* * *

بحوث

أوّلاً: هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إِنّنا نرى في كثير مِن الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإِمكاناتها المادية، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيراً (سورة البقرة آية 180). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل اللّه (وابتغوا مِن فضل اللّه)(1). وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)(2). وفي آيات كثيرة أُخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا (سخر لكم).

وإِذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإِمكانات المادية وتؤكد عليها،


1 ـ الجمعة، 10.

2 ـ البقرة، 29.

[437]

وتجعلها في سياق واحد، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة مِنها.

ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإِنَّ القرآن الكريم استخدم تعابير أُخرى تحقّرها وتحطّ مِنها بقوة، إِذ نقرأ في سورة النساء، آية (94)، قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ متاع الغرور)(1). وفي سورة العنكبوت آية (64)، نقرأ (وما هذه الحياة الدنيا إِلاّ لهو ولعب) أمّا في الآية (37) مِن سورة النّور، فإِنا نلتقي مع قوله تعالى: (رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللّه).

هذه المعاني المزدوجة إِزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والرّوايات الإِسلامية، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)هي «مسجدُ أحباء اللّه، ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه»(2).

وفي جانب آخر، نرى أنَّ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا: هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع، عندما تلام الدنيا، فإِنَّ اللوم ينصب على أُولئك الناس الذين لا هدف لهم ولاهمّ سواها. مِن هنا نقرأ في الآية (29) مِن سورة النجم قوله تعالى: (ولم يرد إِلاّ الحيوة الدنيا). وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الذم الذي يَرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إِلى أهدافهم المادية، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) مِن سورة التوبة: (أرضيتم بالحياة الدنيا مِن الآخرة).

ثمّ إِنَّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول، إِذ أنَّ قوله تعالى: (مَن كان


1 ـ الحديد، 20.

2 ـ نهج البلاغة، باب الكلمات القصار، جملة رقم 131.

[438]

يريد العاجلة ...) هو خطاب لأُولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة، ويقفون عندها.

وعادةً فإِن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها، يعتبر دليلا حياً على هذا الموضوع.

وخلاصة القول: إِنَّهُ إِذا تمت الإِستفادة مِن مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر مِن النعم الإِلهية; ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمت الإِستفادة في سعادة الإِنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإِنَّ ذلك يعتبر أمراً جيداً، وتمتدح معه الدنيا. أمَّا إِذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإِنسانية، عندها سَيُصاب الإِنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإِمام علي(عليه السلام) للدنيا حينما يقول: «مَن أَبصر بها بصرته، ومَن أَبصر إِليها أعمته»(1). وفي أنَّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة، هو نفس الفرق الذي نستفيده، بين «إِليها» و«بها»، إِذ تعني الأُولى أنَّ الدنيا هدف، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانياً: دور السعي في تحقيق المكاسب:

هذه ليست المرّة الأُولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب، وبعكسه يُحذَّر الأشخاص العاطلين والكُسالى بأنَّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد، والتظاهر بالإِيمان، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضحٌ مفادها في الكثير مِن الآيات القرآنية. ففي سورة


1 ـ يراجع نهج البلاغة، الخطبة رقم (82).

[439]

المدثر. آية (38) نقرأ (كلّ نفس بما كسبت رهينة) وآيةٌ أُخرى تقول: (وأن ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى) . وفي آيات كثيرة أُخرى، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإِيمان حتى لا يتوهم أحدٌ ويظن بأنَّهُ يستطيع الوصول إِلى مرحلة ما بدون سعي وجهد، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد; فكيف إِذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثاً: الإِمدادات الإِلهية:

«نمدّ» مشتقّة مِن كلمة «إِمداد» وهي تعني إِيصال المعونة، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن: كلمة «إِمداد» غالباً ما تُستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثِّرة. أما كلمة «مدَّ» فإِنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أيةِ حال، نقرأ في الآيات التي نبحثها، أنَّ اللّه سبحانه وتعالى يضع جزءاً من نعمه في خدمة الجميع، إِذ يستفيد مِنها المحسنون والمسيئون، وهذه النعم غالباً ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر: هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإِلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *

[440]

