وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة عدّة نقاط:

1 ـ إِنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإِنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ. وبملاحظة أنّ أكثر المعلومات البشرية توافقاً مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل جانباً حسيّاً، فإنّ دور التاريخ في إِظهار الواقعيّات الحياتية يمكن دركه جيداً.

فالإِنسان يرى بأُم عينيه الهزيمة المُردية ـ لأمّة ما ـ نتيجة اختلافها وتفرقها، كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتّحادهم وتوافقهم. فالتاريخ

[122]

يتحدّث بلغة ـ من دون لسان ـ عن النتائج القطعية وغير القابلة للإِنكار للتطبيقات العملية للمذاهب والخطط والبرامج عند كل قوم.

وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة. ونعرف أنّ خلاصة الحياة ومحصولها ليس شيئاً سوى التجربة.

والتاريخ مرآة تنعكس عليها جميع ما للمجتمعات الإِنسانية من محاسن ومساوىء ورقي وانحطاط والعوامل لكلّ منها.

وعلى هذا فإِنّ مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الإِنسان طويلا بقدر أعمارهم حقّاً، لأنّها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختياره.

ولهذا يقول الإِمام علي(عليه السلام) في حديثه التاريخي خلال وصاياه لولده الحسن المجتبى في هذا الصدد: «أي بني إِني وإِن لم أكن عمّرت عُمْرَ من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما إنتهى إلي من أُمورهم قد عمرت من أوّلهم الى آخرهم»(1).

والتاريخ الذي نتحدث عنه طبعاً هو التاريخ الخالي من الخرافات والأكاذيب والتملّقات والتحريفات والمسوخات.

ولكن ـ وللأسف ـ مثل هذا النوع من التاريخ قليل جداً.

ولا ينبغي أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر في بيان «نماذج» من التاريخ الأصيل وإِراءتها.

التاريخ الذي ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية لا المقعّرة.

التاريخ الذي لا يتحدث عن الوقائع فحسب، بل يصل الى الجذور ويسترشف النتائج.

فمع هذه الحال لِمَ لا يستند القرآن ـ الذي هو كتاب تربوي عال في فصوله ـ


1 ـ نهج البلاغة، من كتاب له(عليه السلام) لولده الحسن المجتبى(عليه السلام).

[123]

على التاريخ ويأتي بالشواهد والأمثال من قصص الماضين؟!

2 ـ ثمّ بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصّة جاذبية خاصّة، والإِنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

ولذلك فإنّ التاريخ والقصّة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار الكتّاب. وأحسن الآثار التي خلّفها الشعراء والكتاب الكبار سواء كانوا من بلاد العرب أو من فارس أو من بلاد أُخرى هي قصصهم.

فأنت تلاحظ «الكلستان» ـ لسعدي و«الشاهنامة» لفردوسي و«الخمسة» للنظامي وكذلك آثار «فيجتور هيجو» الفرنسي و«شكسبير» الإِنجليزي و«غوتِه» الألماني جميعها كتبت على هيئة قصص جذابة».

والقصّة سواء كُتبت نثراً أو شعراً، أو عُرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفيلم السينمائي، فإنّها تترك أثراً في المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات العقلية في مثل هذا التأثير.

والعلّة في ذلك قد تكون أنّ الإِنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ في نفسها جانباً عقلياً، كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الإِستدلال العقلي يستمد المفكرين في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة وتوغل في البعد العقلي من الأمثلة الحسيّة، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الإِستدلال قيمة مضاعفة، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم أُولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

ولم لا يكون الأمر كذلك، والإِستدلالات العقلية هي حصيلة المسائل الحسّية والعينيّة والتجريبيّة؟!

[124]

3 ـ القصّة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، على خلاف الإِستدلالات العقلية، فإنّ الناس في فهمها ليسوا سواسية ... وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الأُمّي والمتوحش ... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية، ولا سيّما إِذ التفتنا الى هذه النقطة، وهي أنّ القرآن لا يذكر الوقائع التاريخية في أيّ مجال بشكل عار من الفائدة، بل يذكر معطياتها بشكل يُنتفع بها تربوياً، كما سنلاحظ «النماذج» والأمثلة في هذه السورة.

* * *

[125]

الآيات

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَـأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـجِدِينَ(4) قَالَ يَـبُنَىَّ  لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَـنَ لِلاِْنسَـنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَـقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)

التّفسير

بارقة الأمل وبداية المشاكل:

بدأ القرآن بذكر قصّة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى الكبير، لأنّ هذه الرؤيا في الواقع تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.

جاء يوسف في أحد الأيّام صباحاً الى أبيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه، وليكشف ستاراً عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر، ولكنّها كانت إِرهاصاً لبداية فصل جديد من حياته (إِذ قال يوسف لأبيه يا أبت إِنّي

[126]

رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).

يقول ابن عباس: (إِنّ يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر) (ليلة تعيين الأقدار والآجال).

ولكن كم كان ليوسف من العمر حين رأى رؤياه؟!

هناك من يقول: كان ابن تسع سنوات، ومن يقول: ابن سبع، ومنهم من يقول: ابن اثنتي عشرة سنة، والقدر المسلم به أنّه كان صبيّاً.

وممّا يستلفت الإِنتباه الى جملة «رأيت» جاءت مكررة في الآية للتأكيد والقاطِعية، وهي إِشارة الى أن يوسف(عليه السلام) يريد أن يقول: إِذا كان كثير من الناس ينسون رؤياهم ويتحدثون عنها بالشك والتردّد، فلست كذلك. بل أقطع بأنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين لي دون شك.

واللطيفة الأُخرى هي أنّ ضمير «هم» الذي يأتي لجمع المذكر السالم العاقل، قد استعمل للكواكب والشّمس والقمر، ومثل هذا الإستعمال «ساجدين» أيضاً إشارة إلى أنّ سجود الكواكب لم يكن من قبيل الصدفة بل كان أمراً مدروساً ومحسوباً كما يسجد الرجال العقلاء!

وواضح ـ طبعاً ـ أنّ السجود المقصود منه هنا هو الخضوع والتواضع، وإِلاَّ فإنّ السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر.

إِن هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النّبي غارقاً في التفكير ... فالقمر والشمس والكواكب، وأي الكواكب! إِنّها أحد عشر يسجدون جميعاً لولدي يوسف، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أنّ الشمس والقمر «أنا وأُمه أو خالته» والكواكب الأحد عشر إِخوته، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له الشمس والقمر وكواكب السّماء.

إِن ولدي «يوسف» عزيز عند الله إِذا رأى هذه الرؤيا المثيرة!

لذلك توجه الى يوسف بلهجة يشوبها الإِضطراب والخوف المقرون

[127]

«بالفَرحة» و(قال يا بني لا تقصص رؤياك على إِخواتك فيكيدوا لك كيداً) وأنا أعرف (إِنّ الشيطان للإِنسان عدو مبين) وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإِخوة يقتتلون فيما بينهم.

الطريف هنا أنّ يعقوب لم يقل «أخاف من إِخوتك أن يقصدوا إِليك بسوء» بل أكّد ذلك على أنّه أمر قطعي، وخصوصاً بتكرار «الكيد» لأنّه كان يعرف نوازع أبنائه وحساسيّاتهم بالنسبة لأخيهم يوسف، وربّما كان إِخوته يعرفون تأويل الرؤيا، ثمّ إِنّ هذه الرؤيا لم تكن بشكل يعسر تعبيرها.

ومن جهة أُخرى لا يُتصور أن تكون هذه الرؤيا شبيهة برؤيا الأطفال، إِذ يمكن احتمال رؤية الأطفال للشمس والقمر والكواكب في منامهم، ولكن أن تكون الشمس والقمر والكواكب موجودات عاقلة وتنحني بالسجود لهم، فهذه ليست رؤيا أطفال ... ومن هذا المنطلق خشي يعقوب على ولده يوسف نائرة الحسد من إِخوته عليه.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب، بل تدل على مقام النبوّة التي سيصل إِليها يوسف في المستقبل.

ولذلك فقد أضاف يعقوب ـ لولده يوسف ـ قائلا: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل(1) الأحاديث ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمّها على أبويك من قبل إِبراهيم وإِسحاق).

أجل فإنّ الله على كل شيء قدير و(إِنّ ربّك عليم حكيم).

* * *


1 ـ «التأويل» في الأصل إِرجاع الشيء، وكل عمل أو كل حديث يصل الى الهدف النهائي يطلق عليه «تأويل» وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل ... و«الأحاديث» جمع الحديث، وهو نقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأن الإِنسان ينقلها للمعبرين.

