المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتّضح علاقته في زيادة النعمة من أين؟ وكيف تستطيع أن تكون عاملا مهمّاً للتربية؟

إنّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) أو الشكر اللفظي، بل

[462]

هناك ثلاث مراحل للشكر:

الأُولى: يجب أن نعلم مَن هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والإيمان الركن الأوّل للشكر.

والثّانية: الشكر باللسان.

والثّالثة: وهي الأهمّ الشكر العملي، أي أن نعلم الهدف من منحنا للنعمة، وفي أيّ مورد نصرفها، وإلاّ كفرنا بها، كما قال العظماء: (الشكر صرف العبد جميع ما أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).

لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب غير أن نرى عظمته في هذا العالم، ونتعرّف على الحياة؟

وبهذه الوسائل نخطو إلى التكامل، ندرك الحقّ وندافع عنه ونحارب الباطل، فإذا صرفنا النعم الإلهيّة في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له، وإذا أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والإبتعاد عن الله فهذا هو عين الكفران!

يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أدنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّة يتعلّق القلب بها دون الله، والرضا بما أعطاه، وأنّ لا تعصيه بنعمة وتخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب من نعمته»(1).

وهنا يتّضح أنّ شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة، كلّ واحد منها من أي طريق يتمّ؟ وكيف يكون كفرانها؟

الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) دليل واضح على هذه التّفسيرات حيث يقول: «شكر النعمة إجتناب المحارم»(2).

وتتضّح أيضاً هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة، لأنّ الناس لو صرفوا


1 ـ سفينة البحار، المجلد الأوّل، 710.

2 ـ نور الثقلين، ج2، 529.

[463]

النعم الإلهيّة في هدفها الحقيقي، فسوف يثبتون عمليّاً إستحقاقهم لها وتكون سبباً في زيادة الفيوضات الإلهيّة عليهم.

من الثابت أنّ هناك نوعين من الشكر، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي). «الشكر التكويني» هو أن يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموّه ورشده، فمثلا يرى المزارع أنّ القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد، وكلّما يخدمها أكثر تنتج أكثر، فهذا الأمر سوف يؤدّي إلى أن يقوم المزارع على خدمة وتربية ذلك القسم بشكل أكبر، ويوصي مساعديه بها، لأنّ الأشجار تناديه بلسان حالها: أيّها المزارع، نحن لائقون مناسبون، أفض علينا من النعم، وهو يجيبهم بالإثبات.

أمّا إذا رأى في قسم آخر أشجاراً ذابلة ويابسة وليس لها ثمر، فكفران النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبّب عدم إعتناء المزارع بها، وإذا استمرّ الوضع بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.

وهذه الحالة موجودة في عالم الإنسانيّة بهذا التفاوت، وهو أنّ الأشجار ليس لها الإختيار، بل هي خاضعة للقوانين التكوينيّة، أمّا الإنسان فباستفادته في إرادته وإختياره وتربيته التشريعيّة يستطيع أن يخطو في هذا المجال خطوات واثقة.

ولذلك فمن يستخدم نعمة القوّة في الظلم، ينادي بلسان حاله: إلهي، أنا غير لائق لهذه النعمة، ومن يستخدمها لإقامة الحقّ والعدالة يقول بلسان حاله: إلهي، أنا مناسب ولائق فزد نعمتك عليّ!

وهناك حقيقة غير قابلة ـ أيضاً ـ للترديد، وهي أنّنا في كلّ مرحلة من مراحل الشكر الإلهي ـ إن كان باللسان أو العمل ـ سوف نحتاج إلى شكر جديد لمواهب وعطايا جديدة، ولذلك فلسنا قادرين أن نؤدّي حقّ الشكر، كما نقرأ في مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): «كيف لي بتحصيل

[464]

الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد»!

