[214]

اذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار، وتغرب من جهة الشمال: (وترى الشمس إِذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإِذا غربت تقرضهم ذات الشمال).

وعلى هذا الأساس لم يكن ضوءِ الشمس يصل إِلى أجسادهم بشكل مِباشر، وهو أمر لو حصل فقد يؤدي إِلى تلف أجسادهم، ولكن الأشعة غير المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.

إِنَّ عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكّد على هذا المعنى، وكأنَّ الشمس كانت مأمورة بأن تمرّ مِن اليمين (يمين الغار). وكلمة (تقرض) التي تعني (القطع) تؤكّد نفس مفهوم السابق، وإِضافة إِلى هذا فإِنَّ كلمة «تزاور» المشتقّة مِن كلمة (الزيارة) المقارنة لبداية الشيء تُناسب مفهوم طلوع الشمس. (وتقرض) تعني القطع والنهاية وهو معنى يتجلى في غروب الشمس.

ولأنَّ فتحة الغار كانت إِلى الشمال فإِنَّ الرياح اللطيفة والمعتدلة كانت تهب مِن طرف الشمال وكانت تدخل بسهولة إِلى داخل الغار، وتؤدي الى تلطيف الهواء في جميع زوايا الغار.

ثانياً: (وهم في فجوة منه)

لقد كان أُولئك في مكان واسع مِن الغار، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مُستَقَرَّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة، بل إِنّهم انتخبوا وسط الغار مستقراً لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار، وبعيدين أيضاً عن الأشعة المباشر لضوء الشمس.

وهُنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية، حيثُ يبيّن أنَّ الهدف مِن ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض: (ذلك مِن آيات الله مَن يهد الله فهو المهتد ومَن يضلل فلن تجد لهُ ولياً مرشداً).

[215]

نعم، إِنَّ الذين يضعون أقدامهم في طريق الله، ويُجاهدون لأجله فإِنَّ الله سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليسَ في بداية العمل فقط. إِنَّ الله يرعى هؤلاء حتى في أدق التفاصيل.

ثالثاً: إِنَّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً: (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود). وهذا يدل على أنَّ أجفانهم كانت مفتوحة بالضبط مِثل الإِنسان اليقظ، وقد تكون هذه الحالة الإِستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإِنسان اليقظ. أو لكي يكون شكلهم مُرعباً كي لا يتجرأ إِنسان على الإِقتراب منهم. وهذا بنفسه أُسلوب للحفاظ عليهم.

رابعاً: وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياماً في الكهف، فإِنَّ الله تبارك وتعالى يقول: (وَنقلبهم ذات اليمين وذات الشمال).

حتى لا يتركز الدم في مكان معين، ولا تكون هُناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدّة طويلة.

خامساً: في وصف جديد يقول تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد).

كلمة «وصيد» وكما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل الغرفة أو المخزن الذي يتمّ إِيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال، إِلاَّ أنَّ المقصود بهِ هنا هو فتحة الغار.

برغم أنَّ الآيات القرآنية لم تتحدث حتى الآن عن كلب أصحاب الكهف، إِلاَّ أنّ القرآن يذكر هُنا تعابير خاصّة تتضح مِن خلالها بعض المسائل، فمثلا ذكر حالة كلب أصحاب الكهف يفيد أنّه كان معهم كلب يتبعهم أينما ذهبوا ويقوم بحراستهم.

أمّا متى التحق هذا الكلب بهم، وهل كان كلب صيدهم، أو أنَّهُ كلب ذلك الراعي الذي التقى بهم في مُنتصف الطريق، وعندما عرف حقيقتهم أرسل

[216]

حيواناته إِلى القرية والتحق بهم، لأنَّهُ كان يبحث عن الحقيقة مثلهم وقد رفض هذا الكلب أن يتركهم واستمرَّ معهم.

ألا يعني هذا الكلام أنَّ جميع المحبّين ـ لأجل الوصول إِلى الحق ـ يستطيعون سلوك هذا الطريق، وأنَّ الأبواب غير مغلقة أمام أحد سواء كانوا وزراء عند الملك الظالم ثمّ تابوا، أو كان راعياً، بل وحتى كلبه؟!

ألم يؤكّد القرآن أن جميع ذرات الوجود في الأرض والسماء، وجميع الأشجار والأحياء تذكر الله، وتحبّ الله في قلوبها وصميم وجودها؟ (راجع سورة الإِسراء ـ الآية 44).

سادساً: قوله تعالى: (لو اطلّعت عليهم لوليت مِنهم فراراً ولملئت مِنهم رُعباً).

إِنّها ليست المرّة الأُولى ولا الأخيرة التي يحفظ فيها الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالرعب والخوف، فقد واجهتنا في الآية (151) مِن سورة آل عمران صورة مُماثلة جسّدها قول الله تبارك وتعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب)(1).

وفي دعاء الندبة نقرأ كلاماً حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ثمّ نصرتهُ بالرعب».

أو ما هو سبب الرعب في مشاهدة أهل الكهف، وهل يعود ذلك لظاهرهم الجسماني، أو بسبب قوّة معنوية سرية؟

الآيات القرآنية لم تتحدَّث عن ذلك، ولكن المفسّرين ذكروا بحوثاً مُفصَّلة في هذا المجال، ولعدم قيام الدليل عليها صرفنا النظر عن ذكرها.

كما أنّ قوله تعالى: (ولملئت مِنهم رعباً) في الحقيقة عِلَّة لقوله تعالى:


1 ـ لأجل التوضيح أكثر يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (148) مِن سورة آل عمران والآية (12) مِن سورة الأنفال من تفسيرنا هذا.

[217]

(لوليت مِنهم فراراً) يعني لكُنت تهرب بسبب الخوف الذي يملأ قلبك، وكأنَّ قلبك مملوء بالخوف، وينفذ إلى ذرّات وجودك بحيث أنَّ جميع وجود الإِنسان يُصاب بالوحشة والخوف. على أي حال، إِذا أراد الله شيئاً فإِنَّهُ يُحقق أهم النتائج مِن خلال أبسط الطرق.

* * *

[218]

الآيتان

وَكَذلِكَ بَعَثْنـهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُم كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هـذِهِ إِلَى الْمَدِينَهِ فَلْيَنظُر أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْق مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَيُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً(19)إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُم يَرْجُمُوكُمْ أَو يُعيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً(20)

التّفسير

اليقظة بعدَ نوم طويل:

سوف نقرأ في الآيات القادمة ـ إِن شاء الله تعالى ـ أنَّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كانَ نومهم أشبه بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإِنَّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها (وكذلك بعثناهم).

يعني مِثلما كُنّا قادرين على إِنامتهم نوماً طويلا فإِنّنا أيضاً قادرون على

[219]

إِيقاظهم. لقد أيقظناهم مِن النوم: (ليتساءلوا بينهم قالَ قائل مِنهم كم لبثتم)(1).

(قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم).

لعل التردُّد والشك هنا يعود ـ كما يقول المفسّرون ـ إِلى أن أصحاب الكهف دخلوا الغار في بداية اليوم، ثمّ ناموا، وفي نهاية اليوم استيقظوا مِن نومهم، ولهذا السبب اعتقدوا في بادىء الأمر بأنّهم ناموا يوماً واحداً، وبعد أن رأوا حالة الشمس، قالوا: بل (بعض يوم).

وأخيراً، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا: (قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم).

قال بعضهم: إِنَّ قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة لإِستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد.

وَقد يكون كلامهم هذا بسبب شكِّهم في أنَّ نومهم لم يكن نوماً عادياً، وذلك عندما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظفارهم وما حلَّ بملابسهم.

ولكنَّهم ـ في كل الأحوال ـ كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إِلى الطعام، لأنَّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إِرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إِلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه).

ثمّ أردفوا: (وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً). لماذا هذا التلطُّف: (إِنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم).

ثمَّ: (ولن تُفلحوا إِذاً أبداً).

* * *


1 ـ اللام في «ليتساءلوا» هي لام العاقبة وليست للعلّة. يعنى أنَّ نتيجة يقظتهم هو أن سأل أحدهم الآخر عن طول مدّة نومهم.

[220]

بحوث

1 ـ أزكى الطعام

مع أنَّ أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إِلى الطعام، إِلاَّ أنّهم قالوا للشخص الذي كلَّفوه بشراء الطعام: لا تشتر الطعام مِن أيّ كان، وإِنّما انظر أيُّهم أزكى وأطهر طعاماً فأتنا منهُ.

بعض المفسّرين تأولوا المعنى وقالوا: إِنَّ المقصود مِن (أزكى) هو ما يعود إِلى الحيوانات المذبوحة، إِذ أنّهم كانوا يعلمون أنَّ في تلك المدينة مَن يبيع لحم الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأنَّ البعض يتكسَّب بالحرام، لذلك أوصوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عندما يحاول شراءِ الطعام.

ولكن يظهر أنَّ لهذه الجملة مفهوماً واسعاً يشمل كافة أشكال الطهارات الظاهرية والباطنية (المعنوية)، وكلامهم وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب، بل عليهم أيضاً الإِهتمام بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكياً نقياً مِن جميع الأرجاس والشبهات. وإِنَّ هذا الأمر ينبغي أن يلازمهم حتى في أصعب لحظات الحياة وأشدَّها عسراً، لأنَّ هذا المعنى هو تعبير عن أصل في وجود المؤمن.

اليوم يسعى معظم أفراد عالمنا للإِهتمام بجانب مِن هذا الأمر، وهو الجانب المتعلق بالحفاظ على الطعام مِن أشكال التلوث الظاهري، إِذ يضعون الطعام في أواني مغطاة بعيدة عن الأيدي الملوَّثة، وعن الأتربة والغبار. وهذا العمل بحدَّ ذاته جيد جدّاً، إِلاَّ أنّ علينا أن لا نكتفي بهذا المقدار، بل ينبغي تزكية الطعام وتطهيره مِن لوثة الشبهة والحرام والرّبا والغش وأي شكل من أشكال التلوَّث المعنوي.

وفي الرّوايات الإِسلامية هُناك تأكيد كبير على الطعام الحلال النقي الزاكي وأثره في صفاء القلب واستجابة الدعاء.

[221]

ففي رواية نقرأ أنّه جاء رجلٌ إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسَألهُ قائلا: أحبُّ أن يُستجاب دُعائي.

فقال لهُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «طهَّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(1).

ثانياً: التقية البنّاءة

نستفيد مِن تعبير الآيات أعلاه أنَّ أصحاب الكهف كانوا يُصرّون على أن  لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام، أو يقتلون بأفجع طريقة مِن خلال رميهم بالحجارة. إِنّهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين حتى يستطيعوا بهذا الأُسلوب الإِحتفاظ بقوّتهم للصراع المقبل، أو على الأقل حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإِيمانهم.

وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام «التقية البنّاءة» حيثُ أنّ حقيقة التقية هو أن يحفظ الإِنسان طاقته مِن الهدر بإِخفاء نفسه أو عقيدته. يحفظ نفسهُ ويصونها حتى يستطيع ـ في مواقع الضرورة ـ الإِستمرار في جهاده المؤثِّر. وطبيعي عندما تكون التقية واخفاء العقيدة سبباً لتصدُّع الأهداف والبرنامج الكبرى، فإِنّها تكون ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغاً ما بلغ الضرر.

ثالثاً: اللطف مركز القرآن

إِنَّ قوله تعالى: (ليتلطَّف) ـ كما هو مشهور ـ هي نقطة الفصل بين نصفي القرآن مِن حيث عدد الكلمات. وهذا بنفسه يشير إِلى معنى لطيف للغاية، لأنّ الكلمة مُشتقّة مِن اللطف، واللطافة والتي تعني هُنا الدقة. بمعنى أنَّ المرسل لتهيئة الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يُشعِر أحد بقصتهم.


1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرابع، أبواب الدعاء، باب (67) الحديث الرابع. ولمزيد مِن التوضيح يمكن مُراجعة تفسير الآية (186) مِن سورة البقرة.

[222]

بعض المفسّرين قالوا: إِنَّ الغرض مِن التلطُّف في شراء الطعام هو أن  لا يتصَعَّب في التعامل، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.

وهذا بذاته لطف أن تُشكِّل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين كلماته الهادية.

* * *

[223]

الآيات

وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنـزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيـناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً(21) سَيَقُولُونَ ثَلـثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيْهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظـهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحداً(22)وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىء إِنِّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً(23) إِلاَّ أن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاَِقْرَبَ مِنْ هـذَا رَشَداً(24)

التّفسير

نهاية قصّة أصحاب الكهف:

لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة مِن الرّجال المتشخّصين

[224]

إِلى كلِّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم، حيث قدَّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس، أو قد يذهب أصحاب الكهف إِلى مَناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إِليه، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.

لقد أصدر الحاكم تعليماته إِلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إِلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء، وهذا الأمر أصبح بحدِّ ذاته لغزاً للناس، ونقطة انعطاف في أفكارهم، وقد يكون هذا الأمر ـ وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر ـ هو بحدِّ ذاته سبباً ليقظة الناس ومصدراً لوعيهم، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

ولكن في كل الأحوال، فإِنَّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إِلى الشخص المكلَّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دَخل المدينة ولكنَّهُ فغَر فاه مِن شدّة التعجُّب، فالشكل العام للبناء قد تغيَّر، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب الأمس تحولت إِلى قصور، وقصور الأمس تحوَّلت إِلى خرائب!

لقد ظنَّ ـ للحظة واحدة ـ أنَّهُ لا يزال نائماً، وأنَّ ما يُشاهده ليس سوى أحلام، فركَ عينيه، إِلاَّ أنَّهُ التفت إِلى ما يراه، وهو عين الحقيقة، وإِن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.

إِنَّهُ لا يزال يعتقد بأنَّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم، فلماذا هذا الإِختلاف، وكيف تمَّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!

[225]

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيباً للناس وغير مألوف. ملابسهُ، كلامه، شكلهُ كل شيء فيه بدا غريباً للناس، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إِليه، لذا قام بعضهم بمُتابعته.

لقد انتهى عجبه عِندما مدَّ يدهُ إِلى جيبه لِيُسدِّد مبلغ الطعام الذي اشتراه، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إِلى (300) سنة، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوباً عليها، وعندما طلب منهُ توضيحاً قالَ لهُ بأنَّهُ حصل عليها حديثاً.

وقد عرف الناس تدريجياً مِن خلال سلسلة مِن القرائن أنَّ هذا الشخص هو واحد مِن أفراد المجموعة الذين قرأوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل (300) سنة، وأنَّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم، وهنا أحسَّ الشخص بأنَّهُ وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كانَ لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إِلى جميع الأماكن.

قال بعض المؤرّخين: إِنَّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن، إِلاَّ أنَّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإِحياء الموتى بعد الموت كان صعباً جدّاً على أفراد ذلك المجتمع، فقسم مِنهم لم يكن قادراً على التصديق بأنَّ الإِنسان يُمكن أن يعود للحياة بعدَ الموت، إِلاَّ أنَّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعاً لأُولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.

ولذا فإِنَّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإِنامتهم نقوم الآن بإِيقاظهم حتى ينتبه الناس: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنَّ وعد الله حق) ثمّ أضاف تعالى: (وإِنَّ الساعة لا ريب فيها).

حيث أنَّ هذا النوم الطويل الذي استمرَّ لمئات السنين كان يشبه الموت، وأن إِيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول: إِنَّ هذه الإِنامة والإِيقاظ هي أكثر إِثارة

[226]

للعجب مِن الموت والحياة في بعض جوانبها، فمن جهة قد مرَّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفنَ أو تتأثَّر، وقد بقوا طوال هذه المدَّة بدون طعام أو شراب، إِذن كيف بقوا أحياءً طيلةَ هذه المدَّة؟

اليسَ هذا دليلا قاطعاً على قدرة الله على كل شيء، فالحياة بعد الموت، بعد مُشاهدة هذه القضية ممكنة حتماً.

بعض المؤرّخين كتب يقول: إِنَّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه، عاد بسرعة إِلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد تعجب كل منهم، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإِخوان، ولم يبق مِن أصحابهم أحد، أصبحت الحياة بالنسبة إِليهم صعبة للغاية، فطلبوا مِن الخالق جلَّ وعلا أن يُميتهم، وينتقلون بذلك إِلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربَّهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصلهُ الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين مَن لم يعتقد به، فالمعارضون للمعاد كانوا يُريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة، كي يُسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تُغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافياً إِلى الأبد عن أنظار الناس. قال تعالى: (إِذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً).

ولأجل إِسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيراً، إِنَّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإِن: (ربّهم أعلم بهم). أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّاً لإِثبات المعاد بعد الموت، فقد جَهدوا على أن لا تُنسى القصة أبداً لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجداً، وبقرينة وجود المسجد فإِنَّ الناس سوف لن

[227]

ينسوهم أبداً، بالإِضافة إلى ما يتبرك بهِ الناس مِن آثارهم: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنَّ عليهم مسجداً).

وفي تفسير الآية ذُكرت احتمالات أُخرى سنقف على بعضها في البحوث.

الآية التي بعدها تُشير إِلى بعض الإِختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم). وبعضهم (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم). وذلك مِنهم (رجماً بالغيب). وبعضهم (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم). أمّا الحقيقة فهي: (قل ربّي أعلم بعدتهم). ولذلك لأنّه (ما يعلمهم إِلاَّ قليل).

وبالرغم مِن أنَّ القرآن لم يشر إِلى عددهم بصراحة، لكن نفهم مِن العلامات الموجودة في الآية أنَّ القول الثّالث هو الصحيح المطابق للواقع، حيث أنَّ كلمة (رجماً بالغيب) وردت بعد القول الأوّل والثّاني، وهي إِشارة إِلى بُطلان هَذين القولين، إِلاَّ أنَّ القول الثّالث لم يُتَبع بمثل الإِستنكار بل استتبع بقوله تعالى: (قل ربّي أعلم بعدتهم) وأيضاً بقوله (ما يعلمهم إِلاّ قليل) وهذا بحدِّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثّالث).

وفي كل الأحوال فإِنَّ الآية تنتهي بنصيحة تحث على عدم الجدال حولهم إِلاَّ الجدل القائم على أساس المنطق والدليل: (فلا تُمار فيهم إِلاَّ مراءً ظاهراً).

(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته، مأخوذة في الأصل مِن (مريت الناقة) بمعنى قبضت على (ضَرَعْ) الناقة لأحلبها، ثمّ أطلق المعنى بعد ذلك لِيشمل الأشياء الخاضعة للشك والترديد.

وقد تُستخدم كثيراً في المجادلات والدفاع عن الباطل، إِلاَّ أنَّ أصلها  لا يختص بهذا المعنى، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي موضوع كان موضعاً للشك.

«ظاهر» تعني غالب ومسيطر ومُنتصر. لذا فالآية تقول: (فلا تمار فيهم إِلاَّ

[228]

مراءً ظاهراً) بمعنى قُل لهم قولا مَنطقياً بحيث تَتَوضَح رجحان منطقك.

وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو: لا تتحدَّث حديثاً خاصّاً مع المعارضين والمعاندين حيثُ أنَّهم يُحرِّفون كلَّ ما تقول، بل تحدَّث معهم علانية وأمام النّاس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول، ولا يستطيعوا إِنكارها.

التّفسير الأوّل أكثر صحّة.

وعلى أي حال فإِنَّ مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدَّث معهم بالإِعتماد على الوحي الإِلهي، لأنَّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: (ولا تستفت فيهم مِنهم أحداً).

الآية التي بعدها تعطي توجيهاً عاماً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تقولن لشيء إِنّي فاعل ذلك غداً).

(إِلاَّ أن يشاء الله) يعني يجب أن تقول (إِن شاء الله) لكل ما يخص أخبار المستقبل وأحداثه و لكل تصميم تتخذه، لأنّك أوّلا غير مستقل في اتّخاذ القرارات، وإِذا لم يشأ الله فإنَّ كائناً مَن كان لا يستطيع القيام بأيِّ عمل، لذا ولأجل أن تُثبت أنَّ قوّتك قبس مِن قوّة الله الأزلية، وأنّها مرتبطة بقدرته، أضف عبارة (إِن شاء الله) إِلى كلامك.

ثانياً: لا يصح للإِنسان ـ من الوجهة المنطقية ـ أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته، لأنَّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إِن شاء الله) مع كل تصميم لفعل شيء.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون مُراد الآية هو أن تنفي استقلال الإِنسان في إِنجاز الأعمال، حيث يصبح مفهوم الآية: إِنّك لا تستطيع أن تقول: إِنّك ستقوم بالعمل الفلاني غداً إِلاَّ أن يشاء الله ذلك.

بالطبع فإنّ لازم هذا القول أن الكلام سيكون تاماً مع اضافة (ان شاء الله)

[229]

ولكن هذا اللزوم سيكون للجملة لا للمتن كما هو الحال في التّفسير الأوّل(1).

سبب النّزول الذي أوردناه في بداية الآيات يُؤيد التّفسير الأوّل، حيثُ أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعد بالإِجابة على أسئلة قريش حول أصحاب الكهف وغيرها بدون ذكر جملة (إِن شاء الله) لذلك تَأخَّر عنهُ الوحي فترة، لكي يكون ذلك تحذيراً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون عبرة لجميع الناس.

وبعد ذلك يقول القرآن: (واذكر ربّك إِذا نسيت) وهذه إِشارة إِلى أنَّ الإِنسان إِذا نسي قول (إِن شاء الله) وهو يتحدَّث عن أمر مستقبلي، فعليه أن يقولها فَور تذكره، حيث يُعوَّض بذلك عمّا مضى منه.

وبعد ذلك جاء قوله تعالى: (وقل عسى أن يهدين ربّي لأقرب مِن هذا رشداً).

* * *

بحوث

1 ـ قوله تعالى: (رجماً بالغيب)

كلمة (رجم) تعني في الأصل الحجارة أو رمي الحجارة، ثمّ أطلقت بعد ذلك على أي نوع مِن أنواع الرمي. وتستخدم في بعض الأحيان كناية عن (الإتهام) أو (الحكم استناداً إِلى الظن والحدس). وكلمة (بالغيب) تأكيداً لهذا المعنى، يعني  لا تحكم بدون الاستناد على مصدر أو علم.

2 ـ الواو في قوله: (وثامنهم كلبهم)

في الآيات أعلاه وردت جملة (رابعهم كلبهم) و (سادسهم كلبهم) بدون


1 ـ يجب الإِنتباه إِلى أنَّهُ طبقاً للتفسير الأوّل فإنَّ هناك جملة مقدَّرة وهي (أن تقول) ويصبح المعنى بعد التقدير (إِلاّ أن تقول إن شاء الله) أمّا وفقاً للتفسير الثّاني فليس ثمّة حاجة لهذا التقدير.

[230]

(واو) في حين أنَّ جملة (وثامنهم كلبهم) بدأت بالواو. ولأنَّ جميع تعابير القرآن تنطوي على ملاحظات ومغاز، لذلك نرى أنَّ المفسّرين بحثوا كثيراً في معنى هذه الواو.

ولعل أفضل تفسير لها هو ما قيل مِن أنَّ هذه (الواو) تُشير إِلى آخر الكلام وآخر الحديث، كما هو شائع استخدامه في أُسلوب التعبير الحديث، إِذ توضع الواو لآخر شيء من مجموعة الأشياء التي تذكر مثلا نقول (جاء زيد، عمر، حسن، ومحمّد) فهذه الواو إِشارة إِلى آخر الكلام وتُبيِّن الموضوع والمصداق الأخير.

هذا الكلام منقول عن المفسّر المعروف (ابن عباّس)، وقد أيده بعض المفسّرين، واستفادوا مِن هذه (الواو) لتأييد القول في أنَّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة، حيثُ أنَّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة، أبانَ في الأخير العدد الحقيقي لهم.

البعض الآخر مِن المفسّرين كالقرطبي والفخر الرازي ذكروا رأياً آخر في تفسير هذه (الواو) وخلاصته: «إنّ العدد سبعة عند العرب عدد كامل، ولذلك فإِنّهم يَعُدَّون حتى السبعة بدون واو. أمّا بمجرّد أن يتجاوزوا هذا العدد فإنّهم يأتون بالواو التي هي دليل على بداية الكلام والإِستئناف. لذلك تُعرف (الواو) هذه عند الأدباء العرب بأنّها (واو الثَمانية)».

وفي الآيات القرآنية غالباً ما يُواجهنا هذا الموضوع، فمثلا الآية (112) مِن سورة التوبة عندما تُعدِّد صفات المجاهدين في سبيل الله تذكر سبع صفات بدون واو وعندما تذكر الصفة الثامنة فإِنّها تذكرها مع الواو فتقول: (والنّاهون عن المنكر والحافظون لحدود الله).

وفي الآية (5) مِن سورة التحريم، تذكر الآية في وصف نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سبع صفات ثمّ تذكر الثّامنة مع الواو حيث تقول: (ثيبات وأبكاراً).

[231]

وفي الآية (71) مَن سورة الزمر التي تتحدَّث عن أبواب جهنَّم تقول: (فُتحت أبوابها) إِلاَّ أنّها وبعد آيتين وعند الحديث عن أبواب الجنة تقول الآية: (وفتحت أبوابها). أليس ذلك بسبب أنَّ أبواب النار سبعة، وأبواب الجنّة ثمانية؟

طبعاً قد لا يكون هذا تعبيراً عن قانون كُلّي، ولكنَّهُ ـ في الأغلب ـ يُعبِّر عن ذلك. في كل الأحوال يظهر مِن ذلك أنَّ حرف (الواو) وهو مجرّد حرف، لهُ حسابٌ خاص في الإِستعمال ويُظهر حقيقة معينة.

3 ـ المسجد إلى جوار المقبرة

ظاهر تعبير القرآن أنَّ أصحاب الكهف ماتوا أخيراً ودفنوا، وكلمة «عليهم» تؤيِّد هذا القول. بعد ذلك قرَّر محبّوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم، وقد ذكر القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تُنم عن الموافقة، وهذا الأمر يدل على أنَّ بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليسَ أمراً محرماً ـ كما يظن ذلك الوهابيون ـ بل هو عمل حلال ومُحَبَّذ ومطلوب.

وعادة فإِنَّ بناء الأضرحة التي تُخلَّد الأشخاص الكبار أمرٌ شائع بين أُمم العالم وشعوبه، ويبيّن جانب الإِحترام لمثل هؤلاء الأشخاص، وتشجيع لمن يأتي بعدهم، والإِسلام لم ينه عن هذا العمل، بل أجازه وأقرّه.

إِنَّ وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات والرموز وعلى منهجها ومواقفها، ولهذا السبب فإِنَّ الأنبياء والشخصيات الذين هُجرت قبورهم فإنّ تأريخهم أمسى موضعاً للشك والإِستفهام.

ويتّضح مِن ذلك أيضاً أن ليس هُناك تضاد بين بناء المساجد والأصرخة وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى، بل هما موضوعان مُختلفان.

بالطبع هُناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليراجع إِلى مظانها.

[232]

4 ـ كل شيء يعتمد على مشيئته تعالى

إِنَّ ذكر جُملة (إِن شاء الله) عند اتّخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليسَ نوعاً مِن الأدب في محضر الخالق جلَّ وعلا وحسب، بل هُوَ بيان لحقيقة أنّنا  لا نملك شيئاً مِن عندنا، بل هُوَ مِن عنده تعالى، وكُلنا نعتمد ونستند إِليه لأنّه هو المستقل بالذات فقط، فلو تحركت كل السكاكين والشفرات في العالم لِتقطع عرقاً واحداً فإِنّها لا تستطيع مِن دون إِذنه تعالى.

إِنَّ هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإِنسان حريته وإِرادته، فإِنَّ تحقق أي شيء وأي عمل إِنّما يرتبط بمشيئة  الخالق جلَّوعلا.

إِنَّ تعبير (إِن شاء الله) يزيد مِن توجهنا نحو الله تبارك وتعالى، ويمنحنا القوّة والقدرة على الإِنجاز، وهو مَدْعاة إِلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضاً.

ونستفيد مِن بعض الرّوايات أنَّ الإِنسان إِذا ذكر كلاماً عن المستقبل بدون ذكر (إِن شاء الله) فإِنَّ الله سوف يَكِلُهُ إِلى نفسه ويُخرجه مِن مظلة حمايته(1).

وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ أنَّهُ(عليه السلام) أمر يوماً بكتابة رسالة، وعندما جاؤوا بالرسالة إِليه وجدها خالية مِن كلمة (إِن شاء الله) فقال(عليه السلام): «كيف رَجوتم أن يتمّ هذا وليسَ فيه استثناء، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه».

5 ـ الإِجابة على سؤال

قرأنا في الآيات ـ محل البحث ـ أنَّ الله يخاطب رسوله بقوله: (واذكر ربّك إِذا نسيت)(2) وهي إِشارة إِلى أنك عندما تنسى ذكر (إِن شاء الله) وتتذكر بعد ذلك


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 253 و 254.

2 ـ المصدر السّابق.

[233]

فعليك باستدراك الأمر بذكر (إِن شاء الله).

وفي الأحاديث العديدة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) ـ في تفسير الآية ـ هُناك تأكيد على هذا الموضوع حتى بعد مرور سنة إِذا تذكرت فعليك أن تقول (إِن شاء الله) عِوضاً عمّا فاتك وعمّا نسيته(1).

والآن قد يُطرح هذا السؤال وهو: إِذا جازَ نسبة النسيان إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في حين أنَّ الناس يعتمدون على أقواله وأعماله، فكيف يستقيم ذلك مَع دليل عصمة الأنبياء والرُسل والأئمّة مِن الخطأ والنسيان؟

ولكن ينبغي الالتفات الى أنَّ الكثير مِن الآيات القرآنية يكون الحديث فيها مُوجهاً إِلى الرُسُل في حين أنَّ المعنيّ بها عامّة الناس، وهي كما يقول المثل العربي، «إِياك أعني واسمعي يا جارة».

بعض المفكرين الكبار ذكروا جواباً على هذا السؤال أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (68) مِن سورة الأنعام.

* * *


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 254 فما بعد.

[234]

الآيات

وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلـثَ مِاْئَة سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً(25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِّنْ دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ حُكْمِهِ فِى أَحَداً(26) وَاتْلُ مَآ أَوحِىَ إِلَيكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَمُبَدِّلَ لِكَلِمـتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(27)