أمّا الذين يقبلون الإِسلام ومن ثمّ يرتدون عنه فيواجهون بشدّة وعنف، لأنّ عملا كهذا يؤدي إِلى أضرار فادحة تصيب المجتمع الإِسلامي، وهو بمثابة نوع من الحرب ضد الحكومة الإِسلامية، وغالباً ما يصدر مثل هذا العمل مستبطناً النية السيئة بإِيصال أسرار المجتمع الإِسلامي (ونقاط القوة والضعف) ليد الأعداء المتربصين للمسلمين الدوائر.

فلهذا، مَنْ انعقدت نطفته وكان أبواه مسلمين عند انعقاد النطفة (مسلم الولادة) ثمّ تثبت المحكمة الإِسلامية بأنّه قد ارتد عن الإِسلام يباح دمه، تقسَّم أمواله على ورثته، تبيّن عنه زوجته، وظاهراً لا تقبل توبته، أيْ أنّ هذه الأحكام الثلاثة تجري في حقه على كل حال، ولكن إِذا ندم وتاب صادقاً، فإِنّ توبته ستقبل عند اللّه تعالى (وتوبة المرأة تقبل على الأطلاق).


1 ـ لأجل المزيد من الإِيضاح في مسألة التقية وأحكامها وفلسفتها وأدلتها، راجعوا كتابنا (القواعد الفقهية)، الجزء الثالث.

[343]

وإِذا ارتدَّ إِنسان ما عن الإِسلام ولم يكن مسلماً بالولادة، يتعيّن عليه التوبة، فإِنَّ تاب قُبِلَتْ توبته وينجو من العقاب.

وقد يُنْظَر للحكم السياسي الصادر بحقِّ المرتدّ الفطري على أنّ فيه نوعاً من الخشونة والقسوة وفرضاً للعقيدة وسلباً لحرية الفكر، ولكنّ حقيقة هذه الأحكام تختص بمن يظهر عقائده المخالفة أو يدعو لها ولا تطال من يعتقد باعتقادات مخالفة ولكنّه لم يظهرها للناس، لأنّ الدعوة للعقائد المخالفة تمثل في واقعها حرباً للنظام الإِجتماعي الموجود، وعليه فلا تكون الخشونة والحال هذه عبثاً، ولا تتنافى وحرية الفكر والإِعتقاد، وكما قلنا فإِنّ شبيه هذا القانون موجود في كثر من دول الغرب والشرق مع بعض الإِختلافات.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ قبول الإِسلام يجب أن يكون طبقاً للمنطق، والذي يولد من أبوين مسلمين وينشأ بين أحضان بيئة إِسلامية، فمن البعيد عدم ادراكه محتوى الإِسلام، ولهذا يكون ارتداده وعدوله عن الإِسلام أشبه بالخيانة منه من عدم إِدراك الحقيقة، ولذلك فهو يستحق ما خُطَّ في حقه من عقاب.

على أنّ الأحكام عادةً لا تخصص لشخص أو شخصين وإِنّما يلحظ فيها المجموع العام(1).

* * *


1 ـ اختلف المفسّرون بخصوص جملة «مَنْ كفر بالله...»، فاعتبرها بعضهم: شرحاً وتوضيحاً للجملة السابقة لها وأنّها بدل لعبارة «الذين لا يؤمنون بآيات اللّه»، فيما اعتبرها آخرون: بدلا لكلمة «كاذبون»، وقال بعضهم: أنّها مبتدأ محذوف الخبر ويقدروها بـ «مَن كفر بالله مِن بعد إِيمانه فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب أليم»، فجزاء الشرط محذوف لدلالة الجملة التالية على ذلك.

وثمّة احتمال رابع (ويبدو أفضل الإِحتمالات) وهو: أنّها مبتدأ، وخبرها في نفس الآية وغير ومحذوف، أمّا عبارة «لكنْ من شرح للكفر صدراً» فهي توضيح جديد للمبتدأ لوقوع جملة إِستثنائية بينها وبين خبرها، وهذا النوع من التعبير كثير الاستعمال حتى في غير اللغة العربية ـ فتأمل.

[344]

الآيات

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فأخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظـلِمُونَ(113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلـلا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(114)

التّفسير

الذين كفروا فأصابهم العذاب

قلنا مراراً: إِنّ هذه السورة هي سورة النِعَمْ، النعم المادية والمعنوية وعلى كافة الأصعدة، وقد مرَّ ذكر في آيات متعددة من هذه السورة المباركة.

