ثانياً: إِنَّ المجرمين وأهل النار محرومون مِن رؤية ما هو سارّ ومِن سماع أُمور تبعث على الفرح، ومِن قول كلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس مِن ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلاّ ما يُؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية: (مأواهم جهنَّم).

لكن لا تظنّوا أنَّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: (كُلّما خبت زدناهم سعيراً)

* * *


1 ـ في الآية (53) مِن سورة الكهف نقرأ قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار) وفي الآية (13) مِن سورة الفرقان قوله تعالى: (دعوا هُناك ثبوراً) وفي الآية(12) مِن الفرقان نقرأ: (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).

[154]

الآيات

ذلِكَ جَزَآؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِئَايـتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظـماً وَرُفـتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمـوتِ وَالأَْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لاَّرَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّـلِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً(99) قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذاً لأََّمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِْنفَاقِ وَكَانَ الإِْنسـنُ قَتُوراً(100)

التّفسير

كيف يكون المعاد مُمكناً؟

في الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ يوماً سيئاً ينتظُر المجرمين في العالم الآخر. هذه العاقبة التي تجعل أي عاقل يفكّر في هذا المصير، لذلك فإِنَّ الآيات التي بين أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل آخر.

في البداية تقول: (ذلك جزاؤهم بأنّهم كفروا بآياتنا وقالوا ءاذا كُنّا عظاماً ورُفاتاً ءإِنا لمبعوثون خلقاً جديداً).

«رُفات» كما يقول الراغب في «المفردات» هي قِطَع مِن (التبن) لا تتهشم بل

[155]

تنتشر وتتناثر هنا وهناك. والأمر لا يحتاج إِلى مزيد توضيح، فالإِنسان يتحول تحت التُراب إِلى عظام نخرة ثمّ إِلى تُراب، ثمّ تتلاشى ذرات التراب هذه وتنتشر.

وبعد تعجبهم مِن المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمراً غير ممكن، يقول القرآن بأُسلوب واضح ومباشر وبلا فصل: (أو لم يَرَوا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مِثلهم). وعلى هؤلاء أَن لا يعجلوا فإنّ القيامة وإِن تأخّرت، إلاّ أنّها سوف تتحقق بلا ريب: (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه).

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هُم فيه رغم سماعهم هذه الآيات: (فأبى الظالمون إِلاَّ كفوراً).

وحيث أنّهم كانوا يصرخون ويصّرون على أن لا يكون النّبي مِن البشر حسداً مِن عند أنفسهم وجهلا وضلالا، وقد منعهم هذا الحسد والجهل مِن التصديق بإِمكانية أن يُعطي الله كل هذه المواهب لإِنسان، لذا فإِنَّ  الخالق جلَّوعلا يُخاطبهم بقوله: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إِذاً لأمسكتم خشية الإِنفاق). ثمّ يقول: (وكانَ الإِنسان قتوراً).

«قتور» مِن «قَتَرَ» على وزن «قتل» وهي تعني الإِمساك في الصرف، وبما أنَّ (قتور) صيغة مُبالغة فإِنّها تعني شدّة الإِمساك وضيق النظر.

* * *

ملاحظات

1 ـ المعاد الجسماني

الآيات أعلاه مِن أوضح الآيات المرتبطة بإِثبات المعاد الجسماني، فالمشركين كانوا يعجبون مِن إِمكانية عودة الحياة إِلى العظام النخرة، والقرآن يجيبهم بأنَّ القادر على خلق السماوات والأرض، لديه القدرة على جمع الأجزاء

[156]

المُتناثرة للإِنسان وأن يهبها الحياة مرّة أُخرى.

ولا ندري كيف ينكر بعض من يدعي الإِسلام قضية المعاد الجسماني، ويقتصرون في إِيمانهم على المعاد الروحي برغم الدلالات الواضحة لهذه الآيات وغيرها؟

كما إِنَّ الإِستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزَّوجلّ في إِثبات المعاد، هو واحد مِن الأدلة التي يذكرها القرآن مراراً ويعتمد عليها كثيراً. ويظهر مِثل هذا النمط مِن الإِستدلال بالقدرة الكلية على المعاد في الآية الأخيرة مِن سورة (يس) والتي تتضمّن عدَّة أدلة لإِثبات المعاد الجسماني(1).

2 ـ أيّ الآيات؟

هُناك احتمالات عديدة في أنَّ الغرض مِن هذه (الآيات) في جملة (كفروا بآياتنا) هي آيات التوحيد أو أدلة النّبوة، أو الآيات المرتبطة بالمعاد. ولكن وقوع الجملة في بحث المعاد، ترجح اعتقادنا بأنّها إِشارة إِلى آيات المعاد، وهي في الحقيقة مقدمة للردّ على مُنكري المعاد.

3 ـ ما هو الغرض مِن «مثلهم»؟

إِنّنا نعرف أنَّ الله ـ بسبب قدرته العظيمة ـ قادر في يوم القيامة على إِرجاع الناس، في حين أنّنا نقرأ في الآيات أعلاه أنَّهُ يستطيع أن يخلق مِثلهم. وقد يكون هذا التعبير مدعاةً لإِشتباه أو استفسار البعض عمّا إِذا كانَ الناس الذين يَردون القيامة هم ليسوا هؤلاء الناس أنفسهم؟

بعض المفسّرين يرى أن الغرض مِن (مثل) هنا هو (عين) ففي بعض الأحيان نقول (مثلك يجب ألاَّ يقوم بهذا العمل) إِلاَّ أنّنا نقصد أنّك أنت الذي يجب أن لا


1 ـ لمزيد مِن التفاصيل يُراجع كتاب: «العالم والمعاد بعد الموت».

[157]

تقوم بهذا العمل، لكن هذا التّفسير بعيد، لأنَّ مِثل هذه التعابير لها محل آخر  لا يتناسب مَع ما نبحثه الآن.

الظاهر أنَّ الغرض مِن استخدام تعبير (مثل) في هذه الآية هو إِعادة الحياة. فإِعادة الخلق مرّة ثانية لا تكون حتماً كالمرّة الأُولى، حيث هُناك على الأقل زمان آخر وظروف أُخرى، وصورة جديدة بالرغم مِن أنَّ المادة هي نفس المادة القديمة. وكمثال لذلك إِذا جمعنا اجزاء متناثرة لقطعة من الآجر ووضعناها في قالبها القديم، فإِنّنا لا نستطيع أن نقول عن الآجر الجديد أنّه نفس قطعة الآجر القديمة، بالرغم مِن أنَّهُ ليس إِلاَّ الطين السابق. بل نقول: إِنَّهُ مِثله. وهذا دليل على التعابير المختارة والمنتخبة في القرآن الكريم.

ومِن المُسَلَّم بهِ أنَّ روح الإِنسان تُحدِّد شخصيته، ونحن نعلم أنَّ الروح الأُولى هي التي عند البعث، إِلاَّ أنَّ المعاد الجسماني يقول لنا: إِنَّ الروح ستكون مع نفس المادة الأُولى، يعني أنَّ تلك المادة المتلاشية ستتجمَّع مرّة أُخرى وتندمج مع روحها، وفي موضوع المعاد أثبتنا أن روح الإِنسان بعد أن تتخذ شكلا معيناً لا يمكنها أن تنسجم مع غير جسدها الأصلي الذي تربت وعاشت معهُ. وهذا هو السر في البعث الروحي والجسدي معاً.

4 ـ ما هو (الأجل)؟

إِنَّ (الأجل) هو نهاية العمر. ولكن هل (الأجل) في هذه الآيات إِشارة إِلى نهاية العمر ... أو هو إِشارة إِلى نهاية عُمر الدنيا وبداية البعث؟

وبما أنَّ الحديث يدور حول المعاد، لذا فإِنَّ المعنى الثّاني أكثر صحة. وأمّا ما قالهُ بعض المفسّرين الكبار مِن أنَّ هذا الكلام لا يتناسب مع جملة (لا ريب فيه)لأنّ مُنكري المعاد كانوا يشكّون حتماً في قضية المعاد. فإِنَّ ذلك غير صحيح، لأنَّ مفهوم مثل هذا التعبير هو أنَّهُ يجب أن لا نسمح للشك بأنّ يدخل إِلى أنفسنا نحن،

[158]

لا أنَّ أحداً لا يشك بذلك!

لذا فإِنَّ المفهوم الكلي للآية يصبح على هذه الصورة. إِنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض يستطيع ـ حتماً ـ أن يعيد الحياة لهؤلاء البشر، أمّا إِذا لم يحدث هذا الأمر بسرعة، فذلك بسبب أنَّ السنة الإِلهية لها أجلٌ محدود وحتمي بحيث لا مجال للشك فيها.

وتصبح النتيجة: إِنَّ الدليل القاطع في قبال مُنكري المعاد هي هذه القدرة، وأمّا قوله: (جعل لهم أجلا لا ريب فيه) فهو جواب على سؤال حول سبب تأخير القيامة. (فدقق في ذلك).

5 ـ الترابط بين الآيات

عند مطالعة هذه الآيات يُثار سؤال حولَ كيفية الإِرتباط والصلة بين كلمة (قتوراً) التي هي بمعنى (بخيل) الواردة في آخر الآية، وبين ما نبحثُه؟

بعض المفسّرين قالوا: إِنَّ هذه الجملة إِشارة إِلى موضوع طُرِحَ قبل عِدَّة آيات مِن قبل عبدة الأصنام، فقد طلبوا مِن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يملأ أرض مكّة بالعيون والبساتين. أمّا القرآن فيقول في جواب هؤلاء: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إِذاً ...).

إِلاَّ أنَّ هذا التّفسير مُستبعد لأنَّ كلام المشركين لم يكن عن مالكية هذه العيون والبساتين، بل إِنّهم طالبوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأصل هذا العمل والذي يعتبر عملا إِعجازياً.

التّفسير الآخر الذي ذُكِرَ في بيان الصلة وهو أفضل مِن التّفسير الأوّل، هو أنّهم ـ بسبب بخلهم وضيق أنفسهم ـ كانوا يتعجبون مِن منح هذه الموهبة (النّبوة) للإِنسان، وهذه الآية بمثابة ردّ عليهم حيثُ تقول لهم: إِن بُخلكم بلغ درجة بحيث أنّكم لو ملكتم جميع الدنيا فسوف لا تتركون صفاتكم السيئة والقبيحة هذه.

[159]

6 ـ هل أن جميع البشر بُخلاء؟

لقد قُلنا ـ لمرّات عديدة ـ إِنَّ القرآن يذكر الإِنسان بشكل عام، ويلومه بأنواع اللوم، ويصفهُ بصفات كالبخل والجهل ... والعجول والظلوم وما شابهها.

إِنَّ هذه التعابير لا تتنافى مع كونِ المؤمنين والصالحين يتحلّون بضد هذه الصفات، حيث يُشير التعبير إِلى أنَّ الطبيعة الآدمية هي هكذا، وإِذا لم يخضع الإِنسان لتربية القادة الإِلهيين،، وتُرك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعداً للإِتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أنَّ ذاته خُلقت هكذا، أو أنَّ عاقبة الجميع كذلك(1).

7 ـ استخدام تعبير (خشية الإِنفاق)

يعني الخوف مِن الفقر، ذلك الفقر الذي يكون سببهُ كثرة الإِنفاق، كما يظنون.

* * *


1 ـ في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.

[160]

الآيات

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايـت بَيِّنـت فَسْئَلْ بَنِى إِسْرءِيَلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لأََظُنُّكَ يـمُوسَى مَسْحُوراً(101)قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هَؤُلآَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأََظُنُّكَ يـفِرْعَونُ مَثْبُوراً(102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَْرْضِ فَأَغْرَقْنـهُ وَمَنْ مَّعَهُ جَمِيعاً(103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرءِيلَ اسْكُنُوا الأَْرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأَْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً(104)

التّفسير

لم يُؤمنوا رغم الآيات:

قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنَّ المشركين طلبوا أُموراً عجبية غريبة من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبما أنَّ هدفهم ـ باعترافهم هم أنفسهم ـ لم يكن لأجل الحق وطلباً له، بل لأجل التذرُّع والتحجج والتعجيز، لذا فإِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ عليهم ورفض الإِنصياع إِلى طلباتهم.

[161]

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأُمم السابقة ممَّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إِلاَّ أنّهم استمروا في الإِنكار وعدم الإِيمان.

في البدء يقول تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات). سنشير في نهاية هذا البحث إِلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب مُوَّجه إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بني إِسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: (فاسأل بني إِسرائيل إِذ جاءهم).

إِلاَّ أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق، بل أكثر مِن ذلك إتّهم موسى (فقال لهُ فرعونُ إِنّي لأظنّك يا موسى مسحوراً).

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين، فالبعض قالوا: إِنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أُخرى، تقول بأنَّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر، ومثل هذا الإِستخدام وارد ولهُ نظائر في اللغة العربية، حيثُ يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و(ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر مِن المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثَّر فيه الساحر، كما يُستفاد مِن الآية (39) مِن سورة الذاريات التي نسبت السحر إِليه، والجنون أيضاً، (فتولّى بِرُكنه وقال ساحرٌ أو مجنون).

على أي حال، فإِنَّ التعبير القرآني يكشف عن الأُسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمهُ المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإِلهيين بسبب حركتهم الإِصلاحية الربانية ضدَّ الفساد والظلم، إِذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يُؤثروا مِن هذا الطريق في قلوب الناس

[162]

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسى(عليه السلام) لم يسكت أمام اتّهام فرعون له، بل أجابهُ بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق، إِذ قالَ لهُ: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إِلاّ ربَّ السموات والأرض بَصائر).

لذا فإِنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنَّك تتنكر للحقائق، برغم علمك بأنّها مِن الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعندما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره، لذا: (وإِنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً).

(مثبور) مِن (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنَّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإِنَّهُ سلك طريقاً يسلكهُ جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار، وذاكَ قوله تعالى: (فأراد أن يستفزَّهم مِن الأرض فأغرقناه ومَن معهُ جميعاً).

«يستفز» مِن «استفزاز» وتعني الإِخراج بقوة وعنف.

ومِن بعد هذا النصر العظيم: (وقلناه مِن بعده لبني إِسرائيل اسكنوا الأرض فإِذا جاءَ وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً). فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف»مِن مادة «لفَّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقَّدة بحيث  لا يعرف الأشخاص، ولا مِن أي قبيلة هُم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود مِن الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسى(عليه السلام) مِنها ما يلي:

1 ـ تحوّل العصا إِلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين، كما في الآية

[163]

(20) مِن سورة طه: (فإِذا هي حية تسعى).

2 ـ اليد البيضاء لموسى(عليه السلام) والتي تشع نوراً: (وأضمم يدك إِلى جناحك تخرج بيضاء مِن غير سوء آية أُخرى)(1).

3 ـ الطوفان: (فأرسلنا عليهم الطوفان)(2).

4 ـ الجراد الذي أبادَ زراعتهم وأشجارهم (والجراد)(3).

5 ـ والقمل الذي هو نوع مِن الأمراض والآفات التي تُصيب النبات: و(القمّل)(4).

6 ـ (الضفادع) التي جاءت مِن النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم: (والضفادع)(5).

7 ـ الدم، أو الإِبتلاء العام بالرُعاف، أو تبدُّل نهر النيل إِلى لون الدم، بحيث أصبحَ ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة: (والدم آيات مُفصلات)(6).

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إِسرائيل العبور منهُ: (وإِذا فرقنا بكم البحر)(7).

9 ـ نزول الـ (مَنّ) و(السلوى) مِن السماء، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) مِن سورة البقرة (وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى)(8).

10 ـ انفجار العيون مِن الأحجار: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت مُنه اثنتا عشرة عيناً)(9).

11 ـ انفصال جزء مِن الجبل لِيُظَلِّلَهُم: (وإِذ نتقنا الجبال فوقهم كأنَّهُ


1 ـ طه، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و(6) ـ الأعراف، 133.

7 ـ البقرة، 50.

8 ـ البقرة، 57.

9 ـ البقرة، 60.

[164]

ظلّة)(1).

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات)(2).

13 ـ عودة الحياة إِلى المقتول والذي اصبح قتله سبباً للإِختلاف بين بني إِسرائيل: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى)(3).

14 ـ الإِستفادة مِن ظل الغمام في الإِحتماء مِن حرارة الصحراء بشكل إِعجازي: (وظَلَّلنا عليكم الغمام)(4).

ولكن الكلام هُنا هو: ما هو المقصود مِن (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر مِن خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنَّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه، وليست تلك المتعلقة ببني إِسرائيل مِن قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون مِن الصخور وأمثال ذلك.

لذا يُمكن القول أنَّ الآية (133) مِن سورة الأعراف تتعرض إِلى خمسة مواضيع مِن الآيات التسع وهي: (الطوفان، القمّل، الجراد، الضفادع، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) مِن سورة النمل بعد ذكر هاتين المُعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعاً، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إِنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع،


1 ـ الأعراف، 171.

2 ـ الأعراف، 130.

3 ـ البقرة، 73.

4 ـ البقرة، 57.

[165]

لأنَّ الهدف مِن الآيات أن تكون دافعاً لهدايتهم وسبباً لقبولهم بنبوة موسى(عليه السلام)،  لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عِندَ التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاءَ فيها ذكر العديد مِن هذه الآيات يظهر أنَّ الآيتين الأخريتين هما: (الجفاف) و(نقص الثمرات) حيثُ أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد، والقمل...) قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات لعلهم يذكرون).

وبالرغم مِن أنَّ البعض يتصوّر أنَّ الجفاف لا يمكن فصلهُ عن نقص الثمرات وبذا تُعتبر الآيتان آية واحدة، إِلاَّ أنَّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قُلنا في تفسير الآية (130) مِن سورة الأعراف ـ لا يُؤثِّر تأثيراً كبيراً في الأشجار، أمّا عندما يكون جفافاً طويلا فإِنَّهُ سيؤدي إِلى إِبادة الأشجار، لذا فإِنَّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائماً إِلى نقص الثمرات.

إِضافة إِلى ما سبق يُمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنَّ الآيات التسع التي وردت الإِشارة إِليها في الآيات التي نبحثها هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنَّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يُؤمنوا، لذلك انتقمنا مِنهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1).

هُناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية، ولاختلافها فيما بينها لا يُمكن الإِعتماد عليها في إصدار الحكم.


1 ـ الأعراف، 136.

[166]

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ قدَ أُمِرَ بسؤال بني إِسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى، وكيف أنَّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسى(عليه السلام) بُمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنَّ لدى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن العلم والعقل بحيث أنَّهُ لا يحتاج إِلى السؤال، لذا فإِنَّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يُقال: إِنَّ سؤال الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يكن لِنفسه، بل للمشركين، لذلك فما المانع مِن أن يكون شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عندما لم يوافق على اقتراحاتهم، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصُّب والعناد، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد بـ (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ الله أمر بني إِسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض، فهل الغرض مِن الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنَّ فرعون أراد أن يخرجهم مِن تلك الأرض. وبنفس المعنى أشارت آيات أُخرى إِلى أنَّ بني إِسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إِشارة إِلى الأرض المقدَّسة فلسطين، لأنَّ بني إِسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإِنّنا لا نستبعد أيّاً مِن الإِحتمالين، لأنّ بني إِسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه، وامتلكوا أرض فلسطين أيضاً.

[167]

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهراً ... إِنَّ الإِجابة بالإِيجاب، حيث أنَّ جملة (جئنا بكم لفيفاً) قرينة على هذا الموضوع، ومُؤَيِّدة لهذا الرأي. إِلاَّ أنَّ بعض المفسّرين احتملوا أنَّ (وعد الآخرة) إِشارة إِلى ما أشرنا إِليه في بداية هذه السورة، مِن أنَّ الله تبارك وتعالى قد تَوَعَّد بني إِسرائيل بالنصر والهزيمة مرَّتين، وقد سمى الأُولى بـ «وعد الأُولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة»، إِلاَّ أنَّ هذا الإِحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى: (جئنا بكم لفيفاً) (فدقق في ذلك).

* * *

[168]

الآيات

وَبِالْحَقّ ِ أَنْزَلْنـهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً(105) وَقُرْءَاناً فَرَقْنـهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث وَنَزَّلْنـهُ تَنْزِيلا(106) قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ سُجَّداً(107)وَيَقُولُونَ سُبْحنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا(108) وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعاً(109)

التّفسير

عُشاق الحق

مرّة أُخرى يشير القرآن العظيم إِلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويُجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات: (وبالحق أنزلناه)، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة (وبالحق نزل).

ثمّ تقول: (وما أرسلناك إِلاَّ مُبشراً ونذيراً) إِذ ليسَ لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

[169]

لقد ذكر المفسّرون آراء مُختلفة في الفرق بين الجملة الأُولى: (وبالحق أنزلناه) والجملة الثّانية: (وبالحق نزل) مِنها:

1 ـ المراد مِن الجملة الأُولى: إِنّنا قَدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنَّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق، لذا فإِنَّ التعبير الأوّل يُشير إِلى التقدير، بينما يشير الثّاني إِلى مرحلة الفعل والتحقق(1).

2 ـ الجملة الأُولى تشير إِلى أنَّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق، أمّا التعبير الثّاني فانَّهُ يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضاً(2).

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنَّ الجملة الأُولى تقول: إِنّنا نزَّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول: إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتدخل في الحق ولم يتصرف بهِ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح مِن هذه التّفاسير، وهو أنَّ الإِنسان قد يبدأ في بعضِ الأحيان بعمل ما، ولكنّه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب مِن ضعفه، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء، فإِنَّهُ يبدأ بداية صحيحة، ويُنهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماءً صافياً مِن أحد العيون، ولكن خلال مسير هذا الماء  لا يستطيع ذلك الشخص أن يُحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعهُ مِن التلوث، فيصل الماء في هذه الحالة إِلى الآخرين وهو مُلَوَّث. إِلاَّ أنَّ الشخص القادر والمحيط بالأُمور، يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوث حتى يصل إِلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزلَ بالحق مِن قبل الخالق، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين، أو المرحلة التي كان


1 ـ يُراجع تفسير القرطبي، ج 6، ص 3955.

2 ـ في ظلال القرآن، أننا تفسير الآية.

[170]

الرّسول فيها هو المتلقي، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إِليه بمقتضى قوله تعالى: (إِنا نحنُ نزَّلنا الذكر وإِنّا لهُ لحافظون) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإِنَّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإِلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل مُنذ عصر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة مِن ذرائع المعارضين وحججهم، إِذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا كان نزوله تدريجياً؟ كما تُشير إِلى ذلك الآية (32) مِن سورة الفرقان التي تقول: (وقالَ الذين كفروا لولا نُزّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدةً، كذلك لِنثِّبتَ بهِ فؤادَكَ ورتلناه ترتيلا) فيقول الله في جواب هؤلاء: (وقرآناً فرَّقناه لتقرأهُ على الناس على مُكث)(1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويُترجم عملياً بشكل كامل.

ومِن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنَّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحنُ: (ونزَّلناه تنزيلا).

إِنَّ القرآن كتاب السماء إِلى الأرض، وهو أساس الإِسلام ودليل لجميع البشر، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والإِجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين، لذلك فإِنَّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دُفعة واحدة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يُجاب عليها مِن خلال النقاط الآتية:

أوّلا: بالرغم مِن أنَّ القرآن هو كتاب، إِلاَّ أنَّهُ ليسَ ككتب الإِنسان المؤَلَّفة حيثُ يجلس المُؤَلَّف ويفكِّر ويكتب موضوعاً، ثمّ ينظِّم فصول الكتاب وأبوابه لِينتهي مِن تحرير الكتاب، بل القرآن لهُ ارتباط دقيق بعصره، أي ارتباط بـ (23) سنة، هي عصر نبوة نبي الإِسلام بكل ما كانت تتمخض بهِ مِن حوادث وقضايا.


1 ـ مجي كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يُفسّرهُ المفسّرين بأنَّهُ مفعول لفعل مقدَّر تقديرهُ (فرقناه)، وبذلك تصبح الجملة هكذا: (وفرقناه قرآناً).

[171]

لذا كيف يُمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامناً لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يُمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إِنَّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإِسلامية، وآيات تختص بالمُنافقين، وأُخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). فهل يُمكن أن يُكتب مجموع كل ذلك مُنذ اليوم الأوّل؟

ثانياً: ليس القرآن كتاباً ذا طابع تعليمي وحسب، بل ينبغي لكل آية فيه أن تُنفَّذ بعدَ نزولها، فإِذا كانَ القرآن قد نَزَل مرَّة واحدة، فينبغي أن يتمّ العمل بهِ مرّةً واحدة أيضاً، ونعلم بأنَّ هذا مُحال، لأنَّ إِصلاح مُجتمع مَليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد، إِذ لا يمكن إِرسال الطفل الأمي دفعة واحدة مِن الصف الأوّل إِلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوماً ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيِّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتَمثُله عملياً.

ثالثاً: بدون شك، إِنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإِمكانيات أكبر عِندما يقوم بتطبيق القرآن جزءاً جزءاً، بدلا مِن تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنَّهُ مُرسَل مِن الخالق وذو عقل واستعداد كبيرَيْن ليسَ لهما مثيل، إِلاَّ أنَّهُ برغم ذلك فإِنَّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعاً: النّزول التدريجي يعني الإرتباط الدائمي للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مصدر الوحي، إِلاَّ أنَّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الإِرتباط بمصدر الوحي لأكثر مِن مَرَّة واحدة.

آخر الآية (32) مِن سورة الفرقان تقول: (كذلك لِنثبّت بهِ فؤادك ورتلناه

[172]

ترتيلا) وهي إِشارة إِلى السبب الثّالث، بينما الآية التي نبحثها تِشير إِلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنَّ مجموع هذه العوامل تَكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إِنَّ الذينَ أوتوا العلم مِن قبله إِذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجَّداً).

* * *