[128]

ملاحظات

1 ـ الرّؤيا والحُلم

إِنّ مسألة الرؤيا في المنام من المسائل التي تستقطب أفكار الأفراد العاديين من الناس والعلماء في الوقت نفسه.

فما هذه الأحلام التي يراها الإِنسان في منامه من أحداث سيئة أو حسنة، وميادين موحشة أو مؤنسة، وما يثير السرور أو الغم في نفسه؟!

أهي مرتبطة بالماضي الذي عشعش في أعماق روح الإِنسان وبرز الى الساحة بعد بعض التبديلات والتغييرات؟ أم هي مرتبطة بالمستقبل الذي تلتقط صوره عدسة الروح برموز خاصّة من الحوادث المستقبلية؟! أو هي أنواع مختلفة، منها ما يتعلق بالماضي، ومنها ما يتعلق بالمستقبل، ومنها ناتج عن الميول النفسية والرغبات وما الى ذلك...؟!

إِنّ القرآن يصرّح في آيات متعددة أنّ بعض هذه الأحلام ـ على الأقل ـ انعكاسات عن المستقبل القريب أو البعيد.

وقد قرأنا عن رؤيا يوسف في الآيات المتقدمة، كما سنرى قصّة الرؤيا التي حدثت لبعض السجناء مع يوسف في الآية (36) وقصّة رؤيا عزيز مصر في الآية (43) وجميعها تكشف الحجب عن المستقبل.

وبعض هذه الحوادث ـ كما في رؤيا يوسف ـ تحقق في وقت متأخر نسبياً «يقال أنّ رؤيا يوسف تحققت بعد أربعين سنة» وبعضها تحقق في المستقبل القريب كما في رؤيا عزيز مصر ولمن في السجن مع يوسف.

وفي غير سورة يوسف إِشارات الى الرؤيا التي كان لها تعبير أيضاً، كما ورد في سورة الفتح عن رؤيا النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ورد في سورة الصافات عن رؤيا إِبراهيم الخليل «وهذه الرؤيا كانت وحياً إِلهياً بالإِضافة لما حملت من تعبير».

ونقرأ في الحديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الرؤيا قوله: «الرؤيا ثلاث:

[129]

بُشرى من الله، وتحزين من الشيطان، والذي يحدث به الإِنسان نفسه فيراه في منامه»(1).

وواضح أنّ أحلام الشيطان ليست شيئاً حتى يكون لها تعبير، ولكن ما يكون من الله في الرؤيا فهي تحمل بشارة حتماً ... ويجب أن تكون رؤيا تكشف الستار عن المستقبل المشرق.

وعلى كل حال يلزمنا هنا أن نبيّن النظرات المختلفة في حقيقة الرؤيا، ونشير إِليها بأسلوب مكثف مضغوط.

والتفاسير في حقيقة الرؤيا كثيرة ويمكن تصنيفها الى قسمين هما:

1 ـ التّفسير المادي

2ـ التّفسير المعنوي

1ـ التّفسير المادي:

يقول الماديون: يمكن أن تكون للرؤيا عدّة علل:

ألف: قد تكون الرؤيا نتيجة مباشرة للأعمال اليومية، أي أنّ ما يحدث للإِنسان في يومه قد يراه في منامه.

ب ـ وقد تكون الرؤيا عبارة عن سلسلة من الأماني، فيراها الإِنسان في النوم كما يرى الظمآن في منامه الماء، أو أن إِنساناً ينتظر مسافراً فيراه في منامه قادماً من سفره.

ج ـ وقد يكون الباعث للرؤيا الخوف من شيء ما، وقد كشفت التجارب أن الذين يخافون من لص يرونه في النوم.

أمّا فرويد وأتباعه فلديهم مذهب خاص في تفسير الأحلام، إِذ أنّهم بعد


1 ـ بحار الأنوار، ج 14، ص 44 ويضيف بعض العلماء قسماً رابعاً على هذه الأقسام، هو الرؤيا التي تكون نتيجةً مباشرة عن الوضع المزاجي والجسماني للإِنسان، وسيشار إِليها في البحوث المقبلة ... إِن شاء الله.

[130]

شرح بعض المقدمات يقولون: إِنّ الرؤيا عبارة عن إِرضاء الميول المكبوتة التي تحاول الظهور على مسرح الوعي بعد تحويرها وتبدّلها في عملية خداع الأنا.

ولزيادة الإِيضاح يقولون: ـ بعد قبول أن النفس البشرية مشتملة على قسمين «الوعي» وهو ما له ارتباط بالأفكار اليومية والمعلومات الإِرادية والإِختيارية للإِنسان، و«اللاّوعي» وهو ما خفي في باطن الإِنسان بصورة رغبة لم تتحقق ـ فكثيراً ما يحدث أن تكون لنا ميول لكننا لم نستطع إِرضاءها ـ لظروف ما ـ فتأخذ مكانها في ضمير الباطن: وعند النوم حين يتعطل جهاز الوعي تمضي في نوع من إِشباع التخيل الى الوعي نفسه، فتنعكس أحياناً دون تغيير [كمثل العاشق الذي يرى في النوم معشوقته] وأحياناً تتغير أشكالها وتنعكس بصور مناسبة، وفي هذه الحالة تحتاج الرؤيا الى تعبير.

فعلى هذا تكون الأحلام مرتبطة بالماضي دائماً ولا تخبر عن المستقبل أبداً، نعم يمكن أن تكون وسيلة جيدة لقراءة «ضمير اللاوعي!».

ومن هنا فهم يستعينون لمعالجة الأمراض النفسيّة المرتبطة بضمير «اللاوعي» باستدراج أحلام المريض نفسه.

ويعتقد بعض علماء التغذية أنّ هناك علاقة بين الرؤيا وحاجة البدن للغذاء، فمثلا لو رأى الإِنسان في نومه دماً يقطر من أسنانه، فتعبير ذلك أنّ بدنه يحتاج الى فيتامين (ث) وإِذا رأى في نومه أن شعر رأسه صار أبيضاً، فمعناه أنّه مبتلى بنقص فيتامين (ب).

2 ـ التّفسير المعنوي

وأمّا الفلاسفة الميتافيزقيون فلهم تفسير آخر للرؤيا، حيث يقولون: إِنّ الرؤيا والأحلام على أقسام:

1 ـ الرّؤيا المرتبطة بماضي الحياة حيث تشكل الرغبات والأمنيات قسماً

[131]

مهماً من هذه الأحلام.

2 ـ الرؤيا غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم والخيال (وإن كان من المحتمل أن يكون لها دافع نفسي.

3 ـ الرّؤيا المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.

وممّا لا شك فيه أنّ الأحلام المتعلقة بالحياة الماضية وتجسّد الأُمور التي رأها الإِنسان في طول حياته ليس لها تعبير خاص ... ومثلها الأطياف المضطربة أو ما تسمى بأضغاث أحلام التي هي افرازات الأفكار المضطربة، كالأطياف التي تمرّ بالإِنسان وهو في حال الهذيان أو الحمّى، فهي ـ أيضاً ـ لا يمكن أن تكون تعبيراً عن مستقبل الحياة ... ولهذا فإنّ علماء النفس يستفيدون من هذه الأحلام ويتخذونها نوافذ للدخول الى ضمير اللاّوعي في البشر، ويعدّونها مفاتيح لعلاج الأمراض النفسيّة، ويكون تعبير الرؤيا عند هؤلاء لكشف الأسرار النفسية وأساس الأمراض، لا لكشف حوادث المستقبل في الحياة!

أمّا الاحلام المتعلقة بالمستقبل فهي على نحوين:

قسم منها أحلام واضحة وصريحة لا تحتاج الى تعبير ... وأحياناً تتحقق بشكل عجيب في المستقبل القريب أو البعيد دون أي تفاوت.

وهناك قسم آخر من هذه الأحلام التي تتحدث عن المستقبل، ولكنّها في الوقت ذاته غير واضحة، وقد تغيّرت نتيجة العوامل الذهنية والروحيّة الخاصّة فتحتاج الى تعبير.

ولكل من هذه الأحلام نماذج ومصاديق كثيرة، ولا يمكن إِنكارها جميعاً، لأنّها لا في المصادر المذهبية أو الكتب التأريخية ـ فحسب ـ بل تتكرر في حياتنا أو حياة من نعرفهم بشكل لا يمكن عدّه من باب المصادفات والإِتفاقات!.