الآيات

لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلـهاً ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولا(22)وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسـناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَّهُمَا قَولا كَرِيماً(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَما رَبَّيانِى صَغِيراً(24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صـلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَْوّبِينَ غَفُوراً(25)

التّفسير

أحكام إِسلامية مهمّة:

الآيات التي نحنُ بصدد بحثها هي بداية لسلسلة مِن الأحكام الإِسلامية الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إِلى التوحيد والإِيمان; التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإِيمانية، والأعمال الحسنة والبنّاءة. والآيات عندما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة، التي كانت تتحدث عن الناس السُعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي:

[441]

الإِيمان، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضاً ـ تأكيداً ثانياً لدعوة القرآن إِلى أفضل السبل وأكثرها إِستقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: (لا تجعل مع اللّه إِلهاً آخر) إنّها لم تقل: لا تعبد مع اللّه إِلهاً آخر، بل تقول: (لا تجعل) هذا اللفظ أشمل وأوسع، إِذ هو يعني: لا تجعل معبوداً آخر مع اللّه لا في العقيدة، ولا في العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك: (فتقعد مذموماً مخذولا).

إِنَّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز، فمثلا يقال: قَعَدَ به الضعف عن القتال. وَمِن هذا التعبير يُمكن أن نستفيد أنَّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإِنسان، هي:

1 ـ الشرك يؤدي إِلى الضعف والعجز والذّلة، في حين أنَّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

2 ـ الشرك موجب للذم واللوم، لأنَّهُ خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإِلهية، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الإِنحراف يستحق الذم.

3 ـ الشرك يكون سبباً في أن يترك اللّه سبحانه وتعالى الإِنسان إِلى الأشياء التي يعبدها، ويمنع عنهُ حمايته، وبما أنَّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إِنسان أو دفع الضرر عنه، ولأنَّ اللّه لا يحمي مثل هؤلاء، لذا فإِنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إِنَّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أُخرى، إِذ نقرأ مثلا في الآية (41) من سورة العنكبوت: (مثل الذين اتّخذوا مِن دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً، وإِنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إِلى واحدة مِن أهم توجيهات

[442]

الأنبياء(عليهم السلام) للإِنسان، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أُخرى على التوحيد ـ تقول: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر مِن كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإِسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إِسلامي، مع الإِحسان إِلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «إِحسان» والتي تشمل كل أنواع الإِحسان. وكذلك معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إِذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مُسلِمَينْ أو كافِرَيْن.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إِحساناً» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(1).

ومِن الضروري الإِنتباه إِلى هذه الملاحظة; وهي أنَّ الأمر عادةً ما ينصبّ على الأُمور الإِيجابية، بينما جاءَ هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ... ألا تعبدوا...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول: إِنَّ جملة (وقضى ...) تتضمن تقديراً جملة إِيجابية، يمكن أن نقدرها بالقول: وقضى ربّك أن تعبده، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة (ألا تعبد إِلاّ إِياه) التي تتضمن «النفي والإِثبات» جملة إِيجابية واحدة، إِذ هي تحصر العبادة باللّه دون غيره ثمّ تنتقل إِلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإِحسان إِلى الوالدين فتقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) بحيث يحتاجان الى الرعاية والإِهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي


1 ـ يعتقد البعض أنَّ كلمة «إِحسان» تتعدى غالباً بـ «إِلى» مثل قولنا «أحسن إِليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإِظهار المباشرة، أي إِظهار المحبّة والإِحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

[443]

شكل من إِشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إِهانة حتى بكلمة «اُف»: (فلا تقل لهما أف ولا تنهر هما)(1) بل: (وقل لهما قولا كريماً) وكن أمامهما في غاية التواضع (وأخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة، وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

الأهمية الإِستثنائية لاحترام الوالدين:

إِنَّ الآيتين السابقتين توضحان جانباً من التعامل الأخلاقي الدقيق، والإِحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين:

1 ـ من جانب أشارت الآية إِلى فترة الشيخوخة، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إِلى المحبّة والإِحترام أكثر مِن أي فترة سابقة، إِذ الآية تقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف). مِن الممكن أن يصل الوالدان إِلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم، وهنا يبدأ الإِختبار العظيم للأبناء، فهل يعتبرون وجود مِثل هذين الوالدين دليل الرحمة، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاءاً ومصيبةً وعذاباً .. هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات; أم أنّهم يوجهون الإِهانات ويسيئون الأدب لهم; ويتمنون موتهم؟!

2 ـ مِن جانب آخر .. تقول الآية: (فلا تقل لهما أف) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك مِنهم (ولا تنهرهما) ثمّ تؤكّد مرّة أُخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم، إِذ اللسان مفتاح إِلى القلب (وقل لهما قولا كريماً).

3 ـ مِن جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم، هذا التواضع الذي يكون علامة


1 ـ هناك قولان حول «إِما» في جملة «إِما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إِلى أنّها مركّبة من «إِن» الشرطية و«ما» الشرطية، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا، فيرى أنّها مركبة من «إِن» الشرطية و«ما» الزائدة، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التوكيد.

[444]

المحبة، ودليل الود لهم: (واخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة).

4 ـ أخيراً تنتهي الآيات، إِلى توجيه الإِنسان نحو الدعاء لوالدَيْه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتاً أم أحياء، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به مِن تربية (وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

إِضافة إِلى ما ذكرناه، فثمّة ملاحظة لطيفة أُخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإِنسان يقول: إِذ أصبح والداك مُسِنَيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصَّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان أُخرى، لذا فإِنَّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إِلى هذا المعنى بالقول: (ربّكم أعلم بما في نفوسكم). وهذه إِشارة إِلى أنَّ علم اللّه ثابت وَأزلي وأبدي وبعيد عن الإِشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإِذا طغى الإِنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإِحسان إِليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثمّ تابَ بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإِنَّهُ سيكون مشمولا لعفو اللّه تعالى: (إِن تكونوا صالحين فإِنَّهُ كانَ للأوابين غفوراً) .

«أوّاب» مُشتقة مِن «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإِرادة، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإِرادة أو بدونها، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنَّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر)، إِلى اللّه، مع الإِرادة.

وبما أنَّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مِبالغة، لذا فإِنّها تقال للأشخاص الذين كلما

[445]

أذنبوا رجعوا إِلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إِشارة إِلى تعدُّد عوامل العودة والرجوع إِلى اللّه. فالإِيمان بالله أوّلاً; والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانياً; والضمير الحي ثالثاً; والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعاً، كل هذه العوامل تعمل سويةً لأجل عودة الإِنسان مِن طريق الإِنحراف، نحو اللّه.

* * *

بحوث

أوّلاً: إِحترام الوالدين في المنطق الإِسلامي

بالرغم مِن أنَّ العاطفة الإِنسانية ومعرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين، إِلاّ أنَّ الإِسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدلُّ عليها العاطفة الإِنسانية المحضة، لذلك تراه يُعطي التعليمات اللازمة إِزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإِسلام إِلاّ في قضايا نادرة أُخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إِلى هذا المعنى:

ألف: في أربع سور قرآنية ذكر الإِحسان إِلى الوالدين بعد التوحيد مُباشرة، وهذا الإِقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإِسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ: (لا تعبدون إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى: (واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إِحسانا). أما الآية (151) مِن سورة الأنعام فإِنّها تقول: (ألا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدين إِحساناً). وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك أن لا تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

ب ـ إِنَّ مسألة إِحترام الوالدين ورعاية حقّهما مِن المنزلة بمكان، حتى أنَّ

[446]

القرآن والأحاديث والرّوايات الإِسلامية، تؤكدان معاً على الإِحسان للوالدين حتى ولو كانا مُشركين، إِذ نقرأ في الآية (15) مِن سورة لقمان: (وإِن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إِلى منزلة شكر اللّه تعالى، إِذ تقول الآية (14) مِن سورة لقمان: (أن أشكر لي ولوالديك).

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإِسلام وشريعته، بالرغم من أن نعم اللّه التي يشكرها الإِنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إِهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك، ففي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أن ينظر الرجل إِلى والديه فيحدّ النظر إِليهما»(1).

هـ ـ بالرغم مِن أنَّ الجهاد يُعتبر مِن أهم التعاليم الإِسلامية، إِلاّ أنَّ رعاية الوالدين تعتبر أهم مِنهُ، بل لا يجوز إِذا أدّى الأمر إِلى أذية الوالدين، بالطبع هذا إِذا لم يكن الجهاد واجباً عينياً، وإِذ توفرَّ العدد الكافي مِن المتطوعين له.

في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، أنَّ رجلا جاءَ إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لَهُ، إِنّي أُحبّ الجهاد، وصحتي جيدة، ولكن لي أمّ لا ترتاحُ لذلك، فماذا أفعل; فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِرجع فكن مَع والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خيرٌ مِن جهاد في سبيل اللّه سنة»(2).

ولكن عندما يجب الجهاد وجوباً عينياً، وتصبح بلاد الإِسلام في خطر يُلزم الجميع بالحضور ولا تُقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى; وكذلك المستحبات.


1 ـ يلاحظ: جامع السعادات، النراقي، ج 2، ص 258.

2 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 260.

[447]

و ـ عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إِيّاك وعقوق الوالدين فإِنَّ ريح الجنّة توجد مِن ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ»(1).

هذا التعبير ينطوي على إِشارة لطيفة، إِذ أن مِثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جداً منها ولا يستطيعون الإِقتراب مِنها.

وينقل «سيد قطب» حديثاً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جاء فيه: «عن بريده عن أبيه، أنَّ رجلا كانَ في الطواف حاملا أُمّه يطوف بها، فرأى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله: هل أديت حقّها؟ فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(2).

إِذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكنَ ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنَّ كل ما يُقال في هذا المجال فَهو قليل، لأنَّ للوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة، أشير إِلى أنَّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى غير شرعية، طبعاً في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة، ولكن مِن الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيراً نختم الكلام بحديث عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) قال فيه: إِنَّ رجلا جاءَ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن حق الأدب على ابنه، فأجابهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له»(3) (اي لا يفعل شيئاً يؤدي


1 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 257.

2 ـ في ظلال القرآن، ج 4، ص 2222، الطبعة العاشرة.

3 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 149.

[448]

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانياً: بحثٌ حول كلمة «قضى»:

«قضى» أصلها مِن كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما، إِمّا بالعمل وإِمّا بالكلام. وقال بعض: إِنَّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما، وفي الواقع فإِنَّ المعنيين مُتقاربان. وبما أنَّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة، لذا فإِنَّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مُختلفة، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي:

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِياه).

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (12) مِن سورة فصلت (فقضاهنّ سبع سماوات في يومين) .

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (72) مِن سورة طه (فاقضِ ما أنت قاض).

* «قضى» بمعنى الإِنتهاء مِن شيء، ومثلهُ الآية (41) مِن سورة يوسف (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (47): (إِذا قضى أمراً فإِنّما يقول لهُ كُن فيكون).

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (44) مِن القصص: (إِذ قضينا إِلى موسى الأمر)(1).

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إِلى هذه المعاني قوله:

*«قضى» بمعنى «الإِخبار والإِعلام» مِثل قوله تعالى: (وقضينا إِلى بني


1 ـ تفسير القرطبي، ج 6، ص 3853.

[449]

إِسرائيل في الكتاب)(1).

ونستطيع أن نضيف إِلى هذا المعنى، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (15) مِن سورة القصص (فوكزه موسى فقضى عليه).

المهم هُنا، أنَّ بعض المفسّرين وضع أكثر مِن (13) معنى لكلمة في القرآن الكريم(2).

ولكن لا يُمكن اعتبار كل هذه معاني مُتعدَّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إِلى مفهوم واحد. لذلك فإِنَّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي مِن باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة مِنها، ما هي في واقعها إِلاّ مصداقاً للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى; والخالق يضع نهاية لما خلق; والمُخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإِنكار أنَّ بعض هذه المصاديق، ومِن كثرة الإِستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مِثل الحكم أو إِعطاء الأوامر.

ثالثاً: بحثٌ حول معنى كلمة «أف»:

أصل «أف» كلّ مستقذر مِن وَسخ وقُلامةِ ظفر وما يجري مجراهما، ويقالُ ذلك لكلِّ مُستَخف به إِستقذاراً له. ويمكن أن نشتق مِنهُ فعلا، كمثل قولنا: قد أففت لكذا، إِذا قلت ذلك إِستقذاراً له. (مفردات الراغب صفحة 19).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع، و«الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا: «أف» و«تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضاً، وينقل الرازي عن الأصمعي أنَّ «الأف» وسخ الأذن، و«التف» وسخ الظفر، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يُتأذى منه، وتذكر اللفظة أيضاً عند كل مكروه يصل


1 ـ تفسيره أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 188.

2 ـ وجوه القرآن للتفليسي، ص 235.

[450]

إِليهم(1).

و هُناك معان أُخرى لكلمة «أف» مِنها أنّها تعني الشيء القليل، أو الأذى مِن الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال: إِنَّ أصل هذه الكلمة مأخوذ مِن «الصوت» الذي يخرج مِن الفم عندما ينفخ الإِنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه مِن الغبار الموجود عليها; وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد مِنها فيما بعد للتعبير عن التنفُّر وعدم الراحة مِن الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه، وبالإِضافة إِلى قرائن أُخرى يمكن القول بأنَّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإِنسان مِن فمه عندما يتذمَّر أو ينفخ لإِزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إِلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال مِنها، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومُنتهى الكلام هنا، أنَّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة. إِنَّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إِيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» مِن معنى.

* * *


1 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 2، ص 188.

[451]

الآيات

وَءَاتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْونَ الشَّيـطِينِ وَكَانَ الشَّيْطـنُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة مِّن رَبِّكَ ترْجُوها فَقُل لَّهُمْ قَولا مَّيْسُوراً(28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا بَصيِراً(30)

التّفسير

رعاية الإِعتدال في الإِنفاق والهبات:

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر مِن سلسلة الأحكام الإِسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإِنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع مِن أنواع الإِسراف والتبذير، حيث تقول الآية (وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً).

[452]

«تبذير» مِن «بذر» وهي تعني بذر البذور، إِلاّ أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر: إِنَّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كانَ قليلا، بينما إِذا صُرِفَ في محلِّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً. ففي تفسير العياشي، عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، نقرأ قوله: «مَن أنفق شيئاً في غير طاعة اللّه فهو مُبذر ومَن أنفق في سبيل اللّه فهو مُقتصد»(1).

وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى، فقال: «لا تفعل إِن هذا من التبذير، وإن اللّه لا يحب الفساد»(2).

وفي مكان آخر نقرأ، أنَّ رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بسعد وهو يتوضاً، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم وإن كُنت على نهر جار»(3).

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين، هل هُم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قُربى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنَّ ذوي القربى هم قربى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الرّوايات تشير إِلى أنَّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بنتهُ فاطمة الزهراء(عليها السلام). ولكن مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على إِختصاص هذا الحكم به، لأنَّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإِسراف ومداراة السائل والمسكين، والنهي عن البخل، هي أحكام عامّة بالرغم مِن أنّها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهُناك نقطة ينبغي الإِلتفات إِليها; وهي مجيء النهي عن التبذير والإِسراف،


1 ـ يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[453]

بعد إِعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإِنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصداقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّايستحق أو يتحمل، فيعتبر ذلك إِسرافاً وتبذيراً، وهما مذمومان دائماً.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير (إِنَّ المبذرين كانوا اخوان الشياطين، وكان الشيطان لربّه كفوراً).

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربِّه، فهذا واضح، لأنَّ اللّه أعطاه قدرةً وقوةً واستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد مِن هذه الأُمور في غير محلِّها، أي في طريق إِغواء الناس وإِبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إِخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم اللّه، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إِنَّ استخدام «إِخوان» تعني أنَّ أعمالهم مُتطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما مُتشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم، كما توضح ذلك الآية (39) مِن سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب: (ولن ينفعكم اليوم إِذ ظلمتم أنّكم في العذاب مُشتركون).

أمّا لماذا جاءت كلمة شيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إِلى أنّ لكل إِنسان غافل عن خالقه وربّه، شيطانٌ قرينٌ له، كما نرى هذا المعنى واضحاً في الآية (36) و (38) مِن الزخرف: (ومَن يعش عن ذكر الرحمن نقيض لُه شيطاناً فهو له قرين .. حتى إِذا جاءنا قالَ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).