![]() |
![]() |
![]() |
أن تنجوا أنفسكم من الهلاك.
الثّالث: لا يتخلف منكم أحد عن هذه القافلة الصغيرة.
الرّابع: إِنّ الأرض ستضطرب حال خروجكم وستبدأ مقدمات العذاب فاهربوا بسرعة ولا تلتفتوا إِلى الوراء ...
ولكن لا مانع من الجمع بين هذه الإِحتمالات كلها في الآية(1).
وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله ـ أي الملائكة ـ للوط(عليه السلام): إِنّ العذاب سينزل قومه صباحاً. ومع أوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء: (إِنّ موعدهم الصبح).
ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ الملائكة حين وعدوا لوطاً بنزول العذاب صباحاً، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه ممّا ساءَه، وجرح قلبه وملأه همّاً وغمّاً أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الإِسراع، ولكن الملائكة طمأنوه وسرّوا عنه بقولهم: (أليس الصبح بقريب).
وأخيراً دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النّبي(عليه السلام)، وكما يقول القرآن الكريم (فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود).
وكلمة «سجّيل» فارسية الأصل، وهي مركبة من «سنك» ومعناها الحجارة و«گِل» ومعناها الطين، فعلى هذا هي شيء صلباً كالحجارة ولا رخواً كالزهرة،
1 ـ في قوله (إِلاَّ امرأتك) هذا الإِستثناء من أي جملة هو؟ للمفسّرين احتمالان: «الأوّل» إنّه يعدّ استثناء من (لاَ يلتفت منكم أحد) ومفهومها أنّ لوطاً وأهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم أحد كما أمرهم الرسل، إِلا امرأة لوط فإنّها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم، وقفت لحظة ونظرت إِلى الوراء، وطبقاً لبعض الرّوايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقُتلت به. «الثاني» إنّه استثناء من جملة (فأسر بأهلك) فيكون معناها أنّ جميع أهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه، ولكن الإِحتمال الأوّل أنسَبُ.
وإِنّما هي برزخ «وسط» بينهما.
و«المنضود» من مادة «نضد» ومعناه كون الشيء مصفوفاً وموضوعاً بشكل متتابع ومتراكم، أي إِنّ هذا المطر كان متتابعاً سريعاً إِلى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».
ولكن هذه الأحجار ليست أحجاراً عادية، بل هي أحجار فيها علامات عندالله (مسوّمة عند ربّك).
ولا تتصوروا أنّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط، بل (وما هي من الظالمين ببعيد).
هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم، لعبوا بمصير أُمتهم كما هزئوا بالإِيمان والأخلاق الإِنسانيّة، وكلّما نصحهم نبيّهم باخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدّاً أنّهم أرادوا الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.
هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شيء يجب أن تنقلب مدينتهم عليهم، ولا يكفي أن يغدو عليها سافلها، بل ليُمطروا بوابل من الأحجار تدمّر كل شيء من «معالم الحياة» هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت ركام الأحجار الصغيرة.
وهل أنّ الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعاً لا. فكل جماعة منحرفة وأُمّة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير، فتارة تكون تحت وابل الأحجار، وأُخرى تحت ضربات القنابل المحرقة، وحيناً تحت ضغط الإِختلافات الإِجتماعية القاتلة، وأخيراً فإنّ لكلٍّ شكلا من العذاب وصورة معينة.
* * *
ملاحظة الآيات المتقدمة تثير في ذهن القارىء هذا السؤال، وهو أيّ أثر للصبح في هذا الأمر، ولِمَ لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!
ترى هل كان ذلك لأنّ الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا إِلى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم، فحينئذ فكر أُولئك بما حدث! وإِنّ الله أمهلهم إِلى الصباح لعلهم ينتبهون ويتوبون؟
أو أنّ الله لم يرد الاغارة عليهم في الليل، ولذلك فقد أمر الملائكة أن ينتظروا حتى يحين الصباح؟!
لم يرد في كتب التّفسير شيء من هذا، ولكنّ ما ذكرناه آنفاً احتمالات تستحق المطالعة.
قلنا: إِنّ العذاب ينبغي أن يتناسب مع الإِثم، وحيث أنّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الإِنحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها أيضاً، وحيث كانوا دائماً يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم، فإنّ الله امطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم أيضاً.
وهل كان إِمطارهم بالأحجار الصغيرة قبل انقلاب المدن، أو كان مقترناً ومتزامناً معها، أو بعدها؟!
هناك أقوال بين المفسّرين، والآيات القرآنية لم تصرّح بشيء في هذا الشأن أيضاً، لأنّ الجملة عُطفت بالواو، وهي لمطلق العطف ولا يستفاد منها الترتيب.
ولكن بعض المفسّرين ـ كصاحب المنار ـ يعتقد أنّ مطر الاحجار إِمّا أن يكون قبل أن يقلب عاليها سافلها، أو مقترن مع القلب، وذلك لينال بعض الافراد الذين التجأوا إِلى زاوية أو معزل ولم يدفنوا تحت الأنقاض جزاءهم العادل ولا تبقى لهم فرصة للهروب.
والرّواية التي تقول: إِنّ أمرأة لوط حين سمعت الصوت والتفتت لترى ما حدث أصابها حجر في الحال فقتلها، هذه الرّواية تدل على أنّ الأمرين «القلب ووابل المطر» حدثا مقترنين.
ولكن لو تجاوزنا عن ذلك فما يمنع أن يكون وابل الأحجار ـ لتشديد العذاب ـ بعد قلب المدن عاليها سافلها، لتتوارى أرضهم وتنمحى آثارها تماماً.
قلنا: إِنّ جملة (مسوّمة عند ربّك) تفهمنا هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ هذه الأحجار كانت ذوات علائم خاصّة ومميّزة عند الله سبحانه ... ولكن كيف كانت علاماتها؟ هناك أقوال بين المفسّرين ... فقال بعضهم: كان في هذه الأحجار علامات تدل على أنّها ليست كسائر الأحجار «العادية» بل هي خاصّة لنزول العذاب الإِلهي لئلا تختلط مع سقوط الأحجار الأُخرى، ولذا قال آخرون: إِنّ هذه الأحجار لم يكن لها شبه مع أحجار الأرض بل تدل مشاهدة وضعها على أنّها أحجار سماويّة نزلت إِلى الكرة الأرضية من خارجها.
وقال آخرون: هي علامات في علم الله، إِنّ كل حجر منها يصيب شخصاً بعلامته أو يستهدف نقطة معينة، وهي إِشارة إِلى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه بحيث يعلم أيَّ شخص يصيبه أي حجر! وليس المسألة اعتباطيّة.
يُعدّ الميل الجنسي إِلى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال أو بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإِسلام، وقد جعل الإِسلام لكل من الحالتين حداً شرعياً.
فالحدّ الشرعي في «اللواط» هو القتل فاعلا كان الرجل أم مفعولا. وهناك طرق مبيّنة لهذا القتل في الفقه الإِسلامي، ويجب أن يعوّل على طرق معتبرة وقطعية لإِثبات هذا الذنب وردت في الفقه الاسلامي وروايات المعصومين في هذا المجال. فلا يكفي لإِقامة الحد الشرعي ـ وهو القتل هنا ـ حتى إقرار المذنب على نفسه ثلاث مرات، بل يجب أن يقرّ على نفسه أربع مرات على الأقل.
وأمّا الحدّ على المرأة في عملية المساحقة فيكون بعد الإِقرار بالذنب على نفسها أربع مرات، أو شهادة أربعة شهود «وبالشرائط المذكورة في الفقه» مئة جلدة، وقال بعض الفقهاء، إِذا كانت المرأة التي تقوم بهذا العمل الشنيع ذات بعل فحدّها القتل.
وإِقامة هذه الحدود لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه الإِسلامي.
والرّوايات التي تذم الميل الجنسي إلى المماثل والمنقولة عن قادة الإِسلام كثيرة ومذهلة والمطالع لهذه الرّوايات يحسُّ أنّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.
نقرأ مثلا من هذه الرّوايات رواية عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لمّا عمل قوم لوط ما عملوا بكت الأرض إِلى ربّها حتى بلغت دموعها السّماء، وبكت السّماء حتى بلغت دموعها العرش، فأوحى الله إِلى السّماء أن أحصبيهم وأوحى إِلى الأرض أن اخسفي بهم»(1).
ونقرأ في حديث للإِمام الصادق أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من جامع غلاماً جاء
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 231.
يوم القيامة جنباً لا ينقّيه ماء الدنيا، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً. ثمّ قال: إِن الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك»(1).
ونقرأ في حديث للإِمام الصادق(عليه السلام) «.... والعامل على هذا من الرجال إِذا بلغ أربعين سنة لم يتركه، وهم بقية سدوم. أمّا إِني لست أعني بهم أنّهم بقيتهم أنّهم ولدهم، ولكنّهم من طينتهم، قال: قلت: سدوم التي قُلبت، قال: هي أربع مدائن «سدوم وصريم والدما وغميرا»... أو [ولدنا وعموّرا] الخ ... .(2).
ونقرأ في رواية أُخرى عن الإِمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(3).
بالرغم من أنّ العالم الغربي مليء بالإِنحرافات الجنسية، وأنّ هذه الأعمال السئية قد باتت متعارفة بحيث سمع أنّ بعض الدول كبريطانيا وطبقاً لقانون صدر بكل وقاحة من المجلس النيابي «البرلمان» فيها يجوز هذا الموضوع «اللواط أو السحاق» ولكن شيوع هذه المنكرات لا يخفف من قبحها ومن مفاسدها الأخلاقية والإِجتماعية والنفسية.
بعض أتباع المذاهب المادّيه الذين تلوّثوا بمثل هذه المنكرات يقولون: نحن لا نجد محذوراً طبيّاً في هذا الامر.
ولكنّهم لم يلتفتوا لى أنّ كل انحراف جنسي له أثره السلبي في روحية الإِنسان وبنائه النفسي يفقده توازنه.
1 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 249.
2 ـ وسائل الشيعة، ج14، ص 253.
3 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 255.
توضيح ذلك، أنّ الإِنسان الطبيعي والسليم يميل إِلى المخالف من جنسه، أي أنّ الرجل يميل إِلى المرأة، والمرأة تميل إِلى الرجل، وهذا الميل ن أشدّ الغرائز المتجذرة فيه، والضامن لبقاء نسله، فأيّ عمل يؤدّي إِلى تحوير هذا الميل الطبيعي عن مساره فسيوجد نوعاً من المرض والإِنحراف النفسي في الإِنسان.
فالرجل الذي يميل إِلى نظيره من جنسه، ليس رجلا كاملا، وقد عُدّ هذا الإِنحراف في كتب الأُمور الجنسية «هموسكواليسيم» أي الميل الجنسي للمماثل من أهم الإِنحرافات.
والإِستمرار على هذا العمل وإدامته يميت في الفرد الميل الجنسي إِلى المخالف. والشخص الذي يسلّم نفسه لممارسة هذا العمل معه يشعر شيئاً فشيئاً «بإحساسات المرأة» ويورث هذا العمل الطرفين «الفاعل والمفعول» ضعفاً مفرطاً في الجنس حتى أنّه لا يستطيع بعد مدّة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف.
ومع ملاحظة أنّ الإِحساسات الجنسيّه [بالنسبة للرجل والمرأة] لها تأثيرها في أعضاء بدن كل منهما، كما أنّ لها تأثيرها على روحية كلٍّ منهما وأخلاقه. تتّضح أنّ فقدان الإِحساسات الطبيعية إِلى أي درجة سيؤثر على روح الإِنسان وجسمه حتى أنه من الممكن أن يبتلى الأفراد هؤلاء بالضعف الجنسي الذي يؤدّي إِلى عدم القدرة على الإِنجاب والتوليد.
وهؤلاء الأشخاص ـ غالباً ـ ليسوا أصحاء من الناحية النفسيّة، ويحسون في داخلهم أنّهم غرباء عن أنفسهم وغرباء عن مجتمعهم ... ويفقدون بالتدريج القدرة على الإِرادة التي هي أساس لكم نجاح وشرط من شروطه، ويتكرس في روحهم نوع من الإِضطراب والقلق.
