![]() |
![]() |
![]() |
عادةً حتّى يكون دخوله إلى المجلس مفاجأة للجميع.
نساء مصر ـ وطبقاً لبعض الرّوايات التي تقول: كنّ عشراً .. أو أكثر ـ فوجئن بظهور يوسف كأنّه البدر أو الشمس الطالعة، فتحيّرن من جماله (فلمّا رأينه أكبرنه) وفقدن أنفسهنّ (وقطّعن أيديهن) مكان الفاكهة، وحين وجدن الحياء والعفّة تشرقان من عينيه وقد احمّر وجهه خجلا صحن جميعاً و (قلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلاّ ملك كريم)(1).
وهناك أقوال بين المفسّرين في أنّ النسوة إلى أي حدّ قطّعن أيديهن؟ فمنهم من بالغ في الأمر، ولكن كما يستفاد من القرآن على نحو الإجمال أنّهن جرحن أيديهنّ.
وفي هذه الحال التي كانت الدماء تسيل من أيدي النسوة وقد لاحظن ملامح يوسف كلّها وصرن أمامه «كالخُشُبِ المسنَّدة» كشفن عن أنّهن لسن بأقل من امرأة العزيز عشقاً ليوسف، فاستغلّت امرأة العزيز هذه الفرصة فـ(قالت فذالكن الذي لمتنّني فيه).
فكأنّ امرأة العزيز أرادت أن تقول لهنّ: لقد رأيتن يوسف مرّة واحدة فحدث لكنّ ما حدث وفقدتُنّ صوابكن وقطعتن أيديكن من جماله وعشقه، فكيف اُلام وأنا أراه وأسكن معه ليل نهار؟!
وهكذا أحسّت امرأة العزيز بالغرور لأنّها وُفّقت في ما ألقته من فكرة وأعطت لنفسها العذر، وإعترفت بكلّ صراحة بكلّ ما فعلت وقالت: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم).
وبدلا من أن تظهر الندم على كلامها أو تتحفّظ على الأقل أمام ضيوفها، أردفت القول بكلّ جدّ يحكي عن إرادتها القطعيّة: (ولئن لم يفعل ما آمره
1 ـ «حاش لله» من مادّة «حشى» معناها الطرف أو الناحية .. والتحاشي الإبتعاد ومفهوم جملة «حاش لله» أي إنّ الله منزّه، وهي إشارة إلى أنّ يوسف عبد منزّه وطاهر.
ليسجننّ) ... ولا أكتفي بسجنه، بل (وليكوناً من الصاغرين).
ومن الطبيعي أنّه إذا اكتفى عزيز مصر إزاء خيانة امرأته بالقول: (استغفري لذنبك) فينبغي أن تجرّ امرأته الفضيحة إلى هذه المرحلة .. وأساساً فإنّ مثل هذه الأُمور والمسائل في قصور الفراعنة والملوك ليست اُموراً مهمّة.
ينقل البعض روايات عجيبة مؤدّاها أنّ بعضاً من نسوة مصر أعطين الحقّ لامرأة العزيز ودرن حول يوسف ليرغبّنه بأن يستسلم لحبّها وكلّ واحدة تكلّمت بكلام!
فقالت واحدة: أيّها الشاب ما هذا الصبر والدلال، ولِمَ لا ترحم هذه العاشقة الواهبة قلبها لك، ألا ترى هذا الجمال الآسر؟ أليس عندك قلب؟! ألست شابّاً؟ ألا تستلذّ بالعشق والجمال، فهل أنت حجارة أو خشب؟!
وقالت الثّانية: إذا كنت لا تعرف عن الجمال والعشق شيئاً .. لكن ألا تدري أنّ امرأة العزيز ذات نفوذ وقدرة .. ألا تفكّر أن لو ملكت قلبها فستنال كلّ شيء وتبلغ أيّ مقام شئت ...
وقالت الثّالثة: إذا كنت لا ترغب في جمالها المثير ولا تحتاج إلى مقامها ومالها، ولكن ألا تعرف أنّها ستنتقم لنفسها بما اُوتيت من وسائل الإنتقام الخطرة، ألا تخاف من السجن ووحشته ومن الغربة المضاعفة فيه؟!
