![]() |
![]() |
![]() |
زوجاً لحد الآن، ولم أكن امرأة منحرفة قط، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصاً يولد له ولد من غير هذين الطريقين!
إِلاَّ أنَّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إِليها، فقد خاطب مريم بصراحة: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيداً.. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟
ثمّ أضاف: (ولنجعله آية للناس ورحمة منّا) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال (وكان أمراً مقضياً). فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.
* * *
إِنّ كل المفسّرين المعروفين تقريباً فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني، ووجود مفيض للحياة، لأنّه حامل الرسالة الإِلهية إِلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين، وإِضافة الروح هنا إِلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح، حيث أنّ من أقسام الإِضافة هي (الإِضافة التشريفية).
ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصاً بالأنبياء، وإِن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصراً فيه، إلاّ أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أُخرى، كرسالته المذكورة إِلى مريم.
«التمثل» في الأصل من «المثول»، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أُخرى: ممثلا، وعلى هذا فإِنّ قوله: (تمثل لها بشراً سوياً) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إِنسان.
ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إِلى إِنسان شكلا وسيرة، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن، بل المراد أنّه ظهر بصورة إِنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي، إِلاّ أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية، كانت تظن أن في مقابلها إِنساناً سيرة وصورة.
وتلاحظ كثيراً في الرّوايات والتواريخ كلمة «تمثل» بمعناها الواسع، ومن جملتها: إِنّ إِبليس لما اجتمع المشركون في «دار الندوة» وكانوا يخططون لقتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي، يهدف إِلى الخير وشرع بإِغواء رؤساء قريش.
أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي(عليه السلام) على شكل أمراة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إِليه، وقصتها مفصّلة معروفة.
ونقرأ أيضاً في الرّوايات أنّ مال الإِنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.
أو أنّ أعمال الإِنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة، ويظهر كل منها بشكل خاص.
إِن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئاً أو شخصاً يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(1).
* * *
1 ـ تفسير الميزان، ج14، ص 37.
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً(22) فَأَجَآءَهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يـلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هـذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَّنسِيّاً(23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً(24) وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسْـقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً(25) فَكَلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرِيَنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُوِلى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمِ إِنْسِيّاً(26)
وأخيراً حملت مريم، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها: (فحملته)ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها، أم في فمها؟ وذلك لعدم الحاجة إِلى هذا البحث، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.
وعلى كل حال، فإِنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس (فانتبذت به مكاناً قصياً).
لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإِضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكر أحياناً بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أُولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة، وماذا سيحدث في النهاية؟
فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإِتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّاً بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجاً وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع، ومثالا في العبادة والعبودية لله، وكان زهاد بني إِسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر، وستكون غرضاً ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.
إِلاّ أنّها من جهة أُخرى كانت تحس أنّ هذا المولود، نبي الله الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإِنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإِعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الإِتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام، وأحسست بيد رحمته على رأسي.
وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة، فبعضهم حسبه ساعة واحدة، وآخر تسع ساعات، وثالث ستة أشهر، ورابع سبعة، وآخر ثمانية، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء، إِلاّ أن هذا الموضوع ليسَ له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضاً.
وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت
في تلك المدينة بصورة دائماً وقلّما خرجت منها.
ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إِلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إِلى الصحاري الخالية من البشر، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.
ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إِلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهّن على الولادة، إِلاّ أن وضع مريم لما كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإِنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك: (فأجاءها المخاض إِلى جذع نخلة).
إِنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إِلاّ جذعها وبدنها، أي إِنّ الشجرة كانت يابسة(1).
في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت، اللحظة التي مهما أخفيت فإِنّها ستتضح هناك، وسيتجه نحوها سيل سهام الإِتهام التي سيرشقها بها الناس.
لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إِلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً).
إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإِستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.
قد يتساءل البعض باعتراض: كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد
1 ـ «جذع» على وزن «ذِبْح» في الأصل من مادة «جَذَع» على وزن «منع» بمعنى القطع.
حيث رأت كل ذلك اللطف والإِحسان الإِلهي، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت: (ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، إلاّ أنّ هؤلاء لم يدركوا أبداً حال مريم في تلك الساعة، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإِنّهم سينسون حتى أنفسهم.
إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا) وانظري إِلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إِلى نخلة مثمرة (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً) بالمولود الجديد (فإِمّا ترين من البشر أحداً فقولي إِنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إِنسياً). وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.
وخلاصة الأمر، إنّكِ لا تحتاجين إِلى الدفاع عن نفسك، فإِنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضاً، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إِلى نفسك.
إِن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والإِطمئنان.
* * *
إِنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة، والمشاهد والمواقف التي تثير الإِعجاب، والتي حدثت لها بلطف الله، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأُمومة من خلال
هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.
إِنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إِلاّ خطوة واحدة، لكن فجأة يرجع كل شيء إِلى وضعه، ويهّب كل شيء لمساعدتها، وتخطو في محيط هادىء مطمئن من كل الجهات.
جملة (وهزي إِليك بجذع النخلة) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمرها، أعطت درساً لها ولكل البشر، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتي في أشد لحظات الحياة وأصعبها.
إِنّه جواب لاُولئك الذين يسألون عن الحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة، ألم يكن من الأُولى أن يرسل الله ـ الذي ـ بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة ـ نسمة وريحاً تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث، حيث أن مريم عندما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإِنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟
أجل، إِن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة، وبتعبير آخر، فإِن على كل إِنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل، وما وراء ذلك فعلى الله.
لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح، إِلاّ أنّه قد تقع حوادث في حياة الإِنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّاً، وخاصّة إِذا رأى الإِنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإِنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.
لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأُولى هذه الأفكار، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.
إِلاّ أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إِلاّ لحظات قصيرة جدّاً، ولما رأت ذينك المعجزتين الإِلهيتين ـ إِنبعاث عين الماء، وحمل النخلة اليابسة ـ زالت كل تلك الأفكار عن روحها، وغمر قلبها نور الإِطمئنان الهدوء.
3 ـ سؤال وجواب
يسأل البعض: إِنّ المعجزة إِذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟
وقد اعتبر بعض المفسّرين ـ حلا لهذا الإِشكال ـ هذه المعاجز جزءاً من معاجز عيسى تحققت كمقدمة، ويعبرون عن ذلك بالإِرهاص.
إِلاّ أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبداً، لأنّه لا مانع مطلقاً من ظهور الأُمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.
إِنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإِمامة.
يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها، وهذا أكثر تأثيراً من كل الجهات.
ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع،
ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.
ورد عن علي بن الحسين(عليه السلام) في حديث: «صوم السكوت حرام»(1)، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإِسلام.
إِلاّ أن أحد آداب الصوم الكامل في الإِسلام أن يحفظ الإِنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب، كما نقرأ ذلك في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): (إِنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده، إِن مريم قالت: إِنّي نذرت للرحمن صوماً، أي صمتاً، فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا»)(2).
إِستفاد المفسّرون ممّا جاء صريحاً في هذه الآيات، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل، وفي الأحاديث الإِسلامية إِشارة صريحة إِلى ذلك أيضاً:
فيروي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب، فإِن الله عزَّ وجلّ قال لمريم(عليهما السلام): (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)(3).
ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأُم فقط، بل إِنّه سيؤثر حتى في لبنها، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب: «ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من
1 ـ وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 390.
2 ـ من لا يحضره الفقيه، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 332.
3 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 330.
الرطب».(1)
إِلاّ أن من المسلّم أن الإِعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال. ويستفاد أيضاً أنّ الرطب إِن لم يكن موجوداً، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.
يقول علماء التغذية: إِنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها، وحتى المبتلين بمرض السكر فإِنّهم يستطيعون تناول التمر.
ويقول هؤلاء العلماء: إنّ في التمر (13) مادة حيوية، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني(2)، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إِلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.
لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب، ففي التمر يوجد «الكالسيوم»، وهو عامل مهم في تقوية العظام، وكذلك يوجد «الفسفور» وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب، وكذلك يوجد «البوتاسيوم» الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة(3).
* * *
1 ـ المصدر السّابق.
2 ـ من كتاب أول جامعة وآخر نبي، الجزء 7، ص 65.
