2 ـ يجب الإِستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات اللّه (فإِذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم).

وعندما سئل الإِمام الصادق(عليه السلام) عن طريقة العمل بهذا القول، يروى أنّه قال: «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أُخرى، عند تلاوته عليه السلام لسورة الحمد قال: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أنْ يحضرون».

وكما قلنا، فإِنّ التلفظ ـ فقط ـ في الإِستعاذة لا يغني من الحق شيئاً، مالم تنفذ الإِستعاذة إِلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإِنسان عند التلاوة عن إِرادة الشيطان، ويقترب من الصفات الإِلهية، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالإِستعاذة بالله من الشيطان ـ إِذِنْ ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة، ومستمرّة

[324]

مع التلاوة إِلى آخرها وإِنْ لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا، أي مع التفكّر والتأمّل (ورتل القرآن ترتيلا)(1).

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ القرآن لا يُقرأ هزرمةً ولكنْ يرتل ترتيلا، إِذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2).

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إِضافةً إِلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن).

وعن أبي عبدالرحمن السلمي قال: حدثنا مَنْ كان يُقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأُخَر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3).

وروي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4). (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إِلى تلاوة القرآن أنْ ينصتوا إِليه بتفكّر وتأمّل (وإِذا قرىء القرآن فاستمعوا إِليه وانصتوا لعلّكم ترحمون)(5).

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6).

* * *


1 ـ سورة المزمل، 4.

2 ـ بحار الأنوار، ج 89، ص 106.

3 ـ المصدر الستابق.

4 ـ بحار الأنوار، ج 92، ص 107.

5 ـ الأعراف، 204.

6 ـ مزيد من الإِطلاع..راجع بحار الأنوار، ج 9، ص 190 وما بعدها.

[325]

الآيات

وَإِذا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ(103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِأَيـتِ اللَّهِ لاَيَهْدِيِهمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) إِنَّمَا يَفْتَرِى الكَذِبَ الَّذِينَ لاَيؤْمِنُونَ بِأَيـتِ اللَّهِ وَأُولـَئِكَ هُمُ الْكـذِبُونَ(105)

سبب النّزول

يقول ابن عباس: (كانوا يقولون: يسخر محمّد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغداً يأمرهم بأمر، وإِنّه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الإِفتراء!

تحدثت الآيات السابقة أُسلوب الإِستفادة من القرآن الكريم، وتتناول

[326]

الآيات مورد البحث جوانب أُخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن، وتبتدىء ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة، فتقول: (وإِذا بدّلنا آية مكان آية واللّه أعلم بما ينزّل) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة اللّه، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل، ولكن المشركين لجهلهم (قالوا إِنّما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون).

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإِدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إِنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية...نعم، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أنْ يطرأ على وصفة الدواء الإِلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجاً مع ما يعيشونه، فما يعطون اليوم يكمله الغد.. وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم للإِعتقاد بأنّ أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل بين ثناياها التناقض أو الإِفتراء على اللّه عزَّوجلّ! وإِلاّ لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إِلاّ به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة إِنتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية، فالتحول والإِنتقال بالناس من مرحلة إِلى أُخرى لا يتم دفعة واحدة، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل إِنتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أوَ ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

[327]

وبعد الإِجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إِلاّ أنْ نقول: ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل إِنتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ: (قل نزّله روح القدس من ربك بالحق).

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإِلهي «جبرائيل الأمين»، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزَّل بأمر اللّه تعالى على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإِنسان ضمن التربية الرّبانية له، وظروف وتركيبة الإِنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا، جاء في تكملة الآية المباركة: (ليثّبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين).

يقول صاحب تقسير الميزان: إِنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إِنّما هو لما بين الإِيمان والإِسلام من الفرق، فالإِيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإِذعان، والإِسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الإِهتداء إِلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّةِ حال، فلأجل تقوية الروح الإِيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لابدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإِلهية.

وبعد أنْ فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أُخرى، أو على الأصح لذكر إِفتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: (ولقد نعلم أنّهم

[328]

يقولون إِنّما يعلمه بشر).

إختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي إدّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)...

فعن ابن عباس: أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة: وهو من أصل رومي وكان نصرانياً.

واعتبره بعضهم: غلاماً رومياً لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال آخرون: إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأُخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم: أنّه (سلمان الفارسي)، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة وأسلم على يديه هناك، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة، أضف إِلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنياً.

وعلى أيّة حال، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون، بقوله: (لسان الذي يلحدون(1) إِليه أعجمي(2) وهذا لسان عربي مبين).

فإِنْ كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ مُعَلِّمَ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئاً فهذا في منتهى السفة، إِذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلِّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم، حتى أنّ القرآن تحداهم بإِتيان سورة من مثله فما


1 ـ يلحدون: من الإِلحاد بمعنى الإِنحراف عن الحق إِلى الباطل، وقد يطلق على أيِّ انحراف، والمراد هنا: إِنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إِلى إِنسان ويدعون بأنّه معلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)!

2 ـ الإِعجام و العجمة لغةً: بمعنى الإِبهام، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

[329]

استطاعوا، ناهيك عن عدد الآيات؟!

وإِنْ كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي.. فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر، إذ أن المحتوى القرآني قد صُبَّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإِعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيِّ إِنسان، وليس لذلك أهلا سوى اللّه عزَّوجلّ وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إِثبات عقائده، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإِنسان وقوانينه الإِجتماعية المتكاملة، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّاً.. ويبدو لنا أن مطلقي الإِفتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إِلاّ.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم مَنْ ينسبون إِليه القرآن، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شئياً ونسبوا إِليه القرآن، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إِلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر، وإِن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجوداً ألا يستلزم ذلك اتصال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به وباستمرار؟ إِنّهم حاولوا التشبث لا أكثر، وكما قيل: (الغريق يتشبَّث بكل حشيش).

إِنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإِعجازي أمر واضح، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإِنساني، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

[330]

نعم، فمع كل ما وصلت إِليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره: أنّ جمعاً من الماديين في روسيا عندما أرادوا الإِنتقاص من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا: إِنّ هذا الكتاب لا يمكن أنْ ينتج من ذهن إِنسان واحد «محمّد» بل يجب أنْ يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعاً من جزيرة العرب، وإِنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1).

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقاً لمنطقهم الإِلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إِشراقة عقلية لإِنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أُخرى، ممّا اضطرَّهم لأنْ يطرحوا تفسيراً مضحكاً وهو: إِشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنَّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إِليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال، فالآية المباركة دليل الإِعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إِنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإِعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الإِتهامات والإِنحرافات ناشئة من عدم انطباع الإِيمان في نفوس هؤلاء، فيقول: (إِنّ الذين لا يؤمنون بآيات اللّه لا يهديهم اللّه ولهم عذاب أليم).

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إِلاّ العذاب الإِلهي، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.


1 ـ في ضلال القرآن، ج 5، ص 282.

[331]

وفي آخر الآية يقول: إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء اللّه هم الكفار: (إِنّما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه وأُولئك هم الكاذبون)، فهم الكاذبون وليس أنت يا محّمد، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إِطلاق الإِفتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإِسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإِلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والإِفتراء على اللّه والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إِجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإِسلامية إِفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب، وإِليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع:

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإِنسان، حتى أنّ دلالتهما على الإِيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لا تنظروا إِلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإِنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك، ولكنْ انظروا إِلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1).


1 ـ سفينة البحار، مادة (صدق)، نقلا عن الكافي.

[332]

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد، وما الصدق إِلاّ الأمانة في الحديث، وما الأمانة إِلاّ الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب:

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب..

فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «الصدق يهدي إِلى البِر والبر يهدي إلى الجنّة»(1).

وعن الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ اللّه عزَّ وجلّ جعل للبشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب»(2).

وعن الإمام العسكري(عليه السلام) أنّه قال: «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3).

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجباً لفضحه، فتراه يتوسَّل بالكذب عادةً لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أُخرى: إِنّ الكذب يطلق العنان للإِنسان للوقوع في الذنوب، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة بكل وضوح عندما جاءه رجل وقال له: يا رسول اللّه، إِنّي لا أُصلي وأرتكب القبائح وأكذب، فأيّها أترك أوّلاً؟.

فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «الكذب»، فتعهد الرجل للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ لا يكذب أبداً.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه: إِنْ سألني رسول اللّه غداً عن أمري، ماذا أقول له! فإِنْ أنكرت كان كاذباً، وإِنْ صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا


1 ـ مشكاة الأنوار للطبرسي، ص 157.

2 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 254.

3 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 233.

[333]

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورَّع عنها جميعاً.

ولذا..فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق:

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب، في حين أن الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب، وما النفاق إِلاّ الإِختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبّة تبيّن لنا ذلك بوضوح: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإِيمان:

وإِضافة إِلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة...

فقد روي أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سُئل: يكون المؤمن جباناً؟ قال: «نعم»، قيل: ويكون بخيلا؟ قال: «نعم»، قيل: يكون كذّاباً؟ قال: «لا»(1).

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق، وهو لا يتفق مع الإِيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الإِطمئنان:

إِنّ وجود الثقة والإِطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم، والكذب من الأُمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشيعه من خيانة وتقلب،


1 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 322.

[334]

ولذلك كان تأكيد الإِسلام على أهمية الإِلتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّة(عليهم السلام) عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «إِيّاك ومصادقة الكذّاب، فإِنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1).

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته، والأسباب الداعية إِليه من الناحية النفسية، وطرق مكافحته، كل ذلك يحتاج إِلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه، ولمزيد من الإِطلاع راجع كتب الأخلاق(2).

* * *


1 ـ نهج البلاغة، الكمات القصار، رقم 37.

2 ـ راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

[335]

الآيات

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمـنِ وَلـكِنَ مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الأَْخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَيَهْدِى الْقَومَ الْكَـفِرِينَ(107) أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصـرِهِمْ وَأُلَـئِكَ هُمُ الْغـفِلُونَ(108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأَْخِرَةِ هُمُ الْخـسِرُونَ(109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَافُتِنُوا ثمّ جـهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(110) يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نِفْس تُجـدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(111)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأُولى من هذه الآيات أنّها: نزلت في جماعة أُكرهوا ـ وهو: عمار وأبوه ياسر وأُمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عُذِّبُوا وقُتِل أبو عمار وأَمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر سبحانه

[336]

بذلك رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال قوم: كفر عمّار. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) كلا: «إِنّ عماراً مليء إِيماناً من قرنه إِلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه».. وجاء عمّار إِلى رسول اللّه وهو يبكي، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما وراءك»؟ فقال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه ويقول: «إِنْ عادوا لك فعد لهم بما قلت»، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإِسلام:

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به، فتتناول الآيات فئة أُخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأُولى: (مَنْ كفر بالله من بعد إِيمانه إِلاّ مَنْ أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه، ولهم عذاب عظيم).

وتشير الآية إِلى نوعين من الذين كفروا بعد إِيمانهم:

النوع الأوّل: هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوة من أعداء الإِسلام، فيعلنون براءتهم من الإِسلام وولاءهم للكفر، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإِيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإِلهي بلا ريب، بل لم يصدر منهم ذنب، لأنّهم قد مارسوا التقية التي أحلها الإِسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للإِستفادة منها في طريق خدمة دين اللّه عزَّوجلّ.

النوع الثّاني: هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقةً، ويغيّرون

[337]

مسيرتهم ويتخلّون عن إِيمانهم، فهؤلاء يشملهم غضب اللّه عزَّ وجلّ وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب اللّه» إِشارة إِلى حرمانهم من الرحمة الإِلهية والهداية في الحياة الدنيا، و«العذاب العظيم» إِشارة إِلى عقابهم في الحياة الأُخرى.. وعلى أيَّةِ حال، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة .

وتتطرق الآية التالية إِلى أسباب ارتداد هؤلاء، فتقول: (ذلك بأنّهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن اللّه لا يهدي القوم الكافرين) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال: حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إِسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم، وعادوا خاسئين إِلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإِيمان ولا يسمح له بالدخول إِلى أعماق نفسه، لا تشمله الهداية الإِلهية، لأنّ الهداية تحتاج إِلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله، وهذا مصداق لقوله عزَّوجلّ في آخر سورة العنكبوت: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

وتأتي الآية الأُخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم، فتقول: (أُولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) بحيث أنّهم حُرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق: (وأُولئك هم الغافلون).

وكما قلنا سابقاً فإِنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإِنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة، وتدريجياً يسلب منه سلامة الفكر، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره، حتى يؤول به المآل إِلى أن يصبح ذا عين ولكنْ لا يرى بها، وذا أُذن وكأنّه لا يسمع

[338]

بها، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز، والتي تعتبر من النعم الإِلهي العالية.

«الطبع» هنا: بمعنى «الختم»، وهو إِشارة إِلى حالة الإِحكام المطلق، فلو أراد شخص مثلا أنْ يغلق صندوقاً معيناً بشكل محكم كي لا تصل إِليه الأيدي فإِنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للإِطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم، فتقول: (لا جَرَمَ أنّهم في الآخرة هم الخاسرون).

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإِنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإِيمان، والذين ينقلبون إِلى الكفر مرّة أُخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إِلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدوعون في دينهم، فتقول: (ثمّ إِنّ ربّك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا ثمّ جاهدوا وصبروا إِنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم)(1).

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد، ولكنّ الآية تشير إِلى مَن كان مشركاً في البداية ثم أسلم، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري)(2).

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيراً عاماً بقولها: (يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن


1 ـ ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسّرين ـ يعود إِلى «الفتنة»، في حين ذهب البعض من المفسّرين إِلى أنّه يعود إِلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقاً.

2 ـ المرتد الفطري: هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثمّ يرتد عن الإِسلام بعد قبوله إِياه، والمرتد الملّي: يطلق على مَن انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثمّ قبل الإِسلام، وارتَّد عنه بعد ذلك.

[339]

نفسها)(1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحياناً ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إِنكاراً تاماً فراراً من الجزاء والعقاب، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم: (واللّه ربّنا ما كّنا مشركين)، وعندما لا يلمسون أيّة فائدة لإِنكارهم يتجهون بإِلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم، ويقولون: (ربّنا هؤلاء أضلّونا فأْتهم عذاباً ضعفاً من النّار)(2).

ولكنْ.. لا فائدة من كل ذلك.. (وتوفّى كلُّ نفس ما عملت وهم لا يُظْلَمُون).

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها:

إِمتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بروح مُقاومة عظيمة أمام أعدائهم، وسجل لنا التأريخ صوراً فريدة للصمود والتحدي، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمح الأعداء أن يسمعوها منه، مع أنّ قلبه مملوءاً ولاءً وإِيماناً بالله تعالى وحبّاً وإِخلاصاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة، ورحلت روحه الطاهرة إِلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين اللّه.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمةً بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهراً، وبالرغم من اطمئنانه بإِيمانه وتصديقه لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ


1 ـ اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين..فبعضهم يذهب إِلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة»، واعتبره آخرون متعلقاً بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من (الغفور الرحيم) في الآية السابقة، (ولكنّنا نرجح التّفسير الإِحتمال الأوّل لشموله).

2 ـ الأعراف، 38.

[340]

أنّه اغتمّ كثيراً وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بحلِّيّة ما فعل به حفظاً للنفس، فهدأ.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عندما اعتنق الإِسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فشدَّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضاً تحت لهيب الشمس الحارقة، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرةً كبيرة على صدره وهو بتلك الحال، وطلبوا منه أنْ يكفر بالله ولكنّه أبى أنْ يستجيب لطلبهم وبقي يردد: أحدٌ أحد، ثمّ قال: أُقسم بالله لو علمتُ قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله: هل تشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟

قال: نعم.

ثمّ سأله: أتشهد أنّي رسول اللّه؟

فأجابه ساخراً: إِنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إِرباً إِرباً(1).

والتأريخ الإِسلامي حافل بصور كهذه، خصوصاً تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّة(عليهم السلام).

ولهذا قال المحققون: إِنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه، عملٌ جائز حتى لو أدى الأمر إِلى الشهادة، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإِعلاء كملة الإِسلام، وخاصة في بداية دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا، فالتقية جائزة في موارد، وواجبة في موارد أُخرى، وخلافاً لما يعتقده البعض فإِنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء، ولا هي تسليم لهم، بقدر ما هي نوع من


1 ـ في ظلال القرآن، ج 5، ص 284.

[341]

المراوغة المحسوبة لحفظ الطاقات الإِنسانية وعدم التفريط بالأفراد المؤمنين مقابل موضوعات صغيرة وقليلة الأهمية.

وممّا تعارف عليه عند كل الشعوب أنْ تلجأ الأقليات المجاهدة والمحاربة إِلى أُسلوب العمل السرّي غالباً، وذلك لحفظ حياة الأفراد وتهيئة الظروف لإِكثارهم، فتشكّل مجموعات سرّية وتضع لأنفسها برامجاً غير معلنة على غيرهم، حتى أنّ البعض من أفرادهم يحاول أن يتنكر حتى في زيه، وإِذا ما تمَّ اعتقالهم من قبل السلطة المعادية لمبادئهم فيحاولون جهد الإِمكان إِخفاء حقيقة أمرهم كي  لاتخسر المجموعة كل طاقاتها، ولتكون قادرة على مواصلة الطريق بالبقية المتبقية منهم.

والعقل لا يجيز في ظروف كهذه أن تعلن المجموعة المجاهدة قليلة العدد عن نفسها، لكي لا يعرفها العدو بسهولة وهو القادر على القضاء عليها بما يملك من بطش وتسلط.

فالتقية قبل أنْ تكون برنامجاً إِسلامياً هي أسلوب عقلاني ومنطقي، ينفذه ويعمل به مَن يعيش صراعاً مع عدو قوّي متمكن منه.

ولذا فقد ورد تعبير (الترس) عن التقية في الأحاديث الشريفة، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن»(1).

(لاحظوا أنّ التقية هنا شبّهت بالترس، والترس إِنّما يستعمل في ميادين الحرب والقتال مع الأعداء لحفظ القوى الثائرة).

وإِذا رأينا أنّ الأحاديث الشريفة تعتبر التقية علامةً للدين والإِيمان وتقدرها بتسعة أعشار الدين، فإِنّما هو للسبب المذكور.

والمجال ـ في هذا الكتاب ـ لا يسع للخوض في تفصيل موضوع التقية، وكل


1 ـ وسائل الشيعة، ج 11، الحديث (6) من الباب (24) من أبواب الأمر بالمعروف.

[342]

ما أردنا بيانه هو أنّ مَنْ يستنكر التقية ويذمها إِنّما هو جاهل بشروطها وفلسفتها.

وثمة حالات تحرم فيها التقية، حينما يكون حفظ النفس فيها سبباً لزوال الدين نفسه، أو قد تؤدي التقية لحدوث فساد عظيم، فيجب والحال هذه كسر طوق التقية واستقبال كل خطر يترتب على ذلك(1).

2 ـ المرتد الفطري والملي و.. المخدوعين:

لايواجه الإِسلام الذين لا يعتنقون الإِسلام من (أهل الكتاب) بالشدّة والقسوة وإِنّما يدعوهم باستمرار ويتحدث معهم بالمنطق السليم، فإِذا لم يقتنعوا وراموا البقاء على ديانتهم فيعطون الأمان والتعهد بحفظ أموالهم وأرواحهم ومصالحهم المشروعة بعد أن يعلنوا قبول شرط أهل الذمة في عهدهم مع المسلمين.