التّفسير

لقاءِ موسى والخضر (عليهما السلام):

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات أنَّ مجموعة مِن قريش جاؤوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وسألوه عن عالم كان موسى(عليه السلام) مأموراً باتباعه، وفي الجواب على ذلك نزلت هذه الآيات.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصّة

[311]

أصحاب الكهف التي إنتهينا مِنها; وقصّة موسى والخضر(عليهما السلام); وقصّة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا مِن الأفق المحدود في حياتنا وما تعدونا عليه وألفناه، وتبيّن لنا أن حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نُشاهد، وأنَّ الشكل العالم للحوادث والأحداث ليسَ هو ما نفهمهُ مِن خلال النظرة الأُولى.

وإِذا كانت قصّة أصحاب الكهف تتحدث عن فتية تركوا كلّ شيء مِن أجل أن يحافظوا على إِيمانهم، وقد أدى بهم ذلك إلى حوادث عظيمة ذات أبعاد تربوية لجميع الناس، فإِنَّ قصّة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أُخرى. ففي القصّة يُواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً مِن أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته مِن بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، ونرى أنَّ المعلم يقوم بتعليمه دروساً يكون الواحد مِنها أعجب مِن الآخر. ثمّ إنَّ هذه القصّة تنطوي ـ كما  سنرى ـ على ملاحظات مهمّة جدّاً.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: (وإِذ قالَ موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً).

إِنَّ المعنى بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النّبي المعروف مِن أولي العزم، بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين مِن أنَّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران(عليه السلام)، وسوفَ نرى ـ فيما بعد ـ أنَّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإِشكالات الواردة في القصّة، في حين أنّه كلما ورد اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران.

أمّا المعني مِن (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسّرين; كما تُشير إلى ذلك العديد مِن الرّوايات: يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن مِن بني اِسرائيل. واستخدام كلمة (فتى) في وصفه قد يكون بسبب هذه الصفات البارزة، أو بسبب

[312]

خدمته لموسى(عليه السلام) ومرافقتهُ له.

(مجمع البحرين) بمعنى محل التقاء البحرين، وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين، ولكن ـ بشكل عام ـ يمكن إِجمال الحديث بثلاثة إِحتمالات هي:

أوّلا: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» (إِذا المعروف أنَّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة، والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوباً ويتصلان بالبحر الأحمر).

ثانياً: المقصود بمجمع البحرين هو محل إِتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب».

ثالثاً: محل إِتصال البحر المتوسط (الذي يسمّى ـ أيضاً ـ ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق جبل طارق) قرب مدينة «طنجة».

الإِحتمال الثّالث مُستبعد بحكم بعد مكان موسى(عليه السلام) عن جبل طارق الذي يبعد عنهُ مسافة كبيرة جدّاً، قد تصل فترة وصوله(عليه السلام) إِليه عدَّة أشهر إِذا انتقل بالوسائل العادية.

أمّا الإِحتمال الثّاني، فمع أنَّ المسافة ما بينهُ وبين مكان موسى(عليه السلام) أقرب، إِلاَّ أنَّهُ مستبعد ـ أيضاً ـ بحكم الفاصل الكبير بين الشام وجنوب اليمن.

يبقى الإِحتمال الأوّل هو الأقرب مِن حيث قربه إلى مكان موسى(عليه السلام). وما يرحج هذا الرأي هو ما نستفيده مِن الآيات ـ بشكل عام ـ مِن أنَّ موسى(عليه السلام) لم يسلك طريقاً طويلا بالرغم مِن أنَّهُ كان مستعداً للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده (فدقق في ذلك).

وفي بعض الرّوايات إِشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

[313]

كلمة «حقب» تعني المدّة الطويلة والتي فسَّرها البعض بثمانين عاماً، وغرض موسى(عليه السلام) مِن هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعتهُ ولو أدّى ذلك أن أسير عِدَّة سنين.

ومِن مجموع ما ذكرنا أعلاه يتبيّن لنا أن موسى(عليه السلام) كان يبحث عن شيء مهم وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون في ذلك إِطلاقاً.

إنّ الشيء الذي كان موسى(عليه السلام) مأموراً بالبحث عنه لهُ أثرٌ كبير في مستقبله، وبالعثور عليه سوف يفتتح فصلٌ جديدٌ في حياته.

نعم، إِنَّهُ(عليه السلام) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب مِن أمام عينيه ويُريه حقائق جديدة، ويفتح أباب العلوم أمامه، وسنعرف سريعاً أنَّ موسىْ(عليه السلام) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير، وكانَ(عليه السلام) يتحرك باتجاه تلك العلامة.

قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) أي السمكّة التي كانت معهما، أمّا العجيب في الأمر فإِنّ الحوت: (فاتّخذ سبيله في البحر سرباً)(1).

وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن نوعية السمك الذي كان معداً للغذاء ظاهراً هل كانت سمكّة مشوية، أو مملّحة أو سمكّة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت الى الماء وغاصت فيه، هناك كلام كثير بين المفسّرين.

وفي بعض كتب التّفسير نرى أنَّ هُناك حديثاً عن عين تهب الحياة، وأنّ السمكة عندما أصابها مقدار مِن ماء تلك العين عادت إِليها الحياة.

وهناك احتمال آخر وهو أن السمكّة كانت حيَّة، بمعنى أنّها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إِخراجه


1 ـ (سَرَب) على وزن (جَرَب) كما يقول الراغب في مفرداته، وهي تعني السير في الطريق المنحدر، وَ(سرب) على وزن (حرب) تعني الطريق المنحدر.

[314]

مِن الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إِذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصّة، نقرأ أنَّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكَّر موسى(عليه السلام) أنَّهُ قد جلب معهُ طعاماً، وعند ذلك قالَ لصاحبه: (فلمّا جاوزا قالَ لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا مِن سفرنا هذا نصباً).

(غداء) يقال للطعام الذي يتمّ تناوله في أوّل اليوم أو في منتصفه. ولكنّا نستفيد مِن التعابير الواردة في كُتب اللغة أنّهم في الأزمنة السابقة كانوا يطلقون كلمة (غداء) على الطعام الذي يتمّ تناوله في أوَّل اليوم (لأنّها مأخوذة مِن كلمة «غدوة» والتي تعني بداية اليوم) في حين أنَّ كلمة «غداء» و «تغدّى» تطلق اليوم على تناول الطعام في وقت الظهيرة.

على أي حال، إِنَّ هذه الجملة تُظهر أنَّ موسى ويوشع قد سَلَكا طريقاً يُمكن أن نسميه بالسفر، إِلاَّ أنَّ نفس هذه التعابير تفيد أنَّ هذا السفر لم يكن طويلا.

وفي هذه الأثناء قالَ لهُ صاحبهُ: (قالَ أرأيت إِذ أوينا إلى الصخرة فإِنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إِلاَّ الشيطان أن أذكره وأتّخذ سبيلهُ في البحر عجباً)(1).

ولأنَّ هذا الحادث والموضوع ـ بشكل عام ـ كان علامة لموسى(عليه السلام)، لكي يصل مِن خلاله إِلى موقع (العالم) الذي خرجَ يبحث عنهُ، لذا فقد قال: (قال ذلك ما كُنّا نبغي).

وهُنا رجعا في نفس الطريق: (فارتدّا على آثارهما قصصاً).

وهنا قد يُطرح هذا السؤال: هل يمكن لنبي مثل موسى(عليه السلام) أن يُصاب بالنسيان حيث يقول القرآن (فنسيا حوتهما) ثمّ لماذا نَسَبَ صاحب موسى(عليه السلام)


1 ـ إِن جملة (وما انسانيه إِلاّ الشيطان أن أذكره) جملة اعتراضية تقع في وسط الكلام، ولأنَّ هذه الجملة  تذكرـ في الواقع ـ سبب النسيان، لذا فقد وقعت في وسط الكلام، وهذا الأسلوب شائع خصوصاً للأشخاص الذين يكونون موضع عتاب شخص أكبر، حيث أنّهم يذكرون العلة الأصلية ضمن الكلام بشكل اعتراضي، حتى يكون الاعتراض عليهم أقل.

[315]

نسيانهُ إلى الشيطان؟

في الجواب نقول: إِنَّهُ لا يوجد ثمّة مانع مِن الإِصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإِلهية والأُمور التبليغية، أي في مسائل الحياة العادية (خاصّة في المواقع التي لها طابع اختبار، كما هو الحال في موسى هنا، وسوف نشرح ذلك فيما بعد).

