التّفسير

في الآية الأُولى محل البحث إِشارة الى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإِنسان ... وهي مسألة الإِختلاف والتفاوت في بناء الإِنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً، ومسألة حرية الإِرادة والإِختيار.

تقول الآية (ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدةً ولا يزالون مختلفين).

لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإِصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

نعم، لم يكن ـ أي مانع ـ أن يخلق جميع الناس بحكم إِلزامه وإِجباره على شاكلة واحدة، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإِيمان به ...

لكن مثل هذا الإِيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإِيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لايكون علامة على شخصية

[100]

الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقاً يدفعها بحكم الغريزة الى أن تجمع الرحيق من الأزهار ... وخلق بعوضة الملاريا خلقاً يجعلها تستقر في المستنقعات، ولا يمكن لأيّ منهما أن تتخلى عن طريقتها.

إِلاّ أنّ قيمة الإِنسان و امتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة، وهي حرية الإِرادة والإِختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سبباً لأنّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أُخرى الباطل، إِلاّ أن يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ... ففي هذه الحال، ومع جميع ما لديهم من اختلافات، ومع الإِحتفاظ بالحريّة والإِختيار، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإِن كانوا يتفاوتون في هذا المسير.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الأُخرى: (إِلا من رحم ربُّك) ولكن هذه الرحمة الإِلهية ليست خاصّة بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» أن يستفيدوا منها (ولذلك خلقهم).

الاشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم ... الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم، وإلاّ: فلا: (وتمت كلمة ربّك لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين ).

* * *

[101]

ملاحظات

1 ـ حرية الإِرادة هي أساس خلق الإِنسان ودعوة جميع الأنبياء، وأساساً لا يستطيع الإِنسان بدونها أن يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل «التكامل الإِنساني والمعنوي» ولهذا فقد أكّدت آيات متعددة على أنّه لو شاء الله أن يهدي الناس بإِجباره لهم جميعاً لفعل، لكنّه لم يشأ.

فيما يتعلق بالله هو الدعوة الى المسير الحق وتعريف الطريق ووضع العلامات، والتنبيه، على ما ينبغي الحذر منه وتعيين القائد للمسيرة البشرية والمنهج فحسب.

يقول القرآن الكريم: (إِنّ علينا للهدى)(1) كما يقول أيضاً (إِنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر)(2) ويقول في سورة الشمس: (فألهمها فجورها وتقواها)(3)ونقرأ أيضاً في سورة الدهر الآية (4): (إِنّا هديناه السبيل إِمّا شاكراً وإِمّا كفوراً)فعلى هذا فإِن الآيات محل البحث من أوضح الآيات التي تؤكّد على حرية الإِرادة ونفي مذهب الجبر، وتدل على أنّ التصميم النهائي هو بيد الإِنسان.

2 ـ في الهدف من الخلق والوجود، في آيات القرآن بيانات مختلفة، وفي الحقيقة يشير كل واحد منها الى بعد من أبعاد هذا الهدف، من هذه الآيات (وما خلقت الجن والإِنس إِلاّ ليعبدون)(4) أي ليتكاملوا في مذهب العبادة وليبلغوا أعلى مقام للإِنسانية في هذا المذهب.

ونقرأ في مكان آخر (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن


1 ـ الليل، 12.

2 ـ الغاشية، 21.

3 ـ الشمس، 8.

4 ـ الذاريات، 56.

[102]

عملا)(1).

أمّا في الآية محل البحث فيقول: (ولذلك خلقهم) ... وكما تلاحظون فإنّ جميع هذه الخطوط تنتهي الى نقطة واحدة، وهي تربية الناس وهدايتهم وتقدمهم وتكاملهم، وكل ذلك يعدّ الهدف النهائي للخلق.

وفائدة هذا الهدف تعود للإِنسان نفسه لا الى الله، لأنّ الله وجود مطلق لا نهاية له من جميع الجهات، ومثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه ويزيله بالخلق.

3 ـ وفي نهاية الآية الأخيرة تأكيد على الأمر الالهي بملء جنهم من الجن والإِنس أجمعين، وبديهي أنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة الله، والتقهقر عن هداية الرسل والادلاّء من قِبَلهِ، وبهذا الترتيب فإنّ هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإِجبار بل هي تأكيد جديد على مذهب الإِختيار.