* * *

[132]

ونذكر هنا عدّة نماذج من الأحلام الصادقة التي كشفت بشكل عجيب عن حوادث مستقبلية سمعناها من افراد موثوقين:

1 ـ المرحوم الآخوند ملا علي من علماء همدان الموثوقين والمعروفين ينقل عن المرحوم الميرزا عبد النّبي النوري وهو من علماء طهران الكبار هذه القضية:

عند ما كنت في سامراء كان يصلني سنوياً من مدينة مازندران مبلغ بمقدار مائة تومان تقريباً، وعلى اساس هذا الامر كنت استقرض دائماً مقدار حاجتي من المؤونة وعندما يصلني هذا المبلغ كنت اقوم بتسديد هذه القروض.

وفي أحد الاعوام جاءني خبر مؤسف، وهو أنّ المحصول الزراعي في مازندران سيء للغاية بسبب القحط، ولهذا فإنّهم يعتذرون عن عدم إرسال المبلغ المقرر في هذه السنة، ولما سمعت بذلك تألمت بشدّة ونمت وأنا في هذه الحال من الهم والغم، فرأيت في عالم الرؤيا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يدعونىِ ويقول: يا فلان، قم وافتح تلك الخزانة (وأشار الى خزانة في الحائط) وخذ منها مائة تومان موجودة هناك. فإنتبهت من النوم، ولم تمض فترة حتى طرقت الباب بعد الظهر، فرأيت رسول الميزرا الشيرازي(قدس سره) المرجع الكبير للشيعة وقال لي: إنّ الميزرا يدعوك: فتعجبت من هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات. فذهبت إليه فرأيته جالساً في حجرته (وقد نسيت الرؤيا تماماً) وفجأة قال لي المرحوم الميرزا الشيرازي: يا ميرزا عبد النّبي افتح باب تلك الخزانة وخذ منها مائة تومان موجودة هناك. فتذكرت الرؤيا فوراً وتعجبت كثيراً وأردت ان أقول شيئاً، ولكني شعرت بأنّه لا يرغب في ذلك، فقمت الى الخزانة فأخذت المبلغ المذكور وخرجت.

2 ـ وينقل صديق ـ وهو محل اعتماد ـ أن المرحوم التبريزي صاحب كتاب «ريحانة الأديب» كان له ولد يشكو من يده اليمنى (ربّما كان مبتلى بالروماتيزم)

[133]

بشكل يصعب عليه أن يمسك القلم بيده، فتقرر أن يسافر الى ألمانيا للمعالجة ويقول: حين كنت في السفينة رأيت في المنام أن أُمي توفيت ففتحت التقويم السنوي وسجلت الحادثة ـ مقيدةً بالساعة واليوم ـ ولم تمض فترة حتى رجعت الى بلدي فاستقبلني جماعة من الأقارب والأصدقاء فوجدتهم لبسوا ثياب الحداد فتعجبت، وكنت قد نسيت الرؤيا، وأخيراً أُخبرت ـ بالتدريج ـ أن أمي توفيت، فتذكرت مباشرةً رؤياي في السفينة فأخرجت التقويم وسألت عن اليوم الذي توفيت فيه فكان مطابقاً لذلك اليوم تماماً.

3 ـ يقول سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» في هامشه على الآيات المتعلقة بسورة يوسف: «إِذا كنت أنكر جميع ما قلتم في الرؤيا فلن أستطيع أن أنكر ما حدث لي يوم كنت في أمريكا أبداً ... رأيت هناك في المنام أنّ ابن أختي قد نزفت عيناه دماً ولا يستطيع أن يرى (كان ابن أُختي وسائر أعضاء أُسرتي بمصر) فاستوحشت ممّا رأيت وكتبت رسالة الى أُسرتي بمصر فوراً، وسألتهم عن حال ابن أُختي بوجه خاص، فلم تمض فترة حتى جاءتي الجواب الذي يخبرني بأنّ ابن أُختي مبتلى بنزيف داخلي في عينيه ولا يستطيع أن يرى، وهو مشغول بالمعالجة.

وممّا يستلفت النظر أنّ النزف الداخلي كان بشكل لا يمكن رؤيته إِلاّ بالأجهزة الطبيّة، وقد حُرم ابن اُختي من النظر والرؤية على كل حال. غير أنني رأيت في منامي حتى هذه المسألة الدقيقة.