أمّا ربط نسيان صاحبه بالشيطان، فيمكن أن يكون ذلك بسبب أن قضية السمكة ترتبط بالعثور على ذلك الرجل العالِم، وبما أنَّ الشيطان يقوم بالغواية، لذا فإِنَّه أراد مِن خلال هذا العمل (النسيان) أن يصلا مُتأخِرَينَ إِلى ذلك العالم، وقد تكون مقدمات النسيان قد بدأت مِن (يوشع) نفسهُ حيثُ أنَّهُ لم يُدقق ويهتم بالأمر كثيراً.

* * *

[316]

الآيات

فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنـهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنـهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً(65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً(66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً(68) قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً ولآَ أَعْصِى لَكَ أَمْراً(69) قَالَ فَإِن اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْئَلْنِى عَنْ شىْء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً(70)

التّفسير

رؤية المعلم الكبير:

عندما رجع موسى(عليه السلام) وصاحبه إِلى المكان الأوّل، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين)، فجأة: (فوجدا عبداً مِن عبادنا آتيناهُ رحمة مِن عندنا وعلمناه مِن لدنا علماً).

إِنَّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم، وقد وجداه أخيراً.

أمّا استخدام عبارة (عبداً مِن عبادنا) فهي تبيّن أن أفضل فخر للإِنسان هو

[417]

أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلَّ وعلا، وإِنَّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإِنسان بالرحمة الإِلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنَّ استخدام عبارة (مِن لدنا) تبيّن أنَّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً، بل كان يعرف جزءاً مِن أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.

أمّا استخدام (علماً) بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبيّن مِن ذلك أنَّ ذلك الرجل العالم قد حصَلَ مِن علمه على فوائد عظيمة.

أمّا ما هو المقصود مِن عبارة (رحمة مِن عندنا) فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة، فقال بعضهم: إِنّها إِشارة إِلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إِشارة للعمر الطويل. ولكن يُحتمل أن يكون المقصود هو الإِستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإِلهي.

أمّا ما ذكر مِن أنَّ هذا الرجل اسمهُ (الخضر) وفيما إِذا كانَ نبيّاً أم لا، فسوف نبحث كل ذلك في البحوث القادمة.

في هذه الأثناء قالَ موسى للرجل العالِم باستفهام وبأدب كبير: (قالَ لهُ موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رُشداً).

ونستفيد مِن عبارة «رشداً» أنَّ العلم ليس هدفاً، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح، وأنَّ هذا العلم يجب أن يُتعَلَّم، وأن يفتخر به.

في معرض الجواب نرى أنَّ الرجل العالِم مع كامل العجب لموسى(عليه السلام) (قالَ إِنّك لن تستطيع معي صبراً).

ثمّ بيَّن سبب ذلك مُباشرة وقال: (وكيف تصبر على ما لم تحط بهِ خبراً).

وكما سنرى فيما بعد، فإِنَّ هذا الرجل العالم كانَ يُحيط بأبواب مِن العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنَّ موسى(عليه السلام) لم يكن مأموراً

[318]

بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيراً أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحاً أو غير هادف في حين أنَّ الباطن مفيد ومقدَّس وهادف لأقصى غاية.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسُكهُ فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.

ولكن الأستاذ العالِم والخبير بالأسرار بقي ينظر إِلى بواطن الأعمال، واستمر بعملهِ ببرود، ولم يعر أي أهمية إِلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إِلاَّ أنَّ التلميذ كانَ مستمراً في الإِلحاح، ولكنَّهُ ندمَ حين توضحت وانكشفت لهُ الأسرار.

وقد يكون موسى(عليه السلام) اضطرب عندما سمعَ هذا الكلام وخشي أن يُحرم مِن فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: (قال ستجدني إِن شاءَ اللَّهُ صابراً ولا أعصي لك أمراً).

مرّة أُخرى كشف موسى(عليه السلام) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إِنّي صابر، بل قال: إِن شاء الله ستجدني صابراً.

ولأنَّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإِنسان أسرارها، ليسَ بالامرالهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم مِن موسى(عليه السلام) أن يتعهد لهُ مرّة أُخرى، وحذَّره: (قال فإِن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك مِنهُ ذِكراً)(1). وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.

* * *


1 ـ إِن عبارة (أحدث لك منهُ ذكراً) يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الإِعتبار كلمة (أحدث) هو: إِنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الأُولى; أمّا أنت فلا تتكلم.

[319]

الآيات

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً(71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(72) قَالَ لاَتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً(73) فَانَطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلـماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسَاً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس لَّقَد جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً(74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيء بَعْدَهَا فَلاَ تُصـحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذراً(76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً(77) قَالَ هـذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بَتَأوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبراً(78)

[320]

التّفسير

المعلم الإِلهي والأفعال المنكرة!!

نعم، لقد ذهب موسى وصاحبهُ وركبا السفينة: (فانطلقا حتى إِذا ركبا في السفينة).

من الآن فصاعداً نرى القرآن يستخدم ضمير المثنّى في جميع الموارد، والضمير إِشارة إلى موسى والعالم الرّباني، وهذه إِشارة إِلى إِنتهاء مهمّة صاحب موسى(عليه السلام) (يوشع) ورجوعه، أو أنَّهُ لم يكن معنياً بالحوادث بالرغم مِن أنَّهُ قد حضرها جميعاً. إِلاَّ أنَّ الإحتمال الأوّل هو الأقوى.

عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها: «خرقها».

«خرق» كما يقول الراغب في المفردات: الخرق، قطع الشيء على سبيل الافساد بلا تدبّر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالِم على هذا المنوال.

وبحكم كَوْن موسي(عليه السلام) نبيّاً إِلهياً كبيراً فقد كان مِن جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ومِن جانب آخر كان وجدانه الإِنساني يضغط عليه ولا يدعهُ يسكت أمام أعمال الرجل العالِم التي يبدو ظاهرها سيئاً قبيحاً، لذا فقد نسيَ العهد الذي قطعهُ للخضر (العالم) فاعترض وقال: (قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إِمراً).

لا ريب إِنَّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إِغراق مَن في السفينة، ولكنَّ النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق مَن في السفينة، لذا فقد استخدم موسى(عليه السلام) (اللام الغائية) لبيان الهدف.

مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيراً، عندما نقول لهُ: أتريد أن تقتل نفسك؟!

بالطبع مِثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام، إِلاَّ أنَّ نتيجة عمله قد تكون هكذا.

[321]

«إِمر» على وزن «شمر» وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.

وحقاً، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالِم عجيباً وسيئاً للغاية، فهل هُناك عمل أخطر مِن أن يثقب شخص سفينة تحمل عدداً مِن المسافرين!

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بإِصلاح الثقب (الخرق) مؤقتاً، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة.

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالِم إلى موسى(عليه السلام) نظرة خاصّة وخاطبه: (قال ألم أقل إِنّك لن نستطيع معي صبراً).

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب أهمية الحادثة، فقد تذكَّر عهده الذي قطعة لهذا العالِم الأستاذ، لذا فقد التفت إِليه قائلا: (قَال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني مِن أمري عسراً). يعني لقد اخطئت ونسيت الوعد  فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

«لا ترهقني» مُشتقّة مِن «إِرهاق» وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية ـ أعلاه ـ يكون معناها: لا تصعِّب الأُمور عليَّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا مِن السفينة: (فآنطلقا حتى إِذا لقيا غلاماً فقتله)، وقد تمَّ ذلك بدون أي مقدمات!

وهنا ثار موسى(عليه السلام) مرّة أُخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجههِ وملأَ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً أُخرى، فقام للإِعتراض، وكان اعتراضه هذه المرَّة أشد مِن اعتراضه في المرّة الأُولى، لأنَّ الحادثة هذه المرَّة كانت موحشة أكثر من الأُولى، فقال(عليه السلام): (قال أقتلت نفساً زكيةً بغير نفس). أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل، (لقد جئت شيئاً نكراً).

[322]

كلمة «غلام» تعني الفتى الحدث، أي الصبي سواء كان بالغاً أو غير بالغ. وبين المفسّرين ثمّة كلام كثير عن الغلام المقتول، وفيما إِذا كان بالغاً أم لا، فالبعض استدل بعبارة (نفساً زكية) على أنَّ الفتى لم يكن بالغاً. والبعض الآخر اعتبر عبارة (بغير نفس) دليلا على أنَّ الفتى كانَ بالغاً، ذلك لأنَّ القصاص يجوز بحق البالغ فقط، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.

«نكر» تعني القبيح والمنكر، وأثرها أقوى مِن كلمة «إِمر» التي وردت في حادثة ثقب السفينة، والسبب في ذلك واضح، فالأمر الأوّل قد أوجد الخطر لمجموعة مِن الناس، إِلاَّ أنّهم تداركوه بسرعة، لكن ظاهر العمل الثّاني يدل على إِتكاب جريمة.

ومرّة أُخرى كرَّر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص، حيث قالَ لموسى(عليه السلام): (قال أَلم أقل لك إِنّك لن تستطيع معي صبراً).

والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة «لك» التي تفيد التأكيد الأكثر; يعني: إِنّني قلت هذا الكلام لشخصك!

تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلَّ بالعهد مرَّتين ـ ولو بسبب النسيان ـ وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنَّ موسى  لا يستطيع تحمّل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قالَ لهُ عندما عرض عليه موسى الرفقة، لذا فقد بادر الى الاعتذار وقال: إِذا اعترضت عليك مرّة أُخرى فلا تصاحبني وأنت في حل منّي: (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت مِن لدني عذراً). صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى(عليه السلام) ورؤيته البعيدة للأُمور، وتبيّن أنَّهُ(عليه السلام) كانَ يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة; بعبارة أُخرى: إنّ الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للإِختبار أنَّ مهمّة هذين الرجلين كانت مُختلفة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد: (فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية استطعما

[323]

أهلها فأبوا أن يضيفوهما).

لا ريب، إِنَّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنَّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنَّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الإِقتراح كي يعطي موسى درساً بليغاً آخر).

ويجب أن نلتفت إلى أنَّ (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام، وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة، أمّا المقصود مِنها في الآية فهو المدينة لا القرية، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.

وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنَّ المقصود بهذه المدينة، هو (أنطاكية)(1).

وذكر آخرون: إِنَّ المقصود مِنها هو مدينة «أيلة» التي تسمى اليوم ميناء (أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين، وهي محل ولادة السيّد المسيح(عليه السلام). وقد نقل العلاّمة الطبرسي حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يدعم صحة هذا الإِحتمال.

ورجوعاً إلى ما قلناه في المقصود مِن (مجمع البحرين) إِذ قلنا: إِنَّهُ كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس، يتّضح أنَّ مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة) أقرب إِلى هذا المكان من انطاكية.

المهم في الأمر، أنّنا نستنتج مِن خلال ما جرى لموسى(عليه السلام) وصاحبه مِن أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة، لذا نقرأ في رواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)


1 ـ أنطاكية مِن المدن السورية القديمة التي تقع على بعد (96) كم مِن حلب، و(59) كم عن الإِسكندرونة، تشتهر المدينة بالحبوب الغذائية، والحبوب الدهنية، فيها ميناء يسمى «سويدية» ويبعد عن مركزها (27) كيلومتر. (يراج في ذلك دائرة فريد وجدي، ج 1، ص 835).

[324]

قوله في وصف أهل هذه المدينة: «كانوا أهل قرية لئام»(1).

ثمّ يضيف القرآن: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)(2) وقد كان موسى(عليه السلام) يشعر بالتعب والجوع، والأهم مِن ذلك أنَّهُ كان يشعر بأنَّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت مِن أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما; ومِن جانب آخر شاهد كيف أنَّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم مِن سلوك أهل القرية القبيح إِزاءهما، وكأنَّهُ بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة; وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدّا طعاماً لهما.

لذا فقد نسي موسى(عليه السلام) عهده مرّة أُخرى وبدأ بالإِعتراض، إِلاَّ أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً فقال: (قال لو شئت لاتّخذت عليه أجراً).

وفي الواقع فإِنَّ موسى يعتقد بأنَّ قيام الإِنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة; بعبارة أُخرى: إِنَّ الجميل جيِّد وحسن، بشرط أن يكون في محلّه.

