وإضافة لكونه مادة غذائية مهمّة فله القدرة على مكافحة الميكروبات بدرجة ملحوظة، حتى أُعتبر من العوامل المهمّة في مكافحة مرض السرطان والوقاية منه(3).

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «خير طعامكم الخبز، وخير فاكهتكم العنب»(4).

ولو أردنا ذكر كل ما أورده علماء التغذية بخصوص الفواكه الثلاث وضمّناها ما جاء بصددها من روايات لخرجنا عن طبيعة التّفسير، وإِنّما كان القصد من هذه


1 ـ سفينة البحار، ج1، ص124.

2 ـ سفينة البحار،: ج1، ص124 كذلك.

3 ـ أول جامعة وآخر نبي، الجزء السابع.

4 ـ الإِسلام طبيب بلا دواء.

[147]

الإِطالة بيان السبب العلمي الدقيق وراء ذكر هذه الفواكه في الآية المشار إِليها، ولعل أكثر ما ذكر من فوائد كان خافياً على أهل زمان نزول الآية.

3 ـ التفكر والتعقل والتذكر:

رأينا في الآيات المبحوثة أنّ القرآن دعا الناس بعد ذكر ثلاثة أقسام من النعم الإِلهية إِلى التأمل في ذلك، فقال في المورد الأوّل: (إِن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)، وفي المورد الثّاني: (لقوم يعقلون) وفي الثّالث: (لقوم يذّكرون).

إِن الإختلاف الوارد ليس للتصوير الفني في عبارات القرآن، لأن المعروف عن الأسلوب القرآني إشارته لكل معنى برمز خاص.

ولعل المقصود من ذلك أنّ النعم الإِلهية الموجودة في الأرض من الوضوح ما يكفي معها التذكر.

أمّا فيما يخص الزارعة والزيتون والنخيل والأعناب والفاكهة فتحتاج إِلى تركيز الفكر لمعرفة خواصها الغدائية والعلاجية، ولهذا ورد التعبير بالتفكر فيها.

وأمّا تسخير الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم فيحتاج إِلى تفكير أشد وأعمق من الحالة الأُولى، فورد التعبير بالتعقل.

وعلى أية حال، فالقرآن ـ دوماً ـ يخاطب العلماء والمفكرين والعقلاء، بالرغم من أنّ المحيط الذي نزل فيه كان متخوماً بالجهل، ومن هنا تتضح لنا عظمة عبارات القرآن بشكل جلي.

والقرآن بما يحمله يمثل ضربة قاصمة لضيقي الأفق من الذين رفضوا الأديان كلها لأنّهم اصطدموا بوجود أديان خرافية، وعلى أساسها الهش بنوا بنيانهم المهزوز على اعتبار أنّ الدين معطل للعقل والعلم وأنّ الإِيمان باللّه عزَّ وجلّ ناتج عن جهل الإِنسان وضعفه!!

[148]

ومن هذه النداءات الرّبانية ما نجده في جميع السور القرآنية تقريباً، التي تتحدث بكل وضوح عن: أنّ الدين الحق هو وليد التعقل والتفكر وليس وليد الخيال السارح والجهل الدامس.

وخطاب الإِسلام موجه باستمرار إِلى علماء وأُولي الألباب وليس إِلى الجهلة وذوي الخرافات الباطلة أو إِلى أدعياء الثقافة.

* * *

[149]

الآيات

وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيَّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14) وَأَلْقَى فِى الأََرْضِ رَوسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهـراً وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلَـمَـت وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(18)

التّفسير

نعمة الجبال والبحار والنجوم:

تبيّن هذه الآيات قسماً آخر من النعم الإِلهية غير المحدودة التي تفضل بها اللّه عزَّوجلّ على الإِنسان، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار، المنبع الحيوي للحياة، فيقول: (وهو الذي سخر البحر).

وكما هو معلوم أنّ البحار تشكل القسم الأكبر من سطح الكرة الأرضية، وأن الماء أساس الحياة، ولا زالت البحار باعتبارها المنبع المهم في إِدامة الحياة

[150]

البشرية وحياة جميع الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية.

