![]() |
![]() |
![]() |
3 ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن منع الشياطين من الصعود إِلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم(عليه السلام)كذلك ولكن لفترة معينة، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تمّ المنع بشكل كامل(4).
ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إِن «السماء» كناية عن سماء الحق والإِيمان، والشياطين تسعى أبداً لا ختراق هذه السماء والتسلل إِلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
ولكن علم وتقوى أولياء اللّه وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.
وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو ولادة المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء.
ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إِلى السماء والإِطلاع
1 ـ سفينة البحار، ج2، ص9.
2 ـ الأنعام، 97.
3 ـ نور الثقلين، ج1، ص750.
4 ـ نور الثقلين، ج3، ص5 ـ تفسير القرطبي، ج5، ص3626.
على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأُخرى حية، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.
ولا بدّ من الإِلتفات إِلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب. نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إِلاّ أنّها لا تسمى شهباً إِلاّ بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.
وكما هو معلوم، فإِنّ إِنسان العصر الحديث قد نفذ مراراً من هذه المنطقة، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علماً بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إِلى مائتي كيلومتر طولا.. وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).
فإِنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن القول: إِنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.
والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو.. سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إِغواء الناس بذلك، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.
ولكنْ.. بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستنداً على حقائق لم نصل لها في زماننا.
* * *
وَالاَْرْضَ مَدَدْنَـهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَ سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْء مَّوزُون(19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فَيها مَعَـيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرزِقِينَ(20) وَإِن مِّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَّعْلُوم(21)
وإِتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة، ويبدأ بنفس الأرض (والأرض مددناها).
«المد»، في الأصل بمعنى: التوسعة والبسط، ومن المحتمل أن يراد به إِخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطىً بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء، وهو ما تسمّيه الرّوايات بـ «دحو الأرض».
ثمّ يتطرق إِلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد (وألقينا فيها رواسي).
عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإِلقاء، ولعل المراد بـ «إلقاء» هنا بمعنى (إِيجاد) لأنّ الجبال هي الإِرتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي، أو من المواد البركانية.
ومن بديع خلق الجبال إِضافةً إِلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإِنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.
واستعمال كلمة «رواسي» جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ، إِشارة لطيفة لما ذكرناه.
فهي: ثابتة بنفسها، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإِنسانية عليها.
ثمّ ينتقل إِلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية، ألاَ وهو النبات (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون).
ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! «موزون» من مادة (وزن)(1)، ويشير بذلك إِلى: الحساب الدقيق، النظام العجيب، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من الساق، الغصن، الورقة، الوردة، الحبة وحتى الثمرة.
يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات، وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها، وهي بابُ بمعرفة واسع وصولا لمعرفة الباريء المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.
وقد ذهب البعض إِلى أن المقصود هو إِحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال، لأنّ كلمة «إِنبات» تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضاً.
1 ـ الوزن: معرفة قدر الشيء ـ مفرادت الراغب.
وقد وردت الإِشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى، ففي رواية عن الإِمام الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون، أنّه قال: «فإنّ اللّه تبارك وتعالى انبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لايباع إِلاّ وزناً»(1).
وهناك من ذهب إِلى أن المقصود من الإِنبات في الآية إِلى معنىً أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض، كما يشير إِلى ذلك نوح (عليه السلام) حين مخاطبته قومه (واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً)(2).
وعليه، فليس هناك ما يمنع من إِطلاق مفهوم الإِنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن... الخ.
وبما أنّ وسائل وعوامل حياة الإِنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى جميع المواهب بقوله: (وجعلنا لكم فيها معايش).
ليس لكم فقط، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسؤوليتكم (ومَن لستم له برازقين).
نعم، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.
«معايش» جمع «معيشة»، وهي: الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإِنسان، والتي يحصل عليها بالسعي تارة، وتأتيه بنفسها تارة أُخرى.
ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة «معايش» بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.
وانقسم المفسّرون في تفسير (مَنْ لستم له برازقين) إِلى قسمين:
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص6 (يعود ضمير «فيما» بناءاً على هذا التّفسير إِلى الجبال).
2 ـ سورة نوح، 17.
الأوّل: أنّ اللّه تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأُخرى التي لا يملك الإِنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.
الثّاني: أنّ اللّه تعالى يريد تذكير الإِنسان بأنّه سبحانه هو الرازق، وقد تكفل بإيصال رزقه إِلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإِنسان أو بواسطة أُخرى(1).
ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صواباً، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير علي بن إِبراهيم، حيث يتناول معنى (ومَنْ لستم له برازقين) على أنّه: (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدراً)(2).
أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة، فتحوي جواباً لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس، وهو: لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إِلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإِلهية جواباً: (وإِن من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم). فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإِنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون، ولكنّ الحكمة إقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعاً لحساب دقيق، حتى الأرزاق إِنّما تنزل إِليكم بقدر.
ونقرأ في مكان آخر من القرآن: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء)(3).
1 ـ بناء على التّفسير الأوّل يكون الإِسم الموصول «مَنْ» في «مَنْ لستم له برازقين» عطفاً على ضمير «لكم» وبناء على التّفسير الثّاني عطفاً على «معايش»، وبعض المفسّرين اعترض على التّفسير الأوّل بأنّ الإِسم الصريح المجرور لا يعطف على ضمير مجرور إِلاّ بإِعادة ذكر حرف الجر، أيْ.. دخول اللام على «مَنْ» هنا واجباً، وثمة اعتراض آخر يقول: كيف يطلق الإِسم الموصول «مَنْ» على غير العاقل؟
والإِعتراضان مردودان، لأنّ عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب، وكذا الحال بالنسبة لا ستعمال «مَنْ» لغير العاقل. بل التّفسير الثّاني يواجهه ما لسعة المفهوم للـ «معايش»، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها.. وعلى هذا الأساس رجحنا التّفسير الأوّل.2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج3، ص6.
3 ـ الشورى، 27.
إِنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإِنسان الحيوية والنشاط، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان، فإِنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين.. وإِذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإِنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إِليه مصير البشرية؟
فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين، ذوي البطون المنتفخة، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد. لماذا؟
لأنّ الناس ليسوا كالملائكة، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تُدني إِلى الإِنحراف.
لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإِنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل، وبماذا يعمل، وعن ماذا يتجاوز؟.. والسعي والحركة لما هو مشروع، المجال الأمثل للإِمتحان.
والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإِنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الإِنحراف، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأً للفساد والطغيان.
* * *
نقرأ فى آيات القرآن أن: للّه عزَّ وجلّ خزائن، للّه خزائن السماوات والأرض، بيده خزائن كل شيء.. فما هي خزائنه تعالى؟
«الخزائن» لغةً جمع «خزانة»: وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.
وهي من مادة (خَزَنَ) على وَزْنِ (وَزَنَ) بمعنى: حفظ الشيء وحبسه.
بديهي، أن مَنْ كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إِليه على الدوام، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إِليه مستقبلا.
وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعاً.. ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات)، فسّروا خزائن اللّه بمعنى (مقدورات اللّه)، يعني: أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة اللّه، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحاً لمخلوقه يخلقه بقدرته.
وقد فسّر بعض كبار المفسّرين «خزائن اللّه» بأنّها: (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(1).
هذا التّفسير وإِن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير «عندنا» ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.
وانَّ عبارة «خزائن اللّه» وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها، وإِنّما استعملت للتقريب، من باب تكلم الناس بلسانهم، ليكونوا أكثر قرباً للسمع وأشد فهماً للمعنى.
وذكر بعض المفسّرين أنّ «خزائن» تختص بالماء والمطر، ولكن من الواضح حصر مفهوم «خزائن» بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإِطلاق مفهوم الآية، وهو خال من أيِّ دليل أو قرنية.
كما بيّنا سابقاً أن النّزول لا يرمز إِلى الحالة المكانية دوماً (أيْ النّزول من
1 ـ الميزان، ج12، ص142.
مكان عال إِلى أسفل)، بل يرمز إِلى النّزول المقامي في بعض الموارد، فمثلا.. في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إِلى من هم أقل منه شأناً، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.
وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإِلهية، سواء كانت نازلة من السماء إِلى الأرض كالمطر، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج)، و كذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد، بشأن الحديد، (وأنزلنا الحديد) ... الخ.
خلاصة القول:
إِنّ (نزول) و (إِنزال) هنا بمعنى وجود و إِيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إِلاّ لأنّها نعم اللّه عزَّ وجلّ التي وهبها لعباده.
* * *
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَسْقَيْنَـكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـزِنِينَ(22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَ رِثُونَ(23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ(24) وَإِنِّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)
بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسماً من أسرار الخليقة والنعم الإِلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار في عملية نزول المطر، فيقول: (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين).
«لواقح» جمع «لاقح» .. وهي تشير هنا إِلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.
وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إِلى أن الآية تشير إِلى عملية تلقيح
النباتات بواسطة الرياح، وبها يستدلون على الإِعجاز العلمي للقرآن، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إِليه عصرنا من العلوم الحديثة، وأنّ إِخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إِعجازه العلمي.
مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها، إِلاّ أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إِليه علماء اليوم لسببين:
الأوّل: وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.
ثانياً: وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).
ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.
ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأئر الرياح، فتحمل الأُمهات، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.
ويمكن حمل (ما أنتم له بخازنين) على أنّها إِشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله، أي إِنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.
ويمكن حملها على أنّها إِشارة إِلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها، أي إِنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله، وأنّ اللّه عزَّوجلّ هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيوناً وآباراً.
ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد اللّه إِلى المعاد ومقدماته: (وإِنّا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون)، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد، إِضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاماً مترابطاً في عالم
الوجود لا يمكن تصور تشكيله إِلاّ بوجود علم وقدرة مطلقين، بالإِضافة إِلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو اللّه تعالى.
ثمّ يضيف: (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين).
أيْ، نحن على علم بهم وبما يعملون، وإِن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.
ولهذا، نرى الآية التي تليها: (وإِنّ ربّك هو يحشر هم إنّه حكيم عليم) مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت.. فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.
فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً، وهذا غير معقول، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.
فالحكمة الإِلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق»، وبتعبير آخر. مقدمة لحياة أبدية خالدة. وأمّا كونه سبحانه عليماً.. فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة أُخرى، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.
وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.
* * *
ذكر المفسّرون في تفسير (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا
المستأخرين) احتمالات كثيرة، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات، والقرطبي ثمانية احتمالات، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد، لأن كلمة «المستقدمين» و«المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإِذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الإِحتمالات الواردة في «تقدم» و«تأخر» المذكورتين في الآية في تفسير واحد.
وفيما روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحث على الإِشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال: «إنّ اللّه وملائكتة يصلون على الصف المتقدم» فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا: «لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم»، فنزلت هذه الآية. (وأفهمتهم على أنّ اللّه تعالى عليم بنيّاتكم، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).
فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبداً سبباً لحصر مفهومها الواسع.
* * *
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنَسنَ مِنْ صَلْصَـل مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون(26)وَالْجَآنَّ خَلَقْنهُ مِنْ قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـئِكَةِ إِنِّى خَـلِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَـل مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـجِدِينَ(29)فَسَجَدَ الْمَلَـئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلآَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّـجِدِينَ(31) قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّـجِدِين(32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَِسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـل مِّن حَمَإ مَّسْنُون(33) قَالَ فَاخْرُجْ مَنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَبِّ بَمَا أَغْوَيْتَنِى لأَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَْرْضَ وَلأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُْمخْلَصِينَ(40) قَالَ هَـذَا صِرَ طٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ(42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْواب لِّكُلِّ بَاب مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ(44)
بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات اللّه في الآيات السابقة، تأتي هذه الآيات لتبيّن أن الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إِنّما هو خلق الإِنسان. وتتطرق الآيات إِلى جزئيات عديدة في شأن الخلق، زاخرةً بالمعاني.
وقبل الدخول في بحوث مفصلة حول بعض المسائل التي ذكرت في الآيات المباركات نشرع بتفسير إِجمالي..
يقول تعالى في البداية: (ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال من حمأ مسنون)، «الصلصال» هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شيء أحدث صوتاً.. و «الحمأ المسنون» هو طينٌ متعفن.
(والجان خلقناه من قبل من نار السموم).
«السّموم» لغة: الهواء الحارق، وسميَّ بالسموم لأنّه يخترق جميع مسامات بدن الإِنسان، وكذلك يطلق على المادة القاتلة (السم) لأنّها تنفذ في بدن الإِنسان وتقتله.
ثمّ يعود القرآن الكريم إِلى خلق الإِنسان مرّة أُخرى فيتعرض إِلى كلام اللّه تعالى مع الملائكة قبل خلق الإِنسان: (وإِذا قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون فإِذا سويته ونفخت فيه من روحي) وهي روح شريفة طاهرة جليلة (فقعوا له ساجدين).
وبعد أن تمّ خلق الإِنسان من الجسم والروح المناسبين (فسجد الملائكة كلّهم أجمعين).
ولم يعص هذا الأمر إِلاّ إِبليس: (إِلاّ إِبليس أبى أن يكون مع الساجدين).
وهنا سأل اللّه إِبليسَ: (قال يا إِبليس ما لك ألاّ تكون مع الساجدين).
فأجاب إِبليس بعد أن كان غارقاً في بحر الغرور المظلم، وتائهاً في حب النفس المقتم، وبعد أن غطى حجاب الخسران عقله.. أجاب بوقاحة (قال لم أكن لا سجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون).. فأين النّار المضيئة من التراب الأسود المتعفن! وهل لموجود شريف مثلي أن يتواضع ويخضع لموجود أدنى منه! أيُّ قانون هذا؟!..
ونتيجةً للغرور وحب النفس، فقد جهل أسرار الخليقة، ونسي بركات التراب الذي هو منبع كل خير وبركة، والأهم من ذلك كله.. فقد تجاهل شرافة تلك الروح التي أودعها الرّب في آدم.. وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم، فجاء الأمر الإِلهي مقرعاً: (قال فاخرج منها فإِنّك رجيم)، أي أخرج من الجنّة، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.
واعلم يا إِبليس بأنّ غرورك أصبح سبباً لكفرك، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي (وإِنّ عليك اللعنة إِلى يوم الدين) أي، إِلى يوم القيامة.
وهنا.. حينما وجد إِبليس نفسه مطروداً من الساحة الإِلهية، ساوره إِحساس بأنّ خلق الإِنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدم(عليه السلام).
فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إِلى إِبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك، إِلاّ أن غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه، ولهذا (قال ربّ فانظرني إِلى يوم يبعثون)، ليركز عناده وعداءه!
وقبل اللّه تعالى طلبه: (قال فإِنّك من المنظرين).
ولكن ليس إِلى يوم يبعثون كما أراد، بل (إِلى يوم الوقت المعلوم). فما هو
يوم الوقت المعلوم؟
قال بعض المفسّرين: هو نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات، ولا يبقى حي إِلاّ الذات الإِلهية المقدسة، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إِبليس.
وقال بعض آخر: هو زمان معين لا يعلمه إِلاّ اللّه، لإنّه لو أظهره عزَّوجلّ لكان لإِبليس ذريعة في المزيد من التمرد والمعاصي.
وثمة مَنْ قال: إنّه يوم القيامة، لأن إِبليس أراد أن يكون حياً إِلى ذلك اليوم ليكون بذلك من الخالدين في الحياة، وإِن يوم الوقت المعلوم قد ورد بمعنى يوم القيامة في سورة الواقعة (الآية / 50)، وهو ما يعزز هذا القول.
ويبدو أن هذا الإحتمال بعيد جداً لأنه يتضمن الموافقة الإِلهية على كل طلب إِبليس، والحال أن ظاهر الآيات المذكورة لا تعطي هذا المعنى، فلم تبيّن الآيات أن اللّه استجاب لطلبه بالكامل، بل يوم الوقت المعلوم... ومن هنا يكون التّفسير الأوّل أكثر توافقاً مع روح وظاهر الآية، وكذلك ينسجم مع بعض الرّوايات عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) بهذا الخصوص(1).
وهنا أظهر إِبليس نيته الباطنية (قال ربّ بما أغويتني) وكان هذا الإِنسان سبباً لشقائي (لأُزينن لهم في الأرض) نعمها المادية (ولأُغوينهم أجمعين) بإِلهائهم بتلك النعم.
إِلاّ أنّه يعلم جيداً بأن وساوسه سوف لن تؤثر في قلوب عباد اللّه المخلصين، وأنّهم متحصنون من الوقوع في شباكه، لأنّ قوة الإِيمان ودرجة الإِخلاص عندهم بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم.. ولهذا نراه قد استثنى في طلبه (إِلاّ عبادك منهم المخلصين).
1 ـ نور الثقلين، ج3، ص13، الحديث 45.
من البديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن تضليل خلقه، إِلاّ أنّ محاولة إِبليس لتبرير ضلاله وتبرئة نفسه جعلته ينسب ذلك إِلى اللّه سبحانه وتعالى. هذا الموقف هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أوّلاً ومن ثمّ يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانياً، والمصيبة أن مواقفهم تلك إِنّما يواجهون بها ربّ العزة والجبروت، وكأنّهم لا يعلمون أنّه لا تخفى عليه خافية.
وينبغي ملاحظة أن «المخلصين» جمع مخلَص (بفتح اللام) وهو ـ كما بيّناه في تفسير سورة يوسف ـ المؤمن الذي وصل إِلى مرحلة عالية من الإِيمان والعمل بعد تعلم وتربية ومجاهدة مع النفس، فيكون ممتنعاً من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.
ثمّ قال تعالى تحقيراً للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين درب التوحيد الخالص: (قال هذا صراط عَلَيَّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين).
يعني، يا إِبليس ليس لك القدرة على إِضلال الناس، لكن الذين يتبعونك إِن هم إِلاّ المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.
وبعبارة أُخرى.. إِنّ الإِنسان حر الإِرادة، وإِنّ إِبليس وجنوده لا يقوون على أن يجبروا إِنساناً واحداً على السير في طريق الفساد والضلال، لكنّه الإِنسان هو الذي يلبي دعوتهم ويفتح قلبه أمامهم ويأذن لهم في الدخول فيه!
وخلاصة القول: إنّ الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في تضليل وانحراف الإِنسان، إِلاّ أنّ القرار الفعلي للإِنصياع للوساوس أو رفضها يرجع بالكامل إِلى الإِنسان، ولا يستطيع الشيطان وجنوده مهما بلغوا من مكر أن يدخلوا قلب إِنسان صاحب إِرادة موجهة صوب الإِيمان المخلص.
وأراد اللّه سبحانه بهذا القول نزع الخيال الباطل والغرور الساذج من فكر
الشيطان من أنّه سيجد سلطة فائقة على الناس وبلا منازع، يمكنه من خلالها إِغواء من يريد.
ثمّ يهدد اللّه بشدّة أتباع الشيطان: (وإِنّ جهنم لموعدهم أجمعين) وأنْ ليس هناك وسيلة للفرار، والكل سيحاسب في مكان واحد.
(لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم).
هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه.. كما هو الحال في أبواب الجنّة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنّة.
* * *
المستفاد تربوياً من قصة إِبليس في القرآن هو أن الكبر والغرور من الأسباب الخطيرة في عملية الإِنهيار والسقوط من المكانة المحترمة المرموقة إِلى مدارك الدون والخسران.
فكما هو معلوم أنّ إِبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إِلى ذلك الآية الخمسون من سورة الكهف) إِلاّ أنّه ارتقى الدرجات العُلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة للّه عزَّوجلّ، حتى أنّ البعض قال عنه: إنّه كان معلماً للملائكة، ويستفاد من الخطبة القاصعة في (نهج البلاغه) أنّه عبد اللّه عزَّ وجلّ آلاف السنين.
لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا الى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور.
بل إِنّ حب الذات والغرور والتعصب والتكبر قد جعلته يستمر في موقفه
المريض ويوغل قدمه في وحل الإِصرار على الإِثمّ والسير المتخبط في جادة العناد، فنسي أو تناسى ما للتوبة والإِستغفار من أثر إِيجابي، حتى دعته الحال لأن يشارك كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم.. وبات عليه أن يتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر.
وليس ابليس فحسب، بل إنّ التأريخ يحدثنا عن أصحاب النفوس المريضة ممن ركبهم الغرور والكبر فعاثوا في الأرض فساداً بعد أن غطت العصبية رؤاهم، وحجب الجهل بصيرتهم، وسلكوا طريق الظلم والإِستبداد وسادوا على الرقاب بكل جنون فهبطوا إِلى أدنى درجات الرذيلة والإِنحراف عن الطريق القويم.
إِنّ هاتين السمتين الأخلاقيتين (التكبر والغرور) في الواقع.. نار رهيبة محرقة. فكما أن مَنْ صرف وطراً من عمره في بناء وتأثيث دار، لربّما في لحظات معدودات يتحول إِلى هباء منثور بسبب شرارة صغيرة.. فالتكبر والغرور يفعل فعل النّار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين المعمورة بالطاعة والبناء.
![]() |
![]() |
![]() |