ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الإِلتفات إِلى الملاحظات الآتية:

أوّلا: يعتقد المفسّرون أنَّ جملة (آمنوا به أَو لا تؤمنوا) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجة مُتعدِّدة، إِذ قال بعضهم: إِن المعنى هو: سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإِعجاز القرآن ونسبته إِلى الخالق.

بينما قال البعض: إِنَّ التقدير يكون: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإِنَّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يُحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مُكَمِّلَة لها، وهي كناية عن أنَّ عدم الإِيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أُخرى: يكون المعنى: إِذا لم تؤمنوا به فإِنَّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون بهِ.

ثانياً: إِنَّ المقصود مِن (الذين أوتوا العلم مِن قبله) هُم مجموعة مِن علماء اليهود والنصارى مِن الذين آمنوا بعدَ أن سمعوا آيات القرآن، وشاهدوا العلائم التي قرأوها في التوراة والإِنجيل، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين، وأصبحوا مِن علماء الإِسلام.

وفي آيات أُخرى مِن القرآن تمت الإِشارة إِلى هذا الموضوع، كما في قوله

[173]

تعالى في الآية (113) مِن سورة آل عمران: (ليسوا سواء مِن أهل الكتاب أُمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون).

ثالثاً: «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إِرادتهم، واستخدام هذه الكلمة بدلا مِن السجود ينطوي على إِشارة لطيفة، هي أنَّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عزَّوجلّ ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشيةً بدون وعي واختيار(1).

رابعاً: (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإِنسان عند السجود  لا يلمس الأرض، إِلاَّ أن تعبير الآية إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنَّ ذقنهم قد يلمس الأرض عندَ السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنَّ الإِنسان عندَ سجوده يضع أوّلا جبهتهُ على الأرض، ولكن الشخص المدهوش عندما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيداً لمعنى (يخرون)(2).

الاية التي بعدها توضح قولهم عندما يسجدون: (ويقولون سبحان ربّنا إِن كانَ وعدُ ربّنا لمفعولا)(3). هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إِيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإِيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإِيمان بنبوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أُصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثُّر هؤلاء بآيات ربّهم، وعلى سجدة الحب التي


1 ـ يقول الراغب في (المفردات): «يخرون» مِن مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط مِن عُلّو. وقوله تعالى: (خروا لهُ سُجداً) تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، والتنبيه أنَّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد: (وسبحوا بحمد ربّهم).

2 ـ تفسير المعاني، ج 15، ص 175.

3 ـ (إِن) في قوله: (إِن كان وعد ربّنا) غير شرطية، بل هي تأكيدية، وهي مُخففة من الثقيلة.

[174]

يسجدونها تقول الآية التي بعدها: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً).

إِنّ تكرار جملة (يخرون للأذقان) دليل على التأكيد، وعلى الإِستمرار أيضاً.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة (يزيدهم خشوعاً) دليل على أنّهم  لا يتوقفون أبداً على حالة واحدة، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل، وخشوعهم دائماً في زيادة (الخشوع هو حالة مِن التواضع والأدب الجسدي والروحي للإِنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان:

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

مِن الدروس المهمّة التي نستفيدها مِن الآيات أعلاه، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية، فإِذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إِنَّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة بالرغم مِن أنَّهُ كان موجوداً في مخزون علم الله كاملا، وقد تمَّ عرضه في ليلة القدر على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة، إِلاَّ أنَّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة، وضمن مراحل زمنية مُختلفة وفي إِطار برنامج عملي دَقيق.

وعندما يقوم الخالق جلَّوعلا بهذا العمل بالرغم مِن عمله وقدرته المطلقة وغير المُتناهية ... عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحنُ إِزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانوناً وتكليفاً إِلهياً، حيثُ أنَّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

[175]

وحسب، بل في عالم التكوين أيضاً. إِنَّهُ مِن غير المتوقع أن تنصلح أُمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والإِقتصادي والسياسي يحتاج إِلى المزيد مِن الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إِذا لم نصل إِلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المُثابرة. وينبغي أن نلتفت إِلى أنَّ الإِنتصارات النهائية والكاملة تكون عادةً لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإِيمان

الموضوع الآخر الذي يُمكن أن نستفيدهُ مِن الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإِيمان، إِذ تقول الآيات: إِنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإِنَّ العلماء سيؤمنون بالله إِلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضاً ساجدين مِن شدّة الوله والحبّ، وتجري الدّموع مِن أعينهم، وإِنّ هذا الخشوع والتأدُّب يتصف بالإِستمرار في كل عصر وزمان.

إِنَّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يُعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالإِستهزاء والسخرية، وإِذا أثَّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإِنَّهُ سيكون تأثيراً ضعيفاً خالياً مِن الحبّ والحرارة.

إضافة إِلى ذلك، فإِنِّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف مِن المجهول. أمّا القرآن فإِنَّهُ يؤكّد على عكس ذلك تماماً، إِذ يقول في مواقع مُتعدِّدة: إِنَّ العلم والإِيمان توأمان، إِذ لا يمكن أن يكون هُناك إِيمان عميق ثابت مِن دون علم، والعلم في مراحله المُتقدمة يحتاج إِلى الإِيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

[176]

الآيتان

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلا(110) وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِ وَكَبِّرْهُ وتَكْبِيراً(111)

سبب النّزول

وردت آراء مُتعدِّدة في سبب نزول هاتين الآيتين مِنها ما نقلهُ صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال: كانَ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ساجداً ذات ليلة بمكّة يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون مُتهمين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنَّهُ يدعونا إِلى إِله واحد، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1).


1 ـ يُراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

[177]

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إِلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الخالق بأسماء مُتعدِّدة بالرغم من أنَّهُ يدّعي التوحيد. القرآن ردَّ على هؤلاء بقوله: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فلهُ الأسماء الحسنى). إنَّ هؤلاء عُميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيثُ كانوا يذكرون أسماء مُختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل اسم مِن هذه الأسماء كان يُعرِّف بشطر أو بصفة مِن صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك، هل مِن العجيب أن تكون للخالق أسماء مُتعدِّدة تتناسب مع افعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته و المنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم، وهو وحده عزَّوجلّ الذي يُدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساساً، فانَّ اللّه تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إِذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبِّر عن ذاته، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأُخرى أيضاً ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له، وإِنَّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضاً، حتى أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه، نراه يقول: «ما عرفناك حق معرفتك».

إِنَّ الله تعالى في قضية معرفتنا إِيَّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة، بل ساعدنا كثيراً في معرفة ذاته، وذكر نفسهُ بأسماء مُتعدِّدة في كتابه العظيم، ومِن خلال كلمات أوليائهِ تصل اسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إِلى ألف اسم.

وطبيعي أنَّ كل هذهِ أسماء الله، وأحد معاني الأسماء العلاّمة، لذا فإِنَّ هذه علامات على ذاته الطاهرة، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إِلى نقطة

[178]

واحدة، وهي لا تقلّل مِن شأن توحيد الذات والصفات.

وهُناك قسم مِن هذهِ الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر، حيث تعطينا معرفةً ووعياً أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإِسلامية، بالأسماء الحسنى، وهُناك رواية معروفة عن رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) ما مضمونها: «إِن الله تسعاً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مُفصل للأسماء الحسنى، والأسماء التسعة والتسعين بالذات، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) مِن سورة الأعراف، في قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

لكن علينا أن نفهم أنَّ الغرض مِن عَد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب، حتى يصبح الإِنسان مِن أهل الجنّة ومستجاب الدعوة، بل إِنَّ الهدف هو التخلُّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات مِن هذه الأسماء، مِثل (العالم، والرحمن، والرحيم، والجواد، والكريم) في وجودنا حتى نصبح مِن أهلِ الجنّة ومستجابي الدعوة.

وَهُناك كلام ينقلهُ الشيخ الصدوق(رحمه الله) في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاءَ فيه:

يقول هشام بن الحكم: سألت أبا عبدالله الصادق(عليه السلام) عن أسماء الله عزَّ ذكره واشتقاقها فقلت: الله ممّا هو مشتق؟

قالَ(عليه السلام): «يا هشام، الله مُشتقٌ مِن إِله، وإِلهٌ يقتضي مألوهاً، والاسمُ غير المسمّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كَفَر ولم يعبدُ شيئاً، ومَن عَبدَ الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومَن عبد المعنى دونَ الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟».

قال هشام: قلتُ: زدني.

قالَ(عليه السلام): «لله عزَّوجلّ تسعةٌ وتسعون اسماً، فلو كانَ الاسمُ هو المسمى لكان

[179]

كلُّ اسم مِنها هو إِلهاً، ولكن الله عزَّوجلّ معنىً يدلُّ عليه بهذه الأسماء وكُلُّها غيره. يا هشامُ، الخبزُ اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسم للمحِرق»(1).

والآن لنعد إِلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: إِنَّهُ يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عبر قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا).

لذلك فإِنَّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإِخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إِنَّ المقصود مِنها يتعلق بالإِفراط والتفريط في الجهر والإِخفات، فهي تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل مِن الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير مِن المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيِّد هذا المعنى.

وهُناك آيات عديدة مِن طُرق أهل البيت نقلا عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام)وتؤيد هذا المعنى وتشير إِليه(2).

لذا فإِنا نستبعد التفاسير الأُخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الإِعتدال، وما هو الجهر والإِخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنَّ الجهر هو بمعنى (الصُراخ)، و(الإخفات) هو مِن السكون بحيث لا يسمعهُ حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنَّهُ قالَ في تفسير الآية:


1 ـ توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

2 ـ يمكن مُراجعة نور الثقلين، ج 3، ص 233 فما بعد.

[180]

«الجهر بها رفع الصوت، والتخافت بها ما لم تسع نفسك، واقرأ بين ذلك»(1).

أمّا الإِخفات والجهر في الصلوات اليومية، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ لهُ حكم آخر، أو مفهوم آخر، أي لهُ أدلة مُنفصلة، حيثُ ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإِسلامي في الدعوة إلى الإِعتدال بين الجهر والإِخفات يعطينا فهماً وإِدراكاً من جهتين:

الأُولى: لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون بالإِستهزاء والتحجج ضدكم، إِذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب، كي تعكس بذلك نموذجاً لعظمة الأدب الإِسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بالقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إِلى الآخرين، هم على خطأ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإِسلام في العبادات، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليع الديني.

الثّانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الإِجتماعية والسياسية والإِقتصادية، وتكون جميع هذه الأُمور بعيدة عن الإِفراط والتفريط، إِذ الأساس هو: (وابتغِ بين ذلك سبيلا).

أخيراً نصل إِلى الآية الأخيرة مِن سورة الإِسراء، هذه الآية تُنهي السورة المباركة بحمد الله، كما افتُتِحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزَّوجلّ. إِنَّ هذه الآية ـ في


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 234.

[181]

الواقع ـ هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً، إِذ هي تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن لهُ شريك في الملك ولم يكن لهُ ولي مِن الذل).

ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات، هو أفضل مِن كل ما تفكِّر به: (وكبره تكبيراً).

ونلاحظ في هذه الآية عدة أُمور:

1 ـ تناسب الصفات الثلاثية

في الآيات أعلاه تمّت الإِشارة إِلى ثلاث صفات مِن صفات الله، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.

أوّلا: نفي الولد، لأنَّ امتلاك الولد دليل على الحاجة، وأنَّهُ جسماني، ولهُ شبيه ونظير، والخالق جلَّ وعلا ليسَ بجسم ولا يحتاج لولد، وليس لهُ شبيه ونظير.

الثّاني: نفي الشريك (ولم يكن له شريك في الملك) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة، وهو دليل العجز والضعف، ويقتضي وجود الشبيه والنظير. والخالق جلَّ وعلا مُنَزَّه عن هذه الصفات، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة، وليسَ له أي شبيه.

الثّالث: نفي الولي والحامي عند التعرُّض للمشاكل والهزائم (ولم يكن له ولي من الذلّ).

ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي .. إِنَّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل مِنهُ (كالولي).

نقل العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر

[182]

أسماءهم بصراحة قولهم: «إِنَّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع: المجموعة الأُولى هُمُ المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك لهُ سبحانه، لذلك فإِنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة: لبيك لا شريك لك، إِلاَّ شريكاً هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق».

2 ـ ما هو التكبير؟

القرآن يؤكّد على رسوله أن يُكبِّر الله، وهذا تعني أنَّ الغرض مِن ذلك هو الإِعتقاد بهذا الأمر، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.

إِنَّ معنى الإِعتقاد بأنَّ (الله أكبر) أن لا نقيسهُ معَ المخلوقات الأُخرى، ونقول بأنَّهُ أعظم وأكبر مِنها، لأنَّ مثل هذه المقايسة خطأ مِن الأساس. إِنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر مِن أن نقيسهُ بشيء، كما يُعلمنا ذلك الإِمام الصادق(عليه السلام) في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى، حيث نقرأ فيها ما نصُّه:

قال رجل عند الإِمام الصادق(عليه السلام): اللَّهُ أكبر.

فقال(عليه السلام): «الله أكبر مِن أي شيء؟».

قال الرجل: مِن كل شيء.

فقال(عليه السلام): «حددته».

فقال الرجل: كيف أقول؟

قال(عليه السلام): قُل: «الله أكبر مِن أن يوصف»(1).

وفي حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً نقرأ عن جميع بن عُمير قال: قالَ أبو عبد الله(عليه السلام): «أي شيء، الله أكبر».


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 239.

[183]

فقلت: الله أكبر مِن كل شيء.

فقال: «وكانَ ثمّ شيء فيكون أكبر منهُ».

فقلت: فما هو؟

قالَ(عليه السلام): «أكبر مِن أن يوصف»(1).

3 ـ الإِجابة على هذا السؤال

قد يُطرح هُنا هذا السؤال: كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية، في حين أنّنا نعلم بأنَّ (الحمد) هو في قُبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مَع التسبيح فكيف مَعَ الحمد؟

في الجواب على هذا السؤال نقول: بالرغم مِن أنَّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإِنَّ احداهما تتلاءم مع التسبيح والأُخرى تتلاءم مع الحمد، إلاَّ أنَّهُ في الوجود الخارجي (العيني) يكون الإِثنان لازمين وملزومين، فنفي الجهل عن الخالق يكون مُلازماً لإِثبات العلم له، كما أنَّ إِثبات العلم لذاته جلَّ وعلا ملازم لنفي الجهل.

وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة مِن ذكر اللازم وأُخرى من ذكر الملزوم. كما ذُكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).

دُعاء الختام: إِلهي إملأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك، ونؤمن بما وعدت، ونلتزم ما أمرت، لا نعبد غيرك، ولا نتوكل إِلاَّ عليك.

إِلهنا، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الإِعتدال، وأن نبتعد عن كل إِفراط وتفريط.


1 ـ المصدر السّابق.

[184]

إِلهنا; لك الحمد ولك الشكر، وأنت الواحد الكبير، أكبر مِن أن تحدَّ في وصف، فاغفر لنا، وثبتنا في خطواتنا، وانصرنا على أعدائنا، وأوصل انتصاراتنا بالإِنتصار النهائي للمصلح المهدي(عليه السلام)، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.

نهاية سورة الإِسراء

* * *

[185]

سُورَة الكَهف

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها مائَة وعشرُ آيات

سورة الكهف

فضيلة سورة الكهف

1 ـ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا: بلى.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): سورة أصحاب الكهف مَن قرأها يوم الجمعة غفر الله لهُ إِلى الجمعة الأُخرى، وزيادة ثلاثة أيّام، وأعطي نوراً يبلغ السماء، ووُقِيَ فتنة الدجّال»(1).

2 ـ وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَن حفظ عشر آيات مِن أوّل سورة الكهف، ثمّ أدرك الدجّال لم يضره. ومَن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت لهُ نوراً يوم القيامة»(2).

3 ـ وعن الإِمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال في فضل سورة الكهف: «مَن قرأ سورة الكهف في كلِّ ليلة جمعة لم يمت إِلاَّ شهيداً، وبعثهُ الله مع الشهداء، ووقف يوم القيامة مَع الشهداء»(3).

لقد قُلنا مراراً: إِنَّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي، وبركاتها


1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 447.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 447.

[188]

الأخلاقية، إِنّما يكون بسبب الإِيمان بها والعمل وفقاً لمضامينها.

وبما أنَّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يتعرض إِلى قصّة تحرك مجموعة مِن الفتية ضدَّ طاغوت عصرهم، ودجّال زمانهم، هذا التحُّرك الذي عرَّض حياتهم ووجودهم للخطر وللموت لولا عناية الباري بهم ورعايتهُ لهم. لذا فإِنَّ الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة يُنير القلب بنور الإِيمان، ويحفظهُ مِن الذنوب وإِغواءات الدجالين، ويعصمه من الذوبان في المحيط الفاسد.

إِنَّ ممّا يُساعد على تكميل هذا الأثر النفوس والقلوب هو ما تُثيره السورة من أوصاف الآخرة ويوم الحساب، والمستقبل المشؤوم الذي ينتظر المستكبرين، وضرورة الإِلتفات إِلى علم الخالق المطلق وإِحاطته بكل شيء.

إِنَّ كل ذلك ممّا يحفظ الإِنسان مِن فتن الشيطان، ويجعل نور الإِيمان يشع فيه، ويغرس العصمة في قلبه، وتكون عاقبته مع الشهداء والصدقين.

محتوى سورة الكهف

تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا، وتنتهي بالتوحيد والإِيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة ـ كما في أغلب السور المكّية ـ إِلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإِنذار. وتشير أيضاً إِلى قضية مهمّة كانَ المسلمون يحتاجونها في تلك الأيّام بشدّة، وهي عدم استسلام الأقلية ـ مهما كانت صغيرة ـ إِلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة مِن أصحاب الكهف، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدَّه.

فإِذا كانت لديهم القدرة على المواجهة، فعليهم خوض الجهاد والصراع، وإِن

[189]

عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

مِن قصص هذه السورة أيضاً قصّة شخصين، أحدهما غنيٌّ مُرفه إِلاَّ أنَّهُ غير مؤمن، والآخر فقير مستضعف ولكنَّهُ مُؤمن. وقد صَمد الفقير المستضعف المؤمن ولم يفقد شرفه عزته وإِيمانه أمام الغني، بل قامَ بنصيحته وإِرشاده، ولمّا لم ينفع معه تبرأ منه، وقد انتهت المواجهة إِلى انتصاره.

وهذه القصّة تذكرّ المسلمين وخاصّة في بداية عصر الإِسلام وتقول لهم: إِنَّ مِن سُنة الأغنياء أن يكون لهم فورة مِن حركة ونشاط مُؤقت سُرعان ما ينطفيء لتكون العاقبة للمؤمنين.

كما يُشير جانب آخر مِن هذه السورة إِلى قصة موسى والخضر(عليهما السلام) لم يستطع الصبر في مقابل أعمال كان ظاهرها يبدو مضراً، ولكنَّها في الواقع كانت مليئة بالأهداف والمصالح، إِذ تبيّنت لموسى(عليه السلام) وبعد توضيحات الخضر مصالح تلك الأعمال، فَنَدِمَ على تعجله.

وفي هذا دَرسٌ للجميع أن لا ينظروا إِلى ظاهر الحوادث والأُمور، ولِيتبصروا بما يكمن خلف هذه الظواهر مِن بواطن عميقة وذات معنى.

قسم آخر من السورة يشرح أحوال (ذي القرنين) وكيف استطاع أن يطوي العالم شرقه وغربه، ليواجه أقواماً مختلفة بآداب وسنن مُختلفة، وأخيراً استطاع بمساعدة بعض الناس أن يقف بوجه مُؤامرة (يأجوج) و(مأجوج) وأقام سداً حديدياً في طريقهم ليقطع دابرهم (تفصيل كل هذه الإِشارات المُختصرة سيأتي لاحقاً إِن شاء الله تعالى) حتى تكون دلالة هذه القصة بالنسبة للمسلمين، هو أن يهيئوا أنفسهم ـ بأفق أوسع ـ لنفوذ إِلى الشرق والغرب بعد أن يتحدوا ويتحصنوا ضدَّ أمثال يأجوج ومأجوج.

الظريف أنَّ السورة تشير إِلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف، قصة

[190]

موسى والخضر، وقصة ذي القرنين) حيثُ أنَّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تُكرَّر في مكان آخر مِن القرآن (أشارت الآية (96) مِن سورة الأنبياء إِلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإِشارة تُعتبر واحدة مِن خصائص هذه السورة المباركة.

وخلاصة الكلام أن السورة تحتوي على مفاهيم تربوية مؤثرة في جميع الأحوال.

* * *

[191]

الآيات

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا(1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـلِحَـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً(2) مَّـكِثِينَ فِيهِ أَبَداً(3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً(4) مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم وَلاَ لأَِبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً(5)

التّفسير

البداية باسم الله، والقرآن:

تبدأ سورة الكهف ـ كما في بعض السور الأُخرى ـ بحمد الله، وبما أنَّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمّة ومطلوبة، لذا فإِنَّ الحمد هُنا لأجل نزول القرآن الخالي مِن كل اعوجاج، فتقول الآية: (الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ عوجاً).

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم، وهو يحفظ المجتمع الإِنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

[192]

(قيماً) ويُنذر الظالمين مِن عذاب شديد: (لِيُنذرَ بأساً شديداً مِن لدنه). وفي نفس الوقت فهو: (ويُبشِّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجراً حسناً). وهؤلاء في نعيمهم (ماكثين فيه أبداً).

ثمّ تشير الآيات إِلى واحدة مِن انحرافات المعارضين، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين، حيثُ تنذرهم هذا الأمر فتقول: (ويُنذر الذين قالوا اتّخذ الله ولداً) فهي تحذر النصارى بسبب اعتقادهم بأنَّ المسيح ابن الله، وتحذر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنَّ عزير ابن الله، وتحذَّر المشركين لِظَّنهم بأنَّ الملائكة بنات الله.

ثمّ تشير الآيات إِلى أصل أساسي في إِبطال هذه الإِدعاءات الفارغة فتقول: إِنَّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام، وإِنّما هم مُقلدون فيه للآباء، وإِنَّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم: (ما لهم بِهِ مِن علم ولا لآبائهم). بل: ولد؟ أو أن يحتاج إِلى الصفات المادية وأن يكون محدوداً ... إِنَّهُ كلام رهيب، ومثل هؤلاء الذين يتفوهون به لا ينطقون إِلاَّ كَذِباً: (إِن يقولون إِلاَّ كذباً).

* * *

بحوث

1 ـ افتتاح السورة بحمد الله سبحانهُ وتعالى

هُناك خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بحمد الله، ثمّ تعرج بعد الحمد والثناء على قضايا خلق السموات والأرض (أو ملكية الله سبحانهُ وتعالى لها) أو هداية العالمين، عدا هذه السورة التي تتناول بعد الحمد والثناء مسألة نزول القرآن على نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي حقيقة الأمر إِنَّ السور الأربع «الأنعام ـ سبأ ـ فاطر ـ الحمد» تتناول القرآن التكويني، فيما تتطرق سورة الكهف إِلى القرآن التدويني، وكما هو معلوم فإِنَّ الكتابين، أي (القرآن التدويني) وخلق الكون وما فيه (القرآن التكويني) كلٌ

[193]

مِنهما مُكمّل للآخر، وهذا يوضح أنَّ للقرآن وزنٌ يعادل الخلق. وأساساً فإنّ تربية الخلائق الواردة في الآية (الحمد الله رب العالمين) غير ممكنة، ما لم يُستفاد بصورة تامة مِن الكتاب السماوي العظيم، أي القرآن.

2 ـ القرآن كتابٌ ثابت ومستقيم وحافظ

كلمة «قيِّم» على وزن كلمة «سيِّد» وِمُشتقة مِن مصدر الكلمة «قيام» وهُنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إِضافة إِلى أنّها تعني المدبِّر والحافظ لبقية الكتب السماوية، كما تعني كلمة «قيِّم» في نفس الوقت الإِعتدال والإِستقامة التي  لا اعوجاج فيها وإِضافة إِلى أنَّ كلمة «قيم» هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن، وخلوّه مِن أي شكل مِن أشكال التناقض، وإِشارة إِلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم، وكونه أسوة لحفظ الأصالة، وإِصلاح الخلل، وحفظ الأحكام الإِلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة (القيِّم) مُشتقة مِن (قيمومة) الباري عزَّ وجلّ التي تعني اهتمام الباري عزَّوجلّ وحفظه جميع الكائنات، والقرآن الذي هو كلام الله لهُ نفس الصفة أيضاً.

كما وصف الله سبحانهُ وتعالى دينه في عدّة آيات قرآنية بأنَّهُ (القيِّم) حتى أنَّهُ أمر نبيّه الأكرام(صلى الله عليه وآله وسلم) بالعمل وُفق ما يمليه الدين القيِّم والمستقيم: (فأقم وجهك للدين القيِّم)(1).

وما ذكر أعلاه بشأن تفسير كلمة «قيِّم»، أُخِذَ مِن عِدَّة تفاسير مُختلفة، وهو خُلاصة لما قالهُ المفسّرون من أنَّ كلمة «قيِّم» تعني الكتاب الباقي الذي لا يُنسخ، أو الكتاب الحافظ للكتب السابقة، أو الكتاب القيِّم على الدين، أو الخالي مِن الإِختلافات والتناقضات، وكل هذه المعاني انصبت في المفهوم الذي ذكرناه.


1 ـ الروم، 43.

[194]

واعتبر بعض المفسّرين أنّ جملة (لم يجعل له عوجاً) تعني فصاحة ألفاظ القرآن وكلمة «قيماً» تعني البلاغة والإِستقامة بالرغم مِن عدم امتلاكهم لأي دليل واضح على هذا التباين(1)، والظاهر أنَّ الكلمتين تؤكّد كل مِنهما الأُخرى، مع فرق أن كلمة «قيِّم» لها مفهوم واسع، وتعني اضافة إِلى معنى الإِستقامة، المحافظ والمصلح للكتب المساوية الأُخرى(2).