[41]

الإِقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإِخلال بالنظام الإِجتماعي وإِماتة الفضائل الخُلقية وإِشاعة الإِنحراف، ومن هنا نجد في الرّوايات أحياناً مقارنة الدرهم الربوي المرتبط ـ بالطبع ـ بالمسائل الإِقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي(1).

ثمّ يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الأوّل: قوله: (واستغفروا ربّكم) أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.

والثّاني: قوله: (ثمّ توبوا إِليه) أي ارجعوا إِليه.

والواقع أنّ الإِستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس، والتوبة عودة إِلى الله الكمال المطلق.

واعلموا أنّه مهما يكن الذنب عظيماً والوزر ثقيلا فإنّ طريق العودة إِليه تعالى مفتوح وذلك لأنّ (ربّي رحيم ودود).

وكلمة «الودود» صيغة مبالغة مشتقّة من الود ومعناه المحبّة، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» إِشارة إِلى أنّ الله يلتفت بحكم رحمته إِلى المذنبين التائبين، بل هو إِضافة إِلى ذلك يحبّهم كثيراً لأنّ رحمته ومحبته هما الدافع لقبول الإِستغفار وتوبة العباد.

* * *


1 ـ ينبغي ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ جملة (لا يجرمنّكم) ذات احتمالين:

الأوّل: بمعنى لا يحملنكم، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و(شقاقي) فاعله، و«كم» الضمير المتصل بالفعل مفعول به أوّل و(أن يصيبكم) مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية: يا قوم لا يحملنكم شقاقي (مخالفتكم إِياي) أن يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين.

الإِحتمال الثّاني: أنّ (لا يجرمنكم) أي لا يجرنكم إِلى الذنب والإِجرام، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو التالي، و«لا يجرمن» فعلٌ و(شقاقي) فاعله و«كم» مفعوله و(أنى يصيبكم) نتيجته، ويكون معنى الآية كما ذكرناه في المتن.

[42]

الآيات

قَالُوا يَـشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـكَ وَمَآ أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز(91) قَالَ يَـقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(92) وَيَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَـمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَـذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93)

التّفسير

التّهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه:

إِنّ شعيباً هذا النّبي العظيم الذي لُقِّبَ بخطيب الأنبياء(1) لخطبة المعروفة والواضحة، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادّية والمعنوية لهذه الجماعة، واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟!

لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:


1 ـ سفينة البحار، مادة: شعيب.

[43]

فأوّلها: أنّهم قالوا: (يا شعيب ما نفقه كثيراً ممّا تقول) ... فكلامك أساساً ليس فيه أوّل ولا آخر، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكاً لعملنا، فلا ترهق نفسك أكثر! وامض الى قوم غيرنا...

والثّانية: قولهم (وإِنّا لنراك فينا ضعيفاً) فإذا كنت تتصور أنّك تستطيع إثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوّة فانت غارق في الوهم.

والثّالثة: هي أنّه لا تظنّ أنّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفاً منك ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك (ولولا رهطك لرجمناك)!

والطريف أنّهم عبّروا عن قبيلة شعيب: بـ «الرّهط» وهذه الكلمة تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة الى سبعة، أو عشرة، أو على قول. وهو الحدّ الأكثر ـ تطلق على أربعين نفراً.

وهم يشيرون بذلك الى أنّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا، ولكن تمنعنا أمور أُخرى، وهذا يشبه قول القائل: لولا هؤلاء الأربعة من قومك وأُسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين أنّ قومه وأسرته ليسوا بأربعة، بل المراد بيان هذه المسألة، وهي أنّهم لا أهمية لقدرتهم في نظر القائل.

وقولهم الأخير: (وما أنت علينا بعزيز) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك، ومهما كنت كبيراً في قبيلتك إِلاّ أنّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكنّ شعيباً دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجباً وقال: (يا قوم أرهطي أعزّ عليكم من الله)أفتذروني من أجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة أنفار ولا ينالني منكم سوء، فَلِمَ لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن أن نقارن عدّة أفراد بعظمة الله

[44]

سبحانه ... وأنتم لم تهابوه وتوقّروه (واتخذتموه وراءكم ظهرياً)(1).

