![]() |
![]() |
![]() |
إِنّ آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول: (إِنّما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أيْ أنّ السبت وما حرم في السبت كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم مَنْ قبله ومنهم مَنْ أهمله.
وتقول بعض الرّوايات: أنّ موسى(عليه السلام) دعا قومه بني اسرائيل لاحترام يوم الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إِبراهيم(عليه السلام)، إِلاّ إنّهم تعلّلوا، واختاروا يوم السبت، فجعله اللّه عطلة لهم ولكنْ بضيق وشدّة، ولهذا لا ينبغي الإِعتماد على تعطيل يوم السبت، لأنّه إِنّما كان استثنائياً وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا الأمر أنّ اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم المنتخب هذا، فبعض احترمه وبعض آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب اللّه.
وثمّة احتمال آخر أنْ تكون إِشارة الآية مرتبطة ببدع المشركين في موضوع الأغذية الحيوانية، لأنّ الآيات السابقة تطرقت لذلك من خلال إِجابتها على
1 ـ «الحنيف»: بمعنى الذي يترك الإِنحراف ويتجه إِلى الإِستقامة والصلاح، وبعبارة أُخرى، يغض نظره عن الأديان والأوضاع المنحرفة ويتوجه نحو صراط اللّه المستقيم، الدين الموافق للفطرة، ولهذا يسمى الصراط المستقيم، فالتعبير بالحنيف يحمل بين طياته إِشارة خفيّة إِلى أنّ التوحيد هو دين الفطرة.
تساؤل: لماذا لم يحرم في الإِسلام ما كان محرماً في دين اليهود؟ فجاء الجواب أنّ ذلك كان عقاباً لهم، فيطرح السؤال مرّة أُخرى حول عدم حرمة صيد الأسماك يوم السبت في الأحكام الإِسلامية في حين أنّه محرم على اليهود ..فيكون الجواب بأنّه كان عقاباً لليهود أيضاً.
وعلى أيّةِ حال، فثمّة ارتباط بين هذه الآيات والآيات (163 ـ 166) من سورة الأعراف التي تتحدث الحديث عن «أصحاب السبت»، حيث عرضت قصتهم، وكيف أنّ صيد السمك قد حرّم عليهم في يوم السبت، ومخالفة قسم منهم لهذا الأمر، والعقاب الشديد الذي نزل عليهم بعد ذلك الإِمتحان الإِلهي.
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ «السبت» في الأصل بمعنى تعطيل الأعمال للإِستراحة، ولذلك سمي يوم السبت، لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم فيه، وبقي هذا الإِسم مستعملا حتى بعد مجيء الإِسلام، إِلاّ أنّه لا عطلة فيه.
ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: (وإِنّ ربّك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).
وكما أشرنا سابقاً فإِنّ إِحدى خصائص يوم القيامة إِنهاء الإِختلافات على كافة الأصعدة، والعودة إِلى التوحيد المطلق، لأنّ يوم القيامة هو يوم: البروز، الظهور، كشف السرائر والبواطن، وكشف الغطاء ويوم رفع الحجب.
* * *
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجـدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خيْرٌ للِّصَّـبِرِينَ(126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَتَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُ فِى ضَيْق مَمَّا يَمْكُرُونَ(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ(128)
حملت آيات السورة بين طياتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة لينة وأُخرى بأُسلوب تقريع شدة، وخصوصاً الآيات السابقة لما لها من عمق وشدة أكثر ممّا سبقها من الآيات المباركات.
أمّا الآيات أعلاه والتي تمثل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبيّن
أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصن بها عند مواجهة المخالفين على أساس منطقي، كما وتبيّن كيفية العقاب والعفو وأُسلوب الصمود أمام مؤامرتهم وما شابه ذلك.
ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإِسلام ضد المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلي شامل لكل زمان ومكان.
ويتلخص هذا البرنامج الرّباني بعشرة أُصول، تم ترتيبها وفقاً لتسلسل الآيات مورد البحث:
1 ـ (أُدعُ إِلى سبيل ربّك بالحكمة):
«الحكمة»: بمعنى العلم والمنطق والإِستدلال، وهي في الأصل بمعنى (المنع) وقد أُطلقت على العلم والمنطق والإِستدلال لقدرتها على منع الإِنسان من الفساد والإِنحراف...