فما أكبرها من نعمة حين جعلت البحار في خدمة الإِنسان...

ثمّ يشير الباري سبحانه إِلى ثلاثة أنواع من منافع البحار: (لتأكلوامنه لحماً طرياً) فقد جعل اللّه في البحار لحماً ليتناوله الإِنسان من غير أن يبذل أدنى جهد في تربية، بل أوجدته ونمّته يد القدرة الإِلهية، وقد خصه بالطراوة، فمع الأخذ بنظر الإِعتبار أنّ اللحوم غير الطازجة متوفرة في ذلك الزمان وفي هذا الزمان على السّواء ندرك جيداً أهمية هذه النعمة، وفي ذلك إشارة أيضاً الى أهمية اللحوم الطازجة.

ومع ما شهدته الحياة البشرية من التقدم والتمدن المدني في كافّة أصعدة الحياة لا زال البحر أحد المصادر الرئيسية للتغذية، ويصاد سنوياً مئات الآلاف من الأطنان من الأسماك الطرية التي أوجدتها ورعتها يد اللطف الإِلهية لأجل الإِنسان.

ونجد أنظار العلماء متجهة صوب البحار في قبال ما سيهدد البشرية من خطر نقص المواد الغذائية في المستقبل جراء الزيادة السكانية الهائلة، آملين خيراً بأنّ البحار ستسد مقداراً ملحوظاً من ذلك النقص، بواسطة تربية وتكثير أنواع الأسماك.

ومن جهة أُخرى وضعوا عدّة مقررات لمنع تلوّث مياه البحار للحد من تلف نسل الحيوانات البحرية، وكل ذلك يوضح ما في الآية المذكورة من مسائل علمية طرحت على البشرية قبل أربعة عشر قرناً.

ومن فوائد البحار أيضاً تلك المواد التجميلية المستخرجة من قاعه: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).

الحس الجمالي من الأُمور الفطرية التي فطر الإِنسان عليها وهو الباعث على إِثارة الشعر والفن الأصيل وما شاكلها عنده.

[151]

وبلا شك، يلعب هذا البعد دوراً مهمّاً في حياة البشر، وينبغي العمل على إِشباعه بشكل صحيح وسالم بعيداً عن أي نوع من الإِفراط والتفريط..

فلا فرق بالنتيجة بين مَنْ غرق في عبادة التجميل والزينة، وبين مَنْ أهملها وعاش حالة الجفاف الجمالي، لأنّ الأوّل مارس الإِفراط الباعث على تلف رأسماله وبات سبباً في إِيجاد الفواصل الطبقية المصاحب لقتل كل ما يمت للمعنويات بصلة، والثّاني مارس التفريط الباعث على الخمود والركود. فالإِثنان معاً عملا بما لا ينبغي أن يعمله أيْ إِنسان ذو فطرة سليمة بكافة أبعادها.

ولهذا أوصى الإِسلام كثيراً بالتزين المعقول الخالي من أيْ إِسراف مثل: لبس اللباس الجيد، التطيب بالعطور، استعمال الأحجار الكريمة...الخ.

ثمّ يتطرق القرآن إِلى الفائدة الثّالثة في البحار: حركة السفن على سطح مياهها، كوسيلة مهمّة لتنقل الإِنسان ونقل ما يحتاجه، فيقول: (وترى الفلك مواخر فيه)، وما أجمل ما تقع عليه أنظار راكبي السفينة حين حركتها على سطح البحار والمحيطات.

وأعطاكم اللّه هذه النعمة لتستفيدوا منها في التجارة أيضاً (ولتبتغوا من فضله)(1).

وبعد ذكر هذه النعم التي تستلزم من الإِنسان العاقل أن يشكر واهبها، يأتي في ذيل الآية: (ولعلكم تشكرون).

«الفلك»: أيْ السفينة، وتأتي بصيغتي المفرد والجمع.

