![]() |
![]() |
![]() |
ولكن بالنظر إلى سعة مفهوم ومحتوى الكلمة الطيّبة نستطيع أن نقول: إنّها تشمل جميع هذه الأقوال، لأنّ «الكلمة» في معناها الواسع تشمل جميع الموجودات، ولهذا السبب يقال للمخلوقات «كلمة الله».
و «الطيّب» كلّ طاهر ونظيف، فالنتيجة من هذا المثال أنّه يشمل كلّ سنّة ودستور وبرنامج وطريقة، وكلّ عمل، وكلّ إنسان .. والخلاصة: كلّ موجود طاهر ونظيف وذي بركة، وجميعها كشجرة طيّبة فيها الخصائص التالية:
1 ـ كائن يمتلك الحركة والنمو، وليس جامداً ولا خاملا، بل ثابت وفاعل ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير بـ«الشجرة» بيان لهذه الحقيقة).
2 ـ هذه الشجرة طيّبة، ولكن من أيّة جهة؟ بما أنّه لم يذكر لها قسم خاص بها، فإنّها طيّبة من كلّ جهة .. منظرها، ثمارها، أزهارها، ظلالها، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.
3 ـ لهذه الشجرة نظام دقيق، لها جذور وأغصان، وكلّ واحد له وظيفته الخاصّة، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.
4 ـ أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن أن يقلعها الطوفان ولا العواصف. وبإستطاعتها أن تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس، لأنّ الغصن كلّما كان عالياً يحتاج إلى جذور قوّية (أصلها ثابت).
5 ـ إنّ أغصان هذه الشجرة الطيّبة ليست في محيط ضيّق ولا رديء، بل
مقرّها في عنان السّماء، وهذه الأغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عالياً (وفرعها في السّماء).
ومن الواضح أنّ الأغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة، وتستفيد أكثر من نور الشمس والهواء الطلق، فتكون ثمارها طيّبة جدّاً(1).
6 ـ هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر، ولذلك فهي كثيرة العطاء (تؤتي اُكلها).
7 ـ وثمارها ليست فصلية، بل في كلّ فصل وزمان، فإذا أردنا أن نمدّ يدنا إلى أغصانها في أي وقت لم نرجع خائبين (كلّ حين).
8 ـ إنّ إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الإلهيّة وليس بدون حساب (بإذن ربّها).
والآن يجب أن نفتّش، أين نجد هذه الخصائص والبركات؟
نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها، وفي الإنسان الموحّد ذي المعرفة، وفي البرامج الحيّة النظيفة، وجميعها نامية ومتحرّكة ولها اُصول ثابتة ومحكمة وفروع كثيرة وعالية بعيدة عن التلوّث بالأدران الجسديّة والدنيوية، وكلّها مثمرة وفيّاضة.
وما من أحد يأتي إليها ويمدّ يده إلى فروعها إلاّ ويستفيد من ثمارها اللذيذة العطرة، وتتحقّق فيه الخصال المذكورة، فعواصف الأحداث الصعبة والمشاكل الكبيرة لا تزحزحه من مكانه، ولا يتحدد، واُفق تفكيره في هذه الدنيا الصغيرة، بل يشقّ حجب الزمان والمكان ويسير نحو المطلق اللامتناهي.
سلوكهم وبرامجهم ليست تابعة للهوى والهوس، بل طبقاً للأوامر الإلهيّة
1 ـ ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في ثمار الأشجار، فثمار الأغصان العالية تكون أنضج وأطيب طعماً من ثمار الأغصان الواطئة.
وبإذن ربّهم، وهذا هو مصدر الحركة والنمو في حركتهم.
الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيّبة، وحياتهم أصل البركة، دعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم .. وحتّى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومُربّية.
نعم (ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرّون).
وهناك سؤال مطروح بين المفسّرين وهو: هل لوجود هذه الشجرة وصفاتها واقع خارجي؟
يعتقد البعض بوجودها وهي النخلة، ولذلك اضطروا إلى أن يفسّروا (كلّ حين) بستّة أشهر.
ولكن لا حاجة إلى الإصرار في وجود مثل هذه الشجرة، بل هناك تشبيهات كثيرة وليس لها وجود خارجي أصلا.