وإذا لم يصمموا على إِصلاح أنفسهم فوراً، ولم يستعينوا عند الضرورة والحاجة بالطبيب النفسي أو الطبيب الجسمي فسيغدو هذا العمل عندهم عادة
يصعب تركها، فمن وعلى كلِّ حال، فإنّ أي وقت لترك هذا العمل القبيح لا يعدّ خارجاً عن أوانه، بل لابدّ من التصميم الجاد.
ولا ريب أنّ الحيرة والإِضطراب النفسي قد يجرّ هؤلاء إِلى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية، كما يجرّهم إِلى انحرافات أخلاقية أُخرى، وهذا بنفسه شقاء عظيم.
الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإِسلامية عبارة موجزة وذات معنى كبير تشير إِلى هذه المفاسد، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ رجلا سأله: لم حرّم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه: «من أجل أنّه لو كان إِيتان الغلام حلالا لإستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فَساد كبير»(1).
وما يجدر ذكره أنّ أحد العقوبات الشرعية لهذا العمل أنّ الإِسلام حرم الزواج من أخت المفعول وأُمّه وبنته على الفاعل، أي إذا تحقق اللواط قبل الزواج فعندئذ يحرم الزواج منهنّ حرمة مؤبدة.
وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة، أن جرّ الأفراد إِلى مثل هذا الإِنحراف الجنسي له أسباب وعلل مختلفة، حتى من ضمنها أحياناً طريقة التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع أبنائهما، أو الغفلة عنهم وعدم مراقبة من معهم من بني جنسهم، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معاً في بيت واحد، كل ذلك له أثره الفاعل في هذا التلوّث والإِنحراف.
نحن نقرأ في أحوال قوم لوط أنّ سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب أنّهم كانوا قوماً بخلاء، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين، كانوا يوحون إِليهم بداية الأمر أنّهم يريدون أن يعتدوا عليهم جنسياً ليفرّ منهم الضيوف والمسافرون،
1 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 252.
ولكنّ هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفاً عندهم ونما عندهم الإِنحراف الجنسي وبلغ عملهم حدّاً أنّهم تلوّثوا بالآثام من قرنهم إِلى قدمهم(1).
وربّما جرّ المزاح غير المناسب بين الذكور أو بين الإِناث إِلى هذا الإِنحراف، فعلى كل حال، ينبغي ملاحظة هذه المسائل بدقة إِنقاذ المنحرفين والملوّثين بهذا الذنب بسرعة، ويطلب من الله التوفيق في هذا السبيل.
ونقرأ في الرّوايات والتواريخ الإِسلامية أعمالا سيئة كانت عند قوم لوط سوى الإِنحراف الجنسي المشار إِليه، ومن هذه الأعمال ما ورد في «سفينة البحار» حيث نقرأ مايلي:
... قبل كانت مجالسهم، تشتمل على أنواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على من مرّ بهم، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات(2).
وواضح أنّ الإِنحراف في مثل هذه البيئة وأعمال السوء تأخذ أبعاداً جديدة كل يوم، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة ـ أساساً ـ تبلغ الحال درجةً لا يُرى عندها أي عمل في نظر تلك البيئة سيّئاً أو منكراً.
ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون نفس ذلك السبيل وقد تصل أعمال هؤلاء المخزية إِلى درجة ننسى عندها أعمال قوم لوط ... .
* * *
1 ـ البحار، ج 12، ص 147.
2 ـ سفينة البحار، ص 517.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُم بِخَيْر وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم مُّحِيط(84) وَيَـقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(85) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنينَ وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفيظ(86)
مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة إِلى قوم شعيب وأهل مدين، أُولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.
في بداية القصّة تقول الآيات (وإِلى مدين أخاهم شعيباً) وكلمة «أخاهم» كما أشرنا إِليها سابقاً تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل
الأنبياء لقومهم، لا لأنّهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إِضافةً إِلى ذلك فإنّه يريد الخيرَ لهم. ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.
و«مدين» على وزن «مريم» اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إِسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.
ويطلق اليوم على مدينة «مدين» اسم «معّان» ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.