«مواخر» جمع «ماخرة» (من مادة مخر) على وزن (فخر) بمعنى شق الماء يميناً وشمالا، وتطلق على صوت الرياح الشديد أيضاً، وباعتبار السفن عند حركتها تشق الماء بمقدمتها فيطلق عليها اسم (الماخر) أو الماخرة.


1 ـ ابتدأت عبارة (ولتبتغوا من فضله) بواو العطف بما يستوجب تقدم المعطوف وهو هنا مقدراً، تقديره «لتنتفعوا بها ولتبتغوا من فضله».

[152]

ونتساءل: مَنْ الذي أعطى المواد التي تصنع منها السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

فالسفينة بما تحمل أثقل من الماء بكثير، ولو لم تكن تلك القوّة الدافعة للماء، هل بإِمكاننا العوم على سطح المياه؟

ومَنْ الذي يحرك الرياح على سطح البحر؟

بل مَنْ أعطى البخار القوّة لتحريك السفينة في مسيرها على سطح الماء؟

أوَ ليس ذلك كله من نعم اللّه تعالى؟

وممّا يكشف عن عظم نعمة البحار أنّها: أوسع بكثير من الطرق البرية، أقلّ كلفة، أكثر أهليةً للحركة، أعظم وسيلة نقلية للبشر، وذلك بملاحظة كبر السفن المستخدمة في النقل وضخامة ما تحمله.

ثمّ يأتي الحديث عن الجبال بعد عرض فوائد البحار: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)(1).

كما قلنا سابقاً فإِنّ الجبال متصلة من جذورها وتقوم بتثبيت الإرض ممّا يجعلها مانعاً حصيناً من الزلازل الأرضية الشديدة الناشئة من الغازات الكامنة في باطن الأرض والمهددة بالخروج في أية لحظة على شكل زلزال.

إِضافة لخاصية الجبال في مد القشرة الأرضية بالمقاومة اللازمة أمام جاذبية القمر (التي تسبب ظاهرة المد والجزر) ويقلل من أثرها إِلى حد كبير.

وللجبال من جانب ثالث القدرة على تقليل شدة حركة الرياح وتوجيه حركتها، ولو لم تكن الجبال لكن سطح الأرض عرضة للعواصف الشديدة المستمرة.

ثمّ يتطرق القرآن الكريم مباشرة إِلى نعمة الأنهار، لما بين الجبال والأنهار من


1 ـ (أن تميد بكم) على تقدير (لئلا تميد بكم) أو (كراهة أنْ تميد بكم).

[153]

علاقة وثيقة حيث تعتبر الجبال المخازن الأصلية للمياه، فيقول: (وأنهاراً).

ثمّ يقطع القرآن الكريم الوهم الحاصل عند البعض من أن الجبال حاجز بين ارتباط الأراضي فيما بينها بالإِضافة لكونها مانعاً رهيباً أمام حركة النقل، فيقول (وسبلا لعلكم تهتدون)(1).

وهذه المسألة ملفتة للنظر حقاً، حيث نجد طرق عبور يستطيع أن يتخذها الإِنسان سبيلا لتنقلاته بين أكبر السلاسل الجبلية وعورة في العالم، وقليلا ما يكون هناك قطع كامل بين المناطق بسبب الجبال.

ثمّ يضيف قائلا: (وعلامات) لأنّ الطريق لوحدها لا يمكنها أن توصل الإِنسان لمقصده دون وجود علامات فارقة ومميزات شاخصة يستهدي بها الإِنسان لسلك ما يوصله لمأربه، ولذا ذكر هذه النعمة.

ومن تلك العلامات: شكل الجبال، الأودية، الممرات، الإِرتفاع والإِنخفاض، لون الأرض والجبال وحتى طبيعة حركة الهواء.

ولمعرفة ما لوجود هذه العلامات من أهمية، يكفينا أن نلقي نظرة إِلى حال الصحاري الواسعة ذات الصفة الواحدة الموجودة في بعض مناطق العالم، حيث عملية التنقل فيها أمر صعب مستصعب إِلى حد كبير، إِضافة لخطورته الكبيرة، وكم هناك من مسافر دخل فيها ولم يعد...

