أوّلاً: يستفاد من تاريخ بني إِسرائيل بأنَّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إِلى


1 ـ «حصير» مُشتفة مِن «حصر» بمعنى الحبس، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير». ويقال للحصير العادية حصيراً لأنَّ خيوطها وموادها نسجت إِلى بعضها البعض.

[400]

أن نهض اليهود بعد ذلك لإِعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له، فقد كانَ مِن قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إِسرائيل. وقد تمَّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إِليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و«أسييانوس» لأنَّ الأحداث الأُخرى في تاريخ بني إِسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم وإِستقلالهم بالمرّة، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إِلى زمن «كورش» حيث اجتمع شملهم مجدداً وحررهم مِن أسر بابل وأعادهم إِلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إِلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم(1).

لقد استمر بنوإِسرائيل في مرحلة الشتات والتشرُّد إِلى أن أعانتهم القوى الدولية الإِستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم مِن جديد.

ثانياً: أمّا «الطبري» فينقل في تفسيره عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إِسرائيل لزكريا(عليه السلام) ومجموعة أُخرى مِن الأنبياء(عليهم السلام)، وأنَّ المقصود مِن الوعد الأول، هو الإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد مِن الفساد الثّاني فهو الفوضى والإِضطراب الذي قامَ به «بنوإِسرائيل» بعد تحريرهم مِن بابلَ بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني، فهو هجوم «أنطياخوس» ملك الروم عليهم.

وبالرغم مِن انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل، إِلاّ أنَّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه «الطبري» غير ثقة، بالإِضافة إِلى عدم تطابق تاريخ «زكريا» و«يحيى» مع تاريخ «نبوخذ نصر» و«أسييانوس أو أنطياخوس» إِذا يلاحظ أن «نبوخذ نصر» عاصر «أرميا» أو «دانيال» النّبي كما يرى بعض


1 ـ يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.

[401]

المؤرخين، وقيامه قد تمَّ في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى(عليه السلام)، لذلك كيف يقال: إِنَّ قيام نبوخذ نصر كان للإِنتقام مِن دمِ يحيى(عليه السلام)؟!

ثالثاً: وقال آخرون: إِنَّ بيت المقدس شيِّد في زمن داود وسليمان(عليهما السلام)، وقد هدمه «نبوخذ نصر» وهذا هو المقصود من إِشارة القرآن إِلى الوعد الأوّل. أمّا المرّة الثّانية، فقد بُني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك «طيطوس» الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن «طيطوس» يطابق «طرطوز» الذي ذكر في التّفسير السابق) وقد بقي على خرابه إِلى عصر الخليفة الثّاني عندما فتح المسلمون فلسطين(1). والملاحظ في هذا التّفسير أنّه لا يفترق كثيراً عمّا ورد في مضمون التفسرَيْن أعلاه.

رابعاً: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأُخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أنَّ هناك تفسيراً آخر يورده «سيد قطب» في تفسيره «في ظلال القرآن» يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: «فأمّا إِذا عاد بنو إِسرائيل إِلى الإِفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية (وإِن عدتم عدنا) ثمّ يقول: «ولقد عادوا إِلى الإِفساد فسلَّط اللّه عليهم المسلمين فأخرجوهم مِن الجزيرة كُلّها. ثمّ عادوا إِلى الإِفساد وسلَّط اللّه عليهم عباداً آخرين، حتى كانَ العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر» ولقد عادوا اليوم إِلى الإِفساد في صورة «إِسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطنَّ اللّه عليهم مَن يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد اللّه القاطع، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف ... وإِن غداً لناظره قريب!)(2).

ولكن الإِعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التّفسير، هو أنَّ أيّاً مِنهما لم


1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 209.

2 ـ سيد قطب، في ظلال القرآن،ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.

[402]

ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إِلى بيت المقدس حتى يخرِّبوه؟ خامساً: الإِحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإِفسادَيْن الكبيريْن لبني إِسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثّانية، حيثُ يقول هؤلاء: إِن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم «إِسرائيل» في قلب العالم الإِسلامي مثَّل الإِفساد والطغيان والعلو الأوّل لهم، وبذلك فإِنَّ وعي البلاد الإِسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإِسلامية في ذلك الوقت إِلى التوحدّ و تطهير بيت المقدس وقسماً آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.

أمّا المقصود مِن الإِفساد الثّاني حسب هذا التّفسير، فهو احتلال اليهود مجدداً للمسجد الأقصى بعد أن حشدت «إِسرائيل» قواها واستعانت بالقوى الدولية الإِستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).

وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثّاني على بني إِسرائيل، ليخلّصوا المسجد الأقصى مِن دَنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإِسلامية. وهذا ما وُعِدَ بهِ المسلمون مِن فتح ونصر آت بلا ريب(1).

بالطبع هُناك تفاسير وآراء أُخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن ينبغي أن يلاحظ أنَّ في حال اعتماد التفسّريْن الرّابع والخامس، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية، وذلك إِذا جاءَ الفعل بعد حرف من حروف الشرط.

ولكن يُستفاد مِن ظاهر قوله تعالى: (ثمّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً) إِنَّ الإِفساد الأوّل على الأقل ـ والإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل كان قد وقع في الماضي.


1 ـ يلاحظ هذا الرأي العدد (12) السنة (12) مِن مجلة «عقيدة ا لإِسلام» وقد كتب البحث في عددين إِبراهيم الأنصاري.

[403]

وإِذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إِلى أنّ قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) تفيد في أنَّ الرجال الذين سيؤدبون «بني إِسرائيل» على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو كلمة «وبعثنا» و«لنا».

ولكنّا مع ذلك، لا نستطيع الإِدّعاء أن كلمة «بعث» تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضاً، ففي قصّة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: (فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض)(1).

وكذلك الحال في كلمة «عباد» أو «عبد» فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين مِن المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) مِن الفرقان في قوله تعالى: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً) والآية (27) مِن سورة الشورى، حيث يقول تعالى: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض) وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) مِن سورة المائدة قوله تعالى: (إِن تعذبهم فإِنهم عبادك).

ولكنّا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ـ وإِن لم تَقُم قرينة خلاف ذلك ـ أنَّ العباد الذين بعثهم اللّه للإِنتقام مِن بني إِسرائيل هم مِن العباد المؤمنين الصالحين.

وخلاصة البحث: إِنَّ هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إِسرائيل، وكيف أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيدهُ والإِنسانية جمعاء هو أنَّ اللّه تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ مِن دروس التاريخ وأحوال الأُمم الماضية.


1 ـ المائدة، 31.

[404]

الثّانية: تحمّل الإِنسان لتبعات أعماله:

الآيات الآنفة تشير إِلى قاعدة مهمّة، وهي أنَّ أعمال الإِنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإِنَّ مردودها يعود إِليه. صحيح أنَّ الآيات تتحدَّث عن بني إِسرائيل، ولكن القاعدة مِن الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر التاريخ(1).

إِنَّ الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا وسنناً سيئة، وسنّت قوانين ظالمة ومُبتدعة، ولكنّها في النهاية، كانت ضحية ما سنَّت وابتدعت وأسست، وكانت نهايتها ونهاية مَن يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إِنَّ خصوصية هذا الأمر تتّضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو والإِستكبار، فإِنّ الإِنسان لابدَّ وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف مِن أسباب العلو والإِستكبار والإِفساد.

ولهذا السبب بالذات رأينا أنّ بني إِسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إِذ عاشوا طويلا واقع الشتات والتشرُّدْ، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إِنّنا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني إِسرائيل وعلوهم وطغيانهم، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم مِنها، وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإِرهاب، وروعوا الأبناء وسبوا النساء، بل لم يحترموا حتى بيوت اللّه في بيت المقدس!

إِنَّ هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل مِن أشكال القانون أو


1 ـ نقرأ في الآية: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِن أسأتم فلها) بينما كان ينبغي أن يكون التعبير «عليها» لأنَّ الإِساءة لا تكون في فائدة ونفع الإِنسان بل هي في ضرره! إِنَّ السبب في ذلك يعود إِلى ضرورات التنسيق بين قسمي الجملة، أو قد يكون ذلك بسبب أنّ اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن تكون اللام بمعنى «إِلى».

[405]

الضوابط والمعايير الدولية، فإِذا قامَ ـ مثلا ـ فدائي فلسطيني بإِطلاق رصاصة عليهم، فإِنّهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين، ومدارس الأطفال، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد، يقومون بحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجّرون عدداً كبيراً مِن البيوت.

إِنَّ هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات الدولية، والكل يعرف أنّ جرأتهم في مُواجهة العالم إِنّما كانت وما زالت مستمدة مِن دعم القوى الإِستعمارية الدولية لهم ـ وفي الطليعة منها أمريكا ـ من دون أن يعني دعم هذه القوى لهم تبريراً لما يمتازون هم بهِ مِن خصائص إِنحرافية ذاتية في الفكر والأخلاق، واستعداد قَبْلي للعلو والطغيان والفساد.

إِنّهم بعلوّهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله: (عباداً لنا أولي بأس شديد) حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد الهي قاطع في قرآنه الكريم.

الثّالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإِسلامي:

في روايات عدّة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ الإِسلامي حيث يشير بعضها إِلى أنَّ الفساد الأوّل والثّاني هو قتل الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والعدوان على جنازة الإِمام الحسن(عليه السلام). وبعضها تشير إِلى أنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) هو الإِشارة إِلى الإِمام المهدي(عليه السلام) وأصحابه.

وفي روايات أُخرى نقرأ أنَّ المقصود، هو نهضة مجموعة مِن المسلمين قبل ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام)(1).


1 ـ يلاحظ نور الثقلين، ج 3، ص 138.

[406]

مَن الواضح أنَّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات تفسيراً لفظياً، لأنَّ الآيات تتحدث بصراحة عن بني إِسرائيل، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إِسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإِسلامي. وهكذا ننتهي إِلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإِن تحدّثت عن خصوصيات بني إِسرائيل، إِلاّ أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إِلى مستوى القاعدة الكلية، والسنَّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأُمم.

* * *

[407]

الآيات

إِنَّ هـذَا الْقُرءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـلِحـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً(9) وَأَنَّ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(10) وَيَدْعُ الإِْنَسـنُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِْنَسـنُ عَجُولا(11) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنآ ءَايَةَ الَّيلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَّبِّكُم وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنـهُ تَفْصِيلا(12)

التّفسير

أقصر الطرق للهداية والسعادة:

الآيات السابقة تحدثَّت عن بني إِسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإِلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدخرٌ ليوم القيامة.

وفي هذا المقطع مِن الآيات، إِنتقل الحديث إِلى القرآن الكريم، الكتاب

[408]

السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلاً: (إِنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).

«أقوم» صيغة تفضيل مُشتقة من «قيام» حيث يكون الإِنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما، لذلك فإِنَّ «القيام» كناية عن أفضل الصيغ التي يُنجز فيها الإِنسان الأعمال التي يُباشرها، أو يستعد لِمَباشرتها.

«الإِستقامة» مُشتقّة أيضاً مِن مادة «قيِّم» وهي بمعنى الإِعتدال والإِستواء والثبات.

وبما أنّ «أقوم» هي «أفعل تفضيل» بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامةً واعتدالا، فإِنَّ معنى الآية أعلاه، هو أنَّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الإِستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم.

من وجهة نظر العقائد والأفكار، يتمثل بالعقائد الواضحة، القابلة للهضم والإِدراك والفهم، والتي تكون أساساً للعمل; وتعبئة الطاقات الإِنسانية باتجاه الإِعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية مِن الخرافات والأوهام، وَهي التي تُوائم بين الإِنسان وعالم الوجود والطبيعة مِن حوله.

العقيدة الأقوم مِن هذه الزاوية، هي التي توافق بين الإِعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإِنسان والجميع نحو اللّه.

أمّا الأقوم مِن وجهة نظر القوانين الإِجتماعية والإِقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع; فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإِنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والإِتساق.

والأقوم مِن وجهة النظر العبادية والأخلاقية، هو كل ما يجعل الإِنسان في المركز الوسط بين الإِفراط والتفريط، ويجعلهُ في موقع الإِعتدال بين الإِسراف والبخل، بين الإِستضعاف والإِستكبار.

وأخيراً فإِنَّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما

[409]

يدفعها إِلى إِقامة العدل، والدعوة إِلى إِشاعة الإِنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.

نعم، إِنَّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود، وعلى كافة القضايا والصُعد.

ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة، وهي إِذا كانَ القرآن هو الأقوم; أي «أفعل تفضيل» فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والإِستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب، وإِنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضاً.

وإِزاء المفهوم الذي تطرحهُ هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إِلى إِثارة الحديث على النحو الآتي.

أوّلاً: إِذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أنَّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل الذي وِصلت البشرية بُمقتضاه إِلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن الرسالة الإِسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة، فإِنَّ القرآن الكريم يعبِّر تبعاً لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والإِستقامة الإِعتدال.

ثانياً: أمّا إِذا كانَ طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي جدّاً أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إِلينا مِن اللّه ذي العلم المطلق، هو الأقوم والأظهر عليها، لأنَّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر.

ثالثاً: أشرنا في غير مكان إِلى أن «أفعل تفضيل» لا يدلُّ دائماً على أنَّ الموضوع لابدّ وأن يكون طرفاً للمقايسة، كما في قوله تعالى: (أفمن يهدي إِلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إِلاّ أن يُهدى)(1).


1 ـ يونس، 35.

[410]

وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أنْ لا يفوتنا أن تعبير «أقوم» في الآية الآنفة يشير الى أنَّ الإِسلام هو آخر أديان السماء، وأنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء.

وكيفية ذلك، هو أنَّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل، تمثل أعلى درجات التفضيل، ولأنَّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إِليه; وطالما أنَّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون، فينتج أنَّ الإِسلام آخر الأديان، وأنَّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، لأنَّهُ ليسَ بعد صيغة تفضيل «أقوم» من درجة في التفضيل.

بعد ذلك تشير الآيات إِلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إِلى فئتين، فالأُولى يكون حالها كما يقول تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً).

أمّا الفئة الثّانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى: (وَأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليماً).

وإِذا كان استخدم «بشارة» واضح هُنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم مِن غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإِستهزاء، أو أنَّهُ بشارة للمؤمنين أيضاً تخبرهم عن حال غير المؤمنين(1).

ضمناً الآية تشير باختصار بليغ إِلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول: (أنّ لهم أجراً كبيراً) أمّا غير المؤمنين فإِنّ لهم بنفس صورة الإِيجاز القرآني البليغ (عذاباً أليماً) وهذا الإِختصار البليغ يطوي في كلا مجالَيْه صوراً تفصيلية مِن الثواب والعقاب.

أمّا لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إِيمانهم بالآخرة


1 ـ في نهاية الآية (138) مِن سورة النساء قلنا: إِنَّ «بشارة» مُشتقّة أصلا مِن «البشرة» بمعنى الوجه. والملاحظ أنَّ صحيفة الوجه وبشرته كالمرآة تعكس كل خبر إِذا كان ساراً أو سيئاً بشكل إِيحاءات معينة.

[411]

دون غيرها مِن الصفات والأعمال. في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أنَّ الإِيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإِنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب. ثمّ إِنَّ إِنكار القيامة يعتبر إِنكاراً لوجود اللّه تعالى، وإِلاّ كيف يستقيم للإِنسان أن يؤمن باللّه العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يُحاسب فيها الإِنسان على أعماله وينال حسابه العادل!؟

ثمّ إِنّ حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن الإِيمان باليوم الآخر.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إِلى احدى العلل المهمّة لعدم الإِيمان وتقول بأنّ عجلة الإِنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأُمور وإِحاطته بها تسوقه إِلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه بالشر وطلبه له!

تقول الآية: (ويدعُ الإِنسانُ بالشر دعائه بالخير).

لماذا؟: (وكان الإِنسان عجولا).

إِنَّ كلمة «دعا» هُنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإِنسان، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه، أو سعى إِليها بعمله وجهده وسلوكه.

إِنَّ استعجال الإِنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لِنفسه، تقوده إِلى النظرة السطحية للأُمور بحيثُ أنَّهُ لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المُضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغيَّر مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.

وهكذا ينتهي الإِنسان ـ نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة ـ إِلى أن يطلب من اللّه الشر، تماماً كما يطلب مِنُه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الإِضطراب

[412]

وفقدان الموازين هي أسوأ بلاء يصاب به الإِنسان ويحول بينهُ وبين السعادة الحقيقية.

ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم ـ بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم المضطربة ـ على حافة الخطر ومشارف الضلال، وهم يظنون أنّهم يسيرون نحو الأمن والإستقرار والهداية. إِنَّ مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو يفتخر بما هو فيه!!

إِنّ نتيجة العجلة والتسرُّع والإِندفاع الأهوج لن تكون أحسن مِن هذه العاقبة.

مِن هنا يتّضح ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنَّ معنى «دعا» لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإِنسان على لسانه، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها مِن جهد; وإِنّما المعنى يشمل محصلة الإِثنين معاً. وأمّا ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه.

أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات مِن اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي، فإِنَّ ذلك مِن قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإِمام الصادق(عليه السلام): «وأعرف طريق نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو اللّه بشيء عسى فيه هلاكك، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: (ويدع الإِنسان بالشر دعائه بالخير وكانَ الإِنسان عجولا).

مِن هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإِنسان إِلى الخير والسعادة، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر، وأن يتجنب الإِندفاع والعجلة والتسرُّع، ويدرس الموقف مِن جميع جوانبه، ويجانب الأحكام المتعجِّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة، وأن يستعين باللّه العزيز ويستمده القوة والعون.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل مِن هذا الشاهد مثالا على معرفة اللّه والتمعُّن بآياته، والمثال أيضاً يُفيد معنى

[413]

التأمُّل والهدوء ويدعو إِلى محاذرة التعجُّل والتسرُّع.

الآية تقول أوّلاً: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) ثمّ: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبصرة). وَلنا في ذلك هدفان: الأوّل: (لتبتغوا فضلا مِن ربّكم) حيثُ تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإِلهية، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والإِستقرار. والهدف الثّاني فهو: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) لكي لا تبقى شبهة لأحد (وكل شيء فصّلناه تفصيلا).

بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود مِن «آية الليل» و«آية النهار» وفيما إِذا كانَ ذلك كناية عن نفس الليل و النهار، أم أنَّ المقصود مِن «آية الليل» القمر، ومن «آية النهار» الشمس(1).

ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل، خصوصاً وأنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (وَجعلنا الليل والنهار آيتين) هو أنّ كل واحد مِنهما علامة على إِثبات وجود اللّه، أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار، الذي يكشف ما كان مستوراً بظلمة الليل.

وإِذا كانت آيات أُخرى في القرآن [آية (5) مِن سورة يونس] تفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إِلى سنين وأشهر، فليس ثمّة تنافي بين الآيتين، إِذ مِن الممكن أن تنتظم حياة الإِنسان وحسابهُ على أساس الليل والنهار، وعلى أساس الشمس والقمر مِن دون أي تناف بين الإِثنين.

في نهج البلاغة نقرأ للإِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قوله: «وجعل شمسها آية مُبصره لنهارها، وقمرها آية ممحوه مِن ليلها، وأجراهما في مَناقل مجراهما، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين الليل والنهار بهما، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما»(2).


1 ـ في الحالة الأُولى تكون الإِضافة «إِضافية بيانية» أما في الثّالثة فتكون الإِضافة «إِضافة إِختصاصية».

2 ـ نهج البلاغة، خطبة الأشباح، رقم (91).

[414]

إِنّ كلام الإِمام هنا لا يُنافي التّفسير الأوّل، لأنَّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر.

* * *

بحوث

أوّلاً: هل الإِنسان عجول ذاتاً؟

إِنَّ الإِنسان لا يوصف في القرآن بوصف «العجول» وَحسب، وإِنّما هناك أوصاف أُخرى أطلقها على الإِنسان مثل «ظلوم» و«جهول» و«كفور» و«هلوع» و«مغرور».

ولكن السؤال هنا، هو أنَّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإِنسان، فكيف إِذن نوائم بين الحالتين؟

بعبارة أُخرى: إِنّ الإِنسان مِن وجهة نظر الإِسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن اللّه، في الأرض، وهو مُعَلِّم الملائكة وأفضل منها، فكيف ـ إِذن ـ يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإِنسان في القرآن؟

إِنَّ الإِجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة، وهي أنَّ شخصية الإِنسان هي كما تقوم آنفاً من السمو والرفعة، ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته مِن قبل القادة الرّبانيين، وإِلاّ ففي غير هذه الصورة، فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال، ويغرق في الهوى والشهوات، ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.

لذلك إِذا تحقق الشرط السابق (تربية الإِنسان على يد القادة الإِلهيين) فإِنَّ الجوانب الإِيجابية في الإِنسان هي التي تظهر، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس

[415]

ذلك تظهر الصفات السلبية، لذلك نقرأ في الآيات 19 ـ 24 مِن سورة المعارج قوله تعالى: (إِنّ الإِنسان خُلق هلوعاً إِذا مسَّهُ الشر جزوعاً وإِذا مسَّهُ الخير منوعاً إِلاّ المصلين الذين همُ على صلاتهم دائمون). ويمكن للقاريء أن يعود إِلى تفسير الآية (12) مِن سورة يونس لأجل المزيد مِن التفاصيل حول الموضوع.

ثانياً: أضرار العجلة

إنَّ تعلق الإِنسان واندفاعه نحو موضوع معين، والتفكير السطحي المحدود، والهوى والإِضطراب، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إِزاء أمر ما، كُلّها عوامل للعجلة في الأعمال. ثمّ إِنَّ الإقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إِلى حقيقة الأمر، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إِلى الخسران والندامة!

وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ عجلة الإِنسان تقوده إِلى أن يطلب الشر لِنفسه ويسعى إِليه، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إِليه!

إِنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإِنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه، وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد مِنّا ثمّة ما يكفي لنتعلَّم دروس العجلة والتسرُّع مِن خلال النتائج المرّة التي جنيناها.

إِنَّ «التثبت» و«التأني» هي الصفات التي تقابل العجلة، ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله(عليه السلام): «مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة»(2).


1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 129.

2 ـ المصدر السابق.

[416]

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إِنَّ الأناة مِن اللّه والعجلة مِن الشيطان»(1).

طبعاً هناك باب في الرّوايات الإِسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّ اللّه يحب مِن الخير ما يعجل»(2).

إِنَّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة، والمقصود مِنها هي السرعة في مقابل الإِهمال والتأخير غير الموَّجَّه، والإِتكاء إِلى الأعذار والتسويف باليوم وغداً، التي غالباً ما تؤدي إِلى ظهور المشاكل في الأعمال، وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «مَن همَّ بشيء مِن الخير فليعجله فإِنَّ كل شيء فيه تأخير فإِنَّ للشيطان فيه نظرة»(3).

لذلك نقول: نعم للجدية والسرعة في الأعمال، ولكن لا .. للعجلة والتسرُّع.

وبعبارة أُخرى: إِنَّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في الرّوايات «سارعوا في عمل الخير» أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

ثالثاً: دور العدد والحساب في حياة الإِنسان:

كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب، ولا نظام في هذا العالم بدون حساب، وطبيعي أنَّ الإِنسان الذي هو جزء مِن هذه المجموعة لا يستطيع العيش مِن دون حساب وكتاب.

لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار


1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 129

(1) و (2) أصول الكافي، ج 1، كتاب الإِيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.

3 ـ المصدر السابق.

[417]

واحدة مِن نعم اللّه تعالى، لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإِنسان. إِنَّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للإِتساق والنظم يؤدي إِلى دمار الحياة وفنائها. والظريف أنَّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار: الأُولى: ابتغاء فضل اللّه والتي تعني التكُّسب والعمل المفيد المثمر. والثّانية: معرفة عدد السنين والحساب.

وقد يكون الهدف مِن ذكر الإِثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إِلى أنَّ (إِبتغاء فضل اللّه) لا يتم بدون الإِستفادة مِن (الحساب والكتاب) وقد لا يكون هذا المعنى واضحاً في العصور الماضية، أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس.

إِنَّ عالمنا اليوم، هو عالم الأرقام والأعداد والإِحصاء; فإِلى جانب كل مُؤسسة ومنظمة إِقتصادية أو إِجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية، ثمّة مؤسسة إِحصائية.

وَهكذا نستفيد من الإِشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان، بل كُلّما مرَّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه(1).

* * *


1 ـ لنا كلام مفصّل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (5) مِن سورة يونس.

[418]

الآيات

وَكُلَّ إِنسـن أَلْزَمْنـهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَومَ الْقِيـمَةِ كِتَـباً يَلْقـَهُ مَنْشُوراً(13) اقْرَأْ كِتـبَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَومَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا(15)