![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ الميزان، ج 1، ص 178.
على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية (ربِّ ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق). ثمّ الإِعتماد على قدرة الخالق جلَّ وعلا، والإِعتماد على النفس، وترك أي اعتماد أو تبعية للاجانب (واجعل لي مِن لدنك سلطاناً نصيراً).
وبهذا الشكل فليست هُناك أية سياسية تؤثر في الإِنتصار كما في الصدق والإِخلاص، ليس هُناك أي اعتماد أفضل مِن الإِعتماد على الخالق والإِستقلال وعدم التبعية.
كيف يريد المسلمون أن ينتصروا على الأعداء الذين قاموا بغصب أراضيهم وصادروا مصادرهم الحياتية في حين أنّهم مرتبطون بأعدائهم في المجالات السياسية والعسكرية والإِقتصادية؟ هل نستطيع أن ننتصر على العدو بواسطة السلاح الذي نشتريه مِنُه؟
نواجه في الآيات أعلاه أصلا تاماً، وأساساً آخر، وسنة إِلهية خالدة تزرع الأمل في قلوب أنصار الحق، هذا الأصل هو أنَّ عاقبة الحق الإِنتصار، وعاقبة الباطل الإِندحار، وأنَّ للباطل صولة وبرق ورعد، وله كر وفر، إِلاَّ أن عمره قصير، وفي النهاية يكون مآلهُ السقوط والزوال .. الباطل كما يقول القرآن: (فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(1).
والدليل على هذا الموضوع كامن في باطن كلمة الباطل، حيث أنَّهُ لا يتفق مع القوانين العامّة للوجود، وليس لهُ مِن رصيد مِن الواقعية والحقيقة.
إِنَّ الباطل شيء مصنوع ومزوَّر، ليست لهُ جذور، أجوف، والأشياء التي لها صفات كهذه ـ عادةً ـ لا يمكنها البقاء طويلا.
أمّا الحق فلُه أبعاد وجذور مُتناسقة مع قوانين الخلق والوجود، ومثلهُ ينبغي
1 ـ الرعد، 17.
أن يبقى.
أنصار الحق يعتمدون سلاح الإِيمان، مَنطقهم الوفاء بالعهد، وصدق الكلام، والتضحية، وهم مستعدون أن يضحوا بأنفسهم و الإِستشهاد في سبيل الله، قلوبهم مُنوَّرة بنور المعرفة، لا يخافون أحداً سوى الله، ولا يعتمدون إِلاَّ عليه، وهذا هو سر انتصارهم.
في بعض الرّوايات تمّ تفسير قوله (جاء الحق وزهق الباطل) بقيام دولة المهدي(عليه السلام)، فالإِمام الباقر يبيّن أنَّ مفهوم الكلام الإِلهي هو: «إِذا قام القائم ذهبت دولة الباطل»(1).
وفي رواية أُخرى نقرأ أنَّه حينما ولد المهدي(عليه السلام) كان مكتوباً على عضده قوله تعالى (جاء الحق وزهق الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقاً)(2).
إِنَّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إِنَّ ثورة المهدي(عليه السلام) ونهضته هي مِن أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإِنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.
وبالنسبة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) دخل في يوم فتح مكّة، المسجد الحرام وحطم (360) صنماً كانت لقبائل العرب، وكانت موضوعة حول فناء الكعبة، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يحطمها الواحد تلو الآخر بعصاه، وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقاً).
وخلاصة القول: إِنَّ حقيقة انتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور، وانتصار الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على الشرك والأصنام،
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 212 و 213.
2 ـ المصدر السّابق.
ونهضة المهدي(عليه السلام) الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هُما مِن أوضح المصاديق لهذا القانون العام.
وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحق، ويعطيهم القوة على مُواجهة مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإِسلامي.
* * *
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّـِلْمُؤْمِنينَ وَلاََ يزِيدُ الظَّـلِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً(82)
الآية التي نبحثها الآن تُشير إِلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: (وننزل مِن القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) أمّا الظالمون فإِنّهم بدلا مِن أن يستفيدوا مِن هذا الكتاب العظيم، فإِنَّهمُ يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان (ولا يزيد الظالمين إِلاَّ خساراً).
* * *
نعرف أنَّ كلمة (مِن) في مثل هذه الموارد تأتي للتبعيض، إِلاَّ أنَّ الشفاء والرحمة لا تخص قسماً من القرآن، بل هي صفة لكل آياته، لذا فإِنَّ كبار المفسّرين يميلون إِلى اعتبار (مِن) هُنا بيانية. ولكن البعض احتمل أن تكون
تبعيضية كذلك، وهي بذلك تشير إلى النزول التدريجي للقرآن ـ خاصّة وأنّ (ننزل) فعل مضارع ـ لذا فإنّ معنى الجملة يكون: (إِنّنا ننزل القرآن وكل قسم ينزل منهُ، هو بحدِّ ذاته ولوحده يُعتبر شفاءً ورحمة) (فتدبرّ جيداً).
إِنَّ (الشفاء) هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص، لذا فإِنّ أوّل عمل يقوم بهِ القرآن في وجود الإِنسان هو تطهيره مِن أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية مِنها والجماعية.
ثمّ تأتي بعدها مرحلة (الرحمة) وهي مرحلة التخلُّق بأخلاق الله، وتفتّح براعم الفضائل الإِنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.
بعبارة أُخرى: إِنّ الشفاء إِشارة إِلى (التطهير) و(الرحمة) إِشارة إِلى (البناء الجديد). أو بتعبير الفلاسفة والعارفين، فإِنَّ الأُولى تشير إِلى مقام (التخلية) بينما الثّانية تشير إِلى مقام (التحلية).
ليس في هذه الآية القرآنية وحسب، بل في الكثير مِن الآيات الأُخرى، نقرأ أنَّ الظالمين يزداد جهلهم وبؤس حالهم، بدل الإِستفادة مِن نور الآيات الإِلهية!!
إِنّ ذلك يعود إِلى أنَّ وجودهم قائم بالأساس على قواعد الكفر والظلم والنفاق، لذلك فإِنّهم أين ما يجدون الحق يحاربونه، وهذه الحرب للحق وأهله تزيد فى بؤسهم وتقوي روح الطغيان والتمرُّد عِندهم.
فإِذا أعطينا ـ مثلا ـ وجبة طعام مُتكاملة لعالم مجاهد، فإِنَّهُ سيستفيد مِن تلك الطاقة لأجل التربية والتعليم والجهاد في طريق الحق، أمّا إِذا أعطينا نفس وجبة الطعام هذه إلى شخص ظالم، فأنَّهُ سيستفيد مِن هذه الطاقة في تموين قدرة الظلم
لديه أكثر، وهذا المثال يكشف عن أنَّهُ لا يوجد اختلاف في المادة الإِلهية نفسها (المعنى هنا القرآن الكريم) بل الإِختلاف في أمزجة وأفكار واستعداد الإِنسان المتلقي.
فالآيات القرآنية طبقاً للمثال، هي كقطرات الماء التي تكون سبباً في إِنبات الورود في البساتين، بينما تنبت الاشواك في الأرض السبخة.
ولهذا السبب ينبغي أن تتهيأ مسبقاً الأرضية حتى تتم الإِستفادة مِن القرآن، إِضافة إِلى أنَّ فاعلية الفاعل يُشترط فيها قابلية المحل كما يصطلح.
وهنا تتّضح الإِجابة على السؤال الذي يقول: كيف لا يهدي القرآن أمثال هؤلاء الأشخاص في حين أنَّهُ كتاب هداية؟ إِذ لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق، ويكونوا في مستوى قبوله والإِذعان له. أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإِنَّهُ يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن، ولذلك لا يستفيدون مِن القرآن، بل يزداد عنادهم وكفرهم، لأنّ تكرار الذنب يكرس في روح الإِنسان حالة الكفر والعناد.
