![]() |
![]() |
![]() |
بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح(عليه السلام)بصورة حية وواضحة جدّاً، انتقل إِلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى، فيقول: (ذلك عيسى بن مريم) خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوته لله سبحانه.
ثمّ يضيف: (قول الحق الذي فيه يمترون)(1) وهذه العبارة في الحقيقة تأكيد على صحة جميع ما ذكرته الآيات السابقة في حق عيسى(عليه السلام) ولا يوجد أدنى ريب في ذلك.
1 ـ لقد بحث المفسّرون في تركيب هذه الجملة كثيراً، إِلاّ أن أصحها على ما يبدو، من الناحية الأدبية، وبملاحظة الآيات السابقة، هو أنّ «قول الحق» مفعول لفعل محذوف، و (الذي فيه يمترون) صفة له، وكان التقدير هكذا: أقول قو الحق الذي فيه يمترون.
أمّا ما يذكره القرآن من أنّ هؤلاء في شك وتردد من هذه المسألة، فربّما كان إِشارة إِلى أنصار وأعداء المسيح(عليه السلام)، وبتعبير آخر: إِشارة إِلى اليهود والنصارى، فمن جهة شككت جماعة ضالة بطهارة أُمّه وعفتها، ومن جهة أُخرى شك قوم في كونه إِنساناً، حتى أنّ هذه الفئة قد انقسمت إِلى مذاهب متعددة، فالبعض اعتقد بصراحة أن ابن الله ـ الابن الروحي والجسمي الحقيقي لا المجازي! ـ ومن ثمّ نشأت مسألة التثليث والأقانيم الثلاثة.
والبعض اعتبر مسأله التثليث غير مفهومة وواضحة من الناحية العقلية، واعتقدوا بوجوب قبولها تعبداً، والبعض الآخر تخبط بكلام لا أساس له في سبيل توجيه المسألة منطقياً. والخلاصة : فإِنّ هؤلاء جميعاً لما لم يروا الحقيقة ـ أو أنّهم لم يطلبوها ولم يريدوها ـ سلكوا طريق الخرافات والأساطير(1)!
وتقول الآية التالية بصراحة: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إِذا قضى أمر فإِنّما يقول له كن فيكون) وهذا إِشارة إِلى أن اتخاذ الولد ـ كما يظن المسيحيون في شأن الله ـ لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الإِحتياج، وخلاصة القول: تنزيل الله سبحانه من مقام قدسه إِلى إِطار قوانين عالم المادة، وجعله في حدود موجود مادي ضعيف ومحدود.
الله الذي له من القوّة والقدرة ما إِذا أراد فإِن آلاف العوالم كعالمنا المترامي الأطراف ستتحقق بأمر وإِشارة منه، ألا يعتبر شركاً وانحرافاً عن أصول التوحيد ومعرفة الله بأن نجعله سبحانه كإِنسان له ولد؟ وولد أيضاً الولد في مرتبة ودرجة الأب، ومن نفس طرازه!
1 ـ من أجل زيادة الإِيضاح في مسألة تثليث النصارى، وما حاكوه ونسجوه من الخرافات حولها، راجع ذيل الآية (171) من سورة النساء.
إِنّ تعبير (كن فيكون) الذي جاء في ثمانية موارد من القرآن، تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة الله، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة، ولا يمكن تصور تعبير عن الأمر أقصر وأوجز من (كن) ولا نتيجة أوسع وأجمع من (فيكون)خاصّة مع ملاحظة «فاء التفريع» التي تعطي معنى الفورية هنا، فإِنّها لا تدل هنا على التأخير الزماني بتعبير الفلاسفة، بل تدل على التأخير الرتبي، أي تبيّن ترتب المعلوم على العلة. دققوا جيداً.
لماذا تحتاج الكائنات الحية إلى الولد عادة؟ لأنّ عمرها محدود، ولكي لا ينقرض نسلها، ومن أجل أن تستمر حياتها النوعية؟!
ومن الناحية الإِجتماعية، فإِنّ حاجة الأعمال الجماعية إِلى طاقة إِنسانية أكبر أدّت الى زيادة علاقة الإِنسان بالولد. إِضافة إِلى أنّ الحاجات العاطفية والنفسية، وإِزالة ودفع وحشة الوحدة، كلها تدعوه إِلى هذا العمل.
لكن، هل تتصور مثل هذه الأُمور في حق الله الأزلي الأبدي الذي لا تنتهي قدرته، ولا سبيل لمسألة الحاجة العاطفية إِلى ذاته المقدسة أبداً؟!
وهل تنج ذلك إِلاّ عن أن هؤلاء الذين يقولون: إِنّ لله ولداً، قد قاسوا الله سبحانه على أنفسهم، ورأوا فيه ما رأوا في أنفسهم؟ في حين أنّه (ليس كمثله شيء)(1).
إِنّ أوّل هجرة وقعت في الإِسلام كانت هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين ـ
1 ـ لقد بحثنا في معنى (كن فيكون)، وأدلة نفي الولد عن الله المجلد الأوّل من هذا التّفسير، في ذيل الآيتين 116، 117 من سورة البقرة.
ضمت النساء والرجال ـ إِلى أرض الحبشة، فقد ترك هؤلاء مكّة للخلاص من قبضة مشركي قريش، وتنظيم أمرهم والتهيؤ بأقصى درجات الإِستعداد للبرامج والمشاريع الإِسلامية المستقبلية وكما توقعوا من قبل، فإِنّهم استطاعوا أن يعيشوا هناك في طمأنينة واستقرار، ويشتغلوا بتربّية أنفسهم وتزكيتها ونشر الدين الحنيف.
لقد طرق هذا الخبر أسماع زعماء قريش، فاعتبروا هذه القضية ناقوس خطر بالنسبة إِليهم، وأحسوا بأنّ الحبشة ستكون مأوى وملجأ للمسلمين، وربّما يرجعون إِلى مكّة بعد أن تقوى شوكتهم، وبالتالي سيخلقون للمشركين مشاكل وعراقيل عظيمة.
وبعد التشاور استقر رأيهم على انتخاب رجلين من رجال قريش النشيطين، وإِرسالهما إِلى النجاشي حتى يبيّنوا للنجاشي الأخطار التي تنجم عن وجود المسلمين هناك كي يطرد هؤلاء من هذه الأرض المطمئنة. فأرسلوا «عمرو بن العاص» و «عبد الله بن أبي ربيعة» مع هدايا كثيرة إِلى النجاشي وقواد جيشه.
تقول «أم سلمة» زوجة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لما دخلنا أرض الحبشة رأينا حسن استقبال ومعاملة النجاشي، فلم نُمنع من شعائر ديننا، ولم يكن يؤذينا أحد، إِلاّ أنّ قريش بعد علمها بهذه المسألة، وإرسالها الرجلين مع الهدايا الكثيرة، كانت قد أمرت هؤلاء أن يلتقوا بقادة الحبشة قبل لقائه، وأن يسلموهم هداياهم، ثمّ يقدمون هدايا النجاشي إِليه، ويطلبون منه أن يسلم المسلمين إِليهم قبل أن ينبسوا ببنت شفة!
وقد نفذ هؤلاء هذه الخطة بدقة، وقالوا مقدماً لقواد وأمراء جيش النجاشي: إِنّ جماعة من الشباب الحمقى قد لجؤوا إِلى أرضكم، وقد ابتعد هؤلاء عن دينهم، ولم يعتنقوا دينكم أيضاً، وقد ابتدعوا ديناً جديداً لا نعرفه، ولا أنتم تعرفونه، وقد أرسلنا أشراف قريش إِليكم حتى نقطع شرّهم عن هذه البلاد، ونعيدهم إِلى
قومهم، فأخذوا من حاشية النجاشي عهداً بأنّهم متى ما استشارهم النجاشي فإنّه سيؤيدون هذه الفكرة ويقولون: إِن قوم هؤلاء أعلم بحالهم. ثمّ أدخلوا على الملك وكرروا ما توطئوا عليه.
لقد كانت هذه الخطة تسير خطواتها بدقة نحو الأمام، وقد أصبحت هذه الكلمات الخداعة، مع تلك الهدايا الكثيرة سبباً في أن تصدق حاشية النجاشي هؤلاء.
