![]() |
![]() |
![]() |
ويتّضح مِن ذلك أنَّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الإِنجماد، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئاً للغاية.
ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنَّهُ بالإِمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إِمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريباً، وبذا يكفيه المخزون القليل المُدَّخر في الجسم لإِدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.
ويجب أن لا يُفَسَّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإِعجازي في نوم أصحاب الكهف، بل نريد أن نقرِّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنَّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً كمنامنا في الليل، لقد كان نومهم ذا جنبة إِستثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإِرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام، ومن دون أن تتضرَّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.
والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنَّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي: (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ... لو اطلعت عليهم لوليَّت منهم فراراً ولملئت مِنهم رُعباً)(2). إِنَّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم1 ـ مجلة «دانشمند»، عدد 47، ص 4.
2 ـ الكهف، 18.
يكن نوماً عادياً، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).
إِضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنَّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم، ولأنَّهُ من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى، وفي منطقة باردة، فإنَّ ذلك يعدّ مؤشراً على الحالة الإِستثنائية لنومهم، ومِن جانب آخر فإِنَّ القرآن يقول: (ونُقلبهّم ذات اليمين وذات الشمال)(1).
ومِن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة، وأنَّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرَّة واحدة) حتى لا تتضرَّر أجسامهم.
والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث، فإِنَّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير، لأنَّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إِلى الأذهان قضية المعاد(2).
* * *
1 ـ الكهف، 18.
2 ـ لتفاصيل أكثر يُراجع كتاب: المعاد والحياة بعد الموت.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً(28) وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّلِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الْشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً(29) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحـتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا(30) أُوْلـئِكَ لَهُمْ جَنَّـتُ عَدْن تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَْنْهـرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُّتَّكئِينَ فِيهَا عَلَى الأَْرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً(31)
يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأُولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة (واصبر نفسك مع الذين يدعون ...) أنَّ مجموعة من أشراف قريش ومِن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا رسول الله، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف)(1) جلسنا نحُن إِليك، وأخذنا عنك، لأنَّهُ لا يمنعنا مِن الدخول عليك إِلاَّ هؤلاء.
لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء مِن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أمثالِ سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم، إِذ كان هؤلاء ممن التفَّ حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ممن قربه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِليه.
لذلك اشترط الأشراف على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.
وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يُريدون ... ) فلمَّا نزلت الآية قامَ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يلتمسهم فأصابهم في مُؤَخَّر المسجد يذكرون الله عزَّوجلّ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «الحمد الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي معَ رجال مِن أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».
مِن الدروس التي نستفيدها مِن قصّة أصحاب الكهف أنَّ مقياس قيمة البشر
1 ـ هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين مِن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي ذر وغيره.
ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إِنَّ استخدام تعبير (اصبر نفسك) هو إِشارة إلى حقيقة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ قد تعرَّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يُبعد عنهُ مجموع المؤمنين الفقراء، لذلك جاءه الأمر الإِلهي بالصبر والإِستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إِنَّ استخدام تعبير (الغداة والعشي)إشارة إلى أنّهم كانوا دائماً وأبداً يذكرون الله.
أمّا استخدام مصطلح (يُريدون وجهه)(1) فهو دليل على إِخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعاً بالجنة (بالرغم مِن نعمها الكبيرة والثمينة) ولا خوفاً مِن الجحيم وعذابه (بالرغم مِن شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المُنزَّهة، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإِيمان بالله تعالى.
ثمّ تستمر الآيات مُؤكّدة خطابها للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّينا)(2) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.
ثمّ مِن أجل التأكيد مجدداً يقول تعالى: (ولا تُطع مَن أغفلنا قلبه عن ذكرنا).
(واتبع هواه) والمطيع لاهوائه النّفسية، والمفرط في أفعاله دائماً (وكانَ
1 ـ فيما يخص معنى (وجه) وأنّها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحياناً بمعنى (وجه الإِنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد .. فيما يخصُ كل ذلك يُمكن مُراجعة ما كتبناه مُفصلا لدى تفسير الآية (272) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.
