[543]

الإِستناد إِلى قوة فوق قوة البشر، أي قوة الله عزّوجلّ.

إِنّ من يؤمن بالله، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة، لا يقدر على إِنكار هذه الأُمور، أو ينسبها إِلى الخراقة كالماديين.

المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا، وهذا الأمر يصدق هنا كاملاً، فلا يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إِلى ثعبان عظيم.

أليس العصا والحية العظيمة كانتا تراباً في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل هذه الموجودات. لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها، لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعاً من التراب على كل حال. غاية ما في الأمر أن العمل الإِعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة، وفي مدّة قصيرة جدّاً، فهل يبدو مثل هذا الأمر محالا؟

من الممكن أن أكتب باليد كتاباً ضخماً في سنة، فإِذا وجد شخص يستند ويعتمد على الإِعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل، فإنّ هذا ليس محالا عقلياً، بل هو خارق للعادة. (دققوا ذلك).

على كل حال، فإِنّ القضاء العجول حول المعجزات، ونسبتها ـ لا سمح الله ـ إِلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل. الشيء الوحيد الذي يحفز ويثير هذه الأفكار أحياناً، هو أنّنا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية، إِلى الحد الذي اعتقدنا أنّها من الضروريات، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة، في حين أن هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي، وليس له صفة الضرورية، ولا مانع من أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر(1).


1 ـ تحدثنا أيضاً حول هذا الموضوع ذيل الآية (107) من سورة الأعراف.

[544]

2 ـ قابليات الأشياء الخارقة

من المسلّم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك، لم يكن يصدق أن هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله، ويحطم قوّة الفراعنة، إِلاّ أنّ الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجِد مثل تلك القوة الخارقة.

إِنّ هذا ـ في الواقع ـ درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شيء، فإن كثيراً من الموجودات التي ننظر إِليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.

3 ـ ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟

في الآيات أعلاه قرأنا أنّ موسى(عليه السلام) عندما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء مضيئة لا عيب فيها، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي يلاحظ في التوراة المحرفة، فقد ورد في التوراة: (وقال الله له أيضاً: الآن ضع يدك إِلى جنبك، فوضع يد إِلى جنبه، وأخرجها فإِذا يده مبروصة كالثلج)(1).

إِن كلمة «المبروص» مأخوذة من البرص، وهو نوع من الأمراض، ومن المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.

* * *


1 ـ التوراة، سفر الخروج، الفصل الرابع، الجملة 6.

[545]

الآيات

اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى(25)وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى(27) يَفْقَهُوا قَوْلِى(28) وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِىْ(29) هـرُونَ أَخِى(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى(31) وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى(32) كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً(33)ونَذْكُرَكَ كَثِيراً(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً(35) قَالَ قَدْ أُتِيتَ سُؤْلَكَ يـمُوسى(36)

التّفسير

موسى وطلباته القيمة:

إِلى هنا وصل موسى إِلى مقام النبوة، وتلقى معاجز مهمّة تسترعي الإِنتباه، إِلاّ أنّه من الآن فصاعداً صدر له أمر الرسالة .. رسالة عظيمة وثقيلة جدّاً .. الرسالة التي تبدأ بإِبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط، فتقول الآية: (اذهب إِلى فرعون إِنّه طغى).

أجل .. فمن أجل إِصلاح بيئة فاسدة، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمّة الكفر .. أُولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع، ولهم حضور في كل مكان، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم .. أُولئك الذين

[546]

تركزت كل الوسائل والمنظمات الإِعلامية والإِقتصادية والسياسية في قبضتهم، فإِذا ما أصلح هؤلاء، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إِصلاحهم، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع، وإلاّ فإنّ أي إِصلاح يحدث فإِنّه سطحي ومؤقت وزائل.

والملفت للنظر أن دليل وجوب الإبتداء بفرعون ذُكر في جملة قصيرة: (إِنّه طغى) حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شيء .. الطغيان وتجاوز الحدود في كل أبعاد الحياة، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد: طاغوت.