وفي الختام يقول لهم: لا تظنوا أنّ الله غافل عنكم أو أنّه لا يرى أعمالكم ولا يسمع كلامكم، بل (إنّ ربّي بما تعلمون محيط).

إِنّ المتحدّث البليغ هو من يستطيع أن يعرّف موقفه من بين جميع المواقف الى الطرف المقابل ويشخصه من خلال أحاديثه.

فحيث أنّ المشركين من قوم شعيب هددوهُ في آخر كلامهم بالرجم، وأبرزوا قوتهم أمامه، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم(2) إِنّي عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه وارتقبوا إِنّي معكم رقيب)(3). أي انتظروا لتنتصروا علىّ بقواكم وجماعتكم وأموالكم، وأنا منتظر أيضاً أن يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعاً.

* * *


1 ـ هناك في اللغة العربية أُسلوب يستعمل عند عدم الإِعتناء بشيء ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا «جعلته تحت قدمي» أو يقال مثلا «جعلته دبر أذني» أو «جعلته وراء ظهري» أو «جعلته ظهرياً» و«الظهر» على زنة «قهر»، والياء بعده ياء النسبة وإِنّما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.

2 ـ المكانة: مصدر أو اسم مصدر ومعناه القدرة على الشيء.

3 ـ الرقيب: معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وإِنّما سُمّي بذلك لأنّه يكون حافظاً على رقبة شخص ما «كناية عن أنّه مراقب على روحه» أو يحرك الرقبة ليؤدي دور الرقابة والحفظ.

[45]

الآيتان

وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـرِهِمْ جَـثِمِينَ(94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ(95)

التّفسير

عاقبة المفسدين في مدين:

قرأنا في قصص الأقوام السابقين مراراً، أنّ الأنبياء كانوا في المرحلة الأُولى يدعونهم الى الله ولم يألوا جهداً في النصيحة والإِبلاغ وبيان الحجّة، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعه ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب الله، ليعود الى طريق الحق من فيه الإِستعداد ولتتم الحجّة عليهم، وفي المرحلة الثّالثة، وبعد أن لم يُغن أي شيء ممّا سبق ـ تبدأ مرحلة التصفية وتطهير الأرض، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.

وفي شأن قوم شعيب ـ أي أهل مدين ـ وصل الأمر الى المرحلة النهائية أيضاً، إذ يقول القرآن الكريم فيهم: (ولما جاء أمرنا نجيّنا شعيباً والذين آمنوا

[46]

معه برحمة منّا وأخذت الذين ظلموا الصّيحة).

«الصيحة» كما قلنا سابقاً معناها في اللغة كل صوت عظيم، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السّماوية، هذه الصيحة يحتمل أن تكون صاعقةً من السّماء أو ما شابهها، وكما بينا في قصّة ثمود «قوم هود» قد تبلغ الأمواج الصوتية حدّاً بحيث تكون سبباً لهلاك جماعة من الناس.

ثمّ يعقّب القرآن فيقول: (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) أي: أجساداً هامدة بلا روح، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر ...

وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم (كأنّ لم يغنوا فيها). وانطفأ بريق كل شيء، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود ـ وقد حكى عنهما القرآن ـ فهو يقول عن نهاية مدين أيضاً (ألا بعداً لمدين كما بعدث ثمود).

وواضح أنّ المقصود من كلمة «مدين» أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

دروس تربوية في قصّة شعيب:

إِنّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للاقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها، لأنّ تجارب حياة أُولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين أو مئات السنين ... ثمّ نُقلت إِلينا في عدّة صفحات من «التاريخ» وكل فرد منّا يستطيع أن يستلهم العبر في حياته.

قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب» فيها دروس كثيرة، ومن هذه الدروس ما يلي:

[47]

1 ـ أهمية المسائل الإِقتصادية

قرأنا في هذه القصّة أنّ شعيباً دعا قومه بعد التوحيد الى الحق والعدالة في الأُمور المالية والتجارية، وهذا نفسه يدل على أنّ المسائل الإِقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها. كما يدل على أنّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الأخلاقية فحسب، بل كانت دعوتهم تشكل «الإِصلاح» ... إِصلاح الوضع الإِجتماعي غير الجيد، وإِصلاح الوضع الإِقتصادي كذلك، حيث كانت هذه الأُمور من أهم الأُمور ـ عند الأنبياء ـ بعد التوحيد.