فلو كان سطح الأرض كله على شاكلة الصحاري، كأن تكون الجبال كلها بشكل وحجم واحد، وحقولها بلون واحد، وأوديتها متشابهة تماماً.. فهل كان من اليسير على الإِنسان أن يسير عليها؟!

وأمّا في حال عدم تشخيص هذه العلامات بسبب ظلمة الليل في أيّ من


1 ـ تعتبر هذه الآية إحدى المعجزات العلمية للقرآن الكريم، حيث ذكرت هذا الأمر وبما يحمل من ظواهر علمية في زمن لم يصل الإِنسان لا كتشافه بعد.

ولأجل مزيد من التوضيح راجع كتابنا (القرآن وآخر نبي) ـ فصل المعجزات العلمية للقرآن.

[154]

سفر البر أو البحر، فقد جعل اللّه تعالى علامات في السماء تعوض عن علامات الأرض في تلك الحال: (وبالنجم هم يهتدون).

بطبيعة الحال فهذه إِحدى الفوائد الجمة للنجوم، ولو لم يكن لها سوى هذه الفائدة لكان كافياً لوجودها، خصوصاً في زمن لا أسطرلاب فيه ولا مؤشرات قطبية تعين السفن في تحديد مسيرها وفق خرائط أعدت لذلك الغرض، وقديماً كانت الرحلات تتوقف إِذا ما غطيت السماء بالسُّحب وتلبدت بالغيوم، ومَنْ يجرؤ على تكملة السفر فسيواجه خطر الموت.

وكما هو معلوم اليوم، فإنّ النجوم التي تبدو لنا متحركة في السماء عبارة عن خمسة كواكب، ويطلق عليها اسم السيارات، والسيارات أكثر من خمسة، إِلاّ أنّ البقية لا يمكن تشخيصها بالعين المجرّدة بسهولة، أمّا بقية النجوم فإِنّها تحتفظ بمكانها النسبي، وكأنّها لآليء خيطت على قطعة قماش أسود، وهذه القطعة كأنّها تسحب من إِحدي جهاتها فتتحرك بكاملها.

وبعبارة أُخرى: إِنّ حركة النجوم الثوابت جمعية، وحركة السيارات إنفرادية، حيث تتغير المسافات بينها وبين الثوابت باستمرار.

إِضافة لذلك، فالنجوم الثوابت تشكل فيما بينها أشكالا معينة تعرف بـ (الصور الفلكية) ولها الأثر الكبير في معرفة الإِتجاهات الأربعة (الشمال، الجنوب، الشرق، والغرب).

وبعد أن بيّن القرآن كل هذه النعم الجليلة والألطاف الإِلهية الخفية، راح يدعو الوجدان الإِنساني للحكم في ذلك (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذّكرون)؟!

وكما اعتدنا عليه من القرآن في أُسلوبه التربوي الهادف المؤثر، فقد طرح مسألة المحاججة بصيغة سؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحي للإِنسان، مستعيناً بتحريك الإِحساس الباطني ليجيب من أعماق روحه، ولينشد عشقاً بخالقه.

[155]

والثابت في ا لواقع النفسي للإِنسان، أن التعليم والتربية السليمة يستلزمان بذل أقصى سعي ممكن لإِقناع المقابل بقبول ما يوجه إِليه عن قناعة ذاتية، أي ينبغي إِشعاره بأن ما يعطى إليه ما هو في حقيقته إلاّ انبعاث من داخله وليس فرضاً عليه من الخارج ليتقبلها بكل وجوده ويتبناها ويدافع عنها.

ونجد من الضرورة إعادة ما قلناه سابقاً من أن المشركين الذين كانوا يسجدون للأصنام كانوا يعتقدون أنّ اللّه عزَّوجلّ هو الخالق، ولهذا يتساءل القرآن الكريم.. مَنْ أحقُ بالسجود.. خالق كل شيء أم المخلوق؟!

وفي نهاية المطاف، يفند الباري سبحانه مسألة حصر النعم الإِلهية بما ذكر، بقوله: (وإِن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها).

إِنّكم غارقون في النعم الإِلهية وفي كل نفس يصعد وينزل آلاف النعم (ولكل نعمة شكر واجب).

إِنّ كل دقيقة تمر من عمرنا نكون فيها مدينين لفعاليات ملايين الموجودات الحيّة في داخل بدننا وملايين الموجودات الحية وغير الحية في خارجه، والتي لا يمكننا أن نحيا ولو للحظة واحدة بدونها.

ولكنّ ضبابية الغفلة حالت دون معرفتنا لهذه النعم الجمة التي كلّما خطا العلم الحديث خطوة إِلى الأمام اتّضحت لنا أبعاد واسعة وانفتحت لنا آفاقاً جديدة في معرفة النعم الإِلهية، وكل ما ندركه في هذا المجال قليل جدّاً ممّا قدّره الباري لنا، فهل بإمكان المحدود أن يعد ما أعطاه المطلق؟!

ونواجه في هذا المقام سؤالا وإستفساراً: كيف إِذَنْ نؤدي حق الشكر للّه؟ و.. ألسنا مع ما نحن فيه زمرّة الجاحدين؟

وقوله تعالى: (إِنّ اللّه لغفور رحيم) خير جواب لما واجهنا به.

نعم، فهو سبحانه أرحم وأرأف من أن يؤاخذنا على عدم الإِستطاعة في أداء أتمّ الشكر على نعمه.

[156]

ويكفينا من لطفه تعالى بأن يحسبنا من الشاكرين في حال اعتذرنا له واعترافنا بالعجز عن أداء حق الشكر الكامل.

ولكن هذا لا يمنع من أن نتتبع ونحصي النعم الرّبانية بقدر المستطاع، لأنّ ذلك يزيدنا معرفة للّه، وعلماً بعالم الخليقة، وآفاق التوحيد الرحبة، كما يزيد من حرارة عشقه سبحانه في أعماق قلوبنا، وكذا يحرك فينا الشعور المتحسس بضرورة ووجوب شكر المنعم جل وعلا.

ولهذا نجد أنّ الأئمّة(عليهم السلام) يتطرقون في أقوالهم وأدعيتم ومناجاتهم إِلى النعم الإِلهية ويعدون جوانب منها، عبادةً للّه وتذكيراً ودرساً للآخرين.

(وقد تناولنا مسألة شكر النعمة وعدم قدرة الإِنسان على إِحصاء النعم الإِلهية عند بحث الآية الرّابعة والثلاثين من سورة إِبراهيم).

* * *

بحث

الطريق ، العلامة ، القائد:

تحدثت الآيات أعلاه عن الطرق الأرضية بكونها إحدى النعم الإِلهية باعتبارها من أهم وسائل الإِرتباط في طريق التمدن الإِنساني.

ولهذا عند وضع الخطط العمرانية لابد معها من رسم وبناء خطوط الطرق المناسبة للمكان المقصود، وإِلاّ لا يمكن أن يقام عمران.

ومع هذا، فلا يمكننا حصر البيان القرآني بهذا الجانب فحسب، بل يمكننا القول بأنّه يشمل حتى جوانب الحياة المعنوية للبشرية أيضاً، لأنّ الوصول إِلى هدف مقدس يستلزم سلوك الطريق الصحيح لذلك الهدف.

بالإِضافة إِلى الأهمية الحيويه الوجود العلامات في تشخيص السبيل من بين كثرة السبل وتشابكها، فإِضاعة السبيل الأصلي ممكن في حال عدم وجود ما يدل

[157]

عليه من «علامات».

وخصوصاً، ورود تسمية المؤمنين في الآيات القرآنية بالمتوسمين للتأكيد على ضرورة الإِنتباه إِلى هذه العلامات.

فلكي يستطيعوا تشخيص الحق من الباطل لابد من معرفة المذاهب والسنن والدعوات المختلفة، بل حتى الأشخاص، وذلك من خلال (العلامات).

وأمّا مسألة وجود القائد فلا تحتاج لتوضيح وبيان (الموضح لا يوضح).

وقد فسرت «النجم» برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) و«العلامات» بالأئمّة(عليهم السلام) في روايات كثيرة وردت عن أهل البيت(عليهم السلام).. وفي بعضها فسّر «النعم» و«العلامات» كلاهما بالأئمّة(عليهم السلام)، ونشير هنا إِلى نماذج من الرّوايات:

1 ـ في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «النجم رسول اللّه، والعلامات الأئمّة(عليهم السلام)»(1) وورد مثله عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).

2 ـ وروي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه أنّه قال: «نحن النجم»(2).

3 ـ وروي كذلك عن الإِمام الرضا(عليه السلام) أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «أنت نجم بني هاشم»(3).

4 ـ وفي رواية أُخرى: «أنت أحد العلامات»(4).

وكل ذلك يشير إِلى التّفسير المعنوي لهذه الآيات.

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص45.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السابق.

[158]

الآيات

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَاتُعْلِنُونَ(19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20) أَمْوتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21) إِلـهُكُمْ إِلَـهٌ وحِدٌ فَالَّذِينَ  لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ(22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23)

التّفسير

آلهة لا تشعر!

تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أية منها على الأصنام وسائر المعبودات الأُخرى غير اللّه تعالى وهما: (خلق الموجودات، إِعطاء النعم)، أمّا الآية الأُولى أعلاه فتشير إِلى الصفة الثّالثة للمعبود الحقيقي (وهي العلم)، فتقول: (واللّه يعلم ما تسرون وما يعلنون).

فلماذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم، ولم تمنّ عليكم بأيةِ

[159]

نعمة، ولا تعرف عن علنكم شيئاً مضافاً الى سرّكم؟!

فهل يصح عبادة مَنْ لا يمتلك مستلزمات المعبود؟!

ثمّ يعود القرآن إِلى مسألة الخالقية بأُفق أوسع من الآية السابقة: (والذين يدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون).

وقد بحث لحد الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنّها ليست خالقة. بل والأكثر من ذلك أنّها إِضافة لكونها مخلوقة فهي فقيرة ومحتاجة في وجودها، فكيف يلجأ إِليها الإِنسان لسد حوائجه؟! أوَ ليس ذلك السخف بعينه؟

ومع ذلك كلّه، فإِنّها (أموات غير أحياء).

أوَ ليس ينبغي أن يكون المعبود حياً (على أقل التقادير) ليكون مطلعاً على حاجات عباده؟

إِذن... يلزم توفر صفة «الحياة» للمعبود الحقيقي، وهذا ما لا يتوفر في الأصنام.

ثمّ يضيف قائلا عنها: (وما يشعرون أيّان يبعثون).

فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام. فلا أقل من معرفتها بوقت بعث عبادهن، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!

وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها الأصنام.

وقلنا مراراً فيما سبق أن مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني أوسع من أنّ يحدد بالآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعادن. فكل موجود نجعله ملجأ لنا مقابل اللّه عزَّ وجلّ، ونسلم له أمر مصائرنا، فهو صنم وإِنّ كان بشراً.

ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون اللّه بألسنتهم، ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم

[160]

من دون اللّه، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.

أُولئك الذين يعتقدون أن القوى العالمية الكبرى يمكن أن تكون ملجأً لهم في حياتهم، وإِن كانت كافرة باللّه وجهنمية فهم من الناحية العملية الواقعية عبدةً للأصنام ومشركين باللّه عزَّوجلّ، وينبغي محاججتهم بـ :

هل خلقت لكم هذه المعبودات شيئاً؟

هل هي مصدر النعمة؟

أهي مطلعة على شؤونكم الظاهرة والخفية؟

وهل تعلم متى ستبعثون؟

هل بيدها الثواب والعقاب؟

وإِن كانت الإِجابة بالنفي، فَلِمَ تعبدونها من دون اللّه؟!

