![]() |
![]() |
![]() |
ومن هنا فيمكن القول أنّ بعض الرّوايات التي تزعم أنّ يوسف كان مهيّئاً
لينال وطراً من امرأة العزيز، وخلع ثيابه عن بدنه، وذكرت تعبيرات أُخرى نستحيي من ذكرها، كلّ هذه الأُمور عارية من الصحّة ومختلقة، وهذه أعمال من شأن الأفراد والمنحرفين الملوّثين غير الأنقياء. فكيف يمكن أن يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الإتّهام.
الطريف أنّ التّفسير الأوّل نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عبارة موجزة جدّاً وقصيرة، حيث يسأله المأمون «الخليفة العبّاسي» قائلا: ألا تقولون أنّ الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام: «بلى». فقال: فما تفسير هذه الآية (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) فقال الإمام (عليه السلام): «لقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه» فقال المأمون: لله درُّك ياأبا الحسن(1).
2 ـ إنّ تصميم كلّ من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل كان تصميماً على ضرب أحدهما الآخر ..
فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم إنتصارها في عشقها وبروز روح الإنتقام فيها ثأراً لهذا العشق.
وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.
ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:
أوّلا: إنّ امرأة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة، وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر، فلا مجال ـ إذن ـ لأنّ يقول القرآن: إنّها صمّمت على هذا العمل الآن، لأنّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.
وثانياً: إنّ ظهور حالة الخشونة والإنتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي، لأنّها بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف، ولمّا لم توفّق إلى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر، وهو طريق الخشونة والضرب.
1 ـ تفسير نور الثقلين ج2 ص421.
وثالثاً: إنّنا نقرأ في ذيل هذه الآية (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)والمراد بالفحشاء هو التلوّث وعدم العفّة .. والمراد بصرف السوء، هو نجاته من مخالف امرأة العزيز، وعلى كلّ حال فحين رأى يوسف برهان ربّه ... تجنّب الصراع مع امرأة العزيز وضربها، لأنّه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها، ولذا رجّح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفرّ نحو الباب.
3 ـ ممّا لا شكّ فيه أنّ يوسف كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب، وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه .. إلاّ أنّ مثل هذا الإنسان ـ بطبيعة الحال ـ يهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ كانت كفّة الغرائز أرجح، حتّى أنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة، بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول، ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلّمت زمام الأُمور في إنقلاب عسكري سريع وكبحت جماح الشهوة.
والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئين ـ في الآية المتقدّمة ـ فيكون المراد من قوله تعالى: (وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) إنّ يوسف إنجرّ إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل، ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة(1).. لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف عندما إستطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية فلم يقم بعمل مهمّ، لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة .. كلاّ أبداً .. فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد.
1 ـ مقتبس من تفسير «في ظلال القرآن» لسيّد قطب ذيل الآية ج4 ص711.
«البرهان» في الأصل مصدر «بَرِهَ» ومعناه «صيرورة الشيء أبيضاً» ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة، وقد إحتمل فيه المفسّرون إحتمالات كثيرة، من جملتها:
1 ـ العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة.
2 ـ معرفته بحكم تحريم الزنا.
3 ـ مقام النبوّة وعصمته من الذنب.
4 ـ نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة.
5 ـ هناك رواية يستفاد منها أنّه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده، وفجأةً وقعت عيناها عليه، فكأنّها أحسّت بأنّ الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانيّة بغضب، فنهضت وألقت عليه ستراً، فاهتزّ يوسف لهذا المنظر، وقال: أنت تستحين من صنم لا يملك عقلا ولا شعوراً ولا إحساساً، فكيف لا أستحيي من ربّي الخبير بكلّ شيء، والذي لا تخفى عليه خافية؟.
