[186]

بحثان

1 ـ ما هو البلاغ المبين؟

رأينا في الآيات مورد البحث أنّ الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين (فهل على الرسل إِلاّ البلاغ المبين).

أيْ لابدّ من الدعوة علناً، وإِذا كانت ثمّة ظروف موضوعية تستدعي من الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية، فهذا لا يكون إِلاّ لمدّة محدودة، لإنّ الأسلوب السري في عصر دعوة الأنبياء(عليهم السلام) غير مستساغ من قبل المجتمع، فلا يكون له الأثر المطلوب والحال هذه.

فلابدّ للدعوة إِذَنْ من الإِعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير كشرط أساسي في إِنجاح الدعوة بين المجتمع.

وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياء(عليهم السلام) نرى أنّهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان صريح معلن، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم).. فهم: لا يداهنون في دعوتهم أبداً ولا يجاملون الباطل وأهله، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

2 ـ لكل أُمّة رسول

عند قوله عزَّ وجلّ: (ولقد بعثنا في كل أُمة رسول) يواجهنا السؤال التالي: لو كان لكل أُمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم، ولكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك، فيكف التوجيه؟!

وتتضح الإِجابة من خلال الإِلتفات إِلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإِيصال الدعوة الإِلهية إِلى أسماع كل الأُمم، فعلى سبيل المثال.. عندما بعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأُخرى نبي، ولكنّ رسل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

[187]

كانوا يصلون إِليها وبوصولهم يصل صوت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِليها أسماع الجميع، بالإِضافة إِلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إِلى الدول المختلفة (إِيران، الروم، الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإِلهية).

وها نحن اليوم كأُمّة قد سمعنا دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا وبينه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إِلينا عبر القرون.. ولا يقصد من بعثة رسول لكل أُمّة إِلاّ هذا المعنى.

* * *

[188]

الآيات

وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقَّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَـذِبِينَ(39)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنـهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(40)

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية الأُولى (الآية 38) أنّ رجلا من المسلمين كان له دين على مشرك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده، فتأثر المسلم بذلك، فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال: والذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا، فقال المشرك: وإِنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم باللّه، لا يبعث اللّه مَنْ يموت. فأنزل اللّه الآية(1).

فأجاب اللّه فيها الرجل المشرك وأمثاله، وعرض المعاد بدليل واضح، وكان حديث الرجلين سبباً لطرح هذه المسألة من جديد.


1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

[189]

التّفسير

المعادو .. نهاية الإِختلافات:

تعرض الآيات أعلاه جانباً من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.

فتقول الآية الأُولى: (وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت).

وهذا الإِنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكّد، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: (بلى وعداً عليه حقّاً ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

إِنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى»، «وعداً»، «حقّاً» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.

وعموماً ـ ينبغي مواجهة مَنْ ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع، ولابدّ من إِظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماماً (ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

ثمّ يتطرق القرآن الكريم إِلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللّه عزَّوجلّ على ذلك، ليرد الإِشتباه القائل بعدم إِعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد..

فيقول: (ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين)في إِنكارهم للمعاد وبأنّ اللّه لا يبعث مَنْ يموت!

لأنّ ذلك عالم الشهود، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء، عالم تجلي الحقائق، كما نقرأ في الآية (22) من سوره ق: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).

وفي الآية (9) من سورة الطارق: (يوم تبلى السرائر) أيْ تظهر وتعلن.

وكذا الآية (48) من سورة إِبراهيم: (وبرزوا اللّه الواحد القهار).

ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإِظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة،

[190]

وإِنْ كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإِطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم، إِلاّ أنّ ذلك سيكون أمراً استثنائياً عابراً.

وهذا يشبه إِلى حد ما إِنكار المجرم لجريمته ابتداءاً عند المحاكمة، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عندما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبداً، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.

ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل: تكامل الإِنسان، إجراء العدالة الإِلهية، تجسيد هدف الحياة الدنيا، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك.. إِلاّ أنّ الآية مورد البحث أشارت إِلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو: رفع الإِختلافات وعودة الجميع إِلى التوحيد.

ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم، وهو شامل يصدق على: ذات وصفات وأفعال اللّه عزَّوجلّ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إِلى هذا الأصل.

ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الإِختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ضلال قيادة الإِمام المهدي «عجل اللّه تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).

أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماماً لوجود عالم الحجب والأستار، ولا ينتهي إِلاّ يوم البروز والظهور (يوم القيامة).

فالرجوع إِلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إِليه الآية مورد البحث.

[191]

وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللّه عزَّ وجلّ سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(1).

ثمّ يشير القرآن إِلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على مَنْ يرى عدم امكان إِعادة الإِنسان من جديد إِلى الحياة من بعد موته: (إِنّما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون).