إِن الأحلام التي تكشف الحجب عن الأسرار والحقائق المرتبطة بالمستقبل، أو الحقائق الخفيّة المتعلقة بالحاضر، هي أكثر من أن تُحصر، وليس بمقدور بعض الأفراد الذي لا يعتقدون بهذه الحقائق انكارها، أو حملها على المصادفة والإِتفاق!

ومن خلال التحقيق مع الأصدقاء القريبين يمكن الحصول على شواهد

[134]

كثيرة من هذه الأحلام، وهذه الأحلام لا يمكن تعبيرها عن طريق التّفسير المادي أبداً، وإنما الطريق الوحيد هو تعبير فلاسفة الروح والإِعتقاد باستقلال الروح، ومن مجموع هذه الأحلام يمكن أن نستفيد منها كشاهد على استقلال الروح.

2 ـ في الآيات ـ محل البحث ـ نلاحظ أن يعقوب ـ بالإِضافة الى تحذيره لولده يوسف من أن يقصّ رؤياه على إِخوته ـ فإِنّه عبر عن رؤياه بصورة إِجماليّة وقال له (وكذلك يجتبيك ربُّك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتمُّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب) .

ودلالة رؤيا يوسف على أنّه سيبلغ في المستقبل مقامات كبيرة معنوية ومادية يمكن دركها تماماً ... ولكن يبرز هذا السؤال، وهو: كيف عرف يعقوب أنّ إبنه يوسف سيعلم تأويل الأحاديث في المستقبل؟ أهو خبر أخبره يعقوب ليوسف مصادفةً ولا علاقة له بالرؤيا، أم أنّه اكتشف ذلك من رؤيا يوسف؟

الظاهر أن يعقوب فهم ذلك من رؤيا يوسف، ويمكن أن يكون ذلك عن أحد طريقين:

الأوّل: إِنّ يوسف في حداثة سنّه وقد نقل لأبيه ـ خاصّة ـ بعيداً عن أعين إِخوته (لأنّ أباه أوصاه أن لا يقصّها على إِخوته) وهذا الأمر يدلّ على أن يوسف نفسه كان له إِحساس خاص برؤياه بحيث لم يقصصها بمحضر الجميع ... .

ولأنّ مثل هذا الإِحساس في صبيّ ـ كيوسف(عليه السلام) ـ يدلّ على أنّ له استعداداً روحيّاً لتعبير الرؤيا، وإِنّ أباه قد أحسّ بهذا الإِستعداد ... وبالتربية الصحيحة سيكون له في المستقبل حظُّ زاهر في هذا المجال.

الثّاني: إِنّ إرتباط الأنبياء، بعالم الغيب له عدّة طرق، فمرّة عن طريق «الإِلهامات القلبية» وتارة عن طريق «ملك الوحي» وأُخرى عن طريق «الرؤيا».

وبالرغم من أنّ يوسف لم يكن نبيّاً في ذلك الوقت، لكن رؤيته لهذه الرؤيا ذات المعنى الكبير يدلّ على أن سيكون له ارتباط بعالم الغيب في المستقبل،

[135]

ولابدّ أن يعرف تعبير الرؤيا ـ طبعاً ـ حتى يكون له مثل هذا الإِرتباط.

3 ـ من الدروس التي نستلهمها من هذا القسم من الآيات أن نحفظ الأسرار، وينبغي أن يُطبق هذا الدرس أحياناً حتى أمام الإِخوة، فدائماً تقع في حياة الإِنسان أسرار لو أذيعت وفشت بات مستقبله أو مستقبل مجتمعه معرضاً للخطر، والمواظبة على حفظ هذه الأسرار دليل على سعة الروح وتملك الإِرادة، فكثير من ضعاف الشخصيّة أوقعوا أنفسهم أو مجتمعهم في الخطر بسبب إِفشاء الأسرار، وكم يرى الإِنسان ـ من مساءة وضرر لأنّه ترك حفظ الأسرار ... .

وفي هذا المجال ورد حديث عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إِذ قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال: سُنّة من ربّه، وسُنّة من نبيّه، وسُنّة من وليّه. فأمّا السُّنة من ربّه فكتمان السرّ، وأمّا السُّنة من نبيّه فمداراة الناس، وأمّا السُّنة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء»(1).