إِنَّ الأمراض الروحية والأخلاقية لها شبه كبير بالأمراض الجسمية للإِنسان، فالإِثنان يقتلان، والإِثنان يحتاجان إِلى طبيب وعلاج ووقاية، والإِثنان قد يسريان للآخرين، ويجب في كل منهما معرفة الأسباب الرئيسة ثمّ معالجتها.
وفي كل منهما قد يصل الحال بالمصاب الى عدم امكانية العلاج، ولكن في أكثر الأحيان يتم علاجها والشفاء منها، إِلاَّ أنَّ العلاج قد لا ينفع في أحيان أُخرى.
إِنَّهُ شبهُ جميل وذو معاني مُتعدِّدة; فالقرآن يُعتبر وصفة شفاء للذين يريدون محاربة الجهل والكبر والغرور والحسد والنفاق ... القرآن وصفة شفاء لمعالجة الضعف والذّلة والخوف والإِختلاف والفرقة. وكتاب الله الأعظم وصفة شفاء
للذين يئنّون مِن مرض حبّ الدنيا والإِرتباط بالمادة والشهوة. والقرآن وصفة شفاء لهذه الدنيا التي تشتعل فيها النيران في كل زاوية، وتئن مِن وطأة السباق في تطوير الأسحلة المدمرة وخزنها، حيثُ وضعت رأسمالها الإِقتصادي والإِنساني في خدمة الحرب وتجارة السلاح.
وأخيراً فإنَّ كتاب الله وصفة شفاء لإِزالة حُجب الشهوات المظلمة التي تمنع مِن التقرب نحو الخالق عزَّوجلّ.
نقرأ في الآية (57) مِن سوره يونس قوله تعالى: (قد جاءتكم موعظة مِن ربّكم وشفاء لما في الصدور).
وفي الآية (44) مِن سورة فصِّلت نقرأ قوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء).
ولإِمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قول جامع في هذا المجال، حيث يقول(عليه السلام) في نهج البلاغة: «فاستشفوه مِن أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإِنَّ فيه شفاء مِن أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال»(1).
وفي مكان آخر نقرأ لإمام المتقين علي(عليه السلام) قوله واصفاً كتاب الله: «ألا إِنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي وَدواء دائكم وَنظم ما بينكم».(2)
وَفي مقطع آخر يَضُمُّهُ نهج علي(عليه السلام)، نقرأ وصفاً لكتاب الله يقول فيه(عليه السلام): «وعليكم بكتاب الله فإِنَّهُ الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع، مَن قالَ بِهِ صدق، وَمَن عمل به سبق»(3).
هذه التعابير العظيمة والبليغة، والتي نجد لها أشباهاً كثيرة في أقوال النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كلمات الإِمام علي(عليه السلام) الأُخرى والأئمّة الصادقين(عليهم السلام)، هي دليل يُثبت بدقة ووضوح أنَّ القرآن وصفة لمعالجة كل المشاكل والصعوبات
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.
2 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.
3 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.
والأمراض، ولشفاء الفرد والمجتمع مِن أشكال الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية.
إِنَّ أفضل دليل لإِثبات هذه الحقيقة هي مقايسة وضع العرب في الجاهلية مع وضع الذين تربوا في مدرسة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مطلع الإِسلام. إِنَّ المقايسة بين الوضعين ترينا كيف أنَّ أُولئك القوم المتعطشون للدماء، والمصابون بأنواع الأمراض الإِجتماعية والأخلاقية، قد تمّ شفاؤهم ممّا هم فيه بالهداية القرآنية، وأصبحوا برحمة كتاب الله مِن القوّة والعظمة بحيث أنَّ القوى السياسية المستكبرة أنذاك خضعت لهم أعنّتها، وذلت لهم رقابها.
وهذه هي نفس الحقيقة التي تناساها مسلمو اليوم، وأصبحوا على ما هم عليه مِن واقع بائس مرير غارق بالأمراض والمشاكل ... إِنَّ الفرقة قد اشتدت بينهم، والناهبين سيطروا على مقدراتهم وثرواتهم، مستقبلهم أصبح رهينة بيد الآخرين بعد أن أصيبوا بالضعف والهوان بسبب الإِرتباط بالقوى الدولية والتبعية الذليلة لها.
وهذه هي عاقبة من يستجدي دواء علّته من الآخرين الذين هم اسوأ حالا منه، في حين أن الآخرين، ليأخذ مِنهم علاج الدواء حاضر بين يديه وموجود في مَنزله!
القرآن لا يشفي من الأمراض وحسب، بل إِنّهُ يساعد المرضى على تجاوز دور النقاهة إِلى مرحلة القوّة والنشاط والإِنطلاق، حيثُ تكون (الرحمة) مرحلة لاحقة لمرحلة (الشفاء).
الظريف في الأمر أنَّ الأدوية التي تستخدم لشفاء الإِنسان لها نتائج وتأثيرات عرضية حتمية لا يمكن توقيها أو الفرار مِنها، حتى أنَّ الحديث المأثور يقول: «ما مِن دَواء إِلاَّ ويهيج داء»(1).
1 ـ سفينة البحار.
أمّا هذا الدواء الشافي، كتاب الله الأعظم، فليست لهُ أي آثار عرضية على الروح والأفكار الإِنسانية، بل على عكس ذلك كله خير وبركة ورحمة.
وفي واحدة مِن عبارات نهج البلاغة نقرأ في وصف هذا المعنى قول علي(عليه السلام): «شفاء لا تخشى أسقامه» واصفاً بذلك القرآن الكريم(1).
يكفي أن نتعهد باتباع هذه الوصفة لمدّة شهر، نطيع الأوامر في مجالات العلم والوعي والعدل والتقوى والصدق وبذل النفس والجهاد ... عندها سنرى كيف ستُحل مشاكلنا بسرعة.
وأخيراً ينبغي القول: إِنَّ الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأُخرى، لا يمكن أن تعطي ثمارها وأكلها مِن دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقة، وإِلاَّ فإِنَّ قراءة وصفة الدواء مائة مرَّة لا تغني عن العمل بها شيئاً!!
* * *
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 198.
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسـنِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً(83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلا(84)
بعد أن تحدَّثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إِلى أحدِ أكثر الأمراض تجذراً فتقول: (وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض ونأى بجانبه). ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلا: (وإِذا مسهُ الشرّ كان يؤساً).
(أعرض) مُشتقة مِن (إِعراض) وهي تعني عدم الإِلتفات، والمقصود مِنها هُنا هو عدم الإِلتفات للخالق عزَّوجلّ، وإِعراض الوجه عنهُ وعن الحق.
(نأى) مُشتقّة مِن (نأي) وهي على وزن (رأي) وهي بمعنى الإِبتعاد، وعند إِضافة كلمة (بجانبه) إِليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الإِستفادة مِن مجموع هذه الجملة الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور
عند مجيء النعم، بحيثُ أنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب، بل ينتقل إِلى الإِعتراض التكبر وعدم الإِلتفات للخالق.
جملة (مسه الشر) تشير إِلى أدنى سوء يصيب الإِنسان. والمعنى أنَّ هؤلاء مِن الضعف وعدم التحمّل بحيث أنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرّد أن تصيبهم أبسط مُشكلة.
الآية الثّانية تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (قل كلّ يعمل على شاكلته). فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء مِن آيات القرآن الكريم، والظالمون لا يستفيدون مِن القرآن سوى مزيد مِن الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حالِ النعمة. ويصابون باليأس في حالِ ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإِنسان نفسه.
وفي هذه الأحوال جميعاً فإِنَّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين: (فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا).
* * *
يتداول على ألسنتنا أنَّ فلاناً أصبح بعيداً عن الله، أو أنَّهُ نسي الله بعد أن تحسنت أُموره. ورأينا أنَّ أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون باليأس الذلة والهلع عندما تنزل بهم أبسط الشدائد، بحيث لا نكاد نصدِّق بأنّهم سبق وأن كانوا على غير هذه الحال!
أجل، هكذا حال هؤلاء الجماعة مِن ضيقي التفكير وضعيفي الإِيمان، وعلى العكس من ذلك حال أولياء الله، حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة
نيِّرة إِزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغاً شديداً، إِنّهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد، إِذا وهبتهم الدنيا فلا يُؤثر ذلك فيهم، وإِذا أخذت مِنهم العالم أجمع لا يتأثرون.
والعجيب في الأمر أنَّ هؤلاء القوم الذي يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم السور القرآنية في آيات مُتعدِّدة (مِثل يونس ـ آية 12، لقمان ـ آية 32، الفجر ـ آية 14، 15، فصلت ـ الآية 48، 49) هم أنفسهم يعودون إِلى الله، ويستجيبون لنداء الفطرة عندما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد، ولكنّهم عندما تهدأ أمواج الحوادث والظواغط يتغيرون، أو في الواقع يعودون إِلى ما كانوا عليه سابقاً ويكون مِثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه!
إِنَّ العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإِيمان، وترك العبودية لما هو دون الله وسواه، وفك الإِرتباط مع الشهوة والمادة، والعيش في إِطار مِن القناعة والزهد البنّاء.
وممّا ذكرنا تظهر الإِجابة على سؤال، وهو: إِنَّ الآيات التي نبحثها تصف حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد بـ «يَؤوس» في حين أنَّ آيات أُخرى مِثل الآية (65) مِن سورة العنكبوت تصفهم بأنّهم (مخلصين لهُ الدين) وهي دلالة على غاية التوَّجه نحو الخالق عزَّوجلّ؟
في الواقع ليس ثمّة مِن تضاد بين هاتين الحالتين، بل إِنَّ إِحداهما هي بمثابة مقدمة للأُخرى، فهؤلاء الأشخاص عندما تصادفهم المشكلات ييأسون مِن الحياة، وهذا اليأس يكون سبباً لأنّ تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم العظيم.
إِنَّ هذا التوّجه الإِضطراري إِلى الخالق عزَّوجلّ ـ طبعاً ـ ليس فخراً لأمثال هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم، لأنّهم بمجرّد انصراف المشاكل عنهم يعودون إِلى حالتهم السابقة.
أمّا أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عندما يقعون في المشاكل والمحن، بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى، وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإِنّهم يتمتعون بقوّة لمواجهة المشاكل ولا معنى لليأس في وجودهم.
إِنَّ هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب، وإِنّما في اتصال دائم معهُ في كل الحالات إِذ يستمدون العون منهُ تعالى، وتكون قلوبهم منيرة برحمته وهدايته.
«شاكلة» في الأصل مُشتقة مِن (شكل) وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان. و(شكال) تُقال لنفس الزمام; وبما أنَّ طبائع وعادات كل إِنسان تقيِّدهُ بصفات معينة لذا يقال لذلك «شاكلة». أمّا كلمة «إِشكال» فتقال للإِستفسار والسؤال وسائر الأُمور التي تحدِّد الإِنسان نوعاً ما(1).
لهذا فإِنَّ مفهوم الشاكلة لا يختص بالطبيعة الإِنسانية، لذلك ذكر العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان لهذه الكلمة مَعَنيين، هما: الطبيعة والخلقة، ثمّ الطريقة والمذهب والسُنَّة، على اعتبار أنَّ كل واحدة مِن هذه الأُمور تحدِّد الإِنسان مِن حيث العمل.
ومِن هنا يتّضح خطأ أُولئك الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على إِلزامية الصفات الذاتية للإِنسان بشكل يخرج عن إِرادته، وهو دليلهم على عقيدة الجبر، وإِذ أنكروا قيمة التربية والتزكية.
هذا النوع مِن التفكير الذي يخضع في أسبابه إِلى عوامل سياسية واجتماعية ونفسية ـ والتي ذكرناها في بحوثنا عن الجبر والإِختيار ـ لهُ هيمنة على ثقافة
1 ـ مفردات الراغب مادة «شَكَلَ».
وأدب الكثير مِن المجتمعات والنظُم، حيث تستخدم هذه الثقافة لتبرير النواقص. إِنَّ هذه الثقافة تعتبر مِن أخطر الإِعتقادات التي يمكن أن تجر المجتمع سنين بل قرون إِلى الذلة والتأخَّر.
بناءً على ما ذكرنا نعتقد أن عقيدة الجبر هي دوماً ذريعة للتسط الإِستعماري، لكي تبقى القوّة المسيطرة في ظل ثقافة الجبر بمنأى عن ردود الفعل المقاومة للسيطرة والتي يمكن أن تنطلق مِن صفوف المسحوقين المستضعفين.
والتعبير المشهور هُنا، يوضح هذه الحقيقة بشكل دقيق، إِذ يقول: «الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان».
وخلاصة القول هنا: إنَّ الشاكلة لا تعني أبداً الطبيعة الذاتية، بل هي تُطلق على كلّ عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإِنسان اتجاهاً معيناً.
لذا فإِنَّ العادات والصفات التي يكتسبها الإِنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإِرادياً، وكذلك الإِعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الإِستدلال أو التعصب لرأي معين يُطلق عليها كُلّها كلمة «شاكلة».
وعادةً ما تكون الملكات الإِنسانية لها صفة اختيارية، لأنَّ الإِنسان عندما يُكرِّر عملا ما ففي البداية يُقالُ لهُ (حالة) ثمّ تتحوَّل الحالة إِلى (عادة) والعادة إِلى (مَلَكَة) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معيناً لأعمال الإِنسان وتحدِّد خطَّهُ في الحياة، وهي عادةً ما تظهر بفعل العوامل الإِختيارية والإِرادية.
وفي بعض الرّوايات تمَّ تفسير «الشاكلة» بأنّها النيّة، فقد ورد في أصول الكافي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام)، قوله: «النّية أفضل مِن العمل، ألا وإِنَّ النّية هي العمل، ثمّ تلا قوله عزَّ وجلّ: (قل كلّ يعمل على شاكلته)، يعني على نيّته»(1).
هذا التّفسير ينطوي على ملاحظة لطيفة، وهي أنَّ الإِنسان والتي تنبع مِن
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 214.
اعتقاداته تغطي شكلا لعمله، وعادة فإِنَّ النيّة هي نوع مِن الشاكلة، بمعنى الأمر المقيِّد. لذا تفسَّر النيّة أحياناً بأنّها نفس العمل. وفي أحيان أُخرى بأنّها أفضل من العمل، لأنَّهُ ـ في كل الأحوال ـ يكون خط العمل واتجاههُ ناتجاً عن خط النيّة واتجاهها.
وفي رواية «مَن لا يحضره الفقيه» عن صالح بن الحكم، قال: سُئِلَ الصّادق(عليه السلام) عن الصلاة في البيع والكنائس، فقال(عليه السلام): «صلِّ فيها» قُلت: أصلي فيها وإِن كانوا يُصلون فيها؟ قال: «نعم. أمّا تقرأ القرآن»: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) صلَّ على القبلة ودعهم»(1).
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 214.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّـِى وَمَا أُوتِيتُم مّـِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا(85)
تبدأ هذه الآية في الإِجابة على بعض الأسئلة المهمّة للمشركين ولأهل الكتاب، إِذ تقول: (ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا).
مفسّرو الإِسلام الكبار ـ السابقون مِنهم واللاحقون ـ لهم كلامُ كثير عن الروح ومعناها، ونحن في البداية سنشير إِلى معنى كلمة (روح) في اللغة، ثمّ موارد استعمالها في القرآن، وأخيراً تفسير الآية والرّوايات الواردة في هذا المجال.
وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية:
1 ـ (الرّوح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأنَّ (الروح) و(الرّيح) مُشتقّتان مِن معنىً واحد، وإِذ تمَّ تسمية روح الإِنسان ـ التي هي جوهرة مستقلة ـ بهذا الإِسم فذلك لأنّها تشبه النَفَسَ والريح مِن حيث الحركة والحياة،
وكونها غير مرئية مثل النَفَسَ والريح.
2 ـ استخدمت كلمة (الرّوح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني مُتعدِّدة، فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدَّسة التي تساعد الأنبياء على أداء رسالتهم كما في الآية (253) مِن سورة البقرة والتي تقول: (وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس).
وفي بعض الأحيان تطلق على القوّة الإِلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين وتدفعهم، كما في قوله تعالى في الآية (22) مِن سورة المجادلة: (أُولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه).
وفي موارد أُخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف بـ (الأمين)، كما في الآية (193) مِن سورة الشعراء: (نزَلَ بهِ الرّوح الأمين على قلبك لتكون مِن المُنذرين).
وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) مِن ملائكة الله الخاصين، أو مخلوق أفضل مِن الملائكة كما في الآية (4) مِن سورة القدر: (تنزل الملائكة والرّوح فيها بإِذن ربّهم مِن كل أمر). وفي الآية (38) مِن سورة النباء: (يوم يقوم الرّوح والملائكة صفاً).
ووردت ـ أيضاً ـ بمعنى القرآن أو الوحي السماوي، كما في الآية (52) مِن سورة الشورى في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إِليك روحاً مِن أمرنا).
وأخيراً وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإِنسانية، كما في آيات خلق آدم: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه مِن روحه)(1). وكذلك قوله تعالى في الآية (29) مِن سورة الحجر: (فإِذا سويته ونفخت فيه مِن روحي فقعوا لهُ ساجدين)(2).
1 ـ السجدة، 9.
2 ـ قُلنا سابقاً: إِنَّ إِضافة (روح) إِلى الله هي إِضافة تشريفية، والهدف هو الروح الكبيرة التي وهبها الله تبارك وتعالى للآدميين.
3 ـ والآن لنر مِن خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي نبحثها؟
ما هي الرّوح التي سأل عنها جماعةُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابهم بقوله تعالى: (ويسئلونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا)؟
يُمكن أن نستفيد مِن مجموع القرائن الموجودة في الآية أنَّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإِنسانية، هذه الروح العظيمة التي تُميِّز الإِنسان عن الحيوان، وقد شرفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا مِنها، وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمّل السماء، نكتشف أسرار العلوم، ونتوغل في أعماق الموجودات ... إِنّهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!!
وَلأنَّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها أُصول تحكمها تختلف عن الأُصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: (قل الروح مِن أمرِ ربّي). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا مِن هذا الجواب فقد أضافت الآية: (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) حيثُ لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم مِن أنّها أقرب شيء إِليكم.
وفي تفسير العياشي نقل الإِمام الباقر والصّادق(عليهما السلام) أنّهما قالا في تفسير آية (يسألونك عن الروح) ما نصَّه: «إِنّما الروح خلق مِن خلقه، لهُ بصرٌ وقوّة وتأييد، يجعلهُ في قلوب الرسل والمؤمنين»(1).
وفي حديث آخر عن الإِمامين الباقر والصادق أنّهما(عليهما السلام) قالا: «هي مِن الملكوت، مِن القدرة»(2).
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 216.
2 ـ المصدر السّابق.
وفي الرّوايات المتعدِّدة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنّة نقرأ أنّ هذا السؤال عن الروح أخذهُ المشركون مِن علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع قريش، كي يختبروا به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِذ قالوا لهم: إِذا أعطاكم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه، لذلك نراهم قد تعجبوا مِن إِجابة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلّة كلماتها.
ولكن نقرأ في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنَّ الروح مخلوق أفضل مِن جبرائيل وميكائيل، وكان هذا المخلوق برفقة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبرفقة الأئمّة الصادقين(عليهم السلام) من أهل بيته مِن بعده، حيثُ كان يعصمهم مِن أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم(1).
إِنَّ هذه الرّوايات لا تعارض التّفسير الذي قلناه، بل هي مُتناسقة معهُ وداعمة له، لأنَّ الروح الإِنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة مِن الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإِنَّ روحاً مِثل هذه هي أفضل مِن الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبّر)
يُظهر تأريخ العلم والمعرفة الإِنسانية أنَّ قضية الروح وأسرارها الخاصّة كانت محط توجَّه العلماء، حيث حاول كل عالم الوصول إِلى محيط الروح السري. ولهذا السبب ذكر العلماء آراء مُختلفة وكثيرة حول الروح.
ومِن الممكن أن تكون علومنا ومعارفنا اليوم ـ وكذلك في المستقبل ـ قاصرة عن التعرف على جميع أسرار الروح والإِحاطة بتفصيلاتها، بالرغم مِن أنَّ روحنا هي أقرب شيء لدينا مِن جميع ما حولنا. وبسبب الفوارق التي تفصل بين
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 215.
جوهرة الروح وبين ما نأنس بهِ مِن عوالم المادة، فإِنّنا لن نحيط بأسرار وكنه الروح، أعجوبة الخلق، والمخلوق الذي يتسامى على المادة.
ولكن كل هذا لا يمنعنا مِن رؤية أبعاد الروح بعين العقل، وأن نتعرف على النظم والأُصول العامّة الحاكمة عليها.
إِنَّ أهم أصل يجب أن نعرفُه هو قضية أصالة واستقلال الروح، في مقابل آراء المذاهب الوضعية التي تذهب إِلى مادية الروح، وأنّها مِن افرازات الذهن والخلايا العصبية ولا شيء غير ذلك!
وسنبحث هذا الموضوع هنا ونتوسع فيه، لأنَّ مسألة (بقاء الروح) وقضية (التجرد المطلق أو عالم البرزخ) يعتمدان على هذا الأمر.
ولكن قبل الورود في البحث لا بدَّ من ذكر ملاحظة هامّة، وهي أن تعلق الروح بجسم الإِنسان ليست ـ وكما يظن البعض ـ مِن نوع الحلول، وإِنّما هي نوع مِن الإِرتباط والعلاقة القائمة على أساس حاكمية الروح على الجسم وتصرفها وتحكمها به، حيثُ يشبهها البعض بعلاقة تعلق المعنى وارتباطه باللفظ.
هذه المسألة ـ طبعاً ـ ستتوضح أكثر ضمن حديثنا عن استقلال الروح.
والآن لنرجع إِلى أصل الموضوع.
لا يشك أحدٌ في أنَّ الإِنسان يختلف عن الحجارة والخشب، لأنّنا نشعر ـ بشكل جيِّد ـ بأنّنا نختلف عن الجمادات، بل وحتى عن النباتات، فنحن نفهم ونتصوّر ونصمِّم، ونريد، ونحب، ونكره، و ... ألخ.
إِلاَّ أنَّ الجمادات والنباتات ليس لها أيّ مِن هذه الإِحساسات، لذلك فثمّة فرق أساسي بيننا وبينها ويتمثل في امتلاكنا للروح الإِنسانية.
![]() |
![]() |
![]() |