وبعد أن سمع النجاشي أقوالهم غضب وقال: لا والله، لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذا، فإن كانا صادقين سلمتهم إِليهما، وإِن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.
تقول أم سلمة: فبعث النجاشي إِلى المسلمين، فتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون، واستقر رأيهم على أن يقولوا الحقيقة، ويشرحوا تعليمات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبرنامج الإِسلام، وليكن ما يكون!
لقد كان ذلك اليوم الذي عُيّن لهذه الدعوة يوماً عصيباً، فإنّ كبار النصارى وعلماءهم كانوا قد دعوا إِلى ذلك المجلس، وكانت الكتب المقدسة في أيديهم، فاستقبل النجاشي المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟
فتصدى جعفر بن أبي طالب(عليه السلام) للجواب وقال:
«أيّها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف حتى بعث الله إِلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور
وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام».
وعدد عليه أُمور الإِسلام قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إِلى عبادة الأوثان فلمّا قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إِلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك.
فقال النجاشي: هل معك ممّا جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطراً من «كهيعص».
فلمّا قرأ جعفر هذه الآيات بقراءته المؤثرة النابعة من صفاء القلب، أثرت في روح النجاشي وعلماء النصاري الكبار إِلى الحد الذي كانت تنهمر دموعهم على وجوههم بدون إرادة، فتوجه إِليهم النجاشي وقال: «إِن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا والله لا أسلمهم إِليكما أبداً».
ثمّ سعى رسولا قريش مساعي أُخرى لتغيير نظرة النجاشي تجاه المسلمين، إِلاَّ أنّها لم تؤثر في روحه السامية الواعية، فرجعا يائسين من هناك، وأرجعوا إِليهم هداياهم(1).
* * *
1 ـ اُقتبس من سيرة ابن هشام، المجلد الأوّل، الصفحة 356 ـ 361.
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ(36)فَاخْتَلَفَ الأَْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْم عَظِيم(37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لـكِنِ الظَّـلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلـل مُّبِين(38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَْمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَة وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)
إِنّ آخر كلام لعيسى(عليه السلام) بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت، هو التأكيد على مسألة التوحيد، وخاصّة في مجال العبادة، فيقول: (وإِن الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)(1).
وعلى هذا فإِنّ عيسى(عليه السلام) بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة
1 ـ إِنّ هذه الآية من جهة التركيب، عطف على كلام عيسى الذي مر آنفاً، والذي ابتدأ بقوله (قال إنّي عبد الله)وانتهى بهذه الجملة.
المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته، وكان يؤكّد أينما كان على التوحيد، وبناء على هذا، فإِنّ ما يلاحظ اليوم بين المسيحيين بعنوان التثليث بدعة محضة ابتدعت بعد عيسى قطعاً، وقد بينا تفصيل ذلك في آخر الآية (171) من سورة النساء(1).
وبالرغم من أن بعض المفسّرين احتمل أن تكون هذه الجملة من كلام نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إِنّ الله سبحانه أمره أن يدعو الناس إِلى التوحيد في العبادة، وقد وصف ذلك بأنّه الصراط المستقيم، إِلاَّ أن آيات القرآن الأُخرى شاهدة على أن هذه الجملة من قول المسيح(عليه السلام) وتابعة للكلام السابق، فنقرأ في سورة الزخرف / الآية 63 ـ 64 : (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إنّ الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) وهنا نرى نفس الجملة تقريباً نقلت عن لسان عيسى، وكذلك ورد هذا المضمون في سورة آل عمران / الآية 50 ـ 51.
غير أنّه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكّد عليها المسيح(عليه السلام) في مجال التوحيد وعبادة الله، فقد اختلفت الفئات، وأظهروا اعتقادات مختلفة، وخاصّة في شأن المسيح (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم).
