![]() |
![]() |
![]() |
* * *
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهلِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86)
وأخيراً غادروا مصر متّجهين إلى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى الأب الحزن والألم مستولياً على وجوههم (خلافاً للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم أنّهم يحملون إليه أخباراً محزنة وخاصّة حينما إفتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، إستولى عليه
الغضب وقال مخاطباً إيّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف (قل بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً) أي إنّ أهواءكم الشيطانية هي التي إستولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو أنّ يعقوب هل إكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده إستناداً إلى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد، مع أنّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه، كما أنّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحاً ليعقوب.
أو كان يعقوب يقصد بقوله: (بل سوّلت لكم ... إلى آخر) الإشارة إلى اُمور أُخرى، منها:
1 ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم أمام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم، مع أنّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّاً على السرقة.
2 ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من أنّ عقوبة السارق عندهم هو إستعباده مع أنّ هذه السنّة السائرة في أهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانوناً سماوياً (هذا إن قلنا أنّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب إليه بعض المفسّرين).
3 ـ وأخيراً لعلّه عتاب لأولاده على إستعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين إلى كنعان دون الإقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(1).
1 ـ إحتمل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية لعلّها إشارة إلى قصّة يوسف، لكنّه بعيد عن الواقع، لأنّ الآيات السابقة لا تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.
لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه وقال: (فصبر جميل) أي أنّني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبراً جميلا على أمل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) فإنّه هو العالم بواقع الأُمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا يفعل إلاّ عن حكمة وتدبير (إنّه هو العليم الحكيم).
ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، إستولى عليه الحزن والألم، وحينما رأى مكان بنيامين خالياً عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه، وتذكّر تلك الأيّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه، أمّا اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أنّ خليفته (بنيامين) أيضاً قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.
حينما تذكّر يعقوب هذه الأُمور إبتعد عن أولاده واستعبر ليوسف (وتولّى عنهم وقال ياأسفي على يوسف) أمّا الاُخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف، ظهر على جبينهم عرق الندامة وإزداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير أخويهم بنيامين ويوسف، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد أعزّ أولاده (وابيضّت عيناه من الحزن) لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطراً على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وأن لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى (فهو كظيم).
يفهم من هذه الآيات أنّ يعقوب لم يكن فاقداً لبصره، لكنّ المصائب الأخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه أفقده بصره، وكما أشرنا سابقاً فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجاً عن قدرته وإختياره، فإذاً لا يتنافى مع الصبر الجميل.
أمّا الإخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم أن يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار، توجّهوا إلى أبيهم وخاطبوه معاتبين (قالوا تالله تفتئوا تذكر يوسف حتّى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين)(1) أي إنّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.
لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله: (إنّما أشكوا بثّي وحزني إلى الله)(2) لا إليكم، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لأنّني (وأعلم من الله ما لا تعلمون) فهو اللطيف الكريم الذي لا أطلب سواه.
* * *
1 ـ (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفاً على الموت.
2 ـ (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن اخفاؤه، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
يَبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَاْيْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ (87)فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَعَة مُّزْجَة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَهِلُونَ (89) قَالُواْ أَءِنَّكَ لاََنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوماً بعد آخر في مصر وما حولها
ومنها كنعان، ومرّة أُخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الأُولى أن يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: (يابني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه).
لكن بما أنّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالإعتماد على الله سبحانه والإتّكال عليه بقوله: (ولا تيأسوا من روح الله) فإنّه القادر على حلّ الصعاب و (إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون).
(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ التحسّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ، لكن ذهب آخرون إلى أنّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.
وهنا رأي ثالث في أنّهما متّحدان في المعنى، إلاّ أنّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله: «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا أنّهما مختلفان وأنّ ما ذهب إليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف: لا تبحثوا عن اُمور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّاً أم خيراً.
قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.
يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته (الرَّوْحُ والرُّوحُ في الأصل واحد
وجعل الروح إسماً للنّفس ... والرَّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).
وأخيراً جمع الاُخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.
لكن في هذه السفرة ـ خلافاً للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة أُخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ أن يعاوضوه بالطعام والحبوب، إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي ألمّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت إلى العظم، كما يقول المثل إلاّ أنّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم (لا تيأسوا من روح الله).
وأخيراً استطاعوا أن يقابلوا يوسف، فخاطبوه ـ وهم في غاية الشدّة والألم ـ بقولهم: (فلمّا دخلوا عليه قالوا ياأيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ) أي أنّ القحط والغلاء والشدّة قد ألمّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلاّ متاعاً رخيصاً (وجئنا ببضاعة مزجاة)(1) لا قيمة لها ولكن ـ في كلّ الأحوال ـ نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك ونأمل في معروفك (فاوف لنا الكيل) بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة (وتصدّق علينا) ولا تطلب منّا الأجر، بل اُطلبه من الله سبحانه وتعالى حيث (إنّ الله يجزي المتصدّقين).
1 ـ (البضاعة) أصلها (البضع) على وزن جزء، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمناً لشيء (مزجاة) من (الازجاء) بمعنى الدفع، وبما أنّ الشيء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه، اُطلق عليه (مزجاة).
والطريف أنّ إخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم أوّلا، بل حاولوا الحصول على الطعام، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب، ولعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف، أو لعلّهم أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز والمصريين وكأنّهم اُناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط، فمن ثمّ يطرحوا مشكلتهم أمام العزيز ويطلبوا منه المساعدة، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى وإحتمال تنفيذه أكثر.
قال بعض المفسّرين: إنّ مقصود الإخوة من قولهم: (تصدّق علينا) كان طلب الإفراج عن أخيهم لأنّهم لم يطلبوا من العزيز الطعام والحبوب مجّاناً دون عوض حتّى يطلبوا منه التصدّق عليهم، فإنّهم يدفعون ثمنه.
ونقرأ في روايات وردت في هذا المقام، أنّ الإخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم إلى عزيز مصر، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر وأكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب، ثمّ عرّف نفسه والأنبياء من أهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده أعزّ أولاده وأحبّهم إلى نفسه يوسف وأخيه بنيامين، وما أصابهم من القحط والغلاء، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز أن يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين، وذكّره أنّ بنيامين سليل بيت النبوّة والرسالة وأنّه لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.
وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنّه فضّ الرسالة بإحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث أنّ الدموع بلّت ثيابه(1) (وهذا ما حيّر الإخوة، وبدأوا يفكّرون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقاً وشغفاً حينما فتحها، ولعلّ فعل العزيز أثار عندهم إحتمال أن يكون يوسف هو العزيز، ولعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز وشعوره بحيث لم يطق صبراً
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية الشريفة.
وعجز عن أن يخفي نفسه بغطاء السلطة وأجبره على كشف نفسه لإخوته).
وفي تلك اللحظة، وبعد أن مضت أيّام الإمتحان الصعب ـ وكان قد إشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ، أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون).
لاحظوا عظمة يوسف وعلوّ نفسه حيث يسألهم أوّلا عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول: (ما فعلتم) وثانياً يبيّن لهم طريقة الإعتذار وأنّ ما ارتكبوه في حقّ إخوتهم إنّما صدر عن جهلهم وغرورهم، وأنّه قد مضى أيّام الصبى والطفولة وهم الآن في دور الكمال والعقل!
كما أنّه يفهم من الآية الشريفة أنّ يوسف لم يكن وحده الذي ابتلي بإخوته ومعاملتهم السيّئة، بل إنّ بنيامين أيضاً كان يقاسي منهم ألوان العذاب، ولعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر، جانباً ممّا عاناه تحت أيديهم، ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم إستفساره بإبتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم إحتمال أنّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف(1).
أمّا هم، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الأُمور مجتمعة، وشاهدوا أنّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها أحد غيرهم إلاّ يوسف.