* * *


1 ـ الملك، 2.

[103]

الآيات

وَكُلاًَّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَـمِلُونَ (121)وَانتَظِروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(122) وَللهِ غَيْبُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاَْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)

التّفسير

أربع معطيات لقصص الماضين:

بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة، وبما أنّ القسم الأهمّ من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيره الأنبياء والأُمم السابقة، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في أربعة مواضيع.

تقول هذه الآيات أوّلا: (وكلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك). وكلمة «كُلاًَّ» إِشارة الى تنوع هذه القصص، وكل نوع منها يشير الى

[104]

اتّخاذ جبهة «قبال الأنبياء» ونوع من الإِنحرافات ونوع من العقاب، وهذا التنوّع يلقي أشعة نيرة على أبعاد حياة الناس.

«تثبيت قلب النّبي»(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته ـ التي يشار إِليها في هذه الآية ـ أمر طبيعي، لأنّ معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية ـ رضينا أم أبينا ـ تؤثر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه إِنسان وبشر أيضاً. ولكن من أجل ان لا ينفذ اليأس الى قلب النّبي المطهّر وتضعف إِرادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات والمثبطات، فإنّ الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذي يلتّفون حوله يوماً بعد يوم.(1).

ثمّ تشير الآية الى النتيجة الكبرى الثّانية فتقول الآيات: (وجآءك في هذه الحق).

أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما (موعظة وذكرى للمؤمنين) .

الطريف هنا أنّ صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقباً: إِنّ الإِيجاز والإِختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يُتصور، حتى كأنّ جميع المعاجز السالفة قد جُمعت في الآية نفسها وبيّنت فوائدها جميعاً بعدّة جمل قصيرة.

وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإِشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.


1 ـ ممّا ذكر في المتن يتّضح أنّ مرجع الضمير في «هذه» يعود على «أنباء الرسل» وعودة الضمير على هذه الكلمة لقربها وتناسبها مع البحوث الواردة في هذه الآية واضح جدّاً، لكنّ الإِحتمالات الأُخرى بأنّ المشار إِليه هو «الدنيا» أو «خصوص الآيات السابقة» فبعيد، كما يبدو، وما قاله كثير من المفسّرين من أنّ المشار إليه هو «السورة» فقابل للمطابقة مع ما ذكرنا، لأنّ القسم الأهمّ من السورة يتناول قصص الأنبياء السابقين.

[105]

ثمّ تخاطب الآيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد إِن واصل الطريق (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إِنّا عاملون وانتظروا إِنّا منتظرون).

فستعلمون من الذي سينتصر، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظاراً غير مُجد، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم، وهو ما ستذقونه من قِبَلنا أو من قِبَل الله مباشرةً.

وهذه التهديدات التي تذكر بصيغة الأمر تلاحظ في أماكن أُخرى من القرآن كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم إِنّه بما تعملون بصير)(1).

ونقرأ في شأن الشيطان أيضاً (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأَجلب عليهم بخيلك ورجلك)(2).

وبديهي أنّه لا يراد بأيّة صيغة من صيغ الأمر هنا طلب الفعل، بل جميعها جاءت للتهديد والتنديد.

وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد «التوحيد المعرفي والتوحيد الأفعالي، وتوحيد العبادة» كما تحدثت الآيات الأُولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً.

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير الى ثلاث شعب من التوحيد، توحيد علم الله أوّلا، فغيب السّماوات والأرض خاص بالله وهو المطّلع عليها جميعاً (ولله غيب السّماوات والأرض).

أمّا سواه فعلمه محدود، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشيء من التعليم الإِلهي، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السموات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.


1 ـ فصّلت، 40.

2 ـ الإِسراء، 64.

[106]

ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته (وإليه يرجع الأمر كله) ... وهذه مرحلة توحيد الأفعال.

ثمّ تستنتج الآية أنّه إِذا علمت أنّ الإِحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ... جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة (فاعبده وتوكل عليه) وهذه مرحلة توحيد العبادة.

فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان (وما الله بغافل عمّا تعملون).

* * *

ملاحظات

1 ـ علم ا لغيب خاص بالله...

كما تحدثنا بالتفصيل في تفسير الآية (188) من سورة الأعراف، وفي تفسير الآية (50) من سورة الأنعام، أنه لا مجال للتردد في أن الإِطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله ... والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضاً ... إِنّه ليس كمثله شيء وهو متفرد بهذه الصفة.

وإِذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أنّ الأنبياء قد يعلمون بعض الأُمور الغيبية، أو قرأنا في بعض الآيات أو الرّوايات الكثيرة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والإِمام عليّاً والأئمة المعصومين(عليهم السلام) قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون أسراراً خفيّة منها، فينبغي أن نعرف أن كل ذلك بتعليم الله سبحانه.

فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار الغيب، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود، بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله.

[107]

وبهذا البيان تتّضح الإِجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال على الغيب حيث يرون أنّ الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) يعلمون الغيب.

وليس الإِطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصاً بالأنبياء أو الأئمّة فقد يطلع الله غير النّبي والأئمّة على غيبه أيضاً ... فنحن نقرأ في قصّة أُم موسى في القرآن أنّ الله قال لها: (ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين)(1).

وقد يطلع الله لضرورة الحياة ـ أحياناً ـ الطيور والحيوانات على الأسرار الخفيّة وحتى على المستقبل البعيد نسبيّاً ممّا يصعب علينا تصوّره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيباً، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو الحيوانات لا تعد من الغيب.

2 ـ العبادة لله وحده

في الآية المتقدمة دليل لطيف على أنّ العبادة لله وحده، وهو أنّه لو كانت العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال، والجلال فهذه الصفات قبل كل شيء موجودة في الله، وأمّا الآخرون فلا شيء بالنسبة إِليه. وأكبر دليل على عظمة الله علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية، وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنّهما مختصّان بالله.

وإِذا كانت العبادة لأجل الإِلتجاء ـ في حلّ المشاكل ـ الى المعبود ... فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد وأسرارهم الخفيّة. وما يغيب عليهم، وهو قادر على إِجابة دعوتهم، وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سبباً لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقّة).

3 ـ قال بعض المفسّرين: إِنّ سير الإِنسان في طريق عبودية الله، لُخِّصَ كلّه


1 ـ القصص، 7.

[108]

في جملتين في هذه الآية (فاعبده وتوكل عليه) لأنّ العبادة سواء كانت عبادة جسمانية كالعبادة العامّة، أو عبادة روحانية كالتفكّر في خلق الله ونظام أسرار الوجود، هي بداية هذا السير.

والتوكّل الذي يعني الإِلتجاء المطلق الى الله وإِيداع جميع الأشياء بيده، بحيث يعدّ نوعاً من «الفناء في الله» هو آخر نقطة من هذا السير.

وفي جميع هذا المسير من بدايته حتى نهايته يوجههم الى حقيقة توحيد الصفات، ويعين السائرين في هذا المسير ويدعوهم الى البحث المقرون بالعشق لساحته.

اللّهم ألهمنا معرفتك بصفات جلالك وجمالك.

وألهمنا أن نتحرك إِليك بعرفان.

اللّهم وفقنا لأنّ نعبدَك مخلصين ونتوكل عليك عاشقين.

اللّهم أنت رجاؤنا وملاذنا في حل مشاكلنا، ففي هذه الفترة من الزمن أحاطت بالمسلمين المشاكل من كل جانب، وسعى أعداء الله لإِطفاء نور هذه الصحوة المباركة، فانت وليّنا.

اللهم: لم نكن لنصل لهذه المرحلة لولا تأييداتك الظاهرة والخفيّة التي أعانتنا للوصول إِليها. نسألك أن لا تحرمنا من مواهبك العظيمة في ما بقي من الطريق ولا تقطع ـ ألطافك الخاصّة ـ عنّا.

ووفقنا برحمتك أن نواصل هذا التّفسير الذي يفتح نافذة جديدة على كتابك السّماويّ العظيم.

* * *

[109]

سُورَة يُــوسُـفْ

مكيّة

وعَدَدُ آيَاتَها مَائة وَاحدى عشرة آية

«سُورة يوسف»

«بداية سورة يوسف»

قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة أمور:

1 ـ لا إِشكال بين المفسّرين في أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، سوى ما نُقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات مدنية (الآيات الثلاث في أوّل السورة والآية السّابعة منها).