وتصور لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإِلهية على شكل مثل واقعي.

ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة اللّه عليه: (ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة) لا تضطر إِلى هجرة إِجبارية، بل تعيش في أمن وأمان

[345]

(مطمئنة) ومضافاً الى ذلك (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان).

ولكنّ حالها قد تبدّل في النهاية (فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).

وإِضافة لاستكمال نعم اللّه المادية عليهم، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية ما يستقر به حالهم في الدنيا، ويدام لهم ذلك في الآخرة، فبعث بين ظهرانيهم رسل وأنبياء وأرسلت إِليهم التعاليم السماوية (ولقد جاءهم رسول منهم فكذّبوه).

فكانت النتيجة أنْ: (فأخذهم العذاب وهم ظالمون).

وإنّكم حين تطلعون على هذه النماذج الواقعية من الأُمم السابقة، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق أُولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم اللّه (فكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالا طيباً واشكروا نعمة اللّه إِنْ كنتم إِيّاه تعبدون).

* * *

بحوث

1 ـ أهو مثالٌ أمْ حدثٌ تاريخي؟

لقد عبّرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرّة بكثرة النعم، والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم اللّه، عبّرت عن ذلك بكلمة «مثلا» وبذات الوقت فإِنّ الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي، ممّا يشير إِلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض، وهنا حصل اختلاف بين المفسّرين في الهدف من البيان القرآني، فقسمٌ قد احتمل أنّ الهدف هو ضرب مثال عام، وذهب القسم الثّاني إِلى أنّه لبيان واقعة تأريخية معيّنة.

وتطرّق مؤيدو الإِحتمال الثّاني إِلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه الواقعة. فذهب بعضهم أنّها أرض مكّة، ولعل (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان)تدعو إِلى تقوية هذا الإِحتمال، لأنّه دليل على أنّ هذه المنطقة مجدبة، وما تحتاج

[346]

إِليه يأتيها من خارجها، وما جاء في الآية (57) من سورة القصص (يجبى إِليه ثمرات كل شيء) يعضد هذا المعنى، خصوصاً وأنّ المفسّرين قد قطعوا بأنّها إِشارة إِلى مكّة المكرمة.

ويُردّ هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكّة على ما للحادثة من وضوح، فغير معروف عن مكّة أنّها عاشت أيّاماً رغيدة ومن ثمّ جاءها القحط والجوع!

وقال بعض آخر: حدثت هذه القصّة لجمع من بني إِسرائيل في منطقة ما، وأنّهم أُبتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم اللّه.

وما يؤيد ذلك ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ قوماً في بني إِسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل اللّه بهم حتى اضطرّوا إِلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو قول اللّه» (ضرب اللّه مثلا...)(1).

ورويت روايات أُخرى قريبة من هذا المضمون عن الإِمام الصادق(عليه السلام)وتفسير علي بن إِبراهيم ممّا لا يمكن الإِعتماد الكامل على أسانيدها، وإِلاّ لكانت المسألة واضحة(2).

وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إِلى قوم «سبأ» الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (15 ـ 19) من سورة سبأ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإِستكبار وكفران النعم الإِلهية، فأهلكهم اللّه وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.

وجملة (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان) ليست دليلا قاطعاً على أنّها لم


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 (لاحظ بأن الرّواية عن تفسير العياشي، وأحاديثه مرسلة).

2 ـ المصدر السابق.

[347]

تكن عامرّة بذاتها، لأنّه من الممكن أنْ يقصد بـ «كل مكان» أطرافها وضواحيها، وكما هو معروف فإِنّ المحاصيل الزراعية لإِقليم كبير تنتقل إِلى المدينة أو القرية المركزية في تلك المنطقة.

وينبغي التذكير مرّة أُخرى بعدم وجود المانع من شمولية إِشارة الآية إِلى كل ما ذكر من احتمالات.

وعلى أيّةِ حال، فليس ثمّة مشكلة مهمّة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ.

وإِذا كان عدم الإِطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض المفسّرين إِلى اعتبار الموضوع مثالا عامّاً مجرّداً وليس منطقة معينة، فظاهر الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التّفسير، بل يشير إِلى وجود منطقة معينة وحادثة تأريخية.

2 ـ الرابطة ما بين الأمن والرّزق الكثير

ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرّة المباركة:

الخاصية الأُولى: الأمن.

الخاصية الثّانية: الإِطمئنان في إِدامة الحياة.

الخاصية الثّالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إِليها.

وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطاً علّياً وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فُقِدَ الأمن لما اطمأن الإِنسان على إِدامة حياته في مكانه المعيّن، وإِذا فقد الإِثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإِنتاج وتحسين الوضع الإِقتصادي هناك.

فالآية تقدم درساً عملياً لمن يرغب في بلاد عامرّة وحرّة ومستقلة، فقبل كل شيء لابدّ من توفير حالة الأمن، ومن ثمّ بعث الإِطمئنان في قلوب الناس

[348]

بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الإِقتصاد.

فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إِلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (مادياً ومعنوياً) تحتاج المجتمعات إِلى نعمة الإِيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: (ولقد جاءهم رسول منهم).

3 ـ لباس الجوع والخوف

ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم اللّه، قائلةً: (فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف) فمن جهة: شبّهت الجوع والخوف باللباس، ومن جهة أُخرى: عبّرت بـ «أذاقها» بدلا من (ألبسها).

وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسّرين إِلى التوقف والتأمل في الآية...

فالتعبير يحمل بين طياته إِشارة لطيفة، فمثلا:

قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟

قال ابن الأعرابي: لا بأس ولا لباس يا أيُّها النسناس، هب أنّك تشكّ أنّ محمّداً ما كان نبيّاً أمّا كان عربياً!!(1).

وعلى أيّةِ حال، فالتعبير إِشارة إِلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه، ومن جهة أُخرى فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنّهم يتذوقونه بألسنتهم.

وهو تعبير عن أشدّ حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أنّ يصيب جميع وجود الإِنسان.


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 20، ص 128.

[349]

فكما أنّ نعمة الأمن والرفاه قد غطّت كامل وجودهم في البداية، فها هم وقد حال بهم الأمر لأنْ يحل الفقر والخوف محلّها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم اللّه سبحانه.

4 ـ أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإِلهية

رأينا في الرّواية المتقدمة كيف راح أُولئك المرفهون بتطهير أجسادهم بواسطة المواد الغذائية بعد أنْ تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور، حتى ابتلاهم اللّه بالقحط والخوف.

وعرض الحادثة ما هو إِلاّ تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإِلهية، على أنّ الإِسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.

وهو تنبيه أيضاً للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائماً.

وهو تنبيه كذلك لأُولئك الذين يهيئون غذاءً يكفي لعشرين شخصاً، وليس لهم من الضيوف إِلاّ أربعة، ولا يصل الزائد منه إِلى بطون الجياع من الناس.

وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم انتظاراً لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباءً من غير أنْ يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.

نعم، فلا يخلو أيّ عمل ممّا ذكر من عقوبة إِلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.

وتتّضح أهمية المسألة إِذا علمنا أنّ المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية محددة بنسبة، فأيُّ إِفراط في أيِّ نوع من المواد يؤدي إِلى حرمان نسبة من البشر من تلك المواد.

ولذلك جاء التأكيد الشديد حول هذه المسألة في الأحاديث الشريفة، حتى

[350]

روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له، إِلاّ أنْ يمصها، أو يكون إِلى جانبه صبي فيمصها، قال: فإِنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثمّ قال: إِنّ أهل قرية ممن كان قبلكم كان اللّه قد وسّع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إِلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة، قال عليه السلام: فلما فعلوا ذلك بعث اللّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللّه إِلاّ أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إِلى أنّ أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه، وهي القرية التي قال اللّه تعالى: (ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) إِلى قوله: (بما كانوا يصنعون)(1)

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 و 92

[351]

الآيات

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيِر وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(115)وَلاَ تَقَولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هـذَا حَلـلٌ وَهـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ(116) مَتـعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبلُ وَمَا ظَلَمْنـهُمْ وَلـكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهـلَة ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(119)

التّفسير

لا يفلح الكاذبون:

بعد أنْ تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإِلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات

[352]

الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي أُحدثت في دين اللّه، وتشرع بالقول: (إِنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير اللّه به)(1).

وقد بحثنا موضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير بالتفصيل في تفسيرنا للآية (173) من سورة البقرة.

إِنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكونات البدن تقبلا للتلوّث بالجراثيم، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإِصابه بالكثير من الأمراض الخطرة، وفوق كل ذلك (وكما قلنا في تفسيرنا لسورة البقرة) فتناول لحم الخنزير والدم له الأثر الخطير على الحالة النفسية والأخلاقية للإِنسان، بسبب التأثير الحاصل منهما على هرمونات البدن، (و الميتة بسبب عدم ذبحها وخروج دمها فإِنّ أضرار التلوّث تتضاعف فيها).