وورد في التوراة أيضاً اسم «مديان» ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أنّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج(1).
هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبيّ في أُسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم أوّلا إِلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إِله غيره).
لأنّ الدعوة إِلى التوحيد دعوة إِلى هزيمة جميع «الطواغيت» والسُنَن الجاهلية ولا يتيسر أيّ إِصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.
ثمّ أشار إِلى أحد المفاسد الإِقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: (ولا تنقصوا المكيال)أي حال البيع والشراء.
و«المكيال» و«الميزان» من ادوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره، ونقصانه يعني عدم إِيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.
ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجاً للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.
ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علّتين:
1 ـ أعلام القرآن، ص 573.
العلّة الأُولى: هي قوله (إِنّي أراكم بخير).
يقول أوّلا: إِنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة (إِنّي أراكم بخير) أنّ شعيباً يقول لهم: إِنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.
وثانياً: (وإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط) بسبب إِصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة ... الخ.
وكلمة «محيط» جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إِحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إِشارة إِلى عذاب الآخرة كما يشير إِلى عقاب الدنيا الشامل.
فعلى هذا لا أنتم بحاجة إِلى مثل هذه الأعمال، ولا ربّكم غافل عنكم، فينبغي اِصلاح أنفسكم عاجلا.
والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الإِقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إِلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط).
ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل، وإِعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره.
ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) و«البخس» ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً. ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي «إِنّها بخس» لأنّ ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب، أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إِلى الأراضي الزراعية الأُخرى.
وإِذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إِلى رعاية جميع الحقوق الفردية والإِجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهرُ «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً، والتعاون وإِعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).
ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإِعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الإِجتماعيّة، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإِعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.
وجملة (لا تعثوا) معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.
إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الإِعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إِلى الإِقتصاد السليم بأهمية خاصّة، كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الإِقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.
ثمّ يخبرهم أنّ زيادة الثروة ـ التي تصل إِلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو (بقيّة الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين).
التعبير بـ(بقية الله) إِمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو «بقية الله» وإِمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات ... وإِمّا لأنّه يشير إِلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إِلى الأبد. فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان، وتشير الآية (46) من سورة الكهف: (والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملا) إِلى هذا المضمون أيضاً. والتعبير
بقوله: (إِنّ كنتم مؤمنين) إِشارة إِلى أنّ هذه الواقعية لا يعرفها إِلاّ المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.
ونقرأ في روايات متعددة في تفسير (بقية الله) أنّ المراد بها وجود المهدي عجل الله فرجه الشريف، أو بعض الأئمّة الآخرين، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في كتاب إِكمال الدين:
«أوّل ما ينطق به القائم(عليه السلام) حين يخرج هذه الآية (بقية الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين) ثمّ يقول: أنا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلم إِلاّ قال: السّلام عليك يا بقية الله في أرضه»(1).
وقد قلنا مراراً إِنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة، إِلاّ أنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن تكون أثر مصداقاً في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.
صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من (بقية الله) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإِلهي، إِلاّ أنّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ (بقية الله) أيضاً.
فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم (بقية الله) وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الأُمّة يُعدّ (بقية الله)وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إِلى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم «بقية الله» ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود»(عليه السلام) آخر إِمام وأعظم قائد ثوري بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلى مصاديق (بقية الله) وهو أجدر من سواه بهذا اللقب، خاصّة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام).
وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرأ على لسان شعيب (وما أنا عليكم بحفيظ) إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولا على «إِجبار» أحد أبداً.
* * *
1 ـ نقلا عن تفسير الصافي، في شرح المتقدمة.
قَالُوا يَـشُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَلِنَا مَا نَشَـؤُا إِنَّكَ لاََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)قَالَ يَـقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاِْصْلَـحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88) وَيَـقُوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوح أَوْ قَوْمَ هُود أَوْ قَوْمَ صَـلِح وَمَا قَوْمُ لُوط مِّنكُم بِبَعِيد(89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ(90)
والآن فَلْنَرَ ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السّماوي «شعيب».