ومن جهة أُخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما إستلم كتاب يعقوب، وأحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.
وثالثاً كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف .. لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم
1 ـ مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة.
يتصوّروا أنّه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد إرتقى منصب الوزارة وصار عزيزاً لمصر، أين يوسف وأين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيراً وسألوه مستفسرين منه (قالوا أءنّك لأنت يوسف).
كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الإخوة، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى إجابة العزيز! وأنّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته، أم أنّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.
كانت اللحظات تمرّ بسرعة والإنتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم، لكن يوسف لم يدع اُخوته يطول بهم الإنتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم وأظهر لهم حقيقة نفسه و (قال أنا يوسف وهذا أخي) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم، ولكي يعلّم إخوته درساً آخر من دروس المعرفة قال: إنّه (قدّ منّ الله علينا إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).
لا يعرف أحد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الإخوة كما لا يعرف أحد مدى إنفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه، فترقّبوا إجابة يوسف وأنّه هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين بقولهم: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا)(1) أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة (وإن كنّا لخاطئين)(2).
1 ـ (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن أثر الشيء، وبما أنّه يقال للفضل والخير: أثر، فقد إستعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو، فبناء على هذا يكون معنى قوله (آثرك الله علينا) أي أنّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.
2 ـ يرى الفخر الرازي في تفسيره أنّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو أنّ الخاطىء يقال لمن تعمّد الخطأ، والمخطئ لمن أخطأ عن سهو.
أمّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة ـ خاصّة في هذه اللحظات الحسّاسة وبعد إنتصاره عليهم ـ أو لعلّه أراد أن يدفع عن أذهانهم ما قد يتبادر إليها من إحتمال أن ينتقم منهم، فخاطبهم بقوله: (قال لا تثريب عليكم اليوم)(1) أي أنّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذاً إلى نفوسكم، ثمّ لكي يبيّن لهم أنّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم، بل إنّ الله سبحانه وتعالى أيضاً عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أي إنّ الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنّه أرحم الراحمين.
وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنّه لم يعف عن سيّئات إخوته فحسب، بل رفض حتّى أن يوبّخ ويعاتب إخوته ـ فضلا عن أن يجازيهم ويعاقبهم ـ إضافةً إلى هذا فإنّه طمأنهم على أنّ الله سبحانه وتعالى رحيم غفور وأنّه تعالى سوف يعفو عن سيّئاتهم، وإستدلّ لهم على ذلك بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين.
وهنا تذكر الإخوة مصيبة أُخرى قد ألمّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما إقترفوه في حقّ أخيهم ألا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزناً وفراقاً على يوسف، أمّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلا حيث خاطبهم بقوله: (إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) ثمّ طلب منهم أن يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعاً (وأتوني بأهلكم أجمعين).
* * *
1 ـ «تثريب» أصله من مادّة (ثرب) وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء، والتثريب بمعنى رفع هذا الغطاء، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكان المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب (راجع القاموس ومفردات الراغب وتفسير الرازي وروح المعاني).
ورد في بعض الرّوايات أنّ يوسف قال: إنّ الذي يحمل قميصي المشافي إلى أبي لابدّ وأن يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء إليه، لكي يدخل السرور على قلبه بعد أن ملأ قلبه حزناً وألماً من قبل! فأعطى لـ(يهودا) قميصه بعد أن اعترف له أنّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء إلى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف، وهذا التصرّف من يوسف إن لم يدلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّه برغم أعماله الكثيرة ومتاعبه اليوميّة، فإنّه لم يغفل عن صغائر الأُمور المتعلّقة بالسلوك الأخلاقي(1).
ورد في بعض الرّوايات أنّ إخوة يوسف ـ بعد هذه القضايا ـ كانوا يحسّون بالخجل الشديد فأرسلوا إليه من يقول له: يايوسف إنّك تستضيفنا كلّ يوم صباحاً ومساءً ـ على مائدتك فنأكل من زادك وهذا ما يزيد في خجلنا حيث لا نطيق النظر إلى وجهك بعد أن نتذكّر إساءتنا إليك، فأجابهم بكلمة لطيفة ليبعد عنهم الخجل بأنّ الفضل يعود إليهم، وأنّ جلوسهم على مائدته لهو مكرمة منهم وإنّ الشعب المصري كانوا ينظرون إليّ نظرة الحرّ إلى العبد ويقولون فيما بينهم (سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ!!) أي انظروا إلى فعل الله سبحانه وتعالى بهذا العبد فإنّه قد بيع في السوق بعشرين درهماً وهو الآن وصل إلى هذه المرتبة السامية، لكنّهم الآن ينظرون إلى مائدتي وأنتم جلوس حولها، فيعرفون قدري وتثبت لهم منزلتي وإنّني لست بعبد ذليل بيع بعشرين درهماً، وإنّما أنا سليل بيت النبوّة والرسالة ومن أولاد نبي الله إبراهيم الخليل، وهذا ما اُباهي
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية الشريفة.
وأفتخر به أمام الآخرين(1).
إنّ الآيات السابقة تعلّمنا بجلاء ووضوح درساً من دروس الأخلاق الإسلامية، وهو أنّه بعد الإنتصار على العدو وكسر شوكته لابدّ أن لا ننسى العفو والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة، فإنّ إخوة يوسف قد عاملوه أشدّ المعاملة أشرفت به على نهايته وأوصلته إلى أبواب الموت، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى، لعجز عن الخلاص ممّا أوقعوه فيه، هذا إضافة إلى المصائب والآلام التي تحملها أبوه، لكنّهم الآن جميعاً واقفون أمّام يوسف وهو السيّد المطاع وبيده القوّة والقدرة، لكنّه عاملهم بلطف وإحسان.
كما أنّه يفهم من خلال حديثه معهم أنّه لم يحقد عليهم قطّ، بل الذي يقلقه هو تذكّر الإخوة ماضيهم الأسود ويحسّوا بالخجل! ولذا حاول جاهداً أن يريحهم من هذا القلق ويزيح هذا الكابوس عن صدورهم، بل أكثر من هذا فإنّه حاول أن يفهمهم أنّ لهم عليه فضلا في مجيئهم إلى مصر والتعرّف عليهم، فإنّهم كانوا السبب في كشف حقيقته أمام الشعب في هذا البلد، حيث عرف أهل مصر أنّ عزيزهم هو سليل بيت النبوّة والرسالة وليس عبداً بيع في السوق بدراهم معدودات، ومن هنا فإنّ يوسف كان يرى لهم في ذلك فضلا ومنّة!
ومن حسن الصدف أنّنا نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة، فمثلا حينما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة وأذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم، جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما رواه ابن عبّاس) إلى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجوا إليها هم ينتظرون حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، وقال كلمته المشهورة: «الحمد لله الذي صدق وعده
1 ـ تفسير فخر الرازي، ج18، ص206.
ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ توجّه إلى قريش وخاطبهم بقوله: «ماذا تظنّون يامعشر قريش؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».
أي أنّ اليوم ليس يوم ملامة وإنتقام وإظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
فقال عمر بن الخطاب: ففضت عرقاً من الحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك إنّي قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكّة: اليوم ننتقم منكم ونفعل(1).
كما أنّه وردت في كثير من الرّوايات الإسلامية أنّ «زكاة النصر هو العفو».
يقول علي (عليه السلام): «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه»(2).
* * *
1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص258.
2 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ جملة 11.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
أمّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل القادمة من مصر، وفيما كان الإخوة يقضون أسعد لحظات حياتهم، كان هناك بيت في بلاد الشام وأرض كنعان ـ ألا وهو بيت يعقوب الطاعن في السنّ حيث كان يقضي هو وعائلته أحرج اللحظات وأشدّها حزناً وبؤساً.
لكن ـ مقارناً مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثاراً للعجب والحيرة، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال: لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم: (إنّي لأجد ريح يوسف) فإنّي أحسّ بأنّ أيّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل، وأنّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب، وأرى أنّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي (ولمّا فصلت العير قال أبوهم إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون)(1).
والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) أنّه بمجرّد أن تحرّكت القافلة من مصر أحسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.
أمّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين: (قالوا تالله إنّك لفي ضلالك القديم) أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي، وأخيراً تقول: إنّك تشمّ رائحته من مصر؟! أين مصر وأين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!
يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود بـ(الضلال) ليس الإنحراف في العقيدة، بل الإنحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به، لكن يستفاد من هذه التعابير أنّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ
1 ـ (تفنّدون) من مادّة (الفَند) على زنة (الرَمَد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة، ومضى بعض اللغويين إلى أنّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناءً على ذلك فإنّ جملة (لولا أن تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.
الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة: (إنّ أبانا في ضلال مبين) وهنا قالوا له: (إنّك لفي ضلالك القديم) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه، ويتصوّرون أنّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وأنّه لا يطّلع على حقائق الأُمور ماضيها ومستقبلها.
وتمضي الليالي والأيّام ويعقوب في حالة الإنتظار ... الإنتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والإطمئنان، إلاّ أنّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأُمور لإعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة وإلى الأبد.
وبعد عدّة أيّام من الإنتظار ـ والتي لا يعلم إلاّ الله كيف قضاها يعقوب ـ إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرّة ـ وخلافاً للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم الـ(بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.
أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادراً على رؤية القميص فبمجرّد أن أحسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نوراً قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وأنّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه، وأحسّ يعقوب بتغيّر حالته، وفجأةً رأى النّور في عينيه وأحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة أُخرى رأى جمال العالم، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله: (فلمّا أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيراً).
هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة والأهل، وعند ذاك خاطبهم بقوله: (ألم أقل لكم إنّي أعلم من الله ما لا تعلمون).
هذه المعجزة الغريبة، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالأخطاء والذنوب، وما اعتورهم من
الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية، لكن ما أجمل التوبة والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها .. وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممّن جنى عليه، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادّة الخطأ والإنحراف، وهذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والإستغفار (قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين).
أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم .. أجابهم بقوله: (سوف استغفر لكم ربّي) وأملي معقود بأن يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبكم (إنّه هو الغفور الرحيم).
* * *
هذا سؤال أثاره كثير من المفسّرين، واعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب أو يوسف. إلاّ أنّه ـ مع الأخذ بنظر الإعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ـ ولم يتناوله على أنّه أمر إعجازي أو غير إعجازي فمن الهيّن أن نجد له توجيهاً علميّاً أيضاً. إذ أنّ حقيقة «التليبائي» أو إنتقال الفكر من النقاط أو الأماكن البعيدة تُعدّ مسألة علميّة قطعيّة مسلّماً بها ... وأنّها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط بعضهم ببعض، أو تكون لديهم قدرة روحيّة عالية.
ولعلّ كثيراً منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة، وذلك أن يشعر شخص «من أب، أو اُمّ، أو أخ» مثلا بالكآبة وإنقباض النفس دون سبب، ثمّ لا يمضي وقت ـ أو فترة ـ حتّى يبلغه خبر بأنّ أخاه أو ولده قد حدث له حادث ما
في نقطة بعيدة عنه.
فالعلماء يوجّهون هذا الإحساس على أنّه جرى عن طريق إنتقال الفكر.
وما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل أيضاً، فعلاقته الشديدة بيوسف وعظمة روحه، كلّ ذلك كان سبباً لأنّ يشعر بالحالة الحاصلة للاُخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة.
ومن الممكن أن يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء أيضاً.
وقد وردت إشارة طريفة ـ في بعض الرّوايات ـ إلى مسألة إنتقال الفكر، وهي أنّ بعضهم سأل الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام): فقال: جُعلت فداك، ربّما حزنت من دون مصيبة تُصيبني أو أمر ينزل بي، حتّى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي.
![]() |
![]() |
![]() |