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير اللّه (حيث كانوا بدلا من ذكر اسم اللّه عند الذبح يذكرون أسماء أصنامهم أو لا يتلفظون بشيء) فليست صحية، بل هي أخلاقية ومعنوية، حيث نعلم بعدم كفاية علّة التحليل والتحريم في الإِسلام بملاحظة الجانب الصحي للموضوع، بل من المحرمات ذات جانب معنوي صرف، وحرمت بلحاظ تهذيب الروح والنظر إِلى الجنبة الأخلاقية، وقد يأتي التحريم في بعض الحالات حفظاً للنظام الإِجتماعي.

فتحريم أكل لحم ما لم يذكر عليه اسم اللّه إِنّما كان بلحاظ أخلاقي. فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة أُخرى يكون دعوة إِلى خالق هذه النعم.


1 ـ أُهِلَّ: من الإِهلال، مأخوذُ من الهلال، بمعنى إِعلاء الصوت عند رؤية الهلال، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إِذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عالياً بأسماء أصنامهم، فقد عبّر عنه بـ «أُهِلَّ».

[353]

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإِسلام يوصي بالإِعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).

جواب على سؤال:

وهنا يأتي السؤال التالي.. ذكرت الآية المباركة أربعة أقسام من الحيوانات المحرمة الأكل أو أجزائها، والذي نعلمه أنّ المحرم من اللحوم أكثر ممّا ذكر، حتى أنّ بعض السور القرآنية ذكرت من المحرمات أكثر من أربعة أقسام (كما في الآية (3) من سورة المائدة).

فلماذا حددت الآية أربعة أشياء فقط؟

وجواب السؤال ـ كما قلنا في تفسير الآية (145) من سورة الأنعام ـ : أنّ الحصر الموجود في الآية هو حصر إِضافي، أيْ أنّ المقصود من استعمال «إِنّما» في هذه الآيات لنفي وإِبطال البدع التي كان يقول بها المشركون في تحريم بعض الحيوانات، و كأنّ القرآن يقول لهم: هذه الأشياء حرام، لا ما تقولون!

وثمّة إِحتمال آخر، وهو أنْ تكون هذه المحرمات الأربعة هي المحرمات الأصلية أو الأساسية، حيث أنّ «المنخنقة» المذكورة في آية (3) من سورة المائدة داخلة في إِحدى الأقسام الأربعة (الميتة).

أمّا المحرمات الأُخرى من أجزاء الحيوانات أو أنواعها ـ كالوحوش ـ فتأتي في الدرجة الثّانية، ولذا أتى حكم تحريمها بطريق سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيمكن أنْ يكون الحصر في الآية حصراً حقيقياً ـ فتأمل.

وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني عند تناوله ذُكرت الحالات

[354]

والموارد الإِستثنائية، يقول: (فمن اضطر) كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء (غير باغ ولا عاد فإِنّ اللّه غفور رحيم).

«باغ» أو الباغي: (من البغي) بمعنى «الطلب»، ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرم اللّه.

«عاد» أو العادي، (من العدو) أي «التجاوز»، ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وورد تفسير (الباغي) في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) بأنّه (الظالم)، و(العادى) بمعنى (الغاصب)، وجاء ـ أيضاً ـ الباغي: هو الذي يخرج على إِمام زمانه، والعادي، هو السارق.

وإِشارة الرّوايات المذكورة يمكن حملها على الإِضطرار الحاصل عند السفر، فإِذا سافر شخص ما طلباً للظلم والغصب والسرقة ثمّ اضطر إِلى أكل هذه اللحوم المحرمة فسوف لا يغفر له ذنبه، حتى وإِن كان لحفظ حياته من الهلاك المحتم.

وعلى أيّةِ حال، فلا تنافي بين ما ذهبت إِليه التفاسير وبين المفهوم العام للآية، حيث يمكن جمعها.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل، والذي تطرق القرآن إِليه سابقاً بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه صراحةً حيث تقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب)(1).

أيْ إِنّ ما جئتم به ليس إِلاّ كذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى! (أشارة إِلى الأنعام التي حرمها


1 ـ وهكذا أصل تركيب جملة (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب): اللام: ..لام التعليل، «ما» في «لما تصف».. مصدرية، و«الكذب» ..مفعول لـ «تصف» ..فتكون العبارة: (لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتوصيف ألسنتكم الكذب).

[355]

البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أنْ جعل قسماً منها لأصنامه).

فهل أعطاكم اللّه حقّ سنّ القوانين؟ أمْ أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإِحداث هذه البدع؟ ..أوَ ليس هذا كذباً وافتراءاً على اللّه؟!

وجاء في الآية (136) من سورة الأنعام بوضوح: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم  فلا يصل إلى اللّه وما كان لله فهو يصل إِلى شركائهم ساء ما يحكمون).

ويستفاد كذلك من الآية (148) من سورة الأنعام: (سيقول الذين أُشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء) أنّهم كانوا يجعلون لأنفسهم حق التشريع في التحليل والتحريم، ويظنون أنّ اللّه يؤيد بدعهم! (وعلى هذا فكانوا يضعون البدعة أوّلاً ويحللون ويحرمون ثمّ ينسبون ذلك إِلى اللّه فيكون إِفتراءاً آخر)(1).

ويحذر القرآن في آخر الآية بقوله: (إِن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون) لأنّ من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والإِفتراء على أيِّ إِنسان، فكيف به اذا كان على اللّه عزَّ وجلّ!؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: (متاع قليل ولهم عذاب أليم).

ويمكن أنْ تكون (متاع قليل) إِشارة إِلى أجنّة الحيونات الميتة التي كانوا يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها، أو إِشارة إِلى إِشباعهم حب الذات وعبادتها بواسطة جعل البدع، أو أنّهم بتثبيت الشرك وعبادة الأصنام في مجتمعهم يتمكنون أن يحكموا على الناس مدّة من الزمن، وكل ذلك (متاع قليل) سيعقبه (عذاب


1 ـ ولذا جاء ذكر افتراءهم في الآية مسبوقاً باللام ليكون نتيجة وغاية لبدعهم ـ فتأمل.

[356]

أليم).

ويطرح السؤال التالي: لماذا حرّمت على اليهود محرّمات إِضافية؟

الآية التالية كأنها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: (وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل).

وهو إِشارة إِلى ما ذكر من الآية (146) من سورة الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إِلاّ ما حملت ظهور هما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإِنّا لصادقون).

(ذي ظفر): هي الحيوانات ذات الظفر الواحد كالخيل.

(ما حملت ظهورهما): الشحوم التي في منطقة الظهر منها.

(الحوايا): الشحوم التي على أطراف الأمعاء والخاصرتين.

وحقيقة هذه المحرمات الإِضافية العقاب والجزاء لليهود جراء ظلمهم، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وكذلك ما جاء في الآيتين (160 و 161) من سورة النساء: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل).

فكان تحريم قسماً من اللحوم على اليهود ذا جنبة عقابيّة دون أنْ يكون للمشركين القدرة على الإِحتجاج في ذلك.

وما حرّمه المشركون إِنْ هو إِلاّ بدعة نشأت من خرافاتهم وأباطيلهم، لأنّ ما فعلوه ما كان جارياً لا عند اليهود ولا عند المسلمين (ويمكن أنْ تكون إِشارة الآية تؤدي إِلى هذا المعنى وهو إنّكم فعلتم ما لا يتفق مع أيَّ كتاب سماوي).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشياً مع الأُسلوب القرآني، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم،

[357]

فيقول: (ثمّ إِنّ ربّك للذين عملوا السوء بجهالة ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا انّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

ويلاحظ في هذه الآية جملة أُمور:

أوّلاً: اعتبرت علّة ارتكاب الذنب «الجهالة»، والجاهل المذنب يعود إِلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل، وهؤلاء غير الذين ينهجون جادة الضلال على علم واستكبار وغرور وتعصب وعناد منهم.

ثانياً: إِنّ الآية لا تحدّد موضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإِصلاح مكملا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإِمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ «أستغفر اللّه»، وتؤكّد على وجوب إِصلاح الأُمور عملياً، وترميم ماأُفْسِدَ من روح الإِنسان أو المجتمع بارتكاب تلك الذنوب، للدلالة إِلى التوبة الحقيقية لا توبة لقلقة اللسان.

ثالثاً: التأكيد على شمول الرحمة الإِلهية والمغفرة لهم، ولكن بعد التوبة والإِصلاح: (إِنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

وبعبارة أُخرى إِنّ مسألة قبول التوبة لا يكون إِلاّ بعد الندم والإِصلاح، وقد ذكر ذلك في ثلاثة تعابير:

أوّلاً: باستعمال الحرف «ثمّ».

ثانياً: «من بعد ذلك».

ثالثاً: «من بعدها».

لكي يلتفت المذنبون إِلى أنفسهم ويتركوا ذلك التفكير الخاطيء بأنْ يقولوا: نرجو لطف اللّه وغفرانه ورحمته، وهم على ارتكاب الذنوب دائمون.

* * *

[358]

الآيات

إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْركِينَ(120)شَاكِراً لأَِنْعُمِهِ اجْتَبـهُ وَهَدَاهُ إِلى صِراط مُّسْتَقِيم(121) وءَاتَيْنـهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّـلِحِينَ(122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبِّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَومَ الْقِيـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124)

التّفسير

كان إِبراهيم لوحده أُمّة!

كما قلنا مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإِنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم.

والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو «إِبراهيم» بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة.

والآيات تشير إِلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها

[359]

إِبراهيم(عليه السلام).

1 ـ (إِن إِبراهيم كان أُمّة).

وقد ذكر المفسّرون أسباباً كثيرة للتعبير عن إِبراهيم(عليه السلام) بأنّه «أُمّة» وأهمها أربع:

الأوّل: كان لإِبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أُمّة بذاته، وشعاع شخصية الإِنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أُمّة بكاملها.

الثّاني: كان إِبراهيم(عليه السلام) قائداً وقدوة حسنة ومعلماً كبيراً للإِنسانية، ولذلك أطلق عليه (أُمّة) لأنّ «أُمّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

وثمّة إرتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إِمام صدق واستقامة لأُمّة ما، يكون شريكاً لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأُمّة.

الثّالث: كان إِبراهيم(عليه السلام) موحداً في محيط خال من أيِّ موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه «أُمّة» في قبال أمّة المشركين (الذين حوله).

الرّابع: كان إِبراهيم(عليه السلام) منبعاً لوجود أُمّة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «أُمّة».

ولا مانع من أنْ تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة..

نعم فقد كان إِبراهيم أمّة وكان إِماماً عظيماً، وكان رجلا صانع أُمّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة إِجتماعية خالية من أيّ موحد(1).


1 ـ وفي الرّوايات عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن عبد المطلب: «يُبعث يوم القيامة أُمّة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء» لأنّه كان مدافعاً عن التوحيد في بيئة الشرك وعبادة الأصنام. (سفينة البحار، ج 2، ص 139).

[360]

وقال الشاعر:

ليس على اللّه بـمستـنـكـر أنْ يـجمع العالـم في واحـد

2 ـ صفته الثّانية في هذه الآيات: أنّه كان (قانتاً لله).

3 ـ وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللّه، طريق الحق (حنيفاً).

4 ـ (ولم يكُ من المشركين) بل كان نور اللّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.

5 ـ وبعد كل هذه الصفات، فقد كان (شاكراً لأنعمه).

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمّة لها، فيقول:

1 ـ (اجتباه) للنّبوة وإِبلاغ دعوته.

2 ـ (وهداه إِلى صراط مستقيم) وحفظه من كل انحراف، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثاً، بل لابدّ من توفر الإِستعداد والأهلية لذلك.

3 ـ (وآتيناه في الدنيا حسنة).

«الحسنة» في معناها العام كل خير وإِحسان، من قبيل منح مقام النّبوة مروراً بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4 ـ (وأنّه في الآخرة لمن الصالحين).

ومع أنّ إِبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإِنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إِبراهيم(عليه السلام) على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة، ولِمَ لا يكون ذلك وقد طلب إِبراهيم(عليه السلام) ذلك من ربّه حين قال: (ربِّ هب لي حكماً وألحقنى بالصالحين)(1).


1 ـ سورة الشعراء، 83.

[361]

5 ـ وختمت عطايا اللّه عزَّ وجلّ لإِبراهيم(عليه السلام) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاماً وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان ـ وخصوصاً للمسلمين ـ ولم يجعل دينه مختصاً بعصر أهل زمانه، فقال اللّه عزَّوجلّ: (ثمّ أوحينا إِليك أن اتبع ملّة إِبراهيم حنيفاً)(1).

ويأتي التأكيد مرّة أُخرى: (وما كان من المشركين).

وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إِنْ كان دين الإِسلام هو نفس دين إِبراهيم وأنّ المسلمين يتبعون سنن إِبراهيم(عليه السلام) في كثير من المسائل ومنها إِحترام يوم الجمعة، فلماذا اتّخذ اليهود يوم السبت عيداً لهم بدلا من الجمعة ويعطلون فيه أعمالهم؟