![]() |
![]() |
![]() |
أجاب بعض المفسّرين بوجود نوعين من الذنوب عند المضلَّلين، نوع ناتج من أتباعهم لأئمّة الضلال، والنوع الآخر من أنفسهم، فما يحمله أئمّتهم وقادتهم هو من النوع الأوّل دون الثّاني.
واعتبر البعض الآخر من المفسّرين أنّ «مِنْ» في هذه الجملة ليست تبعيضية، بل جاءت لبيان أنّ ذنوب الأتباع على عاتق المتبوعين.
وثمّة تفسير آخر قد يكون أقرب إِلى القبول من غيره، يقول: إِنّ الأتباع الضالين لهم حالتان من التبعية...
فتارةً يكونون أتباعاً للمنحرفين على علم وبيّنة منهم، والتأريخ حافل بهكذا صور، فيكون سبب الذنب أوامر القادة من جهة، وتصميم الأتباع من جهة أُخرى
فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب «ولا يقلل من وزر الأتباع شيء».
وتارةً أُخرى تكون التبعية نتيجة الإِستغفال والوقوع تحت شراك وساوس المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر، وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من المجتمعات البشرية، (وقد يسلك طريق الضلال بعنوان التقرب إِلى اللّه).. وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على عاتق مضلِّيهم بالكامل، ولا وزر عليهم إِنْ لم يقصّروا بالتحقق من الأمر.
ولا شك أنّ المجموعة الأُولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبيّنة من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شيء مع ما يلحق أئمّتهم من ذنوبهم.
وهنا يلزم ملاحظة أنّ التعبير «بغير علم» في الآية ليس دليلا على الغفلة الدائمة للمضلَّلِين، ولا يُعبّر عن سقوط المسؤولية ـ في جميع الحالات ـ على غير المطلعين بحال وشأن أئمّة السوء والضلالة بل يشير إِلى سقوط عوام الناس لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضلِّلِين.
ولهذا نرى القرآن في آيات أُخرى لا يبريء هؤلاء الأتباع ويحملهم قسطاً من المسؤولية كما في الآيتين (47 و 48) من سورة غافر: (وإِذ يتحاجون في النّار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا نصيباً من النّار قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إِنّ اللّه قد حكم بين العباد).
ثمّ تُذكر الآية الأُخرى أن تهمة وصف الوحي الإِلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون).
مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إِلى قصة «النمرود» وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة «بخت نصر».. إِلاّ أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة
الضلال.
ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية، أنّ الآية أشارت إِلى أنّ اللّه عزَّوجلّ لا يدمرّ البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.
وقد يكون تخريب القواعد وإِسقاط السقف إِشارة إِلى أبنيتهم الظاهرية، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إِشارة إِلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللّه عزَّوجلّ، بل لا مانع من شمول الأمرين معاً.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن ذكر كلمة «السقف» بعد ذكر «من فوقهم»، فـ «السقف» عادة في الطرف الأعلى من البناء، فما الذي إستلزم ذكر «من فوقهم»؟ ويمكن حمله للتأكيد، وكذلك لبيان أنّ السقوط سيتحقق بوجودهم أسفله لهلاكهم، حيث أنّ السقوط قد يحدث بوجود أصحاب الدار أو عدم وجودهم.
وقدم لنا التأريخ قديمه وحديثه بوضوح صوراً شتى للعقاب الإِلهي، فإِحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إِضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإِعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم.. كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إِلاّ عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والإِقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإِلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإِذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.
وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر (ثمّ يوم القيامة يخزيهم).
فيسألهم اللّه تعالى: (ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) أي تجادلون وتعادون فيهم(1)، فلا يتمكنون من الإِجابة، ولكنْ: (قال الذين أُوتوا1 ـ تشاقون: من مادة الشقاق، بمعنى المخالفة والعداء، وأصلها من (شقَّ، أي قَطَّعَهُ نصفين).
العلم إِنّ الخزى اليوم والسوء على الكافرين).
ويظهر من خلال ذلك أنّ المتحدثين يوم القيامة هم العلماء، ولا ينبغي في ذلك المحضر المقدس الحديث بالباطل.
وإِذا رأينا في بعض الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) التأكيد على أنّ العلماء في ذلك المحضر هم الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) لأنّهم أفضل وأكمل مصداق لذلك(1).
ونعاود الذكر لنقول: إِنّ المقصود من السؤال والجواب في يوم القيامة ليس لكشف أمر خفي، بل هو نوع من العذاب الروحي، وذلك إِحقاقاً للمؤمنين الذين لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.
ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم).
لأنّ ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.
بالإِضافة إِلى أنّ الظلم متى ما شاع وانتشر في أي مجتمع، فالنتيجة الطبيعية له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.
أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون (فألقوا السَّلَمَ ما كنّا نعمل من سوء).
لماذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل يكذبون لأنّ الكذب أصبح صفة ذاتية لهم من كثرة تكراره، أم يريدون القول: إِننا نعلم سوء أعمالنا، ولكننا اخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه؟؟.
يمكن القول بإِرادة كلا الأمرين.
ولكن الجواب يأتيهم فوراً: إِنّكم تكذبون فقد ارتكبم ذنوباً كثيرة: (بلى إِنّ
1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج3، ص50.
اللّه عليم بما كنتم تعملون) حتى بنيّاتكم.
وليس المقام محلا للإِنكار أو التبرير.. (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين).
* * *
القيام بأي عمل يحتاج بلا شك إِلى مقدمات كثيرة، وتعتبر السنن السائدة في المجتمع سواء كانت حسنة أم سيئة من ممهدات الأرضية الفكرية والإِجتماعية التي تساعد القائد (سواء كان مرشداً أم مضلا) للقيام بدوره بكل فاعلية، وحتى أنّه قد يفوق دور الموجهين وواضعي السنن على جميع العاملين في بضع الأحيان.
ولهذا لا يمكن فصل دور واضعي السنن عن العاملين بتلك السنن، فهم شركاء في العمل الصالح إِذا ما سنوا سنة حسنة، وشركاء في جرم المنحرفين إِذا ما سنوا لهم سنة سيئة.
وقد اهتم القرآن الكريم، وكذا الأحاديث الشريفة كثيراً بمسألة السنّة الحسنة والسنّة السيئة وواضعيها.
كما طالعتنا الآيات أعلاه بأنّ المستكبرين المضلِّين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم (دون أن ينتقص من أوزارهم شيء).
وهذا الأمر من الأهمية بمكان حتى قال عنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «الدال على الخير كفاعله»(1).
وفي تفسير هذه الآية روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أيما داع دعا إِلى الهدى
1 ـ وسائل الشيعة، ج11، ص436.
فاتبع، فله مثل أُجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وأيما داع دعا إِلى ضلالة فاتبع عليه، فإِنّ عليه مثل أوزار مَنْ اتبعه، من غير أنْ ينقص من أوزارهم شيئاً»(1).
وكذلك روي عن الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ استنّ بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومَنْ استنّ سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر مَنْ عمل به، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء»(2).
وثمّة روايات أُخرى تحمل نفس هذا المضمون رويت عن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) وقد جمعها الشّيخ الحر العاملي(قدس سره)، في المجلد الحادي عشر من كتابه الموسوم بالوسائل (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب السّادس عشر).
وفي صحيح مسلم ورد حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرفوعاً عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنّا عند رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ومتقلدي السيوف... فتمعر وجه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثمّ خرج فأمر بلالا فأَذّن وأقام فصلى وخطب فقال: (يا أيّها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة... إِنّ اللّه عليكم رقيباً) والآية التي في الحشر (اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا اللّه)، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثمّ تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ثياب حتى رأيت وجه رسول اللّه يتهلل كأنّه مذهبة، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ سنّ في الإِسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شيء، ومَنْ سنّ في
1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية مورد البحث.
2 ـ وسائل الشيعة، ج11، ص437.
الإِسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1).
وهنا، يواجهنا سؤال..كيف تنسجم هذه الرّوايات مع ما يعاضدها من آيات مع الآية (164) من سورة الأنعام (ولا تزر وازرة وزر أُخرى)؟
وتتّضح الإِجابة من خلال ملاحظة أنّ هؤلاء ليسوا عن ذنوب الآخرين بل عن ذنوبهم فقط، ولكنّهم من خلال اشتراكهم في تحقق ذنوب الآخرين يشاركوهم فيها، اي ان تلك الذنوب تعتبر من ذنوبهم بهذا اللحاظ.
قليل أُولئك الذين ينكرون الحقيقة بعد رؤيتها في مرحلة الشهود، ولهذا نجد المذنبين والظالمين يظهرون الإِيمان فوراً بعد أنْ تزال عن أعينهم حجب الغفلة والغرور وحصول العين البرزخية في حال ما بعد الموت، كما بيّنت لنا الآيات السابقة (فألقوا السَلَمَ).
وغاية ما في الأمر أنّ الكلَّ مستسلم، ولكنّ الحديث يختلف من بعض إِلى بعض، فقسم منهم يتبرأ من أعماله القبيحة بقولهم: (ما كنّا نعمل من سوء) أي إِنّهم من كثرة ممارستهم للكذب فقد اختلط بلحمهم ودمهم والتبس عليهم الأمر تماماً، فمع علمهم بعدم فائدة الكذب في ذلك المشهد العظيم ولكنّهم يكذبون!
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ هناك مَنْ يكذب حتى في يوم القيامة، كما في الآية الثّالثة والعشرين من سورة الأنعام: (قالوا واللّه ربّنا ما كنّا مشركين)!
وقسم آخر يظهر الندامة ويطلب العودة إِلى لحياة الدنيا لإِصلاح أمره، كما
1 ـ صحيح مسلم، ج2، ص704 (باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة).
جاء في الآية (12) من سورة السجدة.
وقسم يكتفي بإِظهار الإِيمان كفرعون، كما جاء في الآية (90) من سورة يونس.
وعلى أيّة حال.. سوف لا تقبل كل تلك الأقوال لأنها قد جاءت في غير وقتها بعد أن انتهت مدّتها، ولا أثر لهكذا إِيمان صادر عن اضطرار.
* * *
وَقِيلَ لَلَّذِينَ اتَّقَوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِّلَّذِينَ أحْسَنُوا فِى هـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأَْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) جَنَّـتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَْنْهَـرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31) الَّذِينَ تَتَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَـمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32)
قرأنا في الآيات السابقه أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته.. فيقول القرآن: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً).
وروي في تفسير القرطبي: كان يرد الرجل من العرب مكّة في أيّام الموسم فيسأل المشركين عن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون..
ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل اللّه عليه الخير والهدى.
ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإِنسان الفرد والمجتمع، وخير في: التربية والتعليم، السياسة والإِقتصاد، الأمن والحرية... والخلاصة: خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).
وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل: النّور، الشفاء، الهداية، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل)، الحق، التذكرة، وما شابه ذلك.. ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوماً عاماً جامعاً لكل تلك المفاهيم الخاصة.
والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين، فالمؤمنون قالوا: «خيراً» أي أنزل اللّه خيراً، وبذلك يظهر اعتقادهم بأنّ القرآن وحي إِلهي(1).
بينما نجد المشركين عندما قيل لهم ماذا أنزل ربّكم؟ قالوا: (أساطير الأولين) وهذا إِنكار واضح لكون القرآن وحي إِلهي(2).
وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة).
وقد أطلق الجزاء بالـ «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإِضافة إِلى: (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين).
وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإِطلاق مرّة أُخرى وكلمة «خيراً»، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّاً وكيفاً.
1 ـ خيراً: مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل اللّه).
2 ـ أساطير الأولين: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هذه أساطير الأولين).
فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية (للدين أحسنوا) إِلى آخرها تعبر عن كلام اللّه عزَّ وجلّ، ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.
واحتمل بعض المفسّرين أنّ الظاهر من الكلام يتضمّن احتمالين:
الأوّل: أنّه كلام اللّه.
الثّاني: أنّه استمرار لقول المتقين.
ثمّ تصف الآية التالية ـ بشكل عام ـ محل المتقين في الآخرة بالقول: (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون).
فهل ثمّة أوسع وصفاً من هذا أم أشمل مفهوماً لبيان نعم الجنّة.
حتى أنّ التعبير يبدو أوسع ممّا ورد في الآية (71) من سورة الزخرف (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)، فالحديث في الآية عن (ما تشتهيه الأنفس)، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإِشاءة (ما يشاؤون).
واستفاد بعض المفسّرين من تقديم (لهم فيها) على (ما يشاؤون) الحصر، أي يمكن للإِنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنّة فقط دون الدنيا.
وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة، ثمّ يقال لهم «ادخلوا ابواب جهنم..».
وأمّا عن المتقين: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) طاهرين من كل تلوثات الشرك والظلم والإِستكبار، ومخلصين من كل ذنب ـ (يقولون سلام عليكم)السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.
ثمّ يقال لهم: (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).
والتعبير عن موتهم بـ (تتوفاهم) يحمل بين طياته اللطف، ويشير إِلى أن الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شيء، بل هو مرحلة انتقالية إِلى عالم
آخر.
وفي تفسير الميزان: أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل:
1 ـ طهارة المؤمنين من خبث الظلم.
2 ـ يقولون لهم (سلام عليكم) وهو تأمين قولي لهم.
3 ـ (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون) وهو هداية لهم إِليها.
وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
* * *
هَلْ يَنظُرونَ إِلآَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـئِكَةُ أَو يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لـكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ(34) وقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء نَّحْنُ وَلآَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء كَذْلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّة رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّـغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـلَةُ فَسِيرُوا فِى الأَْرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَيَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّـصِرِينَ(37)
يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين
والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ (هل ينظرون إِلاّ أن تأتيهم الملائكة) أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إِغلاق صحائف الأعمال!
أو هل ينتظرون أن يأتي أمر اللّه بعذابهم: (أو يأتي أمر ربّك) حيث تغلق أبواب التوبة أيضاً ولا سبيل عندها للإِصلاح.
فأي فكر يسيرهم، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!
كلمة «الملائكة» وإِن كانت ترمز إِلى عنوان عام، إِلاّ أنّها في هذا الموقع يقصد منها ملائكة قبض الأرواح انسجاماً مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.
أمّا عبارة (يأتي أمر ربّك) فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها، إِلاّ أنّ المعنى الراجح هو نزول العذاب، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات مختلفة من القرآن.
ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأنّ المواعظ الإِلهية وتذكير الأنبياء إِنْ كانت لا توقظكم من غفلتكم فإِنّ الموت والعذاب الإِلهي سيوقظكم، ولكنْ حينئذ لا ينفعكم ذلك الإِيقاظ.
ثمّ يضيف: إِنّ هؤلاء ليس أوّل مَنْ كانوا على هذه الحال والصفة وإِنّما (كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم اللّه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.
والآية تؤكد مرّة أُخرى على حقيقة عود الظلم والإِستبداد والشر على الظالم المستبد الشرير في آخر المطاف، لأنّ الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح ونفسية فاعله، فيسوِّد قبله ويلوِّث روحه فيفقده الأمان والإِطمئنان.
ثمّ يذكر عاقبة أمرهم بقوله: (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن).
«حاق بهم»: بمعنى أصابهم، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين كالقرطبي وفريد وجدي
في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).
ويمكن الجمع بين المعنيين، فيكون المعنى: نزول العذاب عليهم، وكذلك محيطاً بهم.
وعلى أية حال، فتعبير الآية بـ (فأصابهم سيئات ما عملوا) يؤكد مرّة أُخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له بصور شتى، وتعذبه وتؤلمه وليس غير ذلك(1).