ولهذا فإنّ أعلى مراحل الشكر أن يُظهر الإنسان عجزه أمام شكر نعمائه تعالى، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «فيما أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى: اشكرني حقّ شكري، فقال: ياربّ، وكيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: ياموسى، الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»(1).

هناك عدّة نقاط في مجال شكر النعمة:

1 ـ قال الإمام علي (عليه السلام) في إحدى حكمه: «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(2).

2 ـ يجب الإلتفات إلى هذا الموضوع، وهو أنّ الشكر والحمد ليس كافياً في مقابل نعمائه تعالى، بل يجب أن نشكر ـ كذلك ـ الأشخاص الذين كانوا وسيلة لهذه المواهب ونؤدّي حقوقهم من هذا الطريق، ونشوّقهم أكثر بالخدمة في هذا السبيل، كما نقرأ في الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «وإنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك ياربّ، فيقول: لِمَ تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس»(3).

3 ـ إنّ الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط، بل الشكر نفسه مصحوباً بالتوجّه الخاص لله والحبّ لساحته المقدّسة هو واحد من النعم الإلهيّة الروحيّة الكبيرة، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس،


1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الرابع، صفحة 80 باب الشكر.

2 ـ نهج البلاغة الكلمات القصار، رقم 13.

3 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني ـ ص99 ـ ح30.

[465]

ودعوتهم لطاعة الأوامر الإلهيّة، بل الشكر ذاته طريق إلى معرفة الله، ولهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام أنّ وجوب شكر المنعم طريق إلى إثبات وجوب معرفة الله.

4 ـ إنّ إحياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه إلى مستحقّيه وتقديرهم وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الأهداف الإجتماعية بعلمهم ومعرفتهم وإيثارهم وإستشهادهم، هو عامل مهمّ في حركة ورُقيّ المجتمع.

ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدّاً ممّن يريد الخدمة، وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيّم ويثني على خدمات الأشخاص، يكون أكثر نشاطاً وحيوية.

والإلتفات إلى هذه الحقيقة أدّى إلى أن تقام في عصرنا مراسيم إحتفال لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية، أو الذكرى الألفية، وضمن هذا الشكر لخدماتهم يدعى الناس إلى الحركة والسعي بشكل أكبر.

إحياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين، فيرتفع المستوى الثقافي والأخلاقي لدى الناس، وبتعبير القرآن فإنّ شكر هذه النعمة سوف يبعث على الزيادة، ومن دم شهيد واحد يُبعث آلاف المجاهدين، ويكون مصداقاً حيّاً لـ(لأزيدنّكم).

* * *

[466]

الآيات

وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيُدونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَن مُّبِين (10)

التّفسير

أفي الله شكّ؟

الآية الأُولى من هذه المجموعة تؤيّد وتُكمل البحث السابق في الشكر

[467]

والكفران، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسى (عليه السلام) (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله لغني حميد)(1).

إنّ الشكر والإيمان بالله ـ في الواقع ـ سبب في زيادة النعم والتكامل الإنساني، وإلاّ فالله عزّوجلّ ليس بحاجة إلى أي شيء، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تَمسُّ كبرياءه بأدنى ضرر، لأنّه حميد في ذاته.

ولو كان محتاجاً لم يكن واجب الوجود، وعلى هذا فمفهوم الغني هو إشتماله لجميع الكمالات، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته، لأنّ «الحميد» من إستحقّ الحمد.

ثمّ يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات، الفئات التي كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الإلهيّة، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى: (ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم).

يمكن أن تكون هذه الجملة تعقيباً على كلام موسى، أو بيان مستقلّ يخاطب به المسلمين، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيراً، ثمّ يضيف تعالى: (قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) فهؤلاء لم يطّلع على أخبارهم إلاّ الله (لا يعلمهم إلاّ الله)(2).

ممّا لا شكّ فيه أنّ قسماً من أخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم قد وصلتنا، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها إلاّ الله، فتاريخ الأقوام الماضية مليءٌ بالأسرار والخصوصيّات بحيث لم يصل إلينا منها إلاّ القليل. ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول: (جاءتهم رسلهم بالبيّنات فردّوا أيديهم في أفواههم) أي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجّب والإنكار (وقالوا إنّا كفرنا


1 ـ «إن تكفروا» جملة شرطيّة تقديرها محذوف، وجملة «إنّ الله لغني حميد» تدلّ على ذلك وكان التقدير «إن تكفروا ... لا تضرّوا الله شيئاً».

2 ـ جملة (لا يعلمهم إلاّ الله) قد تكون معطوفة على ما قبلها والواو محذوفة، وقد تكون جملة وصفية للجملة السابقة.

[468]

بما اُرسلتم به). لماذا؟ بسبب (وإنّا لفي شكٍّ ممّا تدعوننا إليه مريب). ومعه كيف يمكننا أن نؤمن بما تدعونا إليه؟

ويرد هنا سؤال، وهو أنّهم أظهروا الكفر وعدم الإيمان بالرّسول في البداية، ولكن بعد ذلك أظهروا الشكّ والريب، فكيف ينطبق الإثنان؟

الجواب: إنّ بيان الشكّ والترديد ـ في الحقيقة ـ علّة لعدم الإيمان، لأنّ الإيمان بحاجة إلى اليقين، والشكّ مانع لذلك.

وبما أنّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفّار في عدم إيمانهم بسبب شكّهم وترديدهم، فالآية بعدها تنفي هذا الشكّ من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى: (قالت رسلهم أفي الله شكّ فاطر السّماوات والأرض).

مع أنّ «فاطر» من «فَطَر» وهي في الأصل بمعنى «شقّ» إلاّ أنّه هنا كناية عن «الخلق» فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثمّ يحفظها ويحميها، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل، وكما يتشقّق التمر من غلافه.

ولعلّ «فاطر» تشير إلى تشقّق المادّة الأوّلية للعالم. كما نقرأ في العلوم الحديثة إنّ مجموع مادّة العالم كانت واحدة مترابطة ثمّ إنشقّت إلى كُراة مختلفة.

وعلى أيّة حال، فالقرآن الكريم هنا ـ كما في أغلب الموارد الأُخرى ـ يستند لإثبات وجود الخالق وصفاته إلى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض، ونحن نعلم أنّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله، لأنّ هذا النظام العجيب مليء بالأسرار في كلّ زواياه، وينادي بلسان حاله: ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة إلاّ القادر الحكيم والعالم المطلق، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت أسرار تدلّ على الخالق أكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة.

وما أكثر العجائب في القرآن؟ فكلّ بحوث معرفة الله والتوحيد ـ والتي

[469]

وردت بصيغة الإستفهام الإنكاري ـ أشارت إليها هذه العبارة: (أفي الله شكّ فاطر السّماوات والأرض) وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسّع لا تكفيها آلاف الكتب.

إنّ مطالعتنا لأسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا إلى وجود الله فحسب، بل إلى صفاته الكمالية أيضاً كعلمه وقدرته وحكمته.

ثمّ يجيب القرآن الكريم على ثاني إعتراض للمخالفين، وهو إعتراضهم على مسألة الرسالة (لأنّ شكّهم كان في الله وفي دعوة الرّسول) ويقول إنّ من المسلّم أنّ الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد، بل أنّه بإرسال الرسل: (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم)(1).

وزيادة على ذلك فإنّه (ويؤخّركم إلى أجل مسمّى) كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.

إنّ غاية دعوة الأنبياء أمران: أحدهما غفران الذنوب، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الإنساني، والثّاني إستمرار الحياة إلى الوقت المعلوم، والإثنان علّة ومعلول، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.

ففي طول التاريخ اُبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى، وبتعبير القرآن لم يصلوا إلى (أجل مسمّىً).

روي في حديث جامع عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّن يعيش بالأعمال»(2).


1 ـ هناك جدل بين المفسّرين في معنى «من»، فقال بعضهم بالتبعيض، أي يغفر قسماً من ذنوبكم، وهذا الإحتمال ضعيف لأنّ الإيمان يؤدّي إلى غفران الذنوب كلّها (الإسلام يجب ما قبله) وإحتمل البعض الآخر أنّ «من» بدل، فيكون معنى الجملة يدعوكم ليغفر ذنوبكم بدل الإيمان، وقال آخرون: إنّ «من» هنا زائدة للتأكيد، ومعناه: إنّ الله تعالى يدعوكم للإيمان ليغفر لكم ذنوبكم، وهذا التّفسير نراه أقرب إلى الصحّة.

2 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، ص488.

[470]

وعن الإمام الصادق أيضاً: «إنّ الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيء أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1).

ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنياً ـ أنّ الإيمان بدعوة الأنبياء والعمل بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلّق، وتستمرّ حياة الإنسان إلى «أجل مسمّىً» (لأنّنا نعلم أنّ للإنسان نوعين من الآجال، أجل محتوم ويكون بإنتهاء الحياة في جسم الإنسان، وأجل معلّق ويكون بفناء الإنسان على أثر عوامل وموانع في وسط العمر، وهذا غالباً ما يكون بسبب اللامبالاة وإرتكاب الذنوب، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (2) من سورة الأنعام).

ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول: (قالوا إن أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا) علاوة على ذلك (تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا) وأكثر من ذلك (فأتونا بسلطان مبين).

وقد ذكرنا مراراً (كما صرّح القرآن بذلك) أنّ كون الأنبياء بشراً ليس مانعاً لنبوّتهم، بل هو مكمّل لها، ولكن أُولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لإنكار الرسالة، والهدف ـ غالباً ـ هو التبرير والعناد.

وكذلك الحال في الإستنان بسنّة الأجداد، فإنّها وبالنظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ معرفة الأجيال القادمة أكثر من الماضين، لا تعدو سوى خرافة وجهل.

ويتّضح من هنا أنّ طلبهم لم يكن لإقامة البرهان الواضح، بل لهروبهم من الحقيقة، لأنّ القرآن الكريم ـ كما قرأنا مراراً ـ أنّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع.

وعلى كلّ حال نقرأ في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.

* * *


1 ـ سفينة البحار، المجلد الأوّل، ص488.

[471]

الآيتان

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَن إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَينَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

التّفسير

التوكّل على الله وحده:

نقرأ في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين، وإعتراضهم على بشرية الرسل، فكان جوابهم: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكنّ الله يمنّ على من يشاء من عباده) يعني لو إفترضنا أنّ الله تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر، فهي لا تمتلك شيئاً لذاتها، فكلّ المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله، فالذي يستطيع أن يهب الملائكة هذا المقام قادر أن يعطيها للإنسان.

وبديهي أنّ هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب، وقد قلنا مراراً: إنّ

[472]

المشيئة الإلهيّة تُساير حكمته تعالى، فعندما نسمع قول القائل: «إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً ...» يكون المراد العبد المستعدّ لهذه الموهبة. ومن المعلوم أنّ مقام الرسالة موهبة إلهيّة، ونحن نرى أنّ الأنبياء بالإضافة إلى الرسالة الإلهيّة لهم إستعداد وأهلية لتحمّلها.

ثمّ يجيب على السؤال الثّالث دون أن يجيب على الثاني، وكأنّ الإعتراض الثّاني الذي هو الإستنان بسنّة الأجداد ليس له أي أهميّة وفارغ من المحتوى بحيث أنّ أيّ إنسان عاقل ـ بأقلّ تأمّل ـ يفهم جوابه، بالإضافة إلى أنّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات اُخر.

وجواب السؤال الثّالث هو أنّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الإقتراحية وكلّ ما سوّلت لكم أنفسكم، بل (ما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلاّ بإذن الله).

ومع ذلك فانّ كلّ نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون أن يطلبها الناس منه، وذلك لكي يثبت الأنبياء أحقّيتهم ولتكون المعاجز سنداً لصدقهم، مع أنّ مطالعة دعوتهم وحدها أكبر إعجاز لهم، ولكن المعترضين غالباً لم يصغوا لذلك، وهم يقترحون كلّ يوم شيئاً جديداً، فإن لم يستجب لهم الرّسول، يقيموا الدنيا ويقعدوها. ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون: (وعلى الله فليتوكّل المؤمنون).

وبعد ذلك إستدلّ الأنبياء على مسألة التوكّل حيث قالوا: (وما لنا ألاّ نتوكّل على الله وقد هدانا سبلنا) فالذي منحنا أفضل المواهب، يعني موهبة الهداية إلى طرق السعادة، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل أي هجوم أو مشكلة تعترضنا.

ثمّ أضافوا: إنّ ملاذنا هو الله، ملاذ لا يُقهر وهو فوق كلّ شيء: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا) وأخيراً أنهوا كلامهم بهذه الجملة: (وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون).

* * *

[473]

ملاحظات

1 ـ ما هو معنى التوكّل؟

قرأنا في الآية الأُولى (فليتوكّل المؤمنون) وفي الآية الثانية (فليتوكّل المتوكّلون) وكأنّ الجملة الثانية تشير إلى مرحلة أوسع وأعمّ من الجملة الأُولى، يعني أنّ توكّل المؤمنون ممّا لا شكّ فيه ـ لأنّ الإيمان بالله غير منفصل عن الإيمان بقدرته وحمايته والتوكّل عليه ـ بل حتّى غير المؤمنين ملجأهم إلى الله ولا يجدون سبيلا غيره، لأنّ غيره فاقد للأشياء، وكلّ ما في الوجود ملك لذاته المقدّسة، ولذلك يجب أن يجعلوه وليّاً لهم، ويطلبوا منه أن يهديهم توكّلهم هذا للإيمان بالله.

2 ـ المعاجز بيد اللّه تعالى

أجابت الآيات أعلاه ـ بشكل واضح ـ الأشخاص الذين كانوا ينكرون إعجاز الرسل. أو ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن، وتُعلّمنا هذه الآيات أنّ الرسل لم يقولوا أبداً: نحن لا نأتي بالمعاجز، بل إنّ الأوامر الإلهيّة كانت تمنعهم من ذلك، لأنّ الإعجاز بيده وفي إختياره، وكلّ ما يراه مصلحة يأمرنا به.

3 ـ ما هي حقيقة وفلسفة التوكّل؟

«التوكّل» في الأصل من «الوكالة» وكما قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك. ونحن نعلم أنّ الوكيل الصالح له أربع خصال رئيسيّة: العلم الكافي، والأمانة، والقدرة، والمبالغة في رعاية مصلحة موكّله. فإنتخاب الوكيل المحامي يتمّ في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه أن يدافع عنها، فيستفيد من مساعدة قوّة الآخرين في حلّ مشاكله.

وعلى ذلك فالتوكّل على الله يتمّ في حالة عدم إستطاعة الإنسان من حلّ

[474]

المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين، وأحياناً في الطرق المسدودة التي تواجهه في مسيرة أهدافه. ولذلك فهو يستند إلى الله جلّ وعلا ويستمر في سعيه، بل حتّى لو كان مستطيعاً في أداء أعماله، فيجب أن يعلم أنّ الله هو المؤثّر الأصلي، لأنّ الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكلّ القدرات.

والنقطة التي تقابل التوكّل على الله هي التوكّل على غيره، يعني الإتّكالية في الحياة والتبعية للآخرين، وعدم الإستقلاليّة، يقول علماء الأخلاق: التوكّل الثمرة المباشرة لتوحيد أفعال الله، لأنّه ـ وكما قلنا ـ من وجهة نظر المؤمن يرتبط كلّ ما في الكون بالنهاية بذات الله المقدّسة، ولذلك فالموحّد يرى أنّ جميع أسباب القدرة والنصر من عند الله.

فلسفة التوكّل

نستفيد ممّا ذكرناه أنّه:

أوّلا: إنّ الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكّله على الله الذي هو منبع جميع القدرات والإستطاعات.

ولهذا السبب فعندما إنهزم المسلمون في «اُحد» يقول تعالى: (الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).(1)

وهناك نماذج أُخرى للمقاومة والثبات في ظلّ التوكّل، ومن جملتها الآية 122 من آل عمران يقول تعالى: (إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما وعلى الله فليتوكّل المؤمنون).

وفي الآية (12) من سورة إبراهيم يقول تعالى: (ولنصبرنّ على ما آذيتمونا).


1 ـ آل عمران، 173.

[475]

وفي الآية (159) آل عمران (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله إنّ الله يحبّ المتوكّلين).

وكذلك يقول القرآن الكريم: (إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون).(1)

نستفيد من مجموع هذه الآيات أنّ القصد من التوكّل أن لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة، بل بتوكّله على قدرة الله المطلقة يرى نفسه فاتحاً ومنتصراً، وبهذا الترتيب فالتوكّل عامل من عوامل القوّة وإستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات. وإذا كان التوكّل يعني الجلوس في زاوية ووضع إحدى اليدين على الأُخرى، فلا معنى لأنّ يذكره القرآن بالنسبة للمجاهدين وأمثالهم.

وإذا إعتقد البعض أنّ التوكّل لا ينسجم مع التوجه إلى العلل والأسباب والعوامل الطبيعيّة، فهو في خطأ كبير، لأنّ فصل العوامل الطبيعيّة عن الإرادة الإلهيّة يعتبر شركاً بالله، أو ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟

نعم إذا إعتقدنا أنّ العوامل مستقلّة عن إرادته فهي لا تتناسب مع روح التوكّل. فهل من الصحيح أن نفسّر التوكّل بهذا التّفسير، مع أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو رأس المتوكّلين لم يغفل من إستخدام الخطط الصحيحة والإستفادة من الفرص المتاحة وأنواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق أهدافه، إنّ هذا يثبت أنّ التوكّل ليس له مفهوم سلبي.

ثانياً: إنّ التوكّل ينجّي الإنسان من التبعية التي هي أصل الذلّ والعبودية، ويمنحه الحرية والإعتماد على النفس.

«التوكّل» و «القناعة» لهما جذور مشتركة، وفلسفتهما متشابهة، وفي نفس الوقت متفاوتة، ولا بأس هنا أن نذكر عدّة روايات في مجال التوكّل وأصله


1 ـ النحل، 99.

[476]

وجذوره:

عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ الغنا والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(1) وقد عرّف الإمام التوكّل بأنّه موطن العزّة وعدم الحاجة للآخرين.

وعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سألت جبرئيل: ما هو التوكّل؟ قال: (العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وإستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل)(2).

وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): ما حدّ التوكّل؟ فقال: «أن لا تخاف مع الله أحداً»(3).

* * *


1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه حديث ـ 3.

2 ـ بحار الأنوار، ج15 القسم الثّاني في الأخلاق، ص14 الطبعة القديمة.

3 ـ سفينة البحار، المجلد الثّاني، ص682.

[477]

الآيات

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلَهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّلِمِينَ (13)وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاَْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّار عَنِيد (15) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَان وَمَا هُو بِمَيِّت وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)

التّفسير

خطط الجبّارين المعاندين ومصيرهم!

عندما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم، يتركون الإستدلال، ويلجأون إلى القوّة والعنف، ونقرأ هنا أنّ الأقوام الكافرة العنيدة عندما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما

[478]

في الأرض ملكهم، حتّى أنّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة، ولذلك يقولون «أرضنا». وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم أي حقّ فيها.

