الرّابعة: أن يتمنّى ويحب تنعّم الآخرين بهذه النعمة وإن كان محروماً منها، وهو مستعدّ أن يقدّم ما عنده من أجلهم ... وبغض النظر عن منافعه الشخصية، وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمّى بـ«الإِيثار» التي هي من أهم الصفات الإِنسانية الحميدة.

وعلى كل حال فإنّ الحسد لا يقتصر على قتل إِخوة يوسف لأخيهم فحسب، بل قد يوصل الإِنسان إلى قتل نفسه.

ولهذا نجد في الأحاديث الإِسلامية تعابير مؤثرة تدعو الى مكافحة هذه الرّذيلة، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي:

1 ـ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له: إِنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي»(1).


1 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 307.

[142]

2 ـ ونقرأ حديثاً للإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة» كما نقرأ له حديثاً يقول: «إِنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط»(1).

6 ـ كما نستنتج درساً آخر من هذا المقطع في القصّة، وهو أنّ الوالدين ينبغي أن يلاحظا أبناءها الآخرين عند إِبراز عنايتهما ومحبّتهما لواحد منهم، فبالرغم من أن يعقوب لم يرتكب خطأ ـ دون أيّ شك ـ بالنسبة لإِبراز علاقته لولديه يوسف وبنيامين، وإِنّما كان كل ذلك وفق حسابات خاصّة. ولكن هذه الحادثة تكشف لنا أنّه ينبغي أن يكون الإِنسان أكثر إحساساً، في هذه المسألة ـ من القدر اللازم. لأنّ إِبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدةً في نفوس الآخرين، الى درجة أنّها تجرّهم الى كل عمل مخرّب، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولابدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة، فيكون الإِقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.

وإِذا لم يستطع الإِنسان أن يقوم بعمل معاكس، فإنّه يظل يلوم نفسه ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.

وما زلت أذكر أنّه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير، فأوصى ولده الكبير برعايته، وأخذ الأبُ يولي ولده الصغير محبةً وشفقة فائضة «لأنّه مريض».

فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول، قلت لذلك الصديق العزيز: ألا تفكّر أنّ أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك ... لكنّه لم يصدّق، وأخيراً راجع الطبيب النّفساني المختصّ فقال: إِن ابنك ليس مريضاً بمرض خاصّ، وإِنّما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به، وهو يحس بأنّ شخصيته متعطشة للحنان والحبّ، في حين أنّ أخاه لم يحرم منهما.


1 ـ المصدر نفسه.

[143]

وفي هذا الصدد نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أن الإِمام الباقر(عليه السلام) قال يوماً: «والله إِنّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأنكز له المخّ، وأكسر له الكسر، وإِن الحقّ لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، لا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوتُه، وما أنزل الله سورة إِلاّ أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ إِخوتُه، وبغوا عليه، فجعلها رحمةً على من تولاّنا، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة»(1).

* * *


1 ـ بحار الأنوار، ج 74، ص 78.

[144]

الآيات

قَالُوا يَـأَبَانَا مَا لَكَ لاَتَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ، لَنَـصِحُونَ(11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ(12) قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَـفِلُونَ(13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذاً لَّخَـسِرُونَ(14)

التّفسير

المؤامرة المشؤومة!

بعد أن صوّب إِخوة يوسف إِقتراحَ أخيهم في عدم قتل يوسف، وإِلقائه في الجبّ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك أقدموا على تخطيط آخر، فجاؤوا الى أبيهم بلسان ليّن يدعو إلى الترحم، وفي شكل يتظاهرون به أنهم مخلصون له وحدثوا أباهم و(قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإِنا له لناصحون).

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا، فإِنّه أخونا وما يزال صبياً وبحاجة الى اللهو واللعب، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت، فخلّ سبيله (أرسله

[145]

معنا غداً يرتع ويلعب)(1).

وإِذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته (وإِنا له لحافظون).

وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة، ولعلّهم قالوا هذا الكلام أمام يوسف ليطلب من أبيه إِرساله معهم.

وهذه الخطة تركت الأب ـ من جانب ـ أمام طريق مسدود، فإِذا لم يرسل يوسف مع إِخوته فهو تأكيد على اتهامه إِيّاهم، وحرضت ـ من جانب آخر ـ يوسف على أن يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزّه كما يتنزه إِخوته، ويستفيد من هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.

أجل، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة، وغفلة الطرف الآخر، فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسيّة، ولكن المؤمنين ينبغي ألاّ ينخدعوا بحكم الحديث المأثور «المؤمن كيّس» أي فطن ذكي فلا يركنُوا للمظهر المنمّق حتى لو كان ذلك من أخيهم.

ولكن يعقوب ـ دون أن يتهم إِخوة يوسف بسوء القصد ـ أظهر تردّده في إِرسال يوسف لأمرين: الأوّل: أنه سيبتعد عنه فيحزن عليه، والثاني: ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إِليهم و(قال إِني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون).

وهذه المسألة طبيعية، حيث قد يبتعد إِخوة يوسف عنه فيغفلون عن أمره، فيأتي إِليه الذئب فيأكله.

وبديهي أنّ الإِخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأوّل الذي أشار إِليه أبوهم يعقوب، لأنّ الحزن والإِغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئاً عاديّاً حتى


1 ـ «يرتع» من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزّه الإِنسان وكثرة الأكل والشرب أيضاً.

[146]

يعوّض عنه، وربّما كان هذا التعبير مثيراً لنار الحسَد في إِخوة يوسف أكثر.

ومن جهة أُخرى فإن هذا الموضوع الذي أشار إِليه يعقوب، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه، وهو لا يحتاج الى بيان، لأنّ الولد لابدّ له من الإِبتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد، وإِذا أريد له أن يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلابدّ من هذا الإِبتعاد والإِنفصال حتى يتكامل ولده، فاليوم تنزّه وغداً اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم، وبعد غد عمل وسعي للحياة، وأخيراً فإِنّ الإِنفصال لابدّ منه.

لذلك فإِنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الأوّل من كلامه، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لأنّه كان مهماً وأساسياً بالنسبة لهم إِذ (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون).

أي: أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ إِضافةً الى علاقة الأخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا، ما عسى أن نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا: إنّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!

لقدْ أجابوا أباهم بما تضمن قوله: (أخاف أن يأكه الذئب وأنتم عنه غافلون)ومشغولون بلعبكم، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة ... إِنّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي ... إِذ كيف يمكن لواحد منّا أن يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف، لأنّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لأي عمل.

ويبرز هنا سؤال مهم ... وهو: لماذا أشار يعقوب الى خطر الذئب من دون الأخطار الأُخرى؟!

قال البعض: إِن صحراء كنعان ـ كانت ـ «صحراء مذئبة» ومن هنا كان

[147]

الخوف من الذئب أكثر من غيره.

وقال البعض الآخر: كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي أن ذئاباً هجمت على ولده يوسف.

وهناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب إِخوة يوسف.

وعلى كل حال فقد استطاع إِخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك أحاسيس يوسف النقيّة وترغيبه الى التنزه خارج المدينة، وربّما كان الأوّل مرّة يتاح ليوسف أن يحصل على مثل هذه الفرصة ... استطاعوا أن يأخذوا يوسف معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

* * *

بحوث

وينبغي هنا الإِلتفات الى عدة دروس حيّة تستلهم من هذه القصّة:

1 ـ مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء

من الطبيعي أنّ الأعداء لا يدخلون الميادين ـ عند الهجوم ـ بصراحة ودون استتار أبداً.

بل إِنّهم من أجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل وسائل الدفاع يسعون الى إِخفاء عملهم تحت قناع جذاب إِنّ إِخوة يوسف أخفوا خطة هلاكه أو إِبعاده تحت غطاء أسمى الأحاسيس والعواطف الأخوية، هذه الأحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لأنّ يمضي معهم، وكانت عند أبيهم موضع قبول من جهة أُخرى أيضاً.

وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليوميّة على المدى الواسع، وما

[148]

تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار غير قليل، ولها مظاهر متعددة، فمرةً بمظهر المساعدات الإِقتصادية، وأُخرى تحت ستار التبادل الثقافي، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر، ورابعة بأسلوب المعاهدات الدفاعية ... كل تلك الأُمور كانت نتيجة أسوأ القرارات الإِستعمارية المذلّة للأُممِ المستضعفة والتي من ضمنها أُمتنا الإِسلاميّة.