صحيح أنَّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو مِن صفات الناس الإِلهيين، إِلاَّ أنَّ ذلك ينبغي أن لا يكون سبباً في دفع المسيئين للقيام بالمزيد مِن الأعمال السيئة.

وهنا قالَ الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنّك ومِن خلال حوادث مُختلفة، لا تستطيع معي صبراً، لذلك قرَّر العالم قراره الأخير: (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

موسى(عليه السلام) لم يعترض على القرار ـ طبعاً ـ لأنَّهُ هو الذي كان قد اقترحهُ عندَ


1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

2 ـ إِنَّ نسبة (الإرادة» إِلى الجدار هو استخدام مجازي، ومفهوم ذلك أنَّ الجدار كان ضعيفاً للغاية وهو على مشارف الإِنهيار.

[325]

وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنَّهُ لا يستطيع الإستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك، فإِنَّ خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسى(عليه السلام)، إِذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار، ومفارقة صُحبة مليئة بالبركة، إِذ كان كلام الأستاذ دَرساً، وتعاملهُ يتسّم بالإِلهام; نور الله يشع مِن جبينه، وقلبه مخزن للعلم الإِلهي.

إِنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية، لكن على موسى(عليه السلام) أن ينصاع لهذه الحقيقة المُرَّة.

المفسّر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أنَّ موسى(عليه السلام)عندما سُئِلَ عن أصعب ما لاقى مِن مُشكلات في طول حياته، أجاب قائلا: لقد واجهت الكثير مِن المشاكل والصعوبات (إِشارة إِلى ما لاقاه(عليه السلام) مِن فرعون، وما عاناه مِن بني إِسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً مِنها أصعب وأكثر ألماً على قلبي مِن قرار الخضر في فراقي إِيَّاه»(1).

«تأويل» مَن «أول» على وزن «قول» وتعني الإِجاع، لذا فإِنَّ أي عمل أو كلام يُرجعنا إِلى الهدف الأصلي يُسمّى «تأويل» كما أنَّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع مِن التأويل.

اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الاحلام يعود لهذا السبب بالذات، كما ورد في سورة يوسف (هذا تأويل رؤياي)(2)(3).

* * *


1 ـ أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان)، ج 3، أثناء تفسير الآية.

2 ـ للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (7) مِن سورة آل عمران.

3 ـ يوسف، 100.

[326]

الآيات

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِـمَسـكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْباً(79) وَأَمَّا الْغُلـمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينَآ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيـناً وَكُفْراً(80) فَأَرَدْنَآ أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكوةً وَأَقْرَبَ رُحْماً(81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُما صَـلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً(82)

التّفسير

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث:

بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر(عليهما السلام) أمراً حتمياً، كانَ مِن اللازم أن يقوم الأستاذ الإِلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإِنَّ استفادة موسى مِن صُحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث

[327]

الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للعديد مِن المسائل، وجواباً لكثير من الأسئلة.

ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال: (أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكانَ وراءهم ملك يأخذ كل سفنية غصباً).

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيِّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشيناً سيئاً، والهدف هو نجاتهم مِن قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها. إِذاً خلاصة المقصود في الحادثة الأُولى هو حفظ مصالح مجموعة مِن المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هُنا الجانب المكاني، وإِنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنَّ الإِنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبهُ لاحقاً، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

إِضافة إِلى ذلك فإنَّ الإِنسان عندما يخضع لضغط فرد أو مجموعة فإِنَّهُ يستخدم تعبير (وراء) كقوله مثلا: الدّيانون ورائي ولا يتركوني; وفي الآية (16) مِن سورة إِبراهيم نقرأ قوله تعالى: (مِن ورائه جهنَّم ويسقى مِن ماء صديد)وكأنَّ جهنَّم تلاحق وتتبع المذنبين، لذا فقد استخدمت كلمة وراء(1).

ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنَّ «المسكين» ليسَ هو الشخص الذي  لا يملك شيئاً مطلقاً، بل هي وصف يُطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنَّها لا تفي بحاجاتهم.

ويحتمل أيضاً أن يكون السبب في إِطلاق وصف (المساكين) عليهم ليسَ بسبب الفقر المالي، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب، كما وأنَّهُ يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغوياً، والذي يعني السكون والضعف.