3 ـ المصدر السابق.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يـمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئَاً فَرِيّاً(27)يـأُخْتَ هَـرُونَ مَا كَانَ أَبوُكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً(28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً(29) قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتـنِىَ الْكِتـبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً(30)وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصـنِى بِالصَّلـوةِ والزَّكَوةِ مَادُمْتُ حَيّاً(31) وَبَرَّاً بِولِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبّاراً شَقِيّاً(32)وَالسَّلمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً(33)
وأخيراً رجعت مريم(عليها السلام) من الصحراء إِلى المدينة وقد احتضنت طفلها (فأتت به قومها تحمله) فلمّا رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم تعجباً، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها، فقلقوا لذلك بشدّة، حيت وقع شك بعضهم وتعجّل آخرون في القضاء والحكم
وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها، وقالوا: إِن من المؤسف هذا الإِنحدار مع ذلك الماضي المضيء، ومع الأسف على تلوّث سمعه تلك الأسرة الطاهرة (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً)(1).
والبعض الآخر واجهها، بالقول: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أُمك بغياً) فمع وجود مثل هذا الأب والأُم الطاهرين، ما هذا الوضع الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأُم حتى تحيدي عن هذا الطريق؟
قولهم لمريم: (يا أخت هارون) وقع مثار الإِختلاف بين المفسّرين، لكن يبدو أنّ الأصح هو أنّ هارون رجل طاهر صالح إِلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إِسرائيل، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصاً بالطهارة والنزاهة، كانوا يقولون: إِنّه أخو أو أخت هارون، وقد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى في حديث قصير عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود، عن المغيرة، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إِلى نجران لدعوتهم الى الإِسلام فقالوا (معترضين على القرآن): ألستم تقرؤون (يا أخت هارون) وبينهما كذا وكذا» (حيث تصوروا أنّ المراد هو هارون أخو موسى) فلمّا لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «ألا قلت لهم: إِنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم»(3) أي ينسبون الاشخاص الصالحين منهم الى الأنبياء.
في هذه الساعة، سكتت مريم بأمر الله، والعمل الوحيد الذي قامت به، هو أنّها أشارت إِلى وليدها (فأشارت إِليه). إِلاَّ أنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون
1 ـ «فرياً» بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إِمّا لإِصلاحه أو إِفساده.
2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 333.
3 ـ المصدر السّابق.
أكثر، وربما حمل بعضها على السخرية، ثمّ غضبوا فقالوا: مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضاً؟ (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً).
لقد بحث المفسّرون هنا وتناقشوا كثيراً في شأن كلمة «كان» الدالة على الماضي، إِلاَّ أنّ الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إِلى ثبوت ولزوم وصف موجود، وبتعبير أوضح: إِنّ هؤلاء قالوا لمريم: كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في المهد؟
والشاهد على هذا المعنى آيات أُخرى من القرآن، مثل (كنتم خير أُمة أخرجت للناس) سورة آل عمران / 110، فمن المسلم أن «كنتم» لا تعني الماضي هنا، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإِسلامي.
وكذلك بحثوا حول «المهد»، فإِنّ عيسى لم يكن قد وُضع في المهد، بل إِنّ ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرّد أن حضرت بين الناس، وفي الوقت الذي كان عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.
إِلاّ أنّ الإِلتفات إِلى معنى كلمة «المهد» في لغة العرب سيوضح جواب هذا السؤال، فإِنّ كلمة المهد تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ المكان الذي يهيؤونه للطفل، سواء كان المهد، أو حجر الأم، أو الفراش، والمهد والمهاد ورد كلاهما في اللغة بمعنى: المكان الممهد الموطأ، أي: للإِستراحة والنوم.
على كل حال، فإِنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الرّوايات ـ : إِنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة!
إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثاً قد فتح فاه وتكلم: (قال إِنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت)، ومفيداً من كل الجهات للعباد (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً).
وكذلك جعلني مطيعاً ووفياً لأُمي (وبرّاً بوالدتي(1) ولم يجعلني جباراً شقياً).
كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقاً.
وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إِذا غضب، ولا يتبع ما يأمر به العقل، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان(2).
و«الشقي» تقال للشخص الذي يهيء أسباب البلاء والعقاب لنفسه، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بضعهما.
ونقرأ في رواية، أن عيسى(عليه السلام) يقول «قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي»(3)وهو إِشارة إِلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.
وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيى(عليه السلام)، فإِنّ هذه الأيّام الثلاثة في حياة الإِنسان أيّام مصيرية خطرة، لا تتيسر السلامة فيها إِلاّ بلطف الله، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيى(عليه السلام) كما وردت في شأن المسيح(عليه السلام)، مع الإِختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل، أمّا في المورد الثّاني فإِنّ المسيح قد طلب ذلك.
* * *
1 ـ البَر ـ بالفتح ـ بمعنى الشخص المحسن، في حين أن البِر ـ بالكسر ـ بمعنى صفة الإِنسان، وينبغي الإِلتفات إِلى أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركاً) لا على الصلاة والزكاة، والمعنى في الواقع: جعلني برا بوالدتي.
2 ـ لزيادة التوضيح حول (جبار)، وجواب هذا السؤال، وهو أنّه كيف تكون إِحدى صفات الله سبحانه أنّه جبار؟ يراجع ذيل الآية (59) من سورة هود من هذا التّفسير.
3 ـ تفسير الفخر الرازي، آخر الآية.
يمكن إِدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم، وخاصّة في مثل هذه الموارد، وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمّة اختلطت بكل تلك الخرافات، في عبارات قصيرة وعميقة، وحية، وغنية المحتوى، وناطقة تماماً، بحيث تطرح جانباً كل أنواع الخرافات.
الملفت للنظر أنّ الآيات المذكورة ذكرت «سبع صفات» ممتازة و«برنامجان» و«دعاء واحد».
فالصفات السبعة عبارة عن كونه «عبداً لله» وذكرها في بداية كل الصفات إِشارة إِلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإِنسان هو مقام العبودية.
وبعد ذلك، كونه «صاحب كتاب سماوي» ثمّ «مقام النبوة» (مع العلم أن مقام النبوة لا يقترن دائماً بالمجيء بكتاب سماوي).
وبعد مقام العبودية والإِرشاد، ذكر كونه «مباركاً» أي مفيداً لوضع المجتمع، وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ أن معنى المبارك: «النفّاع»، أي كثير المنفعة.
ثمّ ذكرت الآيات كونه «باراً بأُمه» وفي النهاية أنّه «لم يكن جباراً شقياً» بل كان متواضعاً، عارفاً بالحق، وسعيداً.
ومن بين جميع البرنامج الالهي للإِنسان تؤكّد الآية على وصية الله سبحانه بالصلاة والزكاة، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين، لأنّهما رمز الإِرتباط بالخالق والخلق، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما، لأن أحدهما يشخصّ ارتباط الإِنسان بالخلق، والآخر يشخصّ ارتباطه بالخالق.
وأمّا الدعاء الذي دعاه لنفسه، ويرجوه فيه من ربّه في بداية عمره، فهو أن يجعل هذه الأيّام الثلاثة سلاماً عليه: يوم الولادة، ويوم الموت، واليوم الذي
يبعث فيه، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!
بالرغم من أنّ المسيح(عليه السلام) قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج، إِلاَّ أنّ ما نقرأه في الآيات ـ محل البحث ـ عن لسانه، والذي يعدّ فيه «ضمن تعداده لميزاته وأوسمته» برّه بأُمه، دليل واضح على أهمية مقام الأم، وهي توضح بصورة ضمنية أنّ هذا الطفل الصغير ـ الذي نطق بالإِعجاز ـ كان عالماً ومطلعاً على أنّه ولد نموذجي بين البشر، وأنّه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل في تكونه وولادته.
وعلى كل حال، فبالرغم من أنّ ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث عن مقام ومكانة الأُم، حتى أنّه خصص يوماً وسمي بـ (يوم الأم)، إِلاّ أن التطور الآلي ـ وللأسف الشديد ـ يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.
ولدينا في الإِسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب، توصي المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية، وتأمرهم أن يسعوا عملياً ـ وليسَ في الكلام وحسب ـ في برّ الوالدين، فنطالع في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «إن رجلا أتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أباك»(1)!
وفي حديث آخر: أن رجلا أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) للجهاد ـ حيث لم يكن الجهاد واجباً عينياً ـ فقال: «ألك والدة»؟ قال: نعم، قال: «فألزمها فإنّ الجنّة تحت قدمها»(2).
1 ـ وسائل الشيعة، الجزء 15، ص 207.
2 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 261.
لا شك أنّنا إِذا لاحظنا ودققنا في المشقات والمتاعب التي تتقبلها وتتحملها الأُم من حين الحمل إِلى الوضع، وفي مرحلة الرضاعة إِلى أن يكبر الطفل، وكذلك العذاب والأتعاب والسهر في الليالي، والتمريض والرعاية، كل ذلك تقبلته بكل رحابة صدر وأنس في سبيل ولدها .. إِذا لاحظنا ذلك فسنرى أن الإِنسان مهما سعى وجدّ في هذا الطريق، فإِنّه سيبقى مديناً للام.
والجميل في الأمر نطالع في حديث، أن أُم سلمة قالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بكل خير، فأي شيء للنساء؟ قال: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «بلى، إِذ حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإِذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمه، فإِذا أرضعت كان لها بكل مصة كعدل عتق محرر من ولد إِسماعيل، فإِذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال: استأنفي العمل فقد غفر لك»(1)! وكأن صحيفة عملك ستبدأ من جديد.
من جملة الأسئلة التي تثيرها هذه الآيات، هو: هل يمكن من الناحية العلمية أن يولد ولد من دون أب؟ وهل أن مسألة ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب تخالف تحقيقات العلماء في هذا المجال، أو لا؟
مما لا شك فيه أنّ هذه المسألة قد تمت عن طريق الإِعجاز، إِلاّ أنّ العلم اليوم لا ينفي إِمكان وقوع مثل هذا الأمر أيضاً، بل صرح بإِمكان ذلك، خاصّة وأن موضوع إِنجاب البكر قد لوحظ بين كثير من الحيوانات، وإِذا علمنا أن مسألة انعقاد النطفة لا تختص بالإِنسان، فإِنّ هذا يثبت إِمكان حدوث هذا الأمر بصورة عامّة.
1 ـ الوسائل، الجزء 15، ص 175.
لقد كتب الدكتور «الكسيس كارل»، الفيزيائي وعالم الحياة الفرنسي المعروف، في كتاب «الإِنسان ذلك المجهول»، عندما نفكر في مقدار مساهمة كل من الأب والأم في تكوين أمثالهما، فيجب أن نتذكر تجارب (لوب) و (باتايون) بأنّه يمكن إِنتاج ضفدعة جديدة من بيضة ضفدعة غير ملقحة بدون تدخل الحيامن، بل بواسطة أساليب خاصّة.
وعلى هذا فإِنّ من الممكن أن يحل عامل كيمياوي أو فيزياوي محل حيمن الذكر، ولكن لابدّ على كل حال من وجود أحد العوامل كمادة ضرورية دائماً.
بناء على هذا، فإنّ المؤكّد من الناحية العلمية لتكوّن الجنين هو وجود نطفة الأُم (البيضة)، وإِلاّ فإنّ نطفة الذكر (الحيمن) يمكن أن يقوم مقامها عامل آخر، ولهذا فإِن مسألة حمل وولادة البكر من المسائل الواقعية التي يتقبلها ويعترف بها الأطباء في عالمنا المعاصر، وإِن كانت نادرة الحدوث.
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإنّ هذه المسألة في مقابل قوانين الخلقة وقدرة الله، هي كما يصورها القرآن حيث يقول: (إِنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)(1)، أي إنّ خرق العادة هذا ليس بأهم من خرق العادة الأوّل ذاك.
لا يخفى أنّ أي طفل حديث الولادة لا يتكلم في الساعات أو الأيّام الأُولى لولادته حسب الوضع الطبيعي المتعارف، فإنّ النطق يحتاج إِلى نمو المخ بالقدر الكافي، ثمّ تقوية عضلات اللسان والحنجرة، وانسجام أجهزة الجسم المختلفة
1 ـ آل عمران، 59.
مع بعضها، وهذه الأُمور عادة تستغرق عدّة أشهر حتى تتهيأ تدريجياً عند الطفل.
إِلاّ أنّنا في المقابل لا نمتلك أي دليل علمي على استحالة هذا الأمر، غاية ما في الأمر أنّه خارق للعادة، وكل المعجزات تتصف بهذه الصفة، أي أنّها كلها خارقة للعادة، لا أنّها مستحيلة الوقوع، وقد ذكرنا تفصيل هذا الموضوع في بحث معجزات الأنبياء.
* * *
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهَ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِن وَلَد سُبْحـنَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35)
![]() |
![]() |
![]() |