ولكن التدقيق في ارتباط هذه الآيات بعضها مع البعض الآخر في هذه السورة يجعلنا غير قادرين على التفكيك بينها، فاحتمال نزول هذه الآيات الأربع في المدينة ـ على هذا الأساس ـ بعيد جدّاً.

2 ـ جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصّة نبيّ الله يوسف(عليه السلام). القصّة الطّريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العِبَر. ولذلك سمّيت هذه السورة باسم «يوسف» وبهذه المناسبة ـ أيضاً ـ ورد ذكر يوسف ـ من مجموع (27) مرّة في القرآن ـ (25) مرّة في هذه السورة ومرّة واحدة في سورة غافر الآية (34) ـ ومرّة أُخرى في سورة الأنعام الآية (84).

ومحتوى هذه السورة ـ على خلاف سور القرآن الأُخرى ـ مرتبط بعضه ببعض، ويبيّن جوانب مختلفةم من قصّة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول، مع بيان أخاذ موجز، عميق، وطريف ومثير.

وبالرغم من أنّ القصّاصين غير الهادفين، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا الى أن يحوّلوا هذه القصّة المهذّبة الى قصّة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة!!

[112]

وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف(عليه السلام) بحيث بلغت الحال أن يصوروا «فيلماً سينمائياً» وينشروه بصورة مبتذلة ... إِلاّ أنّ القرآن ـ وكلّ ما فيه أسوة وعبرة ـ عكس في ثنايا هذه القصّة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإِيمان، حتى لو أنّ إِنساناً قرأها عدة مرات فإنّه يتأثر ـ بدون اختيار ـ بأسلوبها الجذّاب في كل مرّة.

ولذا فقد عبّر القرآن عنها بـ(أحسن القصص) وجعل فيها العبر للمعتبرين (أولي الألباب).

3 ـ التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإِنسان، وهي أنّ القرآن معجز في جميع أبعاده، لأنّ الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال حقيقيّون لا خياليّون، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير:

فإِبراهيم(عليه السلام): البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

ونوح(عليه السلام): بطل الصبر والإِستقامه والشفقة والقلب المحترق في ذلك العمر الطويل المبارك.

وموسى(عليه السلام): البطل المربّي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسف(عليه السلام): بطل الورع والتقوى والطهارة ... أمام امرأة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورة تحيّر الإِنسان، لأنّ هذه القصّة ـ كما نعرف ـ تنتهي في بعض مواردها الى مسائل العشق ودون أن يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض الى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شيء غير مطلوب فيها. ويذكر القضايا بأجمعها في المتن، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.

[113]

4 ـ قصّة يوسف قبل الإِسلام وبعده

لا شكّ أنّ قصّة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإِسلام، لأنّها مذكورة في (14) فصلا من [سفر التكوين] في التوراة بين [الفصل 37 ـ 50] ذكراً مفصلا.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف مدى الإِختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد أنّ نصّ القصّة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِن كنت من قبله لمن الغافلين) يشير الى قصّة يوسف التي عبّر عنها بأحسنِ القصص، حيث لم يكن النّبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

ويظهر من التوراة أنّ يعقوب(عليه السلام) لما رأى قميص يوسف ملطخاً بالدم قال: هذا قميص ولدي وقد أكله الحيوان المفترس، فيوسف مّمزق الأحشاء ثمّ خرّق يعقوب ثوبه وشدّ الحزام على ظهره وجلَسَ أيّاماً للبكاء والنواح على يوسف، وقد عزّاه جميع أبنائه ذكوراً وإِناثاً إِلاّ أنه امتنع أن يقبل تعزيتهم وقال: سأُدفن في القبر حزناً على ولدي.

بيد أنّ القرآن يبيّن: إِنّ يعقوب لم يصدّق ما قاله أولاده، ولم يفزع ولم يجزع لمصيبة ولده يوسف، بل أدّى ما عليه من سنّة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله، وقال لأبنائه: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) وإِن كان قلبه يحترق على فراق ولده وعيناه تدمعان من أجله حتى ابيضتا وعميتا، ولكن ـ وكما يعبر القرآن ـ لم يقم بأي عمل من قبيل تخريق الثوب والنواح وشدّ الحزام على ظهره ـ والذي كان علامة للمصيبة و«العزاء» ـ وإِنّما قال: «صبر جميل» وكتم حزنه «فهو كظيم».

[114]

وعلى كل حال فإنّ هذه القصّة ـ بعد الإِسلام ـ تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب ... وأحياناً مع أغصان وأوراق إِضافية.

5 ـ لِمَ ذكرت قصّة يوسف في مكان واحد على خلاف قصص سائر الأنبياء؟!

إِنّ من خصائص قصّة يوسف البارزة أنّ هذه القصّة ذكرت في مكان واحد من القرآن، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة من القرآن.

والحكمة في ذلك تعود الى أن تفكيك فصول هذه القصّة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة وعلى سبيل المثال فان الرؤيا وما ذكره أبوه من تعبير في أوّل هذه السورة يفقد معناه دون ذكر نهايتها.

لذلك نقرأ في أواخر هذه السورة، حين جاء يعقوب وإِخوة يوسف الى مصر وخرّوا له سجداً قال يوسف ملتفتاً الى أبيه: (يا أبت هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربّي حقّاً)(1).

هذا النموذج يوضح الإِرتباط الوثيق بين بداية السورة ونهايتها، في حين أنّ قصص الأنبياء الآخرين ليست على هذه الشاكلة، ويمكن درك كل واحدة من خلال فصولها.

والخصيصة الأُخرى خصائص هذه السورة هي أنّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الأُخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة، ثمّ تنتهي الحالة الى إِيمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة أُخرى لهم واستحقاقهم عذاب الله وعقابه.


1 ـ الآية 100.

[115]

أمّا في قصّة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيراً الى استلامه سدّة الحكم، وهي في حدّ ذاتها «أنموذج» خاص.

6 ـ فضيلة سورة يوسف

وردت في الرّوايات الإِسلامية فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، ونقرأ من ضمنها حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) حيث يقول: «من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة، بعثُه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين»(1).

إِنّ الرّوايات التي وردت في فضائل سور القرآن ـ كما قلنا مراراً ـ ليس معناها القراءة السطحيّة دون تفكر وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر ... التفكر الذي يجر الى العمل، ومع ملاحظة محتوى هذه السورة يتّضح أن من يستلهم خطة حياته من هذه القصّة، ويعفّ نفسه أمام طوفان شديد من الشّهوات والمال والجاه والمقام، الى درجة يرى بها حفرة السجن المظلمة مقرونة بطهارة الثوب أفضل من الحياة في قصور الملوك الملوّثة، فإنّ مَثَل هذا الشخص في جمال روحه كجمال يوسف، وما من خفيّ إِلاّ ظهر يوم القيامة ... وسيجد له جمالا مذهلا ويكون في صف عباد الله الصالحين.

وممّا يلزم ذكره أنّه ورد في عدد من الأحاديث النهي عن تعليم هذه السورة «للنساء»، ولعلّ السرّ في ذلك هو ما في الآيات المرتبطة بامرأة عزيز  مصر ... فبالرغم من سرد القصّة في بيان عفيف، إِلاّ أنّها سبب لتحريك بعض النساء أيضاً ... وقد جاء التأكيد على تعليم سورة «النّور» المشتملة على آيات الحجاب للنساء بدلا من سورة يوسف.


1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

[116]

ولكن سند هذه الرّوايات بشكل عام لا يُعتمد عليه، إِضافة الى ذلك فقد ورد في بعض الرّوايات الأُخرى خلاف ذلك حيث ترغّب في تعليم هذه السورة للعائلة. وبعد هذا كلّه فإنّه التدقيق في آيات هذه السورة يكشف أنّ هذه السورة، ليس فيها أيّة نقطة سلبية بالنسبة للنساء، وليس هذا فحسب، بل إِن ماجرى لإمرأة عزيز مصر، درسٌ فيه عبرة لجميع النسوة اللائي يبتلين بالوساوس الشيطانيّة.

* * *

[117]

الآيات

الر تِلْك ءَايَـتُ الْكِتَـبِ الْمُبِينِ(1) إِنَّآ أَنزَلْنَـهُ قُرْءَناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَـفِلِينَ(3)

التّفسير

أحسن القصص بين يديك:

تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة «ألف. لام. راء» وهي دلالة على عظمة القرآن، وإِنّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط الأجزاء، وهي حروف الهجاء «ألف ـ باء .. الخ» وقد تحدثنا عن الحروف المقطعة في القرآن ـ حتى الآن ـ في ثلاثة مواضع «بداية سورة البقرة، وآل عِمران، والأعراف» بقدر كاف ... فلا ضرورة للتكرار، وأثبتنا دلالتها على عظمة القرآن.

وربّما كان لهذا السبب أن تأتي الإِشارة ـ بعد هذه الحروف المقطعة مباشرةً ـ الى بيان عظمة القرآن في هذه السورة، فتقول: (تلكَ آيات الكتاب المبين).

وممّا يستلفت النظر أنّه اُستُفيد من اسم الإِشارة «تلك» في هذه الآية للبعيد، نظير ما جاء في بداية سورة البقرة وبعض السور القرآنية الأُخرى. وقد قلنا: إِنّ

[118]

مثل هذه التعبيرات جميعاً يشار بها الى عظمة هذه الآيات، أي أنّها بدرجة من الرفعة والعلوّ كأنّها في نقطة بعيدة لا يمكن الوصول إِليها ببساطة، بل بالسعي والجدّ المتواصل ... فهي في أوج السّماوات وفي أعالي الفَضاء اللامتناهي، لا أنّها مطالب ومفاهيم رخيصة يحصل عليها الانسان في كل خطوة.

ثمّ يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول: (إِنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).

فالهدف إِذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمّن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب، بل الهدف الأساسي هو الإِدراك ... الإِدراك القوي الذي يدعو الإِنسان الى العمل بجميع وجوده.

وأمّا سرّ كون القرآن عربياً فهو بالإِضافة الى أنّ اللغة العربية واسعة كما يشهد بذلك أهل المعرفة باللغات المختلفة من العالم، بحيث تستطيع أن تكون ترجماناً للسان الوحي، وأن تبيّن المفاهيم الدقيقة لكلام الله سبحانه، فمن المسلم به ـ بعد هذا ـ أنّ نور الإِسلام بزغ في جزيرة العرب التي كانت منطلقاً للجاهلية والظلمة والتوحّش والبربرية، ومن أجل أن يجمع أهل تلك المنطقة حول نفسه فينبغي أن يكون القرآن واضحاً مشرقاً، ليُعلّم أهل الجزيرة الذين لاحظ لهم من الثقافة والعلم والمعرفة، ويخلق بذلك مركزاً محورياً لانتشار هذا الدين الى سائر نقاط العالم.

وبطبيعة الحال فإنّ القرآن بهذه اللغة «العربيّة» لا يتيسّر فهمه لجميع الناس في العالم (وهذا شأن أية لغة أُخرى) لأنّنا لا نملك لغة عالمية ليفهمها جميع الناس، ولكن ذلك لا يمنع من أن يستفيد من في العالم من تراجم القرآن، أو أن يطلعوا تدريجاً على هذه اللغة ليتلمسوا الآيات نفسها ويدركوا مفاهيم الوحي في طيّات هذه الألفاظ.

وعلى كل حال فالتعبير بكون القرآن عربياً ـ الذي تكرر في عشرة موارد

[119]

من القرآن ـ جواب لأولئك الذين يتهمون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه تعلم القرآن من أعجمي، وأنّ محتوى القرآن مستورد وليس وحياً إِلهياً.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمناً وظيفةً مفروضة على جميع المسلمين، وهي أن يسعوا جميعاً الى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية الى جانب لغتهم، لأنّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإِسلام.

ثمّ يقول سبحانه: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إِليك هذا القرآن وإِن كنت من قبله لمن الغافلين).

يعتقد بعض المفسّرين أنّ (أحسن القصص) إِشارة الى مجموع القرآن، وأنّ جملة (بما أوحينا إِليك هذا القرآن) قرينة على ذلك. والقصّة هنا ليست بمعنى سرد الحكاية، بل المراد معناها «الجذري» في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء. وبما أنّ أي موضوع ـ حين يشرح ويفصّل ـ يبيّن بكلمات متتابعة، فلذلك يطلق عليه قصّة أيضاً.

وعلى كل حال فإنّ الله سبحانه عبّر بـ(أحسن القصص) عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح، وأفصح الألفاظ وأبلغها، مقرونةً بأسمى المعاني وأدقّها، بحيث يبدو ظاهرهُ عذباً جميلا، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ونشاهد في روايات متعددة أنّ هذا التعبير استعمل في مجموع القرآن، رغم أنّ هذه الرّوايات لم ترد في تفسير هذه الآية ـ محل بحثنا ـ .

فمثلا نقرأ حديثاً نقله علي بن إِبراهيم عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إِنّ أحسن القصص هذا القرآن»(1).

كما نقل في روضة الكافي عن خُطبة لأمير المؤمنين قوله: «إِن أحسن


1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 49.

[120]

القصص وأبلغ الموعظة وأنفع الذكر كتاب الله»(1).

ولكنّ ارتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصّة يوسف(عليه السلام) مع هذه الآية ـ محل البحث ـ بشكل يشدّ ذهن الإِنسان الى هذا المعنى، وهو أنّ الله عبر عن قصّة يوسف بـ(أحسن القصص) وربّما لا ينقدح في أذهان الكثيرين ممن يطالعون بداية آيات هذه السورة غير هذا المعنى.

وقلنا مراراً أنّه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعاً ... فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامّة، وقصّة يوسف هي أحسن القصص بصورة خاصّة.

ولم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص، مع أنّها ترسم في فصولها المثيرة أسمى دروس الحياة؟!

فنحن نشاهد حاكمية إِرادة الله على كل شيء هذه القصّة، وننظر بأعيننا المصير الأسود الذي انتهى إِليه الحُسّاد وما رقموه على الماء من خِطط.

كما تتجسم من خلال سطورها الذلةُ في الإِبتذال وعدم العفة، والعظمة في التقوى ومنظر الصبيّ وهو وحيد في قعر الجبّ، وفي مشهد آخر نراه يقضي الليالي والأيّام دون ذنب في حفرة السجن المظلم، ثمّ انبثاق نور الأمل من خلف حجب اليأس والظّلمات، ثمّ نشاهد بعد ذلك حكومته العظيمة الواسعة نتيجة دراسته وأمانته. كل هذه المشاهد تتجلّى للقارىء لهذه القصّة بشكل رتيب.

لحظات وبسبب رؤيا يتحول مصير أُمّة ... إنقاذ اُمّة ومجتمع بشري من الهلكة على يد قائد إِلهي متيقظ ... وعشرات الدروس الأُخرى ـ الكبيرة ـ التي تلوح في هذه القصّة، فلم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص؟!

غاية ما في الأمر أنّه لا تكفي أن تكون قصّة يوسف وحدها هي أحسن القصص، بل المهم أن تكون فينا الجدارة لأنّ نفهم هذا الدرس العظيم وأن نعرف


1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 49.

[121]

مكانه من نفوسنا.

فكثيرٌ مِنَ الناس لا يزال ينظر الى قصّة يوسف(عليه السلام) على أنها حادثة عشق طريف، ومثله كمثل الدابّة التي يلوح لها البستان النضر المليء بالأزهار، إِلاّ أنّها تراه حفنة من «العلف» تسدُّ جوعها:

وما يزال الكثير من الناس يضفي على القصّة افرازات خيالية كاذبة ليحرّف القصّة عن واقعها ... وهذا من عدم اللياقة وفقدان الجدارة وعدم قابلية المحل، وإِلاّ فإنّ أصل القصّة جمع كل أنواع القيم الإِنسانية العليا في نفسه.

وسنرى في المستقبل ـ بإِذن الله ـ أنّه لا يمكن تجاوز فصول هذه القصّة الجامعة والجميلة وكما يقول الشاعر في هذه القصّة:

يَسكرُ من عطر الزهور الفتى حتى يُرى مفتقداً ثوبه!

* * *

أثر القصّة في حياة الناس

مع ملاحظة أنّ القسم المهمّ من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأُمم السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لِمَ يحملُ هذا الكتاب التربوي كل هذا «التأريخ» والقصص؟!