تهديد امرأة العزيز من جانبها بالسجن والإذلال من جهة، ووساوس النسوة الملوّثات اللائي خطّطن ليوسف كما يخطّط الدلاّل من جهة أُخرى، أوقعا يوسف في أزمة شديدة، وأحاط به طوفان المشاكل، ولكن حيث أنّ يوسف كان قد صنع نفسه، وقد أوجد نور الإيمان والعفّة والتقوى في قلبه هدوءاً وسكينة خاصّة، فقد صمّم بعزم وشجاعة والتفت نحو السّماء ليناجي ربّه وهو في هذه الشدّة (قال ربّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه).
وحيث كان يدري أن لا مهرب له إلاّ إلى الله في جميع الأحوال ولا سيما في
الساعات الحرجة، فقد أودع نفسه عند الله بهذا الكلام (وإلاّ تصرّف عنّي كيدهن أصبُ إليهنّ وأكن من الجاهلين).
ربّاه ... إنّني أتقبّل السجن الموحش رعاية لأمرك وحفظاً لطهارة نفسي ... هذا السجن تتحرّر فيه روحي وتطهّر نفسي، وأنا أرفض هذه الحريّة الظاهرية التي تأسر روحي في سجن «الشهوة» وتلوّث نفسي.
ربّاه .. أعِنّي، وهب لي القوّة، وزدني قدرةً وعقلا وإيماناً وتقوى، حتّى أنتصر على هذه الوساوس!
وحيث أنّ وعد الله حقّ، وأنّه يُعين المجاهد (لنفسه أو لعدوّه) فإنّه لم يترك يوسف سُدىً وتلقفته رحمته ولطفه كما يقول القرآن الكريم: (فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنّه هو السميع العليم).
فهو يسمع نجوى عبيده، وهو مطلع على أسرارهم، ويعرف طريق الحلّ لهم.
* * *
1 ـ كما رأينا من قبلُ فإنّ امرأة العزيز ونسوة مصر، استفدن من اُمور مختلفة في سبيل الوصول إلى مرادهن، فمرّة بإظهار العشق والعلاقة الشديدة والتسليم المحض، ومرّة بالترغيب والطمع، ثمّ بالتهديد، أو بتعبير آخر: توسلن بالشهوة والمال والقوّة!!
وهذه اُصول متّحدة المآل يتوسّل بها الطغاة والمتجبرون في كلّ عصر وزمان، حتّى لقد رأينا كراراً ومراراً أنّهم ومن أجل أن يجبروا رجال الحقّ على الإستسلام، يظهرون لهم في مجلس واحد ليناً للغاية ويلوّحون بالمساعدات وأنواع الإمداد ترغيباً، ثمّ يتوسلون في نهاية المجلس بالتهديد والوعيد، ولا يلتفتون إلى ما في هذا من التناقض في مجلس واحد وما فيه من دناءة وخسّة
ولؤم فاضح.
والسبب واضح .. فهم يريدون الهدف ولا تهمّهم الوسيلة، وبتعبير آخر: يستسيغون للوصول إلى أهدافهم أي اُسلوب وأيّة وسيلة كانت.
وفي هذا المحيط يستسلم الأفراد الضعاف، سواء في أوّل المرحلة أو وسطها أو نهايتها، إلاّ أنّ أولياء الحقّ لا يكترثون بهذه الأساليب بما لديهم من شهامة وشجاعة ونور الإيمان ويرفضون التسليم بضرس قاطع حتّى ولو أدّى ذلك إلى الموت .. وعاقبتهم الإنتصار طبعاً، إنتصار أنفسهم وإنتصار مبادئهم، أو على الأقل إنتصار مبادئهم.
2 ـ كثيرون هم مثل نسوة مصر، فطالما هم جالسون حول الحمى يظهرون أنفسهم منزّهين وأتقياء ويلبسون ثياب العفّة ويعدّون الإنحراف ـ كما هو في امرأة العزيز ـ في ضلال مبين.
ولكن حين يتعرّضون لأدنى صدمة ينكشف أنّ أقوالهم لا تصدّق أفعالهم .. فإذا كانت امرأة العزيز بعد سنين من معاشرة يوسف قد وقعت في شرك حبّه وعشقه، فإنّهم في أوّل مجلس يبتلون بمثل هذا المصير ويقطّعون «الأيدي» مكان «الأترنج».
3 ـ هنا قد يرد سؤال وهو: لِمَ وافق يوسف على طلب امرأة العزيز وخرج على النسوة في المجلس؟ المجلس الذي ترتّب من أجل الإثم، أو لتبرئة امرأة آثمة؟!
ولكن مع ملاحظة أنّ يوسف كان بحسب الظاهر غلاماً مشترى وعليه أن يخدم في القصر، فلعلّ امرأة العزيز إستغلّت هذه الفرصة والحيلة ليأتي بالطعام مثلا دون أن يعرف بهذه الخطّة ومكر النسوة.
وخاصّة أنّنا قلنا أنّ تعبير القرآن (أخرج عليهن) كما يظهر منه أنّه لم يكن خارجاً، بل كان في إحدى الغرف المجاورة للمجلس كالمطبخ مثلا.
4 ـ جملة (يدعونني إليه) وجملة (تصرف عنّي كيدهن) تدلاّن جيّداً على أنّ نسوة مصر ـ ذوات الهوى ـ بعد ما جرى لهنّ من تقطيع الأيدي والإنبهار بجمال يوسف، وردن هذا الميدان أيضاً وطلبن من يوسف أن يستسلم لهنّ أو لامرأة العزيز، ولكن يوسف أبى عليهنّ جميعاً، وهذا يعني أنّ امرأة العزيز لم تكن وحدها في الجريمة بل كان لها شريكات في ذلك.
5 ـ حين يقع الإنسان أسيراً بقبضة الشدائد والحوادث وتجرّه إلى شفى الهاوية، فعليه أن يتوكّل على الله ويلتجىء إليه ويستمدّ منه فقط، فإذا لم يحظ بلطفه وعونه فإنّه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل، وهذا درس علّمنا إيّاه يوسف العظيم الطاهر الذيل، فهو القائل: (وإلاّ تصرف عنّي كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) فأنت ياربّ الحافظ لي، ولا أعتمد على قواي وقدرتي وتقواي.
هذه الحالة «التعلّق المطلق بلطف الله» بالإضافة إلى أنّها تمنح عبادة الله قدرة وإستقامة غير محدودة، فهي تشملهم بألطافه الخفيّة .. تلك الألطاف التي لا يمكن وصفها والتصديق بها إلاّ عند رؤيتها ومشاهدتها.
فهؤلاء هم الذين يسكنون في ظلّ الله ورحمته في الدنيا والآخرة ... فقد ورد حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن يقول: «سبعة يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّوجلّ، ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه، ورجلان كانا على طاعة الله عزّوجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عزّوجلّ خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تصدّق بيمينه»(1).
* * *
1 ـ سفينة البحار، ج1، ص595، مادّة «ظلّ».
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَْيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين (35)وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَنِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَْخَرُ إِنِّى أَرَنِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مَمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَىْء ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
إنتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك
الغوغاء والهياج، ولكنّ خبره ـ بالطبع ـ وصلَ إلى سمع العزيز .. ومن مجموع هذه المجريات إتّضح أنّ يوسف لم يكن شابّاً عادّياً، بل كان طاهراً لدرجة لا يمكن لأي قوّة أن تجرّه إلى الإنحراف والتلوّث، واتّضحت علامات هذه الظاهرة من جهات مختلفة، فتمزّق قميصه من دُبر، ومقاومته أمام وساوس نسوة مصر، وإستعداده لدخول السجن وعدم الإستسلام لتهديدات امرأة العزيز بالسجن والعذاب الأليم، كلّ هذه الأُمور أدلّة على طهارته لا يمكن لأحد أن يسدل عليها الستار أو ينكرها!.
ولازم هذه الأدلّة إثبات عدم طهارة امرأة العزيز وإنكشاف جريمتها، وعلى أثر ثبوت هذه الجريمة فإنّ الخوف من فضيحة جنسية في اُسرة العزيز كان يزداد يوماً بعد يوم.
فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن الأنظار لينسى الناس إسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن المظلم أوّلا، وليشيع بين الناس أنّ المذنب الأصلي هو يوسف ثانياً، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتّى حين).
التعبير بكلمة «بدا» التي معناها ظهور الرأي الجديد، يدلّ على أنّ مثل هذا التصميم في حقّ يوسف لم يكن من قبل. ويحتمل أن تكون هذه الفكرة إقترحتها امرأة العزيز الأوّل مرّة .. وبهذا دخل يوسف النزيه ـ بسبب طهارة ثوبه ـ السجن، وليست هذه أوّل مرّة ولا آخرها أن يدخل الإنسان النزيه «بجريرة نزاهته» السجن!!
أجل .. في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين الذين يسيرون مع التيار وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب، .. بل أنّ الأفراد النجباء كيوسف الذي لا يتلاءم مع ذلك المحيط ولونه ويتحرّك على خلاف مجرى الماء! ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان .. ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه
الحالة؟.. قطعاً لا ..
ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان (ودخل معه السجن فتيان).
وحيث أنّ من الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار بطريق عادي، فإنّه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث ويتوقّع ما سيكون، حتّى أنّ الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلباً مهمّاً.
من هذا المنطلق جاء ليوسف يوماً هذان الفتيان اللذان يقال: إنّ أحدهما كان ساقياً في بيت الملك، والآخر كان مأموراً للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية الأعداء وسعايتهم بهما دخلا السجن بتهمة التصميم لسمّ الملك، وتحدّث كلّ منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمراً عجيباً.
(قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) ثمّ أضافا (نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين).
وحول معرفة الفتيين وإطلاعهما على أنّ يوسف له خبرة بتأويل الأحلام هناك أقوال بين المفسّرين:
قال بعضهم: إنّ يوسف نفسه أخبر السجناء بأنّ له إطلاعاً واسعاً في تفسير الأحلام، وقال بعضهم: إنّ سيماء يوسف الملكوتية كانت تدلّ على أنّه ليس فرداً عادياً .. بل هو فرد عارف مطّلع وصاحب فكر ونظر، ولابدّ أن يكون مثل هذا الشخص قادراً على حلّ مشاكلهم في تعبير الرؤيا.
وقال البعض الآخر: إنّ يوسف من بداية دخول السجن برهن ـ بأخلاقه الحسنة والمعاشرة الطيّبة للسجناء وخدمتهم وعيادة مرضاهم ـ أنّه رجل صالح وحلاّل المشاكل، لذلك كانوا يلتجئون إليه في حلّ مشاكلهم ويستعينون به.
وهناك ملاحظة جدير ذكرها، وهي أنّ القرآن عبّر بـ«الفتى» مكان «العبد» وهو نوع من الإحترام، وعندنا في الحديث «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن
فتاي وفتاتي»(1) ليكون العبيد في مراحل الإنعتاق والحريّة التي نظّمها الإسلام في مأمن من كلّ أنواع التحقير.
التعبير بـ(إنّي أراني أعصر خمراً) إِمّا لأنّه رأى في النوم أنّه يعصر العنب للشراب أو العنب المخمّر الذي في الدنّ، وهو يعصره ليصفّيه مستخرجاً منه الشراب، أو أنّه يعصر العنب ليقدّم عصيره للملك!.. دون أن يكون خمراً، وحيث أنّ العنب يمكن أن يتبدّل خمراً أطلق عليه لفظ الخمر.
والتعبير بـ(إنّي أراني) بدلا من «إنّي رأيت» هو بعنوان حكاية الحال، أي إنّه يفرض نفسه في اللحظة التي يرى فيها الرؤيا «النوم» وهذا الكلام لتصوير تلك الحالة.
وعلى كلّ حال فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا ـ وكان لا يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم ـ وبحجّة التعبير كان يبيّن حقائق مهمّة تفتح لهم السُبُل ولجميع الناس أيضاً.
في البداية، ومن أجل أن يستلفت إهتمامهما وإعتمادهما على معرفته بتأويل الأحلام الذي كان مثار إهتمامهما وتوجّههما (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاّ نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
وبهذا فقد طمأنهما أنّهما سيجدان ضالّتهما قبل وصول الطعام إليهما.
وهناك إحتمالات كثيرة في هذه الجملة بين المفسّرين، من جملتها: إنّ يوسف قال: أنا بأمر الله مطّلع على بعض الأسرار، لا انّي أستطيع تعبير الأحلام فحسب، بل أنا أستطيع حتّى إخباركم بما سيأتيكم من الطعام وما نوعه وبأي صورة وأي خصوصية!.
فعلى هذا يكون التأويل بمعنى ذكر خصوصيات ذلك الطعام، وإن كان التأويل قليل الإستعمال في مثل هذا المعنى طبعاً، ولا سيّما أنّه ورد في الجملة
1 ـ مجمع البيان، ج5، ص232.
السابقة بمعنى تعبير الرؤيا.
والإحتمال الآخر من مقصود يوسف هو: إنّ أي نوع من الطعام ترونه في النوم فأنا أعرف ما تأويله (ولكن هذا الإحتمال لا ينسجم مع الجملة السابقة) (قبل أن يأتيكما).
فعلى هذا يكون أحسن التفاسير للجملة المتقدّمة، هو التّفسير الأوّل الذي ذكرناه في بداية الحديث.
ثمّ إنّ يوسف أضاف إلى كلامه مقروناً بالإيمان بالله والتوحيد الجاري بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبيّن بوضوح أن لا شيء يتحقّق إلاّ بإرادة الله قائلا: (ذلكما ممّا علّمني ربّي) ولئلاّ يتصوّر أنّ الله يمنح مثل هذه الأُمور دون حساب، قال (إنّي تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون).
والمقصود بهذه الملّة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام من كنعان.
وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنّها على خلاف الفطرة الإنسانية النقيّة، ثمّ إنّي تربّيت في اُسرة الوحي والنبوّة (واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب).
ولعلّ هذه هي أوّل مرّة يعرّف يوسف نفسه للسجناء بهذا التعريف، ليعلموا أنّه سليل الوحي والنبوّة وقد دخل السجن بريئاً .. كبقيّة السجناء الأبرياء في حكومة الطواغيت.
ثمّ يضيف على نحو التأكيد (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) لأنّ اُسرتنا اُسرة التوحيد ... اُسرة إبراهيم محطّم الأصنام (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس).
وعلى هذا فلا تتصوّروا أنّ هذا الفضل والحبّ شملا اُسرتنا أهل النبوّة فحسب ـ بل هي الموهبة العامّة التي تشمل جميع عباد الله المودعة في أرواحهم
المسمّاة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
جدير بالذكر والإلتفات أنّ «إسحاق» عُدّ في الآية المتقدّمة في زمرة «آباء يوسف» في حين أنّنا نعرف أنّ يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو إبن إسحاق، فتكون كلمة أب بهذا مستعملة في الجدّ أيضاً.
* * *
يَصَحِبَىَ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَن إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(40) يَصَحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الأَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاَْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَهُ الشَّيْطَنُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42)
حين هيّأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد،
توجّه إليهما وقال: (ياصاحبي السجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار).
فكأنّ يوسف يريد أن يفهم السجينين أنّه لِمَ تريانِ الحرية في النوم ولا تريانها في اليقظة؟! أليس ذلك من تفرقتكم وشرككم ونفاقكم الذي مصدره عبادة الأوثان والأرباب المتفرّقين ممّا سبّب أن يتغلّب عليكم الطغاة والجبابرة؟! فلِمَ لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهّار، لتطردوا من مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون ذنب؟!
ثمّ يضيف قائلا: (ما تعبدون إلاّ أسماء سميّتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) بل هي صنع عقولكم العاجزة وأفكاركم المنحرفة .. (إنّ الحكم إلاّ لله) فلا ينبغي أن تطأطئوا رؤوسكم لسواه من الطغاة والفراعنة، ثمّ أضاف زيادة في التأكيد قائلا: (أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدين القيّم).
أي إنّ التوحيد في جميع أبعاده ـ في العبادة، في الحكومة، في المجتمع، في المسائل الثقافية، وفي كلّ شيء ـ هو الدين الإلهي المستقيم والثابت. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولذلك خضعوا لحكومة غير (الله) فذاقوا الشقاء والسجون في هذا السبيل.
وبعد أن أرشد يوسف صاحبي سجنه ودلّهما ودعاهما إلى حقيقة التوحيد، بدأ بتعبير الرؤيا لهما .. لأنّهما من البداية جاءا لهذا الأمر وقد وعدهما بتعبير الرؤيا، ولكنّه إغتنم الفرصة وحدّثهما عن التوحيد الحي والمواجهة مع الشرك، ثمّ التفت إليهما وقال: (ياصاحبي السجن أمّا أحدكما فيسقي ربّه خمراً وأمّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه).
وبالرغم من تناسب كلّ رؤيا مع ما عبّره يوسف، فكان معلوماً إجمالا مَن الذي يطلق من السجينين؟ ومن الذي يصلب منهما؟ إلاّ أنّ يوسف لم يرغب في
أن يُبيّن التعبير بصراحة أكثر من هذه .. خاصّة وأنّ فيه خبراً غير مريح، لذلك جعل التعبير تحت عنوان «أحدكما».
ثمّ أضاف مؤكداً (قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وهو إشارة إلى أنّ هذا التعبير ليس تعبيراً ساذجاً، بل هو من أنباء الغيب التي تعلّمها من الله، فلا مجال للترديد والكلام بعد هذا.
في كثير من التفاسير ورد في ذيل الجملة المتقدّمة أنّ السجين الثّاني الذي سمع بالخبر المزعج أخذ يكذّب رؤياه ويقول: كنت أمزح معك، ظانّاً أنّ مصيره سيتبدّل بهذا التكذيب، فعقّب عليه يوسف بالجملة المتقدّمة!
ويحتمل أيضاً أنّ يوسف كان قاطعاً في تعبير الرؤيا إلى درجة بحيث ذكر الجملة المتقدّمة تأكيداً لما سبق بيانه.
وحين أحسّ يوسف أنّ السجينين سينفصلان عنه عاجلا، ومن أجل أن يجد يوماً يُطلق فيه ويُبّرأُ من هذه التهمة، أوصى أحد السجينين الذي كان يعلم أنّه سيطلق أن يذكره عند الملك (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما اُذكرني عند ربّك) لكن هذا الغلام «الناسي» مثله مثل الأفراد قليلي الإستيعاب، ما إن يبلغوا نعمةً ما حتّى ينسوا صاحبها، وهكذا نسي يوسف تماماً، ولكن القرآن عبّر عن ذلك بقوله: (فأنساه الشيطان ذكر ربّه) وهكذا أصبح يوسف منسيّاً (فلبث في السجن بضع سنين).
هناك أقوال بين المفسّرين في أنّ الضمير من (أنساه الشيطان) هل يعود على ساقي الملك، أم على يوسف؟ كثير من المفسّرين يعيدون الضمير على يوسف فيكون المعنى: إنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر الله فتوسّل بسواه.
ولكن مع ملاحظة الجملة السابقة التي تذكر أنّ يوسف كان يوصي صاحبه أن يذكره عند ربّه، يظهر أنّ الضمير يعود على الساقي نفسه.
وكلمتا «الربّ» في المكانين بمعنى واحد.
كما أنّ جملة (وادّكر بعد اُمّة) التي ستأتي في الآيات التالية، تدلّ على أنّ الذي نسي هو الساقي.
ولكن سواءً عاد الضمير على يوسف أم على صاحبه، فما من شكّ من أنّ يوسف توسّل بالغير في سبيل نجاة نفسه!
وبديهي أنّ مثل هذا التوسّل للنجاة من السجن ومن سائر المشاكل، ليس أمراً غريباً بالنسبة للأفراد العاديين، وهو من قبيل التوسّل بالأسباب الطبيعية، ولكن بالنسبة للأفراد الذين هم قدوة وفي مكانة عالية من الإيمان والتوحيد، لا يمكن أن يخلو من إيراد، ولعلّ هذا كان سبباً في بقاء يوسف في السجن بضع سنين، إذ لم يرض الله سبحانه ليوسف «ترك الأَولى»!.
في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «عجيب من أخي يوسف كيف إستغاث بالمخلوق دون الخالق؟» وروي أنّه قال: «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» يعني قوله (اُذكرني عند ربّك).
وروي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال: يايوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي، قال: فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال: ربّي، قال: فمن ساق إليك السيارة؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال: ربّي، قال: فمن أنقذك من الجُبّ؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي، قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين»(1).
* * *
1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية، الجزء 3، ص235.
للسجن تأريخ مؤلم ومثير للغمّ جدّاً في هذا العالم، فأسوأ المجرمين وأحسن الناس كلاهما دخل السجن، ولهذا السبب كان مركزاً دائماً لأفضل الدروس البنّاءة أو لأسوأ الإختبارات.
وفي الحقيقة إنّ السجون التي يجتمع فيها المفسدون تعدّ معهداً عالياً للفساد! ففي هذه السجون تتمّ مبادلة الخطط التخريبيّة والتجارب .. وكلّ منحرف يعلم درسه للآخرين، ولهذا السبب حين يطلقون من السجن يواصلون طريقهم باُسلوب أكثر مهارة من السابق وبتشكيل جديد ... إلاّ أن يلتفت مسؤولو السجن لهذا الموضوع، ويعملوا على تغيير هؤلاء الأفراد الذين فيهم الإستعداد والقابلية إلى عناصر صالحة ومفيدة وبنّاءة.
وأمّا السجون التي تتشكّل من الصالحين والأبرياء والنزيهين والمجاهدين في طريق الحقّ والحرية، فهي معاهد ومراكز لتعليم الدروس العقائديّة والطرق العملية للجهاد والمبارزة والبناء.
وهذه السجون تعطي فرصة طيّبة للمنافحين في طريق الحقّ ليؤدّوا دورهم، وينسّقوا جهودهم بعد التحرّر من هذه السجون.
وحين إنتصر يوسف على امرأة محتالة ماكرة متّبعة لهواها ـ كامرأة عزيز مصر ـ ودخل السجن، سعى أن يبدّل محيط السجن إلى محيط بنّاء ومركز للتعليم والتربية، حتّى أنّه وضع أساس حريته وحرية الآخرين ضمن تخطيطه هناك.
وهذا الماضي يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنّ الإرشاد والتربية ليسا محدودين في مركز معيّن كالمسجد والمدرسة ـ مثلا ـ بل ينبغي أن يستفاد من كلّ فرصة سانحة للوصول إلى هذا الهدف، حتّى ولو كانت في السجن وتحت أثقال القيود.
أمّا عدد السنوات التي قضاها يوسف في السجن، فهناك أقوال بين
المفسّرين، والمشهور أنّها سبع سنوات، إلاّ أنّ بعضهم قال: إنّ يوسف بقي في السجن إثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه، وسبع بعدها، وكانت سنوات ملأى بالتعب والنَصب إلاّ أنّها من جهة الإرشاد كانت سنوات مفعمة بالبركة والخير(1).
من الطريف أنّنا نقرأ في هذه القصّة أنّ الذي رأى في منامه أنّه يعصر خمراً ويقدّمه للملك قد تحرّر وأطلق من السجن، وأنّ الذي رأى أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه قد صعد عود المشنقة.
أليس مفهوم هذا أنّ الذين هم على خُطى الشّهوات وفي محيط المفسدين وأنظمة الطغاة ينالون الحريّة، وأمّا الذين يقدّمون خدمة للمجتمع ويعطون الخبز للناس فليس من حقّهم الحياة! وينبغي أن يموتوا؟ فهذا نسيج المجتمع الذي يحكمه النظام الفاسد .. وهذه نهاية الصالحين في أمثال هذا المجتمع!.
صحيح أنّ يوسف ـ إعتماداً على الوحي الإلهي وعلم التعبير ـ توقّع ما كان، ولكنّ أيّ معبّر لا يمكن له أن يبعد عن نظره هذه المناسبات!
ففي الحقيقة إنّ الخدمة في مثل هذه المجتمعات ذنب عظيم، والخيانة والإساءة هي الثواب بعينه!.
رأينا أنّ أكبر درس علّمه يوسف للسجناء هو درس التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ذلك الدرس الذي حصيلته الحريّة والتحرّر.
لقد كان يعرف أنّ الأرباب «المتفرّقين» والمعبودين المختلفين والأهداف
1 ـ لزيادة الإيضاح في سنوات سجن يوسف يراجع تفسير المنار، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي.
المتفرّقة، كلّها أساس التفرقة في المجتمعات، وطالما هناك تفرقة فالجبابرة مسلّطون على رقاب الناس، لذلك أعطى يوسف «دستوراً» وأمراً بقطع جذورهم بسيف التوحيد الباتر، لئلاّ يضطرّوا إلى رؤية الحريّة في الأحلام والمنام، بل ينبغي أن يشاهدوا الحريّة في اليقظة.
تُرى، أليس الجبابرة المسلّطون على رقاب الناس هم ثلّة من الأفراد يستطيع الناس مكافحتهم، إلاّ أنّهم بإيجاد التفرقة والنفاق، وعن طريق «الأرباب المتفرقين» إستطاعوا أن يتحكّموا على رقاب الناس ويهدّوا قوى المجتمع!.
ومن الطبيعي أن يكون اليوم الذي تجتمع فيه الاُمم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة تحت راية «الله الواحد القهّار» ويجمعوا قواهم، هو يوم زوال أُولئك الجبابرة الظالمين، وهذا درس مُهم جدّاً ليومنا وغدنا ولجميع الناس في كلّ المجتمعات البشرية وعلى إمتداد التاريخ.
ومن الضروري أن نلتفت إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ يوسف يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله) ثمّ يؤكّد أنّ العبادة والخضوع لا تكونان إلاّ له (أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه) ويؤكّد بعد ذلك بالقول: (ذلك الدين القيّم) ويعقّب أخيراً (ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
فعلى هذا لو تعلّم الناس المعارف الصحيحة وعرفوا الحقيقة، ونهضت فيهم حقيقة التوحيد، فإنّ المشاكل ستنحلّ لا محالة.
شعار (إنّ الحكم إلاّ لله) الذي هو شعار قرآني إيجابي مثبت، ينفي أيّة حكومة كانت سوى حكومة الله أو ما تنتهي إليه حكومة الله، إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ استُغلّ على إمتداد التاريخ بشكل عجيب، ومن ذلك إستغلال الخوارج لهذا الشعار في واقعة «النهروان» حيث كانوا أُناساً جامدين حمقى قشريين منحرفين
جدّاً .. فتمسكوا بهذا الشعار لنفي التحكيم في حرب صفين وقالوا: لا يصحّ الحكم لنهاية الحرب أو الخليفة لأنّ الله يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله).
لقد كانوا غافلين أو متغافلين عن هذه المسألة البديهيّة، وهي أنّ التحكيم إذا كان قد تعيّن من أئمّة أمر الله باتّباعهم فحكمهم أيضاً حكم الله لأنّه ينتهي إليه.
صحيح أنّ الحكمين في حرب صفين لم يتمّ تعيينهما من قبل الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عيّنهما فإنّ حكمهما حكمه، وحكم علي حكم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم النّبي حكم الله.
وهل ياترى يحكمُ الله أو يقضي مباشرةً بين المجتمعات! أو يتولّى اُمور الناس أشخاص من جنسهم، غاية ما في الأمر ينتهي أمرهم إلى الله؟! ولكن الخوارج ودون أن يتوجّهوا إلى هذه الحقيقة الواضحة أشكلوا على أصل قصّة التحكيم على الإمام علي (عليه السلام) وحتّى عدّوه ـ والعياذ بالله ـ زيغاً منه، يا لهذا الجهل والجمود والبلادة.
وهكذا فإنّ مثل هذه الأُمور البنّاءة حين تقع بأيدي أفراد جهّال تتحوّل إلى أسوأ الوسائل التخريبيّة.
وفي هذا اليوم نرى مجموعة من الناس من ضعاف النفوس الذين لا يقلّون عن أُولئك جهلا ولجاجةً، تمسّكوا بالآية المتقدّمة لنفي التقليد عن المجتهدين، أو نفي صلاحيّة حكومتهم، لكن جوابهم جميعاً هو ما ذكرناه آنفاً.
التوحيد لا يتلخّص في أنّ الله تعالى أحد فرد، بل ينبغي أن يتجسّد في جميع شؤون الحياة، وأحد أبرز علائمه أنّ الإنسان الموحّد لا يعتمد على غير الله ولا يلتجىء إلاّ إليه.
نحن لا نقول يجب على الإنسان أن لا يلحظ عالم الأسباب وقانون العلّية لا
يرى الأسباب شيئاً، ولا يعتمد على الوسائل والأسباب، بل نقول: أنّ لا يرى تأثيراً واقعيّاً في السبب، بل يرى رأس الخيط في جميع الأُمور بيد مسبّب الأسباب. وبتعبير آخر: لا يرى للأسباب إستقلالا، بل يراها تحت هيمنة الذات المقدّسة لله سبحانه.
ويمكن أن يكون عدم توجّه الأفراد العاديين لهذه الحقيقة الكبرى مدعاة للعفو، ولكن عدم الإلتفات ولو بمقدار رأس الإبرة بالنسبة لأولياء الله يكون سبباً لمجازاتهم، وإن لم يكن أكثر من «ترك الأَولى» ورأينا كيف أنّ يوسف بسبب عدم توجّهه لهذه المسألة المهمّة امتدّ حبسه سنوات لينضج آخراً في «موقد» الحوادث، وليحصل على إستعداد أكبر لمواجهة الطغاة، وليعلم أنّه لا ينبغي الإعتماد إلاّ على الله. وعلى المظلومين الذين يسيرون في طريق (الله).
![]() |
![]() |
![]() |