2 ـ لا ينبغي التّضحية بالأصالة من أجل التعصب

كما قرأنا في هذه القصّة فإنّ أحد العوامل التي دعت الى سقوط هؤلاء في أحضان الشقاء أنّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي، في حين أنّ الإِنسان العاقل والواقعي ينبغي أن يتقبل الحق من كل أحد حتى ولو كان من عدوّه.

3 ـ الصلاة تدعو الى التوحيد والتطهير

لقد سأل شعيباً قومُه (أصلاتُك تأمُرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) وأن نترك الغش وعدم إِيفاء الميزان حقّه. فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين: إِنَّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الأُمور؟ على حين أنّنا نعرف أن أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأُمور، فاذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي أي مع حضور الانسان بجميع وجوده أمام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه، والمطهّر لصدأ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي إِرادته ويجعل عزمه راسخاً وينزع عنه غروره وكبرياءه.

[48]

4 ـ النظرة الذاتيّة (الأنانيّة) رمزٌ للجمود!

لقد كان قوم شعيب ـ كما عرفنا في الآيات السابقة ـ أفراداً أنانيين و«ذاتيين» إِذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم، وأنّ شعيباً يجهل الأُمور!! وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفاً، وهذه النظرة الضيقة والأنانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم الى هاوية الهلاك.

ليس الإِنسان وحده ـ بل حتى الحيوان ـ إِذا كان «أنانيّاً» ذا نظرة ضيقة فإنّه سيتوقف في الطريق!!

يقال إنّ فارساً وصل الى نهر وأراد عبوره ولكنّه لاحظ بتعجب أنّ الفرس غير مستعدّة أن تعبر النهر الصغير والقليل العمق، وكلما الحّ على الفرس لكي تعبر لم يُفلح، فمرّ به رجل حكيم، فقال له: حرّك ماء النهر ليذهب فإنّ المشكلة ستنحلّ. ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء!! فسأل الحكيم عن السرّ في ذلك، فقال: حين كان الماء صافياً كانت صورة الفرس في الماء فلم يَرُق للفرس أن تطأ نفسها، وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها فعبرت بكل بساطة!

5 ـ تلازم الإِيمان والعمل

لا يزال الكثيرون يتصورون أنه يمكن للمسلم أن يكون بالعقيدة وحدها مسلماً حتى وإِن يقم بأيّ عمل، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين ألاّ يكون مانعاً لرغباتهم وميولهم، ويريدون أن يكونوا أحراراً بوجه مطلق.

قصّة شعيب تدلنا على أنّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج، لذلك كانوا يقولون له: نحن غير مستعدين أن نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام، ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء.

لقد نسي أُولئك أنّ ثمرة شجرة الإِيمان ـ أساساً ـ هي العمل، وكان نهج

[49]

الأنبياء أن يصلحوا الإِنحرافات العمليّة للإِنسان ويسددوا خطواته، وإِلاّ فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق إِلاّ أن تُحرق!

نحن اليوم ـ وللأسف ـ نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر، وهو أنّ الإِسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد، فما داموا في المسجد فهي معهم، وإذا خرجوا ودّعوها فيه!! فلا تجد أثراً لإِسلامهم في السوق أو الإِدارات أو المحيط.

إِنّ السير في كثير من الدول الإِسلامية ـ حتى الدول التي كانت مركزاً لإنتشار الإِسلام ـ يكشف لنا هذا الواقع المرير، وهو أنّ الإِسلام منحصر في حفنة من «الإِعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح» لا تجد فيها أثراً عن المعرفة والعدالة الإِجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الإِسلاميّة ... .

ولكن ـ لحسن الحظ ـ نرى في ضمن هذه الصحوة الاسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإِسلام الصحيح والممازجة بين الإِيمان والعمل، فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟!» أو أنّ «الإِسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش» وما الى ذلك.

الأطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم: نحن نستوحي عقيدتنا من الإِسلام واقتصادنا من ماركس، هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين وهي محكومة مثلها أيضاً، ولكن هذا الإِنفصال أو التفرقة بين العمل والإِيمان كان موجوداً منذ القدم ولا يزال، وينبغي أن نكافح مثل هذا التفكير!

6 ـ الملكية غير المحدودة أساس الفساد

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها، ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له: أمثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا

[50]

منها، إِنّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع، أم كان على نحو الإِستهزاء، يَدّل على أنّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدارية.

في حين أنّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا... إِذ لو كان الناس أحراراً في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء، فيجب أن تكون الأُمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس، وإِلاّ فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الإِنحراف والفساد.

7 ـ هدف الأنبياء هو الإِصلاح

لم يكن هذا الشعار: (إِنّ أُريدُ إِلا الإِصلاح) شعار شعيب فحسب، بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين، وإِنّ أعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف. فهم لم يأتوا لإِشغال الناس، ولا لغفران الذنوب، ولا لبيع الجنّة، ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس، بل كان هدفهم الإِصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة ... الإِصلاح في الفكر، الإِصلاح في الأخلاق، الإِصلاح في النظم الثقافية والإِقتصادية والسياسيّة للمجتمع، والإِصلاح في جميع أبعاد المجتمع.

وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب (وما توفيقي إِلا بالله عليه توكلت وإلِيه أنيب).

* * *

[51]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأَيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين(96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد(97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)وَأُتْبِعُوا فِى هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ(99)

التّفسير

البطل المبارز لفرعون:

بعد إنتهاء قصّة شعيب وأهل مدين، يُشير القرآن الكريم الى زاوية من قصّة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصّة هي القصّة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة.

تحدث القرآن الكريم عن قصّة موسى(عليه السلام) وفرعون وبني اسرائيل أكثر من مائة مرّة.

وخصوصية قصّة موسى(عليه السلام) بالنسبة لقصص الأنبياء ـ كشعيب وصالح وهود ولوط(عليهم السلام) التي قرأناها في ما سبق ـ هي أنّ أُولئك الأنبياء(عليهم السلام) واجهوا الأقوام الضالين، لكن موسى(عليه السلام) واجه إِضافة الى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبدّ

[52]

هو فرعون الجبار.

وأساساً فإنّ الاصلاح ينبغي أن يبدأ من الاصل والمنبع، وطالما هناك حكومات فاسدة فلن يُبصر أي مجتمع وجه السعادة، وعلى القادة الإِلهيين في مثل هذه المجتمعات أن يدمروا مراكز الفساد قبل كل شيء.

ولكن ينبغي الإِلتفات الى أنّنا نقرأ في هذا القسم من قصّة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنّها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعاً.

يقول القرآن الكريم أوّلا: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين).

«السلطان» بمعنى التسلّط، يستعمل تارةً في السلطة الظاهرية، وأحياناً في السلطة المنطقية، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقاً للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة أنّ «السلطان» استعمل في المعنى الثّاني، والمرادُ بـ «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة، وللمفسرين احتمالات أُخرى في هاتين الكلمتين.

وعلى كل حال فإنّ موسى أُرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي (إِلى فرعون وملإِيه).

وكما قلنا مراراً فإنّ كلمة «الملأ» تُطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون بالرّغم من خلوّ المحتوى الداخلي، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالباً على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة .. إِلاّ أنّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة .. لمنطقه الحق ومعجزاته (فاتبعوا أمر فرعون). ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس الى الحياة السعيدة أوضمان نجاتهم وتكاملهم:(وما أمر فرعون بِرشيد).

إِنّ هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة، فقد استفاد من كل أنواع السحر

[53]

والخداع والتآمر والقوى لتقدم أهدافه وتحريك الناس ضد موسى(عليه السلام)، ولم يترك في هذا السبيل أيّ نقطة نفسية بعيدة عن النظر، فتارةً كان يقول: إِنّ موسى (يريد أن يخرجكم من أرضكم).(1)

وأُخرى كان يقول: (إِنّي أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).(2) فيحرك مشاعرهم وأحاسيسهم المذهبيّة.