وورد حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «سرّك من دمك فلا يجرينّ من غير أوداجك»(2).

* * *


1 ـ بحار الأنوار، ط جديدة، ج 78، ص 334.

2 ـ سفينة البحار، مادة: كتم.

[136]

الآيات

لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَـتٌ لِّلسَّآئِلِينَ(7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـل مُّبِين(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَـلِحِينَ(9) قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـعِلِينَ(10)

التّفسير

المؤامرة:

من هنا تبدأ قصّة مواجهة إِخوة يوسف واشتباكهم معه:

ففي الآية الأُولى ـ من الآيات محل البحث ـ إِشارة الى الدروس التربوية الكثيرة التي توحيها القصّة، إِذ تقول الآية: (لقد كان في يوسف وإِخوته آيات للسائلين).

وفي أنّ المراد بالسائلين، من هم؟ يقول بعض المفسّرين كالقرطبي في التّفسير الجامع وغيره: إِنّ هؤلاء السائلين هم جماعة من يهود المدينة، جاؤوا

[137]

يسألون النّبي أسئلة في هذا المجال، ولكن ظاهر الآية مطلق، فلا مرجّح لأنّ يكون المراد بالسائلين هم اليهود دون غيرهم.

وأيّ درس أعظم من أن يجتمع عدّة أفراد لإِهلاك فرد ضعيف ووحيد ـ في الظاهر ـ وبخطط أعدّها الحسدُ، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس هذا العمل ـ ودون شعور وارادة منهم ـ بات سبباً في تربّعه على سرير الملك وصيرورته آمراً على البلد الكبير «مصر» ثمّ يأتي إِخوته في النهاية ليطأطئوا برؤوسهم إِعظاماً له، وهذا يدلّ على أن الله إِذا أراد أمراً فهو قادر على أن يجريه حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلّى أن الإِنسان المؤمن الطاهر ليس وحيداً في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالَم الى إزهاق روحه والله لا يريد ذلك، فانهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة.

كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من أُم واحدة اسمها راحيل، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبّة خاصّة، لا سيما يوسف.

لأنّهما أوّلا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان الى العناية والرعاية والمحبة.

وثانياً: لأنّ أُمّهما ارتحلت من الدنيا ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ وبعد هذا كلّه كانت بوادر النبوغ والذكاء والحادّ ترتسم على يوسف، وهذه الأُمور أدّت الى أن أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.

إِلاّ أن الإِخوة الحساد ـ دون أن يلتفتوا الى هذه الجهات ـ تألّموا من حبّ أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصّة بعد اختلافهم في الاُم والمنافسة الطبيعية المترتبة على هذا الأمر. لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة (إِذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة)(1).


1 ـ «العصبة» معناها الجماعة المتفقون على الأمر، وهذه الكلمة معناها الجمع إِلاَّ لا مفرد لها من جنسها.

[138]

وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم: (إِن أبانا لفي ضلال مبين).

إِن نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر ليكتشفوا دلائل علاقة الحبّ التي تربط يعقوب بولديه يوسف وبنيامين، لأنّ المنافع الخاصّة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجاباً فيقضي من جانب واحد لتكون النتيجة «الضلال عن جادة الحق والعدل» وبالطبع فإنّ اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأنّ الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوّة أبيهم، وإِنما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

ثمّ أدّى بهم الحسد الى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً ـ أرسلوه الى منطقة بعيدة ـ يخل لكم وجه أبيكم).

ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب (تكونوا من بعده قوماً صالحين).

وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنّكم إِذا أبعدتم أخاكم عن عيني أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا الموضوع، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر!

وعلى كل حال فإنّ هذه الجملة تدلّ على إِحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين.

ولكن المسألة المهمة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة ـ في الواقع ـ هو لأجل خداع «الوجدان» وإِغرائه وفتح الباب للدخول الى الذنب، فلا يعدّ دليلا على الندم أبداً.

وبتعبير آخر: إِنّ التوبة الواقعية هي التي توجِد بعد الذنب حالة من الندم

[139]

والخجل للإِنسان، وأمّا الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.

وتوضيح ذلك أنّه كثيراً ما يقع أن الإِنسان حين يواجه الضمير و«الوجدان» عند الإِقدام على الذنب، أو حين يكون الإِعتقاد الديني سدّاً وحاجزاً أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر، يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب، بل سأتوب وأمضي الى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار الذنوب.

أي إِنّه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإِقدام على الذنب، يرسم خطة شيطانية أُخرى لمخادعة الضمير والوجدان ... وللإِعتداء على عقيدته! فإلى أيّ درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكّن الإِنسان من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!!

إِنّ إِخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضاً.

المسألة الدقيقة الأُخرى في هذه الآية: أنّهم قالوا: (يخلُ لكم وجه أبيكم)ولم يقولون: يخلُ لكم قلب أبيكم، وذلك لأنّهم لم يطمئنّوا الى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السرعة ... فيكفي أن يتوجه إِليهم أبوهم، ولو ظاهراً!

وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أنّ الوجه والعينين نافذتان الى القلب، فمتى ما خلا الوجه لهم فإنّ القلب سيخلو ويتوجه إِليهم بالتدريج.

ولكن كان من بين الأُخوة من هو أكثر ذكاءً وأرق عاطفة ووجداناً، لأنّه لم يرض بقتل يوسف أو إِرساله الى البقاع البعيدة التي يُخشي عليه من الهلاك فيها ... فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً، وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه) لتمرّ قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا الصدد (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إِن كنتم فاعلين ...).

* * *

[140]

ملاحظات

1 ـ «الجبّ» معناه «البئر» التي لم تنضّد بالطابوق والصخور، ولعلّ أغلب آبار الصحراء على هذه الشاكلة.

و«الغيابة» المخبأ من البئر الغائب عن النظر ولعلّ هذا التعبير يشير الى أن الآبار الصحراوية يصنع في قعرها مكان قريب من الماء، بحيث لو أراد أحد النزول الى البئر ليستفيد من الماء، فإنّه يستطيع أن يجلس هناك ويملأ دلوه من ذلك الماء دون أن ينزل هو في الماء، وبالطبع فإنّ من ينظر البئر من فوقها لا يرى ذلك المكان ولذلك سمي «غيابة»(1).

2 ـ لا شك أنّ اقتراح هذا القائل (ألقوه في غيابة الجُبِّ) لم يكن الهدف منه موت يوسف في البئر، بل بقاءه سالماً لتنقذه القافلة عند مرورها على البئر للإِستسقاء.

3 ـ يستفاد من جملة (إِن كنتم فاعلين) أنّ القائل لم يكن يرغب ـ أساساً ـ حتى بهذا الاقتراح ولعله كان لا يوافقهم على إِيذاء يوسف أصلا.

4 ـ هناك اختلاف بين المفسّرين في اسم هذا الأخ القائل (لا تقتلوا يوسف)فقال بعضهم: اسمه «روبين» وكان أذكاهم، وقال بعضهم: اسمه «يهودا» وقال آخرون: اسمه «لاوى».

5 ـ أثر الحسد المدمّر في حياة الناس

الدرس الآخر الذي نتعلّمه من هذه القصّة، وهو أنّ الحسد يمكن أن يدفع الإِنسان حتى الى قتل أخيه، أو ايجاد المشاكل له، فنار الحسد إِذا لم يمكن إِخمادها فإنّها ستحرق صاحبها بالإِضافة الى إِحراق الآخرين بها.

وأساساً إِذا حرم الإِنسان من نعمة أنعمها الله على عبد سواه، فإنّه سيكون


1 ـ مقتبس من تفسير المنار في تفسير الآية.

[141]

امام أربع حالات مُختلفة.

الأُولى: أن يتمنّى أن ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره، وهذه الحالة تدعى «الغبطة» وهي جديرة بالثناء والمدح، وليس لها أثر سيء، لأنّها تدعو صاحبها للسعي والجدّ والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.

الثّانية: أن يتمنّى أن تُسلب هذه النعمة عن الآخرين، ويسعى من أجل تحقيق هذا التمني، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة «بالحسد» التي تدعو صاحبها الى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين، دون أن تدعوه لأنّ يطلب من الله مثل ما أعطي غيره من النعم.

الثّالثة: أن يتمنّى أن تكون هذه النعمة له فقط ويُحرم الآخرون منها وهذه الحالة تُسمّى «البُخل» والأنانية التي تدعو الإِنسان أن يطلب شيئاً لنفسه، ويلتذّ من حرمان الآخرين.