فأوّل خطوة على طريق الدعوة إِلى الحقّ هي التمكن من الإِستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إِلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإِيقاظ عقولهم، كخطوة أُولى في هذا الطريق.
2 ـ (والموعظة الحسنة):
وهى الخطوة الثّانية في طريق الدعوة إِلى اللّه، بالإِستفادة من عملية تحريك الوجدان الإِنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإِنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحقّ.
وفي الحقيقة فإِنّ «الحكمة» تستثمر البُعد العقلي للإِنسان، و«الموعظة الحسنة» تتعامل مع البُعد العاطفي له(1).
1 ـ قال بعض المفسّرين في الفرق ما بين الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالتي هي أحسن: أنّ الحكمة إِشارة إِلى الأدلة القطعية ..الموعظة الحسنة إِشارة إِلى الأدلة الظنية .. والمجادلة بالتي هي أحسن إِشارة إِلى الأدلة التي تهدف إِلى إِفحام المخالفين من خلال إِلزامهم بما به يقبلون. (إِلاّ أنّ ما أوردناه أعلاه يبدو أكثر مناسبة للمقصود).
إِنّ تقييد «الموعظة» بقيد «الحسنة» لعلّه إِشارة إِلى أنّ النصيحة والموعظة إِنّما تؤدي فعلها على الطرف المقابل إذا خليت من أيّةِ خشونة أو استعلاء وتحقير التي تثير فيه حسّ العناد واللجاجة وما شابه ذلك.
فكم من موعظة أعطت عكس ما كان يُؤَمَّل بها بسبب أُسلوب طرحها الذي يُشْعِر الطرف المقابل بالحقارة والإِهانة كأن تكون الموعظة امام الآخرين ومقرونة بالتحقير، أو يستشمّ منها رائحة الاستعلاء في الواعظ، فتأخذ الطرف المقابل العزة بالإِثم ولا يتجاوب مع تلك الموعظة.
وهكذا يترتب الأثر الإِيجابي العميق للموعظة إِذا كانت «حسنة».
3 ـ (وجادلهم بالتي هي أحسن).
الخطوة الثّالثة تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعداً لتلقي الحق عند المناظرة.
وبديهي أنْ تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إِذا كانت (بالتي هي أحسن) ، أيْ أنْ يحكمها الحق والعدل والصحة والأمانةوالصدق، وتكون خالية من أيّةِ إِهانة أو تحقير أو تكبر أو مغالطة، وبعبارة شاملة: أنْ تحافظ على كل الأبعاد الأِنسانية السليمة عند المناظرة.
وفي ذيل الآية الأُولى، يقول القرآن: (إِنّ ربّك هو أعلم بِمَنْ ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
فالآية تشير إِلى أنّ وظيفتكم هي الدعوة إِلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أمّا مسألة مَنْ الذي سيهتدي ومَنْ سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند اللّه وحده سبحانه.
وثمة إِحتمال آخر في مقصود هذه الجملة وهو بيان دليل للتوجيهات الثلاث المتقدمة، أيْ: إِنّما أمر سبحانه بهذه الأوامر الثلاثة لأنّه يعلم الكيفية التي تؤثر بالضالين لأجل توجيههم وهدايتهم.
4 ـ إِنصب الحديث في الأصول الثلاثة حول البحث المنطقي والأُسلوب العاطفي والمناقشة المعقولة مع المخالفين، وإِذا حصلت المواجهة معهم ولم يتقبلوا الحق وراحوا يعتدون، فهنا يأتي الأصل الرابع: (وإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به).
5 ـ (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين):
وتقول الرّوايات: إِنّ الآية نزلت في معركة (أُحد) عندما شاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) شهادة عمّه حمزّة بن عبدالمطلب المؤلمة (حيث لم يكتف العدو بقتله بل شقّ صدره بوحشية وقساوة فظيعة وأُخرج كبده أو قلبه وقطع أُذنه وأنفه) وتأذى النّبي لذلك كثيراً وقال: «اللّهم لك الحمد وإِليك وأنت المستعان على ما أرى» ثمّ قال: «لئن ظفرت لأمثلّن ولأمثلّن ولأمثلّن» وعلى رواية أُخرى أنّه قال: «لأمثلّن بسبعين منهم» فنزلت الآية: (وإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «أصبر أصبر»(1).
ربّما كانت تلك اللحظة من أشد لحظات حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه تمالك زمام أُمور نفسه واختار الطريق الثّاني، طريق العفو والصبر.
ويحكي لنا التأريخ ما قام به الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حين فتح مكّة، فما أنْ وطأت أقدام المسلمين المنتصرة أرض مكّة حتى أصدر نبى الرحمة(صلى الله عليه وآله وسلم) العفو العام عن اُولئك الجفاة، فوفى بوعده الذي قطعه على نفسه في معركة أُحُد(2).
وحري بالإِنسان إِذا أراد أنْ ينظر إِلى أعلى نموذج حي في العواطف الإِنسانية، أنْ يضع قصتي أُحد وفتح مكّة نصب عينيه ليقارن ويربط بينهما.
ولعل التأريخ لا يشهد لأيّة أمّة منتصرة عوملت بمثل ما عامل به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
1 ـ تفسير العياشي، وتفسير الدر المنثور في تفسير الآية (على ما ذكره تفسير الميزان).
2 ـ يلاحظ في بعض الرّوايات إِنّ القول بالمثلة بأكثر من واحد عند الظفر كان من بعض المسلمين (راجع تفسير التبيان، ج 6، ص 440).
والمسلمون مشركي مكّة عند انتصارهم عليهم، على الرغم من أن المسلمين كانوا من ابناء تلك البيئة التي نفذ شعور الإِنتقام والحقد فيها ليتوغل ويركد في أعماق المجتمع، بل وكانت الأحقاد تتوارث جيلا بعد جيل الى حدّ كان عدم الإِنتقام يُعدّ عيباً كبيراً لا يمكن ستره!
ومن ثمار عفو وسماحة الإِسلام أنْ اهتزت تلك الأُمة الجاهلة العنيدة من أعماقها واستيقظت من نوم غفلتها، وراح أفرادها كما يقول عنهم القرآن الكريم: (يدخلون في دين اللّه أفواجاً).
6 ـ (واصبر وما صبرك إِلاّ بالله):
والصبر إِنّما يكون مؤثراً وفاعلا إذا قصد به رضوانه تعالى ولا يلحظ فيه أيّ شيء دون ذلك.
وهل يتمكن أيّ إِنسان من الصبر على الكوارث المقطعة للقلب من غير هدف معنوي وبدون قوة إِلهية ويتحمل الالآم دون فقدان الإِتزان!؟ .. نعم، ففي سبيل رضوان اللّه كل شيء يهون وما التوفيق إِلاّ منه عزَّوجلّ.
7 ـ وإِذا لم ينفع الصبر في التبليغ والدعوة إِلى اللّه، ولا العفو والتسامح، فلا ينبغي أنْ يحل اليأس في قلب المؤمن أو يجزع، بل عليه الإِستمرار في التبليغ بسعة صدر وهدوء أعصاب أكثر، ولهذا يقول القرآن الكريم في الأصل السابع: (ولا تحزن عليهم).
لأنّ الحزن والتأسف على عدم إِيمان المعاندين يترك أحد أثرين على الإِنسان، فإِمّا أنْ يصيبه اليأس الدائم، أو يدفعه إِلى الجزع والغضب وضعف التحمل، فالنهي عن الحزن عليهم يحمل في واقعه نهياً للأمرين معاً، فينبغي للعاملين في طريق الدعوة إِلى اللّه .. عدم الجزع وعدم اليأس.
8 ـ (ولا تكُ في ضيق ممّا يمكرون).
فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة فلا ينبغي لك ترك
الميدان، لظنك أنْ قد وقعت في زواية ضيقة وحصار محكم، بل لابدّ من التوكل على اللّه، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإِيمان والثبات والمثابرة والعقل والحكمة.
وآخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر، حيث تقول:
9 ـ (إِنّ اللّه مع الذين اتقوا):
التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع، ومنها: التقوى في مواجهة المخالفين بمراعاة أُصول الأخلاق الإِسلامية عند المواجهة، فمع الأسير لابدّ من مراعاة أصول المعاملة الإِسلامية، ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإِنصاف والأدب والتورع عن الكذب والإِتهام، وفي ميدان القتال لابدّ من التعامل على ضوء التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإِسلامية، فمثلا: ينبغي عدم الهجوم على العزل من الأعداء، عدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة، ولا التعرض للمواشي والمزارع لأجل إِتلافها، ولا يقطع الماء على العدو ... وخلاصة القول: تجب مراعاة أُصول العدل مع العدو والصديق (وطبيعي أن تخرج بعض الموارد عن هذا الحكم إِستثناءاً وليس قاعدة).
10 ـ (والذين هم محسنون).
أكّد القرآن الكريم في كثير من آياته البيّنات بأن يقابل المؤمن إِساءة الجاهل بالإِحسان، عسى أنْ يخجل الطرف المقابل أو يستحي من موقفه المتشنج، وبهذه السلوكية الرائعة قد ينتقل ذلك الجاهل من (ألدّ الخصام) إِلى أحسن الأصدقاء (ولي حميم)!
وإِذا عمل بالإِحسان في محله المناسب، فإِنّه أفضل أُسلوب للمواجهة، والتأريخ الإِسلامي يرفدنا بعيّنات رائعة في هذا المجال .. ومنها: موقف معاملة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مشركي مكّة بعد الفتح، معاملة النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) لـ (وحشي) قاتل حمزّة، معاملته(صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرى معركة بدر الكبرى، معاملته(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مَنْ كان يؤذيه
بمختلف السبل من يهود زمانه .. ونجد شبيه معاملة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع الآخرين قد تجسدت عملياً في حياة علي(عليه السلام) وسائر الأئمّة(عليهم السلام)، وكل ذلك يكشف لنا بوضوح أهمية الإِحسان في حياة الإنسان من وجهة نظر الإِسلام.
ومن دقيق العبارة في هذا المجال ما نجده في نهج البلاغة ضمن الخطبة المعروفة بخطبة همّام، ذلك الرجل الزاهد العابد الذي طلب من أمير المؤمنين(عليه السلام)أنْ يصف له المتقين، حيث اكتفى أمير المؤمنين(عليه السلام) بذكر الآية المباركة من مجموع القرآن وقال: (إِتق اللّه وأحسن إِنّ اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(1).
ولكنّ السائل العاشق للحقِّ لم يروَ عطشه بهذا البيان المختصر، ممّا اضطر الإِمام(عليه السلام) أنْ يعرض له بياناً أكثر تفصيلا حتى استخرجت من فمه الشريف أكمل خطبة في وصف المتقين، حوت على أكثر من مائة صفة لهم، إِلاّ أنّ جوابه المختصر يبيّن أنّ الآية المباركة مختصر جامع لكل صفات المتقين.
وبنظرة تأمليّة ممعنة إِلى الأصول العشرة المذكورة، تتبيّن لنا جميع الخطوط الأصليّة والفرعية لأُسلوب مواجهة المخالفين، وأنّ هذه الأُصول إِنّما احتوت كل الأُسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية، وكل ما يؤدي للنفوذ إِلى أعماق نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها.
ومع ذلك ... فالإِكتفاء بالمنطق والإِستدلال في مواجهة الأعداء وفي كل الظروف لا يقول به الإِسلام ولا يقرّه، بل كثيراً ما تدعو الضرورة لدخول الميدان عملياً في مواجهة الأعداء حتى يلزم الأمر في بعض الأحيان المقابلة بالمثل والتوسل بالقوّة في قبال ا ستعمال القوة من قبل الأعداء، وبالتدابير المبيتة في قبال ما يبيتون أُمور، ولكنْ أُصول العدل والتقوى والأخلاق والإِسلامية يجب أنْ تراعى في جميع الحالات.
1 ـ نهج البلاغة، خطبة 193.
ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإِسلام كل أرض المعمورة أو معظمها على أقل التقادير.
ممّا يلفت النظر في السورة المباركة ـ كما قلنا سابقاً ـ ذكرها لكثير من النعم الإِلهية، المادية منها والمعنوية، الظاهرية والباطنية، الفردية والإِجتماعية، ممّا دعت المفسّرين لأن يطلقوا عليها اسم (سورة النعم).
وبملاحظة ودراسة آيات السورة تظهر لنا في حدود الأربعين نعمة من النعم الكبيرة والصغيرة متوزعة بين طياتها، وسنذكر أدناه فهرساً لهذه النعم مع التأكيد على أنّ الهدف من ذكرها إِنّما هو لأمرين:
الأوّل: تعليم درس التوحيد وبيان عظمة الخالق.
الثّاني: تقوية حب وتعلق الإِنسان بخالقه وتحريك غريزة الشكر لديه.
1 ـ (خلق السماوات).
2 ـ (والأرض).
3 ـ (والأنعام خلقها).
4 ـ الإِستفادة من صوفها وجلدها (لكم فيها دفء).
5 ـ (ومنافع).
6 ـ (منها تأكلون).
7 ـ الإِستفادة من جمال الإِستقلال الإِقتصادي (ولكم فيها جمال).
8 ـ (وتحمل أثقالكم ـ والخيل والبغال والحمير لتركبوها).
9 ـ الهداية إِلى الصراط المستقيم (وعلى اللّه قصد السبيل).
10 ـ (وهو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب).
11 ـ إِنشاء المراعي (ومنه شجر وفيه تسيمون).
12 ـ (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات).
13 ـ (وسخر لكم الليل والنهار).
14 ـ (والشمس والقمر).
15 ـ (والنجوم).
16 ـ (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه).
17 ـ (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).
18 ـ (وترى الفلك مواخر فيه).
19 ـ (وألقى في الأرض رواسي أنّ تميد بكم).
20 ـ (وأنهاراً).
21 ـ (وسبلا).
22 ـ (وعلامات) لمعرفة الطرق.
23 ـ (وبالنجم هم يهتدون) في معرفة الطرق ليلا.
24 ـ (واللّه أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها).
25 ـ (نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين).
26 ـ (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً).
27 ـ العسل (فيه شفاء للناس).
28 ـ (واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجاً).
29 ـ (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة).
30 ـ (ورزقكم من الطيبات) بمعناها الواسع.
31 ـ (وجعل لكم السمع).
32 ـ (والأبصار).
33 ـ (والأفئدة).
34 ـ (واللّه جعل لكم من بيوتكم سكناً) وهي البيوت الثابتة.
35 ـ (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً) وهي البيوت المتحركة.
36 ـ (ومن أطوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إِلى حين).
37 ـ نعمة الظلال (واللّه جعل لكم ممّا خلق ظلالا).
38 ـ نعمة وجود الملاجيء الآمنة في الجبال (وجعل لكم من الجبال أكناناً).
39 ـ (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ).
40 ـ (وسرابيل تقيكم بأسكم) أيْ: في الحروب.
وجاء في خاتمة هذه النعم: (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون).
لا حاجة للتنبيه على أنّ ذكر النعم الإِلهية الواردة في القرآن الكريم لا يقصد منها إِلقاء المِنّة أو كسب الوجاهة وما شابه ذلك، فشأن الباري أجلُّ وأسمى من ذلك وهو الغني ولا غني سواه. ولكنّ ذكرها جاء ضمن أُسلوب تربوي مبرمج يهدف لإِيصال الإِنسان إِلى أرقى درجات الكمال الممكنة من الناحيتين المادية والمعنوية. وأقوى دليل على ذلك ما جاء في أواخر كثير من الآيات السابقة من عبارات والتي تصب ـ مع كثرتها وتنوعها ـ في نفس الإِتجاه التربوي المطلوب.
فبعد ذكر نعمة تسخير البحار، يقول القرآن في الآية (14): (لعلكم تشكرون).
وبعد بيان نعمة الجبال والأنهار والسبل، يقول في الآية (15): (لعلكم تهتدون).
وبعد بيان أعظم النعم المعنوية (نعمة نزول القرآن) تأتي الآية (44) لتقول: ( لعلّهم يتفكّرون).
وبعد ذكر نعمة آلات المعرفة المهمّة (السمع والبصر والفؤاد)، تقول الآية (78): (لعلّكم تشكرون).
وبعد الإِشارة إِلى إِكمال النعم الإِلهية، تقول الآية (81): (لعلّكم تسلمون).