فهذا الإحساس منح يوسف قوّة جديدة، وأعانه على الصراع الشديد في أعماق نفسه بين الغريزة والعقل، ليتمكّن من التغلّب على أمواج الغريزة في نفسه(1).
وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة، لأنّ مفهوم البرهان العام يستوعبها جميعاً، وقد أطلقت آيات القرآن كلمة «البرهان» على كثير من المعاني المتقدّمة.
أمّا الرّوايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسّرين، والتي مؤدّاها أنّ
1 ـ نور الثقلين، ج2، ص422; وتفسير القرطبي، ص398، ج5.
يوسف صمّم على الذنب، ولكنّه لاحظ فجأةً حالة من المكاشفة بين جبرئيل ويعقوب وهو يعضّ على إصبعه، فرأى يوسف هذا المنظر وتخلّف عن إقدامه على هذا الذنب .. فهذه الرّوايات ليس لها أي سند معتبر .. وهي روايات إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيّقة التي لم تدرك مقام النبوّة أبداً.
والآن لنتوجّه إلى تفسير بقيّة الآية إذ يقول القرآن المجيد: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه كان من عبادنا المخلصين). وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم يكن إعتباطاً، فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته، فكان جديراً بهذا الإمداد الإلهي.
وبيان هذا الأمر يدلّ على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدّة والأزمة التي تدرك الأنبياء ـ كيوسف مثلا ـ غير مخصوصة بهم، فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضاً.
* * *
نحن نعرف أنّ أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عُبّر عنه في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ«الجهاد الأكبر» أي هو جهاد أعظم من جهاد العدوّ الذي عبّر عنه بالجهاد الأصغر .. وإذا لم يتوفّر في الإنسان الجهاد الأكبر بالمعنى الواقعي ـ أساساً ـ فلن ينتصر في جهاده على أعدائه.
وفي القرآن المجيد ترتسم صور شتّى في ميادين الجهاد، وتتجلّى فيها علاقة الأنبياء وأولياء الله الصالحين. وقصّة يوسف وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب واحدة من هذه الصور، وبالرغم من أنّ القرآن لم يوضّح جميع ما في القصّة من خفايا وزوايا، إلاّ أنّه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي (وهمّ
بها لولا أن رأى برهان ربّه) وبيّن شدّة هذا الطوفان.
لقد خرج يوسف من هذا الصراع منتصراً بوجه مشرق لثلاثة أسباب:
الأوّل: إنّه التجأ إلى الله وإستعاذ به، وقال: (معاذ الله).
الثّاني: التفاته إلى الإحسان الذي أسداه إليه عزيز مصر، وما تناوله في بيته فأثّر فيه، فلم ينس فضله طيلة حياته، ومع ملاحظة نعم الله التي لا تُحصى وإنقاذه له من غيابة الجبّ الموحشة إلى محيط الأمان والهدوء جعلته يفكّر في ماضيه ومستقبله، ولا يستسلم للتيارات العابرة.
الثّالث: بناءُ شخصيّته وعبوديّته المقرونة بالإخلاص التي عبّر عنها القرآن (إنّه من عبادنا المخلصين) يستفاد منها أنّها منحته القوّة والقدرة ليخرج من ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل والخارج بإنتصار.
وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون أن ينتصروا على عدوّهم الخطر في ميادين جهاد النفس.
يقول الإمام علي بن أبي طالب «أمير المؤمنين» في دعاء الصباح، باُسلوب جميل رائق: «وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان».
ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية فلمّا رجعوا قال: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر» فقيل: يارسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: «جهاد النفس»(1).
ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضاً «المجاهد من جاهد نفسه»(2).
كما ينقل عن الإمام الصادق أنّه قال: «من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي حرّم الله جسده على النار»(3).
1 ـ وسائل الشيعة، ج11، ص122.
2 ـ المصدر السابق، ص124.
3 ـ المصدر نفسه، ص123.