وقد يتوهّم البعض أنّ جملة (لتعودنّ في ملّتنا) إشارة إلى أنّ الأنبياء السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام، مع أنّ الحقيقة ليست كذلك، لأنّهم ـ وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتّى قبل نبوّتهم ـ فعقلهم ودرايتهم كان أكبر من أن يفعلوا هذا العمل غير الحكيم، فيسجدوا أمام الأحجار والأخشاب.

ويمكن أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ، فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنّهم من المشركين.

بالإضافة إلى أنّ الخطاب وإن كان موجّهاً للرسل، إلاّ أنّه في الواقع يشمل حتّى الأصحاب، ونعلم أنّهم كانوا مع المشركين من قبل، فنظر المشركين كان منصرفاً إلى الأصحاب فقط، وتعبير «لتعودنّ» من باب التغليب (يعني حكم الأكثرية يسري على العموم).

وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو أنّ «عود» إذا عدّيت بـ«إلى» يكون معناها الرجوع، وإذا عُدِيَت بـ«في» فتفيد تغيير الحال .. لذلك فمعنى الآية (لتعودنّ في ملّتنا) يكون مفهومها أن تغيّروا من حالكم وتدخلوا في ملّتنا، وقد إختار هذا المعنى العلاّمة الطباطبائي في الميزان، ولكن عند مراجعتنا لبعض الآيات ومنها (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها) تبيّن أن «عود» حتّى لو عُدّيت بـ«في» فمعناها الرجوع أيضاً (فتدبّر).

ثمّ يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء (فأوحى إليهم ربّهم لنهلكنّ الظالمين) فلا تخافوا من وعيدهم، ولا تُظهروا الضعف في إرادتكم.

وبما أنّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم، فإنّ الله في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء (ولنسكننكم الأرض من بعدهم) ولكن هذا النصر

[479]

والتوفيق لا يناله إلاّ (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) فلطفه ومنّه ليس بدون حساب ودليل، ولا يناله إلاّ من أحسّ بمسؤوليته في مقابل العدل الإلهي، لا الظالمين والمعاندين لطريق الحقّ.

وحين إنقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب، وأدّوا جميع وظائفهم في قومهم، فآمن منهم من آمن، وبقي على الكفر من بقي، وبلغ ظلم الظالمين مداه، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى (واستفتحوا...) وقد استجاب اللّه عزّوجلّ دعاء المجاهدين المخلصين(وخاب كلّ جبّار عنيد).

«خاب» من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.

و «جبّار» بمعنى المتكبّر هنا، ورد في الحديث أنّ امرأة جاءت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فأمرها بشيء، فلم تطعه فقال النّبي: دعوها فإنّها جبّارة(1).

وتطلق هذه الكلمة أحياناً على الله جلّ وعلا فتعطي معنىً آخر، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة إلى الإصلاح) أو بمعنى (المتسلّط على كلّ شيء)(2).

و «العنيد» في الأصل من «العَنَد» على وزن (رَنَد) بمعنى الإتّجاه، وجاءت هنا بمعنى الإنحراف عن طريق الحقّ.

ولذلك نقرأ في رواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «كلّ جبّار عنيد من أبى أن يقول لا إله إلاّ الله».(3)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «العنيد المعرض عن الحقّ».(4)

ومن الطريف أنّ «جبّار» تشير إلى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان، و «عنيد» تشير إلى آثار تلك الصفة في أفعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحقّ. ثمّ يُبيّن نتيجة عمل الجبّارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع:


1 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.

2 ـ للتوضيح أكثر راجع تفسير الآية (43) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.

3 ـ نور الثقلين، ج2، ص532.

4 ـ المصدر السابق.

[480]

1 ـ على أثر هذه الخيبة، أو أنّ مثل هذا الشخص: (من ورائه جهنّم).

مع أنّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل أمام، إلاّ أنّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.