وعلى أيّة حال، فالهدف من التشبيه هو تجسيم الحقائق والمسائل العقليّة وصبّها في قالب الحواس، وهذه الأمثال ليس فيها أي إبهام، بل هي مقبولة ومؤثّرة وجذّابة.
وفي عين الحال هناك أشجاراً في هذه الدنيا ثمارها لا تنقطع على طول السنة، وقد رأينا بعض الأشجار في المناطق الحارّة وكانت مثمرة وفي نفس الوقت لها أزهار جديدة للثمار المقبلة!
وبما أنّ أحد أفضل الطرق لتوضيح المسائل هو الإستفادة من طريق المقابلة والمقايسة، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيّبة، الشجرة الخبيثة (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة إجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار).
والكلمة «الخبيثة» هي كلمة الكفر والشرك، وهي القول السيء والرديء، وهي البرنامج الضالّ والمنحرف، والناس الخبثاء، والخلاصة: هي كلّ خبيث ونجس.
ومن البديهي أنّ مثل هذه الشجرة ليس لها أصل، ولا نمو ولا تكامل ولا ثمار ولا ظلّ ولا ثبات ولا إستقرار، بل هي قطعة خشبيّة لا تصلح إلاّ للإشتعال ... بل أكثر من ذلك هي قاطعة للطريق وتزاحم السائرين وأحياناً تؤذي الناس!
ومن الطريف أنّ القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما إكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة (اجتّثت من فوق الأرض وما لها من قرار)، وهذا نوع من لطافة البيان أن يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر «المحبوب» بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر «المبغوض»!
ومرّة أُخرى نجد المفسّرين إختلفوا في تفسير الشجرة الخبيثة، وهل لها واقع خارجي؟
قال البعض: إنّها شجرة «الحنظل» والتي لها ثمار مرّة ورديئة.
واعتقد آخرون أنّها «الكشوت» وهي نوع من الأعشاب المعقّدة التي تنبت في الصحراء ولها أشواك قصيرة تلتفّ حولها وليس لها جذر ولا أوراق.
وكما قلنا في تفسير الشجرة الطيّبة، ليس من اللازم أن يكون للشجرة الخبيثة وجود خارجي في جميع صفاتها، بل الهدف هو تجسيم الوجه الحقيقي لكلمة الشرك والبرامج المنحرفة والناس الخبثاء، وهؤلاء كالشجرة الخبيثة ليس لها ثمار ولا فائدة ... إلاّ المتاعب والمشاكل. مضافاً إلى أنّ الأشجار والنباتات الخبيثة التي قلعتها الأعاصير ليست قليلة.
وبما أنّ الآيات السابقة جسّدت حال الإيمان والكفر، الطيّب والخبيث من خلال مثالين صريحين، فإنّ الآية الأخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي، يقول تعالى: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)لأنّ إيمانهم لم يكن إيماناً سطحياً وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة، بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وبما أنّ ليس هناك من لا يحتاج إلى اللطف الإلهي، وبعبارة أُخرى: كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة، فالمؤمنون
المخلصون الثابتون بالإستناد إلى اللطف الإلهي يستقيمون كالجبال في مقابل أيّة حادثة. والله تعالى يحفظهم من الزلاّت التي تعتريهم في حياتهم. ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زُخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق.
وكذلك فالله تعالى يثبّتهم أمام القوى الجهنّمية للظالمين القُساة، الذين يسعون لإخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد.
ومن الطريف أنّ هذا الحفظ والتثبّت الإلهيين يستوعبان كلّ حياتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهنا يثبّتون بالإيمان ويبرؤون من الذنوب، وهناك يُخلدون في النعيم المقيم.
ثمّ يشير إلى النقطة المقابلة لهم (ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء).
قلنا مراراً: إنّ الهداية والضلال التي تنسب إلى الله عزّوجلّ لا تتحقّقان إلاّ بأن يرفع الإنسان القدم الأوّل لها، فالله عزّوجلّ عندما يسلب المواهب والنعم من العبد أو يمنحها له يكون ذلك بسبب إستحقاقه أو عدم إستحقاقه.
ووصف «الظالمين» بعد جملة «يضلّ الله» أفضل قرينة لهذا الموضوع، يعني ما دام الإنسان غير ملوّث بالظلم لا تسلب الهداية منه، أمّا إذا تلوّث بالظلم وعمّت وجوده الذنوب، فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الإلهيّة، وهذه عين الإرادة الحرّة. وبالطبع إذا غيّر مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له، ولكن إذا إستحكم الذنب فإنّ طريق العودة يكون صعباً جدّاً.
