التّفسير

أربعة أُصول إِسلامية مهمّة:

لقد تحدَّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعادِ والحساب، لذلك فإِنَّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدَّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إِنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيثُ يقول تعالى: (وكلَّ إِنسان ألزمناهُ طائرهُ في عنقه).

«الطائر» يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إِلى معنى آخر كانَ سائداً ومعروفاً بين العرب; إِذ كانوا يتفألون بواسطة الطير; وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إِذا تحرَّك الطير مِن الجهة اليمنى، فَهُم

[419]

يعتبرون ذلك فألا حسناً وَجميلا. أمّا إِذا تحرَّك الطير مِن اليُسرى فإِنَّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطّير، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالباً ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنَّ كلمة التفؤل (عكس التطيُّر) كانت تُشير إِلى الفأل الجميل الحسن.

وفي الآيات القرآنية وَرد مراراً أنَّ «التطيُّر» هو بمعنى الفأل السيء حيثُ يقول تعالى في الآية (131) مِن سورة الأعراف: (وإِن تُصبهم سيئةً يَطَيّروا بموسى وَمَن معهُ) وفي الآية (47) مِن سورة النمل نقرأُ أيضاً: (قالوا طيِّرنا بك وبمن معك) والآية تحكي خطاب المشركين مِن قوم صالح(عليه السلام) لنبيّهم.

بالطبع عِندما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية نراها تنهى عن «التطيُّر» وتجعل «التوكل على اللّه» طريقاً وأُسلوباً لمواجهة هذه العادة.

وفي كلِّ الأحوال فإِنَّ كلمة «طائر» في الآية التي نبحثها، تشير إِلى هذا المعنى بالذات، أو أنّها على الأقل تُشير إِلى مسألة «الحظ وحسن الطالع» التي تقترب في أُفق واحد مع قضية التفؤل الحَسَنِ والسيء، إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يبيّن أنَّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل، إِنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إِليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها.

إِنَّ تعبير الآية الكريمة، بكلمتي «ألزمناه» و«في عنقه» تدُلان بشكل قاطع على أنَّ أعمال الإِنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهُو بالتالي، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسؤولا عنها، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.

بعض المفسّرين ذكروا في إِطلاق معنى كلمة «طائر» على الأعمال الإِنسانية أنّها تعني أنَّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإِنسان كالطير الذي يطير مِن بين جنباته، لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.

وفي كل الأحوال، اختلفَ المفسّرون في معنى كلمة (طائر) في هذه الآية،

[420]

وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات مِنها أنَّ «الطائر» بمعنى «حصيلة ما يجنيه الإِنسان من أعماله الحسنة والسيئة»، أو أنَّ الطائر بمعنى «الدليل والعلامة»، وبعضهم قال: إِن معناه «صحيفة أعمال الإِنسان» بينما ذهب البعض الآخر إِلى أنَّ معنى «الطائر» هو «اليُمن والشؤم».

ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعاً، أنَّ بعضها يرجع إِلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية; كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.

يقول القرآن بعد ذلك: (وَنخرج لُه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً). ومِن الوضح أنَّ المقصود مِن «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير. وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تُثَّبت فيها الأعمال، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفيةٌ عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

إنَّ التعبير القرآني في كلمتي «نخرج» و«منشوراً» يشير إِلى هذا المعنى، إِذ نخرج وننشر ما كان مخفياً ومكتوماً.

وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.

في هذه اللحظة يُقال للإِنسان: (اقرأ كتابك، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)يعني أنَّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة مِن الوضوح والعلنية والإِنكشاف، بحيثُ أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور ـ مهما كانَ مجرماً ـ لماذا؟ لأنَّ صحيفة الأعمال هذه ـ كما سيأتي ـ هي مجموعة مِن آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإِذا سمعت ـ أنا ـ صوتي مِن شريط مُسجَّل، أو رأيتُ صورتي وهي تضبط قيامي ببعض الأعمال الحسنة أو السيئة; فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في يومِ القيامة; بل هي أكثر حيوتة ودقة مِن الصورة والصوت!

الآية التي بعدها تُّوضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب

[421]

والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:

1 ـ أوّلاً تُقرِّر أنَّ (من اهتدى فإِنما يهتدي لنفسه) حيث تعود النتيجة عليه.

