ومرّةً يعتبر فرعون من المفسدين، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).(5)

وقد إستعمل «الفساد في الأرض» تعبيراً عن السرقة كما في قصّة يوسف (عليه السلام)(تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنّا سارقين).(6)

ومرّة أُخرى كناية عن قلّة البيع، كما في قصّة شعيب حيث نقرأ قوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).(7)

وأخيراً إستخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن إضطراب النظام الكوني (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).(8)

نستفيد من مجموع هذه الآيات أنّ الفساد ـ بشكل عامّ ـ أو الفساد في الأرض، له معنىً واسع جدّاً، بحيث يشمل أكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر


1 ـ المائدة، 33.

2 ـ البقرة، 205.

3 ـ البقرة، 27.

4 ـ القصص، 83.

5 ـ يونس، 91.

6 ـ يوسف، 73.

7 ـ هود، 85.

8 ـ الأنبياء، 22.

[401]

الطواغيت، كما يشمل الأعمال الأقل إجراماً منها مثل بخس الناس أشياءهم، ويشمل كذلك أي خروج عن حالة الإعتدال كما أشرنا إليه سابقاً. وبالنظر إلى أنّ العقوبة يجب أن تكون مطابقة للجريمة يتّضح لنا أنّ كلّ مجموعة من هؤلاء المفسدين لها عقوبة معيّنة وجزاء خاص.

ونرى في الآية (33) من سورة المائدة التي ذكرت «الفساد في الأرض مع محاربة الله ورسوله» أنّ هناك أربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي أن يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل ـ الصلب ـ قطع الأيدي والأرجل ـ النفي) كما بيّن فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض وعقوباته(1).

ولأجل أن نجتثّ هذه المفاسد، يجب أن نستخدم الوسائل الكافية في كلّ مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأُولى نستخدم اُسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير، ولكن إذا ما إستوجب الأمر نستعمل الشدّة حتّى لو أدّى ذلك إلى القتال.

وبالإضافة إلى ما أشرنا إليه، فإنّ الجملة (ويفسدون في الأرض) ترشدنا إلى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الإنساني، وهي أنّ الفساد الإجتماعي لا يبقى في مكان معيّن ولا يمكن حصره في منطقة معيّنة، بل ينتشر بين أوساط المجتمع وفي كافّة بقاع الأرض ويسري من مجموعة إلى أُخرى.

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ واحدةً من أهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرأ في سورة هود الآية (88) قول النّبي شعيب (عليه السلام) (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت).


1 ـ ونحن أشرنا إليه بشكل مفصّل في ذيل الآية (33) من سورة المائدة.

[402]

2 ـ الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن ...!

لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أنّ الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله، بل نستفيد من آيات اُخر أنّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن يشاء، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية البيت حتّى يبعث الله لهم الرزق، إن هؤلاء الأفراد ـ الذين يُعتبر تفكيرهم السلبي ذريعة لمن يقول بأنّ الدين أفيون الشعوب ـ قد غفلوا عن نقطتين أساسيتين هما:

أوّلا: إنّ الإرادة والمشيئة الإلهيّة التي أشارت إليها الآيات القرآنية ليست مسألة إعتباطية وغير محسوبة، بل ـ وكما قلنا سابقاً ـ إنّ المشيئة الإلهيّة غير منفصلة عن حكمته جلّ وعلا وتدخل فيها الإستعدادات والتوفيقات.

ثانياً: إنّ هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب، لأنّ عالم الأسباب هو عالم الوجود، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعيّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ إرادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط تتحكّم في حياة الناس، فالسعي والإخلاص والإيثار، وبعكس ذلك الكسل والبخل وسوء النيّة، لها دور فعّال وكبير، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير مراراً إلى أنّ الإنسان رهين بسعيه وإرادته وعمله، وما يستفيده من حياته إنّما هو بمقدار هذا السعي والإجتهاد (ليس للإنسان إلاّ ما سعى).

ولهذا فإنّ هناك باباً في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدّثون في موسوعاتهم الحديثة «كوسائل الشيعة» في باب التجارة، ويوردون أحاديث كثيرة في هذا المجال، كما أنّ هناك أبواباً أُخرى تذمّ البطالة والكسل، ومن جملتها الحديث المرويّ عن الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: «إنّ الأشياء لمّا إزدوجت إزدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) «لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا


1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 12، صفحة 37.