* * *
نقرأ في روايات متعدّدة أنّ الله يثبت الإنسان على خطّ الإيمان عندما يواجه أسئلة الملائكة في القبر، وهذا معنى الآية (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
ولقد وردت كلمة «القبر» بصراحة في بعض هذه الرّوايات (1).
ولكن هناك رواية شريفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عمّا هو عليه، فيأبى الله عزّوجلّ له ذلك، وهو قول الله عزّوجلّ: (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)(2).
وأكثر المفسّرين يميلون إلى هذا التّفسير، طبقاً لما نقله المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الآخرة ليست محلا للأعمال ولا للإنحراف، بل هي محلّ الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع الموت وحتّى في البرزخ (الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة) قد تحصل بعض الهفوات، فهنا يكون اللطف الإلهي عاملاً في حفظ وثبات الإنسان.
من بين جميع الصفات التي ذكرتها الآيات أعلاه للشجرة الطيّبة والخبيثة، وردت مسألة الثبات وعدم الثبات بشكل أكثر، وحتّى في بيان ثمار هذه الشجرة يقول تعالى: (يثبّت الله الذين آمنوا) وبهذا الترتيب تتّضح لنا أهميّة الثبات ودوره في حياة الإنسان.
فكثير من الأشخاص من ذوي القابليات المتوسطة، إلاّ أنّهم ينالون إنتصارات كبيرة في حياتهم، ثمّ إذا حقّقنا في الأمر لم نجد دليلا إلاّ الثبات والإستقامة لديهم.
ومن جهة إجتماعية لا يتحقّق أي تقدّم في البرامج إلاّ في ظلّ الثبات، ولهذا السبب نجد المخرّبين يسعون في تدمير الإستقامة، ولا نعرف المؤمنين الصادقين
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، صفحة 540 ـ 541.
2 ـ المصدر السابق.
إلاّ من خلال إستقامتهم وثباتهم في مقابل الحوادث الصعبة.
كما قلنا أعلاه فإنّ كلمة «الطيّبة» و «الخبيثة» التي شبّهت الشجرتان بها، لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ شخص وبرنامج ومبدأ وفكر وعلم وقول وعمل، ولكن وردت في بعض الرّوايات في موارد خاصّة ولكن لا تنحصر بها.
ومن جملتها ما ورد في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء) قال: «رسول الله أصلها وأمير المؤمنين فرعها، والأئمّة من ذرّيتهما أغصانها، وعلم الأئمّة ثمرها، وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟» (أي هل يبقى شيء) قال قلت: لا والله، قال: «والله إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، وإنّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها»(1).
وعنه أيضاً (عليه السلام) حينما سأله سائل عن معنى الآية (تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها) قال: «ذاك علم الأئمّة يأتيكم كلّ عام من كلّ المناطق»(2).
وفي رواية أُخرى: «الشجرة الطيّبة رسول الله وعلي وفاطمة وبنوها، والشجرة الخبيثة بنو اُميّة»(3).
وفي بعضها الآخر فسّرت الشجرة الطيّبة بالنخل والخبيثة بالحنظلة.
وعلى أيّة حال ليس هناك من تضادّ بين هذه التفاسير، بل بينها وبين ما قلناه أعلاه ترابط وتنسبق، لأنّها مصاديقها.
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج2، ص535.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعِلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
الخطاب في هذه الآيات موجّه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الحقيقة عرض لواحد من موارد «الشجرة الخبيثة».
يقول تعالى أوّلا: (ألم تر إلى الذين بدّلوا ...) إلى نهاية الآية. هؤلاء هم جذور الشّجرة الخبيثة وقادة الكفر والإنحراف، لديهم أفضل نعمة وهو رسول الله، وبإستطاعتهم أن يستفيدوا منه في الطريق إلى السعادة، إلاّ أنّ تعصّبهم الأعمى وعنادهم وحقدهم صارت سبباً في تركهم هذه النعمة الكبيرة، ولم يقتصروا على تركها فحسب. بل أضلّوا قومهم أيضاً ممّا جعلهم يسلكون هذا السلوك.
مع أنّ بعض المفسّرين الكبار عند متابعتهم للروايات الإسلامية فسّروا ـ
أحياناً ـ هذه النعمة بوجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحياناً أُخرى بالأئمّة (عليهم السلام)، وفسّروا الكافرين بهذه النعمة «بني اُميّة» و «بني المغيرة» مرّةً، ومرّةً أُخرى جميع الكفّار الذين عاصروا عهد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن من المسلّم به أنّ للآية مفهوماً أوسع من هذا، وليس مختّصاً بمجموعة معيّنة، بل تشمل جميع الأفراد الذين يكفرون بالنعم الإلهيّة.
وتثبّت الآية ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّ الإستفادة من وجود القادة العظام تعود لنفس الإنسان، كما أنّ الكفر بهذه النعمة العظيمة يؤدّي إلى الهلاك والبوار.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يُفسّر دار البوار بقوله تعالى: (جهنّم يصلونها وبئس القرار)(1).
ثمّ يشير في الآية الأُخرى إلى واحدة من أسوأ أنواع كفران النعم (وجعلوا لله أنداداً ليضلّوا عن سبيله) لكي يستفيدوا عدّة أيّام من حياتهم الماديّة ومن رئاستهم وحكومتهم في ظلّ الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحقّ.
أيّها النّبي (قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النار).
فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة، ومع ذلك فانّها تعدّ حياة لذيذة وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم، كما نقرأ في آية أُخرى (قل تمتّع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النار).(2)
* * *
1 ـ يقال في العبارات الدارجة: إنّ الشخص الفلاني كفر بنعمة الله، ولكن الآية أعلاه تقول: (الذين بدّلوا نعمت الله كفراً) إنّ هذا التعبير الخاص يدلّ على
1 ـ «يصلون» من «الصلي» بمعنى الإشتعال والإحتراق بالنار.
2 ـ الزمر، 8.
أحد أمرين:
ألف: المراد من تبديل «النعمة» إلى «كفران» هو عدم شكرهم لهذه النعم، فبدّلوا الشكر بالكفران (في الحقيقة كلمة الشكر مقدّرة، ففي التقدير: الذين بدّلوا شكر نعمة الله كفراً).
ب: ـ إنّ المقصود هو تبديلهم نفس «النعمة» «كفراً»، وفي الحقيقة فإنّ النعم الإلهيّة وسائل، وطريقة إستعمالها مرتبطة بإرادة الإنسان، فمثلما يمكن أن نستفيد منها في طريق السعادة والإيمان والعمل الصالح، يمكن أن نستعملها كذلك في مسير الكفر والظلم والفساد، فهي كالمواد الأوّلية التي يمكن بمساعدتها الحصول على أنواع مختلفة من الإنتاج، إلاّ أنّها خُلقت في الأصل للخير والسعادة.
2 ـ ليس «كفران النعم» عدم الشكر اللساني فقط، بل كلّ إستفادة غير صحيحة ومنحرفة للنعم، تلك هي حقيقة الكفران، وأمّا عدم الشكر باللسان ففي الدرجة الثانية، وكما قلنا سابقاً فإنّ شكر النعمة تعني صرفها في الهدف الذي خُلِقَت من أجله، والشكر عليها باللسان يأتي في الدرجة الثانية، فإذا قلنا آلاف المرّات: الحمد لله، ولكنّنا أسأنا عمليّاً الإستفادة من النعم، فذلك كفران للنعم.
وفي عصرنا الحاضر أفضل نموذج لتبديل النعم بالكفران هو إستخدام الإنسان لمواهب الطبيعة بفكره ومهارته التي منحها الله للإنسان لخدمة منافعه الخاصّة. فالإكتشافات العلميّة والخبرات الصناعية غيّرت وجه العالم ورفعت عن كاهل الإنسان عبئاً ثقيلا ووضعته على عجلات المعامل. فالمواهب والنعم الإلهيّة أكثر من أي زمن آخر، ووسائل نشر المعارف وإنتشار العلوم ومعرفة جميع أخبار العالم متوفّرة في أيدي الجميع، فيجب على الناس في هذا العصر أن يكونوا سعداء من الناحية الماديّة والمعنوية.
ولكن بسبب تبديل النعم الإلهيّة الكبيرة إلى كفران، وصرف القوى الطبيعيّة
في طريق الظلم والطغيان وإستخدام الإختراعات والإكتشافات في طريق الأهداف المخربة بحيث أنّ كلّ تطور صناعي يستخدم أوّلا في عمليات التدمير. وخلاصة القول: إنّ عدم الشكر هذا والذي هو بعيد عن التعاليم الصالحة للأنبياء أدّى إلى أن يجرّوا قومهم ومجتمعهم إلى دار البوار.
ودار البوار هذه هي مجموعة من الحروب الإقليميّة والعالميّة بكلّ آثارها التخريبيّة، وكذلك عدم الأمن والظلم والفساد والإستعمار حيث يبتلي بها في النهاية المؤسّسون لها أيضاً، كما رأينا في السابق ونراه اليوم.
وما ألطف تصوير القرآن حيث جعل مصير كلّ الأقوام والاُمم التي كفرت بأنعم الله إلى دار البوار.
3 ـ «أنداد» جمع «ندّ» بمعنى «المثل» ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي في تاج العروس قالا: إنّ «الندّ» يقال للشيء الذي يشابه الشيء الآخر جوهرياً، و «المثل» يطلق على كلّ شيء شبيه لشيء، ولذلك فالندّ له معنى أعمق وأدقّ من المثل.
وطبقاً لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه أنّ أئمّة الكفر كانوا يسعون لأن يجعلوا لله شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم بالله عزّوجلّ، لكي يضلّوا الناس عن عبادة الله ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.
فتارةً يقرّبون لهؤلاء الشركاء القرابين، وأُخرى يجعلون قسماً من النعم الإلهيّة (كبعض الأنعام) مخصوصة للأصنام، ويعتقدون أحياناً بعبادتها. وأوقح من ذلك كلّه كانوا يقولون أثناء حجّهم في عصر الجاهلية: (لبّيك لا شريك لك ـ إلاّ شريك هو لك ـ تملكه وما ملك)(1).
* * *
1 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآية أعلاه.
قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرَّاً وَعَلاَنِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَلٌ (31) اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَْنْهَرَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)وَءَاتَيكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلُْتمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (31)
تعقيباً للآيات السابقة في الحديث عن برنامج المشركين والذين كفروا بأنعم الله وكون مصيرهم إلى دار البوار، تتحدّث هذه الآيات عن برنامج عباد الله المخلصين والنعم النازلة عليهم، يقول تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا
الصلاة وينفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية) قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه الإنسان من التخلّص من العذاب بشراء السعادة والنعيم الخالد، ولا تنفع الصداقة حينئذ (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال).
ثمّ تتطرّق الآية إلى معرفة الله عن طريق نعمه، معرفة تؤدّي إلى إحياء ذكره في القلوب، وتحثّ الإنسان على تعظيمه في مقابل لطفه وقدرته، لأنّ من الأُمور الفطرية أن يشعر الإنسان في قلبه بالحبّ والودّ لمن أعانه وأحسن إليه.
ويبيّن هذا الموضوع من خلال عدّة آيات (الله الذي خلق السّماوات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم).
ثمّ أنّه (وسخّر لكم الفلك) سواء من جهة موادّها الأوّلية المتوفّرة في الطبيعة، أو من جهة القوّة المحرّكة لها وهي الرياح التي تهب على البحار والمحيطات بصورة منتظمة لتسيير هذه السفن فتنقل الإنسان وما يحتاج إليه من منطقة إلى أُخرى بيسر وسهولة: (لتجري في البحر بأمره).
(وسخّر لكم الأنهار) كي تسقوا من مائها زروعكم، وتشربوا أنتم وأنعامكم، وفي كثير من الأحيان تكون طريقاً للسفن والقوارب، وتستفيدون منها في صيد الأسماك.
وليست موجودات الأرض ـ فقط ـ مسخّرةً لكم، بل (وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين)(1).
وليست مخلوقات العالم بذاتها فقط، بل حتّى الحالات العرضية لها هي في خدمتكم: (وسخّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كلّ ما سألتموه) من إحتياجاتكم البدنيّة والإجتماعية وجميع وسائل السعادة والرفاه (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) لأنّ النعم المادية والمعنوية للخالق شملت جميع وجودكم
1 ـ «دائبين» من مادّة «الدؤوب» بمعنى إدامة العمل طبقاً للسنّة الثابتة، وبما أنّ الشمس والقمر مستمرّان بشكل ثابت من ملايين السنين، وما لها من فوائد عظيمة للكائنات، لا نجد هناك عبارة لهما أفضل من دائبين.
وهي غير قابلة للإحصاء، وعلاوةً على ذلك فإنّ ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما تجهلونه كقطرة في مقابل البحر.
وعلى الرغم من كلّ هذه الألطاف والنعم فـ(إنّ الإنسان لظلوم كفّار).
فلو كان الإنسان يستفيد من هذه النعم بشكلها الصحيح لأستطاع أن يجعل الدنيا حديقة غنّاء ولنفّذ مشروع المدينة الفاضلة، ولكن بسبب عدم الإستفادة الصحيحة لها أصبحت حياته مظلمة، وأهدافه غير سامية، فتراكمت عليه المشاكل والصعاب وقيّدته بالسلاسل والأغلال.
* * *
نواجه في هذه الآيات مرّةً أُخرى وفي تنظيم برنامج المؤمنين الصادقين مسألة «الصلاة» و «الإنفاق»، وفي البداية قد يطرح هذا السؤال، وهو: كيف أشار القرآن الكريم لهاتين المسألتين من بين جميع البرامج العمليّة للإسلام؟ العلّة في ذلك أنّ للإسلام أبعاد مختلفة يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط: علاقة الإنسان بربّه، وعلاقته بخلق الله، وعلاقته بنفسه، وهذا القسم الأخير في الحقيقة نتيجة للقسم الأوّل والثاني، فالصلاة والإنفاق كلّ واحدة منهما رمز للعلاقة الأُولى والثانية.
والصلاة مظهر لصلة الإنسان بربّه وهذه الصلة تظهر في الصلاة بشكل أوضح من أي عمل آخر، والإنفاق رمز للصلة بين المخلوقين، فالرزق في مفهومه الواسع يشمل كلّ نعمة مادية ومعنوية.
وبالنظر إلى أنّ هذه السورة مكّية، وأثناء نزولها لم يكن حكم الزكاة نازلا بعد، لا نستطيع القول: إنّ هذا الإنفاق مرتبط بالزكاة، بل له معنىً واسع بحيث
يشمل حتّى الزكاة بعد نزولها.
وعلى أيّة حال إذا تأصّل الإيمان فسوف يتجلّى بالعمل فيقرب الإنسان إلى ربّه من جانب، إلى عباده من جانب آخر.
نقرأ مراراً في آيات القرآن أنّ المؤمنين ينفقون أو يتصدّقون في السرّ والعلانية، وبهذا الترتيب فإنّه تعالى مع ذكره للإنفاق يذكر كيفيّة الإنفاق، لأنّه يكون مرّةً في السرّ أكثر تأثيراً وكرامة، ويكون مرّةً أُخرى في الجهر سبباً في تشجيع الآخرين وإقتدائهم في إقامة الشعائر الدينيّة.
ولو قامت حرب بين دولة إسلامية وأُخرى كافرة لرأينا الناس المؤمنين يحملون كلّ يوم مقادير كبيرة من التبرعات إلى المناطق المنكوبة لمساعدة المتضرّرين بالحرب، أو الجرحى والمعوّقين أو المقاتلين، ومن المعلوم أنّ نشر أخبار هذه التبرّعات مفيد جدّاً ولتكون دليلا على مواساتهم، ودعمهم لمقاتليهم، وإحياءاً لروح الإنسانيّة في عامّة الناس، وتشجيعاً للذين تخلّفوا عن هذه القافلة لكي يوصلوا أنفسهم بها، ومن البديهي أنّ الإنفاق هنا في العلانية أكثر تأثيراً.
ويقول بعض المفسّرين: إنّ الفرق بين الإنفاقين هو أنّ الإنفاق العلني مرتبط بالواجبات، فلا يخشى عليه من الرياء، لأنّ العمل بالواجبات لازم للجميع ولا داعي لإخفائه، وأمّا الإنفاق المستحبّ ـ ولأنّه زائد عن الوظيفة الواجبة ـ فمن الممكن أن تتخلّله حالة من التظاهر والرياء ولذلك كان إخفاؤه أفضل.
ولكن الظاهر أنّ هذا التّفسير ليس أصلا كلّياً على حدة. بل هو فرع من التّفسير الأوّل.
من المعلوم أنّ يوم القيامة هو يوم إستلام النتائج ومتابعة جزاء الأعمال، وبهذا الترتيب لا يستطيع أحد هناك أن ينجو من العذاب بفدية، حتّى لو إفترضنا أنّه ينفق جميع ما في الأرض فإنّه لا يمكن أن يمحو ذرّةً من جزاء أعماله، لأنّ صحيفته في «دار العمل» أي الدنيا مليئة بالأخطاء والذنوب وهناك «دار الحساب».
وكذلك لا تستطيع العلاقة المادية للصداقة مع أي شخص كان أن تنجيه من العذاب، وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان غالباً ما يلجأ إلى المال أو الواسطة (الرشوة، العلاقات) في نجاته من المصاعب في هذه الدنيا، فإذا كان تصوّرهم أنّ الآخرة كذلك فهذا دليل وهمّهم وجهلهم.
ومن هنا يتّضح أنّ نفي وجود الخلّة والصداقة في هذه الآية لا يتنافى مع صداقة المؤمنين بعضهم لبعض في الآخرة والتي أشارت إليها بعض الآيات، لأنّها صداقة مودّة معنوية في ظلّ الإيمان.
وأمّا مسألة «الشفاعة» فقد قلنا كراراً انّها تخلو من أي مفهوم مادّي، بل بالنظر إلى ما صرّحت به بعض الآيات فإنّها في ظلّ العلاقات المعنوية وصلاحية البعض بسبب أعمال الخير (وقد شرحنا هذا الموضوع في ذيل الآية 254 من سورة البقرة).
نواجه في هذه الآيات مرّةً أُخرى تسخير مختلف الموجودات في الأرض والسّماء للإنسان، وقد قسمت إلى ستّة أقسام: تسخير الفلك، والأنهار، والشمس، والقمر، والليل، والنهار. ونرى أنّ قسماً من هذه المسخّرات من السّماء، وقسماً آخر من الأرض، وقسماً ثالثاً من الظواهر بين الإثنين (الليل
والنهار).
وقلنا سابقاً، ونكرّر هنا للتذكرة: إنّ الإنسان من وجهة نظر القرآن له من العظمة بحيث سخّر الله له جميع ما في الوجود، إِمّا أن يكون زمام اُمورها بيده أو تتحرّك ضمن منافعه، وعلى أيّة حال فهذه العظمة جعلته من أشرف الموجودات.
«فالشمس»: تسطع له بالنّور، وتعطيه الحرارة، وتساعد على نمو النباتات له، وتطهّر محيطه من الأمراض، وتخلق له البهجة والسرور، وتعلّمه الحياة.
وأمّا «القمر»: فمصباح في ليله المظلم، ومفكرة طبيعيّة دائمة، ومن آثاره تتكوّن ظاهرة الجزر والمدّ لتحلّ كثيراً من مشاكله، فتسقي الأشجار (بسبب إرتفاع منسوب المياه في الأنهار المجاورة للبحار) وتتحرّك مياه البحار الراكدة كي لا تتعفّن، وليدخل الأوكسجين فيها بسبب الأمواج ليكون تحت تصرّف الكائنات الحيّة.
«الرياح»: تؤدّي إلى حركة السفن في المحيطات حيث تشكّل أكبر واسطة نقل وفي أوسع طريق للإنسان، بحيث تستطيع ـ أحياناً ـ أن تدفع سفينة بحجم مدينة صغيرة بكامل أفرادها وتنقلها في المحيطات.
«الأنهار»: تجري في خدمة الإنسان، تسقي زرعه، وتروي مواشيه، وتجعل محيطة ذا طراوة، وتربّي له الأسماك لتغذيته.
«ظلام الليل»: حيث هو سكن للإنسان، ويمنحه الطمأنينة والراحة، ويخفّف من حرارة الجو الملتهبة في النهار.
وأخيراً «ضياء النهار»: يدعوه إلى الحركة والسعي، ويخلق له الدفء والحرارة.
والخلاصة: إنّ كلّ ما على الأرض وحولها لنفع الإنسان، وبيان هذه النعم وشرحها يمنح الإنسان شخصية جديدة، وتفهمه عظمة مقامه وتبعث فيه الإحساس بالشكر أكثر.