إِنّ تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الإِختلاف الذي حصل بعد المسيح(عليه السلام) في شأنه، وحول مسألة التوحيد، هذه الإِختلافات التي ازدادت حدتها، فشكل «قسطنطين» إِمبراطور الروم مجمعاً للأساقفة ـ علماء النصارى الكبار ـ وكان واحداً من المجامع التأريخية المعروفة، ووصل عدد أعضاء هذا المجمع إِلى ألفين ومائة وسبعين عضواً، وعندما طرحت مسألة المسيح للبحث أظهر العلماء الحاضرون وجهات نظر مختلفة تماماً، وكان لكل مجموعة
1 ـ يراجع التّفسير الآمثل ذيل الآية (171) من سورة النساء.
عقيدتها.
فذهب البعض: إنّ المسيح هو الله الذي نزل إِلى الأرض! فأحيى جماعة، وأمات أُخرى، ثمّ صعد إِلى السماء!
وقال البعض الآخر: إِنّه ابن الله!
ورأى آخرون: إِنّه أحد الأقانيم الثلاثة ـ الذوات الثلاثة المقدسة ـ الأب والإبن وروح القدس، الله الأب، والله الابن وروح القدس.
وآخرون قالوا: إِنّه ثالث ثلاثة: فالله معبود، وهو معبود، وأُمّه معبودة!
وأخيراً قال البعض: إِنّه عبد الله ورسوله.
وقال آخرون أقوالا أُخرى، ولم تتفق الآراء على أي من هذه العقائد، وكان أكبر عدد من الاصوات حازت عليه عقيدة من العقائد المذكورة آنفاً هو (308) فرد، وقبله الإِمبراطور كرأي حصل على أكثرية نسبية، ودافع عنه باعتباره الدين الرسمي، وطرح الباقي جانباً، أمّا عقيدة التوحيد فقد بقيت في الأقلية لقلّة ناصريها مع الأسف(1).
ولما كان الإِنحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين، فقد رأينا كيف أن الله قد هدد هؤلاء في ذيل الآية بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشؤوم في يوم القيامة، في ذلك المشهد العام، وأمام محكمة الله العادلة(2).
ثمّ تبيّن الآية التالية وضع أُولئك في عرصات القيامة، فتقول عندما يقدمون علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قوية وابصار حادّه فيسمعون ويرون جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا، ولكن الظالمين اليوم، أي في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة: (اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 436، بتصرف.
2 ـ يمكن أن يكون (مشهد) مصدراً ميمياً بمعنى الشهود، أو أن يكون اسم مكان أو زمان بمعنى محل أو زمن الشهود، وبالرغم من اختلاف هذه المعاني، إِلاّ أنّها لا تختلف كثيراً من ناحية النتيجة.
الظالمون اليوم في ضلال مبين).
إِنّ من الواضح أن الحجب سترتفع في النشأة الآخرة، لأنّ آثار الحق هناك أوضح من آثاره في عالم الدنيا بمراتب ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإِنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق، إِلاّ أن هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً.
وفسّر بعض المفسّرين كلمة (اليوم) في جملة (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) بيوم القيامة، أي إِن معنى الآية: إِنّهم سيصبحون ناظرين سامعين، إِلاَّ أنّ هذا النظر والسمع سوف لا ينفعهم في ذلك اليوم، وسيكونون في ضلال مبين.
لكن يبدو أن التّفسير الأوّل أصح(1).
ثمّ تؤكّد الآية التالية مرّة أُخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك اليوم، فتقول: (وأنذرهم يوم الحسرة إِذا قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون).
من المعلوم أنّ ليوم القيامة أسماء مختلفة في القرآن المجيد، ومن جملتها (يوم الحسرة) حيث يتحسر المؤمنون المحسنون على قلّة عملهم، وياليتهم كانوا قد عملوا أكثر، وكذلك يتحسر المسيئون، لأنّ الحجب تزول، وتتضح حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.
واعتبر البعض جملة (إِذ قضي الأمر) مرتبطة بانتهاء برامج ووقائع الحساب والجزاء والتكليف في يوم القيامة، واعتبرها بعضهم إِشارة إِلى فناء الدنيا، وعلى هذا التّفسير فإنّ الآية تحذر هؤلاء وتخيفهم من يوم الحسرة، ذلك الحين الذي تفنى فيه الدنيا وهم في حالة الغفلة وعدم الإِيمان.
1 ـ الألف واللام في كلمة (اليوم) هي ألف ولام العهد، إِلا أنّه طبقاً للتفسير الأوّل العهد الحضوري، وعلى التّفسير الثّاني العهد الذكري.
إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأصح كما يبدو، خاصّة وأنّه قد روي في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير جملة (إِذ قضي الأمر) أنّه قال: «أي قضي على أهل الجنّة بالخلود فيها، وقضي على أهل النّار بالخلود فيها»(1).
ثمّ تحذر الآية الأخيرة ـ من آيات البحث - كل الظالمين والجائرين، وتذكرهم بأن هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة، كما أن حياتهم ليست خالدة، بل إِنّ الوارث الأخير لكل شيء هو الله سبحانه: (إِنّا نحن نرث الأرض ومن عليها وإِلينا يرجعون)(2).
إِن هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تتناغم مع الآية 16 / سورة المؤمن، والتي تقول: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) فإِذا آمن شخص واعتقد بهذه الحقيقة، فلماذا يبيح التعدي والظلم وسحق الحقيقة، وهضم حقوق الناس، أمن أجل الأموال واللذائذ المادية التي أودعت في أيدينا لعدّة أيّام وستخرج من أيدينا بسرعة؟
* * *
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية أعلاه.
2 ـ هل أن هذه الآية إِشارة إِلى القيامة، أو إِلى زمان فناء الدنيا، فإن كانت إِشارة إِلى القيامة، فإِنّها لا تناسب ظاهراً جملة (وإِلينا يرجعون) وإِن كانت إِشارة إِلى زمان فناء الدنيا، فإِنّها لا تناسب جملة (ومن عليها) لأنّه لا يوجد أي حي عند فناء الدنيا حتى يصدق عليه تعبير (من عليها) وربّما فسّر بعض المفسّرين ـ كالعلاّمة الطباطبائي ـ هذه الجملة هكذا: إِنا نحن نرث عنهم الأرض، لهذا السبب. إِلا أن هذا التّفسير أيضاً يخالف الظاهر قليلا لأن (ومن عليها) عطفت بالواو.
وهنا ـ أيضاً ـ إِحتمال آخر، وهو أن مفعول (نرث) تارة يكون الشخص الذي يترك الأموال، مثل: (وورث سليمان داود)، وتارة أُخرى الأموال التي بقيت للإِرث، مثل: (نرث الأرض) وفي الآية أعلاه ورد كلا التعبيرين.وَاذْكُرْ فِى الْكِتـبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً(41) إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يـأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيئاً(42)يـأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرطاً سَوِيّاً(43) يـأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطـنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمـنِ عَصِيّاً(44) يـأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمـنِ فَتَكُونِ لِلشَّيْطـنِ وَلِيّاً(45)
إنتهت قصّة ولادة المسيح(عليه السلام) وقد تضمنت جانباً من حياة أُمّه مريم، وبعدها تزيح هذه الآيات ـ والآيات الآتية ـ الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إِبراهيم الخليل(عليه السلام)، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النّبي الكبير ـ كسائر المرشدين الإِلهيين ـ تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أوّلا: (واذكر في الكتاب إِبراهيم إِنّه كان صديقاً نبيّاً).
كلمة (الصدّيق) صيغة مبالغة من الصدق، وتعني الشخص الصادق جدّاً،
وذهب البعض الى أنّه الشخص الذي لا يكذب مطلقاً، بل وأسمى من ذلك، وهو أنّه لا يملك القدرة على الكذب، لأنّه اعتاد طيلة حياته على الصدق. ويرى آخرون أن معناها الشخص الذي يصدق عمله كلامه واعتقاده. إِلاَّ أن من الواضح أن جميع هذه المعاني ـ تقريباً ـ ترجع إِلى معنى واحد.
على كل حال، فإنّ هذه الصفة مهمّة إِلى حدّ أنّها ذكرت في الآية ـ محل البحث ـ قبل صفة النّبوة، ولعلها بذلك تكون ممهدة لتلقي النّبوة، وإِذا تجاوزنا ذلك فإِنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإِلهي أن يوصلوا أوامر الله إِلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثمّ تتطرق الآية التي بعدها إِلى شرح محاورته مع أبيه آزر ـ والأب هنا إِشارة إِلى العم، فإنّ كلمة الأب، كما قلنا سابقاً، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب، وأحياناً بمعنى العم(1) ـ فتقول: (إِذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً).
إِنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإِنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا تتجه إِلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إِنّه لا يملك أصلا القدرة على السمع والبصر. وبتعبير آخر: إِن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إِلاّ أنّ هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.
إِن إِبراهيم يبدأ في دعوته العامّة بأبية، وذلك لأنّ النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: (وأنذر عشيرتك الأقربين).
1 ـ لقد بحث هذا الموضوع مفصلا ذيل الآية (74) من سورة الأنعام.
بعد ذلك دعاه ـ عن طريق المنطق الواضح ـ إِلى اتباعه، فقال: (يا أبت إِنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) فإِنّي قد وعيت أُموراً كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إِنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبداً إِلى هذا الطريق المعوج، فإِنّي أريد سعادتك وفلاحك، فاقبل منّي لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيّك هذا الصراط المستقيم إِلى المحل المقصود.
ثمّ يعطف نظره إِلى الجانب السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إِلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: (يا أبت لا تعبد الشيطان إِنّ الشيطان كان للرحمن عصياً).
من الواضح أنّ العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.
روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أصغى إِلى ناطق فقد عبده، فإِن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإِن كان الناطق عن إِبليس فقد عبد إِبليس»(1).
إِن إِبراهيم يريد أن يعلّم أباه هذه الحقيقة، وهي أن الإِنسان لا يمكن أن يكون فاقداً لخط ومنهج في حياته، فإمّا سبيل الله والصراط المستقيم، وإمّا طريق الشيطان العاصي الضال، فيجب عليه أن يفكر بصورة صحيحة ويصمم، وأن يختار ما فيه خيره وصلاحه بعيداً عن العصبية والتقاليد العمياء.
ثمّ يذكره وينبه مرّة أُخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: (يا أبت إِنّي أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً).
إِنّ تعبير إِبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً بـ (يا أبتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أن يمسك) توحي بأنّ إِبراهيم كان قلقاً ومتأثراً من وصول أدنى أذى إِلى آزر، ومن
1 ـ سفينة البحار، الجزء 2، ص 115 مادة (عبد).
جهة ثالثة فإِنّ التعبير بـ (عذاب من الرحمن) يشير إِلى أن أمرك نتيجة هذا الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدّاً بحيث أن الله ـ الذي عمت رحمته الأرجاء ـ سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إِلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن جهة رابعة، فإنّ عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان.
* * *
إِنّ طريقة محاورة إِبراهيم لآزر ـ الذي كان ـ طبقاً للرّوايات ـ من عبدة الأصنام، حيث كان يصنعها ويبيعها، وكان يعتبر عاملا مهمّاً في ترويج الشرك ـ تبيّن لنا بأنّه يجب استخدم المنطق الممتزج بالإِحترام والمحبة والحرص على الهداية، مقترناً بالحزم قبل التوسل بالقوة، للنفوذ إِلى نفوس الأفراد المنحرفين، لأنّ الكثير سيذعنون للحق عن هذا الطريق، وهناك جماعة سيظهرون مقاومتهم لهذا الأسلوب، ومن الطبيعي أن حساب هؤلاء يختلف، ويجب أن يعاملوا بأُسلوب آخر.
قرأنا في الآيات ـ محل البحث ـ أن إِبراهيم دعا عمه آزر لإِتباعه، مع كبر سنة وشهرته في المجتمع. ويذكر دليله على دعوته هذه فيقول: (إِنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك).
إِنّ هذا قانون عام في أن الذين لا يعلمون يتبعون العالمين فيما يجهلونه، وهذا في الواقع هو منهج الرجوع إِلى المتخصصين في كل فن، ومن ذلك مسألة تقليد المجتهد في فروع الأحكام الإِسلامية.
من الواضح أنّ بحث إِبراهيم لم يكن في المسائل المرتبطة بفروع الدين، بل كان يتحدث عن أهم أصل من أصول الدين، ولكن حتى في مثل هذه المسائل أيضاً يجب الإِستعانة والإِستفادة من إِرشادات العالم، لتحصل الهداية إِلى الصراط السوي، الذي هو الصراط المستقيم.
لقد وردت جملة (واذكر) خمس مرات عند الشروع بذكر قصص الأنبياء العظام ومريم، ولهذا السبب يمكن تسمية هذه السورة بسورة (التذكير) .. ذكر الأنبياء، والرجال والنساء العظام; وحركتهم التوحيدية، وجهودهم في طريق محاربة الشرك وعبادة الأصنام والظلم والجور.
ولما كان الذكر عادة بعد النسيان، فمن الممكن أن يكون إِشارة إِلى أن جذور التوحيد وعشق رجال الحق والإِيمان بجهادهم من أجل إِحقاق الحق حية في أعماق روح كل إِنسان، وإِن الكلام عن هؤلاء في الحقيقة نوع من الذكر.
وقد ورد وصف الله بـ «الرحمان» ست عشرة مرّة في هذه السورة، فإِنّ السورة تبدأ بالرحمة، رحمه الله بزكريا، رحمة الله بمريم والمسيح، وكذلك تنتهي السورة بهذه الرحمة حيث تقول في أواخرها: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً»)(1).
* * *
1 ـ مريم، 96.
قَالَ أَرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ ءَالِهَتِى يـإِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً(46) قَالَ سَلـمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً(47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُوا رَبِّى عَسَى أَلآَّ أَكُونَ بِدُعِآءِ رَبِّى شَقِيّاً(48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحـقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًَّ جَعَلْنَا نَبِيّاً(49)وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً(50)
مرّت في الآيات السابقة كلمات إِبراهيم(عليه السلام) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكلي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما.
يقول القرآن الكريم: إِنّ حرص وتحرّق إِبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إِلى قلب آزر، بل إِنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و (قال أرغب أنت عن آلهتي يا إِبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً).
الملفت للنظر، أنّ آزر لم يكن راغباً حتى في أن يُجري إِنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إِنّه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.
ثانياً: إِنّه عندما هدد إِبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في «لأرجمنَّك» ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.
ثالثاً: إِنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إِنّه اعتبر إِبراهيم في تلك الحال وجوداً لا يُحتمل، وقال له (اهجرني ملياً) أي ابتعد عني دائماً، وإِلى الأبد (كلمة «ملياً» ـ حسب قول الراغب في المفردات ـ أخذت من مادة الإِملاء، أي الإِمهال الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة، أو على الدوام).
وهذا التعبير المحقِّر جدّاً لا يستعمله إلاّ الاشخاص الاجلاف والقساة ضد مخالفيهم.
بعض المفسّرين لا يرى أن جملة «لأرجمنَّك» تعني الرمي بالحجارة، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والإِتهام، إِلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، وملاحظة سائر آيات القرآن ـ التي وردت بهذا التعبير ـ شاهد على ما قلناه.
لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إِبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإِلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و (قال سلام عليك).
إِنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إِبراهيم بقوله: (سلام عيك) وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في الآية (55) من سورة القصص: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).
ثمّ أضاف: (سأستغفر لك ربّي إِنّه كان بي حفياً). إِن إبراهيم في الواقع قابل
خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالإِستغفار وطلب مغفرة الله له.
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا وعد إبراهيم آزر بالإِستغفار مع أنا نعلم أن آزر لم يؤمن أبداً، ولا يجوز الإِستغفار للمشركين طبقاً لصريح الآية (113) من سورة التوبة؟
وقد ذكرنا جواب هذا السؤال بصورة مفصلة في ذيل تلك الآية في سورة التوبة.
ثمّ يقول: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي الأصنام (وأدعو ربّي عسى أن لا أكون بدعاء ربّي شقياً).
تبيّن هذه الآية من جهة أدب إِبراهيم في مقابل آزر الذي قال: «اهجرني» فقبل إِبراهيم ذلك. ومن جهة أُخرى فإِنّها تبيّن حزمه في عقيدته، فإِنّ ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنّك لا تملك الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإِني سأثبت على اعتقادي.
![]() |
![]() |
![]() |