كما أشرنا في تفسير الآيات المتقدّمة، فإنّ القرآن المجيد عزا نجاة يوسف ـ من هذه الأزمة الخطرة التي أوقعته امرأة العزيز فيها ـ إلى الله، إذ قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء).
ولكن مع ملاحظة الجملة التي تليها: (إنّه كان من عبادنا المخلصين) تتجلّى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سبحانه لا يترك عباده المخلصين في اللحظات المتأزمّة وحدهم .. ولا يقطع عنهم إمداداته المعنويّة .. بل يحفظ عباده بألطافه الخفيّة. وهذا الثواب في الواقع هو ما يمنحه الله جلّ جلاله لأمثال هؤلاء العباد، وهو ثواب الطهارة والتقوى والإخلاص.
وهناك مسألة جديرة بالتنويه، وهي أنّ يوسف «من عباد الله المخلَصين» ومفرد الكلمة «مُخلَص» على وزن «مطلق» وهو اسم مفعول. ولم تأت الكلمة على وزن اسم الفاعل أي «مُخلِص» على وزن «مُحسِن».
والدقّة في آيات القرآن تكشف عن أنّ كلمة «مخلِص» (بكسر اللام) غالباً ما تُستعمل في مراحل تكامل الإنسان الاُولى وفي حال بناء شخصيته، كقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفُلك دعوا الله مخلِصين له الدين)(1).
وكقوله تعالى: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلِصين له الدين)(2).
غير أنّ كلمة «مخلَص» بفتح اللام إستعملت في المرحلة العالية .. التي تحصل بعد مدّة مديدة من جهاد النفس، تلك المرحلة التي ييأس الشيطان فيها من نفوذه ووسوسته داخل الإنسان، وفي الحقيقة تكون نفس الإنسان مؤمّناً عليها من قبل الله، يقول القرآن في هذا الصدد: (قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين
1 ـ العنكبوت، 65.
2 ـ البيّنة، 5.
إلاّ عبادك منهم المخلَصين)(1).
وكان يوسف قد بلغ هذه المرحلة بحيث وقف كالجبل أمام تلك الأزمة، فينبغي على كلّ فرد السعي لبلوغ هذه المرحلة.
من عجائب القرآن وواحدة من أدلّة الإعجاز، أنّه لا يوجد في تعبيره ركّة وإبتذال وعدم العفّة وما إلى ذلك، كما أنّه لا يتناسب مع اُسلوب الفرد العادي الاُمّي الذي تربّى في محيط الجاهليّة، مع أنّ حديث كلّ أحد يتناسب مع محيطه وأفكاره!.
وبين جميع قصص القرآن وأحداثه التي ينقلها توجد قصّة غرام وعشق واقعية، وهي قصّة (يوسف وامرأة عزيز مصر).
قصّة تتحدّث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب.
أصحاب المقالات والكتاب حين يواجهون مثل هذا الأمر .. إِمّا أن يتحدّثوا عن أبطال القصّة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان، حتّى تظهر في (البين) تعابير مثيرة وغير أخلاقية كثيرة.
وإِمّا أن يحافظوا على العفّة والنزاهة في القلم واللسان، فيحوّلوا القصّة إلى القرّاء أو السامعين بشكل غامض ومبهم.
فالكاتب أو صاحب المقال مهما كان ماهراً يبتلى بواحد من هذين الإشكالين، ترى هل يعقل أنّ فرداً لم يدرس يرسم رسماً دقيقاً وكاملا لفصول مثل هذا العشق المثير، دون أن يستعمل أقلّ تعبير مهيّج وبعيد عن العفّة؟!
ولكنّ القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصّة ـ
1 ـ سورة ص، الآية 83.
باُسلوب معجب ـ الدقّة في البيان مع المتانة والعفّة، دون أن يغضّ الطرف عن ذكر الوقائع، أو أن يظهر العجز، وقد إستعمل جميع الاُصول الأخلاقية والأُمور الخاصّة بالعفّة.