وبعد هذه الإِستدلالات الحية والواضحة على عدم صلاحية الأصنام يخلص القرآن إِلى النتيجة المنطقية لما ذكر: (إِلهكم إِله واحد).

وبما أنّ العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطاً لا انفصام فيه، يضيف القرآن الكريم من غير فاصلة: (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون)(1).

فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة، إِلاّ أن سبب عدم قبول الحق وإِنكاره يرجع إِلى حالة الإِستكبار وعدم التسليم له، ويصبح ملكةً في وجود المنكرين خصوصاً بعد أن يصل بهم الحال الى إنكار الحقائق الحسيّة المتوفرة لديهم، وعندها فلا ينفع معهم كلام حق أو دليل شاخص أو منطق سليم.

فالأدلة الحية التي ذكرتها الآيات السابقة بعدم صلاحية الأصنام للعبادة كافية لكل ذي لب رشيد، إِلاّ أنّ هناك الكثير ممن لا يقبلها مع مالها من حقيقة


1 ـ إنّ حرف الفاء في كلمة «فالذين» للتفريع كما هو معلوم، فيكون المراد: إِنّ إِنكار القيامة فرع لإِنكار المبدأ.

[161]

ووضوح!!!

ثمّ تتطرق الآية الآخيرة إِلى علم اللّه في الغيب والشهادة: (لا جَرَمَ أنّ اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون).

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق، بأنّ اللّه عزَّ وجلّ ليس بغافل عنهم، سرهم وعلانيتهم، وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه.

فهم مستكبرون و (أنّه لا يحب المستكبرين)، والإِستكبار على الحق من علامات الجهل باللّه عزَّ وجلّ.

إِنّ كلمة «لاجرم» متكون من «لا» و «جرم» وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى (قطعاً)، وأحياناً بمعنى (لابد)، وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل: (لا جرم لأفعلن).

أمّا كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة «لا جرم» فذلك لأنّ «جرم» في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار، وعندما تدخل عليها «لا» يكون مفهومها: أنْ لا شيء يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق، ولهذا يستفاد منها معاني: قطعاً، ولابدّ، وأحياناً القسم.

* * *

بحث

من هم المستكبرون؟

وردت كلمة الإِستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إِحدى الصفات الذميمة الخاصّة بالكفار، ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق.

ففي الآية السابقة من سورة نوح: (وإِنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).

وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين: (وإِذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم

[162]

رسول اللّه لوّوا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون).

وكذلك في الآية الثّامنة من سورة الجاثية: (يسمع آيات اللّه تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها).

ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه، لأنّه يغلق على الإِنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال.

ويصف أمير المؤمنين(عليه السلام) الشيطان بأنّه: «سلف المستكبرين»(1) لإنه أوّل مَنْ خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الرّبانية التي تقول: إِنّ أدم أكمل منه.

صحيح أنّ زهو المال قد يوقع الإِنسان في حالة الإِستكبار، إِلاّ أنّ المسألة أكبر من ذلك وأشمل، فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإِن كان فقيراً.

ونختم البحث برواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «ومَنْ ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين، فقلت: إِنّما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إِذا رآه مرتكباً للمعاصي؟ فقال: هيهات هيهات! فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب، أما تلوت قصّة سحرة موسى(عليه السلام)»(2).

(حين وقف السحرة يوماً في مقابل موسى(عليه السلام) إِرضاءً لفرعون وطمعاً في جوائزه، ولكنّهم انقلبوا فجأة لما تبيّن لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون، وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية، فكانت النتيجة أنْ عفا اللّه عنهم ورحمهم).

* * *


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص48 عن (روضة الكافي).

[163]

الآيات

وَإِذا قِيلَ لَهُم مَّاذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَـطِيرُ الأَْوَّلِينَ(24)لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيـمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ(25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيـنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ(26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيـمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشقُّونَ فِيِهمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكـفِرِينَ(27) الَّذِينَ تَتَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(28) فَادْخُلُوا أَبْوبَ جَهَنَّمَ خـلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان: يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر

[164]

رجلا خرجوا إِلى عقاب مكّة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدوا الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإِذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم.

التّفسير

حمل أوزار الآخرين:

دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق، وسعيهم الحثيث في التنصل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق.

أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم، فيقول القرآن: (وإِذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين) فليس هو وحي الهي، بل أكاذيب القدماء.

وكانوا يرمون بكلامهم المؤذي هذا إِلى أمرين:

الأوّل: الإِيحاء بأن مستوى تفكيرهم وعلميتهم أرقى ممّا أنزل اللّه!

الثّاني: ما جاء به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنْ هو إِلاّ أساطير الأولين قد صيغت بعبارات جذابة لتنطلي على عوام الناس، وهذا ليس بالجديد، وما محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلاّ معيد لما جاء به الأوّلون من أساطير.

«الأساطير»(1): جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان الكفار ضد الأنبياء تبريراً لمخالفتهم الدعوة إِلى اللّه عزَّوجلّ.

وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة «الأوّلين» ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيّام ستتجاوزها! حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون، كما جاء عن


1 ـ يعتبرها البعض جمع الجمع، فالأساطير جمع أسطار، والأساطير جمع سطر.. ويعتبرها البعض الآخر جمعاً ليس له مفرد من جنسه.. إِلاّ أنّ المشهور ما ذكرناه أعلاه.

[165]

لسانهم في الآية (31) من سورة الأنفال: (قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا).

والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروباً من الحق وإِضلالا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأنْ يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري، وما الآراء الدينية إِلاّ أساطير وخرافات! حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الإِجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون).

أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أُخرى: فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبداً، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها، إِنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإِنساني ويحطم الأغلال الإِستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

إِنهم يرون عدم انسجام دعوة الدين إِلى الأخلاق الحميدة، لأنّها تعارض أهواءهم الطائشة ورغباتهم غير المشروعة.

لذلك يجدون في دعوة الحق مانعاً أمام ما يطمحون الحصول عليه، ونراهم يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإِسقاطه من أنظار الآخرين كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاؤون.

ومن المؤسف أنّ طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في تجرّي هؤلاء ودفعهم لإِلصاق تهمة الخرافات بالدين. ولابدّ للمؤمنين الواعين أمام هذه الحال من الوقوف بكل صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبداً ولا ينبغي للداعية المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا، لأنّ عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحدّ من المتانة والوضوح لا يفسح أيّ مجال لأنّ تُوجه إِليه هكذا أباطيل.

توضح الآية الأُخرى أعمالهم بالقول: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة

[166]

ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الاّ ساء ما يزرون).

لأنّ أقوالهم الباطلة لها الأثر السلبي بتضليل أعداد كبيرة من الآخرين. فمن أسوأ ممن حُمِّلَ أوزار آلاف البشر إلى وزره! والأكثر من ذلك أنْ أقوالهم ستركد في مخيلة مَنْ يأتي بعدهم من الأجيال لتكون منبعاً لإِضلالهم، ممّا يزيد في حمل الأوزار باطراد.

وقد جاءت عبارة «ليحملوا» بصيغة الأمر، أمّا مفهومها فلبيان نتيجة وعاقبة أعمال أُولئك المظلِلين، كما نقول لشخص ما: لكونك قمت بهذا العمل غير المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح. (واحتمل بعض المفسّرين أن لام (ليحملوا، لام نتيجة).

والأوزار: جمع وزر، بمعنى الحمل الثقيل، وجاءت بمعنى الذنب أيضاً، ويقال للوزير وزير لعظم ما يحمل من مسؤولية.

ويواجهنا السؤال التالي..لماذا قال القرآن: يحملون من أوزار الذين يضلونهم ولم يقل كل أوزارهم، فى حين أن الرّوايات تؤكد.. أن «مَنْ سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إِلى يوم القيامة»؟