فبما إنّهم كانوا يتصورون أنّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الإِستفادة منها (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) إِن هذا بعيد منك (إِنّك أنت الحليم الرشيد)؟!
وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لِمَ سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟!
قال بعض المفسّرين: كان ذلك لأنّ شعيباً كان يكثر من صلاته ويقول للناس:
إِنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.
ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السرّ والعلاقة بين الصلاة وترك المنكرات، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له: أهذه الأذكار والأوراد والحركات التي تقوم بها تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنّة السلف وثقافتنا التقليدية أو أن نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!
واحتمل البعض أنّ «الصلاة» إشارة إِلى العقيدة والدين، لأنّها عبارة عن المظهر البارز للدين.
وعلى كل حال لو كان أُولئك يفكرون جيداً لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو أنّ الصلاة توقظ في الإِنسان الإِحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله، وتنفض عن قلبه غبار حبّ الذات وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوّثة إِلى عالم ما وراء الطبيعة، إِلى عالم الصالحات وتزكية النفس، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم، وعن أنواع الغش والخداع ... الخ.
كما ينقدح هنا سؤال آخر، وهو: إِنّ قولهم لشعيب (إِنّك لأنت الحليم
الرشيد)هل كان كلاماً واقعياً من منطلق الإِيمان به، أم هو على سبيل الإِستهزاء والسخرية؟!
احتمل المفسّرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم (أصلاتك تأمرك) الذي يستبطن الإِستهزاء، يظهر أنّ هذه الجملة على نحو الإِستهزاء، وهي إِشارة إِلى أنّ الإِنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول أو الرأي في أمر دون أن يسبر غوره ويعرف كنهه، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم، فيظهر أنّك لم تسبر غور الأُمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق، لأنّ الفكر العميق والعقل يوجبان على الإِنسان ألاّ يرفع يده عن طريقة السلف، ولا يسلب من الآخرين الإِختيار وحرية العمل.
ولكن شعيباً ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و (قال يا قوم أرأيتم إِنّ كنت على بينة من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً)(1).
إنّه يريد أن يفهم قومه أنّ في عمله هذا هدفاً معنوياً وإِنسانياً وتربوياً، وأنّه يعرف حقائق لا يعرفها قومه، والإِنسان دائماً عدوّ ما جهل.
ومن الطريف أنّه في هذه الآيات يكرر عبارة (يا قوم) وذلك ليُعبّىء عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنّهم منه وأنّه منهم، سواء أكان المقصود بالقوم القبيلة أو الطائفة أو الجماعة أو الأُسرة، أم كان المقصود الجماعة التي كان يعيش وسطهم ويُعدّ جزءاً منهم.
ثمّ يضيف هذا النّبي العظيم قائلا: (وما أُريد أن أخالفكم إِلى ما أنهاكم عنه)فلا تتصوروا أنني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل
1 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا، أفأعدل مع ذلك عمّا أنا عليه من عبادته وتبليغ دينه.
ذلك كلّه، كلا فإنّني لا أفعل شيئاً من ذلك أبداً.
ويستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيباً على ما سبق (إِن أُريد إِلاّ الإصلاح ما استطعت).
وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً، حيث كانوا يسعون إِلى إِصلاح العقيدة، وإِصلاح الأخلاق، وإِصلاح العمل، وإِصلاح العلائق والروابط الإِجتماعية وأنظمتها (وما توفيقي إِلاّ بالله) للوصول إِلى هذا الهدف.
وعلى هذا فإِنني، ولأجل أداء رسالتي والوصول إِلى هذا الهدف الكبير (عليه توكلت وإِليه أنيب).
وأسعى للإِستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق، وأعود إِليه أيضاً.
ثمّ ينبههم إِلى مسألة أخلاقية، وهي أنّه كثيراً ما يحدث للإِنسان أنّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما، فيقول لهم (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي)فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و(أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها (وما قوم لوط منكم ببعيد) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيراً، ولا مكان حياتهم، كما أنّ أعمالكم وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضاً.
و«مدين» التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وإِذا كان بينهما فاصل زمني، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الإِنحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والإِنحراف
![]() |
![]() |
![]() |