[403]

يركضون فيها ويطلبونها»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إنّي لأبغض الرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) «إنّ الله تعالى ليبغض العبد النوّام، إنّ الله ليبغض العبد الفارغ»(3).

* * *


1 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

2 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 38.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

[404]

الآيات

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب(29)

التّفسير

ألا بذكر الله تطمنّ القلوب:

في سورة الرعد ـ كما أشرنا سابقاً ـ بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوّة، فالآية الأُولى من هذه المجموعة تبحث مرّةً أُخرى في دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن واحداً من أعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا اُنزل عليه آية من ربّه).

جملة «يقول» فعل مضارع للدلالة على أنّ هذا العذر كان يجري على ألسنتهم كثيراً، رغم ما يرونه من معجزات الرّسول (فعلى كلّ نبي أن يظهر المعجزة كدليل على صدقه) ومع ذلك كانوا يحتجّون عليه ولا يؤمنون بالمعاجز

[405]

السابقة، ويطلبون منه معاجز جديدة تلائم أفكارهم.

وبعبارة أُخرى إنّ هؤلاء وجميع المنكرين لدعوة الحقّ كانوا دائماً يطلبون «المعاجز الإقتراحية»، ويتوقّعون من النّبي أن يجلس في زاوية الدار ويُظهر لكلّ واحد منهم المعجزة التي يقترحها، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها!.

في الوقت الذي نرى فيه أنّ الوظيفة الرئيسيّة للأنبياء هي التبليغ والإرشاد والإنذار وهداية الناس، وأمّا المعجزة فهي أمرٌ إستثنائي وتكون بأمر من الله لا من الرّسول، ولكن نحن نقرأ في كثير من الآيات القرآنية أنّ هذه المجموعة المعاندة لا تأخذ هذه الحقيقة بنظر الإعتبار، وكانت تؤذي الأنبياء دائماً بهذه الطلبات. ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول: (قل إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب).

وهذه إشارة إلى أنّ العيب ليس من ناحية الإعجاز، لأنّ الأنبياء قد أظهروا كثيراً من المعاجز، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصّب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الإيمان.

ولأجل ذلك يجب أن ترجعوا إلى الله وتنيبوا إليه وترفعوا عن عيونكم وأفكاركم ستار الجهل والغرور كي يتّضح لكم نور الحقّ المبين.

تُشير الآية الثانية بشكل رائع إلى تفسير (من أناب) حيث يقول تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله). ثمّ يذكر القاعدة العامّة والأصل الثابت حيث يقول تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

وتبحث الآية الأخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب).

كثير من المفسّرين قالوا: إنّ كلمة «طوبى» مؤنّث «أطيب»، وبما أنّ المتعلّق محذوف فإنّ للكلمة مفهوماً واسعاً وغير محدود، ونتيجة طوبى لهم هو أن تكون لهم أفضل الأشياء: أفضل الحياة والمعيشة، وأفضل النعم والراحة، وأفضل

[406]

الألطاف الإلهيّة، وكلّ ذلك نتيجة الإيمان والعمل الصالح لاُولئك الراسخين في عقيدتهم والمخلصين في عملهم.

وما ذكره جمع من المفسّرين في معنى هذه الكلمة وأوصلها صاحب مجمع البيان إلى عشرة معاني، فانّها في الحقيقة تصبّ كلّها في هذا المعنى الواسع والشامل الذي ذكرناه.

ونقرأ في روايات متعدّدة أنّ «طوبى» شجرة أصلها في بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام علي (عليه السلام) في الجنّة، وتنتشر أغصانها على رؤوس جميع المؤمنين وعلى دورهم، ولعلّ هذا تجسيماً لقيادتهم وإمامتهم والصلات القويّة التي تربط بين هولاء القادة وأصحابهم، وتكون ثمرتها كلّ هذه النعم المختلفة.

(وإذا ما رأينا أنّ طوبى جاءت مؤنثّة لأطيب الذي هو مذكّر، فإنّ ذلك بسبب أنّها صفة للحياة والمعيشة أو النعمة وكلّ هذه مؤنثة).