ونستفيد أيضاً من هذا البيان أنّ للتسخير في لغة القرآن معنيان:
الأوّل: التسخير لخدمة الإنسان وتحقيق منافعه ومصالحه (كتسخير الشمس والقمر).
والثّاني: التسخير الذي يكون زمام اُموره بيد الإنسان (كتسخير الفلك والبحار).
وأمّا ما اعتقده البعض من أنّ هذه الآيات إشارة إلى تسخير الإنسان للقمر وغيره في عصرنا الحاضر فإنّنا لا نراه صحيحاً، لأنّ هناك بعض الآيات تقول: (وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعاً منه)(1)، فلا يستطيع الإنسان أن يصل إلى جميع الكرات السّماوية بتاتاً.
نعم هناك بعض الآيات قد تشير إلى هذا النوع من التسخير، وسوف نبحث هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الرحمن (وسبق لنا بحث في تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد).
قلنا أنّ «دائب» من مادّة «الدؤوب» بمعنى إستمرار العمل طبقاً للعادة والسنّة، فالشمس لا تدور حول الأرض، بل الأرض تدور حول الشمس، ونحن نظنّ أنّ الشمس تدور حولنا، وهذه الحركة ليست المقصودة في معنى «دائب» بل الإستمرار في إنجاز العمل يدخل في مفهوم الدؤوب، ونحن نعلم أنّ الشمس والقمر لهما برنامج في إنبعاث النّور وما يتبعه من توقّف الحياة على الأرض عليه بشكل مستمر وفي غاية من الدقّة (وهناك حركات أُخرى للشمس كما يقوله العلماء، منها الحركة حول نفسها، وحركتها مع المجموعة الشمسية).
1 ـ الجاثية، 13.
قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله عزّوجلّ لطف بكم وأعطاكم من كلّ ما سألتموه («من» في الآية تبعيضيّة) وذلك بسبب أنّ كثيراً ممّا يطلبه الإنسان من ربّه قد يعود عليه بالضرر والهلاك، ولكنّ الله حكيم وعالم ورحيم فلا يستجيب لمثل هذه الطلبات، وفي المقابل نرى في أكثر الأحيان أنّ الإنسان لا يطلب شيئاً بلسانه، ولكن يتمنّاه بفطرته ووجدانه فيستجيب الله له، وليس هناك مانع من أن يكون السؤال في جملة (ما سألتموه) شاملا للسؤال باللسان والسؤال بالفطرة والوجدان.
نعم الله ـ في الحقيقة ـ تعمّ كلّ وجودنا، وإذا ما طالعنا الكتب المختلفة في العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة والنفسيّة وأمثالها فسوف نرى إلى أي مدى تتّسع أطراف هذه النعم، وفي الحقيقة إنّ لكلّ نَفَس يتنفّسه الإنسان نعمتان، ولكلّ نعمة شكر واجب.
وأكثر من ذلك فنحن نعلم بأنّ متوسّط عدد الخلايا الحيّة في جسم الإنسان نحو العشرة ملايين ميليارد، وكلّ مجموعة تشكّل قسماً فعّالا في الجسم، وهذا العدد كبير جدّاً بحيث لو أردنا إحصاءه نحتاج إلى مئات السنين!
فهذا قسم من نعمه علينا، ولذلك ـ حقّاً ـ لا نستطيع عدّ نعمه، (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها).
ويوجد في دم الإنسان مجموعتان من الكريّات (وهي خلايا صغيرة سابحة في الدم ولها وظائف حياتية مهمّة) ملايين من «الكريّات الحمراء» وظيفتها إيصال الأوكسجين لأجل الإحتراق وصنع خلايا الجسم، وملايين من «الكريات البيض» وظيفتها حفظ سلامة الإنسان مقابل هجوم المكروبات، والعجيب أنّ
هذه الكريات في حالة حركة مستمرة لخدمة الإنسان.
فهل نستطيع في هذه الأحوال أن نحصي نعمه تعالى غير المتناهية؟!
توصّلنا في البحوث السابقة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سخّر للإنسان جميع الموجودات، وهيّأ له كلّ هذه النعم بحيث سدّ جميع إحتياجاته، ولكن الإنسان بسبب إبتعاده عن نور الإيمان والتربية، نراه يخطو في طريق الظلم والطغيان ويكفرُ بالنعم.
![]() |
![]() |
![]() |