ومضافاً إلى أنّ موسى(عليه السلام) لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة، فإنّه قد تقبلها بصدر رحب، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقاد، والعقل المقتدر، وبعبارة أُخرى: رحابة الصدر ، فقد (قال رب اشرح لي صدري).

نعم إِنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر، والصبر الطويل، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب، ولذلك فإِنّنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «آلة الرياسة سعة الصدر»(1). وقد بحثنا الصدر ومعناه في ذيل الآية (125) من سورة الأنعام.

ولما كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلاّ بلطف الله، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تُيسر له أُموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: (ويسر لي أمري).

ثمّ طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: (واحلل عقدة من لساني) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأُمور والأسس، إلاّ أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إِذا وجدت القدرة على إِراءته وإِظهاره بصورة كاملة،


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 176.

[547]

ولذلك فإِنّ موسى بعد طلب انشرح الصدر، ورفع الموانع والعقبات، طلب من الله حل العقدة من لسانه.

خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: (يفقهوا قولي) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسى(عليه السلام) نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة ـ كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس ـ بل المراد عقد اللسان المانعة من إِدراك وفهم السامع، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً.

والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (34) من سورة القصص: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً). واللطيف في الأمر أن «أفصح» من مادة فصيح، وهي في الأصل كون الشيء خالصاً من الشوائب، ثمّ أُطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.

وعلى كل حال، فإِنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إِضافة إِلى سعة الفكر وقدرة الروح، بياناً أخاذاً بليغاً خالياً من كل أنواع الإِبهام والقصور.

ولما كان إِيصال هذا الحمل الثقيل ـ حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة ـ إِلى المحل المقصود يحتاج إِلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إِنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو: (واجعل لي وزيراً من أهلي).

«الوزيز» من مادة الوزر، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل، ولما كان الوزراء يتحملون كثيراً من الأحمال الثقيلة على عاتقهم، فقد أطلق عليهم هذا الإِسم، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.

أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنّه

[548]

يعرفه جيداً، ومن جهة أُخرى فإنّه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإِنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!

ثمّ يشير إِلى أخيه، فيقول: (هارون أخي) وهارون ـ حسب نقل بعض المفسّرين ـ كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلا بليغاً، عالي الإِدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(1).

وقد كان نبيّاً مرسلا كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: (ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين). وكذلك كانت له بصيرة بالأُمور وميزاناً باطنياً لتمييز الحق من الباطل، كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء). وأخيراً فقد كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّاً)(2)، فقد كان يسعى جنباً إِلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.

صحيح أن موسى(عليه السلام) عندما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حُمّل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيداً عن وطنه، إلاّ أنّ ارتباطه ـ عادة ـ بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.

ثمّ يبيّن موسى(عليه السلام) هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: (أشدد به أزري) و«الأزر» أخذت في الأصل من مادة الإِزار، أي اللباس، وتطلق خاصّة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على الظهر أو القوّة والقدرة لهذا السبب.

ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: (واشركه في أمري)


1 ـ مجمع البيان ذيل الآية.

2 ـ مريم، 53.

[549]

فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفي إِجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلاّ أنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إِمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إِنّك كنت بنا بصيراً) وتعلم حاجاتنا جيداً، ومُطَّلِع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا.

ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلاّ الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت (قال قد أُتيت سؤلك يا موسى).

إِنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الإِستجابة وحلاوتها وأنزال كل إِبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟

* * *

بحوث

1 ـ شروط قيادة الثورة

لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإِنسانية، وخاصّة إِذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين، ليس بالعمل الهين، بل يحتاج إِلى استعداد روحي وجسمي، وقدرة على التفكير، وقوة في البيان، واستمرار الإِمدادات الإِلهية، ووجود

[550]

الصاحب الذي يطمأن إِليه. وهذه هي الأُمور التي طلبها موسى(عليه السلام) في بداية الرسالة من ربّه.

إِن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسى(عليه السلام) كان يمتلك روح الوعي والإِستعداد حتى قبل النبوة، وتبيّن أيضاً هذه الحقيقة، وهي أنّه كان واقفاً على أبعاد مسؤوليته جيداً، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف، وأي سلاح هو الأمضى، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان، ولكل السائرين في هذا الطريق.

2 ـ مقارعة الطغاة

لا شك أنّ لفرعون نقاطاً وصفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافراً، عابداً للأصنام، ظالماً، مستبداً وو .. إلاّ أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الإِنحرافات مسألة الطغيان (إِنّه طغى) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الإِنحرافات وجامع لها.

ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأُولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماماً، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين.

إِنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية، إلاّ أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب، خاصّة وإِن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.

[551]

3 ـ كل عمل يحتاج إِلى تخطيط ووسائل

الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم، هو أنّه حتى الأنبياء، ومع امتلاكهم للمعجزات، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية، من البيان البليغ والمؤثر، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية، في سبيل تقدم عملهم وتطوره، فليس صحيحاً أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائماً، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل، والإِستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية، فإِذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة، فيجب أن ننتظر اللطف الإِلهي هناك.

4 ـ التسبيح والذكر

لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته ـ كما في الآيات محل البحث ـ هو: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإِمكانية، ومعلوم أيضاً أنّ مراد موسى(عليه السلام) لم يكن تكرار جملة «سبحان الله» مراراً، بل كان الهدف إِيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان، فيقتلعوا الأصنام، ويهدموا معابد الأوثان، وتُغسل الأدمغة من أفكار الشرك، وترفع النواقص المادية والمعنوية.

وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته، ويجعلون الصفات الإِلهية تشع في أرجاء المجتمع، والتأكيد على كلمة «كثيراً» توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاماً، وأن يخرجه من الإِختصاص بدائرة محدودة.

5 ـ الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى

يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسى(عليه السلام) من الله من أجل تقدم عمله،

[552]

مع فارق، هو أنّه وضع اسم علي(عليه السلام) مكان اسم هارون، وقال: «اللهم إِنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً».

وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير «الدر المنثور»، والعلاّمة الطبرسي في «مجمع البيان»، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات.

وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة، حيث قال(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إِلا أنّه لا نبي بعدي».

وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة، وكما قال المحدث البحراني في كتابه «غايه المرام»; إِنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة، وبسبعين طريق من طرق الشيعة»، فهو معتبر إِلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه، أو لإِنكاره.

وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثاً ضافياً في ذيل الآية (142) من سورة الأعراف، والذي نعتبر ذكره ضرورياً هنا، هو أن بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في «روح المعاني» ـ مع قبوله أصل الرّواية، إلاّ أنّه أشكل في دلالتها، وقالوا: إِن جملة (أشركه في أمري) لا تثبت غير الإِشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إِلى الحق!

إلاّ أنّ من الواضح أن مسألة الإِشتراك في الإرشاد، وبتعبير آخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدين، واجب على كل فرد من المسلمين، وهذا لم يكن شيئاً يطلبه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) .. إِن هذا توضيح للواضحات،  ولا يمكن تفسير دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك مطلقاً.

ومن جهة أُخرى، فإِنّا نعلم أن الأمر لم يكن الإِشتراك في النّبوة، وبناء على

[553]

هذا نخلص إِلى هذه النتيجة، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة، وهل يمكن أن يكون إلاّ الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة «وزيراً» أيضاً تؤيد وتقوي ذلك.

وبتعبير آخر، فإِنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد، وهي حفظ دين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كل أنواع التحريف والإِنحراف، وتفسير أي إِبهام يبديه البعض في محتوى الدين، وقيادة الأُمّة في غيبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده، والمساعدة المؤثرة جداً في تحقيق أهدافه.

إِن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «أشركه في أمري» لعلي(عليه السلام)من الله سبحانه.

ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إِشكالا في هذا البحث، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحياناً في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى، وتكون أحياناً بعد وفاته كما كان علي(عليه السلام) بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد، وإِن كانت المصاديق متفاوتة. (دققوا ذلك).

* * *

[554]

الآيات

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(37) إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الَْيمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً منِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى(39) إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـكَ إِلَى أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنـكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّـكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَر يَـمُوسى(40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى(41)

التّفسير

الربّ الرحيم:

يشير الله سبحانه في هذه الآيات إِلى فصل آخر من فصول حياة موسى(عليه السلام)، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإِن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنّبوة، إلاّ أنّه ذكر كشاهد على شمول عناية الله عزّوجل لموسى(عليه السلام) من بداية عمره، وهي في الدرجة الثّانية من

[555]

الإهمية بالنسبة إِلى الرسالة، فيقول أوّلا: (ولقد مننا عليك مرّة أُخرى)(1).

وبعد ذكر هذا الإِجمال تتطرق الآيات إِلى الشرح والتفصيل، فتقول: (إِذ أوحينا إِلى أمك ما يوحى) وهو إِشارة إِلى أنّنا قد علّمنا أُمّه كل الطرق التي تنتهي إِلى نجاة موسى(عليه السلام) من قبضة الفراعنة، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أن فرعون شدّد ارهابه على بني إِسرائيل للتصدّي لقوتهم وعصيانهم المحتمل، أو أنّه ـ على رأي بعض المفسّرين والمؤرخين ـ كان قد أمر بقتل أبنائهم وإِبقاء البنات للخدمة، لكي يمنع ولادة ولد من بني إِسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني إِسرائيل وبيوتهم، وكانوا لا يدعون ذكراً يولد إِلاّ وقتلوه.

وذهب بعض المفسّرين إِلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوّة بني إِسرائيل من جهة، وكان من جهة أُخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماماً، لأنّه كان يعتبرهم عبيداً يصلحون للخدمة، ولذلك كان قد أمر بأنّ يتركوا الأولاد سنة ويذبحونهم سنة أُخرى، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!

على كل حال، فإِنّ هذه الأُم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر، وإِخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحل المشكلة .. في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ـ أن أودعيه عندنا، وانظري كيف سنحافظ عليه، وكيف سنرده إِليك؟ فألقى في قلب الأُمّ: (أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم).

«اليم» هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه.


1 ـ كما قلنا سابقاً أيضاً فإِنّ «المنة» في الأصل من المن، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها، ولذلك فإِن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها: إِنّها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة، إلاّ أنّ الإِنسان إِذا عظّم عمله الصغير بكلامه، وذكرّ الطرف الآخر به، فإنّه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.

[556]

والتعبير بـ (اقذفيه في التابوت) ربما كان إشارة إِليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب، وضعيه في الصندوق، وألقيه في نهر النيل، ولا تدعي للخوف سبيلا إِلى نفسك.

كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائماً الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إِنّه له معنى واسعاً، حيث تطلق أحياناً على الصناديق الأُخرى أيضاً، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (248) من سورة البقرة(1).

ثمّ تضيف: (فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له) والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله، ولموسى وبني إِسرائيل، وأشارت إِلى أن الشخص الذي انغمس إِلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزاً عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إِنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعندما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!

ولما كان موسى(عليه السلام) يجب أن يُحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر، فقد ألقى الله قبساً من محبّة عليه، إِلى الحد الذي لم ينظر إِليه أحد إِلا ويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات: (وألقيت عليك محبّة منّي) فأي درع عجيب هذا الحب! إِنّه لا يرى بالعين، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!

يقولون: إِنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إِلى فرعون، إلاّ أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوّقت محبته رقبتها، وابتعدت


1 ـ راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (248) من سورة البقرة.

[557]

عن رأسها كل الأفكار السيئة.

ونقرأ في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في هذا الباب: «فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إِليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إِلا أحبه»(1)، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماماً في بلاط فرعون.

وتقول الآية في النهاية: (ولتصنع على عيني) فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض، وكل شيء حاضر بين يديه، إلاّ أنّ هذا التعبير إِشارة إِلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة (ولتصنع على عيني)مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها، إلاّ أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعاً، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية، وصنع موسى(عليه السلام) من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة.

ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ، أنّ أُمّ موسى(عليه السلام) قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق، وحملته أمواج النيل، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر، إلاّ أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إِليه طريقاً، فهو سبحانه سيعيده إِليها في النهاية سالماً.

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل، ويحتمل أن فرعاً من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره، فحملت أمواج المياه الصندوق إِلى ذلك الفرع الصغير، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إِلى الأمواج، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من


1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 378.

[558]

الماء، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلا فيه، وهو شيء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبه فرعون إِلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إِسرائيل، وإِنما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته، فأمر بقتله، إلاّ أنّ زوجته ـ التي كانت عقيماً ـ تعلقت جدّاً بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إِلى زوايا قلبها، وجذبها إِليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين)، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إِليه.

غير أن الطفل جاع، وأراد لبناً، فاخذ يبكي ويذرف الدموع، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له، إلاّ أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إِلى أُمّه، فهب المأمورون للبحث من جديد، وكانوا يطرقون الأبواب بحثاً عن مرضع جديدة.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة:

نعم يا موسى، فإِنّا كنّا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا (إِذا تمشي أختك) بأمر أمُك لتراقب مصيرك، فرأت جنود فرعون: (فتقول هل أدلكم على من يكفله)وربّما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق، فذهبوا معها، فأطلعت أُخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ أُمّها على الأمر، فجاءت أُمّه إِلى بلاط فرعون، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها، بالرغم من أن أمواجاً من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها، واحتضنت الطفل، فلمّا شم الطفل رائحة أُمّه، وكانت رائحة

[559]

مألوفة لديه، التقم ثديها كأنّه تضمن لذة الروح وحلاوتها، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

يقول البعض: إِنّ فرعون تعجب من هذه الحادثة، وقال: من أنت إِذ قبل هذا الطفل لبنك في حين أنّه ردّ جميع الأُخريات؟ فقالت الأم: إِني امرأة طيبة الريح واللبن، ولا يرفض لبني أي طفل!

عل كل حال فقد أمرها فرعون بالإِهتمام بالطفل، وأكدت زوجته كثيراً على حفظه وحراسته، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأُخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن: (فرجعناك إِلى أُمّك كي تقرّ عينها ولا تحزن)ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إِلى بيتها، إلاّ أنّ من الطبيعي أن ابن عائلة فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حباً شديداً، يجب أن يعرض عليها بين فترة وأُخرى.

ومرّت السنون والاعوام، وتربى موسى(عليه السلام) وسط هالة من لطف الله ومحبته، وفي محيط آمن، وشيئاً فشيئاً أصبح شاباً. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من بني إِسرائيل والآخر من الأقباط ـ (وهم المصريون قوم فرعون) ـ ولما كان بنو إِسرائيل يعيشون دائماً تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إِسرائيل، ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إِلى ذلك القبطي، فقضت عليه.

فتأثر موسى مما حدث وقلق، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من الذي قام بعملية القتل هذه، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلاّ أنّ موسى، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه، خرج متخفياً من مصر، وتوجه إِلى مدين، فوجد محيطاً وجواً آمناً في ظل النّبي «شعيب»، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير

[560]

سورة القصص إِن شاء الله تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً) فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيراً والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد (فلبثت سنين في أهل مدين) وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل، والإِستعداد الروحي والجسمي، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار (فقد جئت على قدر يا موسى). أي حيث لاستلام مهمّة الرسالة في زمان مقدّر إِلى هذا المكان.

إِن كلمة «قدر» ـ برأي كثير من المفسّرين ـ تعني الزمان الذي قدر فيه أن يُنتخب موسى للرسالة. إلاّ أنّ البعض اعتبرها بمعنى المقدار، كما جاء هذا المعنى في بعض الآيات القرآنية، كالآية (21) من سورة الحجر، وطبقاً لهذا التّفسير سيكون معنى الآية: يا موسى إِنك قد نشأت وأصبحت ـ بعد تحمل هذه المصاعب والإِمتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب ـ ذا قدر ومقام وشخصية، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.

ثمّ يضيف: (واصطنعتك لنفسي) فمن أجل مهمّة تلقي الوحي الصعبة، ومن أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإِرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمّة الكبرى على عاتقك، فإِنك مؤهل من جميع الجوانب.

«اصطناع» من مادة «صنع» بمعنى الأصرار والاقدام الاكيد على اصلاح شيء (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات وكأنني اريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبّة الله لهذا النّبي العظيم، وذهب البعض أنّه يشبه ما قاله الحكماء من: إِنّ الله إِذا أحبّ عبداً تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.

نهاية المجلد التّاسع

* * *