* * *

بحوث

1 ـ كيف يطمئن القلب بذكر الله؟

إنّ الإضطراب والقلق من أكبر المصاعب في حياة الناس، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان، والإطمئنان واحد من أهمّ إهتمامات البشر، وإذا حاولنا أن نجمع سعي وجهاد الإنسانية على طول التأريخ في بحثهم للحصول على الإطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة، فسوف تتكوّن لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

يقول بعض العلماء: عند ظهور بعض الأمراض المُعدية ـ كالطاعون ـ فإنّ من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهراً ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف، وعدّة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل

[407]

عام «الإطمئنان» و «الإضطراب» لهما دور مهمّ في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها، ولهذا السبب أُلّفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلّص منه، وكيفيّة الحصول على الراحة، والتاريخ الإنساني مليء بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة، وكيف أنّ الإنسان يتشبّث بكلّ وسيلة غير مشروعة كأنواع الإعتياد على المواد المخدّرة لنيل الإطمئنان النفسي.

ولكن القرآن الكريم يبيّن أقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنّها كبيرة المعنى حيث يقول: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)!

ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والإضطراب لابدّ من ملاحظة ما يلي:

أوّلا: يحدث الإضطراب مرّةً بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم، فيحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض، فكلّ هذه تؤلم الإنسان، لكن الإيمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، الله الذي تكفّل برحمة عباده .. هذا الإيمان يستطيع أن يمحو آثار القلق والإضطراب ويمنحه الإطمئنان في مقابل هذه الأحداث ويؤكّد له أنّك لست وحيداً، بل لك ربّ قادر رحيم.

ثانياً: ومرّةً يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقاً بسبب الذنوب التي إرتكبها وبسبب التقصير والزلاّت، ولكن بالنظر إلى أنّ الله غفّار الذنوب وقابل التوبة وغفور رحيم، فإنّ هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله أكثر إطمئناناً وتقول له: إعتذر إلى الله من سوالف أعمالك السيّئة واتّجه إليه بالنيّة الصادقة.

ثالثاً: ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعيّة، أو مقابل كثرة الأعداء يؤكّد في نفسه حالة القلق وأنّه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد أو في

[408]

الميادين الأُخرى؟

ولكنّه إذا تذكّر الله، وإستند إلى قدرته ورحمته .. هذه القدرة المطلقة التي لا يمكن أن تقف أمامها أيّة قدرة أُخرى، سوف يطمئنّ قلبه، ويقول في نفسه: نعم إنّني لست وحيداً، بل في ظلّ القدرة الإلهيّة المطلقة!

فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال، في الماضي أو الحاضر، وشجاعتهم النادرة حتّى في المنازلة الفردية لهم، كلّها تبيّن حالة الإطمئنان التي تنشأ في ظلّ الإيمان.

نحن نشاهد أو نسمع أنّ أحد الضبّاط المؤمنين فقد بصره مثلا أو أصابته جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع أعداء الإسلام ولكن عندما يتحدّث كأنّه لم يكن به شيء، وهذه نتيجة الإستقرار والطمأنينة في ظلّ الإيمان بالله.

رابعاً: ومن جانب آخر يمكن أن يكون أصل المشقّة هي التي تؤذي الإنسان، كالإحساس بتفاهة الحياة أو اللاهدفية في الحياة، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد أنّ الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادّي، ويرى أنّ كلّ الحوادث تصبّ في هذا الإطار، سوف لا يحسّ باللاهدفيّة ولا يضطرب في المسيرة.

خامساً: ومن العوامل الأُخرى أنّ الإنسان مرّةً يتحمّل كثيراً من المتاعب للوصول إلى الهدف، ولكن لا يرى من يُقيّم أعماله ويشكر له هذا السعي، وهذه العملية تؤلمه كثيراً فيعيش حالة من الإضطراب والقلق، وأمّا إذا علم أنّ هناك من يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه، فليس للإضطراب والقلق هنا محل من الإعراب.

سادساً: سوء الظنّ عامل آخر من عوامل الإضطراب والذي يصبّ كثيراً من الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهمّ، ولكنّ الإيمان بالله ولُطفه المطلق وحُسن الظنّ به التي هي من وظائف الفرد المؤمن سوف تزيل عنه حالة العذاب

[409]

والقلق وتحلّ محلّها حالة الإطمئنان والإستقرار.

سابعاً: الهوى وحبّ الدنيا من أهمّ عوامل القلق والإضطراب، وقد تصل الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس، أو أي شيء آخر من مظاهر الحياة البرّاقة أن يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر أيّاماً وشهوراً.

ولكن الإيمان بالله وإلتزام المؤمن بالزهد والإقتصاد وعدم الإستئسار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها البرّاقة ينهي حالة الإضطراب هذه، وكما قال الإمام علي (عليه السلام): «دُنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فمّ جرادة تقضمها» فمن كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن أن تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة لعدم الحصول على شيء من وسائل الحياة الماديّة أو فقدانها؟!

ثامناً: من العوامل المهمّة الأُخرى الخوف من الموت، وبما أنّ الموت لا يحصل فقط في السنّ المتأخّرة، بل في كافّة السنين وخصوصاً أثناء المرض والحروب، والعوامل الأُخرى فالقلق يستوعب كافّة الأفراد. ولكن إذا إعتقدنا أنّ الموت يعني الفناء ونهاية كلّ شيء (كما يعتقده المادّيون) فإنّ الإضطراب والقلق في محلّه، ولابدّ أن يخاف الإنسان من هذا الموت الذي يُنهي عنده كلّ الآمال والأماني والطموحات. ولكن الإيمان بالله يمنحنا الثقة بأنّ الموت هو باب لحياة أوسع وأفضل من هذه الحياة، وبرزخ يمرّ منه الإنسان إلى دار فضاؤها رحب، فلا معنى للقلق حينئذ، بل إنّ مثل هذا الموت ـ إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوباً ومطلوباً.

إنّ عوامل الإضطراب لا تنحصر بهذه العوامل، فهناك عوامل كثيرة أُخرى، ولكن كلّ مصادرها تعود إلى ما ذكرناه أعلاه.

وعندما رأينا أنّ كلّ هذه العوامل تذوب وتضمحلّ في مقابل الإيمان بالله سوف نصدّق أنّه (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب)(1).


1 ـ للإستفادة أكثر راجع كتاب (طرق التغلّب على الإضطراب والقلق).

[410]

2 ـ الطمأنينة والخوف من الله

طرح بعض المفسّرين هنا هذا السؤال، وخلاصته: نحن قرأنا في الآية أعلاه (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ومن جانب آخر فإنّ الآية 2 من سورة الأنفال تقول: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فهل إنّ هاتين الآيتين متناقضتين؟

الجواب: إنّ الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي تقلق الإنسان ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ ولكن المؤمنين لابدّ وأن يكونوا قلقين في مقابل مسؤولياتهم، وبعبارة أُخرى: إنّ المؤمنين لا يشكون من الإضطراب المدمّر الذي يشكّل غالبية أشكال القلق والإضطرابات، ولكن القلق البنّاء الذي يحسّ به الإنسان تجاه مسؤولياته أمام الله فهو المطلوب ولابدّ منه، وهذا هو الخوف من الله(1).

3 ـ ما هو ذكر الله، وكيف يتمّ؟

«الذكر» كما يقول الراغب في مفرداته: حفظ المعاني والعلوم، ويُستعمل الحفظ للبدء به، بينما الذكر للإستمرار فيه، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشيء باللسان أو القلب، لذلك قالوا: إنّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكلّ واحد منها على نوعين: بعد النسيان أو بدونه.

وعلى أيّة حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره، بل المقصود هو التوجّه القلبي له وإدراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر، وهذا التوجّه هو مبدأ الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير، وهو سدّ منيع عن الذنوب، فهذا هو الذكر الذي له كلّ هذه الآثار والبركات كما أشارت إليه عدّة من الرّوايات .


1 ـ وقد أشرنا إلى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (2) من سورة الأنفال.

[411]

فمن وصايا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) يقول له: «ياعلي، ثلاث لا تطيقها هذه الأُمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عزّوجلّ عنده وتركه»(1).

وقال الإمام علي (عليه السلام): «الذكر ذكران: ذكر الله عزّوجلّ عند المصيبة، وأفضل من ذلك ذكر الله عندما حرّم الله عليك فيكون حاجزاً»(2).

ولهذا السبب إعتبرت بعض الرّوايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب أصحابه يوماً فقال لهم: اتّخذوا جُنناً، فقالوا يارسول الله أمن عدو وقد أظلنا؟ قال: لا، ولكن من النار، قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر»(3).

وإذا ما رأينا أنّ بعض الرّوايات تتحدّث عن «ذكر الله» أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فذلك لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكّر الناس بالله تعالى، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) قال: «بمحمّد تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه».

* * *


1 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 484.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ المصدر السّابق.

[412]

الآيات

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَكَ فِي أُمَّة قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَايْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)

أسباب النّزول

قال بعض المفسّرين: إنّ الآية الأُولى نزلت في صلح الحديبيّة في السنة السادسة للهجرة، وذلك عندما أرادوا كتابة معاهدة الصلح، قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي

[413]

(عليه السلام): «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم ...» قال سهيل بن عمرو ومعه المشركون: نحن لا نعرف الرحمان! وإنّما هناك رحمان واحد في اليمامة «وكان قصدهم مسيلمة الكذّاب» بل اكتب «باسمك اللّهم» كما كانوا يكتبونه في الجاهلية، ثمّ قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): «اُكتب: هذا ما اتّفق عليه محمّد رسول الله ...» فقال المشركون: إذا كنت رسول الله فإنّه لظلمٌ كبير أن نقاتلك ونمنعك من الحجّ، ولكن اُكتب: هذا ما اتّفق عليه محمّد بن عبدالله!...

وفي هذه الأثناء غضب صحابة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: دعنا نقاتل هؤلاء المشركين، ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا، أُكتب كما يشاؤون» وفي هذه الأثناء نزلت الآية أعلاه، وهي توبّخ المشركين على عنادهم ومخالفتهم في اسم الرحمن الذي هو واحد من صفات الله جلّ وعلا.

هذا السبب في النّزول يمكن أن يكون صحيحاً في حالة إعتقادنا بأنّ السورة مدنيّة حتّى توافق حادثة صلح الحديبيّة، ولكنّ المشهور أنّها مكّية. إلاّ إذا إعتبرنا أنّ سبب النّزول هو ردّ على المشركين كما في الآية (60) من سورة الفرقان (اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن).

وعلى أيّة حال، وبغضّ النظر عن سبب النّزول، فإنّ الآية لها مفهوم واضح سوف نتطرّق إليه في تفسيرنا لها.

وقال بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الثّانية: إنّها جواب لمجموعة من مشركي مكّة، حيث كانوا جالسين خلف الكعبة وطلبوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاءهم(صلى الله عليه وآله وسلم)«على أمل هدايتهم» قالوا: إذا كُنت تحبّ أن نكون من أصحابك فأبعد هذه الجبال قليلا إلى الوراء حتّى تتّسع لنا الأرض! وشقّ الأرض لكي تتفجّر العيون والأنهار حتّى نغرس الأشجار ونقوم بالزراعة! ألم تعتقد بأنّك لا تقلّ عن داود الذي سخّر الله له الجبال تسبح معه؟ أو أنّ تسخّر لنا الريح حتّى نسافر عليها إلى الشام ونحلّ مشاكلنا التجارية وما نحتاج إليه ثمّ نعود في نفس

[414]

ذلك اليوم! كما كانت مسخّرة لسليمان (عليه السلام)، ألم تعتقد أنّك لا تقلّ عن سليمان، أو أحيي لنا جدّك «قُصي» أو أي واحد من موتانا كي نسأله هل أنّ ما تقوله حقّ أم باطل، أو ليس عيسى كان يحيي الموتى!

وفي هذه الأثناء نزلت الآية الثانية تذكرهم بأنّ كلّ ما يقولونه سببه الخصومة والعناد لا لكي يؤمنوا، وإلاّ فهناك معاجز كثيرة حصلت لهم.

التّفسير

لا أمل في إيمان أهل العناد:

تبحث هذه الآيات مرّةً ثانية مسألة النبوّة، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة وجواب القرآن عليهم فيقول الآية: كما أنّنا أرسلنا رسلا إلى الأقوام السالفة لهدايتهم: (كذلك أرسلناك في اُمّة قد خلت من قبلها اُمم) والهدف من ذلك (لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك). في الوقت الذي (وهم يكفرون بالرحمن) يكفرون بالله الذي عمّت رحمته كلّ مكان، وشمل فيضه المؤمن والكافر.

ثمّ قل لهم: إنّ الرحمن الذي عمّ فضله هو ربّي (قل هو ربّي لا إله إلاّ هو عليه توكّلت وإليه متاب).

ثمّ يجيب أُولئك الذين يتشبثّون دائماً بالحجج الواهية فيقول: لو أنّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن: (ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى). فمع ذلك لا يؤمنون به.

ولكنّ كلّ هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء (بل لله الأمر جميعاً). ولكنّكم لا تطلبون الحقّ، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لإيمانكم.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى

[415]

الناس جميعاً)(1) وهذه إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يجبر الناس وحتّى المعاندين على أن يؤمنوا، لأنّه القادر على كلّ شيء، ولكنّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّ هذا الإيمان الإجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.

ثمّ تضيف الآية (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل إبتلاءات مختلفة أو على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب إن لم تنزل في دارهم فهي (أو تحلّ قريباً من دارهم)لكي يعتبروا بها ويرجعوا إلى الله جلّ وعلا.

وهذا الإنذار مستمر (حتّى يأتي وعد الله).

وهذا الوعد الأخير قد يشير إلى الموت، أو إلى يوم القيامة، أو على قول البعض إلى فتح مكّة التي سحقت آخر معقل للعدو.

وعلى أيّة حال فالوعد الإلهي أكيد: (إنّ الله لا يخلف الميعاد).

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تخاطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول له: لست الوحيد من بين الأنبياء تعرّض لطلب المعاجز الإقتراحية والإستهزاء من الكفّار، بل (ولقد استهزيء برسل من قبلك). ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفّار فوراً، بل (فأمليت للذين كفروا) لكي يستيقظوا ويعودوا إلى طريق الحقّ، أو نلقي عليهم الحجّة الكافية على الأقل. لأنّ هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإنّ لطف الله وكرمه وحكمته لا تتأثّر بأفعال هؤلاء.


1 ـ «ييأس» مأخوذة من مادّة اليأس، ولكن يقول جمهور من المفسّرين: إنّها جاءت هنا بمعنى العلم، وأمّا ما يقوله البعض [طبقاً لما نقله الفخر الرازي] إن «يئست» لا تأتي بمعنى «علمت» إطلاقاً، ويرى الراغب في مفرداته أنّ اليأس هنا هو نفس معناه، ولكن يحتاج لتحقّقه إلى العلم بعدم تحقّق الموضوع، وعلى هذا يكون ثبوت يأسهم يتوقّف على علمهم وتكون نتيجته أنّ اليأس هنا ليس العلم بالوجود، بل العلم بالعدم، وهو مخالف لمفهوم الآية، وعلى ذلك فالحقّ ما قاله جمهور المفسّرين، وما ذكروه من شواهد في قول العرب على ذلك، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره أمثلة من هذه الشواهد [دقّقوا النظر].

[416]

وعلى أيّة حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب، بل (ثمّ أخذتهم فكيف كان عقاب) وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين أيضاً.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا التركيز على كلمة «الرحمان»؟

توضّح الآية أعلاه، وما ذكرناه في أسباب النّزول، أنّ كفّار قريش لم يوافقوا على وصف الله بالرحمن، وبما أنّ ذلك لم يكن سائداً لديهم، فانّهم كانوا يستهزئون به، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة تصرّ وتؤكّد على ذلك، لأنّ في هذه الكلمة لطفاً خاصّاً، ونحن نعلم أنّ صفة الرحمانية تعمّ وتشمل المؤمن والكافر، الصديق والعدو، في الوقت نفسه فانّ صفة الرحيم خاصّة بعباده المؤمنين.

فكيف لا تؤمنون بالله الذي هو أصل اللطف والكرم حتّى شمل أعداءه بلطفه ورحمته، فهذا منتهى الجهل.

2 ـ لماذا لم يستجب النّبي لمطاليبهم

ومرّة أُخرى نواجه هنا ما يقوله البعض من أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن لديه معجزة غير القرآن الكريم، ويستندون في ذلك إلى الآية أعلاه وأمثالها، لأنّ ظاهر هذه الآيات أنّ النّبي لم يستجب إلى طلبهم في إظهار المعاجز المختلفة من قبيل تسيير الجبال أو شقّ الأرض وإظهار العيون وإحياء الموتى والتكلّم معهم.

ولكن ـ كما قلنا مراراً ـ الإعجاز يتمّ لإظهار الحقيقة فقط، ولاُولئك الذين يطلبون الحقّ، فليس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل سحر حتّى يُنفّذ لهم كلّ ما يطلبونه منه أو

[417]

يقترحونه عليه ثمّ بعد ذلك لا يقبلون منه.

إنّ مثل هذا الطلب للمعاجز (المعاجز الإقتراحية) كان يصدر ـ فقط ـ من الأفراد المعاندين والجاهليين الذين لم يستجيبوا لأيّ حقّ. والآيات أعلاه تشير إلى ذلك بوضوح، ففي الآية الأخيرة تتحدّث عن إستهزائهم بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا يعني أنّهم لم يطلبوا المعجزة من أجل الحقّ، بل كان طلبهم إستهزاءً بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبالإضافة إلى ما ذكرناه من أسباب النّزول في بداية التّفسير لهذه الآيات، يمكن أن نستفيد من خلال طلبهم من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحياء واحد من أجدادهم لكي يسألوه: هل أنّ ما تقوله حقّ أم باطل؟

فلو إستجاب لهم النّبي هذا الطلب فما معنى سؤالهم أنّ النّبي على حقّ أم باطل؟ وهذا يوضّح أنّ هؤلاء هم أفراد متعصّبون ومعاندون وهدفهم ليس البحث عن الحقيقة، (ولنا توضيح آخر من هذا الموضوع في ذيل الآية 90 من سورة الإسراء).

3 ـ ما هي القارعة؟

«القارعة» مأخوذة من مادّة «قرع» بمعنى طرقَ، وعلى ذلك تكون القارعة بمعنى الطارقة، وتشير هنا إلى الأحداث التي تقرع الإنسان وتنذره وإذا كان مستعدّاً للنهوض أيقظته.

وفي الحقيقة إنّ للقارعة معنىً واسعاً، فهي تشمل كلّ مصيبة ومشكلة وحادثة تحيط بالإنسان.

ولذلك يعتقد بعض المفسّرين أنّها تعني الحروب والجفاف والقتل والأسر، ويرى آخرون أنّها تشير إلى الحروب التي كانت تقع في صدر الإسلام تحت

[418]

عنوان «السرية» التي لم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشترك فيها، بل كان يأمر أصحابه بها، ولكن معنى القارعة يشمل جميع هذه الأحداث.

ومن الطريف أنّ الآيات أعلاه تشير إلى أنّ الحوادث هذه إِمّا أن تنزّل عليهم أو تقع قريباً من دارهم، وهذا يعني: إذا لم تصيبهم هذه الحوادث في دارهم، فإنّها سوف تقع قريبة منهم، فهل لا تكفي هذه الحوادث لإيقاظهم؟

* * *

[419]

الآيتان

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاَْرْضِ أَم بِظَهِر مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاق (34)

التّفسير

كيف تجعلون الأصنام شركاء مع الله؟!

نعود مرّةً أُخرى في هذه الآيات إلى البحث حول التوحيد والشرك، وهي تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى: (أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت)(1) وهذه الجملة تريد أن تقول بوضوح إنّ الله سبحانه وتعالى وكأنّه واقف على رأس كلّ شخص ويعلم بما يفعلونه ويجازي عليه وبيده تدبير الأُمور، ولذلك فإنّ كلمة «قائم» لها معنىً واسع يشمل كلّ هذه الأُمور، مع أنّ


1 ـ الجملة أعلاه مبتدأ لخبر محذوف تقديره (أمّن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت كمن ليس كذلك).