فإِذا كُنت قد هيَّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار، وفعلت كلَّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إِليه;


1 ـ كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنَّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

2 ـ جمله (ما شاء الله) لها محذوف إِذ تكون مع التقدير: ما شاء الله كان، أو: ما شاء الله، فإِنَّ هذا هو الشيء الذي يريدهُ الله.

[271]

فإنَّ كل هذه الأُمور هي مِن قدرة الخالق جلَّوعلا، وقد وَضع سبحانه وتعالى الوسائل والإِمكانات تحت تصرفك، حيث أنّك لا تملك شيئاً من عندك، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له: ليسَ مِن المهم أن أكون أقل مِنك مالا وولداً: (إِن ترن أنا أقل منك مالا وولداً).

(فعسى ربّي أن يُؤتين خيراً مِن جنتك).

وليسَ فقط أن يُعطيني أفضل ممّا عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على بُستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء: (ويرسل عليها حسباناً مِن السماء فتصبح صعيداً زلقاً).

أو أنَّهُ سبحانه وتعالى يُعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: (أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع لهُ طلباً).

«حُسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة «حساب»، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تُحَسب عندَ رميها، وتأتي أيضاً بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة صَعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنَّ قدم الإِنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإِنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة، ومنع القرى مِن الإِندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية، وذلك مِن خلال زراعتها بالنباتات والأشجار، أو ـ كما يُصطلح عليه ـ إِخراجها مِن حال الزلق والإِنزلاق).

في الواقع، إِنَّ الرجل المؤمن والموحِّد حذَّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم، لأنَّها جميعاً في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للإِعتماد.

[272]

إِنَّهُ أراد أن يقول لصاحبه: لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنَّ الصواعق السماوية جعلت مِن البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلاًّ مِن التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضاً سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتُجفِّف العيون، بحيث تكون غير قابلة للإِصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأُمور فَلِمَ هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فَلِمَ هذا الإِنشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول: لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة; فلماذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

[273]

الآيات

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يـلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَداً(42)وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهُِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً(43)هُنَالِكَ الْوَلـيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً(44)

التّفسير

العاقبة السوداء:

أخيراً إنتهى الحوار بين الرجلين دون أن يُؤثر الشخص الموحِّد المؤمن في أعماق الغني المغرور، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية، وغافل أنَّ الأوامر الإِلهية قد صدرت بإِبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء، وأنَّهُ وَجَبَ أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنَّ العذاب الإِلهي قد نزلَ في تلك اللحظة مِن الليل عِندما خيَّم الظلام، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هوجاء مخيفة، أو على شكل زلزال مخرِّب ومدمِّر. وأيّاً كان فقد دُمِّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

[274]

والزرع المثمر، حيثُ أحاط العذاب الإِلهي بتلك المحصولات مِن كل جانب: (وأحيط بثمره).

«أحيط» مُشتقّة مِن «إِحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإِبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديده ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان، ولكنَّهُ قبل أن يقترب منه واجههُ مَنظر مُدهش وموحش، بحيث أنَّ فمهُ بقي مفتوحاً مِن شدة التعجُّب، وعيناه توقفتا عن الحركة والإِستدارة.

لم يكن يعلم بأنَّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب، النباتات مُدَمَّرة، وليسَ ثمّة أي أثر للحياة هُناك!

كان الأمر بشكل وكأنَّهُ لم يكن هُناك بستان ولا أراضي مزروعة، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب، قلبه بدأ ينبض بقوّة، بهت لونه، يَبَسَ الماء في فمه، وتحطَّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنَّهُ صحا مِن نوم عميق: (فأصبح يُقلِّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها).

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة: (ويقول يا ليتني لم أشرك بربّي أحداً).

والأكثر حزناً وأسفاً بالنسبة لهُ هو ما أصبح عليه مِن الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والإِبتلاءات: (ولم تكن لهُ فئة ينصرونه مِن دون الله).

ولأنَّهُ فقد ما كان يملكهُ مِن رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر، فإِنَّ مصيره: (وما كان منتصراً).

لقد إنهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء، فهو مِن جانب كانَ يقول: إِنّي لا أصدق بأنَّ هذه الثروة العظيمة

[275]

مِن الممكن أن تفنى، إِلاَّ أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومِن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول: إِنّني أقوى مِنك وأكثر أنصاراً ومالا، ولكنَّهُ بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومِن جانب ثالث فإِنَّهُ كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية، ويعتقد بأنَّ غير قدرته محدودة، لكنَّهُ بعدَ هذه الحادثة، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء، انتبه إلى خطئه الكبير، لأنَّهُ لم يعد يتملك شيئاً يعوضه جانباً مِن تلك الخسارة الكبرى.

وعادةً، فإنَّ الأصدقاء الذين يلتفون حولَ الإِنسان لأجلِ المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى، وقد يُفكِّر الإِنسان أحياناً بالإِعتماد عليهم في الأيّام الصعبة، ولكن عندما يُصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلاّن مِن حوله، لأنَّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي، بل كانت لأسباب مادية، فاذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم، لأنّ مِثل هذِه اليقظة الإِجبارية التي تحدث عندَ نزول الإِبتلاءات العظيمة يُمكن ملاحظتها حتى عندَ أمثال فرعون ونمرود، وهي بلا قيمة، لهذا فإِنّها لا تؤثِّر على حال مَن ينتبه.

صحيح أنَّهُ ذكر عبارة (لم أشرك بربّي أحداً) وهي نفس الجملة التي كانَ قد قالها لهُ صديقه المؤمن، إِلاَّ أنَّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الإِبتلاء، بينما ردَّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

(هُنالك الولاية لله الحق) نعم، لقد أتضح أنَّ جميع النعم مِنهُ تعالى، وأنَّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إِرادته، وأنَّهُ بدون الإِعتماد على لُطفه لا يمكن إِنجاز عمل: (هو خيرٌ ثواباً وخير عقباً).

إِذن، لو أراد الإِنسان أن يحب أحداً ويعتمد على شيء ما، أو يأمل بهديه مِن

[276]

شخص ما، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره، وموقع آماله، ومِن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإِحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيداً حياً لما نطلق عليه اسم غرور الثروة، وقد عرفنا أنَّ هذا الغرور ينتهي أخيراً إلى الشرك والكفر. فعندما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إِيماني إلى منزلة معينة مِن القدرة المالية أو الوجاهة الإِجتماعية، فإِنّهم في الغالب يُصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإِمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق، ويرون مِن التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجياً بفكرة الخلود فيها: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً).

إِنَّ ظنَّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم يُنكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد، فيكون لسان حالهم: (وما أظن الساعة قائمة).

والأنكى مِن ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإِلهي، فيقولون: (وَلئن رُددتُ إلى ربّي لأجدنَّ خيراً مِنها مُنقلباً).

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا، مع فوارق نسبية فيما بينهم، فيبدأ مسيرهم الانحرافي مِن الإِغترار بما

[277]

لديهم مِن قوة وقدرة، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإِنكار المعاد، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنماً دون سِواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذُكِرَ هُنا بشكل سريع يتضمّن بالإِضافة إلى الدرس الآنف، دروساً أُخرى ينبغي أن نتعلمها، وهذه الدروس هي:

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة، فإِنّها غير مُطمئنة وغير ثابتة، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تُبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة مِن عمر الإِنسان، وتحيلها إلى تل مِن تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إِنَّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة، بالشكل الذي لا يمكن معهُ ترميمها أبداً.

ب: إِنَّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإِنسان بغرض الإِفادة مِن إِمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر مِن الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنهُ في نفس اللحظة التي تزول فيها إِمكاناته المادية ويتركونهُ وحيداً لهمومه: (ولم تكن لهُ فئة ينصرونه مِن دون الله).

هذا النوع مِن الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا لهُ نماذج تُبرهن على أنَّ الإِنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده، وأنَّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإِنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية، إِذ يستمر ودُّ هؤلاء في حال الفقر والثروة، في الشباب والشيبة، في الصحة والمرض، في العز والذلة، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج: لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء:

لقد أشرنا مِراراً إلى أنَّ اليقظة الإِجبارية لدى الإِنسان ليست دليلا على يقظة

[278]

داخلية حقيقية هادية، وليست علامة على تغيير مسير الإِنسان، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها مِن معصية وانحراف، بل كل ما في الأمر هو أنَّ الإِنسان عندما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قراراً بتغيير مصيره، ولكن لأنَّهُ لا يملك أساساً متيناً في أعماقه، فإِنَّهُ بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) مِن سورة النساء لرأينا مِن خلالها أنَّ أبواب التوبة تغلق أمام الإِنسان عند رؤية علائم الموت، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) مِن سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عندما صارَ مصيره إلى الغرق وعصفت بهِ الأمواج، فإِذا به يصرخ ويقول: (آمنت أنّه  لا إله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرايئل) إِلاَّ أنَّ هذه التوبة تُرد عليه ولا تقبل منهُ: (الآن وقد عصيت)!

د: لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة:

وهذا درس آخر نتعلمهُ مِن الآيات أعلاه، طبيعي أنَّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالباً ما تتوهم بأنَّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة، لهذا السبب لاحظنا أنَّ مُشركي العصر الجاهلي يعجبون مِن يتمّ رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)وفقره ويقولون: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل مِن القريتين عظيم)(1).

هـ : أسلوب تحطيم الغرور:

عندما تبدأ بواعث الغرور تقترب مِن الإِنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة مِن جذورها، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كانَ فيه تراباً لا قيمة له; وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليداً ضعيفاً لا يقدر على الحركة.


1 ـ الزخرف، 31.

[279]

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد مِن خلال خطاب الرجل المؤمن، صاحب البستان إِلى وضعه العادي: (أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سوّاك رجلا).

و: درسٌ مِن عالم الطبيعة:

القرآن عندما يصف البساتين المثمرة يقول: (ولم تظلم منهُ شيئاً) ولكنَّهُ عندما يتحدث عن صاحب البستان يقول: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه).

يعني: أيّها الإِنسان، أنظر إلى الوجود مِن حولك، ولاحظ أنَّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك، فلا مجال عندها للإِحتكار والحسد والبخل، فعالم الوجود هو ساحة للإِيثار والبذل والعفو، فما تمتلكهُ الأرض تقدمهُ بإِيثار إلى الحيوانات والنباتات، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إِختيار الإِنسان والأحياء الأُخرى، وقرص الشمس يضعف يوماً بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة; الغيوم تمطر والرياح تهب، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود، ولكنّك أيّها الإِنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيِّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

[280]

الآيتان

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآء أَنْزَلْنـهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الْرِّيـحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء مُّقْتَدِراً(45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْبـقَيـتُ الصَّـلِحـتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وخَيْرٌ أَمَلا(46)

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيَّة:

الآيات السابقة تحدَّثت عن عدم دوام نعم الدنيا، ولأنَّ إِدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ80) سنة يُعتبر أمراً صعباً بالنسبة للأفراد العاديين، لذا فإِنَّ القرآن قد جسَّدَ هذه الحقيقة مِن خلال مثال حي ومُعبِّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون مِن غفلتهم ونومهم عندما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه مِن السماء) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء، وتعيد الحياة للبذور

[281]

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدَّة بدورها، لتبدأ حركتها التكاملية.

إِنَّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيراً تشق هذِ البراعم التراب وتخترقه، الشمس تشع، النسيم يهب، المواد الغذائية في الأرض تقدِّم ما تستطيع، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثمّ تُواصل نموها، بحيث ـ بعد فترة ـ نرى أن نباتات الأرض تتشابك فيما بينها: (فاختلط به نبات الأرض).

الجبل والصحراء يتحولان إلى قوّة حياتية دافعة، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإِنّها تزيِّن الأغصان، وكأنَّ الجميع يضحك، يصرخون صُراخ الفرح; يرقصون فرحاً!

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلا، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات، يبرد الهواء، وتشح المياه، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة، ميتاً ويابساً:(فأصبحَ هشيماً)(1).

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء مِن فصلها عن الأغصان في فصل الربيع، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أنَّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء: (تذروه الرياح)(2).

نعم: (وكانَ الله على كل شيء مُقتدراً).

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإِنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيثُ تقول: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).

إِنَّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تُشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيثُ ترتبط الإشياء الأُخرى بهما، إِنّها تشير إلى (القوّة الإِقتصادية) و (القوّة الإِنسانية)


1 ـ «هشيم» مِن «هشم» بمعنى محطَّم، وهي هُنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطِّمة.

2 ـ «تذوره» مِن «ذرو» وتعني التشتيت.

[282]

لأنَّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي، خاصّة في الأزمنة السابقة إِذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسهُ أكثر قوة، لأنَّ الأبناءهم رُكن القوّة، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنَّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).

لذا فإِنّهم كانوا يعتمدون على «البنين» جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإِنسان، وبالطبع ليسَ للبنات نفس المركز أو المقام.

المهم أنَّ (المال والبنون) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر، إِنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا، وإِذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يُكتب لها الخلود، ولا يكون لها أدنى اعتبار.

ورأينا أنَّ أكثر الأموال ثباتاً ودواماً والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.

وفيما يخص الأبناء; فبالإِضافة إلى أنَّ حياتهم وسلامتهم معرَّضة للخطر دائماً، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداءً بدلا مِن أن يكونوا عوناً في إِجتياز المشاكل والصعوبات.

ثمّ يُضيف القرآن: (والباقيات الصالحات خيرٌ عِندَ ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا).

بالرغم مِن أنَّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مِثل الصلوات الخمس أو ذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلاّ الله والله أكبر، وأمثال هذه الأُمور، إِلاَّ أنَّ الواضح أنَّ هذا التغيير هو مِن السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

فإِذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل، أو مودة أهل البيت(عليهم السلام)، فإِن الغرض مِن ذلك هو بيان المصداق البارز، وليسَ تحديد

[283]

المفهوم ، خاصّة وإِن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض.

فمثلا في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنَّهُ قال: «لا تستصغر مودّتنا فإِنّها مِن الباقيات الصالحات».

وفي حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ قوله: «لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها مِن الباقيات الصالحات».

وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون احياناً فتنة وإِختباراً، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإِنّها ستكون من الباقيات الصالحات، لأنَّ الذات المقدسة الإِلهية ذات أبدية، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية.

* * *

بحوث

1 ـ المغريات

مرّة أُخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إِنَّ القرآن ـ من خلال مثل واحد ـ يعكس مجموعة مِن الحقائق العقلية التي قد يكون مِن الصعب دركها مِن قبل الكثير مِن الناس.

يقول للناس: إِنَّ دورة حياة النبات وموته تتكرَّر أمّا أعينكم في كل سنة مرَّة، فإِذا كان عمر الإِنسان (60) سنة فإِنَّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (60) مرَّة.

إِذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.

إِنَّ مثل الإِنسان في حياته كمثل النبتة، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم، ثمّ

[284]

أصبح شاباً كالوردة المملوءة طراوة، ثمّ يُصبح كهلا ضعيفاً كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء، ثمّ إِنَّ عاصفة الموت تحصد هذا الإِنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهريء ـ بواسطة العواصف ـ إلى مُختلف الإِتجاهات والأماكن.

ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها، إِذ مِن الممكن أن تنتهي في مُنتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (24) مِن سورة يونس: (إِنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه مِن السماء فاختلطَ بهِ نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إِذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظنَّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس).

وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سبباً لفناء الحياة في مُنتصف دورة الحياة، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.

في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا ـ سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي ـ إلى الفناء الذي يحل بساحة الإِنسان عاجلا أم آجلا.

2 ـ عوامل تحطيم الغرور

قُلنا: إِنَّ الكثير مِن الناس عندما يحصلون على الإِمكانات المادية والمناصب يُصابون بالغرور، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإِنسان، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.

ولأنَّ القرآن كتاب تربوي عظيم، فهو يستفيد مِن عدة طرق لتحطيم الغرور.

ففي بعض الأحيان يجسِّد لنا أنَّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه.

وفي أحيان أُخرى يُحذِّر مِن إِمكانية تحوُّل الثروات والاولاد إلى عدو

[285]

للإِنسان (كما في الآية 55 مِن سورة التوبة).

وفي مرّات يحذِّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني، عندما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ مِن أمثال فرعون وقارون.

وقد رأينا القرآن يعالج إِحساس الإنسان بالغرور مِن خلال تذكيره بماضيه، عندما كان نطفة عديمة الأهمية أو تراباً لا يُذكر، ثمّ يُجسِّد لهُ مستقبلهُ وما هو صائر إليه كي يعرف أنَّ الغرور بين حَدِّي الضعف هَذين يُعتبر عملا جنونياً (كما في الآية 6 مِن سورة الطارق، والآية 8 مِن سورة السجدة، والآية 38 مِن سورة القيامة).

وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أُسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإِنسان، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير مِن الجرائم في طول التأريخ.

ولكن مِن المسلَّم به أنَّ المؤمنين الحقيقيين لا يُصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى مَنصب أو ثروة، ليسَ هذا وحسب، بل ترى أنَّهُ لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم، إِذ يعتبرون كل هذه الأُمور عبارة عن زينة عابرة، وبضاعة زائلة، ومصيرها إلى فناء عندما تهب أدنى عاصفة.

* * *

[286]

الآيات

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرى الأَْرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنـهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً(47) وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنـكُمْ أَوَّلَ مَرَّةِ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً(48)وَوُضِعَ الْكِتـبُ فَتَرى الُْمجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يـوَيْلَتَنَا مَالِ هـذَا الْكِتـبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرةً إِلآَّ أَحْصَـهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)

التّفسير

يا ويلتاه مِن هذا الكتاب!

تعقيباً لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإِنسان وإِعجابه بنفسه، وما تؤدي إليه هذه الصفات مِن إنكار للبعث والمعاد، يَنصب المقطع الراهن مِن الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل المُمَهِدَة للقيامة وفق الترتيب الآتي:

1 ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

2 ـ مرحلة البعث.

[287]

3 ـ قسم مِن مرحلة ما بعد البعث.

الآية الأُولى تذكّر الإِنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إِنَّ إِنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم مِن خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة مِنها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يُمسك الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية مِن أيّ مِن المظاهر السابقة: (ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة).

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنَّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إِطار حديثها عمّا بات يُعرف اصطلاحاً بـ «أشراط الساعة».

إنَّ المستفاد مِن مجموعة تلك السور أنَّ وجه العالم الراهن يتغيِّر بشكل كُليّ حيثُ تتلاشي الجبال، وتنهار الأبنية والأشجار، ثمّ تضرب الأرض سلسلة مِن الزلازل، وتنطفيء الشمس، ويخمد نور القمر، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إِلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإِنسان حينئذ حياته الأُخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر مِنهم أحداً).

«نغادر» مِن «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يُخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنَّهُ «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

في كل الأحوال، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنَّ المعاد هو حالة عامّة  لا يستثنى مِنها أحد.

الآية التي بعدها تتحدَّث عن كيفية بعث الناس فتقول: (وعرضوا على ربّك صفاً). إِنَّ استخدام هذا التعبير قد يكون إِشارة إلى حشر كل مجموعة مِن الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد; أو أنَّ الجميع سيكونون في صف واحد دون

[288]

أية إِمتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أوَّل مرَّة).

فليسَ ثمّة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا إِلامتيازات والمناصب المادية، ولا الملابس المختلفة، وليسَ هُناكَ ناصر أو معين، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوَّل مرَّة، بالرغم مِن أنّكم كُنتم تتوهمون عدم امكان ذلك: (بل زعتم ألن نجعل لكم موعداً).

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم مِن إِمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أُخرى مِن يوم البعث والمعاد فتقول: (ووضع الكتاب). هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: (فترى المجرمين مُشفقين ممّا فيه). وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون ويقولون: (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب  لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أحصاها).

الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وَصَغُر، إِنَّهُ موقف موحش.. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها، حتى كُنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مُخالف، لكن نرى اليوم أنَّ مسؤوليتنا أصبحت ثقيلة جدّاً ومصيرنا مظلم.

بالإِضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً). وجدوا الحسنات والسيئات; الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها مُتجسِّدة أمامهم.

في الواقع إِنّهم يُلاقون مصير أعمالهم: (ولا يظلم ربّك أحداً). الذي سيشملهم هُناك ، هو ـ لا مُحالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك  فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.

* * *

[289]

بحوث

1 ـ سر إِنهدام الجبال

قلنا: إِنَّهُ في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي، وقد وردت صياغات مُختلفة حول إِنهدام الجبال في القرآن الكريم، يمكن أن تقف عليها مِن خلال ما يلي:

في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير (نسيِّر الجبال) وإِنَّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (20) مِن سورة النبأ. والآية (3) مِن سورة التكوير.

ولكنّنا نقرأ في الآية (10) مِن سورة المرسلات قوله تعالى: (وإِذا الجبال نُسفت).

في حين أنّنا نقرأ في الآية (14) مِن سورة الحاقة قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فَدُكتا دكةً واحدة).

وفي الآية (14) مِن سورة المزمَّل قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلا).

وفي الآية (5) مِن سورة الواقعة قوله تعالى: (وبست الجبال بساً فكانت هباءاً مُنبثاً).

أخيراً نقرأ قوله تعالى في الآية (5) مِن سورة القارعة: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش).

ومِن الواضح أن ليس هُناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه، بل هي صيغ لمراحل مُختلفة لزوال جبال العالم ودمارها، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتاً واستقراراً، حيث تبدأ العملية مِن نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتُراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!

ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟

[290]

إِنّها غير معلومة لدينا، إِذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيثُ تكون الحركة الدورانية للأرض سبباً في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإِنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.

وعلى كل حال، فهذه الأُمور تدلَّ على أنَّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت، أيضاً في تجديد حياة الناس، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل، إِذ بالرغم مِن أنَّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم، إِلاَّ أنَّ جميع الأُمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل.