ثمّ أنّ الإِنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرُّف بالنحو الآتي: (إِمّا تعرضن عنهم ابتغاء رحمة مِن ربّك ترجوها فقل لهم قولا ميسوراً).

«ميسور» مُشتقّة مِن «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإِحترام والمحبّة، وإِذا فسَّرها

[454]

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإِنَّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات، أنَّه بعد نزول هذه الآية، كانَ إِذا جاء شخص محتاج إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والرّسول لا يملك شيئاً لإِعطائه، قال له(صلى الله عليه وآله وسلم): «يرزقنا اللّه وإِيّاكم مِن فضله»(1).

وقديماً عندما كانَ السائل يطرق الباب، ويطلب مِنّا شيئاً لا نستطيع إعطاءه إِيّاه، نقول له «العفو» وذلك تأكيداً على أنَّ لهذا السائل حق علينا يُطالِبنا به، وإِذا كُنّا لا نملك قضاء حاجته وإِعطاءه حقّه، فإِننا نطلب منه العفو.

الإِعتدال هو شرط في كل الأُمور بما فيها الإِنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك). وهذا تعبير جميل يفيد أنَّ الإِنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إِلى أعناقهم بُخلا وخشية من الإِنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرِّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إِلى الملامة والإِبتعاد عن الناس: (ولا تبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً).

و«تقعد» مُشتقّة مِن «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير «ملوم» فهو يشير إِلى أنَّ عاقبة الإِسراف لا تؤدي إلى توقف الإِنسان عن عمله ونشاطه وحسب، وإِنّما تؤدي إِلى إِيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مُشتقّة مِن كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإِظهار بعض البدن من تحته، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع، بأنه «حاسر». وأيضاً يقال للحيوان الذي يتعب مِن كثرة المشي بأنَّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.


1 ـ يراجع تفسير مجمع البيان، عند تفسير الآيه.

[455]

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يُطلق على كل إِنسان عاجز عن الوصول إِلى هدفه بأنَّهُ «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن، فهي مُشتقة مِن هذه الكلمة، وتطلق على الإِنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإِنفاق، فهو إِذا تجاوز الحد المقرَّر بحيث يستنفذ طاقة الإِنسان، فإِنَّهُ يؤدي إِلى أن يُصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسؤولياته، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى، إِذ أنّها تتحدث أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يوماً في بيته فجاءه سائل يسأله إِعطاءه ملابس، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يُعطي السائل، فقد خلع لباسه وأعطاهُ إِيّاه، الأمر الذي أدّى إِلى بقاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كانَ هذا الحادث سبباً لِتقولات الكفار المنافقين، الذين قالوا: إِنَّ الرّسول نائم، أو إِنَّهُ في لهو أنساهُ صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إِلى إِيقاع اللوم شماتة الأعداء والإِنقطاع عن الأصحاب، وأصبح بذلك مصداقاً للملوم والمحسور، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإِيثار» فسنبحثهُ في الملاحظات القادمة إِن شاء اللّه.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية، هو أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي ما يوجد في بيت المال إِلى المحتاج بحيث إِذا جاءه محتاج آخر، فلن يجد شيئاً يعطيه له، فيلوم ذلك المحتاج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذيه، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفقّ كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إِلى إِنفاقنا؟

[456]

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: (إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً). إِنَّهُ اختبارٌ لنا، فالله قادر على كل شيء، ولكنَّهُ يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء. إِضافة إِلى ذلك، إِذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإِنَّ ذلك يقود إِلى الطغيان والتمرد (إِنَّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى)، لذلك مِن المفيد أن يبقوا في حد معين مِن الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. مِن ناحية أُخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإِنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي المشيئة الإِلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاءَ، وهذا دليل الحكمة، إِذ تقضي الحكمة بزيادة رزق مَن يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

العلاّمة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان: «إِنَّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، فلا يبسطه كل البسط، ولا يمسك عنهُ كل الإِمساك رعاية لمصلحة العباد، إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق اللّه وتتخذ طريق الإِعتدال وتتجنب الإِفراط والتفريط»(1).

* * *

بحوث

أوّلاً: مَن هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة (ذي القربى) تعني الأرحام والمقربين، وهناك كلام بين المفسّرين،


1 ـ تفسير الميزان، ج 13، ص 84.

[457]

حول المقصود بها، إِذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء:

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، والغرض هو إِيصال حقوق أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كخمس الغنائم، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنة إِنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إِلى فاطمة(عليها السلام) بعد نزول هذه الآية، ووهبها فدكاً(1).

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخُدري ا لصحابي المعروف: «لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) أعطى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً»(2).

ويستفاد مِن بعض الرّوايات، أنَّ الإِمام زين العابدين(عليه السلام) أثناء سيره إِلى الشام بعد واقعة كربلاء، استدلَّ بهذه الآية (وآت ذا القربى حقه) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسين(عليه السلام)، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى، فيما كانَ أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!(3).

ولكن ـ كما أشرنا سابقاً ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين، فالكل مكلفون بإِيتاء حقوق ذوي القربى، والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اعتبر قائداً للأُمّة


1 ـ فدك أرض معمورة وخصبة، كانت بالقرب مِن خبير وعلى بعد (140) كم عن المدينة المنورة، وفدك بعد خبير كانت مركزاً لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب: مراصد الإِطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بدون حرب، أعطى الرّسول هذه الأرض إِلى فاطمة الزّهراء(عليها السلام) وذلك وفقاً للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إِلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إِلى العلويين.

2 ـ نقل هذا الحديث «البذار» و«أبو يعلى» و«ابن أبي حاتم» و«ابن مردوية» عن«أبي سعيد» [لاحظ كتاب ميزان الإِعتدال المجلد الثّاني صفحة (288) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (158)] وقد ورد هذا الحديث أيضاً في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية، وفي الدر المنثور أيضاً وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معاً.

3 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 255.

[458]

الإِسلامية مكلّف أيضاً بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة، فأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هم في الواقع مِن أوضح مصاديق القربى له(صلى الله عليه وآله وسلم). والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق ذوي القربى لهم، فأعطى فاطمة فدكاً، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه.

ثانياً: مصائب الإِسراف والتبذير:

لا ريب في أنَّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط واحد، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إِفراط أو تفريط، والاّ فإِنَّ هذه النعم ليست غير متناهيه حتى لو أُسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإِسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أُخرى، أو إِنَّ إِسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبِّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإِحصاءات في متناول الإِنسان، حذّر الإِسلام مِن مغبة الإِسراف والتبذير في نعم اللّه على الأرض. لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (141) مِن الأنعام و (31) مَن الأعراف نقرأ قوله تعالى: (ولا تسرفوا إِنَّهُ لا يحب المسرفين).

أمّا في غافر (43) فنقرأ: (وإِنّ المسرفين هم أصحاب النّار).

والآية (51) مِن الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين: (ولا تطيعوا أمر المسرفين).

أمّا الآية (83) مِن يونس فتجعل الإِسراف صفة فرعونية: (وإِنَّ فرعون لعال في الأرض وإِنَّه لمن المسرفين).

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) مِن سورة غافر: (إِنَّ

[459]

اللّه لا يهدي مَن هو مسرف كذّاب).

وأخيراً تتحدث الآية (9) مِن سورة الأنبياء عن مصيرهم: (وأهلكنا المسرفين).

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن اللّه تعالى جعل المسرفين إِخوان الشياطين. والإِسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإِنسان، ولكنّها عادةً تستخدم في المصروفات.

ومِن آيات القرآن نفسها نستفيد أنَّ الإِسراف هو في مقابل التقتير، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين، كما في الآية (67) مِن سورة الفرقان: (والذين إِذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكانَ بين ذلك قواماً).

ثالثاً: الفرق بين الإِسراف والتبذير:

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإِسراف والتبذير، ولكن عند التأمُّل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبيَّن أنَّ الإِسراف هو الخروج عن حدّ الإِعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئاً، فمثلا نلبس ثياباً ثميناً بحيث أنَّ ثمنهُ يُعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أنّنا نأكل طعاماً غالياً بحيث يمكننا إِطعام عدد كبير مِن الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإِسراف، وهي تُمثَّل خروجنا عن حدَّ الإِعتدال، ولكن مِن دون أن نخسر شيئاً.

أمّاكلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير، بحيث يؤدي إِلى إِتلاف الشيء وتضييعه، فمثلا نهيء طعام عشرة أشخاص لشخصين، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخراً، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم مِن هذا التمييز، لا بدَّ مِن القول بأنَّ كثيراً ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإِمام علي في نهج البلاغة يقول: «ألا إِنَّ إِعطاء المال في غير حقّه تبذير

[460]

وإِسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعهُ في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينهُ عند اللّه».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإِسلام يحث كثيراً على عدم الإِسراف والتبذير إِلى درجة أنّه نهى عن الإِسراف في ماء الوضوء حتى إِذا كان ذلك قرب نهر جار; وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات يستفيد مِن كلَّ شيء، فهو مثلا يستفيد مِن فضولات المنازل في صنع السماد، ومِن ماء المجاري لسقي المزروعات، لأنَّهُ أحسَّ أنَّ المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة، وإِنّما ينبغي الإِستفادة مِنها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعاً: هل ثمّة تعارض بين الإِعتدال في الإِنفاق والإِيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإِعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الإِعتدال في الإِنفاق، يثار سؤال مؤدّاه، إِنَّ في سورة الدهر مثلا، وآيات أُخرى، وفي مجموعة مِن الأحاديث والرّوايات، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين، فكيف يا تُرى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إِنَّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أُخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال، إِذ يكون الأمر بمراعاة الإِعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سبباً لاضطراب الإِنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها (ملوماً محسوراً) وكذلك إِذا كانَ الإِيثار سبباً في التضييق على أبنائه أو أنَّهُ يهدِّد تركيبة عائلته. وإِذا لم يقع أي مِن هذين المحذورَيْن، فإِنَّ الإِيثار يُعتبر أفضل السُبل، نضيف إِلى ذلك أنَّ الإِعتدال في الإِنفاق يُعتبر حكماً عاماً، بينما الإِيثار يعتبر حكماً خاصاً يرتبط بمصاديق خاصّة، وليس ثمّة تضاد بين الأثنين.

* * *

[461]

الآيات

وَلاَ تَقْتُلُوآ أَوْلـدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً(31) وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فـحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا(32) وَلاَ تَقْتُلُوا الْنَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيَّهِ سُلْطَـناً فَلاَ يُسْرِف فِى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً(33) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا(34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا(35)

التّفسير

ستةُ أحكام مهمّة:

في متابعة للأحكام الإِسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدَّث هذه الآيات عن ستةِ أحكام إِسلامية أُخرى وردت في ست آيات، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة، تأخذُ بلباب القلوب.

[462]

أوّلاً: تشير الآية إِلى عمل قبيح وجاهلي هو مِن أعظم الذنوب، فتنهى عنهُ: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إِملاق) فرزق هؤلاء ليس عليكم (نحنُ نرزقكم وإِيّاهم) أمّا علّة الحكم فهي: (إِنَّ قتلهم كان خطأ كبيراً).

هذه الآية تفيد أنَّ الوضع الإِقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيئاً.

بحيث أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر. وهناك كلام بين المفسّرين فيما إِذا كانَ العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً مِن الفقر!

البعض يعتقد أنَّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيَّة، هذا العمل الذي كان شائعاً في الجاهلية لسببين:

الأوّل: يتمثل في الخوف مِن وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.

أمّا الثّاني: فيعود إِلى خوفهم مِن الفقر وعدم تمكنهم مِن توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إِنتاجي، ويقتصر دورهن على الإِستهلاك فقط. صحيح أنَّ الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثميناً، لا يمكن التفريط به.

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين مِن القتل، النوع الأوّل يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطيء. أمّا النوع الثّاني فسببهُ الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معاً.

ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في «قتلهم» وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معاً، وبالتالي فإِنَّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.

أمّا ما يقال مِن أنَّ الولد قادر على الإِنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين

[463]

حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الاصح لهذا الدليل.

المهم أنَّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إِنَّ الأب والأُم هما الرازقان، بينما اللّه سبحانهُ وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني مِن أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم واللّه يؤمن رزقكم ورزقهم.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإِنَّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مُجتمعاته رُقياً وتقدماً ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إِذ أنَّ العمليات الواسعة في إِسقاط الجنين وقتله خوفاً مِن الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد راجع تفسير الآية (151) مِن سورة الإِنعام).

إِنَّ تعبير «خشية إِملاق» إِشارة لطيفة إِلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيثُ يُفيد التعبير أنَّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرَّم. لا الدوافع الحقيقية.

كما يجب الإِنتباه إِلى أنَّ «كان» في (كان خطأً كبيراً) هي فعل ماض، يُفيد هنا التأكيد على أنَّ قتل الأبناء يعتبر مِن الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنَّ الفطرة الإِنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض وإِلادانة لِمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.

ثانياً: الآية التي بعدها تشير إِلى ذنب عظيم آخر هو الزنا (ولا تقربوا الزنا إِنَّهُ كان فاحشة و ساءَ سبيلا) وفي هذا التعبير القرآني تمت الإِشارة إِلى ثلاث نقاط:

ألف ـ لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الأُسلوب في النهي فضلا عمّا يحملهُ مِن تأكيد، فإِنَّهُ يوضح أنَّ هناك مقدمات تجر إِلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة مِن المقدمات، والسفور والتعري مقدمة أُخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لِهذا العمل.

[464]

كذلك فإِنَّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إِثارة الشهوة.

وأخيراً فإِنَّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي مِن العوامل التي قد تؤدي إِلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مُختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهياً مُفصلا عن كل واحدة مِن هذه المقدمات.

ب ـ إِنَّ جملة (إِنَّه كان فاحشة) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة مِن «إِن» والفعل الماضي «كان» وكلمة «فاحشة» تكشف عن فظاعة هذا الذنب.

ج ـ إِنَّ جملة (ساء سبيلا) توضح حقيقة أنَّ هذا العمل «الزنا» يؤدي إِلى مفاسد أُخرى في المجتمع.

فلسفة تحريم الزنا:

يمكن الإِشارة إِلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، وهي:

1 ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الإِجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء، ووضع أُسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.

إِنَّ العلاقات الإِجتماعية القائمة فى أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إِذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا»، وللمرء أن يتصّور مصير الأبناء فيما إِذا كانوا ثمرّة للزنا، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم مِن لحظة الولادة وحتى الكبر.

وعلاوة على ذلك، فإِنّهم سيحرمون من الحبّ الأُسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإِسلامي، وحينئذ يتحول المجمتع الإِنساني بالزنا

[465]

إِلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

2 ـ إِنَّ إِشاعة الزنا في جماعة ما، ستقود إلى سلسلة واسعة مِن الإِنحرافات أساسها التصرفات الفردية والإِجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والإِنحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع الوان الجرائم والجنايات.

3 ـ لقد أثبت العلم ودلَّت التجارب على أنَّ إِشاعة الزنا سبب لكثير مِن الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إِلى فشل مُكافحة هذه الأمراض مِن دون مُكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإِيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمِّرة).

4 ـ إِنَّ شياع الزنا غالباً ما يؤدي إِلى محاولة إِسقاط الجنين وقطع النسل، لأنَّ مِثل هؤلاء النساء «الزانيات» لا يرضين بتربية الأطفال، وعادة ما يكون الطفل عائقاً كبيراً أمام الإِنطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة، لذلك فهن يُحاولن إِسقاط الجنين وقطع النسل.

أمّا النظرية التي تقول، بأنَّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم، فإِنَّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها، إِذ هناك صعوبات التربية، وهناك النظرة الإِجتماعية لهؤلاء، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما، كل هذه العوامل تؤدي إِلى تحويل هذه الطبقة مِن الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية.

5 ـ يجب أن لا ننسى أنَّ هدف الزواج ليس إِشباع الغريزة الجنسية وحسب، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإِستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية

[466]

للزواج، وكل هذه الأُمور لا يمكن لها أن تثمر مِن دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.

في حديث عن الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: «في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا، فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة، فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النّار، أو الخلود في النّار»(1).

ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إِليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إِلاّ بالحق).

إِنَّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع مِن الذنوب الكبيرة، إِلاَّ أنَّ الإِسلام أعطى أهمية إِستثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر مَن يقتل إِنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) مِن سورة المائدة (مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). بل نستفيد مِن بعض الآيات القرآنية أنَّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار، وأنَّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإِيمان، ولا يمكن أن يخرجوا مِن هذه الدنيا مؤمنين: (وَمَن قتل مؤمناً مُتعمداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها)(2). وحتى في الإِسلام فإِنَّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان «محارب» وهذا الصنف لهُ عقوبات شديدة مُفصّلة في المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إِلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة المائدة.

إِنَّ الإِسلام يُحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقهُ الإِنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإِراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إِننا لا نرى


1 ـ تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 414.

2 ـ النساء، 93.

[467]

أيَّ شريعة غير الإِسلام أعطت هذه الحرمة الإِستثنائية لدم الإِنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإِنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إِنزال العقوبة به، لذلك فإِنَّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإِستثناء بالقول: (إِلا بالحق).

وفي حديث معروف عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: «لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إِله إِلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه إِلاّ بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المُحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(1).

أمّا القاتل فتكون نهايتهُ معلومة بالقصاص، الذي يُؤمّن استمرار الحياة واستقرارها، وإِذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص مِن القاتل، فإِنَّ القتلة سيتجرؤون على المزيد من القتل والإِخلال بالأمن الإِجتماعي.

أمّا الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنون قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

أمَّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإِخلال في المجتمع الإِسلامي، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الإِجتماعي في قبال الأخطار التي تهدِّد كيان النظام الإِسلامي ووحدة أمنه الإِجتماعي، والإِسلام ـ عادةً ـ لا يفرض على أحد قبول الإِنتماء إِليه، ولكن إِذا اقتنع أحد بالإِسلام واعتنقهُ، وأصبح جزاءاً من المجتمع الإِسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثمّ أراد بعد ذلك الإِرتداد عن الإِسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإِسلامي، فإِن حكمه سيكون القتل(2) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.


1 ـ صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323.

2 ـ هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التّفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.

[468]

إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم ـ أيضاً ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: (ومَن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً). ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الإِعتدال ولا يسرف (فلا يسرف في القتل إِنَّهُ كانَ منصوراً)إِذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللّه تعالى.

والنهي عن الإِسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يُمكن مُشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد مِن قبيلة معينة، فإِنّها تقوم بهدر الكثير مِن الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصاً معروفاً وذا منزلة إِجتماعية، فإِنَّ أهله وفق الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي، بل يقتلون فرداً معروفاً ومكافئاً في منزلته الإِجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإِن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(1)

وعصرنا الحاضر، شهد مِن التجاوز في الإِسراف وهدر دِماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إِسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإِلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء، وتعمد إِلى هدم ديارهم.


1 ـ يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.

[469]

كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإِسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإِسراف في القتل.

إِنَّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إِسلامياً، لذلك نقرأ في وصية الإِمام علي(عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبدالرحمن بن ملجم المرادي قوله: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إِلاّ قاتلي، انظروا إِذا أنا مت مِن ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل»(1).

رابعاً: الآية التي بعدها تشير الى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنَّ الآية استخدمت نفس أُسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإِنّما قالت: (ولا تقربوا مال اليتيم).

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: (إِلاّ بالتي هي أحسن). وبناء على هذا الإِستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيماً على نفسه وأمواله (حتى يبلغ أشدّه).

«أشدّ» مأخوذة مِن «شدّ» على وزن «جدّ» وهي بمعنى «العقدة المحكمة» ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع مِن القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة «أشد» في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب، وإِنّما الرشد الفكري والقدرة الإِقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة «أشد» في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة، والتي


1 ـ نهج البلاغة، مجموعة الرسائل، الرقم (47).

[470]

يمكن اختيارها بالتجربة.

الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، ووجودهم يكون تبعاً لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع، والدوافع الإِنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع، والإِسلام يحث على رعاية الأيتام، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مُفصلا في الآية (2) مِن سورة النساء.

والشيء الذي نريد أن نضيفهُ هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإِسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إِمامهم وقائدهم، ولا يصل صوت الحق إِليهم. وهذا المعنى نوع مِن التوسع في المفهوم واستفادة معنوية مِن حكم مادي.

خامساً: تشير الآية بعد ذلك إِلى الوفاء بالعهد فتقول: (وأوفوا بالعهد إِنَّ العهد كان مسؤولا). إِنَّ الكثير مِن العلاقات الإِجتماعية وخطوط النظام الإِقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إِذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الإِجتماعي وستحل الفوضى، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود.