، فيعرّض الإنسان حياته الهادئة إلى الهلاك، يخلق الحروب، ويسفك الدماء، ويقضي على الأموال والأنفس.

وفي الحقيقة فانّ القرآن الكريم يناديه: أيّها الإنسان، كلّ شيء بالقدر الكافي تحت تصرّفك، بشرط أن لا تكون ظلوماً كفّاراً، عليك أن تقنع بحقّك ولا تتجاوز على حقوق الآخرين.

* * *

[520]

الآيات

وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاَْصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَاد غَيْرِ ذِى زَرْع عِندَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّن الَّثمَرَتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَىْء فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَوةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَلِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

[521]

التّفسير

دعاء إبراهيم (عليه السلام):

لمّا كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين لأنعم الله، عقّبت هذه الآيات في بحث بعض أدعية وطلبات العبد المجاهد والشاكر لله إبراهيم (عليه السلام) ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجاً حيّاً للذين يريدون أن يستفيدوا من النعم الإلهيّة أفضل إستفادة.

يقول تعالى: (وإذ قال إبراهيم ربّ إجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) لأنّه (عليه السلام) كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّةً في هذا الطريق (ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من الناس) فأيّ ضلال أكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتّى عقله وحكمته.

إلهي انّني أدعو إلى توحيدك، وأدعو الجميع إلى عبادتك (فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رحيم).

في الحقيقة إنّ إبراهيم (عليه السلام) أراد بهذه العبارة أن يقول لله تعالى: إنّه حتّى لو إنحرف أبنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا إلى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم أبنائي وإخواني.

إنّ تعبير إبراهيم المؤدّب والعطوف جدير بالملاحظة، فهو لم يقل: ومن عصاني فإنّه ليس منّي وساُعاقبه عقاباً شديداً، بل يقول: (ومن عصاني فإنّك غفور رحيم).

ثمّ يستمر بدعائه ومناجاته (ربّنا إنّي أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربّنا ليقيموا الصلاة).

وكان ذلك عندما رزقه الله إسماعيل من جاريته «هاجر» فأثار ذلك حسد زوجته الأُولى «سارة» ولم تستطيع تحمّل وجود هاجر وإبنها، فطلبت من

[522]

إبراهيم أن يذهب بهما إلى مكان آخر، فإستجاب لها إبراهيم طبقاً للأوامر الإلهيّة، وجاء بإسماعيل واُمّه إلى صحراء مكّة القاحلة، ثمّ ودّعهم وذهب.

ولم يمض قليل من الوقت حتّى عطشت الاُمّ وإبنها في تلك الشمس المحرقة، وسعت هاجر كثيراً في إنقاذ إبنها، ولكنّ الله تعالى أراد أن تكون تلك الأرض قاعدة عظيمة للعبادة فأظهر عين زمزم، ولم يمض وقت حتّى علمت قبيلة «جرهم» البدوية التي كانت قريبة منهم بالأمر، فرحلوا وأقاموا عندهم، فأخذت مكّة بالتحضّر شيئاً فشيئاً.

ثمّ يتابع إبراهيم (عليه السلام) دعاءه: إلهي، انّ أهلي قد سكنوا في هذه الصحراء المحرقة إحتراماً لبيتك المحرّم: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون).

ومن هنا لمّا كان الإنسان الموحّد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل علم الله، وانّه يعلم مصلحته إلاّ الله تعالى، فما أكثر ما يطلب شيئاً من الله وليس فيه صلاحه، أو لا يطلبه وفيه صلاحه، وأحياناً لا يستطيع أن يقوله بلسانه فيضمره في أعماق قلبه، ولذلك يعقّب على ما مضى من دعائه ويقول: (ربّنا إنّك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السّماء).

فان كنت مغتمّاً لفراق إبني وزوجتي فأنت تعلم بذلك .. وترى دموع عيني المنهملة. وإن كان قلبي قد ملأه همّ الفراق، وإمتزج بفرح العمل بالتكليف والطاعة لأوامرك فأنت أعلم بذلك ..

وعندما فارقت زوجتي وقالت لي: «إلى من تكلني» فأنت أدرى بها وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.

ثمّ يشير القرآن إلى شكر إبراهيم (عليه السلام) لنعمه تعالى والتي هي من أهمّ ما إمتاز به (عليه السلام) .. شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ

[523]

الشيخوخة (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق)(1) نعم (إنّ ربّي لسميع الدعاء).

ثمّ يستمرّ بدعاءه ومناجاته أيضاً فيقول: (ربّ إجعلني مقيم الصلاة ومن ذريّتي ربّنا وتقبّل دعاء).

ثمّ يختم دعاءه هنا فيقول: (ربّنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).

* * *

بحوث

1 ـ هل كانت مكّة في ذلك الوقت مدينة؟

رأينا في الآيات السابقة أنّ إبراهيم قال: (ربّ إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع) وهذه إشارة إلى أوّل دخوله أرض مكّة والتي كانت غير مزروعة ولا معمورة ولا ساكن فيها سوى أسّس بيت الله الحرام، ومجموعة من الجبال الجرداء.

ولكنّنا نعلم أنّها لم تكن رحلته الوحيدة إلى مكّة، بل وطأت قدمه عدّة مرّات تلك الأرض، وفي الوقت نفسه كانت مكّة تأخذ طابع المدينة، وسكنتها قبيلة «جرهم» وبظهور عين زمزم أصبحت صالحة للسكن.

والمعتقد أنّ أدعية إبراهيم هذه كانت في إحدى رحلاته، ولذلك عبّر عنها بالبلد، أي المدينة فقال: (ربّ اجعل هذا البلد آمناً).

وأمّا قوله: (واد غير ذي زرع) فقد تكون إشارة إلى رحلته الأُولى أو إشارةً


1 ـ هناك إختلاف بين المفسّرين في سنّ إبراهيم عند ولادة إسماعيل وإسحاق، فمنهم من قال: كان عمره عند ولادة إسماعيل 99 عاماً وعند ولادة إسحاق 112 عام، ومنهم من يقول أكثر من ذلك وأقل، ولكن القدر المسلّم به أنّ عمره كان في سن يصعب أن يولد منه الأبناء.

[524]

إلى أرض مكّة بعد أن أخذت طابع المدينة، فإنّها لا زالت غير صالحة للزراعة، لأنّها من الناحية الجغرافية تقع بين جبال يابسة وقليلة المياه.

2 ـ أمان أرض مكّة

من الطريف أنّ أوّل ما سأل إبراهيم من ربّه في هذه الأرض هو الأمان، وهذا يوضّح أنّ نعمة الأمن هي من الشروط الأُولى لحياة الإنسان وسكنه في منطقة ما، فالمكان غير الآمن لا يمكن السكن فيه، حتّى لو إجتمعت كلّ النعم الدنيويّة فيه، وفي الحقيقة أي مدينة أو بلد فاقد لنعمة الأمن سوف يفقد جميع النعم!

ولابدّ هنا من الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ إستجابة الله لدعاء إبراهيم بخصوص أمن مكّة له جهتان: فمن جهة منحها أمناً تكوينيّاً، ولذلك لم تشهد في تاريخها إلاّ النزر القليل من إخلال الأمن، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي، أي أنّ الله أقرّ أن يأمن جميع الناس ـ وحتّى الحيوانات ـ في هذه الأرض. ومنع صيد الحيوانات، وعدم متابعة المجرمين الذين يلجأون إلى حرم الكعبة، ونستطيع ـ فقط ـ أن نمنع عليهم الغذاء لكي يخرجوا، ومن ثمّ تطبيق العدالة في حقّهم.

3 ـ دعاء إبراهيم لإجتناب عبادة الأصنام؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان نبيّاً معصوماً، وكذلك إبناه إسماعيل وإسحاق كانا نبيّين معصومين، لأنّهما داخلان في كلمة «بنيّ» في الآية قطعاً، ومع ذلك يدعو الله أن يجنّبهم عبادة الأصنام!

وهذا دليل في التأكيد على محاربة عبادة الأصنام بحيث كان يطلب هذا الأمر من الله حتّى للأنبياء المعصومون ومحطّمو الأصنام، وهذا نظير إهتمام النّبي في وصاياه لعلي ـ أو الأئمّة الآخرين بالنسبة لأوصيائهم ـ في أمر الصلاة، والتي

[525]

لا يمكن إحتمال تركها من قبلهم أبداً، بل إنّ الصلاة أساساً قامت ببركة سعيهم وجهودهم.

وهنا يطرح هذا السؤال: كيف قال إبراهيم (ربّ إنّهنّ أظللن كثيراً من الناس) في حين أنّ الأصنام ليست سوى أحجاراً وخشباً ولا إستطاعة لهنّ في إضلال الناس.

ويمكن الجواب على هذا السؤال من جهتين:

أوّلا: لم تكن الأصنام من الأحجار والخشب دائماً، بل هناك الفراعنة وأمثال نمرود الذين كانوا يدعون الناس لعبادتهم ويسمّون أنفسهم بالربّ الأعلى والمحي والمميت.

ثانياً: وأحياناً يكون القائمون بأمر الأصنام مظهرين تعظيمها وتزيينها بالشكل الذي تكون حقّاً مضلّة لعوام الناس.

4 ـ من هم أتباع إبراهيم؟

قرأنا في الآيات أنّ إبراهيم قال: (فمن تبعني فإنّه منّي) فهل أنّ أتباع إبراهيم من كان في عصره فقط، أم الذين كانوا على دينه في العصور اللاحقة، أو يشمل كلّ الموحدين والمؤمنين في العالم ـ بإعتبار إبراهيم (عليه السلام) مثالا في التوحيد ومحطّماً للأصنام ـ؟

نستفيد من الآيات القرآنية ـ ومن ضمنها الآية 78 من سورة الحج ـ أنّ دعاء إبراهيم يشمل جميع الموحدين والمجاهدين في طريق التوحيد. ويؤيّد هذا التّفسير ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً: فعن الباقر (عليه السلام) قال «من أحبّنا فهو منّا أهل البيت. قلت، جعلت فداك: منكم؟ قال منّا والله، أما سمعت قول إبراهيم (من تبعني فإنّه منّي)»(1).


1 ـ نور الثقلين ج4 ص548.

[526]

ويوضّح هذا الحديث صيرورة الفرد من أهل البيت معنوياً إن سار على خطّهم وتابع منهجهم.

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: «نحن آل إبراهيم، أفترغبون عن ملّة إبراهيم! وقد قال الله تعالى: (فمن تبعني فإنّه منّي)».

5 ـ واد غير ذي زرع والحرم الآمن

الذين سافروا إلى مكّة يعلمون جيداً أنّها تقع بين جبال صخرية يابسة لا ماء فيها ولا كلأ، وكأنّ الصخور وضعت في أفران حارّة ثمّ صبّت في أماكنها. وفي نفس الوقت فهي أكبر مركز للعبادة وأقدم قاعدة للتوحيد على وجه المعمورة، وكذلك هي حرم الله الآمن.

وهنا قد يرد هذا السؤال في أذهان الكثيرين وهو: لماذا جعل الله هذا المركز المهمّ في مثل هذه الأرض؟

يجيب الإمام علي (عليه السلام) على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل التعابير الفلسفيّة خطبته القاصعة حيث يقول: «وضعه بأوعر بقاع الأرض صخراً وأقلّ نتائق الدنيا مدراً ... بين جبال خشنة ورمال دمثة ... ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البنا، متّصل القوى، بين برّة سمراء وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة ورياض ناظرة وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم وليجعل

[527]

ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللا لعفوه»(1).

6 ـ الدعوات السبعة لإبراهيم

دعا إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات سبع دعوات في مجال التوحيد والمناجاة ومحاربة الأصنام وعبادتها ومحاربة الظالمين:

أوّل هذه الدعوات هو أمان مكّة القاعدة العظيمة لمجتمع التوحيد (وما أعمق مغزى هذا الطلب).

الثّاني: دعاؤه في الإجتناب عن عبادة الأصنام والتي هي الأساس والقاعدة لجميع العقائد والبرامج الدينيّة.

الثّالث: دعاؤه في تمايل قلوب المؤمنين وإرتباطهم العاطفي بالنسبة لأبنائه والتابعين لدينه.

دعاؤه الرابع: أن يرزقهم الله من أنواع الثمرات، لتكون عنواناً للشكر والإلتفات بشكل أعمق لخالق النعم.

