![]() |
![]() |
![]() |
ويضيف القرآن لمزيد التأكيد (وأنّ كلاًّ لما ليوفينّهم ربّك أعمالهم) وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إِذ (إِنّه بما تعملون خبير).
الطريف أنّ القرآن يقول: (ليوفّينهم أعمالهم) ليشير مرّة أُخرى الى مسألة تجسّم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإِنسان نفسه التي تتخذ شكلا آخر وتصل إِليه ثانيةً.
وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد تسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته، يبيّن القرآن ـ عن هذا الطريق ـ أهمّ دُستور أُمر به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو (استقم كما أُمرت).
«استقم» في طريق الإِرشاد والتبليغ ... استقم في طريق المواجهة والمواصلة ... استقم في أداء الوظائف الإِلهية ونشر التعليمات القرآنية.
ولكن هذه الإِستقامة ليست لينال فلانٌ أو فلان مستقبلا زاهراً، وليست للرياء وما شابه ذلك، وليست لإِكتساب عنوان البطولة، ولا اكتساب «المقام» أو «الثروة» أو «الموفقية» أو «القدرة»، بل هي لمجرّد طاعة الله واتباع أمره (كما
أُمرت).
كما أنّ هذه الإِستقامه ليست عليك وحدك، فعليك أن تستقيم أنت (ومن تاب معك) استقامة خاليةً من كل زيادة ونقصان وإِفراط أو تفريط (ولا تطغوا)إِذ (إِنّه بما تعملون بصير) ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطّة أُخرى ... الخ.
نقرأ في حديث معروف عن ابن عباس أنّه قال: ما نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إِليك الشيب يا رسول الله قال:(صلى الله عليه وآله وسلم) «شيبتني هود والواقعة»(1).
ونقرأ في رواية أُخرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين نزلت هذه الآية: «شمّروا شمّرُوا ... فما رُئي ضاحكاً ...»(2).
والدليل واضح، لانّ أربعة أوامر مهمّة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئاً ثقيلا على الكتف.
وأهمها الأمر بالإِستقامة ... الإِستقامة (المشتقة من مادة القيام» من جهة أنّ الإِنسان يكون تسلطه وسعيه في عمله حال القيام أكثر ... الإِستقامة التي معناها طلب القيام، أي أوجِدْ حالةً في نفسك بحيث لا تجد طريقاً للضعف فيك، فما أصعَبه من أمر وما أشدّه؟!
غالباً ما يكون النجاح في العمل أمراً هيّناً نسبياً ... لكن المحافظة على النجاح فيها كثير من الصعوبة ... وفي أي مجتمع؟! في مجتمع متأخر متخلف ... في مجتمع بعيد عن العلم والتعقل .. في مجتمع لجوج وبين أعداء كثيرين
1 ـ تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 199.
2 ـ الدر المنثور في تفسير الآية هذه.
معاندين ... وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالإِستقامة في هذا الطريق ليس أمراً هيّناً.
والأمر الآخر: أن تحملَ هذه الإِستقامةُ هدفاً إِلـهياً فحسب، وأن تكون الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماماً، أي أن تكتسب هذه الاستقامة أكبر القدرات السياسية والإِجتماعيّة من أجل الله.
والأمر الثّالث: مسألة قيادة أُولئك الذين رجعوا الى طريق الحق وتعويدهم على الإِستقامة أيضاً.
والأمر الرّابع: المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة الصحيحة وصدّ كل أنواع التجاوز والطغيان، فكثيراً ما يبدي بعض الناس منتهى الإِستقامة في سبيل الوصول للهدف، لكن لا يستطيعون أن يراعوا مسألة العدالة، وغالباً ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحدّ.
أجل ... مجموع هذه الأُمور وتواليها على النّبي حمّلته مسؤولية كبرى، حتى أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) ما رُئي ضاحكاً ... وشيّبته هذه الآية من الهمّ.
وعلى كل حال فإنّ هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب، بل هو للماضي والحاضر والمستقبل، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد أيضاً.
واليوم مسؤوليتنا المهمّة ـ نحن المسلمين أيضاً، وبالخصوص قادة الإِسلام ـ تتلخّص في هذه الكلمات الأربعة. وهي: الإِستقامة، والإِخلاص، وقيادة المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الأُمور بعضها الى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والإِقتصادية والإِجتماعية والعسكريّة ... هذا النصر لايكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.
* * *
وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ(113)
إِنّ هذه الآية تبيّن واحداً من أقوى وأهم الاسس والبرامج الإِجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: (ولا تركنوا الى الذين ظلموا) والسبب واضح (فتمسكم النّار وما لكم من دون الله من أولياء) ومعلوم عندئذ حالكم (ثمّ لا تُنصرون).
* * *
مفهوم «الركون» مشتق من مادة «رُكن» ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياء الأُخرى بعضها الى بعض، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الإِعتماد أو الإِستناد الى الشيء.
وبالرغم من أنّ المفسّرين أعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية، ولكنّها في الغالب تعود الى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسّرها البعض بالميل، وفسّرها البعض بـ «التعاون»، وفسّرها البعض بـ «إظهار الرضا»، وفسّرها آخرون بـ «المودّة»، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير، وكل هذه المعاني ترجع الى الإِعتماد والإِتكاء كما هو واضح.
بديهي أنّه في الدرجة الأُولى لا يصح الإِشتراك معهم في الظلم أو طلب الإِعانة منهم، وبالدرجة الثّانية الإِعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإِسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله الى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة، لأنّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإِسلامي.
وأمّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإِسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإِسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون الى الظالمين ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإِسلام، وفي عصر النّبي نفسه(صلى الله عليه وآله وسلم)والأعصار التي تلته كانت هذه الأُمور موجودة وطبيعية أيضاً.
الرّكون الى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد بصورتها الاجمالية ولكن كلّما تفحصنا في هذه المسألة أكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.
فالركون الى الظالمين يبعث على تقويتهم، وتقويتهم مدعاة الى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات، ونقرأ في الأوامر الإِسلامية أنّ الإِنسان ما لم يُجبر
«وفي بعض الأحيان حتى مع الإِجبار» لا يحق له أن يراجع القاضي الظالم من أجل اكتساب حقّه، لأنّ مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من أجل إِحقاق الحق مفهومها أن يعترف ضمناً برسميته وتقواه، ولعل ضرر هذا العمل أكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.
والركون الى الظلمة يؤثر تدريجاً على الثقافة الفكرية للمجتمع، فيضمحل مفهوم «قبح الظلم» ويؤدي بالناس الى الرغبة في الظلم.
وأساساً لا نتيجة من الركون الى الغير بصورة التعلق والإِرتباط الشديد إِلاَّ سوء الحظ والشقاء، فكيف إِذا كان هذا الركون الى الظالمين؟
إِنّ المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه، كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (29) من سورة الفتح إِذ يقول: (فاستوى على سوقه) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذي يكتفي ذاتياً، وارتباطه أو تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس رُكون الضعيف الى القوي، لأنّ هذا الركون ـ سواء كان من جهة فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ـ لا يخلّف سوى الأسر والإِستثمار، ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خِططَهم.
وبالطبع فإنّ الآية المتقدمة ليست خاصّة بالمجتمعات فحسب، بل تشمل العلاقة والإِرتباط بين فردين أيضاً، فلا يجوز لإِنسان مؤمن أن يركن الى أي ظالم، فإنّه إضافة الى فقدان استقلاله لركونه الى دائرة ظلمه، فيسؤدي الى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك.
ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات مختلة، فقال بعضهم: المقصود بـ (الذين ظلموا) هم المشركون، ولكن ـ كما قال آخرون ـ لا دليل على انحصار
هذا اللفظ بالمشركين رغم أن مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين.
كما إنّ تفسير هذه الكلمة في الرّوايات بالمشركين لا يدلُّ على الإِنحصار، لأنّنا قلنا مراراً وتكراراً إِنّ مثل هذه الرّوايات إِنّما تبيّن المصداق الواضح والجلي، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدّت أيديهم الى الظلم والفساد، أو استعبدوا خلق الله وعباده، أو استغلوا قواهم لمنافعهم، وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير (الذين ظلموا).
ولكن من الواضح أن من أخطأوا في حياتهم خطأ بسيطاً وصاروا من مصاديق الظالم أحياناً غير داخلين في مفهوم الآية قطعاً لأنّه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية إلاّ النادر، فلا يصح الرّكون والاعتماد على أي شخص، اللّهم إلاّ أن نقول: أنّ المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره، وفي هذه الحال حتى الذين تلوّثت أيديهم بالظلم مرّة واحدة لا يجوز الركون إِليهم.
بعض المفسّرين من أهل السنة إِشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من (أولو الأمر) أيّاً كان، لما نقلوا حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب طاعة السلطان «وإِن أخذ مالك وضرب ظهرك ...»! وروايات أُخرى تؤكّد طاعة السلطان بمعناها الواسع.
ومن جهة أُخرى تقول الآية: (ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا) فهل يصحّ الجمع بين هذين الأمرين؟!
أراد البعض أن يرفع هذا التضاد باستثناء واحد، وهو أن طاعة السلطان
تكون واجبة ما لم ينحرف الى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.
ولكن لحن تلك الرّوايات لا ينسجم مع هذا الإِستثناء.
وعلى كل حال فنحن نعتقد ـ وكما ورد في مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ـ بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح أن يكون خليفة عامّاً للنّبي وإِماماً من بعده فحسب.
وإِذا كان سلاطين بني أُميّة وبني العباس قد وضعوا الاحاديث في هذا المجال لمصلحتهم، فلا تنسجم بأي وجه مع أُصول مذهبنا والتعليمات القرآنية، وينبغي أن نعالج هذه الرّوايات ، فإن كانت تقبل التخصيص خصّصناها، وإِلاّ طرحناها جانباً، لانّ كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة، والقرآن يصرح أنّ إِمام المسلمين لا يجوز أن يكون ظالماً، والآية المتقدمة تقول بصراحة أيضاً: (ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا) ... أو نقول: إِنّ أمثال هذه الرّوايات مخصوصة بالحالات الضرورية والإِضطرارية.
* * *
وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَـتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيْعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ(115)
هذه الآيات تشير الى أمرين من أهمّ الأوامر الإِسلامية، وهما في الواقع روح الإِيمان وقاعدة الإِسلام، فيأتي الأمر أوّلا بالصلاة (وأقم الصّلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل).
وظاهر التعبير من (طرفي النهار) هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار، و«الزُلف» جمع «زلفة» التي تعني القرب، ويشار بها الى أوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.
وهذا التّفسير وارد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً، أي إِنّ الآية تشير الى الصلوات الثلاث «الصبح والمغرب والعشاء».
ويرد هنا سؤال وهو: لِمَ ذكرت هذه الصلوات الثلاث من بين الصلوات الخمس؟!
غموض الإِجابة دعا بعض المفسّرين لانّ يتوسع في معنى (طرفي النهار)ليشمل صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب أيضاً. وبالتعبير بـ(وزُلفاً من الليل)الذي يشير الى صلاة العشاء تكون جميع الصلوات الخمس قد دخلت في الآية!
والإِنصاف أن تعبير (طرفي النهار) لا يتحمل مثل هذا التّفسير، مع ملاحظة أنّ المسلمين في الصدر الأوّل من الإِسلام كانوا مقيدين بأداء صلاة الظهر في أوّل الوقت وأداء صلاة العصر في حدود نصف الوقت، أي بين وقت الظهر ووقت المغرب.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال هنا: أنّ آيات القرآن قد تذكر جميع الصلوات الخمس أحياناً كما في سورة الإِسراء: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إِلى غسق الليل وقرآن الفجر)(1).
وقد تذكر ثلاث صلوات ـ كالآية محل البحث ـ وقد تذكر صلاة واحدة كما في سورة البقرة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)(2).
فعلى هذا لا يستلزم ذكر جميع الصلوات الخمس في كل مورد، وقد توجب المناسبات الإِشارة الى صلاة الظهر «الصلاة الوسطى» لأهميتها أو تشير الى صلاة الصبح أو المغرب والعشاء وذلك لإِحتمال أن تقع في دائرة النسيان للتعب أو النوم.
ولأهمية الصلوات اليوميّة ـ خاصّة ـ وجميع العبادات والطاعات والحسنات ـ عموماً ـ فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير (إِن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو
1 ـ الآية، 78.
2 ـ الآية، 238.
أثر الأعمال السيئة، حيث نقرأ في سورة النساء الآية (31): (إِن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) ونقرأ في سوره العنكبوت الآية (7): (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنّ عنهم سيئاتهم).
وبهذا تثبت مقولة إِبطال السيئات بالطاعات والأعمال الحسنة.
ومن الناحية النفسية ـ أيضاً ـ لا ريب في أن الذنب والعمل السيء يوجد نوعاً من الظلمة في روح الإِنسان ونفسه، بحيث لو استمرّ على السيئات تتراكم عليه الآثار فتمسخ الإِنسان بصورة موحشة.
ولكن العمل الصالح الصادر من الهدف الإِلهي يهب روح الإِنسان لطافةً بامكانها أن تغسل آثار الذنوب وأن تبدّلَ ظلمات نفسه إِلى أنوار.
وبما أنّ الجملة الآنفة (إِنّ الحسنات يذهبن السيئات) ذكرت بعد الأمر بإقامة الصلاة مباشرة، فإنّ واحدة من مصاديقها هي الصلاة اليومية، وإِذا ما لاحظنا في الرّوايات إِشارة الى الصلاة اليومية في التّفسير فحسب فليس ذلك دليلا على الإِنحصار، بل ـ كما قلنا مراراً ـ إِنّما هو بيان مصداق واضح قطعي.
تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام)تعبيرات تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإِسلام.
يقول أبو عثمان: كنت جالساً مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصناً يابساً وهزّه حتى تساقطت أوراقه جميعاً، ثمّ التفت إِليّ وقال: ما سألتني لم فعلت ذلك؟!
فقلتُ: وما تريد؟!
قال: هذا ما كان من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين كنت جالساً معه تحت شجرة ثمّ سألني النّبي هذا السؤال وقال: «ما سألتني لِمَ فعلت ذلك؟».
فقلت له: ولمَ يا رسولَ الله؟
فقال: «إِنّ المسلم إِذا توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق» ثمّ قرأ الآية «وأقم الصلاة ... الخ».(1)
ونقرأ في حديث آخر عن أحد أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه أبو أمامة أنّه قال: «كنت جالساً يوماً في المسجد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءه رجل وقال: يا رسول الله، أذنبت ذنباً يستوجب الحدّ فأقم عليَّ الحدّ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أصليت معنا؟» قال: نعم يا رسول الله، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «فإن الله غفر ذنبك» ... أو «أسقط عنك الحد»(2).
كما نقل عن علي(عليه السلام) أنه قال: «كنّا مع رسول الله ننتظر الصلاة فقام رجل وقال: يا رسول الله، أذنبت. فأعرض النّبي بوجهه عنه، فلما إنتهت الصلاة قام ذلك الرجل وأعاد كلامه ثانيةً، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تصلّ معنا وأحسنت لها الوضوء؟ فقال بلى، فقال: هذه كفارة ذنبك»(3).
ونقل عن علي(عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّما منزلة الصلوات الخمس لأُمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرات، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأُمتي»(4).
وعلى كل حال، لا مجال للشكّ في أنّه متى ما أدّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإِنسان الى عالم من المعنويّة والروحانيّة بحيث توثق علائقه الإِيمانية بالله، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.
الصلاة تجير الإِنسان من الذنب، تجلو صدأ القلوب.
الصلاة تجذّر الملكات السامية للإِنسان في أعماق الروح البشرية، والصلاة
1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.
2 ـ المصدر السّابق.
3 ـ المصدر السّابق.
4 ـ المصدر السّابق.
تقوي الإِرادة وتطهر القلب والروح، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.
ينقل في تفسير الآية ـ محل البحث ـ حديث طريف عن الإِمام علي(عليه السلام) بهذا المضمون، وهو أنّه التفت مرّة الى الناس وقال: «أي آية في كتاب الله أرجى عندكم»؟!
فقال بعضهم: (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
فقال(عليه السلام): حسنة ليست إِيّاها.
فقال آخرون: هي آية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).
فقال(عليه السلام): حسنة ليست إيّاها.
فقالوا: هي آية (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً).
قال(عليه السلام): حسنة ليست إيّاها.
فقال آخرون: هي آية: (والذين إِذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إِلا الله) فقال الإِمام أيضاً: «حسنة ليست إيّاها».
ثمّ أجم الناس، فقال: مالكم يا معشر المسلمين، فقالوا: والله ما عندنا شيء قال(عليه السلام): «سمعت حبيبي رسول الله يقول: أرجى آية في كتاب الله (وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إِنّ الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)(1).
1 ـ المصدر السابق.
وبالطبع كما ذكرنا في شرح الآية (48) من سورة النساء: إِنه ورد حديث آخر يشير إِلى أن أرجى آية في القرآن هي آية (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
ولكن مع ملاحظة أنّ كل آية من هذه الآيات تنظر الى زاوية من هذا البحث وتبيّن بُعداً من الأبعاد، فلا تضادّ بينها.
وفي الواقع إِنّ الآية محل البحث تتحدّث عن أُولئك الذين يؤدّون الصلاة بصورة صحيحة، صلاة مع حضور القلب والروح، بحيث تغسل آثار الذنوب عن قلوبهم وأرواحهم. أمّا الآية الأُخرى تتحدّث عن أُولئك الذين حُرموا من هذه الصلاة، فبامكانهم من باب التوبة، فإذن هذه الآية لهؤلاء الجماعة أرجى آية، وتلك الآية لأُولئك الجماعة أرجى آية.
وأيّ رجاء أعظم من أن يعلم الإِنسان أنّه متى زلت قدمه وغلب عليه هواه (دونَ أن يصرّ على الذنب) وحين يحل وقت الصلاة فيتوضأ ويقف أمام معبوده للصلاة، فيحسّ بالخجل عند التوجه الى الله لما قدمه من أعمال سيئة ويرفع يديه بالدعاء وطلب العفو فيغفر وتزول عن قلبه الظلمة وسوادها.
وتعقيباً على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإِنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات، يأتي الأمر بالصبر في الآية الأُخرى بعدها (واصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في الصلاة، أو إيذاء الأعداء للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّ من الواضح أن لا دليل على ذلك ـ بل أن الآية تحمل مفهوماً واسعاً كلياً وجامعاً ويشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة، فالصمود أمام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.
«الصبر» أصل كلّي وأساس إِسلامي، يأتي أحياناً في القرآن مقروناً
بالصلاة، ولعل ذلك آت من أن الصلاة تبعث في الإِنسان الحركة، والأمر بالصبر يوجب المقاومة، وهذان الأمران، أي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنباً الى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.
وأساساً يتحقق عمل صالح دون صبر ومُقاومة ... لأنّه لابدّ من إِيصال الأعمال الصالحة الى النهاية، ولذلك فإنّ الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر بثواب الله وأجره إِذ تقول: (إِنّ الله لا يضيع أجر المحسنين) ومعنى ذلك أن العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة ... لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الناس ينقسمون الى عدّة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة:
1 ـ فجماعة تفقد شخصيّتها فوراً، وكما يعبر القرآن (وإِذا مسّه الشر جزوعاً).
2 ـ وجماعة آخرون يصمدون أمام الأزمات بكل تحمّل وتجلّد.
3 ـ وجماعة آخرون بالإِضافة الى صمودهم وتحملهم للأزمة، فإنّهم يؤدّون الشكر لله.
4 ـ وجماعة آخرون يتجهون الى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق، ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأُمور، ولا يهدأون حتى تزول المشاكل.
وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر (إِن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)(1).
وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الأُخرى بالجنّة (وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً)(2).
* * *
1 ـ الأنفال، 65.
2 ـ سورة الإِنسان، 12.
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاَْرْضِ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)
من أجل إِكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً، فإِنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.
لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.
الآية الأُولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع
البلاء قائلة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد) ثمّ تستثني جماعة فتقول: (إِلاّ قليلا ممن أنجينا).
هذه الجماعة القليلة وإِن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنّها كحال لوط(عليه السلام) وأُسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممن آمن به، وصالح وجماعة من أتباعه، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإِصلاح العام والكلي في المجتمع.
وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).
وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثّانية لتقول: إِنّ هذا الذي ترون من إِهلاك الله للأُمم، إِنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم (وما كان ربُّك ليهلك القرى بظُلم وأهلها مصلحون).
واحياناً يسود الظلم والفساد في المجتمع، لكن المهم أنّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإِصلاح، وبهذا الشعور والإِحساس والتحرك بخطوات في طريق الإِصلاح يمهلهم الله، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.
ولكن هذا الإِحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتاً، وأخذ الفساد والظلم في الإِنتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير ... في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء أو الغذاء أو الماء أو الجروح الجلدية الخ ...
وهذه الكُريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إِذ تقف بوجه المكروبات و الجراثيم فتبيدها، أو على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.
وبديهي أن هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود، لو أضربت يوماً عن العمل وبقي البدن دون مدافع، فسيكون ميداناً لهجوم الجراثيم الضارّة
بحيث تسرع أنواع الأمراض الى البدن.
وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن بـ(أولوا بقيّة) فإن جراثيم الأمراض الإِجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الامراض المختلفة.
إِن أثر (أُولوا بقيّة) في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إنّ المجتمع من دون «أُولي بقية» يُسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإِشارة إِليهم في الآية المتقدمة.
كلمة «أولوا» تعني الأصحاب، وكلمة «بقيّة» معناها واضح أي ما يبقى، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى «أولو الفضل» لأنّ الإِنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده، فالمصطلح (أولوا بقيّة) يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.
ونظراً لأنّ الضعفاء ـ عادةً ـ يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الإِجتماعية، أو يصيبهم الفناء، ولا يبقى في ميدان المواجهة إِلاّ من يتمتع بقوّة فكرية أو جسدية، وبذلك يبقي الأقوياء فقط، ومن هذا المنطلق أيضاً تقول العرب في أمثالها: في الزوايا خبايا ... وفي الرجال بقايا.
كما جاءت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم، حيث نقرأ في قصّة طالوت وجالوت (إِنَّ آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم وبقية ممّا ترك آل موسى)(1).
وقرأنا أيضاً قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطباً قومه: (بقية الله خير
1 ـ سوره البقرة، الآية 248.
لكم إِن كنتم مؤمنين)(1).
وحيث نجد في قسم من التعبيرات إطلاق (بقية الله) على «المهدي الموعود»(عليه السلام) فهو إِشارة الى هذا الموضوع أيضاً، لأنّه وجود ذو فيض وذخيرة إِلهية كبرى، وهو مُعَدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.
ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الأجلاّء الافذاذ والمكافحين للفساد، والمصطلح عليهم بـ(أولوا بقيّة) على المجتمعات البشرية لأنّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.
المسألة الأُخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة أنّها تقول: (وما كان ربّك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
وبملاحظة التفاوت بين كلمتي «مصلح» و«صالح» تتجلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الصلاح وحده لا يضمنُ البقاء، بل اذا كان المجتمع فاسداً ولكن أفراده يسيرون باتجاه اصلاح الأُمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة أيضاً.
فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنةِ الخلقِ أن يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.
وبتعبير آخر: متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إِذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.
المسألة الدقيقة الأُخرى: إنّ واحداً من أسس الظلم والإِجرام ـ كما تشير إِليه الآيات المتقدمة ـ هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ«الترف».
فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الإِنحرافات في
1 ـ هود، 86.
المجتمعات المرفهة، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إِعطاء القيم الإِنسانية الأصيلة حقّها ودرك الواقعيات الإِجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.
* * *
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةً وَلاَيَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)
![]() |
![]() |
![]() |