2 ـ (لا تعد) مأخوذة مِن كلمة «عدا يعدو و ...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).
أمره فرطاً)(1).
الطريف هُنا أنَّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما مِن حيث الصفات، وكانَ الأمر كما يلي:
مؤمنون حقيقيون إِلاَّ أنّهم فقراء، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.
الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله، والذين لا يتبعون سوى هواهم، وخارجون عن حدَّ الإِعتدال في كل أُمورهم ويُفرطون ويُسرِفون.
إِنَّ الموضوع ـ أعلاه ـ مِن الأهمية بمكان، بحيث أنَّ القرآن يقول للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها: (وقل الحق مِن ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر).
ولكن اعلموا أنَّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون مِن الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصَّة، والذين يعيشون حياة مُرفهة باذخة ومليئة بالزينة، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب: (إِنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها).
نعم، إِنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات، ولكنَّهم عندما يطلبون الماء في جهنَّم يؤتي إليهم بماء كالمهل: (وإِن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه)(2).
(بئسَ الشراب).
ثمّ (وساءت مُرتفقاً)(3).
1 ـ «فرط» تعني التجاوز عن الحد، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يُقال لهُ (فُرط).
2 ـ «مُهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات: هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة مُلوثاً بأشياءِ وسخة ورديئة الطعم، إِلاَّ أنَّ بعضاً آخر مِن المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مُذاب. والظاهر أنَّ تعبير (يشوي الوجوه) يُرجِّح المعنى الثّاني.
3 ـ «مُرتفق» مِن كلمة «رَفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.
تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إِذا اقترب مِن الوجه فإنَّ حرارته ستشوي الوجه؟ إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المُنعشة والباردة، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيراناً، إِنَّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.
والطريف في أمر هؤلاء أنَّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهُم في جهنَّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليسَ فيها نصيب للفقراء، وهذه السرادق ستتحوَّل إِلى خيام عظيمة مِن لهيب نار جهنَّم!
وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مُناداة الساقي، وفي جهنَّم يوجد أيضاً ساق وأشربة، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إِنَّهُ ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم، إِنَّ كل ما هو موجود هُناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).
وبما أنَّ أُسلوب القرآن أُسلوب تربوي وتطبيقي، فإنَّهُ بعدما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مُختصر، ثمّ بشكل تفصيلي نوعاً ما.
ففي البدء قال تعالى: (إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر مَن أحسن عملا) أي إِنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كُلية أو جزئية، ومَن أي شخص وفي أي عُمر كان:
(أُولئك لهم جنات عدن) (الجنات الخالدة).
(تجري مِن تحتهم الأنهار) (من تحت الأشجار والقصور).
(يُحلون فيها مَن أساور مِن ذهب)(1).
1 ـ «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و(كتاب) وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة فارسية عُرِّبت واشتقت مِنها الأفعال العربية.
(ويلبسون ثياناً خضراً مِن سندس وإستبرق) (من حرير ناعم وسميك).
(مُتكئين فيها على الأرائك)(1).
(نعم الثواب).
(وحسنت مُرتفقاً) (وحسنت مجمعاً للاحبّة).
* * *
ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين مِن الأغنياء والفقرء، بل إِنّنا نجد الكثير مِن الآيات القرآنية الأُخرى، ممّا ذكرنا سابقاً أو سنذكرها لاحقاً، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.
إنَّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مُرفهة وغارقة في الإِسراف والتبذير وملوَّثة بأنواع المفاسد، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أُخرى، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإِنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإِسلام وليسَ مجتمعاً إِنسانياً.
مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الإِستقرار أبداً، وسوف يلقي الإِستعمار والإِستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالباً ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الإِضطربات فيها أبداً.
ومِن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تُكدُّس النعم الإِلهية بيد حفنة معدودة مِن الناس وبدون سبب، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب
1 ـ «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعاً مغطاة، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة مِن (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون مِنها مظلّة; أو مِن (أروك) بمعنى الإِقامة والتوّقف.
والمرض؟
إِنَّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءاً ـ حتماً ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكُّبر، وكل عوامل الفساد الأُخرى.
ولو دَققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياء(عليهم السلام) بأجمعهم، وخصوصاً رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه مِن الأغنياء الظالمين مِن أجل تأمين عوامل الإِستقرار داخل المجتمع.
في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين مُنفصلة عن مجالس الفقراء، وأماكنهم، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنَّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماماً.
إنَّ هذا الإِنفصال المجافي للروح الإنسانية، وروح كل القوانين السماوية، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكماً بشدَّة في المجتمع العربي الجاهلي، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء مِن أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإِيمان وبصفات الشهامة والإثيار.
في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوح(عليه السلام)، قال المترفون مِن الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحاً(عليه السلام): لماذا اتبعك الذين هم أراذلُنا (على حدِّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (27) مِن سورة هود في قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا مِن قومه ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا).
وهكذا نرى أنَّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس - حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!
ولاحظنا ـ أيضاً ـ كيف أن رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بطرده للمجموعة الأُولى
(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكَّل مجتمعاً توحيدياً بمعنى الكلمة، مجتمعاً تفجَّرت فيه الطاقات الكامنة، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ، هي التقوى والعلم والإِيمان والجهاد والعمل الصالح.
واليوم ما لم نسعَ لبناء مِثل هذا المجتمع والإقتداء بالنموذج الإِسلامي الذي شيَّدَهُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في عهده، وبدون نبذ الفكر الطبقي مِن العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم مِن رفض الإِستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعاً إِنسانياً سليماً أبداً.
لقد قُلنا مراراً: إِنَّ تجسُّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنَّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومُتكامل لهذا العالم، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الإِجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسَّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائماً.
الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سُرادق عالية، وكانوا سُكارى بهواهم، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضاً (سُرادق) ولكنّها مِن النار الحارقة، لأنَّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.
هُناك يشربون من شراب يُجسِّد باطن شراب الدنيا، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين، ومثل هذا الشراب يُقدَّم للظالمين في ذلك العالم، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب، بل يكون كالمعدن
المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه مِن شدَّة حرارته.
وعلى العكس مِن ذلك أُولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أُصول العدالة، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة، وتحمَّلوا كل الصعوبات والمنفصات في هذه الدنيا مِن أجل تنفيذ أُصول العدالة .. هؤلاء تنتظرهم هُناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.
الروح الإِنسانية تخضع إِمّا لله تعالى أو للأهواء، حيثُ لا يمكن الجمع بين الإِثنين، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله; عبادة الهوى هي سبب الإِبتعاد عن جميع الأُصول الأخلاقية; وأخيراً فإنَّ عبادة الهوى تُدْخل الإِنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.
إنَّ الإِنسان الذي يعبد هواه لا يفكِّر إلاَّ في إِشباع شهواته، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإِثيار والتضحيه والشيم المعنوية الأُخرى.
وقد اوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإِثنين بشكل جلي في قوله تعالى: (ولا تُطع مَن أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرطا).
لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى)، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإِفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.
لماذا يكون عابد الهوى مُصاباً بالإِفراط دائماً؟
قد يكون السبب أنَّ الطبيعة الإِنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوماً، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين مِن المخدرات، لا يكفيه نفس
المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهَّز بجميع الإِمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار، يصبح اليوم إِحساسه بهذا القصر عادياً، فينشد الزيادة. وهكذا فى جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائماً تنشد الزيادة حتى تهلك الإِنسان نفسه.
قد يطرح البعض هذا السؤال: لقد ذمَّ الله تعالى الزينة والتزيُّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة، إِلاَّ أنَّهُ يعد المؤمنين بمثل هذه الأُمور في ذلك العالم، إِذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإِستبرق والسرر المساند الجميلة؟
قبل الإِجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضَّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسِّرون الآيات على هذا الأساس، لقد تعلمنا مِن القرآن الكريم أنَّ المعاد ذو جانبين: معاد روحاني ومعاد جسماني. وعلى هذا الأساس، فإِنَّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين، واللذات الروحية - طبعاً ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لابدّ من الاعتراف بإنّنا لا نعرف مِن نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة، ونسمع كلاماً يشير إِليها.
لماذا؟ .. لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأُم، فإِذا قدَّر للأُم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين، فلا يسعها إِلاَّ أن توضح للجنين بالإِشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير، والعيون الفوّارة، والبساتين والورود وما شابهها، حيثُ لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأُم كي يفهمها ويستوعبها.
كذلك فإِنَّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل
كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.
ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول: إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والإِنحراف الذي يكون بدوره سبباً للغفلة والإِنقطاع عن الله.
إِنَّ الإِختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سبباً للحقد والحسد والعداوة والبغضاء، وأخيراً إِراقة الدماء والحروب.
أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات، فإِنَّ الحصول على هذه الزينة لا يُسبَّب مُشكلة ولا يكون سبباً للتمييز والحرمان، ولا للحقد والنفرة، ولا يبعد الإِنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي إِبتعاد خلق الله عن الله، كما في زينة الحياة الدنيا.
فإِذا كان الحال كذلك فلماذا يُحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإِلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!
الدرس الآخر الذي نتعلمهُ من الآيات الآنفة، هو أنَّهُ يجب علينا أن لا نمتنع عن إِرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مُرَّفهة، بل إِنَّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية، ونصبح مصداقاً لقوله تعالى: (تريد زينة الحياة الدنيا) أمّا إِذا كان الهدف هو الهداية والإِرشاد، أو حتى الإِستفادة مِن إِمكانياتهم مِن أجل تنفيذ النشاطات الإِجابية والمهمّة إِجتماعياً، فانَّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب، بل هو واجب.
* * *
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنـبِ وَحَفَفْنـهُمَا بِنَخْل وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً(32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مَّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلـلَهُمَا نَهَراً(33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصـحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً(34)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هـذِهِ أَبَداً(35) وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً ولَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رّبِّى لأََجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً(36)
في الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ عبيد الدنيا كانوا يُحاولون الإِبتغاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين، ثمّ عرَّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأُخرى.
الآيات التي نبحثها تُشير إلى حادثة اثنين مِن الأصدقاء أو الإِخوة الذين
يُعتبر كل واحد مِنهم نموذجاً لإِحدى المجموعتين، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.
في البداية تخاطب الآيات الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين مِن أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً).
البستان والمزرعة كانَ فيهما كل شيء: العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية مِن كل شيء: (كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منهُ شيئاً).
والأهم مِن ذلك هو توفّر الماء الذي يُعتبر سر الحياة، وأمراً مهمّاً لا غنى للبستان والمزرعة عنه، وقد كانَ الماء بقدر كاف: (وفجرنا خلالهما نهراً).
على هذا الأساس كانَت لصاحب البستان كل أنواع الثمار: (وكانَ لهُ ثمر).
ولأنَّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإِحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين، حيث التفت وهو بهذه الحالة إِلى صاحبه: (فقال لصاحبه وهو يُحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).
بناءاً على هذا فأنا أملك قوّة إِنسانية كبيرة وعندي مالٌ وثروة، وأنا أملك ـ أيضاً ـ نفوذاً وموقعاً إِجتماعياً، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فماذا تستطيع أن تقول، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!
لقد تضخَّم هذا الإِحساس ونما تدريجياً ـ كما هو حاله ـ ووصلَ صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنَّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إِنّما هي أُمور أبديّة، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنَّهُ لا يعلم بأنَّهُ يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني مِن شدَّة ثقل الثمر، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره، وبغفلة قال: لا أظن أن يفنى هذا البستان، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قالَ ما أظن أن تبيد هذه أبداً).
بل عمدَ إِلى ما هو أكثر مِن هذا، إِذ بما أنَّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد، لذا فقد فكَّر في إِنكار القيامة وقال: (وما أظن الساعة قائمة)وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!
ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإِنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقاً في أوهامه (ولئن رددت إلى ربّي لأجدنَّ خيراً مِنها مُنقلباً).
لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر مِن أمثال ما حكت عنهُ الآيات آنفاً، وعندَ هذا الحد انبرى لهُ صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.
* * *
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا(37) لَّـكِنَّاْ هُوِ اللَّهُ رَبِّى وَلآَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَداً(38) وَلَولآَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَقُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَداً(39) فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّن السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً(40) أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً(41)
هذه الآيات هي ردّ على ما نسجهُ من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإِيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.
لقد بدأ الكلام بعد أن ظلَّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود، حتى ينتهي مِن كلامه، ثمّ قال له: (قالَ لهُ صاحبهُ وهو
يحاوره أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سواك رجلا).
وهُنا قد يُثار هذا السؤال، وهو: إِنَّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرَّ ذكره في الآيات الآنفة، لم يصرّح فيه بإِنكار الحق جلَّ وعلا، في حين أنَّ جواب الإِنسان المؤمن ركزَّ فيه أوّلا على إِنكاره للخالق!؟ لذلك فإِنَّهُ وجَّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإِنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإِنسان مِن تراب، حيثُ امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض، والأشجار بدورها أصبحت طعاماً للحيوانات، والإِنسان إِستفاد مِن هذا النبات ولحم الحيوان، وانعقدت نطفته مِن هذه المواد، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأُم حتى تحوَّلت إلى إِنسان كامل، الإِنسان الذي هو أفضل مِن جميع موجودات الأرض، فهو يُفكِّر ويُصَمِّم ويُسَخِّر كلَّ شيء لأجله.
نعم، إِنَّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوَّل إلى هذا الموجود العجيب، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإِنسان وروحه، وهذا مِن الدلائل العظيمة على التوحيد.
وفي الجواب على السؤال المُثار ذكر المفسّرون تفاسير مُعتدَّدة نجملها فيما يلي:
1 ـ قالت مجموعة مِنهم: بما أنَّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكَكَ فيه، فإِنَّهُ يلزم من ذلك إنكار الخالق، لأنَّ مُنكر المعاد الجسماني يُنكر في الواقع قدرة الله، ولا يصدّق بأنَّ هذا التُراب المتلاشي سوف تعود لهُ الحياة مرّة أُخرى، لذا فإِنَّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل مِن تُراب، ثمّ من نطفة، ثمّ بإِشارته للمراحل الأُخرى ـ أراد أن يُلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنَّ قضية المعاد يُمكن مشاهدتها هُنا وتمثَّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.
2 ـ وقال آخرون: إنَّ شركهُ وكفرهُ كانا بسبب ما رَآه لِنفسه مِن إستقلال في المالكية وما تصوره مِن دوام وأبدية هذه الملكية.
3 ـ الإِحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن، لذا نرى في الآية التي بعدها أنَّ الرجل المؤمن قالَ لصاحب البستان ما مضمونه: إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك، إِلاَّ أنّني لا أفعل ذلك أبداً.
على أي حال، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الإِحتمالات الثلاثة، ويُمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن المُوَحِّد إشارة الى هذه الإِحتمالات جميعاً.
ثمّ عَمِد الرجل الموحِّد المؤمن إِلى تحطيم كُفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال: (لكنّا هو الله ربّي)(1). وإنّي أفتخر بهذا الإِعتقاد وأتباهى به، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستاناً ومزرعة وفواكه وماءاً كثيراً; إِلاَّ أنّني أفتخر بأنَّ الله ربّي، إِنَّهُ خالقي ورازقي; إِنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإِيماني وتوحيدي: (ولا أشرك بربّي أحداً).
وبعد أن أشار إِلى قضية التوحيد والشرك اللذين يُعتبران مِن أهم المسائل المصيرية، جدَّد لومه لصاحبه قائلا: (ولولا إِذ دَخلت جنتك قلت ما شاء الله)(2).
فلماذا لا تعتبر كل هذه النعم مِن الخالق جلَّ وعلا، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل: (لا قوة إِلاَّ بالله).
![]() |
![]() |
![]() |