ولكن ومع هذه التجارب التاريخيّة ينبغي أن نكون حذرين للغاية وأن نعرف أعداءنا جيداً، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد أن تمتص دماءنا بما تظهره من عواطف وأحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما زلنا نتذكر ما فعلتة الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار المساعدات الطبيّة الى بعض الدول الإِفريقية المتضررة بالحرب أسلحة وعتاد أرسلت الى عملائها، كما بعثت أخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية والسفارات والممثلين لها الى مختلف مناطق العالم.

وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدّول المستضعفة على الاسلحة الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الاسرار العسكرية لتلك الدولة.

وبإرسال خبراء فنيين!! الى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج تكرس التبعية تُرى، أليست كل هذه التجارب التأريخيّة كافية لئلاّ ننخدع بهذه الزخارف البّراقة الكاذبة وأن نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالإِنسانيّة.

2 ـ حاجة الإِنسان الفطرية والطبيعية الى التنزّه والإِرتياح

من الطريف أن يعقوب(عليه السلام) لم يردّ على كلام إِخوة يوسف واستدلالهم على أنّه بحاجة الى التنزه والإِرتياح، بل وافق على ذلك عمليّاً، وهذا دليل كاف على أن أيّ عقل سليم لا يستطيع أن يُنكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعيّة ... فالإِنسان

[149]

ليس آلة تستعمل في أي وقت كان وكيف كان، بل له روح ونفس ينالهما التعَبُ والنَصُب كما ينالان الجسم. فكما أن الجسم يحتاج الى الراحة والنوم، كذلك الرّوح والنَّفس بحاجة الى التنزّه والإِرتياح السليم.

التجربة ـ أيضاً ـ تدل على أن الإِنسان كلّما واصل عمله بشكل رتيب، فانّ مردود هذا العمل سيقلّ تدريجياً نتيجة ضعف النشاط، وعلى العكس من ذلك فإنّ الإِستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطاً جديداً بحيث تزداد كمية العمل وكيفيته معاً، ولذلك فإنّ الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون عوناً على العمل أيضاً.

وفي الرّوايات الإِسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة «القانون» حيث يقول الإِمام علي(عليه السلام): «للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل»(1).

وممّا يستجلب النظر أنّ في بعض الرّوايات الإِسلامية أضيفت هذه الجملة الى النص المتقدم «وذلك عون على سائر الساعات».

وعلى حدّ تعبير البعض فإنّ التنزّه والإِرتياح بمثابة تدهين وتنظيف أجهزة السيّارة، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة أجهزتها وتنظيفها، فإنها ستغدو أكثر قوةً نشاطاً يعوّض عن زمن توقفها أضعاف المرات، كما أنه سيزيد من عمر السيارة أيضاً.

لكن المهم أن يكون هذا التنزّه صحيحاً، وإِلاّ فإنه لا يحل المشكلة، بل سيزيدها، فإِنّ كثيراً من حالات التنزّه هذه تدمر الإِنسان وتسلب منه نشاطه وقدرته على العمل لفترة ما، أو على الأقل تخفف من نشاط عمله.

وهناك نقطة تدعو للإِلتفات أيضاً، وهي أن الإِسلام اهتم بمسألة الترويض والإِستراحة النفسيّة بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار .. ويحدثنا التاريخ


1 ـ نهج البلاغه، الكلمات القصار: رقم الكلمة 390.

[150]

أنّ قسماً من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحياناً كانت تناط إِليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة، وربّما أعطى ناقته الخاصّة ـ لبعض الصحابة للتسابق عليها.

ففي رواية الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِن النّبي أجرى الإِبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله ورسول الله يقول: سبق أسامة(1)» (إِشارة الى أن المهم في السبق هو الراكب لا المركب، حتى وإِن كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق).

النقطة الأُخرى هي أنّه كما أن إِخوة يوسف استغلّوا علاقة الإِنسان ـ ولا سيما الشاب ـ بالتنزّه واللعب من أجل الوصول الى هدفهم الغادر ... ففي حياتنا المعاصرة ـ أيضاً ـ نجد أعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب، فينبغي أن نحذر المستكبرين «الذئاب» الذين يخططون لاضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية.

ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاه)، فإنّهم وبهدف تنفيذ بعض المؤاموات ونهب ثروات البلاد وتحويلها الى الأجانب لقاء ثمن بخس، كانوا يرتّبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لإِلهاء الناس لئلاّ يطلعوا على المسائل السياسيّة.