فمع هذه القدرة التامّة.. هل ثمّة شك أو ترديد في قدرته عزَّوجلّ على إِحياء الموتى؟!

ولعل لا حاجة لتبيان أنَّ «كن» إِنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإِلاّ لا حاجة في أمر اللّه لـ «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.

ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيراً ناقصاً من حياتنا (و لله المثل الأعلى)، فنستطيع أنْ نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إِرادته، فإِنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد، فبمجرّد إِرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.

ونقرأ سويةً الحديث المروي عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).. إِنّ صفوان بن يحيى سأله: أخبرني عن الإِرادة من اللّه تعالى ومن الخلق، فقال: «الإِرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه عزَّوجلّ فإِرادته إِحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يُرَوّي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإِرادة اللّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(2).

* * *


1 ـ راجع الآيات: (55) آل عمران، (48) المائدة، (164) الأنعام، (92) النحل و(69) الحج.

2 ـ عيون الأخبار، ج1، ص119.

[192]

الآيتان

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لأََجْرُ الأَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ(41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية الأُولى (41): نزلت في المعذبين بمكّة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم اللّه في المدينة، وذكر أن صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إِن كنت معكم لم أنفعكم وإِن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أحدهم: ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ أحد الخلفاء كان إِذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءاً قال له: خذ هذا ما وعدك اللّه في الدنيا، وما أخّره لك أفضل. ثمّ تلى هذه الآية(1).


1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية 41.

[193]

التّفسير

ثواب المهاجرين:

قلنا مراراً: إِنّ القرآن الكريم يستخدم أُسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أُسلوب للتربية والتوجيه، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحاً.

فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة، وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث إِلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما..

فيقول أوّلاً: (والذين هاجروا في اللّه من بعدما ظلموا لنبوّئَنَّهم في الدنيا حسنة) أمّا في الآخرة (ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).

ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول: (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون).

* * *

بحوث

1 ـ كما هو معروف فإِنّ للمسلمين هجرتين، الأُولى: كانت محدودة نسبياً (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إِلى الحبشة)، والثّانية: الهجرة العامة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من مكّة إِلى المدينة.

وظاهر الآية يشير إِلى الهجرة الثّانية، كما يؤيد ذلك شأن النّزول.

وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (100) من سورة النساء، والآية (75) من سورة الأنفال.

وعلى أية حال، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام، وقد اهتم النّبي

[194]

الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بهم كثيراً وكذا المسلمون من بعد، وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإِسلامية المباركة، ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبراً نفسه رابحاً في هذه الصفقة المباركة.

ولو لم تكن تلك التضحيات لأُولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإِسلام ليعم أسماع الجميع، وَلَكُتِمَ الصوت وقبر في صدور المؤمنين إِلى الأبد، ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب، وإِنّما أوصلوا صوت الإسلام إِلى أسماع العالم، فأصبحت الهجرة سنّة إِسلامية تجري على مرّ التأريخ إِذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة.

2 ـ التعبير بـ (هاجروا في اللّه) من دون ذكر كلمة «سبيل» إِشارة إِلى ذروة الإِخلاص الذي كان يحملونه أُولئك المهاجرون الأُول، فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلباً لرضاه وحماية لدينه ودفاعاً عنه، وليس لنجاتهم من القتل أو طلباً لمكاسب مادية أُخرى.

3 ـ وتظهر لنا جملة (من بعدما ظلموا) عدم ترك الميدان فوراً، بل لابدّ من الصبر والتحمل قدر الإِمكان.

أمّا عندما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته، وإضعاف المؤمنين.. فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل، حتى تنتهي الحال إِلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية...

4 ـ أمّا قوله تعالى: (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) «نبوئنهم» من (بوأت له مكاناً) أي هيأته له ووضعته فيه ـ فيشير إِلى أن المهاجرين في اللّه وإِنْ كانوا ابتداءً يفتقدون إِلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة، إِلاّ أنّهم في النهاية ـ حتى

[195]

في الجانب الدنيوي ـ منتصرون(1).

فلماذا بعد ذلك يتحمل الإِنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا؟! لماذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه؟!

وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (100) من سورة النساء، حيث تقول: (ومَنْ يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة).

5 ـ إِن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر» و «التوكل» واضح، لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأُولى، ثمّ الإِعتماد الكامل على اللّه سبحانه وتعالى. وأساساً فإنّ الإِنسان لو إفتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم، فإنّ الصبر والإستقامة والثبات تكون مستحيلة.

وقال البعض: إِنّ انتخاب «الصبر» هنا، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إِلى اللّه يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الإِنقطاع عن كل شيء غير اللّه عزَّ وجلّ والإِرتباط به.

وعلى هذا، تكون الصفة الأُولى لأوّل الطريق والثانيه لآخره(2).

وعلى أية حال.. فلا سبيل الى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية، فعلى الإِنسان أنْ يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلاً بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية، ليستطيع أنْ يهاجر ويترك دار الكفر ـ مع كل ما له فيها ـ منتقلا إِلى دار الإِيمان.

* * *


1 ـ «لنبوئنهم»: في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما.. على عكس «نبوء» على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي أجزاء المكان. وعلى هذا فـ «بوّأت له مكاناً» أي ساويت له مكاناً، ثمّ بمعنى هيأته له.

2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية مورد البحث.

[196]

الآيتان

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنـتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ(44)

التّفسير

اِسألوا إِن كنتم لا تعلمون!

بعد أنْ عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين، يعود إِلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأُصول الدين من خلال إِجابته لأحد الإِشكالات المعروفة; حين يتقول المشركون: لماذا لم ينزل اللّه ملائكة لإِبلاغ رسالته؟ ... أو يقولون: لِمَ لَمْ يجهز النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟..

فيجيبهم اللّه عزَّ وجلّ بقوله: (وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالا نوحي إِليهم).

نعم. فإِنّ أنبياء اللّه(عليهم السلام) جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إِنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إِدراك هذه الأُمور جيداً والاطلاع على ما

[197]

يدور في أعماق الإِنسان بوضوح.

إِنّ وظيفة الأنبياء إِبلاغ رسالة السماء والوحي الإِلهي، وإِيصال دعوة اللّه إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي، وليس باستعمال قوى إِلهية خارقة للسنن الطبيعية لإِجبار الناس بقبول الدعوة وترك الإِنحرافات، وإِلاّ فما كان هناك فخر للإِيمان ولا كان هناك تكامل.

ثمّ يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة): (فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون).

«الذكر»: بمعنى العلم والإِطلاع، و«أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإِذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب)، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين، وما تفسيرهم في واقعة إِلاّ تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه. لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.

وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أُخرى، إِلاّ أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإِسلام، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدراً جيداً بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.

يقول الراغب في مفرداته: إِنّ الذكر على معنيين، الأوّل: الحفظ. والثّاني: التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل: الذكر ذكران، ذكر بالقلب وذكر باللسان.. ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.

ثمّ تقول الآية التالية: (بالبيّنات والزّبر)(1).


1 ـ أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة (بالبينات والزبر)... فقال بعضهم: إنّها متعلقة  بـ «لا تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها، وقال بعض آخر: أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر»، وقال آخرون: إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة، وقال غيرهم: إنّها متعلقة بجملة «نوحي إِليهم»، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوماً معيناً للآية، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

[198]

«البينات»: جمع بيّنة، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إِشارة إِلى معاجز وأدلة إِثبات صدق الأنبياء(عليهم السلام) في دعوتهم.

«الزبر»: جمع زبور، بمعنى الكتاب.

فالبينات تتحدث عن دلائل إِثبات النّبوة، والزّبر إِشارة إِلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.

ومن ثمّ يتوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وأنزلنا إِليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إِليهم ولعلهم يتفكرون)، ليبيّن للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك و رسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتباً ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإِنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).

بحث

من هم أهل الذكر؟

ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومون(عليهم السلام)، ومن هذه الرّوايات:

روي عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في جوابه عن معنى الآية أنّه قال: «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»(1).


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص55.

[199]

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية أنّه قال: «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»(1).

وفي روايات أُخرى: أنَّ «الذكر» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، و«أهل الذكر» هم أهل البيت(عليهم السلام)(2).

وثمّة روايات متعددة أُخرى تحمل نفس هذا المعنى.

وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضاً، منها:

ما في التّفسير الأثنى عشري: روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال: هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) هم أهل الذكر والعقل والبيان(3).

فهذه ليست هي المرّة الأُولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

وكما قلنا فـ «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والإِطلاع، و«أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر»، وكذلك شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مصداق واضح للـ «ذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمه(صلى الله عليه وآله وسلم) فهم(عليهم السلام) أفضل مصداق لـ «أهل الذكر».

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية، ولا ينافي مورد نزولها أيضاً (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والاُصول عند بحثهم موضوع الإِجتهاد


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص56.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3 ص55 و 56.

3 ـ إِحقاق الحق، ج3، ص 428 ـ والمقصود من تفسير الأثنى عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسى، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.

وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية، في كتاب الثعلبي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال علي(عليه السلام): «نحن أهل الذكر» ـ راجع المصدر أعلاه ـ .

[200]

والتقليد إِلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.