2 ـ ثمّ تُقَّرِّر أيضاً أنَّ (وَمَن ضلَّ فإِنما يضل عليها).

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة مِن هذه السورة في قوله تعالى: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكُم وإِن أسأتُم فَلها).

3 ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول: (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى).

«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية، لأنَّ المسؤولية ـ أيضاً ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإِنسان، فإِذا قيل للوزير وزيراً، فإِنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه مِن قبل الناس أو الأمير و الحاكم.

طبعاً هذا القانون الكُلّي الذي تُقرِّره آية (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) مِن سورة النحل التي تقول: (ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلّونَهُمْ بغير علم ألا ساء ما يزرون) لأنَّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملونَ أوزارهم وذنوبهم، وبتعبير آخر: فإِنَّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المُباشر».

كذلك مرَّت علينا روايات مُتعدِّدة حول مسألة السُنَّة السيئة والسنَّة الحسنة، والتي كانَ مؤدّاها يعني أنَّ مَن سنَّ سنةً سيئة أو حسنة فإِنَّهُ سيكون لهُ أجرٌ مِن نصيب العاملين بها، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى) لأنَّ المؤسس للسُنّة، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّه للعمل، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.

4 ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى: (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا)يقوم ببيان التكليف وإِلقاء الحجة.

هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من

[422]

أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود بهِ هو عذاب «الإِستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المُدمِّر كطوفان نوح مثلا؟

إنَّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإِطلاق، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاشٌ آخر ـ أيضاً ـ بين المفسّرين حول قاعدة (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا) وهل أنَّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط; أو أنَّهُ يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟

في الواقع، إِذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يُفيد الإِطلاق، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين. ومفهوم هذا الكلام أنَّهُ حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقُبحها مثل حُسن العدل و قُبح الظلم، فإِنَّه ما لم يأت الأنبياء، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل، فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يُجازي أحداً بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الإِحتمال، لأنَّهُ يصطدم مع قاعدة أنَّ المستقلات العقلية لا تحتاج إِلى بيان الشرع، وحكم العقل في إِتمام الحجة في هذه الموارد يُعتبر كافياً ومجزياً، لذلك فلا طريق أمامنا إِلاّ أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإِذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الإِستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ اللّه سبحانهُ وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يُهلك الظالمين والمنحرفين إِلاّ بعدَ أن يبعث الأنبياء، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية; حتى تُطابق حجّة الشرع حجة العقل المستقل، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمَّل ذلك).

* * *

[423]

بحوث

1 ـ التفؤل والتطيُّر

التفؤل والتطيُّر كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أنَّ مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق، والغفلة عن علل الحوادث. وعلى أية حال، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لِهذين الأمرين، ولكن لهما آثاراً نفسية; إِذ (التفاؤل) يبعثُ على الأمل بينما «التطيُّر» يُؤدي إِلى اليأس والعجز.

ولأنَّ الإِسلام يُؤكّد دائماً على الأُمور الإِيجابية، ويدفعها مُشجعاً إِيّاها، لذا فإِنَّهُ لم ينه عن (التفاؤل) ولكنَّهُ أدان وبشدَّة «التطيُّر» حتى أنَّهُ في بعض الرّوايات اعتبر ذلك من الشرك، إِذ جاء الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «الطيرة شرك» وقد بحثنا هذا الموضوع بشكل مفصَّل في نهاية الآية (131) مِن سورة الأعراف(1).

الظريف في الأمر أنَّ الإِسلام يقوم دائماً بتوجيه مثل هذه الأُمور الوهمية ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبنّاء، حتى يمكن الإِستفادة مِنها.

فمثلا ممّا هو شائع بين الناس أنَّ الزوجة الفلانية قَدمُها خير، بينما الأُخرى قدمها في بيت زوجها شرٌ ونحس، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومُنذ أن دخلت بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيراً أم شراً) بينما واقع الحال إِنَّ هذه الأُمور خُرافية وهمية، لكن الإِسلام أعطى بعضها ـ من خلال توجيهه ـ شكلا بناءاً ومضموناً تربوياً، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ: «مِن شؤم المرأة غلاء مهرها وشدّة مؤنتها»(2). وفي حديث آخر عن رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: «أمّا الدار فشؤمها ضيقها وخُبث جيرانها»(3).


1 ـ يُراجع التّفسير «الأمثل» عند تفسير قوله تعالى: (فإِذا جاءتُهُم الحسنة قالوا لنا هذه، وإِن تصيبهم سيئةٌ يَطيَّروا بموسى ومن معهُ، ألا إِنّما طائرُهُم عند اللّه، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون)، (الأعراف 131).

2 ـ راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 104.

3 ـ راجع سفينة البحار، ج1 ، ص 680.

[424]

لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإِسلام نفس الألفاظ التي كان الناس يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية; يوظفها في مفاهيم واقعية وبأُسلوب تربوي بنّاء; ولاحظوا أيضاً، كيف أنَّ الأفكار التي كانت تنتهي إِلى طريق مغلق، جاءَ الإِسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإِصلاح.

أخيراً وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظة الثّانية نختم حديثنا بكلام لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يُطابق ما قلناه آنفاً؟ إِذا روي عنهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «اللهمُّ لا خير إِلاّ خيرك، ولا طير إِلاّ طيرك ولا ربَّ غيرك».

2 ـ صحيفة أعمال الإِنسان العجيبة:

لقد تحدَّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإِنسان. وكلَّ هذه الآيات والرّوايات تؤكِّد على أنَّ جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون مُدوَّنة في صحيفة الأعمال، وفي يوم البعث والقيامة، يستلم الإِنسان صحيفة عمله بيمينه إِذا كان مُحسناً ويتناولها بشماله إِذا كان مسيئاً. ففي الآية (19) مِن سورة الحاقة نقرأ! (فأما مَن أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه) وفي الآية (25) مِن نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإِنسان الخاسر: (وأمّا مَن أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه). وفي الآية (49) مِن سورة الكهف نقرأ قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مُشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاّ أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحداً).

وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، يتعلق بالآية ـ مورد البحث ـ (اقرأ كتابك ...) قال: «يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتى كأنّهُ فعلهُ تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاّ

[425]

أحصاها»(1).

وهنا يُطرح هذا السؤال; عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

ممّا لا شك فيه أنّها ليست مِن جنس الكتب والورق والصحف العادية، لذا فإِنَّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوى «روح الإِنسان» والتي تكون جميع الأعمال مُثبتة فيها(2) لأنّ أي عمل نعملهُ سيكون لهُ أثرٌ في روحنا شئنا أم أبينا.

وقد تكون صحيفة الأعمال، هي أعضاء جسمنا وجلودنا، والأعظم مِن ذلك هو أنَّ الصحيفة قد تكون مُتضَمّنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه، لأنَّ هذه المفردات هي وعاء أعمالنا، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء والوجود الذي حولنا، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلى الأقل.

وإِذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه، إِلاّ أنَّ ذلك ـ بدون شك ـ لا يعني عدم وجودها; فعندما نرزق بصراً جديداً آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإِمكاننا أن نرى جميع هذه الأُمور، ونقرؤها.

على أنَّ استخدام الآية الكريمة لِتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يُغيِّر من تفكيرنا شيئاً إِزاء ما ذهبنا إِليه آنفاً، لأنَّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوماً واسعاً، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يومياً نقول: قرأتُ في عيني فلان ما الذي يُريد أن يفعلهُ، أو أنّنا عرفنا مِن نظرتنا إِلى فلان، بقية القصّة، وعرفنا بقية العمل الذي يريد أن يفعله. كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى، هذا بالرغم مِن أنَّ الأشعة، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة، وهذا المِثال والأمثلة التي سبقته


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 144.

2 ـ يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.

[426]

تؤكد ما ذهبنا إِليه أنَّ المشاهدة تدخل في إِطار المعنى الواسع للقراءة.

وقد تقدم في الآيات السابقة أنَّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه، لا يمكن إِنكارها بأي وجه، لأنَّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيراً الصوت المسجَّل للإِنسان، أو الصورة المأخوذة له، أو بصمات أصابعة، وأيّاً مِن هذه الآثار لا يجد الإِنسان إِلى نكرانها سبيلا!

3 ـ البريء لا يؤخذ بجريرة المذنب:

في منطق العقل وتوجيهات الأنبياء(عليهم السلام) لا يمكن مُعاقبة البريء بسبب جريمة المذنب، وهذا تماماً عكس ما هو شائع بين عامّة الناس مِن خلال المثل الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معاً)، وكمثل على ذلك، نرى أنَّ في كل المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوة النّبي لوط(عليه السلام)، لم تكن هناك سوى عائلة مؤمنة واحدة، ولكن عندما نزل العذاب على قوم لوط(عليه السلام) أنجى اللّه تلك العائلة، وكتب لها سبيل الخلاص مِن العذاب العام، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.

وتتحدث الآية، مِن مجموع الآيات التي نحن بصددها، بصراحة عن هذه القاعدة، فتقول: (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى). وإِذا صادَف أن وجدنا مِن بين الأحاديث غير المعتبرة، أموراً تعارض هذا القانون الإِسلامي العام. فيجب ترك تلك الأحاديث أو توجيهها.

وفي هذا الإِتجاه، أمامنا رواية تقول: إِنَّ الشخص الميت يتعذَّب ببكاء الحىّ، (وهنا يُحتمل، ومِن باب توجيه الحديث، أن يكون الغرض مِن العذاب، هو ليس العذاب الإِلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عندما تطَّلع روحه على جزع الأهل والأقرباء).

ويتّضح هنا ـ أيضاً ـ مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون: إِنَّ أبناء الكفّار

[427]

يُحشرون مع آبائهم في نار جهنَّم لبطلانه إِسلامياً ولمنافاته لقاعدة (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى)، وإِنَّ الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء، وهي بالتالي لا تُعاقب بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات، فقد قلنا بأنَّ الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) ليست لهم مِن جريرة غيرهم عليهم شيء، وأنّهم بمنأى عن الذنب وأنّ أبواب السعادة أمامهم مفتوحة، إِذا أرادوا هم ذلك، بالرغم مِن اعترافنا بصعوبة تربيتهم!

4 ـ قاعدة «أصل البراءة» وآية! ما كُنّا معذبين:

في علم الأصول، وفي بحث «البراءة» إِستدلوا بقوله تعالى: (وما كُنّا معذبين حتى ...) على أن فهم الآية يُوَضِّح أنَّ المسائل التي لا يمكن للعقل إِدراكها أو القطع بها، لا يُعاقب عليها الإِنسان حتى يبعث اللّه الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في الأُمور التي لم تُقم الحجة عليها; وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئاً غير هذا; أي لا عقاب بدون حجة مِن العقل أو النقل.

أمّا قول البعض: إِنَّ مفاد «العذاب» في الآية أعلاه، هو «عذاب الإِستئصال» مِثل طوفان نوح، فلا دليل على ذلك، بل ـ كما قلنا ـ إِنَّ اطلاق الآية ينفي ذلك، وهي تشمل بالتالي كلَّ عذاب وعقاب.

* * *

[428]

الآيتان

وَإِذَا أَرَدْنآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنـها تَدْمِيراً(16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً(17)

التّفسير

مراحل العقاب الإِلهي:

إِنَّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمِّل ما كُنّا بصددِ بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أُخرى، إِذ تقول الآية الكريمة: (وإِذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)(1). إِنَّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدَّث عن أنَّ العقاب الإِلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أُمّة، مِن دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف مِن قبل الرسل والأنبياء(عليهم السلام)، والآية التي نحنُ بصددها الآن، تتحدث عن نفس هذا الأصل، ولكن بطريقة أُخرى.

صحيح أنَّ المفسّرين وضعوا إِحتمالات متعددة لتفسير هذه الآية، إِلاّ أنّنا


1 ـ بالرغم مِن أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع، ولكنّها هُنا تعني إِعطاء الأمر بالعذاب.

[429]

نعتقد بأنَّه لا يوجد سوى تفسيرٌ واحد واضحٌ لهذه الآية، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها، وهذا التّفسير هو: إِنَّ اللّه لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب، قبل أن يتمَّ الحجّة عليه، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه، ففي البدايه يضع اللّه تعليماته وأوامره أمام الناس، فإِذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إِذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب، ويؤدي إِلى هلاكهم.

وإِذا تأملنا الآية، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح، فسنرى أنَّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني، هي:

1 ـ مرحلة الأوامر والنواهي.

2 ـ مرحلة الفسق والمخالفة.

3 ـ مرحلة استحقاق المجازاة.

4 ـ مرحلة الهلاك.

والملاحظ هنا، أنَّ المراحل الأربع هذه، معطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع.

هنا يُطرح هذا السؤال: لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(1).

في الإِجابة على السؤال المثار، لابدَّ مِن الإِشارة إِلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى، وهي أنَّ المترفين هم وجهاء القوم، ورؤساء المجتمع ـ طبعاً هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة ـ والآخرون تبع لهم.

إِضافة إِلى ذلك، فإِنَّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إِشارة مهمّة، هي أنَّ أغلب المفاسد الإِجتماعية تنبع مِن المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن


1 ـ مُترفون، مِن مادة رفاه، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.

[430]

اللّه تعالى، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد، وهم بذلك لا يفقهون شيئاً عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإِنسانية والإِصلاح. ولهذا السبب بالذات، وبحكم موقعهم، كان المترفون دائماً في الصفوف الأُولى، في مُواجهة دعوات الأنبياء والرسل، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء ـ القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين ـ ضدّهم.

لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد. على أية حال، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا، ولا يسلموا زمام أُمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات، وألاّ يتبعونهم، لأنَّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.

الآية التي بعدها تشير إِلى نماذج بهذا الخصوص، على أنّها أصلٌ عام، وقاعدة سارية، إِذ تقول: (وكم أهلكنا من القرون مِن بعد نوح) وفقاً لهذه القاعدة والسنّة، ثمّ تضيف بعد ذلك: (وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) أي إِنَّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربِّ العالمين.

«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.

أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد، فهناك آراء مختلفة، فقسم أعتبر القرن (40) سنة، وآخرون قالوا: ثمانين، والبعض الثالث، قال: إِنَّ القرن مائة عام، أخيراً فقد اعتبر البعض أنَّ القرن هو مائة وعشرون عاماً. وفي كلَّ الأحوال لابدَّ مِن الإِشارة هنا إِلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الإِتفاق العرفي الذي ينعقد حولها. ومِن هُنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنَّ كل مائة سنة تعتبر قرناً

[431]

واحداً(1).

أمّا لماذا أكدت الآية على القرون مِن بعد نوح(عليه السلام) فقد يكون ذلك بسبب أنَّ الحياة قبل نوح(عليه السلام) كانت حياة بسيطة، والإِختلافات التي تقسِّم المجتمعات إِلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإِلهي لم يشملهم بكثرة.

أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و«بصير» معاً، فإنّ ذلك يعود إِلى المعنى المراد، إِذ «الخبير» تعني العلم والإِحاطة بالنية والعقيدة; أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحداً، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.

* * *


1 ـ في نهاية الآية (13) مِن سورة يونس أشرنا إِلى هذا الموضوع.

[432]

الآيات

مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلـهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً(18) وَمَنْ أَرادَ الأَْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً(19) كُلا نُّمِدُّ هـؤُلآَءِ وَهـؤُلآَءِ مَنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً(20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَلَلأَْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجـت وَأكْبَرُ تَفْضِيلا(21)

التّفسير

طلاب الدنيا والآخرة:

لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر اللّه تعالى، وكيفية هلاكهم، لذا فإِنَّ هذه الآيات ـ التي نحنُ بصددها الآن ـ تشير إِلى سبب التمرُّد على شريعة اللّه، والعصيان لأوامره، وهذا السبب هو حب الدُنيا، إِذ يقول تعالى: (مَن كانَ يريّد العاجلة عجّلنا لُه فيها ما نشاءُ لمن نريد ثمّ جعلنا لهُ جهنَّم يصلها مذموماً مدحوراً).

[433]

«العاجلة» تعني النعم الزائلة; أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية، أنّها لا تقول: إِنَّ مَن يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كلَّ همه، يحصل على كلِّ ما يريد، بل هي قيدَّت ذلك بشرطين هما:

أوّلاً: سيحصل على جزء ممّا يريده; وأنَّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيِّد رغبة الساعي إِلى الدنيا، فهو: إِنَّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار، وإِنما قسمٌ مِنهم سيحصل على جزء مِن متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: (لمن نريد).

وبناءاً على ذلك، فلا كلَّ طُلاّب الدنيا يحصلون عليها، ولا أُولئك الذين يحصلون على شيء مِنها، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هـذين الشرطين، إِذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهاراً ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أُمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن لا يحصلون إلاّ على القليل منها.

وفي هذا تحذيرٌ الدنيا إنّكم إِذا تصورتم بأنّكم ستصلون إِلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا، فهذا خطاء وأشتباه كبير، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تُحققون أي هدف، وفي أحيان أُخرى قد تُحققون بعض أهدافكم.

وعادةً ما تكون للإِنسان آمال كبيرة ومُتعدِّدة، لا يمكن إِشباعها في هذه الدُنيا المادية المحدودة، فلو أعطيت الدنيا كُلّها إِلى شخص واحد، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّونَ ولا يصلون إِلى شيء، فلذلك أسباب مُختلفة، إِذ قد يكون هُناك أمل في إِنقاذهم، واللّه بذلك يحبهم وييسر سُبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إِذا وصلوا إِلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم، فسيطغون ويؤذون خلق اللّه، ويضيقون عليهم الخناق.

[434]

«يصلى» مُشتقة مِن «صَلى» وهي تعني إِشعال النّار، وأيضاً تعني الحرق بالنّار، والمقصود مِنها هُنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالإِنتباه هنا، أنَّ عاقبة هذه المجموعة مِن الناس، والتي هي نار جهنَّم، قد تمَّ تأكيدها في الآية، بكلمتي (مذموماً) و (مدحوراً) إِذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم، بينما الثّاني يعني الإِبتعاد عن رحمة الخالق، وفي الحقيقة إِنَّ نار جهنَّم تمثل العقاب الجسدي لهم، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح، لأنَّ المعاد هوَ للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإِثنين معاً.

بعد ذلك تنتقل الآيات إِلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميِّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إِذ يقول تعالى: (ومَن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً).

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إِلى السعادة الأبدية، هي:

أوّلاً: إِرادة الإِنسان: وهي الإِرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية; فالإِرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإِنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدنيا.

ثانياً: هذه الإِرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإِنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإِنساني، وتدفعهُ للحركة، وببذل كل ما يستطيع مِن السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة، بأنَّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنَّ على الإِنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع مِن السعي في سبيل الآخرة).

ثالثاً: إِنَّ كل ما سبق مِن حديث عن الإِرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإِيمان; الإِيمان الثابت القوي. لأنَّ أي تصميم وجهد، إِذا أريد لهُ أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإِيمان باللّه لا غير.

صحيح أنَّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إِيمان، حيث

[435]

أنَّ مفهوم الإِيمان داخل ضمنهُ، ولكن يجب عدم الإِكتفاء بهذا المقدار مِن الدلالة الإِلتزامية للإِيمان، بل وينبغي التوسع في شرطِ الإِيمان، بحكم أنَّ (الإِيمان) يعتبر أمراً أساسياً، وركناً مهمّاً في هذا الطريق.

والملاحظ هنا، أنَّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: (جعلنا لهُ جهنَّم) بينما عندما تنتقل إِلى طُلاّب الآخرة وعشّاقها ومريدها، فهي تخاطبهم بالقول: (فأُولئكَ كانَ سعيهم مشكوراً). إِنَّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل مِن استخدام أي تعبير آخر، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنَّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمَّ، لذا فإِنَّ شكر اللّه لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكوراً» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(1). أو بمعنى «قبول العمل»(2)، إِلاّ أنَّهُ مِن الواضح أن كلمة «مشكوراً» لها معنى أوسع مِن هذه المعاني جميعاً.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظاناً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط، وأنَّ طلاّب الآخرة وأهلها محرومون مِنها، لذلك فإِنَّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: (كلا نمدّ هؤلاء مِن عطاء ربّك) لتضيف بعدها بقليل: (وما كان عطاء ربك محظوراً).

نمدُّ هنا مِن «الإِمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إِلى أصل مهم في هذا الخصوص و تقول: كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور; فكذلك الأمر في الآخرة: ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنَّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة ـ ولكونها


1 ـ يُراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي، ج 6، ص 3852.

2 ـ راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

[436]

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود، إِذ يقول تعالى: (أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).

قد يقول قائل هنا; إِننا نرى في هذه الدنيا أفراداً يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب: إِنّ وجود هؤلاء يعبِّر عن حالات إِستثنائية لا يمكن إِعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإِنسان وتوفيقه. وبذلك فإِنَّ هذه الإِستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيراً، وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظات، ينبغي أن نُنَّبه إِلى أنَّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثراً من السعي الكثير والكيفية الدانية.