3 ـ الولد في ظلّ الوالد

إِذا كانت محبّة الأب الشديدة أو الأُم بالنسبة للولد تستوجب أن يحفظ الى جانبهما، إِلاّ أن من الواضح أن فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إِليها، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقل


1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 596.

[151]

هذه المحافظة كلّما تقدّمت به السن، ويُمنح الولد الإِجازة ليخطوُ في حياته نحو الإِستقلال، والاّ فسيكون كمثل غرسة النّورس تحت ظل الشجرة القوية دائماً لا تنمو كما يلزم.

وربّما وافق يعقوب(عليه السلام) ـ لهذا السبب ـ على اقتراح أبنائه رغم علاقته الشديدة بيوسف، وأرسله معهم الى خارج المدينة، ومع أنّ هذا الإمر كان صعباً على يعقوب، ولكن مصلحة يوسف وحاجته الى الرُشد والنُموّ كانت تستوجب أن يُجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وأيّاماً!

وهذه مسألة تربوية مهمّة غَفل عَنها كثير من الآباء والأُمهات، حيث يربّون أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون أن يعيشوا خارج «خيمة الأبوين» ومحافظتهما عليهم، وبالتالي يسقطون أمام تيارات الحوادث وضغوطها، كما أن هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة، ولكنّهم صنعوا أنفسهم بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها.

فالمهم أن يلتفت الوالدان الى هذه المسألة التربوية، وإِلاّ فستكون محبتهما «الكاذبة» مانعاً من استقلال أولادهم.

من الطريف أن هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي، فنحن نرى أفراخ الدجاج «الفروج» ـ مثلا ـ يبدأ حياته تحت جناحي أمه، وتحافظ الدجاجة الأُم عليها كما تحافظ على روحها «العزيزة».

ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الأفراخ فإنّ الأُم لا تترك المحافظة على هذه الأفراخ فحسب، بل تنقرُ أيّاً منها يصل إِليها. ومعنى هذا أنّها تريد أن تعوِّدهم على أن يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟!

ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة والمحبّة، بل هي محبّة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين.

[152]

4 ـ لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية

نشاهد في هذا الفصل من القصّة أنّ يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه إِخوة يوسف ... وتحذيره ولَدَهُ يوسف ألاّ يقصص رؤياه على إِخوته، وأن يكتم الأمر، إِلاّ أنّه لم يكن مستعداً لأنّ يتّهمهم بقصد الإِساءة الى يوسف، بل كان عذره إِليهم أنّه يحزنه فراقه، ويخاف أن يأكله الذئب في الصحراء.

والأخلاق والمعايير الإِنسانية والأسس القضائية العادلة توجب ذلك أيضاً، فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه، فالأصل البراءة والصحّة والطهارة إِلاّ أن يثبت خلافه.

5 ـ تلقين العدوّ

المسألة الأُخرى أننا نقرأ ـ في ذيل الآيات المتقدمة ـ رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «لا تلقّنوا الكذّاب فيكذب فإنّ بني يعقوب(عليه السلام) لم يعلموا أن الذئب يأكل الإِنسان حتى لقّنهم أبوهم»(1). إِشارة الى أنه قد يحدث أحياناً أن لا يلتفت الطرف الآخر الى الحيلة والى طريق الإِعتذار وانتخاب طريق الإِنحراف، فعليكم أن تحذروا من ذكر الإِحتمالات المختلفة التي تبيّن له طرق الإِنحراف.

ومثل هذا يشبه تماماً ما لو قال الإِنسان لطفله: لا ترمِ الكرة باتّجاه المصباح، ولم يكن الطفل يعلم أن الكرة يمكن أن تُرمى نحو المصباح، فيلتفت الى أن مثل هذا العمل ممكن، وتتحرك فيه نوازع الفحص ... ماذا سيكون لو رميت الكرة باتجاه المصباح؟ ثمّ يبدأ «لعبته» لتنتهي بتكّسر المصباح!

وليس هذا موضوعاً هيناً ولا خاصاً بالأطفال، فقد يتفق أحياناً أن الأوامر والنواهي الخاطئة، تسبب أن يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل، فتوسوس لهم أنفسهم أن يقدموا عليها، فينبغي في مثل هذه الموارد ـ قدر المستطاع ـ أن


1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 415.

[153]

تثار المسائل بشكل لا يبعث على أي تعلّم سيىء!

وبالطبع فإنّ يعقوب النّبي(عليه السلام) قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب، إِلاّ أنّ أبناءه الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيىء.

وشبيه هذا الموضوع الأُسلوب الذي نجده في كثير من المقالات، فمثلا قد يكتب أحدهم مقالة ـ أو يقوم باخراج فيلماً أو غيرها ـ عن ضرر الموادّ المخدرة أو الإِستمناء، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غيرُ المطلعين وينسون المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها، ولذلك فغالباً ما يكون ضرر هذه المقالات والأفلام وخسارتها أكثر من فائدتها بمراتب.

6 ـ وآخر نقطة نشير إِليها هنا أنّ إِخوة يوسف (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون) وهي إِشارة الى أنّ الإِنسان إِذا تحمّل مسؤوليةً ما ـ ووافق عليها ـ فإنّ من الواجب عليه أن يوقف نفسه من أجلها ... وإِلاّ فإنّه سيفقد كل قِيمهِ ـ قيمة شخصيته، وماء وجهه، والموقع الإِجتماعي، ووجدانه.

فكيف يعقل أن يكون الشخص ضمير حيّ ووجدان يقظ وشخصية كريمة يعتز بحيثيته وماء وجهه، ومع كل ذلك يتنصل عن مسؤولياته ويقف موقفاً سلبياً إِزاءها؟!

* * *

[154]

الآيات

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(15)وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ(16) قَالُوا يَـأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بُمُؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـدِقِينَ(17) وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)

التّفسير

الكذب المفضوح:

وأخيراً إنتصر إِخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإِزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم ... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإِرسال يوسف معهم.

فجاؤوا صباحاً الى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته

[155]

في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة، وتحركوا الى خارج المدينة.

يقال: إِنّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته، وكان إِخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإِظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى أنّه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجىء من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيرهُ أحد منهم.

نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة، ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ... فتعجب إِخوته كثيراً وحسبوا أن أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً ... ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إِذ قال: ـ لا أنسى أنني نظرت ـ أيها الإِخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإِخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أُجار، وقد سلطكم الله عليّ لأتعلم هذا الدرس، وهو ألاّ أعتمد وأتوكّل على أحد سواه ... حتى ولو كانوا إِخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب)(1).


1 ـ في العبارة المتقدمة حُذف جوابُ «لما» والتقدير كما يلي: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة أن يسكت عنه المتكلم، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

[156]

جملة «أجمعوا» تدلّ على أنّ جميع الإِخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة، وإِن لم يتفقوا جميعاً على قتله.

وأساساً فإنّ كلمة «أجمعوا» مأخوذة من مادة «جمع» وهي في هذه الموارد إِشارة الى جمع الأراء والأفكار.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله أوحى الى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألاّ يحزن فالعاقبة له، إِذ تقول: (وأوحينا إِليه لتنبئتهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).

ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين، فيأتي إِخوتك ليمدّوا أيدي الحاجة إِليك، ويكونوا كالظامئين الى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إِليك في منتهى التواضع، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون أنك أخوهم، وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا ... وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم!

وهذا الوحي الإِلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها، بل كان إِلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيداً، بل له حافظ ورقيب، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ إِخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم أن يوسف إنتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم الى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه، فأقنعوه ـ ظاهراً ـ عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إِليه بدلائل مزيّفة!!

يقول القرآن الكريم: (وجاءُوا أباهم عشاءً يبكون) بكاءً كاذباً، وهذا يدلّ على أنّ البكاء الكاذب ممكن .. ولا يمكن أن يُخدع ببكاء العين وحدها.

أمّا الأب الذي كان ينتظر مجيىء ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتز

[157]

وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسراً ... فأجابوه و(قالوا إِنّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) لصغر سنه ولأنّه لا يعرف التسابق، وانشغلنا عنه (فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).

لأنك أخبرتنا من قبلُ بهذا الإِحتمال، وستظن أن ادّعاءنا مجرّد احتيال.

لقد كان كلام إِخوة يوسف مدروساً بشكل دقيق، وذلك ـ أوّلا ـ لأنّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة «يا أبانا» وفيها ما فيها من الإِستعطاف.

وثانياً: لأنّ من الطبيعي أن ينشغل هؤلاء الإِخوة الأقوياء بالتسابق، ويتركوا أخاهم الصغير رقيباً على متاعهم، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم، وقالوا له: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).

ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد (جاءُوا على قميصه بدم كذب)إِذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس ...

ولكن حيث أنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة، وحيث أن أية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظّمة في الكذب، فقد غفل إِخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة ... وهي ـ على الأقل ـ أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب ... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إِن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و(قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً).

جاء في بعض الرّوايات أنّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول: «ما آرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم»، وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل إبني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنّه بكى وصاح وحرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من

[158]

ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلاّ ببرد السحر(1).

وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: (فصبر جميل)(2) ثمّ قال: (والله المستعان على ما تصفون) وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي الى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.

ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنّه كان يعلم أن يوسف لم يُقتل ... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف ... وعلى ما تصفون.

* * *

ملاحظات

1 ـ حول الترك «الأَولى»

ينقل أبو حمزة الثمالي عن الإِمام السجاد فيقول: كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الإِمام السجاد(عليه السلام) فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض الى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تُسمى سكينة فقال لها: «لا يعبر على بابي سائل إِلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة».

يقول أبو حمزة: فقلت له: ليس كل من يطلب العَونَ مستحقاً له، فقال: يا أبا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نُطعمه ونردّه فينزل بنا ـ أهل البيت ـ ما نزل بيعقوب وآله. أطعِمُوهم إِن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه، وإِن سائلا مؤمناً صوّاماً محقّاً له عندالله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترَّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إِفطاره


1 ـ تفسير الآلوسي: ذيل الآية.

2 ـ صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: صبري صبر جميل.

[159]

يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله: فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه الى الله باب وطاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.

قال: فأوحى الله عزّو جلّ الى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت ـ يا يعقوب ـ عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب، إِن أحبّ أنبيائي إِليَّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرَّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب، ما رحمت «ذميال» عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان افطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً. فاسترجع واستعبر وشكا ما به إِليّ وبات جائعاً وطاوياً حامداً، أصبح لي صائماً، وأنت ـ يا يعقوب ـ ووُلدك شباع، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

أو علمت ـ يا يعقوب ـ أنّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها الى أعدائي ... الخ...(1).

ومن الطريف أنّ أبا حمزة يقول: سألت الإِمام زين العابدين(عليه السلام) متى رأى يوسف رؤياه؟ فقال الإِمام: في تلك الليلة»(2).

يستفاد من هذا الحديث أن زلّة بسيطة أو بعبارة أدق: «ترك الأَولى» وهو لا يعدّ خطيئة أو إِثماً، لأنّ يعقوب له يتّضح له حال السائل ... هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سبباً لأنّ يبتليهم الله بلاءً شديداً ... وما ذلك إِلاّ لمقامهم


1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 243 ونور الثقلين، ج 2، ص 411.

2 ـ المصدر السّابق.

[160]

الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأنّ «حَسنات الأبرار سيئات المقربين».

فاذا كان يعقوب(عليه السلام) قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لأنّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلَمون من عذاب الله!

2 ـ دعاء يوسف البليغ الجذّاب

ترد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) وروايات أهل السنة، أن يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء، وصرف كلِّ توجهه الى ذات الله المقدسة يناجي ربّه، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إِياه ...

ففي رواية أنّه دعا ربّه بهذه المناجاة «اللّهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حيّ يا قيّوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إِنّك على كل شيء قدير».

ومن الطريف أنّنا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أنّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت: «إِلـهنا نسمع صوتاً ودعاءً، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ»(1).

وهناك نقطة تدعو للإِلتفات وهي: حين رمى يوسفَ إِخوتُهُ في الجبّ خلعوا عنه قيمصه وتركوه عارياً، فنادى: اتركوا لي قميصي ـ على الأقل ـ لأغطي به بدني إِذا بقيت حياً، ويكون كفني إِذا متّ. فقال له إِخوته: اطلبه من الشمس


1 ـ تفسير القرطبي، ج 5، ص 337.

[161]

والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويُلبسوك ثوباً على بدنك ... فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر.(1)

وفي رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «حين أُلقي يوسف في الجبّ هبط عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيّها الغلام؟ فقال له: إِن إِخوتي ألقوني في البئر. فقال له جبرئيل: أتُّحبُّ أن تخرج من البئر؟ قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني. فقال له: إِن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: «اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإِكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً»(2).