الدعاء الخامس: التوفيق لإقامة الصلاة والتي هي أقوى صلة بين الإنسان وربّه، ودعاؤه (عليه السلام) ليس له فقط، بل حتّى لأبنائه.

دعاؤه السادس: قبول دعائه، ونحن نعلم أنّ الله يقبل الدعاء من مواقع الإخلاص والقلوب الطاهرة والأرواح السامية، وفي الواقع إنّ هذا الطلب من إبراهيم (عليه السلام) يحتوي ضمناً الحصول على القلب الطاهر والروح السامية.

وآخر دعائه (عليه السلام): أن يشمله الله بلطفه ورحمته فيما إذا صدر منه ذنب أو خطيئة، وأن يرحم اُمّه وأباه وجميع المؤمنين في يوم القيامة.

وبهذا الترتيب فإن دعواته تبدأ بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران، ومن الطريف أنّه لم يطلبها لنفسه فقط، بل للآخرين كذلك، لأنّ عباد الرحمن ليسوا أنانيّين!


1 ـ نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة).

[528]

7 ـ هل يدعو إبراهيم لأبيه؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ «آزر» كان يعبد الأصنام، وكما يشير إليه القرآن فإنّ إبراهيم سعى جاهداً لأن يهديه لكن خاب سعيه، وإذا سلّمنا أنّ آزر كان أباً لإبراهيم، فلماذا يدعو إبراهيم أن يغفر الله له في الوقت الذي نرى أنّ القرآن يقول: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم).(1)

ومن هنا يتّضح أنّ آزر لم يكن أباً لإبراهيم، وأنّ كلمة أب تطلق أحياناً على العمّ، وكثيراً ما يستعملها العرب كذلك، بينما (الوالد) خاصّة بالأب الحقيقي والتي جاءت في الآيات أعلاه. أمّا كلمة أب والتي وردت بخصوص آزر فمن الممكن أنّ المراد بها العمّ.

ونستنتج من الآيات أعلاه وممّا ورد في سورة التوبة من النهي عن الإستغفار للمشركين أنّ «آزر» لم يكن أباً لإبراهيم حتماً. (وللتوضيح أكثر راجع تفسير الآية 74 من سورة الأنعام و36 من سورة الأعراف في تفسيرنا هذا).

* * *


1 ـ التوبة، 113.

[529]

الآيات

وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَفِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الاَْبْصَرُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَل قَرِيب نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَال (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الاَْمْثَالَ (45)

التّفسير

اليوم الذي تشخّص فيه الأبصار!

كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب، وبهذه المناسبة تجسّم هذه الآيات حال الظالمين والمتجبّرين في ذلك اليوم، ثمّ تبيّن المسائل المتعلّقة بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدأ في تهديد الظالمين: (ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون).

[530]

وهذا في الواقع جواب لاُولئك الذين يقولون: إذا كان لهذا العالم إله عادل فلماذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم أم لا يستطيع أن يمنعهم وهو يعلم بظلمهم؟

فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ الله ليس غافلا عنهم أبداً، لأنّ عدم عقابهم مباشرةً هو أنّ هذا العالم محلّ الإمتحان والإختبار وتربية الناس، وهذا لا يتمّ إلاّ في ظلّ الحرية، وسوف يأتي يوم حسابهم (إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء).

«تشخص» من مادّة «الشخوص» بمعنى توقّف العين عن الحركة والنظر إلى نقطة بدهشة.

«مهطعين» من مادّة «إهطاع» بمعنى رفع الرقبة، ويعتقد البعض أنّها بمعنى «السرعة» وقال آخرون: تعني «النظر بذلّة وخشوع». ولكن بالنظر إلى الجمل الأُخرى يكون المعنى الأوّل أقرب إلى الصحّة.

«مقنعي» من مادّة «الإقناع» بمعنى رفع الرأس عالياً.

ومفهوم جملة (لا يرتدّ إليهم طرفهم) لا يقدرون على أن يطرفوا من شدّة الهول، وكأنّ أعينهم كأعين الأموات عاطلة عن العمل!

وجملة (أفئدتهم هواء) بمعنى قلوبهم خالية ومضطربة بحيث ينسون كلّ شيء حتّى أنفسهم وفقدت قلوبهم وأنفسهم كلّ إدراك وعلم، وفقدوا كلّ قواهم.

إنّ بيان هذه الصفات الخمس: تشخص الأبصار، مهطعين، مقنعي رؤوسهم، لا يرتدّ إليهم طرفهم، أفئدتهم هواء، صورة بليغة لهول وشدّة ذلك اليوم على الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكلّ شيء، وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون حتّى تحريك أجفان أعينهم.

ولكي لا يشاهدوا هذه المناظر المفجعة ينظرون إلى الأعلى فقط، فهؤلاء كانوا يعتقدون بكمال عقولهم ويعدّون الآخرين من الحمقى، فأصبحوا اليوم

[531]

مدهوشين لدرجة أنّ نظرهم نظر المجانين. بل الأموات نظر جاف عديم الروح ومليء بالرعب والفزع ..

نعم، عندما يريد القرآن الكريم أن يصوّر منظراً أو يجسّم موقفاً يستخدم أقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه.

ولكي لا يعتقد أحد أنّ هذه المجازات تتعلّق بمجموعة معيّنة، يقول تعالى لنبيّه الكريم: (وأنذر الناس يوم تأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب) حتّى نستفيد من هذه الفرصة ثمّ (نجب دعوتك ونتّبع الرسل)ولكن هيهات إنّ ذلك محال (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) فكلّ هذه الدروس لم تؤثّر بكم وأدمتم ظلمكم وجوركم، والآن وبعد أن وقعتم في يد العدالة تطلبون تمديد المدّة، أي مدّة؟ لقد إنتهى كلّ شيء!

* * *

بحوث

1 ـ لماذا وجّه الخطاب هنا إلى الرّسول الأكرم؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتصوّر أبداً أنّ الله غافلا عن الظالمين، ومع ذلك نرى الآيات أعلاه توجّه خطابها إلى النّبي وتقول له: (ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون).

إنّه ـ في الواقع ـ إيصال الخطاب بشكل غير مباشر إلى الآخرين، والذي هو أحد فنون الفصاحة، كما نقول: إيّاك أعني واسمعي ياجارة.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا التعبير كناية عن التهديد، كما نقول في بعض الأحيان للشخص المقصّر «لا تعتقد أنّنا غافلون عن أفعالك» يعني سوف نحاسبك على ما فعلت!

[532]

وعلى أي حال فأساس الحياة يقوم على إعطاء المهلة الكافية للأفراد حتّى ينفقوا ممّا عندهم، ولكي لا يبقى عذر لأحد تعطى المهلة الكافية قبل ساعة الإمتحان، وإعطاء المهلة الكافية للرجوع والإصلاح للجميع.

2 ـ ما هو المقصود من ( يوم يأتيهم العذاب )؟

لقد أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينذر الناس بهذا اليوم الذي ينزل عليهم فيه العذاب الإلهي، ولكن أي يوم هذا؟ ذكر المفسّرون له ثلاث إحتمالات:

الأوّل: يوم القيامة.

الثّاني: يوم وقوع الموت، حيث تبدأ مقدّمة العذاب الإلهي للظالمين.

الثّالث: المقصود هو نزول جزء من العذاب والبلاء الدنيوي، كعذاب قوم لوط وعاد وثمود وقوم نوح وفرعون، والذي تمّ من خلال الطوفان أو الزلازل والعواطف والريح وغيرها.

ومع أنّ كثير من المفسّرين رجّحوا التّفسير الأوّل، إلاّ أنّ الآيات التي تليها تشير إلى قوّة الإحتمال الثّالث، والتي توضّح أنّ المقصود هو العقاب الدنيوي لأنّنا نقرأ بعد هذه الآية (ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك).

فالتعبير «أخّرنا» قرينة واضحة في الطلب لإستمرار الحياة في الدنيا، لأنّه لو كان في الآخرة لقالوا: ربّنا ارجعنا إلى الدنيا، كما نقرأ في الآية (27) من سورة الأنعام (ولو ترى إذ وقفوا على النّار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين) حيث يردّ عليهم القرآن الكريم ويقول: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون).

وقد يسأل سائل: إذا كانت هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا، والآية ما قبلها (ولا تحسبن الله غافلا) تشير إلى عذاب الآخرة، فكيف يمكن أن تتوافق هاتان الآيتان، بالنظر إلى أنّ كلمة «إنّما» دالّة على عقابهم في الآخرة فقط وليس في

[533]

الدنيا.

ويتّضح الجواب بملاحظة أنّ العقاب الاُخروي الذي يشمل جميع الظالمين، ليس له أي تبديل وتغيير، بينما الجزاء الدنيوي ـ بالإضافة إلى أنّه غير شامل ـ فهو قابل للتبديل.

ولابدّ من ذكر هذه النقطة أيضاً وهو أنّ العقاب الدنيوي ـ كعقاب قوم نوح وفرعون وأمثالهم ـ إذا حلّ بهم سوف تُغلق أبواب التوبة كليّاً وليس لهم طريق للرجوع والتوبة، لأنّ أغلب المذنبين عندما يرون العذاب يندمون على ما فعلوا، وهذا الندم إضطراري وليس له أي قيمة، ولذلك يجب عليهم أن يتوبوا قبل نزول العذاب(1).

3 ـ لماذا لا تُقبل المهلة؟

نقرأ في آيات مختلفة من القرآن الكريم أنّ الظالمين والمذنبين في مواقف متعدّدة، يطلبون الرجوع إلى الحياة لتصحيح مسيرتهم، فبعض هذه المواقف مرتبط بيوم القيامة كما أشرنا في الآية (28) من سورة الأنعام، وبعض آخر مرتبط بساعة الموت كما تشير إليه الآية (99) من سورة المؤمنون (حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت) والبعض الآخر يطلب الرجوع عند نزول العذاب المهلك ـ كما في هذه الآية ـ حيث يقول الظالمون عند رؤيتهم للعذاب (ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك) ومن الطريف أنّ الجواب في جميع هذه المواقف يكون بالنفي.

ودليله واضح، لأنّ أي واحد من هذه الاُمنيات لا يمثّل حقيقة واقعيّة ولا جديّة، ورجاؤهم هذا هو حالة إضطرارية تظهر حتّى عند أسوأ الأشخاص، وليست حالة دالّة على التغيّر الذاتي والتصميم الواقعي الصادق لتصحيح مسيرة


1 ـ للمطالعة أكثر راجع ذيل الآية (18) من سورة النساء.

[534]

حياتهم، كالمشركين عندما يأخذهم الطوفان يسألون الله النجاة، وعندما ينجيهم إلى الساحل ينكثون عهودهم كأن لم يكن يحدث شيء إطلاقاً.

ولذلك يقول القرآن الكريم في بعض آياته ـ كما أشرنا إليه أعلاه ـ (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه).

* * *

[535]

الآيات

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الاَْرْضُ غَيْرَ الاَْرْضِ وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الُْمجْرِمِينَ يَوْمَئِذ مُّقَرَّنِينَ فِى الاَْصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَان وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِىَ اللهُ كُلَّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَبِ (52)

التّفسير

لا فائدة من مكرهم!

أشارت الآيات السابقة إلى نوع من عقاب الظالمين، وفي هذه الآيات أيضاً أشارت ـ أوّلا ـ إلى جزء من أفعالهم، ومن ثمّ إلى قسم آخر من جزائهم الشديد وعقابهم الأليم.

[536]

تقول الآية الاُولى: (وقد مكروا مكرهم).

لقد عملوا كلّ ما بوسعهم من أجل طمس حقائق الإسلام، بدءً من الترغيب والتهديد وحتّى الأذى ومحاولات القتل والإغتيال وبثّ الشائعات، ومع كلّ ذلك فانّ الله مطّلع على جميع مؤامراتهم وقد أحصى أعمالهم: (وعند الله مكرهم)وعلى أي حال فلا تقلق فانّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا أن يصيبوك بسوء حتّى (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).

«المكر» ـ وكما أشرنا إليه سابقاً ـ بمعنى الإحتيال، فمرّةً يلازمه الفساد ومرّةً أُخرى لا يلازمه، وفي تفسير جملة (وعند الله مكرهم) رأيان:

يقول البعض ومن جملتهم العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان: المراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه وقدرته.

ويقول البعض الآخر، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ المراد هو ثبوت جزاء مكرهم عند الله تعالى (وعلى هذا التّفسير يكون تقدير الآية: عند الله جزاء مكرهم) فكلمة الجزاء محذوفة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى الصحّة، لأنّه يوافق ظاهر الآية ولا يحتاج إلى الحذف والتقدير، وتؤيّده جملة (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) أي إنّ مكرهم مهما كان قويّاً. ومهما كانت لديهم قدرة على المؤامرة، فانّ الله أعلم بهم وأقدر عليهم وسيدمّر كلّ ما مكروا.

ثمّ يتوعّد الله الظالمين والمسيئين مرّة أُخرى من خلال مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله) لأنّ الإخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة وإستطاعة، ولكن: (إنّ الله عزيز ذو إنتقام).

وهذه الآية ـ في الواقع ـ مكمّلة للآية التي قبلها (ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون).

وتعني أنّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أنّ الله غافل عنهم وعن

[537]

أعمالهم ولا مخلف لوعده، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والإنتقام لا يراد به ما كان مصحوباً بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في أعمال البشر، بل هو الجزاء والعقاب وإقامة العدالة بحقّ الظالمين، بل إنّها نتيجة عمل الإنسان نفسه، ولا حاجة إلى القول بأنّ الله تعالى لو لم ينتقم من الظالمين لكان ذلك خلافاً لعدله وحكمته.

ثمّ يضيف تعالى (يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات) وسوف يتجدّد كلّ شيء بعد الدمار، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كلّ شيء عن هذا العالم، في سعته، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكلّ وجوده لله تعالى: (وبرزوا لله الواحد القهّار).

و «البروز» من مادّة «البراز» على وزن «فراز» بمعنى الفضاء والمحلّ الواسع، وغالباً ما تأتي بمعنى الظهور، لأنّ وجود الشيء في الفضاء الواسع بمعنى ظهوره، وهناك آراء مختلفة للمفسرين في معنى بروز الناس لله تعالى، الكثير يرى أنّها تعني الخروج من القبر.

ويحتمل أن يكون المعنى إنكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر، كما نقرأ في الآية (16) من سورة غافر (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وكذلك الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر) وعلى أي حال فوصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كلّ الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها.

وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: هل أنّ شيئاً خفي على الله في هذه الدنيا لكي يظهر في الآخرة؟ أم أنّ الله لا يعلم بما في القبور ولا يعلم بأسرار الناس؟

ويتّضح الجواب من الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ لنا ظاهراً وباطناً في هذه الدنيا، وقد يشتبه على البعض ـ بسبب علمنا المحدود ـ أنّ الله لا يرى باطننا، ولكن سوف يظهر كلّ شيء في الآخرة ولا وجود للظاهر والباطن هناك، وبعبارة

[538]

أُخرى فالظهور بالقياس إلى علمنا وليس إلى علم الله المطلق.

وتصوّر الآية التالية كيفيّة بروزهم إلى الله فنقول: (وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد).

«الأصفاد» جمع «صفد» بمعنى الغلّ، وقال البعض هو الغلّ والسلاسل التي تجمع اليد إلى العنق.

«مقرنين» من مادّة «القرن والإقتران» وهي بنفس المعنى، لكن لو إستخدمت من باب التفعيل يستفاد منها التكثير، وعلى ذلك فكلمة مقرّنين بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.

وللمفسّرين ثلاث آراء حول المقصود من هذه الكلمة:

الأوّل: هو تقييد المجرمين بالسلاسل والأغلال بعضهم مع البعض الآخر وظهورهم بهذه الصورة في يوم القيامة، إنّ هذا الغِل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم.

الثّاني: إنّ المجرمين يقرّنون مع الشياطين بالسلاسل في يوم القيامة بسبب علاقتهم الباطنية معهم في هذه الدنيا.

الثّالث: أن تقيّد أيديهم برقابهم في الآخرة.

ولا مانع هناك من أن تجمع هذه الصفات للمجرمين، لكن المعنى الأوّل الذي ذكرناه يوافق ظاهر الآية.

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى لباسهم والذي هو أحد أفراد المجازاة الشديدة (سرابيلهم من قطران وتغش وجوههم النار).

«سرابيل» جمع (سربال) على وزن (مثقال) بمعنى القميص من أي قماش كان، ويقول البعض بأنّه كلّ أنواع اللباس، لكن الأوّل أقرب إلى المعنى.