فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

6 ـ بالإِضافة إِلى كل ذلك فالقرآن طُرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إِلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفاً قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل، أو معياراً دقيقاً لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف:

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أُسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إِليه من معنى، وأُخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إِلى ثلاثة أقسام:

1 ـ الرّوايات القائلة: إِنّ عليّاً(عليه السلام) شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه، فقال علي (عليه السلام): إِنّكم لن تروه بعد الآن أبداً.

وبنظرة فاحصة إِلى تلك الرّوايات نصل إِلى أن القرآن الذي كان عند علي


1 ـ حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، رواه عن النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جمع من الصحابة مثل: أبو سعيد الخدري، زيد بن أرقم، زيد بن ثابت، أبو هريرة، حذيفة بن أسيد، جابر بن عبد اللّه الإنصاري، عبد اللّه حنطب، عبد بن حميد، جبير بن مطعم، ضمرّة الأسلمي، أبوذر الغفاري، أبو رافع، أم سلمة وغيرهم.

[28]

(عليه السلام) لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أُمور:

الأوّل: أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني: تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث: تضمن تفسير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للآيات بالإِضافة إِلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس إِلاّ عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إِليه: (التّفسير) و(التأويل) و(سبب النّزول) و(تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أُخرى، كان قرآناً مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سُليم بن قيس: (إِنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته، وأقبل على القرآن، فلما جمعه كله، وكتابه بيده، وتأويله الناسخ والمنسوخ، بعث إِليه أن أخرج فبايع، فبعث إِليه إِني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إِلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(1).

2 ـ الرّوايات المشيرة إِلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب: لفظي، معنوي، وعملي.

فالتحريف اللفظي: هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإِسلام ـ وننكره إِنكاراً قاطعاً).

والتحريف المعنوي: هو تفسير الآية خلافاً لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي: فهو العمل على خلاف المقتضى.

ففي تفسير علي بن إِبراهيم عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية (يوم


1 ـ بحار الأنوار، ج92، ص41.

[29]

تبيض وجوه وتسود وجوه) قال رسول اللّه صلّى عليه وآله وسلّم: «ترد عليّ أُمتي يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الأمة، فأسألهم: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا...»(1).

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

3 ـ الرّوايات المختلقة:

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم، وتبعهم الجهلة، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(2)، وقد استدل العلاّمة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان: فاسد المذهب، لا يعتمد عليه، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم: إنّه من أهل الغلو، منحرف، معروف بالتقول بالتناسخ، وكذاب، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف): إِنّ الإِمام الجواد(عليه السلام) وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري، إِلاّ أنّ أكثرها وأهمها تعود إِليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى، وينكرها كل ذي لب لبيب، وعلى سبيل المثال ما جاء في إِحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء (وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) أنّه: قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!


1 ـ تفسير البرهان، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.

2 ـ أورد هذا الإِحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

[30]

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطاً تاماً، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إِلى ذلك، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريباً، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إِليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أوَلَمْ يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إِذن.. فكيف يحتمل إِسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إِليه أحد، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إِلاّ أن نقول: إِنّ كذبة بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إِثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إِليه آنفاً.

ولابدّ من الإِشارة إِلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل)، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مراراً: إِنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية، إِنّما ألفته للبحث والمناقشة، وأشرت فيه إِلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أنْ أُصرح، وكان من الأفضل أن أسمّيه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني: هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزناً لما ورد في مضامين الأخبار، ويراها أخبار آحاد لابدّ أن تُضرب عرض الحائط، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إِلى أستاذنا إِلاّ مَنْ هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

[31]

وأخيراً.. فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إِلاّ أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إِسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيراً من الآيات القرآنية، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة، أن نقطة واحدة لو غُيِّرَتْ في القرآن فسيعيدها إِلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم (يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إِلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)(1).

* * *


1 ـ التوبة، 32.

[32]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأَْوَّلِينَ(10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ رَّسُول إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الُْمجْرِمِينَ(12) لاَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَْوَّلِينَ(13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ(15)

التّفسير

العناد والتعصب:

تواسي الآياتُ قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلاً: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين).

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة (وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزؤن).

ذلك الإستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة:

[33]

ـ مرةً، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأُخرى، يحاولون بالإِستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللّه عزِّوجلّ.

ـ وتارةً، يأخذهم الإِستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد، لأنّ يستهزؤا.

ـ وأُخرى، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته.

ـ وقد يكون الإستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة، وقيمة الإنسان عندهم من خلال: لباسه الأنيق، مركبه الفاره، بيته الفخم، وحياته المحفوفة بالزخارف وإِذا نهض بدعوة الحق إِنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئاً، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيراً، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضاً لكل شهواتهم الدنيوية، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها، فليجؤون للإِستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإِظهار المعجزات، ترى المتعصبين المستهزئين (لا يؤمنون به) و هو ليس بجديد (وقد خلت سنّة الأولين).

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إِلى أنّهم

[34]

لا يؤمنون حتى (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون) ومع ذلك (لقالوا إِنّما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).

عجباً، أن يصل الإِنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إِن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع، وتمنعهما من إِدراك الحقائق، وإذا لم يتمكن الإِنسان من رفع تلك الحجب وإِزالة الموانع، فإِنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معاً، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأُولى، ولكن اذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة اخلاقية، فلا يمكن ازالتها بسهولة، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

1 ـ (شيع) جمع (شيعة)، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجاً مشتركاً.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع: الشياع الإنتشار والتقوية، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى، وشاع القوم انتشروا وكثروا، وشيعت النّار بالحطب قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإِنسان.

أمّا العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلاناً على أمره أي تابعه عليه، ومنه شيعة علي (عليه السلام) وهم الذين تابعوه على أمره ودانوا بإِمامته، وفي حديث أم سلمة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إِشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال.. فالشياع بمعنى الإِنتشار والتقوية، أو المشايعة بمعنى

[35]

المتابعة، كلاهما دليل على وجود نوع من الإِتحاد والإِرتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و(التشيع).

وإِطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياء عليهم السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإِن كان لأهل الضلال هذا الإتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هديه متكاتفين ومتآزرين؟

2 ـ مرجع الضمير في «نسلكه»:

من لطف الباري جلَّ شأنه أنْ يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى، عسى أن تستقر في قلوبهم، ولكّن عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سبباً لخروجها من تلك الأجواف النتنة، فتبقى قلوباً غير متأثرة، شبيهاً بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إِلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إِلى «الذكر» أيْ القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة، وكذلك حال الضمير في (لا يؤمنون به) يعود إِليه أيضاً، أيْ: إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين 200 و 201.

وذهب بعض المفسّرين إِلى أن ضمير «نسلكه» يعود إِلى الإِستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها، فيكون المعنى: إنّا ندخل الإستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجةً لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول: إنّه يُذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في اداء وظيفته بايصال صوته الى أسماع الناس، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

[36]

يوصل صوت الحق إِلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أُخرى، ينبغي الإِستفادة من جميع الوسائل.. السمعية والبصرية، البرامج العملية، الأدبُ ـ شعراً وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية، والحجة تامة على مَنْ ظلم وعاند.

3 ـ سُنّة الأولين:

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإِبعادهم عن أولياء اللّه لا تختص بزمان ومكان معينين، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الاعداء.

ولا نسمح لليأس من أنْ يدخل قلوبنا، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلاّ مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإِيمان.

وإذا ما تصورنا يوماً أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء، فإنّنا في خطأ كبير، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة، وما علينا إِلاّ أن نستوعب مسير خط الأنبياء(عليهم السلام) في مواجهاتهم لأعداء اللّه، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقاً في دعوتنا.

4 ـ تفسير (فظلوا فيه يعرجون):

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويراً لحال المعاندين، فلو أنّ باباً من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله، لقالوا: سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا: الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علماً بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

[37]

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إِلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إِلى الملائكة، فيكون المعنى: أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأُمّ أعينهم لما آمنوا أيضاً.

ولكن إِضافة لعدم انسجام هذا الإِحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين، أن ذكر الملائكة إِنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إِلى الملائكة بعيد جدّاً) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لايستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مراراً في ساعات النهار.

5 ـ معنى عبارة (سكرت أبصارنا).

جملة «سُكّرت» من مادة (سكر) أي: التغطية.

ويراد بها: أنّ الكافرين المعاندين يقولون: قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات، وإِذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إِلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول: (بل نحن قوم مسحورون)، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر، لكنّهم ربما يشيرون إِلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الانسان ويفقد معه الإِحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يُصَعَّد به إِلى الأعلى أو يُنَزَّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية: لو أخذنا المشركين إِلى أقطار السماوات لقالوا أوّلاً: إنّنا أصبنا بالشعوذة، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها: إِنّنا مسحورون!

* * *

[38]

الآيات

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمآءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّـها لِلنَّـظِرِينَ(16)وَحَفِظْنَـهَا مِن كُلِّ شَيْطَـن رَّجِيم(17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)

التّفسير

تشير الآيات إِلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة وتوحيد اللّه، وبسياقها جاءت تكملةً لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى: (ولقد جعلنا في السماء بروجاً).

«البروج»: جمع «برج» ويعني «الظهور»، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية: هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إِلى الذهن: لو نظرنا إِلى الشمس والقمر بإِمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية: مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول: إنّ الشمس في برج الحمل(1) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو


1 ـ الحمل: مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريباً. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

[39]

العقرب أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسِّم لعالم وجودنا)، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إِنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم، وكلما أمعنا النظر في خلق اللّه ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف: (زيّناها للناظرين)(1).

انظروا لاحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة، وأُخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إِليها، ويُخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد.. إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألِفَها البعض على أنّها عادية نتيجةً لتكرار المشاهدة، ومع ذلك فلها جذبٌ خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع، يضيف إِلى سحرها وجمالها رونقاً جديداً.

وتراها خجلةً، لا تقوى على أن ترفع رأسها إِلاّ بعد غروب الشمس، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى، وكأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار.. وما إِن يحل الطلوع حتى نراها تفر فراراً لَتختفي.


1 ـ ضمير «زيناها» يعود إِلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

[40]

ومضافاً الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إِليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إِلى صناعة المرقبات (التلسكوبات)، إِلاّ للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إِلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين).

الآية المذكورة، من الآيات التي أُشبعت شرحاً وتفسيراً من قبل المفسّرين، وكلٌ منهم قد نحى منحىً خاصاً في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في سورة الجن الآية (9).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلةً لم يُسْعَفوا بالإِجابة عنها، فكان لزاماً علينا في باديء الأمر أن نلقي نظرة إِلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، ومن ثمّ نعرج إِلى ما نراه راجحاً من هذه الآراء:

1 ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإِجمالي ولم يغوصوا إِلى كثير من التفاصيل، ولم يعيروا أهميةً لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إِدراكها، وما علينا إِلاّ أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول: وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟..

كل هذا غيب من غيب اللّه لا سبيل لنا إِليه إِلاّ من خلال النصوص، ولا جدوى في الخوض فيه، لأنّه لا يزيد شيئاً في العقيدة ولا يثمر إِلاّ انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة، ثمّ

[41]

لا يضيف إِليه إِدراكاً جديداً لحقيقة جديدة(1).

وينبغي التنويه هنا إِلى أنّ القرآن كتابٌ سماوي جاء لتوجيه الإِنسان إِلى الحق، وهو كتابُ حياة وتربية، فإِن كان فيه ما لا يخص الحياة الإِنسانية فمن الأُولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني، وكلُّ ما فيه دروس لنا ومنهجٌ قويم للحياة.

والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمرٌ مرفوض.. أوَ ليس القرآن كتاب نور، وكتاباً مبيناً؟! أوَ لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف إِذن.. لا يهمنا فهم بعض آياته؟!

وبكلمة: فإنّ هذا التّفسير مرفوض.

2 ـ يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصاً القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.

فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لا حتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).

والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إِلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنّه يُمنع من الوصول إِلى هدفه برميه بالشهب(2).


1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج5، ص 396.

2 ـ ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتماداً على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإِجابة على تلك التساؤلات، ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.

[42]

3 ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في (تفسير الميزان) والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إِلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال، أو ما يسمّى بـ (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة:

ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إِلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار، إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها، وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.

ويحتمل ـ واللّه العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس، وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت (43): (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون)، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى، نسبته إِلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إِلى الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(1).

ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إِنّ العلماء المحتالين


1 ـ تفسير الميزان، ج17، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).

[43]

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق، أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه(1)؟!

ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبةٌ أبصارهم، لا يسمعون إِلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(2)، وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً.

ج ـ وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إِلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض


1 ـ تفسير الجواهر، ج8، ص11.

2 ـ تفسير الجواهر، ج18، ص10.

[44]

الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل إِلى عالم أعلى منها، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.

د ـ وقال بعض آخر: أظهرت الإِكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة، وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكنّ الجن تسعى للإِستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إِلى أهل الأرض(1).

كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.

نتيجة البحث:

طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث لابدّ من ذكر بعض الملاحظات:

1 ـ أشار القرآن الكريم بكلمة «السماء» إِلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إِليها تارة، وإِلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أُخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).

فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من اللّه عزَّ


1 ـ القرآن على مر العصور، ع . نوفل.

[45]

وجلّ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر (إِليه يصعد الحكم الطيب والعمل الصالح يرفعه).

وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك، بل المراد هو الإِرتفاع إِلى مقام القرب الإِلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.

والمقصود من تعبير «أنزل» و«نزل» في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإِلهية المقدسة على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إِبراهيم (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّة عليهم السلام هم الفروع الأصغر(1).

وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إِلى السماء».

لا ريب أنّ «السماء» المستعملة هنا ليست السماء المُشَاهَدَة.

نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.

2 ـ و«النجوم» كذلك، بمفهومها المادي.. هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي.. أُولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.

فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإِنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها


1 ـ راجع تفسير البرهان، ج2، ص310.

[46]

ونيل سعادتها بنور أُولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.

وفي الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم»(1) وهو إِشارة جلية لهذا المعنى.

كما نقرأ في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)(2).. إنّ الإِمام (عليه السلام) قال: «النجوم آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم»(3).