وأحياناً كان يتهم موسى، وأُخرى كان يهدّده، وأحياناً يبرز قوّته وشوكته بوجه الناس في مصر، أو يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يُرى فرعون هناك: (يقدم قومه يوم القيامة) وبدلا من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم الى جهنم (فأوردهم النّار وبئس الورد المورود) فبدلا من أن يسكَن عطش اتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلا من الإِرواء يزيدهم ظمأ الى ظمأ.

مع ملاحظة أنّ «الورود» في الأصل معناه التحرّك نحو الماء والإِقتراب منه، ولكن الكلمة أُطلقت لتشمل الدخول على كل شيء وتوسّع مفهومها.

و«الورد» هو الماء يرده الإِنسان، وقد يأتي بمعنى الورود أيضاً. و«المورود» هو الماء الذي يورد عليه، فـ «هم» اسم مفعول، فعلى هذا يكون معنى الجملة بئس الورد والمورود(3) على النحو التالي: النّار بئس ماؤها ماءً حين يورد عليه.

ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ العالم بعد الموت ـ كما قلنا سابقاً ـ


1 ـ الأعراف، 110.

2 ـ غافر، 22.

3 ـ هذا الجملة من حيث التركيب النحوي يكون إِعرابها كالتالي: «بئس» من أفعال الذم، وفاعله «الورد» و«المورود» صفة، والمخصوص بالذم «النار» التي حذفت من الجملة، واحتمل البعض أنّ المخصوص بالذم هو كلمة «المورود» فعلى هذا لم يحذف من الجملة شيء، إِلاّ أنّ الأوّل أقوى كما يبدو.

[54]

عالم «تتجسم فيه أعمالنا وأفعالنا» الدنيوية بمقياس واسع، فالشقاء والسعادة في ذلك العالم نتيجة أعمالنا في هذه الدنيا، فالاشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا قادة الصلاح يقودون الناس الى الجنّة والسعادة في ذلك العالم، والذين كانوا قادة للظالمين والضالين وأهل النّار يسوقونهم الى جهنم يتقدمونهم هناك!

ثمّ يقول القرآن: (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة). فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ أبداً على أنّهم قوم ضالون وجبابرة، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النّار لهم عطاء وجزاءً (وبئس الرفد المرفود)(1).

و«الرفد» في الأصل معناه الإِعانة على القيام بعمل معين، وإِذا أرادوا أن يسندوا شيئاً الى شيء آخر عبروا عن ذلك بالرفد، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لأنّه إِعانة من قِبَل المُعطي إلى المُطعى له!

* * *


1 ـ إعراب هذه الجملة كإعراب أُختها السابقة.

[55]

الآيات

ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَىْء لَّـمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَازَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاَْخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ(103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَل مَّعْدُود(104)

التّفسير

في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تأريخ أنبيائهم، وكل واحد منهم يكشف للإِنسان قسماً جديراً بالنظر من حياته المليئة بالحوادث ويحمل بين جنبيه دروساً من العبرة للإِنسان.

وهنا إِشارة الى جميع تلك القصص، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد).

[56]

وكلمة «قائم» تشير الى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين، كأرض مصر التي كانت مكان الفراعنة ولا تزال آثار أُولئك الظالمين باقية بعد الغرق، فالحدائق والبساتين وكثير من العمارات المذهلة قائمة بعدهم.

وكلمة «حصيد» معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل، وفي هذه الكلمة إِشارة الى بعض الأراضي البائرة، كأرض قوم نوح وأرض قوم لوط، حيث أنّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية أُمطرت بالحجارة.

(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) حيث ركنوا ولجأوا الى الأصنام والآلـهة «المزعومة» (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله لما جاء أمر ربّك) بل زادوهم ضرراً وخسراناً (وما زادوهم غير تتبيب)(1).

(وكذلك أخذ ربّك إِذ أخذ القرى وهي ظالمة) فلا يدعها على حالها و(إِنّ أخذه أليم شديد).

هذا قانون إِلـهي عام ومنهج دائم، فما من قوم أو أُمّة من الناس يتجاوزون حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم، إِلاّ أخذهم الله أخذاً شديداً واعتصرتهم قبضة العذاب.

هذه الحقيقة تؤكّد أنّ المنهاج السابق منهاج عمومي وسنّة دائمة، وتستفاد من آيات القرآن بصورة جيدة، وهي في الواقع إِنذار لأهل العالم جميعاً: أن لا تظنوا أنّكم مستثنون من هذا القانون، أو أنّ هذا الحكم مخصوص بالأقوام السابقين.

والطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب، ووصُفت القرية أو المدينةُ بأنّها «ظالمة» مع أنّ الوصف ينبغي أن يكون لساكنيها، فكأنما هناك مسألة دقيقة وهي أنّ أهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم الى درجة حتى كأنّ المدينة لها أصبحت مغموسة في الظلم أيضاً.


1 ـ «التتبيب» مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الإِستمرار في الضرر، وقد يأتي بمعنى الهلاك أيضاً.

[57]

وحيث أنّ هذا قانون كلّي وعام فإنّ القرآن يقول مباشرةً (إِنّ في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة).

لانّ الدنيا لا تعدُّ شيئاً إِزاء الآخرة، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا. فالمؤمنين بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المُثُل والنماذج في الدنيا، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية إِشارة الى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).

هي إِشارة الى أنّ القوانين والسنن الإِلهية كما هي عامّة في هذا العالم، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الإِلهية أيضاً عام، وسيكون في زمان واحد ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلّهم ويرونه.

من الطريف هنا أنّ الآية تقول (ذلك يوم مجموع له الناس) ولم تقل «مجموع فيه الناس» وهذا التعبير إِشارة الى أنّ يوم القيامة ليس ظرفاً لإِجتماع الناس فحسب، بل هو هدف يمضي إِليه الناس في مسيرهم التكاملي.

ونقرأ في الآية (9) من سورة التغابن (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يومُ التغابن).

وبما أنّ البعض قد يتوهم أنّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة: (وما نؤخره إِلاّ لأجل معدود).

وذلك أيضاً لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الإِختبار والتعلم، وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم أن يستوعبها ثمّ تكون النهاية.

والتعبير بكلمة «معدود» إِشارة الى قُرب يوم القيامة، لأنّ كل شيء يقع تحت

[58]

العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

والخلاصة أنّ تأخير ذلك اليوم لا ينبغي أن يغترّ به الظالمون، لأنّ يوم القيامة وإِن تأخر فهو آت لا محالة، وإنّ التعبير بتأخره أيضاً غير صحيح.

* * *

[59]

الآيات

يَوْمَ يَأْتِ لاَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ(105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ(106) خَـلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَـلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَاشَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذ(108)

التّفسير

السّعادة الشّقاوة:

أشير في الآيات المتقدّمة الى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة ... وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم، إِذ تقول الآيات أوّلا: (يوم يأتي لا تكلّم نفسٌ إِلاّ بإذنه).

قد يُتصور أحياناً أنّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقاً، كالآية (65) من سورة يس

[60]

(اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)، وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرأ: (هذا يوم لا ينطقون).

ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار: إِنّ التكلم هناك «يوم القيامة» لا مفهوم له أساساً. لأنّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم، ولو كان لدينا إِحساس نستطيع أن نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة الى التكلم أبداً.

فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف «يوم القيامة» على حالة «الظهور والبروز» فلا معنى للتكلم أصلا.

وببيان آخر: إِنّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل، وعلى هذا فلا معنى هناك لإِختيار الإِنسان وتكلمه حسب رغبته وإِرادته، بل هو الإِنسان وعمله وما يتعلق به، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الإِنعكاس عن أعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. أي أنّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإِنسان على حسب ميله أن يتكلم صادقاً أو كاذباً.

وعلى كل حال فإِنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب الى الشهود، ولا شبه له بهذه الدنيا.

ولكن هذا الإِستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأُخرى في القرآن، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم، والشيطان والمنخدعين به، وأهل النّار وأهل الجنّة، بحيث يدل على أنّ هناك كلاماً كالكلام في هذه الدنيا أيضاً.

حتى أنّ بعض الآيات يستفاد منها أنّ قسماً من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الأسئلة، كما هو مذكور في سورة الأنعام الآيات (22) الى (24) حيث تقول الآيات (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم

[61]

الذين كنتم تزعمون * ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون).