4 ـ ورد في بعض الأحاديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤيد أن الإِرث هنا يراد به الارث المعنوي، وخلاصة الحديث أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) روى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ عيسى بن مريم مرّ على قبر كان صاحبه يعذب، ومرّ عليه في العام الثّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب، فسأله ربّه عن ذلك، فأوحى الله إِليه أنّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفر الله له بعمل ولده. ثمّ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده»، ثمّ تلا الإِمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا: (هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)(1).

فإِن قيل: إِن ظاهر كلمة الإِرث هو إرث الأموال.

فيقال في الجواب: إِن هذا الظهور ليسَ قطعياً، لأنّ هذه الكلمة قد استعملت


1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 323 و 324.

[406]

في القرآن مراراً في الإِرث المعنوي، كالآية (32) من سورة فاطر، والآية (53) من سورة المؤمن. إِضافة إِلى أنّنا لو فرضنا أنّها خلاف الظاهر، فإِنّ هذا الإِشكال سيزول بوجود القرائن.

إِلاّ أنّ أنصار الرأي الأوّل يستطيعون أن يناقشوا هذه الإِستدلالات، بأنّ ما كان يشغل فكر زكريا ـ نبي الله الكبير ـ هي مسألة الأموال، ولم تكن تشغله كمسألة شخصية، بل باعتبارها مصدراً لفساد أو صلاح المجتمع; لأنّ بني إِسرائيل ـ وكما قيل أعلاه ـ كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إِلى الأحبار فكانت تودع عند زكريا، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي كانت من أسرة سليمان، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه الأموال قد يؤدي إِلى مفاسد عظيمة، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.

وأمّا الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأُخرى، فإِنّها تؤيد ما ذكرنا، وتنسجم معه، لأنّه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.

إِلاّ أنّنا نعتقد بأنا إِذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إِلى هذه النتيجة، وهي أن للإرِث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف، لأنّ لكل رأي قرائنه، وإِذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات، فإِنّ هذا التّفسير يبدو أقرب للصواب.

أمّا جملة (إِنّي خفت الموالي من ورائي) فإِنّها مناسبة لكلا المعنيين، لأنّ الأشخاص الفاسدين إِذ تولوا أمر هذه الأموال، فإِنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً، وإِذا وقعت زمام الأُمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإِنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف، وعلى هذا فإِنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين. وحديث فاطمة الزهراء(عليها السلام) يناسب هذا المعنى أيضاً.

[407]

2 ـ ماذا تعني كلمة «نادى»؟

في قوله تعالى (إِذ نادى ربّه نداءً خفياً) طُرح هذا السؤال بين المفسّرين، وهو أن «نادى» تعني الدعاء بصوت عال، في حين أن «خفياً» تعني الإِخفات وخفض الصوت، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.

إِلا أننا إِذا علمنا أن «خفياً» لا تعني الإِخفات، بل تعني الإِخفاء، فسيكون من الممكن أن زكريا حين خلوته، حيث لا يوجد أحد سواه، كان ينادي ويدعو الله بصوت عال.

والبعض قال: إِن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في النوم(1).

والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى: (فخرج على قومه من المحراب) التي ستأتي في الآيات التالية، دليلا على وقوع هذا الدعاء في الخلوة(2).

3 ـ (ويرث من آل يعقوب)

إِنّ زكريا قال: (ويرث من آل يعقوب)، وذلك لأنّ زوجته كانت خالة مريم أو عيسى، ويتصل نسبها بيعقوب، لأنّها كانت من أسرة سليمان بن داود، وهو من أولاد يهودا بن يعقوب(3).

* * *


1 ـ تفسير القرطبي، ج 6، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ تفسير الميزان الجزء 14، ذيل الآية.

3 ـ مجمع البيان، الجزء 6، ذيل الآية.

[408]

الآيات

يـزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلـم اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً(7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونَ لِى غُلـمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً(8) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيئاً(9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلـثَ لَيَال سَوِيّاً(10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً(11)

التّفسير

بلوغ زكريا أمله:

تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكرى(عليه السلام)ا من قبل الله تعالى استجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة، وتبدأ بهذه الجملة: (يا زكريا إِنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً).

كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة، ويطلعه

[409]

ببشارته على تحقيق مراده، وفي مقابل طلب الولد فإِنّه يعطيه مولداً ذكراً، ويسميه أيضاً بنفسه، ويضيف إِلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرد بأُمور لم يسبقه أحد بها. لأنّ قوله: (لم نجعل له من قبل سمياً) وإِن كانت تعني ظاهراً بأن أحداً لم يسم باسمه لحد ولادته، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الإِسم هنا هو المسمّى، أي أحداً قبله لم يكن يمتلك هذه الإِمتيازات، كما ذهب الراغب الأصفهاني إِلى هذا المعنى ـ بصراحة ـ في مفرداته.

لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى، بل وأسمى منه، إِلاّ أنّه لا مانع مطلقاً من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به،كما ستأتي الإِشارة إِلى ذلك فيما بعد.

أمّا زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إِلى مثل هذه الأمنية، فإِنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من الله سبحانه: (قال رب أَنَّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً).

«عاقر» في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس، وإِنّما يقال للمرأة: عاقر، لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأنّ إِنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ» تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي تظهر على الإِنسان عند شيخوخته.

إِلاّ أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)(1).

إِن هذه ليست بالمسألة العجيبة، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن


1 ـ المعروف بين المفسّرين أن عبارة (كذلك) هي في تقدير (الأمر كذلك). ويحتمل كذلك أن (كذلك) متعلقة بما بعدها ويصبح معناها: كذلك قال ربّك.

[410]

مثلك، وامرأة عقيم ظاهراً (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)، فإِنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

ولا شك أنّ المبشر والمتكلم في الآية الأُولى هو الله سبحانه، إِلاّ أن البحث في أنّه هو المتكلم في الآية الثّالثة: (قال كذلك قال ربّك هو عليَّ هين).

ذهب البعض بأنّ المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا، والآية (39) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهداً على ذلك: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إِنّ الله يبشرك بيحيى).

لكن الظاهر هو أنّ المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه،  ولا  دليل ـ أو سبب ـ يدفعنا إِلى تغييره عن ظاهره، وإِذا كانت الملائكة وسائط لنقل البشارة، فلا مانع ـ أبداً ـ من أن ينسب الله أصل هذا الإِعلان والبشارة إِلى نفسه، خاصّة وأنّنا نقرأ في الآية (40) من سورة آل عمران: (قال كذلك الله يفعل ما يشاء).

وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نفسه نور الأمل، لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إِليه مصيرياً ومهماً جداً، فإِنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل: (قال ربّ اجعل لي آية).

لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد الله، وكان مطمئناً لذلك، إِلاَّ أنّه لزيادة الإِطمئنان ـ كما أنّ إِبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه الله: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالِ سوياً) واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.

لكن، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه، ومن جهة أُخرى فإِنّها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إِلى الله حتى يشكر الله

[411]

على هذه النعمة الكبيرة، ويتوجه إِلى مناجاة الله أكثر فأكثر.

إِن هذه آية واضحة على أن إِنساناً يمتلك لساناً سليماً، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!

بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إِلى الناس، فكلّمهم بالإِشارة: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إِليهم أن سبحوا بكرة وعشياً) لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء، ولهذا فقد كان من المناسب أن يهبّ الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.

وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّ بإِمكان هذه الموهبة التي تعتبر إِعجازاً أن تحكّم أسس الإِيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضاً موهبة أُخرى.

* * *

بحثان

1 ـ يحيى (عليه السلام) النّبي المتألّه الورع

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات ـ في سور آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء ـ فهو واحد من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إِلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة، فإِنّ الله سبحانه قد أعطاه عقلا وذكاءً وقّاداً ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب.

ومن خصائص هذ النّبي(عليه السلام) التي أشار إِليها القرآن في الآية (39) من سورة آل عمران ، وصفه بالحصور، كما قلنا في ذيل تلك الآية، فإِنّ «الحصور» من مادة الحصر، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة، وهي تعني هنا ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ الإِمتناع عن الزواج.

[412]

لقد كان هذا العمل امتيازاً بالنسبة له، من جهة أنّه يبيّن نهاية العفة والطهارة، أو أنّه كان ـ نتيجة ظروف الحياة الخاصّة ـ مضطراً إِلى الأسفار المتعددة من أجل نشر الدين الإِلهي والدعوة إِليه، واضطر كذلك إِلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى بن مريم(عليه السلام).

وهناك تفسير قريب من الصواب أيضاً، وهو أن الحصور ـ في الآية المذكورة ـ تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها، وهذا في الواقع مرتبة عالية من الزهد(1).

على كل حال، فإِنّ المستفاد من المصادر الإِسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.

فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيح(عليه السلام) غسل التعميد، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) ـ وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب ـ ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.

لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص، وما نقرأه في الآيات التالية من أنّه (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) إِشارة إِلى التوراة، وهي كتاب موسى(عليه السلام).

وهناك جماعة يتبعون يحيى، وينسبون له كتاباً، وربما كان (الصابئون الموحدون) من أتباع يحيى(2).

لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف، وترك الزواج للأسباب التي ذكرت، وولادتهما التي تحمل طابع الإِعجاز، وكذلك


1 ـ لقد بحثنا مفصلا في أنّ ترك الزواج لا يمكن أن يكون فضيلة لوحده، وأنّ قانون الإِسلام يؤكّد في هذا المجال على الزواج، في الجزء الثّاني ذيل الآية (39) من آل عمران من هذا التّفسير.

2 ـ أعلام القرآن، ص 667.

[413]

النسب القريب جدّاً.

ويستفاد من الرّوايات الإِسلامية، أن بين الحسين(عليه السلام) ويحيى(عليه السلام) جهات مشتركة، ولذلك فقد روي الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه قال: «خرجنا مع الحسين بن علي(عليه السلام)، فما نزل منزلا ولا رحل منه إِلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل»(1).

كما أن شهادة الحسين(عليه السلام) تشبه شهادة يحيى(عليه السلام) من عدّة جهات أيضاً، وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.

وكذلك فإِنّ اسم الحسين(عليه السلام) كاسم يحيى(عليه السلام) لم يسبقه به أحد، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.

2 ـ ما معنى كلمة «المحراب»؟

«المحراب» محل خاص في مكان العبادة يجعل للإِمام أو الوجهاء والمبرزين، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية:

الأُولى: أنّها من مادة «حرب»، لأنّ المحراب في الحقيقة محل لمحاربة الشيطان وهوى النفس.

والثّانية: أنّ المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس، ولما كان مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الإِسم.

يقول البعض: إِنّ المحراب كان عند بني إِسرائيل بعكس ما هو المتعارف عندنا، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يُرتقى اليه بعدّة


1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 324.

[414]

درجات. وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل المحراب، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية: (فخرج على قومه من المحراب) والتي قرأناها في الآيات محل البحث، ومع ملاحظة كلمة «على» التي تستعمل عادة للدلالة على الجهة العليا يتّضح هذا المطلب أكثر.

* * *

[415]

الآيات

يـيَحْيَى خُذِ الْكِتَـبَ بِقُوَّة ءَاتَيْنـهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً(12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوةً وَكَانَ تَقِيّاً(13) وَبَرَّاً بَولِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً(14) وَسَلـمٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً(15)

التّفسير

صفات يحيى (عليه السلام) البارزة:

رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإِلهي المهم الذي يخاطب يحيى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).

المشهور بين المفسّرين أنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة، حتى ادعوا الإِجماع على ذلك(1).

إِلاّ أنّ البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود، وهو طبعاً ليسَ


1 ـ يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.

[416]

كتاباً متضمناً لدين جديد ومذهب مستحدث(1). غير أن الإِحتمال الأوّل هو الأقوى كما يبدو.

وعلى أي حال، فإِنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إِجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ، وإِرادة حديدية، وأن يعمل بكل ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

إِنّ من القواعد المسلّمة أنّه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة وحزم أتباعه وأنصاره، وهذا درس لكل المؤمنين، وكل السالكين والسائرين في طريق الله.

يحيى وصفاته العشرة:

ثمّ أشار القرآن الكريم إِلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله:

1 ـ (وآتيناه الحكم صبياً). وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.

2 ـ (وحناناً من لدنا) والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإِظهار العلاقة والمودّة للآخرين.

3 ـ (وزكاة) أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية، وبالرغم من أنّ المفسّرين فسروا الزكاة بمعان مختلفة، فبعضهم فسّرها بالعمل الصالح، وآخر بالطاعة والإِخلاص، وثالث ببر الوالدين والإِحسان إِليهما، ورابع بحسن السمعة والذكر، وخامس بطهارة الأنصار، إِلاّ أنّ الظاهر هو أنّ للزكاة معنى واسعاً وشاملا يتضمن كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة.

4 ـ (وكان تقياً) فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.


1 ـ يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.

[417]

5 ـ (وبراً بوالديه).

6 ـ (ولم يكن جباراً) فلم يكن رجلا ظالماً ومتكبراً وانانيّاً.

7 ـ ولم يكن (عصياً) ولم يقترف ذنباً ومعصية.

8 ، 9 ، 10 ـ ولما كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإِن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: (وسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً).

* * *

بحوث

1 ـ خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار!

إِنّ لكلمة «قوة» في قوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة) ـ كما تقدم ـ معنى واسعاً جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية، الروحية الجسمية، وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين الإِلهي والإِسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين، بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة.

إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى، إلاّ أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أُخرى من القرآن المجيد، ففي الآية (145) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة: (فخذها بقوة).

وفي الآية (63 و 93) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إِسرائيل: (خذوا ما أتيناكم بقوة) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع، ولا يخص شخصاً أو أشخاصاً معينين.

وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (60) من سورة الإِنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة).

[418]

وعلى كل حال، فإِنّ هذه الآية تعتبر جواباً لمن يظن أنّه بالإِمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقعه الضعف، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف.

2 ـ ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإِنسان

إِنّ التعبير بـ (سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً) يبيّن أن في تاريخ حياة الإِنسان وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: (يوم ولد) ويوم موته وانتقاله إِلى عالم البرزخ (ويوم يموت) ويوم بعثه في العالم الآخر (ويوم يبعث حياً) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإِضطرابات والقلق، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط، في حق يحيى وفي حق عيسى(عليه السلام)، إلاّ أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازاً خاصّاً، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، في حين أنّ المسيح(عليه السلام) هو المتكلم في حق نفسه.

ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.

ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «إِنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلم الله على يحيى(عليه السلام) في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته، فقال:

[419]

وسلام عليه ...»(1).

3 ـ النّبوة في الطفولة

صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإِنسان لها حدّ معين عادة، إِلاّ أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائماً، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسى(عليه السلام) قد تكلم في أيّامه الأُولى، وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدر ـ عادة عن أناس كبار في السن، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إِن شاء الله تعالى.

من هنا يتّضح عدم صحة الإِشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أُمور الإِمامة في سن صغيرة؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط، أحد أصحاب الإِمام الجواد محمّد بن علي النقي(عليه السلام) أنّه قال: رأيت أبا جعفر(عليه السلام) وقد خرج عليّ، فأجدت النظر إِليه، وجعلت أنظر إِلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك قعد فقال: «يا عليّ، إِنّ الله احتج في الإِمامة بمثل ما احتج به في النّبوة، قد يقول (وآتيناه الحكم صبياً)، وقد يقول (ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين»(2).

كما أنّ هذه الإية تتضمن جواباً مفحماً لأُولئك المعترضين الذين يقولون: إِنّ علياً(عليه السلام) لم يكن أوّل من آمن بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الرجال، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم، ولا يقبل إِيمان صبي في العاشرة من عمره!


1 ـ تفسير البرهان، ج3، ص 7.

2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.

[420]

ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضا(عليه السلام) أيّام طفولته: أذهب بنا نلعب، قال: «ما للعب خلقنا» وهذا ما أنزل الله تعالى (وآتيناه الحكم صبيّاً)(1).

يجب الإِلتفات إِلى أن اللعب هنا هو الإِشتغال بما لا فائدة فيه، وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه، لكن قد يستتبع اللعب واللهو ـ أحياناً ـ هدفاً منطقياً وعقلائياً ويسعى إِليه، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكماً مستثنى.

4 ـ شهادة يحيى

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها، بل إِنّ موته أيضاً كان عجيباً من عدّة جهات، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين، وكذلك المصادر المسيحية، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:

لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» وهام في غرامها، وألهب جمالها قلبه بنار العشق، ولذلك صمم على الزواج منها!

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى(عليه السلام)، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف امام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك صممت على الإِنتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، وقد


1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.

[421]

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه، إِلى أن قال لها هيروديس يوماً: اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعاً، فقالت هيروديا: لا أريد منك إِلاّ رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك، وقد أصبح كل الناس يعيروننا، فإِنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فسلّم هيروديس ـ الذي أصبح مجنوناً لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إِلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى أُحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إِلاّ أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية(1).

ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإِمام الحسين(عليه السلام) كان يقول: «إنّ من هوان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل» أي إِن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

* * *


1 ـ يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الرّوايات أنّ هيروديس قد تزوج امرأة أخيه، وقد كان هذا الزواج ممنوعاً في قانون التوراة، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدّة، ثمّ أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإِغرائه بجمال بنتها. إِنجيل متى باب 14، إِنجيل مرقس باب 6، الفقرة 17 وما بعدها.

[422]

الآيات

وَاذْكُرْ فِى الْكِتـبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانَاً شَرْقِيّاً(16)فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيَّاً(17) قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمـنِ مِنكَ إِن كُنْتَ تَقِيّاً(18)قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلَـماً زَكِيّاً(19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلـمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً(20) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً(21)

التّفسير

ولادة عيسى (عليه السلام):

بعد ذكر قصّة يحيى(عليه السلام)، حولت الآيات مجرى الحديث إِلى قصّة عيسى(عليه السلام)لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جداً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإِنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإِن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

[423]

وإِن كان الوصول إِلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإِنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إِعجازاً.

وعلى كل حال، فإِنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال، إِحداهما أكبر من الأُخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأُولى: (واذكر في الكتاب مريم إِذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حيناً ـ عن ذكر المحبوب، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكاناً أكثر هدوءاً، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إِلقاء وإِبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإِنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إِشارة إِلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإِنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإِنّها (فاتخذت من دونهم حجاباً) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إِلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والإِغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال، (فأرسلنا إِليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً) والروح أحد

[424]

الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه  ولا نقص.

إِنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، فمريم التي عاشت دائماً نقية الجيب، وتربّت في أحضان الطاهرين، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى ... كم داخلها من الرعب والإِضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإِنّها مباشرة (قالت إِنّي أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إِنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامّة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإِمتناع عن المعصية من جهة أُخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إِن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية، والأهم من ذلك كله هو الإِلتجاء إِلى الله، فالله الذي يلتجىء إِليه الإِنسان في أحلك الظروف، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظاراً مشوباً بالإِضطراب والقلق الشديد، إِلاّ أنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلمها ذلك الشخص، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة (قال إِنّي رسول ربّك).

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إِلاَّ أنَّ هذا الإِطمئنان لم يدم طويلا; لأنّه أضاف مباشرة (لأهب لك غلاماً زكياً).

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة أُخرى في قلق شديد (قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً).

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما: إِمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والإِنحراف، وإِنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، فإِنّي لم أختر