وتشير الآية التالية إِلى أحد أقوال المشركين الخاوية، فتقول: (وقال الذين أشركوا لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء).
إِنّ قولهم (ولا حرّمنا) إِشارة إِلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية، والتي أنكرها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة.
والخلاصة: أنّهم أرادوا الادعاء بأنّ كلَّ ما عملوه من عبادة للأصنام إِلى تحليل وتحريم الأشياء، إِنما كان وفقاً لرضا اللّه تعالى وبإِذنه!
ولعل قولهم يكشف عن وجود عقيدة (الجبر) ضمن ما كانوا به يعتقدون، معتبرين كل ما يصدر منهم إِنْ هو إِلاّ من القضاء المحتوم عليهم (كما فهم ذلك جمع كثير من المفسّرين).
وثمّة احتمال آخر: إِنّهم لم يقولوا ذلك اعتقاداً منهم بالجبر، وإِنّما أرادوا الإِحتجاج على اللّه سبحانه، وكأنّهم يقولون: إِنْ كانت أعمالنا لا ترضي اللّه تعالى فلماذا لم يرسل إِلينا الأنبياء لينهونا عمّا نقوم به، فسكوته وعدم منعه ما كنّا نعمل دليل على رضاه.
وهذا الإِحتمال ينسجم مع ذيل الآية والآيات التالية.
1 ـ وعلى هذا، فلا داعي لتقدير كلمة «جزاء» قبل «سيئات» في الآية.
ولهذا يقول تعالى مباشرة: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إِلاّ البلاغ المبين)... يعني.
أوّلاً: أنْ تقولوا أنَّ اللّه سكت عن أعمالنا! فإِنّ اللّه قد بعث إِليكم الأنبياء، ودعوكم إِلى التوحيد ونفي الشرك.
ثانياً: إنّ وظيفة اللّه تعالى والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليسَ هي هدايتكم بالجبر، بل بإِراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم، وهذا ما حصل فعلا.
أمّا عبارة (كذلك فعل الذين من قبلهم) فمواساة لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بأن لا يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين، وأنّ اللّه معه وناصره.
وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين)، تشير الآية التالية باختصار جامع إِلى دعوة الأنبياء السابقين، بقولها: (ولقد بعثنا في كل أُمّة رسولا).
«الأُمّة»: من الأم بمعنى الوالدة، أو بمعنى: كل ما يتضمّن شيئاً آخر في دخله، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أُمّة».
ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (64) مورداً.
ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، بالقول: (أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت)(1).
فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأُولى لتحركهم هي الدعوة إِلى التوحيد ومحاربة الطاغوت، وذلك لأنّ أُسس التوحيد إِذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيُّ برنامج إصلاحي.
«الطاغوت»: (كما قلنا سابقاً) صيغة مبالغة للطغيان.. أيْ التجاوز والتعدي
1 ـ تقدير هذه الجملة: ليقولوا لهم اعبدوا..
وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إِلى غير طريق الحق.
وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضاً وإِنْ جُمعت أحياناً بـ (الطواغيت).
ونعود لنرى ما وصلت إِليه دعوة الأنبياء(عليهم السلام) إِلى التوحيد من نتائج، فالقرآن الكريم يقول: (فمنهم مَنْ هدى اللّه ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة).
وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استناداً إِلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم!
ولكن قلنا مراراً إِنّ آيات الهداية والضلال إِذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيُّ إِبهام فيها، ويرتفع الإِلتباس من أنّها تشير إِلى الجبر ويتّضح تماماً أن الإِنسان مختار في تحكيم إِرادته وحريته في سلوكه أيّ طريق شاء.
فالهداية والإِضلال الالهيين إِنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارست الإِنسان نفسه، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم.
فاللّه عزَّوجلّ (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومَنْ شابههم، أما الذين يجاهدون في سبيل اللّه ويستجيبون للأنبياء(عليهم السلام) فمشمولون بألطافه عزَّ وجلّ ويهديهم إِلى صراطه المستقيم ويوفقهم إِلى السير في طريق التكامل، بينما يوكل القسم الأوّل إِلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.
وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من اللّه عزَّوجلّ، فيمكن نسبة نتائجها إِليه سبحانه، فتكون الهدايه والإِضلال الهيين.
فالسنّة الإِلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إِلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشياً مع الفطرة الإِنسانية، ومن ثمّ فمن
يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فرداً كان أم جماعة يكون جديراً باللطف الإِلهي وتدركه الهداية التكوينية.
نعم، فها هي السنّة الإِلهية، لا كما ذهب إِليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ اللّه يدعوا الناس بواسطة الأنبياء، ومن ثمّ يخلق الإِيمان والكفر جبراً في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الإستفهام عن سبب ذلك من اللّه عزَّوجلّ.
فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه.. إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟!
والتعبير الوارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال، ففي مسألة الهداية، يقول: (فمنهم من هدى اللّه)، أمّا بالنسبة للقسم الثّاني، فلا يقول: إنّ اللّه أضلهم، بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم: (ومنهم من حقّت عليه الضلالة).
وهذا الإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة لما في بعض الآيات الأخرى، والمنسجم مع ما ورد من روايات.. وخلاصته:
إنّ القسم الأعظم من هداية الإِنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها اللّه تعالى لذلك، فقد أعطى تعالى: العقل، وفطرة التوحيد، وبعث الأنبياء، وإِظهار الآيات التشريعية والتكوينية، ويكفي الإِنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود.
أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إِلى الضالين أنفسهم، لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم اللّه عليه، وجعلوا حول الفطرة حجاباً داكناً وأغفلوا قوانينها، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، فكان أنْ آل المآل بهم إِلى وادي التيه والضلال.. أوَليس كل ذلك منهم؟
والآية (79) من سورة النساء تشير إِلى المعنى المذكور بقولها: (ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك).
وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، في إِجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والإِختيار، أنّه قال: «أكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين، قال اللّه عزَّ وجلّ: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً، ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منّي»(1).
وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إِيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين، بالقول: (فسيروا في الأرض فانظرواكيف كان عاقبة المكذبين).
فالآية دليل ناطق على حرية إِرادة الإِنسان، فإِنْ كانت الهداية والضلال أمرين إِجباريين، لم يكن هناك معنىً للسير في الأرض والنظر إِلى عاقبة المكذبين، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإِنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.
وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأُمور، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية (137) من سورة آل عمران.
الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان ما وصلت إِليه حال الضّالين: (إِنّ تحرص على هداهم فإِنّ اللّه لا يهدي مَنْ يضل وما لهم من ناصرين).
«تحرص» من مادة (حرص)، وهو طلب الشيء بجديّة وسعي شديد.
1 ـ أصول الكافي، ج1، ص160 (باب الجبر والقدر ـ الحديث 12).
بديهي، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ)، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإِرشادهم من أثر بالغ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق، بل ودعاته.
فعليه.. تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى في بحر الإِستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأُغلقت أمامهم أبواب الهداية، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهديهم حتى وإِن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم الى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية.
ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أُناس من ناصرين وأعوان، لأنّ الناصر لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إِلاّ في أرضية مناسبة ومساعدة.
وهذا التعبير أيضاً دليل على نفي الجبر، لأنّ الناصر إِنّما ينفع سعيه فيما لو كان هناك تحرك من داخل الإِنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده ـ فتأمل.
ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإِشارة إِلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين، لهم أكثر من ناصر، فاللّه تعالى ناصرهم و... الأنبياء، وعباد اللّه الصالحين، وملائكة الرحمة كذلك.
ويشير القرآن الكريم إِلى هذه النصرة في الآية (51) من سورة المؤمن: (إِنّا لننصررسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
وكذلك في الآية (30) من سورة فصلت: (إِنّ الذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).
* * *
![]() |
![]() |
![]() |