ونعرف أنّ أخطر ما في هذه القصّة ما جرى في «خلوة العشق» وما أظهرته امرأة العزيز بإبتكارها وهواها.
والقرآن يتناول كلّ ما جرى من حوادث ويتحدّث عنها دون أن يظهر أقلّ إنحراف من اُصول العفّة حيث يقول: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يُفلح الظالمون)(يوسف 23).
والمسائل التي تسترعي الإنتباه في هذه القصّة ما يلي:
1 ـ كلمة «راود» تستعمل في مكان يطلب فيه أحد من الآخر شيئاً بإصرار ممزوجاً بالترغيب واللين، لكن ما الذي أرادته امرأة العزيز من يوسف؟!.. بما أنّه كان واضحاً فقد إكتفى القرآن بالكناية والتلميح دون التصريح!.
2 ـ إنّ القرآن هنا لم يعبّر عن امرأة العزيز تعبيراً مباشراً، بل قال: (التي هو في بيتها) ليقترب من بيان العفّة وإسدال الحجاب، كما جسّد معرفة يوسف للحقّ وجسّد مشاكل يوسف أيضاً في عدم التسليم إزاء من كانت حياته في قبضتها.
3 ـ (غلّقت الأبواب) التي تدلّ على المبالغة وأنّ الأبواب جميعاً أوصدت بشدّة، (وهذا تصوير من هذا الميدان المثير).
4 ـ جملة (هيت لك) تشرح آخر كلام امرأة العزيز للبلوغ إلى وصال يوسف، ولكنّها في عبارة متينة ذات مغزى كبير وليس فيها ما يشير إلى تعبير سيىء.
5 ـ (معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي) التي قالها يوسف لتلك المرأة الجميلة، معناها كما يقول أكثر المفسّرين: إنّي ألتجىء إلى الله فإنّ عزيز مصر
صاحبي وسيّدي وهو يجلّني ويحترمني ويعتمد عليّ، فكيف أخونه؟! وهذا العمل خيانة وظلم (إنّه لا يفلح الظالمون) وبهذا توضّح الآية سعي يوسف إلى إيقاظ العواطف الإنسانية في امرأة العزيز.
6 ـ جملة (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) ترسم ـ من جهة ـ تلك الخلوة بدقّة، بحيث لو أنّ يوسف لم يكن لديه مقام العصمة أو العقل أو الإيمان لكان قد وقع في «الفخّ».
ومن جهة أُخرى ترسم إنتصار يوسف أخيراً في هذه الظروف على شيطان الشهوة الطاغي .. باُسلوب رائع.
الطريف هنا أنّ الآية استعملت كلمة «همّ» فحسب، «أي إنّ امرأة العزيز صمّمت من جهتها ولو لم يَر يوسف برهان ربّه لصمّم من جهته أيضاً، ترى هل توجد كلمة أكثر متانةً للتعبير عن (القصد والتصميم) أفضل من هذه؟!
* * *
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُر وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِىَ رَوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَذِبِينَ(26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّدِقِينَ (27) فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُر قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
المقاومة الشديدة التي أبداها يوسف جعلت امرأة العزيز آيسة منه تقريباً .. ولكن يوسف الذي إنتصر في هذا الدور على تلك المرأة المعاندة أحسّ أنّ بقاءه في بيتها ـ في هذا المزلق الخطر ـ غير صالح، وينبغي أن يبتعد عنه، ولذلك أسرع نحو باب القصر ليفتحه ويخرج، ولم تقف امرأة العزيز مكتوفة الأيدي، بل
أسرعت خلفه لتمنعه من الخروج، وسحبت قميصه من خلفه فقدّته (واستبقا الباب فقدّت قميصه من دُبُر).
(الإستباق) في اللغة هو المسابقة بين شخصين أو أكثر.
و (قدّ) بمعنى مَزّق طولا، كما أنّ «قطّ» بمعنى مَزّق عرضاً، ولذلك نقرأ في الحديث .. «كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكاراً، إذا اعتلى قدّ، وإذا إعترض قطّ»(1).
وعلى كلّ حال فقد أوصل يوسف نفسه نحو الباب وفتحه فرأيا «يوسف وامرأة العزيز» عزيز مصر خلف الباب فجأةً. يقول القرآن الكريم: (وألفيا سيّدها لدى الباب).
«ألفيا» من مادّة «الإلفاء» ومعناها العثور المفاجىء .. والتعبير عن الزوج بـ«السيّد» كما يقول بعض المفسّرين كان طبقاً للعرف السائد في مصر، حيث كانت تخاطب المرأة زوجها بالسيّد.
في هذه اللحظة التي رأت امرأة العزيز نفسها على أبواب الفضيحة من جهة، وشعلة الإنتقام تتأجّج في داخلها من جهة أُخرى، كان أوّل شيء توجّهت إليه أن تخاطب زوجها متظاهرة بمظهر الحقّ متّهمة يوسف إذ (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذاب أليم).
من الطريف هنا أنّ هذه المرأة الخائنة نسيت نفسها أنّها امرأة العزيز حينما كانت لوحدها مع يوسف، ولكن عندما وجدت نفسها مشرفة على الإفتضاح، عبّرت عن نفسها بأنّها أهله لتثير فيه إحساس الغيرة! فهي خاصّة به ولا ينبغي لأحد أن يلقي عليها نظرات الطمع!!
وهذا الكلام قريب الشبه بكلام فرعون مصر في عصر موسى إذ قال: (أليس
1 ـ مجمع البيان: ذيل الآية.
لي ملك مصر)،(1) حيث كان جالساً على عرش السلطنة! ولكنّه حين وجد نفسه مشرفاً على السقوط، ووجد ملكه وتاجه في خطر، قال عن موسى وأخيه: (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم)(2).
والأمر الآخر أنّ امرأة العزيز لم تقل إنّ يوسف كان يريد السوء بي، بل تحدّثت [عن ما يستحقّه من الجزاء] مع عزيز مصر، فكأنّ أصل المسألة مسلّم به!! والكلام عن كيفية الجزاء.
وهذا التعبير المدروس الذي كان في لحظة إضطراب ومفاجأة للمرأة يدلّ على شدّة إحتيالها(3).
ثمّ إنّ التعبير عن السجن أوّلا، ثمّ عدم قناعتها بالسجن وحده، إذ تتجاوز هذا الحكم إلى العذاب الأليم أو «الإعدام» مثلا.
ولكن يوسف أدرك أنّ السكوت هنا غير جائز .. فأماط اللثام عن عشق امرأة العزيز (وقال هي راودتني عن نفسي).
وطبيعي أنّ مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية، أي إنّ شابّاً يافعاً غير متزوّج لا يُعدّ آثماً، ولكن امرأة متزوّجة ذات مكانة إجتماعية ـ ظاهراً ـ آثمة! فلذلك كانت أصابع الإتّهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.
ولكن حيث أنّ الله حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الإتّهام، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين). وأي دليل أقوى من هذا الدليل، لأنّ طلب المعصية إن كان من طرف امرأة العزيز فقد ركضت خلف يوسف وقدّت
1 ـ الزخرف، 50.
2 ـ سورة طه، 63.
3 ـ في المراد من «ما» من قولها «ما جزاء» أهي نافية أم إستفهامية، هناك إختلاف بين المفسّرين، والنتيجة واحدة.
قميصه من دُبر، لأنّه كان يريد الفرار فأمسكت بثوبه فقدّته، وإذا كان يوسف هو الذي هجم عليها وهي تريد الفرار أو وقفت أمامه للمواجهة والدفاع، فمن المسلّم أن يُقدّ قميص يوسف من قُبل! وأيّ شيء أعجب من أن تكون هذه المسألة البسيطة «خرق الثوب» مؤشّراً على تغيير مسير حياة بريء وسنداً على طهارته ودليلا على إفتضاح المجرم!.
أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلا: (فلمّا رأى قميصه قُدّ من دُبر قال إنّه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم).
في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضيّة، فالتفت إلى يوسف وقال: (يُوسفُ أعرض عن هذا) أي اُكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً .. ثمّ التفت إلى امرأته وقال: (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين)(1).
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيّد هذا الإحتمال وخاصّة مع وقوع هذه الجملة بعد قول العزيز.
* * *
هناك أقوال في الشاهد الذي ختم «ملفّ يوسف وامرأة العزيز» بسرعة، وأوضح البريء من المسيء من هو؟
1 ـ ورد التعبير بالخاطئين وهو جمع مذكّر، ولم يرد التعبير بالخاطئات الذي هو جمع مؤنث، لأنّ جمع المذكّر السالم يُغلّب في كثير من الموارد ويطلق على جماعة الذكور والإناث أي «إنّك في زمرة الخاطئين».
قال بعضهم: هو أحد أقارب امرأة العزيز، وكلمة «من أهلها» دليل على ذلك .. وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي بحيث إستطاع أن يستنبط الحكم من قدّ الثوب دون أن يكون لديه شاهد أو بيّنة. بل إكتشف حقيقة الحال .. ويقال: إنّ هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه.
التّفسير الآخر: إنّ الشاهد كان طفلا رضيعاً من أقارب امرأة العزيز وكان على مقربة من الحادث، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر أن يحتكم إلى هذا الطفل، فتعجّب عزيز مصر من هذا الطلب .. تُرى هل يمكن هذا؟! لكن «الطفل» حين تكلّم ـ كما تكلّم المسيح(عليه السلام) في المهد ـ وأعطى هذا المعيار لمعرفة البريء من المسيىء، التفت عزيز مصر إلى أنّ يوسف ليس غلاماً (عاديّاً) بل هو نبي أو متنّبي.
والرّوايات المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) وأهل السنّة تشير إلى هذا التّفسير، من جملتها ما نقله ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال: «أربعة تكلّموا أطفالا: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم»(1).
كما نقل عن تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق أنّ شاهد يوسف كان طفلا في المهد(2).
ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أيّاً من الحديثين المتقدّمين ليس له سند قوي، بل هما مرفوعان.
الإحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة (من أهلها) يضعّف هذا الإحتمال، بل ينفيه!.
1 ـ تفسير المنار، ج12، ص287.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج12، ص422.
من جملة المسائل التي تستجلب الإنتباه في هذه القصّة أنّ في مثل هذه المسألة المهمّة التي طُعن فيها بناموس عزيز مصر وعرضه، كيف يكتفي قانعاً بالقول (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين) وربّما كانت هذه المسألة سبباً لأنّ تدعو امرأة العزيز نساء الأشراف إلى مجلسها الخاص، وتكاشفهنّ بقصّة حبّها وغرامها بجلاء.
تُرى: أكان هذا خوفاً من الإفتضاح، فاختصر عزيز مصر هذه المسألة وغضّ النظر عنها!؟
أم أنّ هذه المسألة ـ أساساً ـ ليست بذات أهميّة للحكّام ومالكي أزمّة الأُمور والطواغيت، فهم لا يكترثون للغيرة وحفظ الناموس، لأنّهم ملوّثون بالذنوب وغارقون في مثل هذه الرذائل والفساد حتّى كأنّه لا أهميّة لهذا الموضوع في نظرهم.
يبدو أنّ الإحتمال الثّاني أقرب للنظر!.
الدرس الكبير الآخر الذي نتعلّمه من قصّة يوسف، هو حماية الله ورعايته للإنسان الأكيدة في أشدّ الحالات، وبمقتضى قوله: (يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ـ فمن جهة كان يوسف لا يُصدّق أبداً أنّ نافذة من الأمل ستفتح له، ويكون قدُّ القميص سنداً للطهارة والبراءة، ذلك القميص الذي يصنع الحوادث، فيوماً يفضح إخوة يوسف لأنّهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزّق، ويوماً يفضح امرأة العزيز لأنّه قدّ من دُبر، ويوماً آخر يهب البصر والنّور ليعقوب، وريحه المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشّر العجوز «الكنعاني» بقدوم موكب البشير!.
وعلى كلّ حال فإنّ لله ألطافاً خفيّة لا يسبر غورها أحد، وحين يهبّ نسيم هذه الألطاف تتغيّر الأسباب والمسبّبات بشكل لا يمكن حتّى لأذكى الأفراد أن يتنبّأ عنها!.
بل قد يتّفق أحياناً أنّ خيوط العنكبوت تبدّل مسير الحياة لاُمّة أو قوم بشكل دائم، كما حدث في قصّة غار ثور وهجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
في الآيات المتقدّمة إشارة إلى مكر النسوة (طبعاً النساء اللائي لا إرتباط لهنّ بشيء إلاّ هواهنّ كامرأة العزيز) وهذا المكر والتحيّل الموصوف بالعظمة (إنّ كيدكنّ عظيم) يوجد منه في التاريخ والقصص التاريخيّة أمثلة كثيرة، حيث تكشف إجمالا أنّ النساء اللائي يسوقهنّ هواهنّ يرسمن خططاً لا نظير لها من نوعها.
رأينا في القصّة المتقدّمة كيف أنّ امرأة العزيز بعد الهزيمة في عشقها وإفتضاح أمرها، برّأت نفسها بمهارة واتّهمت يوسف ولم تقل إنّ يوسف قصد السوء بي، بل إفترضت ذلك أمراً مسلّماً به. وإنّما سألت فقط عن جزاء مثل من يعمل هذا العمل!! جزاءً لا يتوقّف على السجن فحسب، بل يأخذ أبعاداً أُخرى غير محدودة.
ونرى أيضاً أنّ هذه المرأة في مقابل لوم نسوة مصر لها إذ عشقت غلامها ـ في الآيات التالية ـ تستعمل مثل هذا المكر أو الخداع، وهذا تأكيد آخر على مكر مثل هؤلاء النسوة!
* * *
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَوِدُ فَتَهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَل مُّبِين (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَءَاتَتْ كُلَّ وَحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)
بالرغم من أنّ عشق امرأة العزيز المذكور آنفاً كان ـ مسألة خصوصية ـ
بحيث أكّد حتّى العزيز على كتمانها، ولكن حيث أنّ هذه الأسرار لا تبقى خافية، ولا سيّما في قصور الملوك وأصحاب المال والقوّة ـ التي في حيطانها آذان صاغية ـ فسوف تتسرّب إلى خارج القصر كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبّاً) ثمّ لُمْنَها وعَنَّفنها بهذه الجملة (إنّا لنراها في ضلال مبين). وواضح أنّ المتحدّث بمثل هذا الكلام كنّ نساء أشراف مصر حيث كانت أخبار القصور المفعمة بفساد الفراعنة والمستكبرين مثيرةً لهنّ وكنّ يستقصينها دائماً.
لم يكن فساد هؤلاء النسوة بأقلّ من امرأة العزيز ولكنّ أيديهنّ لم تصل إلى يوسف، وكما يقول المثل ـ «العين بصيرة واليد قصيرة» فكنّ يرين امرأة العزيز بسبب هذا العشق في ضلال مبين.
ويقول بعض المفسّرين: إنّ إذاعة هذا السرّ من قبل هذه المجموعة من نساء مصر، كانت خطّة لتحريك امرأة العزيز حتّى تدعوهنّ إلى قصرها لتكشف لهنّ عن براءتها وتريهن يوسف وجماله!
ولعلّهنّ كنّ يتصوّرن أنّ يوسف إذا رآهنّ بهره جمالهنّ، وربّما رآهنّ أجمل من امرأة العزيز، ولأنّ يوسف كان يحترم امرأة العزيز إحترام الولد لوالدته ـ أم مربّيته ـ فهو لا يطمع فيها، ولهذا السبب يكون إحتمال نفوذهنّ إلى قلبه أقوى من نفوذ امرأة العزيز إليه!.
«الشغف» من مادّة «الشغاف» ومعناه أعلى القلب أو الغشاء الرقيق المحيط بالقلب، وشغفها حبّاً معناه أنّها تعلّقت به إلى درجة بحيث نفذ حبّه إلى قلبها وإستقرّ في أعماقه.
وهذا التعبير إشارة إلى العشق الشديد والملتهب.
يذكر «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» نقلا عن كتاب أسرار البلاغة مراتب الحبّ والعشق ونشير هنا إلى قسم منها:
فأوّل مراحل الحبّ «الهوى» ومعناه الميل، ثمّ «العلاقة» وهي المحبّة الملازمة للقلب، وبعدها «الكلف» وهو الحبّ الشديد، ثمّ «العشق» وبعده «الشعف» بالعين المهملة أي الحالة التي يحترق القلب فيها من الحبّ ويحسّ باللّذة من هذه الحالة .. وبعدها «اللوعة» ثمّ «الشغف» وهو المرحلة التي ينفذ العشق فيها إلى جميع زوايا القلب، ثمّ «الوله» وهو المرحلة التي تخطف عقل الإنسان من العشق، وآخر المراحل «الهيام» وهو المرحلة التي تذهل العاشق وتجرّه إلى كلّ جهة دون إختياره(1).
هناك مسألة جديرة بالإلتفات وهي: من الذي أذاع هذا السرّ؟ هل كان من امرأة العزيز التي لم ترغب في هذه الفضيحة أبداً! أو من قبل العزيز نفسه! وكان يؤكّد على كتمان السرّ، أو القاضي الحكيم الذي حكم في الأمر، ويُستبعد منه هذا العمل؟!
وعلى كلّ حال فإنّ مثل هذه المسائل في هذه القصور المفعمة بالفساد لا تبقى طيّ الكتمان، وأخيراً فإنّها تنتقل على ألسنة الذين يظهرون الحرص على شرف القصر وتنتشر، ومن الطبيعي أن يضيف عليها آخرون أوراقاً وأغصاناً.
أمّا امرأة العزيز فقد وصلها ما دار بين النسوة من إفتضاحها (فلمّا سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ واعتدت لهنّ متكئاً وأتت كلّ واحدة منهنّ سكيناً)(2).
هذا العمل دليل على أنّ امرأة العزيز لم تكن تكترث بزوجها، ولم تأخذ الدرس من فضيحتها، ثمّ أمرت يوسف أن يتخطّى في المجلس (وقالت اُخرج عليهن) وتعبير (اُخرج عليهن) بدلا من «اُدخل» يشير إلى أنّها كانت أخفت يوسف داخل البيت، أو جعلته مشغولا في إحدى الغرف التي يوضع فيها الغذاء
1 ـ تفسير (روح المعاني) ج12 ص203.
2 ـ «المتّكأ» ما يتكأ عليه كالكراسي والأسرة، وما يوضع خلف الظهر كما هو معروف في القصور، ولكن البعض قال: إنّ المتّكأ هو نوع من الفواكه المعروفة «بالاُترنج» والذين فسّروا المتّكأ بالمعنى المتقدّم قالوا أيضاً: إنّها فاكهة «الأترنج» وهي فاكهة من فصائل الحمضيات لها قشر ضخم يستعمل في المربيات، وهذه الفاكهة في مصر خفيفة الحموضة وتؤكل!
![]() |
![]() |
![]() |