![]() |
![]() |
![]() |
إِنَّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر مِن غيرهم رهبة هَذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني، إِذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إِلى دَفع الرمال والأحجار إِلى غير مواقعها لِتشكِّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال وَمَن عليها.
بعد ذلك تضيف الآية مذكِّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إِلى السفر في البحر: (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أُخرى فيرسل عليكم قاصفاً مِن الريح فيغرقكم بما كفرتم ثمّ لا تجدوا لكم علينا بِهِ تبيعاً)، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم و يثأر لكم منّا.
* * *
إِنَّ الكثير مِن الناس لا يذكرون الله إِلاَّ عِندَ بروز المشاكل. وَينسونه في الرخاء، إِنَّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنّه صار طبيعة، ثانية لهؤلاء، لذا فإنَّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والإِلتفات إِلى وَقائع الحياة الحقَّة تعتبر حالة إستثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إِلى عوامل إضافية، فما دامت هَذِهِ العوامل الإِضافية موجودة فهم يذكرون الله، أمّا إِذا زالت فسوف يرجعون إِلى طبيعتهم المنحرفة وَينسون الله.
والخلاصة، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة مَن لا يلجأ إِلى الله وَلا يخضع له عِندما تضغطه المشاكل الحادَّة والصعبة، وَلكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفهُ بالوعي الإِجباري، هو وعي عديم الفائدة.
إِنَّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحةِ والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسى الحكم، وَفي أي وَضع كان. إِنَّ تغيير الأوضاع وَتبدُّل الحالات لا يغيِّر هؤلاء. إِنَّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هَذِهِ الأُمور، مَثلهم في ذلك علي بن أبي طالب(عليه السلام)، حيثُ كانت عبادته وَزهده وَمُتابعته لأُمور الفقراء لا تختلف عِندَ وجوده في السلطة، أو عندما كان جليس بيته.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ـ يقول في وَصف المتقين: «نَزَلت أنفسهم مِنهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء»(1).
وخلاصة القول: إِنَّ الإِيمان والإِرتباط بالله وَعبادته والتوسل بهِ والتوبة إِليه والتسليم له سبحانه وَتعالى، كل هَذِهِ الأُمور تكون مهمّة وَثمينة وَذات أثر عِندما تكون دائمية وَثابتة، أمّا الإِيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان وَيبغي مِن خلالها جلب بعض المنافع له، فليسَ لها أثر وَلا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائماً.
البعض يتوجه إِلى الله (مِثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عِندما يكون في وَسط البحر أو عِندما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حالِ مرض
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 193.
شديد، في حين أنّنا إِذا فكَّرنا بشكل صحيح نرى أنَّ الإِنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وَغيرها، هي في الواقع مُتساوية الخطورة. إِنَّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمِّر بيتنا الآمن الهاديء، وإِنَّ تخثراً بسيطاً في الدم يمكنُه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية، وَبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مَع وجود كل هَذِهِ الأُمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!
قد يقوم هُنا أنصار نظرية تعليل الإِيمان ـ والدين بشكل عام ـ على أساس الخوف، بتبرير هَذِهِ الحالة بقولهم: طالما أنَّ الخوف في الإِنسان غريزي وَفطري، فإِنَّ خوفه مِن العوامل الطبيعية يجعل الإِنسان يتوجه نحو الخالق. وَمثل هَذِهِ الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هَذا التصوّر وَتعضده.
الآيات القرآنية أجابت على هَذِهِ الأوهام، إِذ أبانت أنَّ القرآن لم يجعل ـ أبداً ـ معرفة الخالق قائمة على هَذِهِ الأُمور، بل إِنَّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى مِن خلال هَذا الخلق. وَحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإِيمان الإِستدلالي قبل ذكر التوحيد والإِيمان الفطري، وَفي الواقع فإنّها تعتبر هَذِهِ الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا مِن أجل معرفته، إِذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح مِن خلال أسلوب الإِستدلال وَعن طريق الفطرة.
«يزجي» مأخوذة مِن «إِزجاء» وَهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر.
«حاصب» تعني الهواء الذي يحرّك معهُ الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأُخرى مكاناً معيناً، وَهي مُشتقّة أصلا مِن (حصباء) التي تعني الأحجار
الصغيرة (الحصى).
«قاصف» بمعنى المحطّم، وَهي هُنا تشير إِلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شيء مِن مكانه.
«تبيع» بمعنى تابع، وَهي تشير هُنا إِلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم، وَثمن الدم والثأر وَيستمر في ذلك.
* * *
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَآدَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنهُم مِّنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا(70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَـمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَـبَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا(71) وَمَنْ كَانَ فِى هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا(72)
إِنَّ واحدة مِن أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإِنسان وَمكانته وَمواهبه، لذا فإِنَّ القرآن الكريم وَبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة، يقوم هُنا بتبيان الشخصية الممتازة للإِنسان والمواهب التي منحها إِيّاها ربّ العالمين، لكي لا يلوّث الإِنسان جوهره الثمين، وَلا يبيع نفسهُ بثمن بخس، حيث يقول تعالى (وَلقد كرَّمنا بني آدم).
ثمّ تشير الآيات القرآنية إِلى ثلاثة أقسام مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله لبني البشر، هَذِهِ المواهب هي أوّلا: (وَحملناهم في البر والبحر).
ثمّ قوله تعالى:(ورزقناهم مِن الطيبات) و مع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإِلهية الكبيرة.
أمّا القسم الثّالث مِن المواهب فينص عليه قوله تعالى: (وَفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
* * *
الملاحظة التي تلفت النظر هُنا، هي: لماذا اختار الله قضية الحركة على اليابسة وَفي البحار، وأشار إِليها أوّلا مِن بين جميع المواهب الأُخرى التي وَهبها للإِنسان؟
قد يكون ذلك بسبب أنَّ الإِستفادة مِن الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث بدون الحركة، حيثُ أنَّ حركة الإِنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إِلى وسيلة نقل، إِذ أنَّ الحركة هي مقدمة لأي بركة.
أو أنَّ السبب قد يكون لإظهار سلطة الإِنسان على الكرة الأرضية الواسعة بما في ذلك البحار والصحاري. إذ أنَّ لكل نوع مِن أنواع الموجودات سلطة على جزء محدود مِن الأرض، أمّا الإِنسان فإِنَّهُ يحكم الكرة الأرضية ببحارها وَصحاريها وهوائها.
بأي شيء كرَّم الله الإِنسان؟ الآية تقول بشكل مجمل (وَلقد كرَّمنا بني آدم).
بين المفسّرين كلام كثير عن مصداق هَذا التكريم، فالبعض يعزو السبب لقوّة
العقل والمنطق والإِستعدادات المختلفة وَحرية الإِرادة. أمّا البعض الآخر فيعزو ذلك إِلى الجسم المتزن والجسد العمودي، والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإِنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة، وأيضاً تمنحهُ القدرة على الكتابة.
والبعض يعتقد أنّ التكريم يعود إِلى أنّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل طعامه بيده.
وهناك مَن يقول: إنّ السبب يعود إِلى سلطة الإِنسان على جميع الكائنات الأرضية.
وهناك مِن المفسّرين من يعزو التكريم إِلى قدرة الإِنسان على معرفة الله، والقدرة أيضاً على إطاعة أوامره.
لكن مِن الواضح أنَّ جميع هَذِهِ المواهب موجودة في الإِنسان وَلا يوجد تضاد بينها، لذا فإِنَّ تكريم الخالق لِهَذا المخلوق الكريم يتجلَّى من خلال جميع هَذِهِ المواهب وَغيرها.
خلاصة القول: إِنَّ الإِنسان لهُ إِمتيازات كثيرة على باقي المخلوقات، وَهَذِهِ الإِمتيازات الواحدة منها أعظم مِن الأُخرى; فمضافاً إِلى الإِمتيازات مية، ية، فإِنَّ روح الإِنسان لها مجموعة واسعة مِن الإِستعدادات والقدرات الكبيرة التي تؤهلُهُ لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود.
هُناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرَّمنا) وَ (فَضَّلنا) فالبعض يقول: إنّ (كرّمنا) هي إِشارة إِلى المواهب التي أعطاها الله ذاتاً للإِنسان، بينما (فضَّلنا) إِشارة إِلى الفضائل التي اكتسبها الإِنسان بسبب توفيق الله.
هُناك احتمال قوي بأنّ (كرّمنا) إشارة إِلى الجوانب المادية، أمّا (فضّلنا) فهي
إشارة إِلى المواهب المعنوية، لأنَّ كلمة (فضَّلنا) غالباً ما تأتي في القرآن بهذا المعنى.
بعض المفسّرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني الإنسان، فالقرآن يقول بأنَّ الإِنسان مفضَّل على أكثر المخلوقات، وَتبقى مجموعة لا يكون الإِنسان أفضل مِنها، وَهَذِهِ المجموعة ليست سوى الملائكة.
وَلكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وَتعليمهم (الأسماء) مِن قبل آدم، لا يبقى شك في أنَّ الإِنسان أفضل مِن الملائكة.
لذا فإِنَّ كلمة (كثير) تعني هُنا (جميع). وَكما يقول المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان، فإنَّ استخدام كلمة (كثير) بمعنى (جميع) يعتبر عادياً وَوارداً في القرآن الكريم وَفي لغة العرب.
وَهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو: «إِنّا فضلناهم على مَن خلقناهم، وهم كثير».
فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية (223) مِن سورة الشعراء: (وأكثرهم كاذبون) بينما مِن البديهي أنَّ كل الشياطين كاذبين وَليس أكثرهم، وَإنّما استخدمت الآية (كثير) بمعنى (الجميع).
على أي حال، إِذا اعتبرنا المعنى خلافاً للظاهر، فإِنَّ آيات خلق الإِنسان ستكون قرينة واضحة لذلك.
لا يعد الجواب على هَذا السؤال معقداً، إِذ أنّنا نعلم أنَّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون مِن قوى مُختلفة، مادية وَمعنوية; جسمية وَروحية، وَينمو
وَسط المتضادات، وَلهُ استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدُّم.
وَهُناك حديث معروف للإِمام علي(عليه السلام) وَهو شاهد على ما نقول، إِذ يقول فيه(عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّوجلّ ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما; فمن غلب عقله شهوته فهو خيرٌ مِن الملائكة، وَمن غلبت شهوته عقلُه فهو شرٌّ من البهائم»(1).
وَهُنا يبقى سؤال واحد: هل أنَّ جميع البشر أفضل مِن الملائكة، في حين يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون، وَهَؤلاء يُعتبرون مِن أسوأ خلق الله... بعبارة أُخرى: هل أنَّ كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم مِنهم؟
يمكن تلخيص الإِجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي: نعم جميع البشر أفضل، وَلكن بالقوة والإستعداد، يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل، وَلكنَّهم إِذا لم يستفيدوا مِن هَذِهِ الأرضية والقابلية المودعة فيهم، وسقطوا في الهاوية، فإنَّ ذلك يكون بسببهم وَيعود عليهم فقط.
وَبالرغم مِن أنَّ أفضلية الإِنسان هي في المجالات المعنوية والإِنسانية، وَلكن بعض العلماء ذكر أنَّ الإِنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم مِن أنَّهُ يعتبر ضعيفاً في مناحي أُخرى.
«الكسيس كاريل» مؤلف كتاب (الإِنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه واصفاً قدرات الإِنسان: «اِنّ جسم الإِنسان مِن المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنَّهُ يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإِنساني مِن قلّة غذاء; وَسهر وَتعب، وهموم زائدة، وأشكال المرض والألم والمعاناة، وَهو في ثباته وَمقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعداداً استثنائياً يبعث على الحيرة والعجب، حتى أنّنا نستطيع أن نقول: إِنَّ الوجود الإِنساني في تكوينه الروحي
1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 188.
والجسدي هو أثبت الموجودات مِن ذوي الأرواح وأكثرها نشاطاً واستعداداً في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدَّت إِلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها»(1).
الآية التي بعدها تشير إِلى موهبة أُخرى مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله للإِنسان، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هَذِهِ المواهب.
ففي البداية تشير الآية إِلى قضية القيادة وَدَورها في مستقبل البشر فتقول: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) يعني أنَّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم وَمَن ينوب عنهم في كل زمان وَعصر، سوف يكونون مَع قادتهم وَيحشرون معهم، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمّة الضلال والظالمين والمستكبرين قادةً لهم، فإنّهم سيكونون معهم وَيحشرون معهم.
خلاصة القول: إِنَّ الإِرتباط بين القيادة والأتباع في هَذا العالم سوف ينعكس بشكل كامل في العالم الآخر، وَطبقاً لِهَذا الأمر سيتم تحديد الفرق الناجية، والأُخرى التي تستحق العذاب.
بالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد حصر كلمة (إمام) بـ (الأنبياء) والبعض الآخر حصرها بمعنى (الكتب السماوية) والبعض الثّالث بـ (العلماء)، إِلاَّ أنَّ من الواضع أنّ كلمة (إمام) في هَذا المكان لها معنى أوسع، وتشمل أية قيادة سواء تمثَّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. وَيدخل في معنى الكلمة أيضاً أئمّة الكفر والضلال، وَبهذا الترتيب فإنَّ كل إنسان سيسلك في الاخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا اماماً وقائداً.
هذا التعبير والإِشارة إِلى دَور الإِمامة وَكونها مِن أسباب تكامل الإِنسان، يعتبر في نفس الوقت تحذيراً لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة، وَلا تعطي أزِمَّةَ وجودها الفكري والحياتي بيد أي شخص كان.
1 ـ الإنسان ذلك المجهول، الكسيس كارل، ص73 ـ 74.
ثمّ تقسم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين: (فمن أوتي كتابه بيمينه فأُولئك يقرؤون كتابهم وَلا يظلمون فتيلا)(1). أمّا القسم الآخر فهو: من كان في الدنيا أعمى القلب: (وَمَن كانَ في هَذِهِ أعمى فهو في الآخرة أعمى). وَطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلب أضل من جميع المخلوقات (وأضلّ سبيلا) فهؤلاء لا يوفقون في هَذِهِ الدنيا لسلوك طريق الهداية، وَلا هُم في الآخرة مِن أصحاب الجنّة والسعادة، لأنّهم أغمضوا عيونهم عن جميع الحقائق وَحرّموا أنفسهم مِن رؤية الحق وآيات الله وَكل ما يؤدي إِلى هدايتهم، وَيقود إِلى خلاصهم مِن المواهب العظيمة التي أعطاهم الله إِيّاها، وَلأنّ الآخرة هي صورة مُنعكسة لوجود الإِنسان في هَذه الدنيا، إِذن ليسَ ثمّةَ مِن عجب في أن يُحشر هؤلاء العميان بنفس الصورة في يوم الحشر والقيامة.
* * *
الحياة الإجتماعية للبشر في الدنيا لا يمكن أن تنفصل عن القيادة أو أن تستغني عنها، لأنَّ تحديد مسير مجموعة معينة يحتاج دائماً إِلى قيادة، وَعادةً لا يمكن سلوك طريق التكامل بدون وجود قيادة، وَهذا هو سر إِرسال الأنبياء وانتخاب الأوصياء لهم.
وَفي علوم العقائد والكلام، يُستفاد أيضاً مِن (قاعدة اللطف) في إثبات لزوم بعث الأنبياء وَلزوم وجود الإِمام في كل زمان، وذلك لأهمية دور القائد في تنظيم المجتمع، وَمنع الإِنحرافات، وَبنفس المقدار الذي يقوم بهِ القائد الإِلهي والعالم
1 ـ (فتيل) تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر، وَفي المقابل فإن (نقير) تعني مؤخرة نوى التمر، بينما تعني (قطمير) الطبقة الرقيقة التي تغطي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشيء الصغير جدّاً والحقير.
والصالح بإيصال الإِنسان إِلى هدفه النهائي بشكل سهل وَسريع، فإِنَّ التسليم لقيادة أئمّة الكفر والضلال والإِنقياد لهم يؤديان بالإِنسان إِلى الهاوية والشقاء.
وَفي تفسير هَذِهِ الآية تتضمّن المصادر الإِسلامية أحاديث مُتعدِّدة توضح مفهومها و تبيّن الغرض مِن الإِمامة.
ففي حديث تنقُلهُ الشيعة والسنة عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) بأسناد صحيحة أنَّهُ نقل عن آبائه عن جدِّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حول تفسير هَذِهِ الآية قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يُدعى كل أناس بإمام زمانهم وَكتاب ربّهم وسنة نبيّهم».(1)
وَنقرأ عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قوله: «ألا تحمدون الله! إِذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إِلى من يتولونه وَدعينا إِلى رسول الله وَفَزعتم إِلينا فإِلى أين ترون يذهب بكم؟ إِلى الجنّة وَربّ الكعبة ـ قالها ثلاثاً».(2)
(بني آدم) وَردت في القرآن الكريم كعنوان للإِنسان مقرونة بالمدح والإِحترام، في حين أنّ كلمة (إنسان) ذكرت مَع صفات مِثل: ظلوم، جهول، هلوع، ضعيف، طاغي، وَما شابهها مِن الأوصاف. وَهَذا يدل على أن بني آدم صفة للإِنسان المتربي، أو على الأقل الذي لهُ استعدادات إِيجابية (إن افتخار آدم وَتفضيله على الملائكة يؤيد هذا المعنى لبني آدم). في حين أنّ كلمة (إنسان) وَردت بشكل مطلق، وأحياناً تشير إِلى الصفات السلبية.
لذا فإنَّ الآيات التي نبحثها استخدمت كلمة (بني آدم) لأنَّ الحديث فيها هو عن الكرامة وأفضلية الإِنسان. (هُناك بحث مفصل حول معنى الإِنسان في القرآن الكريم يُمكن مُراجعتهُ في تفسيرنا هذا ذيل الآية 11 من سورة يونس).
1 ـ مجمع البيان عِندَ تفسير الآية.
2 ـ المصدر السّابق.
في الحديث المعروف عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليهما السلام) يُنقل أنَّهُ عِندما كان يتحدث عن الأركان الأساسية في الإِسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن، في حين الصلاة التي توضح العلاقه بين الخالق والخلق، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات، والزكاة التي تحدَّد العلاقة بين الخلق والخالق، والحج الذي يكشف الجانب الإِجتماعي في الإِسلام، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الأُخرى. ثمّ يضيف الإِمام الباقر(عليه السلام) «وَلَمْ ينادَ بشىء كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنَّ تنفيذ الأركان الأُخرى لن يتحقق إِلاَّ في ظل هَذا الأصل، أي في ظل الولاية(1).
وَلِهَذا السبب بالذات روي عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «مَن مات بغير إمام مات ميتة الجاهلية»(2).
التأريخ يشهد أنّ بعض الأُمم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم وأُممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة، ولكن نفس الأُمّة تنهار وَتسقط في الهاوية، برغم امتلاكها لِنفس القوى البشرية والمصادر الأُخرى، إِذا كانت قيادتها ضعيفة وَغير كفوءة.
ثمّ ألم يكن عرب الجاهلية غارقين في جهلهم وَفسادهم وَذلتهم وانحطاطهم، وَكانوا نهشة الآكل، بسبب عدم امتلاكهم لقائد كفوء، وَلكن ما إن ظهرت القيادة الإِلهية الرّبانية المتمثلة بالهادي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سلك نفس القوم طريق العظمة والتكامل بسرعة كبيرة بحيث أدهش العالم، وهذا يكشف عن دَور القائد في ذلك الزمان وَهذا الزمان وَفي كل زمان.
1 ـ قال الباقر(عليه السلام) «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وَالولاية، وَلم يُنادَ بشيء كما نودي بالولاية» عن أصول الكافي، ج2، ص 15.
2 ـ عن نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 194، وَكذلك مصادر أُخرى.
طبعاً لقد جعل الله للبشرية قائداً لإِنقاذ وهداية البشر في كل عصر وزمان، حيث تقتضي حكمتهُ أن لا تطبّق السعادة إِلاّ مع وجود ضامن تنفيذي لها. والمهم أن تتعرف المجتمعات على قيادتها وأن لا يقعوا في شباك القادة الضالين والفاسدين، حيث تكون النجاة مِن مخالبهم أمراً صعباً للغاية.
وهذه هي فلسفة عقيدة الشيعة بضرورة وجود إِمام معصوم في كل زمان، كما يقول الإِمام علي(عليه السلام): «اللّهم بلى لا تخلوا الأرض مِن قائم لله بحجّة، إِمّا ظاهراً مشهوراً وإِمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(1).
وهناك بحث في نهاية الآية (124) مِن سورة البقرة، حول معنى الإِمامة وأهميتها في دنيا الإِنسان.
في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين، حيث يصفهم هنا بـ (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأنَّ الحق يكون واضحاً دوماً وفي متناول البصر إِذا كانت هناك عين بصيرة تنظر، العين التي تُشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على صفحات التأريخ; العين التي تُشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين، العين التي تنظر الحق دون غيره.
أمّا عندما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصُّب والعناد والشهوة أمام هذه العين، فإِنّها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم مِن أنَّه غير محجوب بستار.
وفي حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية نقرأ: «مَن لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.
والآيات العجيبات، على أن وراء ذلك أمرٌ أعظم مِنهُ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا»(1).
وجاءَ في روايات مُختلفة في تفسير هذه الآية أنّها تعني الشخص الذي يكون مستطيعاً للحج ولكنَّهُ لا يؤديه حتى نهاية عمره(2).
وبدون شك فإِنَّ هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كُلّها. وقد يكون ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه مِن زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة هذا الإِجتماع الإِسلامي العظيم، بما يحويه مِن أسرار عبادية ومصالح سياسية تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعدِّدة مِنهُ.
وفي روايات أُخرى ورد أنَّ «شرّ العمى عمى القلب»(3).
على أي حال ـ كما قلنا سابقاً ـ فإِنَّ عالم القيامة، هو انعكاس لهذا العالم في كل ما يحويه وجودنا مِن أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات 124 ـ 126 مِن سورة طه، قوله تعالى: (وَمَن أعرضَ عن ذكري فإِنَّ لهُ معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قالَ ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196 ـ 197.
3 ـ المصدر السابق.
وَ إِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا(73) وَلَوْلآَ أَنْ ثَبَّتْنـكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلَيلا(74) إِذاً لأََذَقْنـكَ ضِعْفَ الْحَيـوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً(75)
لقد ذكرت أسباب مُختلفة لِنزول هذه الآيات، إِلاَّ أَنَّ بعض هذه الأسباب لا يتلائم مع تأريخ النّزول، وبما أن أسباب النّزول هذه قد أفاد مِنها بعض المنحرفين لأغراض خاصّة، لذلك سوف نقوم هنا بذكرها جميعاً:
ذكر العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) خمسة آراء في هذا المجال، وهي: الرأي الأوّل: قالت قريش للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ندعك تلمس الحجر الأسود حتى تحترم آلهتنا، وقال الرّسول في قلبه: إِنَّ الله يعلم نفرتي مِن أصنامهم وإِنكاري لها، فما المانع مِن أن أنظر إِلى هذه الآلة باحترام ظاهراً حتى يسمحوا لي باستلام الحجر الأسود. وهنا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات أعلاه التي نهت الرّسول عن هذا الأمر.
الرأي الثّاني: اقترحت قريش على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك الإِستهانة بآلهتهم والإِستخفاف بعقولهم، وأن يبعد عنهُ العبيد مِن أصحابه وذوي الأُصول المتواضعة، والرائحة الكريهة، لكي تحضر قريش مجلسهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) ويستمعون إِليه، فطمع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في إِسلامهم، فنزلت الآيات أعلاه تحذّر مِن هذا الأمر.
الرأي الثّالث: عندما حطَّم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الأصنام التي كانت موجودة في المسجد الحرام، اقترحت قريش عليه أن يبقي الصنم الموضوع على جبل المروة قرب بيت اللّه، فوافق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية على هذه الإِقتراح لكي يحقق مِن خلاله بعض مصالح الدعوة، إِلاَّ أنَّهُ بعد ذلك عدل عن هذا الأمر وأعطى أوامره(صلى الله عليه وآله وسلم) بتحطيم هذا الصنم، وعندما نزلت الآيات أعلاه.
الرأي الرّابع: إِنَّ مجموعة مِن قبيلة (ثقيف) وفدت على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وعرضت عليه ثلاثة شروط لمبايعته، وكانَ شرطهم، الأوّل: أن لا يركعوا ولا يسجدوا عِند الصلاة، وثانياً: أن لا يحطموا أصنامهم بأيديهم بل يقوم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. أمّا الشرط الثّالث: فقد طلبوا فيه مِن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمح لهم ببقاء صنم (اللات) بينهم لمدّة سنة.
وقد أجابهم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا فائدة في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأمّا تحطيم الأصنام فإِذا كُنتم ترغبون في القيام بذلك فافعلوا، وإِلاَّ فنحن نقوم به، أمّا الإِستمرار في عبادة اللات لسنة أُخرى، فلا أسمح بذلك.
بعد ذلك قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ، فالتفت عمر بن الخطاب وقالم: ما بالكم آذيتم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنَّهُ لا يدع الأصنام في أرض العرب. إِلاَّ أنَّ ثقيف أصرّت على مطالبها، حتى نزلت الآيات الآنفة.
الرأي الخامس: إِنَّ وفد ثقيف طلب مِن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمهلهم سنة حتى يستلموا الهدايا المرسلة إِلى الأصنام، وبعد ذلك يكسرون الأصنام ويسلمون، فهمَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِمهالهم وإِجابتهم إِلى ما أرادوا لولا نزول الآيات أعلاه التي نهت عن إِجابة طلبهم بشدَّة.
وهناك أسباب أُخرى للنزول تشبه الآراءِ التي ذكرناها.
أقول: لا حاجة لبيان ضعف هذه الآراء إِذ أنَّ بطلان أكثر هذه الآراء كامن فيها، لأنّ مجيء وفود القبائل إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلباتهم وتحطيم الأصنام، كل هذه الأُمور إِنّما تمّت بعد فتح مكّة في العام الثّامن للهجرة، في حين أنَّ هذه السورة نزلت قبل هجرة الرّسول، وفي وقت لم يكن فيه(صلى الله عليه وآله وسلم) يمتلك القدرة الظاهرية التي تفرض على المشركين التواضع لمقامه، وسوف نقوم بتوضيح أكثر لا حقّاً.
* * *
بما أنَّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين، لذا فإِنَّ الآيات التي نبحثها تحذَّر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن وساوس وإِغواءات هذه المجموعة، حيث لا يجوز أن يُبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام، بل يجب الإِستمرار بصلابة أكبر.
في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثر فيك: (وإِن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إِليك لِتفتري علينا غيره وإِذاً لا تخذوك خليلا).
ثمّ بعد ذلك تضيف أنّه لولا نور العصمة وأنّ اللّه تعالى ثبّتك على الحق: (ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إِليهم شيئاً قليلا).
وأخيراً لو أنّك ركنت اليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا، وضعف عذابهم في الآخرة: (إِذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً).
* * *
بالرغم مِن أنَّ بعض السطحيين أرادوا الإِستفادة مِن هذه الآيات لِنفي العصمة عن الأنبياء، وقالوا أنّه طبقاً للآيات أعلاه وأسباب النّزول المرتبطة بها إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبدى ليونة إِزاء عبدة الأصنام، وأنَّ الله عاتبه على ذلك. إِلاَّ أنَّ هذه الآيات صريحة في افهام مقصودها بحيث لا تحتاج إِلى شواهد أُخرى على بطلان هذا النوع مِن التفكير، لأنَّ الآية الثّانية تقول وبصراحة: (ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إِليهم شيئاً قليلا). ومفهوم التثبيت الإِلهي (والذي نعتبرهُ بأَنَّهُ العصمة) أنَّهُ منع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن التوجه إِلى مزالق عبدة الأصنام، ولا يعني ظاهر الآية ـ في حال ـ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) مال إِلى المشركين، ثمّ نُهي عن ذلك بوحي من اللّه تعالى.
وتوضيح ذلك، إن الآية الأُولى والثّانية هما في الحقيقة إِشارة إِلى حالتين مُختلفتين للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، الحالة الأُولى هي الحالة البشرية والإِنسانية والتي تجلّت بشكل واضح في الآية الأُولى، وبمُقتضى هذه الحالة يُمكن تأثير وساوس الأعداء في الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة إِذا كانت ثمّة مرجحات في إِظهار الليونة والتوجّه إِليهم، مِن قبيل رغبته(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يسلم زعماء الشرك بعد إِظهار الليونة، أو أن يمنع بذلك سفك الدماء. والآية تكشف عن احتمال وقوع الإِنسان العادي ومهما كان قوياً تحت تأثير الأعداء.
أمّا الآية الثّانية فهي ذات طبيعة معنوية، إِذ هي تبيّن العصمة الإِلهية ولطفه الخاص سبحانه وتعالى الذي يشمل بهِ الأنبياء خصوصاً نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يمر بمنعطفات ومزالق دقيقة.
والنتيجة أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالطبع البشري قد وصل إِلى حافة القبول ببعض وساوس الأعداء، إِلاَّ أن التأييد الإِلهي (العصمة) ثبتهُ وحفظه وأنقذه مِن الإِنزلاق.
وهذا التعبير نفسهُ نقرأهُ في سورة يوسف حيث جاءَ البرهان الإِلهي في أدق اللحظات وأخطرها، في مقابل الإِغواء الخطير وغير الإِعتيادي لامرأة العزيز، حيث قوله تعالى في الآية (24) مِن سورة يوسف: (ولقد هَمَّت بِهِ وَهمَّ لولا أن رأى برهان ربّه، كذلك لنصرف عنهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِن عبادنا المخلصين).
![]() |
![]() |
![]() |