وقد يُتساءل فيما ورد عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في كتاب (عيون أخبار الرضا(عليه السلام)): أنّ علماءً في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية: إِنما عُني بذلك اليهود والنصارى، فقال الرضا(عليه السلام): «سبحان اللّه وهل يجوز ذلك، إذَاً يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنّه أفضل من الإِسلام...» ثمّ قال: «الذكر رسول اللّه ونحن أهله»(1).

وتتلخص الإِجابة بقولنا: إِنّ الإِمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إِلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان، وبدون شك أنّه خلاف الواقع، فليس المقصود بالرجوع إِليهم على مر العصور والأيّام، بل لكل مقام مقال، ففي عصر الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لابدّ من الرجوع إِليه على أساس إنّه مرجع علماء الإِسلام ورأسهم.

وبعبارة أُخرى: إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإِسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إِلى علماء أهل الكتاب لا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إِليهم، بل يجب الرجوع إِلى علماء كل زمان.

وعلى أية حال.. فالآية مبيّنة لأصل إِسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص57.

[201]

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إِليهم.

وينبغي التنويه هنا إِلى ضرورة الرجوع إِلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإِضافة إِلى توفر عنصر الإِخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيباً متخصصاً ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في عمله؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إِلى جانب الإِجتهاد والأعلمية، أي لابدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقياً ورعاً بالإِضافة إِلى علميته في المسائل الإِسلامية.

* * *

[202]

الآيات

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَْرْضَ أَوْ يَأتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَيَشْعُرُونَ(45) أَو يأخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(47)

التّفسير

لكلِّ ذنب عقابه:

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الإِستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأُسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول: (أفأمِنَ الذين مكروا السيئات) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسباً منهم لإِطفاء نور الحق والإِيمان (أن يخسف بهم الأرض).

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أنْ تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مراراً لأقوام سابقة؟!

[203]

«مكروا السيئات»: بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وما مارسوه من إِيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف»: من مادة «خسف»، بمعنى الإِختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف)، يقال (بئر مخسوف) للذي إِختفى ماؤه، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفاً.

ثمّ يضيف: (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم)أيْ عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات. (فما هم بمعجزين).

وكما قلنا سابقاً، فإِنّ «معجزين» من الإِعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر: (أو يأخذهم على تخوف).

فاليوم مثلا، يصاب جارهم ببلاء، وغداً يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى، فإِنْ استيقظوا فما أحسن ذلك، وإِلاّ فسيصيبهم العقاب الإِلهي ويهلكهم.

إِنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة، واللّه عزَّ وجلّ لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين (فإِنّ ربّكم لرؤوف رحيم).

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإِلهي:

الأوّل: الخسف.

الثّاني: العقاب المفاجىء الذي يأتي الإِنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث: العذاب الذي يأتي الإِنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

[204]

ذلك.

الرّابع: العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف، وإِنْ وردت جميعها بخصوص (الذين مكروا السيئات) لعلمنا أنّ أفعال اللّه لا تكون إِلاّ بحكمة وعدل.

وهنا.. لم نجد رأياً للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع، ولكنْ يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأُولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف اللّه تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم، فيأتيهم العذاب الإِلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إِلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة، حتى وإِنْ كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم اللّه تعالى وهم على تلك الحالة(1).

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إِلى حيث اللارجعة، فيعذبهم اللّه بالتخويف. أيْ يحذرهم بإِنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإِنْ استيقظوا فهو المطلوب، وإِلاّ فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإِلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السيئات، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع اللّه ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *


1 ـ مع أنّ «التقلب» لغةً، بمعنى التردد والذهاب والمجيء، مطلقاً ولكنْ في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

[205]

الآيات

أَوَ لَمْ يَرَوْا مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُا ظِلَـلُهُ عَنِ الَْيمِينِ وَالشَّمَآئِلِ سُجَّداً لَّلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ(48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمـوتِ وَمَا فِى الأَْرْضَ مِن دَابَّة وَالْمَلـئِكَةُ وَهُمْ لاَيَسْتَكْبِرُونَ(49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون(50)

التّفسير

سجود الكائنات للّه عزَّ وجلّ:

تعود هذه الآيات مرّة أُخرى إِلى التوحيد بادئةً بـ: (أوَلم يروا إِلى ما خلق اللّه من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سُجّداً للّه وهم داخرون)(1).

أيْ: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللّه يميناً وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض: إِنّ العرب تطلق على الظلال صباحاً اسم (الظل) وعصراً


1 ـ داخر: في الأصل من مادة (دخور) أيْ: التواضع.

[206]

(الفيء)، وإِذا ما نظرنا إِلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة.. إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال، وإِنّ كلمة الفيء استعملت للجميع.. فيستفاد من ذلك: أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعندما يقف الإِنسان وقت طلوع الشمس متجهاً نحو الجنوب فإِنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب)، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.