الأَمْثَلُ

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثامن

سُورَة الحِجر

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسع وتسعون آيَة

«سورة الحجر»

محتوى السّورة:

المشهور عند جل المفسّرين أنّ سورة الحجر مكّية، و هي السورة الثّانية و الخمسون من السور التي نزلت على النّبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة المكرمة على ما ذكره ابن النديم في فهرسته تحت موضوع تاريخ القرآن، و عدد آياتها تسع و تسعون آية باتفاق كل المفسّرين.

و لم تشذ السورة في سياقها و مضامينها عن السور المكّية السابقة لها، و كما ذكرنا سابقاً فإِنّ السور المكّية تشتمل على جمل من الكلام حول أُصول الدين كالتوحيد و المعاد، وإِنذار المشركين و العاصين و الظالمين، بالإِضافة إِلى ما يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة للإِعتبار.

و يمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط:

1 ـ الآيات المتعلقة بمبدأ عالم الوجود، والإِيمان به بالتدبر في أسرار الإِيجاد.

2 ـ الآيات المتعلقة بالمعاد و عقاب الفجرة الفسقة.

3 ـ أهمية القرآن باعتباره كتاباً سماوياً.

4 ـ محاولة إيقاظ و تنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم، و تمرد إبليس، و تبيان عاقبة التمرد.

[8]

5 ـ زيادة في محاولة الإِيقاظ و التنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط و صالح و شعيب(عليهم السلام).

6 ـ إنذار و بشارة، مواعظ لطيفة و تهديدات عنيفة، إِضافة إِلى المرغبات المشوقة.

7 ـ مخاطبة النّبي صلّى اللّه و عليه و آله و سلّم لتقوية صبره و ثباته قبال ما يحاك من دسائس، و بالذات ما كان يجري داخل إِطار مكّة.

و قد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر، علماً بأنّ السورة تناولت ذلك في خمس آيات، و هي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذة التسمية، و سيأتي ذلك مفصلا في تفسير الآيات (80 ـ 84) إن شاء اللّه.

* * *

[9]

الآيات

الر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ وَ قُرْءَان مُّبِين(1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذيِنَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ(2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَ يَتَمَتَّعُواْ وَ يُلْهِهِمُ الأَْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3) وَ مَآ أَهْلَكنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ(4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِروُنَ(5)

التّفسير

الأماني الزّائفة!

سورة أُخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف، لام، وراء) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إَلى ظلام أهل الأرض، ما هي إِلاّ عين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر، صغيرهم و كبيرهم، بين مختلف اللغات، و مع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء و تركيب كلام القرآن، و هو ذروة التحدي الرباني المعجز، وعليه فقد جاءت (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)مباشرة.

كما نعلم أنّ «تلك» اسم إِشارة للبعيد، والمفروض في هذا الموضع استعمال اسم الإِشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب، لأنّ القرآن كتاب بين أيدينا، إِلاّ إنّ

[10]

لغة العرب ـ كما بيّنا سابقاً ـ تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إِليه، فالمراد أنّ لشأن القرآن عظمةً، وكأنّه في موضع بعيد جدّاً بين طيات السماء لا يناله إِلاّ منْ مَلَكَ مستلزمات التحليق إِليه. ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيّننا عند تعظيم شخص معين فنقول له مثلا: (إنْ سمح لنا ذلك السّيد أنْ...) فنستعمل (ذلك) مع كون الشخص مخاطباً.

وأمّا بشأن مجيء صيغة «قرآن» نكرة فلبيان عظمته أيضاً، و ذكر «القرآن» بعد «الكتاب» تأكيدٌ، ووصفه بالـ «مبين» لأنّه يظهر الحقائق و يبيّن الحق من الباطل.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد بكلمة «الكتاب» إِشارة إِلى التوراة والإَنجيل، فهو كما يبدو بعيد جدّاً ويفتقد الى الدليل.

ثمّ يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات اللّه الجلية، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول: (ربّما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين).

فالمراد بكلمة «يود» التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان، وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الاعمال.

ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) قوله: «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق إنّه لا يدخل الجنّة إلا مسلم، فثمّ يود سائر الخلائق أنّهم كانوا مسلمين».(1)


1 ـ مجمع البيان، ج3،ص 328، كذلك ورد الحديث الأوّل في تفسير الثقلين عن تفسير العياشي، وأورد الفخر الرازي في تفسيره حديثاً يشابه الحديث الثّاني مع تفاوت يسير، وذكر في تفسير الطبري أيضاً عدّة أحاديث في مضمون الحديث الثّاني ضمن تفسير الآية المذكورة.

[11]

وروي أيضاً عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا اجتمع أهل النّار في النّار ومعهم مَنْ يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين، قالو: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النّار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب (كبائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون سبباً لأن) يسمع اللّه عزَّ وجلّ ما قالوا فأمر مَنْ كان في النّار من أهل الإِسلام فأُخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين».(1)

وربّما كان ظاهر الآية يوحي إِلى أُولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة تسري في أعماق وجدانهم، وحينما لمسوا من نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)تلك الآيات الرّبانية التي تناغي أوتار القلوب، لانت قلوبهم وتمنوا أَن لو يكونوا مسلمين، إِلاّ أنّ تعصبهم الأعمى وعنادهم القاتم، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول دعوة الحق، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر و الضلال.

ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إِلى أوروبا قائلا: ذات مرّة التقيت بأحد المسيحيين ـ وكان رجلا منصفاً ـ وبعد أن بيّنت له بعض خصال ديننا، استهوته ومال إليها قائلا: أهنئكم من أعماقي على عظمة معتقدكم، ولكن ـ ماذا نصنع مع الضروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد عنها!

ومن تاريخ الإِسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عندما وصله رسول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكر بأنّ القيصر قد أظهر الإِيمان سرّاً للرسول حتى أنّه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إِلاّ أنّه خاف قومه وفكر بامتحانهم فـ (أمر منادياًينادي: ألا إِنّ هرقل قد ترك النصرانية واتبع دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى


1 ـ المصدر السّابق.

[12]

طافوا بقصره، فأمر مناديه فنادى: ألا إِنّ قيصر إِنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم; فارجعوا فقد رضي عنكم. ثمّ قال للرسول: إِنّي أخاف على ملكي. و إِنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته).(1)

وعلى أية حال، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيٍّ من التّفسيرين، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إِلى الإِسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة ـ فتأمل.

ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمّد (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللّذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إِطار ما تعرف وتفهم.

إِنّهم لا يدركون فقه الحقائق، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

و لكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!

الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول: (وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم) ثمّ يقول تعالى: (ما تسبق من أُمّة أجلها وما يستأخرون).

فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إِلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارةً، وبفيوضات رحمة الرخاء


1 ـ مكاتيب الرّسول، ج1، ص112.

[13]

تارةً أُخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإِنذار وهكذا، كل ذلك إِتماماً للحجة عليهم.

صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل، وعاجلا أم آجلاً سينال كلٌّ نصيبه بما كسبت يداه.

من الآيتين الآخيرتين، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأُمم السابقة.

أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إِلى اللّه تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإِعتبار، وإِلاّ فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.

* * *

ملاحظة:

الغفلة وطول الأمل

ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان، فلو ارتفع الأمل يوماً من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إّلا القليل ممن يجد في نفسه دافعاً لمواجهة صراع الحياة معه، والحديث النبوي الشريف: «الأمل رحمة لأُمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً»(1)يشير لهذه الحقيقة.

وإِذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإِنّه سيتحول إِلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالإِنحراف والهلاك، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان، فلو زاد عن حدّ الحاجة إِليه، أصبح عاملا للغرق


1 ـ سفينة البحار، ج1، 30 (أمل).

[14]

والهلاك.

وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل باللّه وعدم معرفة الحق والإبتعاد عن الحقيقة، ويؤدي الى تقوقع الانسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.

ويحدثنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن هذا المضمون بقوله «يا أيّها الناس، إِنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباعُ الهوى وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فَيُنْسي الآخرة»(1).

حقاً، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إَلى موجودات ضعيفة، بل وممسوخة! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شي لمجتمعهم، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأُثقِلُوا عمّا يسمون به إِلى التكامل.

وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل: «وحبسني عن نفعي بُعد أملي».

بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول، يجعل الإِنسان عرضة للإِنهماك والعجز والإِضطراب، ويُصَوِّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إِلى السعادة والرفاه، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.

وغالباً ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إِليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأُذن سميعة.

* * *


1 ـ نهج البلاغة، من الخطبة 42.

[15]

الآيات

وَقَالُواْ يَـأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لََمجْنُونٌ(6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّدِقِينَ(7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـئِكَةَ إِلاَّ بِآلْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ(8)

التّفسير

طلب نزول الملائكة:

تبتدىء الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الكفار، فتقول: (وقالوا يا أيّها الذي نزّل عليه الذكر إنّك لمجنون).

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتارة يقولون: (يا أيّها الذي)، وأُخرى: (نُزّل عليه الذكر) بصيغة الهزؤ والإِنكار لآيات اللّه سبحانه، وثالثة: يستعملون أدوات التوكيد «إِن» ولام القسم ليتّهموا أشرف خلق اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)بالجنون!

نعم، الخصم المريض الجاهل حينما يقابل حكيماً لا نظير له، فأوّل ما يرميه بالجنون، لأنّه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول، فيرى كل ما فوق تصوره القاصر غير معقول، ويوصم خصمه بالمجنون!

[16]

هؤلاء الاشخاص لديهم تعصب خاص نحو كل ما ألفوه في محيطهم الاجتماعي حتى وإن كان ضلالا وانحرافاً، لذا تراهم يواجهون كل دعوة جديدة على أساس أنّها غير معقولة، فهم يخشون من كل جديد، و يتمسكون بشدّة بالعادات والتقاليد القديمة.

أضف إِلى ذلك، أنْ مَنْ استهوته الدنيا وعاش لها لا يفقه المعاني الروحية والقيم الإِنسانية ويوزن كل شيء بالمعايير المادية، فإذا شاهد شخصاً يضحي بكل شيء وحتى بنفسه لأجل أنْ يصل إِلى هدف معنوي، فسوف لا يصدّق بأنّه عاقل، لأن العقل في عرفهم هو ما يصيب: المال الوافر، الزوجة الجميلة، الحياة المرفهة، والوجاهة الكاذبة!

وعليه، فحينما يرون رجلا قد عرضت عليه الدنيا بكل ما يحلمون به فأبى أن يقبلها بقوله: «واللّه لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته» فسيقولون عنه: إنّه لمجنون!

الملفت في التهم الموجهة إِلى أنبياء اللّه تعالى أنّها تحمل بين طياتها تضاداً واضحاً يُلمس بأدنى تدبر، ففي الوقت الذي يرمون النّبي بالمجنون يعودون ويقولون عنه: إِنّه لساحر، فمع أن الساحر لابدّ له من الذكاء والنباهة، فهل يعقل أن يكون الساحر، مجنوناً؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل تحججوا قائلين: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين).

فيجيبهم الباري جل شأنه: (ما ننزل الملائكة إِلاّ بالحق وما كانوا إِذاً منظرين). فلو ثمّ انزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثمّ لم يؤمنوا بما فسوف يحيق بهم، العذاب الالهي دون إمهال.

وللمفسّرين وجوهاً متباينة في تفسير (ما ننزل الملائكة إِلاّ بالحق):

1 ـ يرى البعض، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججاً،

[17]

بل هو إِعجاز رباني لإِظهار الحق وإِحقاقه.

وبعبارة أُخرى، فالإِعجاز ليس أمراً ترفيهياً يناغي تصورات الأخرين بقدر ما هو حجة إِلهية لإِثبات الحق وإِماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النّور نوراً والظلام ظلاماً من خلال ما أوصله نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق القرآن والمعاجز الأُخرى.

2 ـ المقصود من كلمة «الحق» هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك، وبعبارة أُخرى (عذاب الإِستئصال).

أيْ... في حال عدم إِيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء اقتراحهم فهم هالكون قطعاً.

وبهذا تكون جملة (وما كانوا إِذاً منظرين) مؤكّدة لهذا المعنى، وأمّا على التّفسير الأوّل فإِنّها تتناول موضوعاً جديداً.

3 ـ وقيل المراد بالحق في الآية الموت، إي أنّ الملائكة لا تنزل إِلاّ لقبض الأرواح.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في قصتي إِبراهيم ولوط عليهما السلام ومعركة بدر...الخ.

4 ـ وقيل المراد بالحق الشهادة (المشاهدة).

أيْ... مادام الإِنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ماوراء هذا العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربّها، لأنّ الحجب المادية قد أفسدت رؤيته ولا يتسنى له ذلك إِلاّ بعد الرحيل إِلى العالم الآخر، وحين ذلك ينتهي مفعول الماديات فتزال الحجب ويرى الملائكة.

يواجه هذا التّفسير نفس ما واجهه التّفسير الثّالث من إشكال، فقوم لوط مثلا،

[18]

على ما كانوا عليه من كفر وانحراف فقد رأوا ملائكة العذاب في دنياهم(1).

من خلال ما تقدم يتبيّن لنا أن التّفسيرين الأوّل والثّاني ينسجمان مع ظاهر الآية دون الآخرين.

أمّا ما ورد في ذيل الآية من عدم الامهال بعد استجابة مطاليبهم في رؤية المعاجز الحسيّة وعدم ايمانهم بها، فلأنه قد تمّت الحجة عليهم وانتفت جميع اعذارهم وتبريراتهم، وبما أن استدامة الحياة إنّما هو لأجل اتمام الحجة واحتمال توبة ورجوع الافراد المنحرفين الى الصراط المستقيم، وهذا الامر لا موضوع له في مثل هؤلاء الاشخاص، فلذلك يحين أجلهم وينالون جزاءهم الذي يستحقونه. (فتدبّر)

* * *


1 ـ راجع سورة هود، 81.

[19]

الآية

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ(9)

التّفسير

حفظ القرآن من التحريف:

بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والقرآن، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أُخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي.. حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف (إِنا نحن نزلنا الذكر وإِنا له لحافظون).. فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبدي الإِنارة، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزودين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا، لأنّ الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته..

وقد اختلف المفسّرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة:

1 ـ قال بعضهم: الحفظ من التحريف والتغيير، والزيادة والنقصان.

2 ـ وقال البعض الآخر: حفظ القرآن من الضياع والفناء إِلى يوم قيام الساعة.

[20]

3 ـ وقال غيرهم: حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له.

بما أنّه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام لعبارة (إِنّا له لحافظون) فلا داعي لحصر مصاديقها في بُعد واحد، خصوصاً وإِن «لحافظون» ذُكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها.

والصحيح، وفقاً لظاهر الآية المذكورة، أنّ اللّه تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

أمّا ما احتمله بعض قدماء المفسّرين بأنّه الحفظ على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)باعتبار أن ضمير «له» في الآية يعود إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة إِطلاق لفظة «الذكر» على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات(1)، فهو احتمال يتعارض مع سياق الآيات السابقة التي عنت بـ «الذكر» «القرآن»، بالإِضافة إِلى إِشارة الآية المقبلة لهذا المعنى.

* * *

بحث في عدم تحريف القرآن:

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين شيعة وسنة، أنّ القرآن لم يتعرض لأي نوع من التحريف، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محّمد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلا زيادة أو نقصان، حتى ولو بكلمة واحدة، أو قل بحرف واحد.

ومن جملة مَنْ صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين والمتأخرين) تغمّدهم اللّه برحمته.


1 ـ راجع سورة الطلاق، الآية العاشرة.

[21]

1 ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 هـ ق)، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف بـ (التبيان).

2 ـ الشريف المرتضى، ويعتبر من كبار علماء الإِمامية في القرن الرّابع الهجري.

3 ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين، حيث يقول في بيان عقائد الإِمامية: (إَن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

4 ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

5 ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء، من كبار العلماء المتأخرين.

6 ـ المرحوم المحقق اليزدي، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

7 ـ بالإِضافة إِلى جمع من العلماء الآخرين، أمثال: الشّيخ المفيد، الشّيخ البهائي، القاضي نور اللّه مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نُقل عن بعض مُحدِّثي الشيعة وبعض أهل السنة، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إِلاّ أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلاّمة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة»

فهل هناك مَنْ يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك مَن ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق، الثورة

[22]

الفرنسية، الحرب العالمية الأُولى أو الثّانية؟!

فإِنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر، بسبب تواتر ذكر وجودها، فكذلك آيات القرآن الكريم، وهذا ما سيأتي بيانه إِن شاء اللّه.

وإِذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن، فغايتهم إِشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث: (إنّ الآية: (إِنّا نحن نزلنا الذكر وإِنّا له لحافظون) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن)، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا.. لابدّ من كلمة: إِن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم، فليس هناك مَنْ يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة، فإِنَّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضاً، وهو ما لم يُعتَن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله: لا ريب أنّه (أيْ القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ المَلك الديان، كما دل عليه صريح القرآن، وإِجماع العلماء في كل زمان، ولا عبرة بنادر(1).

إِنّ التأريخ الإِسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإِسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإِيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أُمّةً


1 ـ تفسير آلاء الرحمن، 35.

[23]

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتباً معروفاً (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول: (والشيعة هم أبداً أعداء المساجد)(1).

والحال لو أجرينا إحصاءاً لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها، لدرجة أنّ بعضاً من الشيعة بات يُشكِل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتباً معروفاً يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الإِستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن:

1 ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات اخُر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن، إِنّما أراد بذلك حصول النقص فيه، ولم نر مَنْ احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إِلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم، فهو القانون والدستور الحاكم، ونظام الدولة، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة.. وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإِنسان المسلم في: صلاته، المسجد، البيت، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء، بل إِنّ المسلمين كانوا


1 ـ الصراع، لعبد اللّه علي القصيمي، ج2، ص23، على ما نقل عنه العلاّمة الأميني في الغدير، ج3، ص300.

[24]

يجعلون تعليم القرآن مهوراً للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أُخرى نقول: أوَ يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الإِهتمام، في مجال تعلم أحكامه وحفظه، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الإِجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إِحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(1).

وكذلك الحال في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(2).

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جداً إذا ما نظرنا إِلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن، باعتباره القانون الحاكم النافذ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتاباً مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع


1 ـ منتخب كنز العمال، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن)، ص260.

2 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 57.

[25]

والإنتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين: أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناءً على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف): إِن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.

خلاصة القول: إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإِسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة)، وإِلى هنا نعاود طرح السؤال: هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

2 ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أوكل إِليهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها، ويذكر أن عددهم كان بين 14 ـ 43 رجلا.

يقول أبو عبد اللّه الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن): (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون، أشهرهم الخلفاء الأربعة، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

3 ـ دعوة الأئمّة المعصومين عليهم السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهم عليهم السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

[26]

وخطب الإِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الإِدعاء: فنقرأ في الخطبة (133) : «وكتاب اللّه بين أظهركم، ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (176) : «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل...».

ونطالع قوله (عليه السلام) في نفس الخطبة المذكورة: «وما جالس هذا القرآن أحدٌ إَلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقوله (عليه السلام): «وإِنّ اللّه سبحانه لم يعظْ أحداً بمثل هذا القرآن، فإِنه حبل اللّه المتين، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (198): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده،...، ومنهاجاً لا يضل نهجه،...، وفرقاناً لايخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّة(عليهم السلام).

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء، فهل من الممكن أن يدعو إِليه الأئمّة عليهم السلام بهذه القوة؟ و يصفونه بأنّه: صراط هداية، وسيلة التفريق بين الحق والباطل، النّور الذي لا يطفأ أبداً، مصباح هداية لا يخبو، حبل اللّه المتين والعروة الوثقى.

4 ـ وإِذا ما سلمنا بـ (خاتمية) النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الدين الإِسلامي هو خاتم الأديان الإِلهية، وإِنّ رسالة القرآن باقية إِلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ اللّه سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإِسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

5 ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة معتبرة.

[27]

فقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي، ما إِن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»(1).