وبعد ذكر جملة أُمور في مجال العدل والإِحسان ومحاربة الفحشاء والمنكر والظلم، تأتي الآية (90) لتقول: (لعلّكم تذكرون).
والحقيقة أنّ القرآن الكريم قد أشار إِلى خمسة أهداف من خلال ما ذكر في الموارد الستة أعلاه:
1 ـ الشكر.
2 ـ الهداية.
3 ـ التفكّر.
4 ـ التسليم للحق.
5 ـ التذكّر.
وممّا لا شك فيه أنّ الأهداف الخمسة مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً فالإِنسان يبدأ بالتفكر، وإِذا نسي تذكّر، ثمّ يتحرك فيه حس الشكر لواهب النعم عليه، فيفتح الطريق إِليه ليهتدي، وأخيراً يسلِّم لأوامر مولاه.
وعليه، فالأهداف الخمسة حلقات مترابطة في طريق التكامل، وإِذا سلك السالك ضمن الضوابط المعطاة لحصل على نتائج مثمرّة وعالية.
وثمّة ملاحظة، هي أنّ ذكر النعم الإِلهية بشكليها الجمعي والفردي إِنّما يراد بها بناء الإِنسان الكامل.
إِلهي! أحاطت نعمك بكل وجودنا، فغرقنا في بحر عطاياك، ولكننا لم نعرفك بعد.
إِلهي! هب لنا بصراً وبصيرة نرى بهما طريق معرفتك وحبّك، ووفقنا للسير في مراضيك وأوصلنا إِلى منزل الشاكرين حقاً.
اللّهم! أنت تعلم بحوائجنا دون غيرك، وتعلم أكثر منّا لما نريد، فَمُنَّ علينا لنكون كما تحب، واجعلنا خيراً ممّا يظن الناس إِنّك سميع مجيب.
* * *
مكيّة
وعَدَدُ آيَاتِها مائة وَاحدى عشرة آية
قبل الدّخول في تفسير هَذِه السورة مِن المفيد الإِنتباه إلى النقاط الآتية:
بالرّغم من أنَّ الإِسم المشهور لهَذه السورة هو «بني إِسرائيل» إِلاّ أنَّ لها أسماء أُخرى مثل «الإِسراء» و«سبحان»(1).
ومن الواضح أنَّ ثمّة علاقة تصل بين أي اسم مِن أسماء السورة وبين محتواها ومضمونها، فهي «بني إسرائيل» لأنّ هُناك قسماً مهمّاً في بداية السورة وَنهايتها يرتبط بالحديث عن بني إِسرائيل.
وإذا قلنا أنّها سورة «الإِسراء» فإنَّ ذلك يعود إلى الآية الأُولى فيها التي تتحدث عن إِسراء (ومعراج) النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا تسميتها بـ «سبحان» فإِنَّ ذلك يعود إِلى الكلمة الأُولى في السورة المباركة.
ولكن الرّوايات التي تتحدّث عن فضيلة هَذِهِ السورة، تطلق عليها «بني إسرائيل» فقط. ولهذا السبب فإِنَّ معظم المفسّرين يقتصرون على هَذِا الإِسم، وقد
1 ـ تفسير الآلوسي، ج 15، ص 2.
اختاروه دون غيره.
وبالنسبة لمكان نزول السورة، فمن المشهور أنّ جميع آياتها مكّية، وممّا يؤيد ذلك أنَّ مضمون السورة ومفاهيمها يناسب بشكل كامل مضمون ومحتوى وسياق السور المكّية; هذا بالرغم من أنَّ المفسّرين يعتقد بأنَّ هناك مقطعاً من السورة قد نزل في المدينة، ولكن المشهور ما شاعَ بين المفسّرين من مكية تمام السورة.
وَردت في فضيلة سورة الإِسراء وأجرها أحاديث كثيرة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وَعن الإِمام الصادق(عليه السلام).
فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «من قرأ سورة بني إِسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه».
وبالنسبة لثواب قراءة سور القرآن الكريم والرّوايات التي تتحدث عن فضائلها، ينبغي أن يلاحظ أنّ ملاك الأمر لا يتعلق بمجرّد القراءة وحسب، وإِنّما ـ كما قلنا مراراً ـ أنَّ التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمُّل في مفاهيمها، وينبغي أن يعقب ذلك جميعاً العمل بها، وتحويلها إِلى قواعد يسترشدها الإِنسان المسلم في سلوكه.
خصوصاً وإِنّنا نقرأ في واحدة من الرّوايات التي تتحدث عن فضيلة هَذِهِ السورة ما نصه: «فرق قلبه عند ذكر الوالدين». أي أنّ هناك أثر ترتَّب على القراءة، وقد تمثل هنا بموجة مِن الأحاسيس النّبيلة والحبّ والمودّة للوالدين.
إِذا، ألفاظ القرآن تملك ولا شك قيمة واحتراماً بحدّ ذاتها، إِلاّ أنَّ هذه الألفاظ هي مقدمة للوعي الفكري الصحيح، كما أنَّ الوعي الفكري الإِيماني الصحيح هو مقدمة للعمل الصالح.
لقد أشرنا إِلى مكّية السورة وفق القول المشهور بين المفسّرين، لذا فإِنَّ محتوى السورة يُوافق خصوصيات السور المكّية، من قبيل تركيزها على قضية التوحيد والمعاد، ومواجهة إِشكاليات الشرك والظلم والإِنحراف.
وبالامكان فرز المحاور المهمّة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:
أوّلاً: الإِشارة إِلى أدلة النّبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.
ثانياً: ثمّة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد وما يرتبط به من حديث عن صحيفة الأعمال، وقضية الثواب والعقاب المترتب على نتيجة الجزاء.
ثالثاً: تتحدَّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إِسرائيل المليء بالأحداث.
رابعاً: تتعرض السورة إلى حرية الإِختيار لدى الإِنسان وأنَّ الإِنسان غير مجبر في أعماله، وبالتالي فإِنّ على الإِنسان أن يتحمل مسؤولية تلك الحرية من خلال تحمله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.
خامساً: تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي الإِنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.
سادساً: تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب!
سابعاً: تتعرض السورة إِلى حرمة «الإِسراف»، و«التبذير»، و«البخل»، و«قتل الأبناء»، و«الزنا»، و«أكل مال اليتيم»، و«البخس في المكيال»، و«التكبُّر»، و«إِراقة الدماء».
ثامناً: في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة اللّه تعالى
تاسعاً: تواجه السورة مواقف العناد المكابرة إزاء الحق، وأنّ الذنوب تتحوَّل
إِلى حجب تمنع الإِنسان من رؤية الحق.
عاشراً: تركز السورة على أفضلية الإِنسان على سائر الموجودات.
أحد عشر: تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية.
ثاني عشر: تبحث السّورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.
ثالث عشر: تحذّر السورة المؤمنين مِن وساوس الشيطان وإِغواءاته، وتنبههم إِلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.
رابع عشر: تتعرض السورة إِلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.
خامس عشر: أخيراً تتعرض السورة إِلى مقاطع من قصص الأنبياء(عليهم السلام)ليتسنى للإِنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.
في كل الأحوال تعكس سورة الإِسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقى والإِجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة.
والجميل في السورة أنّها تبدأ بـ «تسبيح اللّه» ـ جلَّ جلاله ـ وتنتهي بـ «الحمد والتكبير». والتسبيح هو تنزيه عن كل عيب ونقص، والحمد علامة على تحقق صفات الفضيلة وتمثُّلها في ذاته العُليا المقدَّسة، بينما التكبير هو رمز الشرف والعظمة.
* * *
سُبْحـنَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَْقْصا الَّذِى بـرَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايـتِنآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)
الآية الأُولى في سورة الإِسراء تتحدَّث عن إِسراء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إِلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإِسراء» مقدمة لمعراجه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمَّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة الى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.
السّورة المباركة تبدأ بالقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).
وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإِعجازي هو (لنريه من آياتنا).
ثمّ خُتمت الآية بالقول: (إِنَّهُ هو السميع البصير). وهذه إِشارة إِلى أنَّ اللّه
تبارك وتعالى لم يختر رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصطفه لشرف الإِسراء والمعراج إِلاّ بعد أن اختبر استعداده(صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره لهُ في الإِسراء والمعراج.
![]() |
![]() |
![]() |