![]() |
![]() |
![]() |
الشيطان من طرف آخر).
ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إِبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).
فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر اللّه إِلى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبيان سعة رحمة اللّه للناس مع تبيان أليم عذابه، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.
فتقول أوّلاً: (ونبئهم عن ضيف إِبراهيم).
فكلمة «ضيف» جاءت بصيغة المفرد، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إِلى أن «ضيف» تستعمل مفرداً وجمعاً.
وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إِبراهيم (عليه السلام) بوجوه خالية من الإِبتسامة، فابتدأوه بالسلام (إِذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً).
فقام إِبراهيم (عليه السلام) بوظيفته (إِكرام الضيف)، فهيأ لهم طعاماً ووضعه أمامهم، إِلاّ أنّهم لم يدنوا إِليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبّر عمّا جال في خاطره (قال إِنّا منكم وجلون)(1).
وكان مصدر خوف إِبراهيم (عليه السلام) ممّا كان عليه متعارفاً في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه، فهو عندهم إِشارة إِلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.
ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى: (قالوا لا توجل إِنّا نبشرك بغلام عليم).
مَنْ هو المقصود بالغلام العليم؟
يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إِسحاق)، حيث نقرأ
1 ـ إِنّ الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إِليه، إِلاّ أنَّ ذلك ورد في الآية (69) و(70) من سورة هود فليراجع.
في سورة هود، الآية (71) أن امرأة إِبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشرته الملائكة، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقراً فبشروها أيضاً (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإِسحاق).
وكما هو معروف فإِنّ سارة، هي أم إِسحاق، ولإِبراهيم (عليه السلام) ولد آخر أكبر من إِسحاق واسمه (إِسماعيل) من (هاجر) ـ الأمَة التي تزوجها إِبراهيم.
كان إِبراهيم يعلم جيداً أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية، (ومع أن كل شيء مقدوراً للّه عزَّ وجلّ)، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب: (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون).. هل البشارة منكم أم من اللّه عزَّوجلّ وبأمره، أجيبوني كي أزداد اطمئناناً؟
إِنّ تعبير «مسّني الكبر» إِشارة الى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.
ويمكن لأحد أن يشكل: بأنّ إِبراهيم (عليه السلام) قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إِسماعيل (عليه السلام) وهو في الكبر.. فَلِمَ التعجب من تكرار ذلك؟
والجواب: أوّلاً: كان بين ولادة إِسماعيل وإِسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الإحتمال.
وثانياً: إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب، وإِذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أُخرى.
فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع، وإِذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(1).
وعلى أية حال.. لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إِبراهيم حيث (قالوا بشرناك بالحق) فهي بشارة من اللّه وبأمره، فهي حقُّ مُسَلَّمٌ به.
1 ـ يذكر بعض المفسّرين أن عمر إِبراهيم عليه السلام عند ولادة ابنه إِسماعيل كان (99) عاماً، وعند ولادة إِسحاق كان عمره (112) عاماً.
وتأكيداً للأمر ودفعاً لأي احتمال في غلبة اليأس على إِبراهيم، قالت الملائكة: (فلا تكن من القانطين).
لكنّ إِبراهيم (عليه السلام) طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة اللّه إِليه، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة، (قال ومن يقنط من رحمة ربّه إِلاّ الضّالون).
إِنّ الضالين هم الذين لا يعرفون اللّه وقدرته المطلقة، اللّه الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولداً سوياً، اللّه الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإِذنه، اللّه الذي جعل النّار برداً وسلاماً.. هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!
وراود إِبراهيم (عليه السلام) ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إِلاّ مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية، ولهذا (قال فما خطبكم أيّها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إِلى قوم مجرمين).
ومع علم الملائكة بإِحساس إِبراهيم (عليه السلام) المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله (إِلاّ آل لوط إِنّا لمنجّوهم أجمعين).
إِنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين، ولعل إِبراهيم كان مطلعاً على ذلك، ولذا أضافوا قائلين: (إِلاّ امرأته قدّرنا أنّها لمن الغابرين).
و«قدّرنا» إِشارة إِلى المهمّة التي كُلفوا بها من اللّه عزَّ وجلّ.
هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إِبراهيم (عليه السلام) وتبشيره بإِسحاق (عليه السلام)وحديثهم معه بشأن قوم لوط (عليه السلام) مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة هود من هذا التّفسير.
* * *
فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوط الْمُرْسَلُونَ(61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ(62) قَالوا بَلْ جِئْنْكَ بِما كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ(63) وَأَتَيْنكَ بِالْحَقِّ وَإِنّا لَصدِقُونَ(64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْع مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُم أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65)وَقَضَيْنآ إِلَيْهِ ذلِكَ الأَْمْرَ أَنّ دَابِرَ هؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ(66)وَجآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67) قالَ إِنَّ هَؤُلآَءَ ضَيْفِى فَلا تَفْضَحُونِ(68) وَاتَّقَوُا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ(69) قَالوُا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعلَمِينَ(70) قالَ هَؤُلآَءِ بَناتِى إِن كُنْتُمْ فعِلِينَ(71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِم يَعْمَهُونَ(72) فَأَخَذَتْهُمُ الْصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73)فَجَعَلْنا علِيَهَا سَافِلَها وَأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيل(73)إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيت لِّلْمُتَوَسِّمِينَ(75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيل مُّقِيم(76) إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ(77)
طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إِبراهيم(عليه السلام)، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إِبراهيم حتى لقائهم بلوط(عليه السلام).
فنقرأ أوّلاً (فلما جاء آل لوط المرسلون).
فالتفت إِليهم لوط (قال إِنّكم قوم منكرون).
يقول المفسّرون: قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب، وهو يعلم ما كان متفشياً بين قومه من الإِنحراف الجنسي.. فمن جهة، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إِكرامهم واحترامهم، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوط (عليه السلام) مريض وملوث.
ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود، أيْ إِنّ هذا الموضوع كان صعباً على نبيّ اللّه وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوماً عصيباً!
ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول: (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون)، أيْ إِنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيراً، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.
ثمّ أكّدوا له قائلين: (وأتيناك بالحق)، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.
ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد: (وإِنّا لصادقون).
فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبداً.
ثمّ قال الملائكة للوط: أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو
ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).
(فأسر بأهلك بقطع من الليل) وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظاً ورقيباً لهم (واتّبع أدبارهم) وعلى أن يكون نظركم إِلى الأمام (ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون)، أي إِلى أرض الشام، أو أيِّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.
ثمّ ينتقل مجرى الحديث حين يقول تعالى: (وقضينا إِليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين)، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.
ومن الملفت للنظر، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إِلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إِليه فيما بعد ـ فيقول: (وجاء أهل المدينة يستبشرون) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!
إِنّ تعبير (أهل المدينة) ليوحي إِلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوط(عليه السلام)كانوا جمعاً كبيراً، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها، وخصوصاً قوله (يستبشرون) التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات، وإِذا ما ابتلي به إِنسان (والعياذ باللّه) فإِنّه سوف يحاول كتمه وإِخفاءه، حيث أن الإِتيان به مدعاة للتحقير والإِزدراء من قبل الآخرين.. أمّا قوم لوط، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنيء الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!
وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّاً شديداً لأجل ضيوفه، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا (قال إِنّ هؤلاء ضيفي فلا تفضحون).
أي.. إِن كنتم لا تؤمنون باللّه ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل
المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة، أيِّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإِنسانية، فإِنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم!
ثمّ أضاف قائلا: (واتقوا اللّه ولا تخزون)(1) أمام ضيفي.
ولكنّهم من الوقاحة والإِصرار على الإِنحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطاً ويحاسبونه، وكأنّه ارتكب جرماً في استضافته لهؤلاء القوم (قالوا أوَ لم ننهك عن العالمين)، باستضافتهم! فلماذا خالفت أمرنا؟!
وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة، وكانت مدينتهم على طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لاينزل عندهم أحد من القوافل المارة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.
وكما يبدو أنّ لوطاً كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفاً عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إِليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحداً مستقبلا.
عليه، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إِشارة إِلى عابري السبيل، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.
وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إِن كنتم تريدون إِشباع غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الإِنحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج) (قال هؤلاء بناتي إِن كنتم فاعلين).
1 ـ نرى في هذه الآيات أن لوطاً يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألاّ يخزوه تارة أُخرى، الفضيحة لغة بمعنى: إِنكشاف شيء، وظهور العيب أيضاً (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).
أمّا الخزي: فهو بمعنى الإِبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم: لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطاً الذي كان يهدف إِلى إِلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم: انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إِنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الإِنحراف.
وذهب البعض إِلى أنّ المقصود من (هؤلاء بناتي) كل بنات المدينة، باعتباره أباً روحياً للجميع. (إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).
وليس نجافِ أنّ لوطاً ما كان ليزوج بناته من أُولئك المشركين الضالين، ولكنّه أراد أن يقول لهم: تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.
لكنّ الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الإِنحراف الغرور والعناد.. التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإِنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوط (عليه السلام)، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم، ولكنّ أنّى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إِلى الضيوف.
وهنا يخاطب اللّه تعالى نبيّه قائلا: (لعمرك إنّهم في سكرتهم يعمهون).
وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط: لا تخف إنّهم لن يصلوا إِليك.
وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم).
وفي بعض الرّوايات: إِنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعاً.
وبعد ذلك يبلغ كلام اللّه تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله: (فأخذتهم الصيحة مشرقين) أىْ صوت شديد عند شروق الشمس.
ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب، والمهم أنّه كان صوتاً مرعباً أسقط الجميع مغمياً عليهم أو ميتين.
والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إِذا ما تعدت حدّاً معيناً فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائض الإِنسان، وإِذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإِنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية، وهذا ما تفعله المتفجرات.
ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضاً (فجعلنا عاليها سافلها).
وزيد في التنكيل بهم (وأمطرنا عليهم حجازة من سجيل).
إِنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف مَنْ لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض، وربّما لأجل محو أجسادهم وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!
ثمّ إِنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبه، قلب المدينة، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإِصرارهم على إِدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.
وهنا يخلص القرآن الكريم إِلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول: (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين)(1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إِشارة حقيقة ومن كل تنبيه درساً.
ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماماً، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة (وأنّها لبسبيل مقيم).
1 ـ متوسم: من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أىْ ترك أثراً، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إِلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).
وإِن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إِلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا، وعودوا إِلى اللّه، واسلكوا طريق التوبة، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.
ثمّ تدعو الآية المؤمنين إِلى التفكر ملياً في هذه القصة واستخلاص العبر منها: (إِنّ في ذلك لآية للمؤمنين).
فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عندما يطالع خبر هذه الواقعة؟!
بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير، فبحثنا في معنى «سجيل»، ولماذا أُمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة، ولماذا قلبت مدينتهم، ولماذا كان العذاب صباحاً، ولماذا أُمر لوط وأهله أنْ لا يلتفتوا إِلى الوراء، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم، بالإِضافة إِلى بحث في أخلاق قوم لوط... وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإِشارات المتعلقة بهذه القصّة.
* * *
«القطع» بمعنى سواد الليل. يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان): القطع كأنّه جمع قطعة، ومعناه: سر بأهلك بعدما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.
ولكنّ الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة «قطع» بمعنى قطعة على صيغة المفرد، مع أن كثيراً من المفسّرين فسّروها بأواخر الليل وعند السحر، ولعل تفسيرهم يعود إِلى الآيات الأُخرى التي تحدد هذا الوقت في قصّة آل لوط
(نجيناهم بسحر)(1).
أيْ إنّهم خرجوا عندما كان عبّاد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في الخروج بسلام.
ثمّ إِنّ نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس، ولعل انتخاب هذا الوقت كان لإِعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم، عسى أن يتفكروا في أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.
ويستفاد من بعض الرّوايات.. أنّ بعضاً منهم عندما كانوا في طريق عودتهم إِلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحداً من آل لوط حياً عند الصباح، ولهذا نزل عليهم العذاب الإِلهية في ذلك الوقت(2).
ذكرنا أنّ الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إِلى المكان الذي عين لهم، إِلاّ أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي سيذهبون إِليها، لذلك عرض المفسّرون جملة آراء بهذا الخصوص.
فمنهم مَنْ قال: أُمروا بالسير نحو الشام لأنّ محيطها أكثر طهارة.
وقال بعض آخر: إِنّ الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إِليها.
واكتفى تفسير الميزان بعبارة: كان لديهم نوع من الهدية الإِلهية والدلالة العلمية في سلوك طريقهم.
1 ـ سورة القمر، 34.
2 ـ نور الثقلين، ج2، ص358.
لاحظنا تعبير (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) و (إِنّ في ذلك لآية للمؤمنين)في الآيات الحاكية عن قصّة قوم لوط، والجمع بين التعبيرين يعطينا: أنّ المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذكي ذو الفراسة والنباهة.
وفي رواية عن الإُمام الباقر(عليه السلام) عندما سئل عن تفسير قوله تعالى: (إِنّ في ذلك لآيات للمتوسمين) قال: هم الأُمّة، ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه عزَّ وجلّ»(1).
وفي رواية أُخرى عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هم الأئمّة»(2).
وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: «كان رسول اللّه المتوسم، وأنا من بعده، والأئمّة من ذريتي المتوسمون»(3).
إِن سكر الخمر معروف، وثمة سكر أشد منه آثاراً كسكر المنصب وسكر الشهوة، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن اللّه يقسم بروح نبيّه (لعمرك إنّه لفي سكرتهم يعمهون)، ولهذا فإنّهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة، وبلغ بهم الحال أنْ يردوا ما عرض عليهم نبيّهم(عليهم السلام) أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!
والذي نستفيده من موقف لوط (عليه السلام) هو أنّ مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه فقط، بل لابدّ من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البديلة، لينتقل الضال أو المضلل به من جادة الفساد إِلى جادة الصلاح، فلابد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة
1 ـ نور الثقلين، ج3، ص23.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.
ومن غريب ما نطالعه في بعض الرّوايات.. أنّ لوطاً (هذا النّبي الجليل) قد قضى بين قومه ثلاثين عاماً وهو يدعوهم إِلى الهدى ويحذرهم من مغبة الإِنغماس في متاهات الضلال، ومع ذلك لم يؤمن به إِلاّ أهل بيته (ما عدا زوجته)(1).
ما أعظم ثباته(عليه السلام)! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أيُّ إِنسان العيش معهم حتى ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!
ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الذاريات: (فأخرجنا مَنْ كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)؟
فيتّضح لنا.. أنّ العقاب الإِلهي لا يكون عشوائياً، بل لا يشمل إِلاّ المستحقين له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه اللّه تعالى من بينهم.
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج3، ص382.
وَإِن كَانَ أَصْحـبُ الأَْيْكَةِ لَظَـلِمِينَ(78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَام مُّبين(79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحـبُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80) وَءَاتَيْنهُمْ ءَايتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(81)وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ءَامِنِينَ(82) فَأَخَذَتْهُمُ الْصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83) فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(84)
يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأُمم السالفة، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.
يقول أوّلاً: (وإِنْ كان أصحاب الأيكة لظالمين)(1).
(فانتقمنا منهم) وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم..
1 ـ إِنّ كلمة «إِنْ» في هذه الآية ليست شرطية وإِنّما هي مخففة، فيكون تقدير الكلام (إِنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).
وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط ـ المتقدمة قصّتهم ـ على طريقكم (وإِنّهما لبإِمام مبين) فانظروا إِليها وإِلى عاقبة أمرهم، واعتبروا يا أُولي الألباب.
قال جمع من المفسّرين، بالإِضافة إِلى أرباب اللغة: «الأيكة»: هي الأشجار المتشابكة مع بعضها، و«أصحاب الأيكة»: هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأُصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الإحتكار والفساد في الأرض.
وقد دعاهم شعيب(عليه السلام) إِلى التوحيد ونهج طريق الحق، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هم عليها.
ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب اللّه المهلك.
فبعد أن يئس من إِصلاحهم أصابهم حرٌّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها، ليتفيؤوا من حر ذلك اليوم، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.
ولعل استعمال القرآن لعبارة «أصحاب الأيكة» في تسميتهم، إِشارة إِلى النعم التي أعطاها اللّه لهم، ولكنّهم استبدلوا الشكر بالكفر، فأقاموا صرح الظلم والإِستبداد، فحقّت عليهم كلمة اللّه فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.
وورد ذكرهم مفصلا ـ مع التصريح باسم شعيب ـ في الآيات (176) حتى (190) من سورة الشعراء.
وينبغي الإِلتفات إلى أنّ عبارة (فانتقمنا منهم) يمكن أن تشمل قوم لوط وأصحاب الأيكة معاً، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة (وإِنّهما لبإِمام مبين).
والمشهور عند المفسّرين أنّ الآية تشير إِلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب
الأيكة.
وكلمة «إِمام» بمعنى طريق وجادة، لأنّها من مادة. «أمَّ»، بمعنى القصد، حيث أنّ الإِنسان حينما يسير في طريق ما إِنّما يسير لأجل الوصول إِلى غاية معينة أو قصد معين.
واحتمل البعض أنّ الإِمام المبين هو اللوح المحفوظ، بدلالة الآية (12) من سورة يس.
ولكن هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ القرآن هنا في صدد إِعطاء درس العبرة للإِعتبار، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيداً عن التأثير في اعتبار الناس وتذكيرهم، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.
فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء العاقبة، ربّما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرّة، وعند أرض أصحاب الأيكة مرّة أُخرى.. فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار، بعدما عرفوا أو استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وضلالهم.
* * *
أمّا «أصحاب الحجر» فهم قومٌ عُصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث اللّه إِليهم نبيّه صالح(عليه السلام) لهدايتهم.
ويقول القرآن عنهم: (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين)!
ولكنْ أين تقع هذه البلدة؟
يذكر بعض المفسّرين والمؤرخين: أنّها كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم ـ تقريباً.
ويذكرون أنّها كانت إِحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية، ولها من الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراته لكونها إِحدى المدن التجارية.
وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجرى).
ونستشف من بعض الرّوايات أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قاد جيشاً لدفع جيش الروم في السنة التاسعة للهجرة، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان، فمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هنا نزل عذاب اللّه على قوم ثمود(1).
ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (105 و 123 و 160) من سورة الشعراء) بالإِضافة إلى أقوام أُخر كذبت الأنبياء(عليهم السلام)، والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبيٌّ واحد لا أكثر.
ولعل مجيء هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين)، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.
واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأُمّة الواحدة، وذكر اسم أحدهم لأنّه أكثر شهرة.
وكما يبدو فإِنّ التّفسير الأوّل أقرب إِلى الصواب منه إِلى الثّاني.
ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر»: (وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين) وموقف الأعراض المشار إِليه ـ كما يبدو ـ هو عدم استعدادهم لسماع الآيات والتفكر بها.
وتشير الآية إِلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أُمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم (وكانواينحتون من الجبال بيوتاً آمنين).
1 ـ أعلام القرآن، الخزائلي، الصفحة 292.
وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية، بالإِضافة إِلى ما توصلوا إِليه من مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.
والعجيب من أمر الإِنسان، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية، ولا يعير أيَّ اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأنْ لا يكلف نفسه بسماع آيات اللّه والتفكر بها!!.
وأيُّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أنْ يطبق عليهم القانون الإِلهي الموعدين به (البقاء للأصلاح) وعدم إِعطاء حق إِدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين.. فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك، ولهذا يقول القرآن: (فأخذتهم الصيحة مصبحين).
وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من القّوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.
والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثّالثة عشر من سورة فصلت: (فإِنّ أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).
فالعذاب الإِلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة، ولا البيوت المحصنة، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون).
وجاءت الآيات (141 إِلى 158) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر، وهو ما سيأتي في محله إِن شاء اللّه تعالى.
* * *
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـوتِ وَالأَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لأََتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّـقُ الْعَلِيمُ(86) وَلَقَدْ ءَاتَيْنكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ(87)لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ(91)
يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة ـ كقوم لوط وقوم شعيب وصالح ـ إِلى مسألة التوحيد والمعاد، لأنّ سبب ضلال الإِنسان يعود إِلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إِليهما معاً في آية واحدة (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إِلاّ بالحق). فنظامها محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حقٌّ.
![]() |
![]() |
![]() |