![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (16) مِن سورة إِبراهيم في تفسيرنا هذا.
وفي نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «مسكين ابن آدم .. تؤلمهُ البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنهُ العرقة»(1).
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول: (وأمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً).
تحتمل مجموعة منِ المفسّرين أنَّ المقصود مِن الآية ليسَ ما يتبيّن مِن ظاهرها مِن أنَّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سبباً في انحراف أبويه، وإِنّما المقصود أنَّهُ بسبب مِن طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيراً(2); ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة.
في كل الأحوال، فإِنَّ الرجل العالم قامَ بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حالِ بقاء الابن على قيد الحياة.
وسوف نجيب في فقرة البحوث على شبهة (القصاص قبل الجناية) التي ترد على أعمال الخضر هذه.
كلمة (خشينا) تستبطن معنىً كبيراً، فهذا التعبير يوضح أنَّ هذا الرجل العالم كان يعتبر نفسهُ مسؤولا عن مستقبل الناس، ولم يكن مستعداً لأن تصاب أم أو أب مؤمنان بسوء بسبب انحراف ابنهم.
كما إِنَّ تعبير (خشينا) جاء هُنا بمعنى: لم نكن نرغب، وإِلاَّ لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى مِن العلم والوعي والقدرة.
وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الهدف هو الإِتقاء مِن حادث سيء نرغب أن نقي الأبوين مِنهُ على أساس المودّة لهما.
ويحتمل أن يكون التعبير بمعنى (علمنا) كما ينقل عن ابن عباس، يعني أنّنا
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة رقم 419.
2 ـ وفق التّفسير الأوّل يكون الفعل «يرهق» مُتعدياً إِلى مفعولين: الأوّل (هما)، والمفعول الثّاني (طغياناً)، أمّا وفق التّفسير الثّاني فإِن (طغياناً) و (كفراً) يكونان مفعولا لأجله.
كُنّا نعلم أنَّ الفتى ـ في حال بقائه ـ سوف يكون سبباً لأحداث أليمة تقع لأبيه وأُمه في المستقبل.
أمّا لماذا استخدم ضمير المتكّلم في حالة الجمع، بينما كان المتكلِّم فرداً واحداً، فإِنَّ سبب ذلك واضح، حيث أنّها ليست المرّة الأُولى التي يستخدم القرآن هذه الصيغة، ففي كلام العرب عندما يتحدث الأشخاص الكبار عن أنفسهم فإِنّهم يستخدمون ضمير الجمع. والسبب في ذلك أنَّ هؤلاء الأشخاص يملكون أشخاصاً تحت أيديهم ويعطونهم الأوامر لتنفيذ الأعمال، فالله يعطي الأوامر للملائكة، والإِنسان يعطي الأوامر للذين هم تحت يديه.
ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله: (فأردنا أن يُبدلهما ربّهما خيراً منهُ زكاة وأقرب رحماً).
إِنَّ تعبير (أردنا) و (ربّهما) يطوي معاني كبيرة سوف نقف عليها بعد قليل.
(زكاة) هنا بمعنى الطهارة والنظافة، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإِيمان والعمل الصالح، وتتسع للأُمور الدينية والمادية، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسى(عليه السلام) الذي قال: (أقتلت نفساً زكية ....) فقالَ لهُ العالم في الجواب: إِنَّ هذه النفس ليست زكية، وأردنا أن يُبدلهما ربّهما ابناً طاهراً بدلا عن ذلك.
وفي روايات عديدة نقرأ «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّاً»(1).
في آخر آية مِن الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إِلى بناء الجدار فقال: (وأمّا الجدار فكانَ لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهما صالحاً).
(فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما).
(رحمةً مِن ربّك).
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 286 و 287.
وأنا كُنت مأموراً ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضاً للخطر.
وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة، أو شك لدى موسى(عليه السلام)، ولكي يكون على يقين بأنَّ هذه الأعمال كانت طبقاً لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم: (وما فعلتهُ عن أمري) بل بأمر مِن الله.
وذلك سر ما لم يستطع موسى(عليه السلام) صبراً، إذ قال: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).
* * *
إِنَّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات.
والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إِتلاف جزء مِن أموال شخص بدون إِجازته بذريعة أنَّ هُناك غاصباً يريد أن يُصادرها؟
وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟
ثمّ هل هُناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟
لقد رأينا مِن سياق القصّة القرآنية أنَّ موسى اعتراض على الرجل العالم، ولكنَّهُ بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأُمور عاد واقتنع.
أمّا نحن فأمامنا طريقان للإِجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق ا لأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة مِن المفسّرين بسلوك هذا الطريق.
فالحادثة الأُولى اعتبروها مُنطبقة مع قانون الأهم والمهم; وقالوا بأنَّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتماً مِن الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق; وبعبارة أُخرى، فإِنّ الخضر قام هُنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنَّهُ كان يُمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إِذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنَّ الخضر قد حصل مِن وجهة الإحكام والقواعد الشرعية على إِذن الفحوى).
وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرَّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنَّ الفتى كانَ بالغاً وأنَّهُ كان مرتداً أو مفسداً، وبسبب أعماله الفعلية فإِنَّهُ مِن الجائز أن يُقتل.
وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإِنَّهُ بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إِفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإِنَّ قتله طبقاً للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزاً.
أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإِيثار مِن أجل الآخرين، ومِن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجراً على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام بهِ الخضر، وقد لا تصل هذه الافعال إِلى حدّ الوجوب، إِلاَّ أنّها تعتبر ـ حتماً ـ مِن السلوك الحسن.
بل قد يُقال مِن الوجهة الفقهية أنّ الإِيثار والتضحية في بعض الموارد مِن الأُمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الإِستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإِذا كانت التوضيحات الآنفة مُقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إِلاَّ أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم بهِ مِن أعمال في المستقبل، وليسَ أعماله الفعلية.
أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضاً لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومِن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءاً مِن أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لا نقاذها مِن خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنَّهُ سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل ... تُرى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟!
وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقاً آخر:
الطريق الثّالث: إِنَّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني،والنظام التشريعي»، وبالرغم مِن أنَّ هذين النظامين مُتناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنها قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.
على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومِن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر مِن غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والإِستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟
ونرى أنَّ الله سبحانهُ وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى بهِ يعقوب(عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إِلى المساكين، أو ما ابتلى بهِ يونس(عليه السلام) بسبب تركه الأُولى مِن بعض الأُمور ولو لفترة قصيرة ... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟
ونرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة مِن الإِنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال، أو يُصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربِّه على نعمة السلامة ...
والسؤال هنا: هل يستطيع أحد مِن الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب
النعمة مِن الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟
إِنَّ أمثال هذه الأُمور كثيرٌ للغاية، وهي تُظهر ـ بشكل عام ـ أنَّ عالَم الوجود، وخصوصاً خلق الإِنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضعَ الله تعالى مجموعة مِن القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإِنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيُصاب بردود فعل مُختلفة.
ولكنّا مِن وُجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنِّف الأُمور في إِطار هذه القوانين التكوينية.
على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إِلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إِصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقاباً لهُ على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتماً لأنَّهُ يُلائم النظام الأحسن).
والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنَّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة مِن الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومِن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنَّ أخطاراً كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنَّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالإِمتحان والإِبتلاء وغير ذلك.
وأيضاً لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنَّ خروجي مِن البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني مِنها.
بعبارة أُخرى: إِنَّ مجموعة مِن أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأُخرى مكلّفون بالظواهر. والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضاً.
صحيح أنَّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإِنسان إِلى الكمال; وصحيح أنَّ البرنامجين متناسقين مِن حيث القواعد الكلية، إِلاَّ أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين، بل يجب أن يحصل على إِجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلَّ وعلا، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا، (ما فعلتهُ عن أمري) بل إِنّي خطوت الخطوات وفقاً للبرنامج الإِلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.
وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.
وسبب عدم تحمّل موسى(عليه السلام) لأعمال الخضر يعود إِلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم، لذا فقد كان موسى(عليه السلام) يبادر إِلى الإِعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة بينما كان الخضر مستمراً في طريق ببرود، لأنَّ وظيفة كل مِن هذين المبعوثين الإِلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم لهُ إِلهياً، لذلك لم يستطيعا العيش سوية، لذا قال الخضر لموسى(عليه السلام): (هذا فراق بيني وبينك).
لقد رأينا القرآن الكريم يتحدَّث عن العالم مِن دون أن يسميّه بالخضر وقد عبَّر عن معلّم موسى(عليه السلام) بقوله: (عبداً مِن عبادنا آتيناه رحمة مِن عندنا وعلمناه
مِن لدنا علماً) والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإِنّنا غالباً ما نصفه بالرجل العالم.
أمّا الرّوايات الإِسلامية وفي مختلف مصادرها عرَّفت هذا الرجل باسم (الخضر) ومِن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنَّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أمّا الخضر فهو لقب له، حيث أنَّهُ أينما كان يَطأ الأرض فإِنَّ الأرض كانت تخضر تحت قدميه.
البعض احتمل أنَّ اسم الرجل العالم هذا هو (إِلياس) ومن هنا ظهرت فكرة أن الياسُ والخضر هما اسمان لشخص واحد.
ولكن المشهور المعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.
وطبيعي أن نقول: إِنَّ اسم الرجل العالم أيّاً كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها، إِذ المهم أن نعرف أنَّهُ كان عالماً إِلهياً، شملتُه الرحمة الإِلهية الخاصّة، وكان مُكلّفاً بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معلّم موسى بن عمران بالرغم مِن أنَّ موسى(عليه السلام) كانَ أفضل مِنهُ مِن بعض الجوانب.
وهناك أيضاً آراء وروايات مُختلفة فيما إِذا كان الخضر نبيّاً أَم لا.
ففي المجلد الأوّل مِن أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنَّ هذا الرجل لم يكن نبيّاً، بل كان عالماً مِثل (ذوالقرنين) و (آصف بن برخيا)(1).
في حين نستفيد مِن روايات أُخرى أنَّهُ كان نبيّاً، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى، لأنّها تقول على لسانه: (وما فعلته عن أمري). وفي مكان آخر قوله: (فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيراً منه ... ).
ونستفيد من روايات أُخرى أنَّ الخضر عمَّر طويلا.
وهُنا قد يُطرح هذا السؤال: هل ذكرت قصّة موسى وهذا العالم الكبير في
1 ـ أصول الكافي، المجلد الأوّل، باب «إِنّ الأئمّة بمن يشبهون فيمن مضى»، ص 210.
مصادر اليهود والمسيح؟
في الجواب نقول: إِذا كان المقصود هو كتب العَهدين (التوراة والإِنجيل) فإِنَّ ذلك غير مذكور فيهما، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمَّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي، ففيها قصّة تشبه إِلى حد كبير حادثة موسى(عليه السلام) وعالم زمانه، بالرغم مِن أنّها تذكر أنَّ أبطال تلك القصّة هما (إِلياس) و (يوشع بن لاوي) وهما مِن مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي، وتختلف مِن خلال عدّة أُمور عن قصّة موسى والخضر، والقصة هذه هي:
«وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس، وبمجردّ أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء الياس فإِنَّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس: إِنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك، إلاَّ أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له الياس مشترطاً عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه، وإِذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنَّ الياس حرّ في الإنفصال عنه وتركه، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع والياس في السفر.
وأثناء سفرهما يدخلان إِلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادهما. وكان لإهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة، ويستولي على يوشع العجب والإستغراب من هذا التصّرف ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل. فيذكّره الياس بما اتّفقا عليه ويهددّه بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.
ومن هناك يواصلان سفرهما إِلى قرية أُخرى فيدخلان إِلى بيت شخص ثريّ وينهض الياس إِلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه. وفي قرية أُخرى يواجهان عدداً من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم
الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعاً إِلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إِلى الرئاسة. وبالتالي فإِنّ يوشع بن لاوى لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع، ويجيبه الياس: بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنَّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإِنّ تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم، وأمّا إِنَّهُ قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إِلى الرئاسة جميعاً فذلك لكي تضطرب أُمورهم ويختلّ النظام عندهم. على العكس من أهل القرية الرّابعة فإِنّهم إِذا أسندوا زمام أُمورهم إِلى شخص واحد فإِنّ أُمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام»(1).
ويجب عدم التوَّهم أنّنا نرى بأنَّ القصتين هما قصة واحدة، بل إِنَّ غرضنا الإِشارة إِلى أنَّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مُشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسى(عليه السلام) والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل.
إِنَّ الأساس في قصّة موسى والخضر(عليهما السلام) هو ما ذكر في القرآن، ولكن معَ الأسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصّة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنَّ بعض الإِضافات تعطي للقصّة طابعاً خرافياً. وينبغي أن نعرف أنَّ مصير كثير مِن القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة، إِذ لم تنجُ قصة مِن الوضع والتحريف والتقوُّل.
مقياسنا في واقعية القصّة هو أن نضع الآيات الثلاث والعشرون أعلاه كمعيار
1 ـ ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن)، ص 213.
أمامنا، وحتى بالنسبة للأحاديث والرّوايات فإِنّنا نقبلها في حال كونها مُطابقة للآيات، فإِذا كان هُناك حديث لا يطابق الآيات فسنرفضه حتماً ومن حسن الحظ لم يرد في هذه الأحاديث حديث معتبر.
لقد واجهتنا ـ أعلاه، ولعدّة مرّات ـ قضية نسيان موسى(عليه السلام)، فمرَّة في قضية تلك السمكّة المعدَّة لطعامهم; وثلاث مرّات أُخرى خلال الحوادث الثلاث التي وقعت عندَ مُرافقته للخضر، حينما نسي تعهده!
إِذن، نحنُ أمام هذا السؤال: هل يقع النسيان بالنسبة للأنبياء؟
البعض يعتقد بصدور ووقوع مثل هذا النسيان بالنسبة للأنبياء، لأنَّهُ لا يرتبط بأساس دعوة النّبوة ولا بفروعها ولا بتبليغ الدعوة، بل يقع في قضية عادية تخص الحياة اليومية، فالمسَلَّم به أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يُصاب بالنسيان في أصل دعوة النّبوة، ولا يخطأ أو يشتبه في التبليغ، حيث أن عناية الله تعصمهُ في مثل هذه الأُمور.
ولكن ما المانع أن ينسى موسى(عليه السلام) طعامه، خصوصاً وأن هذا النسيان أمر طبيعي عندما يكون موسى مُتوجهاً بحواسه في البحث عن الرجل العالم؟
ثمّ ما المانع مِن أن يُصاب بالهيجان بحيث ينسى تعهد الذي قطعهُ مع صاحبه العالم، وذلك عندما شاهد هذه الحوادث العظيمة التي مرَّت به كقتل الفتى وخرق السفينة وبناء الجدار في مدينة البخلاء؟
إِنَّ موارد النسيان هذه لا تتعارض مع مقام العصمة، ولا هي مستبعدة عن أي نبي.
بعض المفسّرين احتملوا أن يكون النسيان هنا بمعنى مجازي، ويعني الترك، لأنَّ الإِنسان عندما يترك شيئاً فهو كمن قد نسيه; أمّا لماذا ترك موسى طعامه، فقد
يعود ذلك إِلى عدم اهتمامه بمثل هذا الأمر. وفيما يتعلق بتعهده اتجاه صاحبهِ العالم، فذاك منهُ لأنَّهُ كان ينظر إِلى ظواهر الأُمور، إِذ مِن غير المألوف أن يعرَّض أحد أرواح وأموال الناس إِلى الضرر، فضلا عن أن يكون ذلك الشخص هو العالم الكبير، لذا فإِنَّ موسى(عليه السلام) كان يعتبر نفسهُ مُكلفاً بالإِعتراض، وكان يعتقد بأنَّ هذا الأمر لا يُقيَّد بالتعهد.
لكن مِن الواضح أنَّ هذه التفاسير والآراء لا تتسق مع ظواهر الآيات.
في حديث عن ابن عباس قال: أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِنّ موسى(عليه السلام) قام خطيباً في بني إِسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا.
فعتب الله عليه إِذ لم يرد العلم إليه. فأوحى إِليه: إِنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم مِنك.
قال موسى: يا ربّ فكيف لي به؟
قال: تأخذ معك حوتاً...»(1) إِلخ الرّواية حيثُ أرشد تعالى نبيّه موسى للوصول إِلى الرجل العالم.
كما روي ما يشابه هذا الحديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)(2).
إِنَّ مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسى(عليه السلام) حتى لا يعتبر نفسه ـ برغم علمه ومعرفته ـ أفضل الأشخاص.
ولكن هنا يثار هذا السؤال: ألا يجب أن يكون النّبي ـ وهو هنا مِن أولي العزم وصاحب رسالة ـ أعلم أهل زمانه؟
1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 481.
2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 275.
في معرض الجواب نقول: نعم، ينبغي أن يكون أعلم فيما يتعلق بمهمّته، يعني الأعلم بالنظام التشريعي، وموسى(عليه السلام) كان كذلك. أمّا الرجل العالِم (الخضر) فهو كما قلنا سابقاً، كانت لهُ مهمّة تختلف عن مهمّة موسى(عليه السلام) ولا ترتبط بعالم التشريع. بعبارة أُخرى: إِنَّ الرجل العالم كان يعرف مِن الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النّبوة.
وفي حديث جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله(عليه السلام): «كان موسى أعلم مِن الخضر»(1). أي أعلم مِنهُ في علم الشرع.
وهنا نلاحظ أنَّ هذه الشبهة وقضية نسيان موسى(عليه السلام) هما اللتان دفعتا البعض إِلى القول أنَّ موسى المذكور في القصة ليسَ هو موسى بن عمران، بل هو شخص آخر. لكن مع حل هاتين المشكلتين لا يبقى مجال لهذا الكلام.
وفي حديث عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) نرى إِشارة صريحة إِلى أن مهمّة ووظيفة كلّ مِن موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم إِلى الإِمام الرضا(عليه السلام) يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيّهما كان أعلم؟ فكان ممّا أجاب به الإِمام قوله(عليه السلام): «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة مِن جزائر البحر إِمّا جالساً وإِمّا مُتكئاً فسلَّم عليه موسى، فأنكر السلام، إِذ كانت الأرض ليسَ بها سلام. قال: مَن أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليماً؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني ممّا علمت رشداً. قال: إِنّي وكلت بأمر لا تطيقه، وَوُكِلتَ بأمر لا أطيقه»(2).
وَمِن المناسب هُنا أن نختم هذه الفقرة بما رواه صاحب «الدر المنثور» عن «الحاكم» النيسابوري مِن أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لما لقي موسى الخضر، جاء طير فألقى منقاره في الماء، فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: وما
1 ـ تفسير الميزان، ج 13، ص 356.
2 ـ مجمع البيان، ج 6، ص 480. والميزان، ج 13، ص 356.
يقول؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إِلاَّ كما أخذ مِنقاري مِن الماء»(1).
مِن الأسئلة التي تُثار حول هذه القصّة، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية، ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إِخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن، يعني أبا الأيتام يتجميع هذا الكنز وإِخفائه؟
يرى بعض المفسّرين أن الكنز يرمز إِلى شيء معنوي، قبل أن يكون لهُ مفهوم مادي.
إِذ أنَّ هذا الكنز ـ طبقاً لروايات عديدة تُنقل مِن طرق السنة والشيعة ـ لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة مِن الحكم.
أمّا ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسّرين في ذلك.
ففي كتاب الكافي نقلا عن الإِمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: «أمّا إِنَّهُ ما كان ذهباً ولا فضة، وإِنّما كان أربع كلمات: لا إِله إِلاَّ الله، مَن أيقن بالموت لم يضحك، ومَن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومَن أيقن بالقدر لم يخش إِلاَّ الله»(2).
وفي روايات أُخرى، ورد أنَّ اللوح كان مِن ذهب. الظاهر أنّه ليس هُناك تعارض بين الاثنين، لأنَّ هدف الرّواية الأُولى أن تبيّن أنَّ الكنز لم يكن دراهم ودنانير.
ولو فرضنا أنّنا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز، وفسرناه على أنَّهُ كمية مِن الذهب، فإِنّنا لا نواجه مُشكلة أيضاً، لأنّ الكنز المحرم شرعاً هو أن يقوم الإِنسان
1 ـ الدر المنثور ومصادر أُخرى طبقاً لما نقله صاحب الميزان في ج 13، ص 356.
2 ـ نور اليقلين، ج 3، ص 287.
بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدّة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إِليها، ولكن لو قام أحد الاشخاص بدفن ماله ليوم أو عدّة أيّام (كما هو المتعارف في الازمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثمّ توفي هذا الشخص بسبب حادثة، فلا يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.
هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها مِن القصّة، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي:
أ: أهمية العثور على قائد عالِم والإِستفادة مِن علمه، بحيث رأينا أنَّ نبيّاً مِن أُولي العزم مِثل موسى(عليه السلام) يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقة. وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.
ب: جوهرة العلم الإِلهي تنبع مِن العبودية لله تعالى، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى: (عبداً مِن عبادنا علمناه مِن لدنا علماً).
ج: يجب تعلم العلم للعمل، كما يقول موسى(عليه السلام) لصاحبه (ممّا علمت رشداً)أي علمني عملا يقربني مِن هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إِلى الهدف.
د: يجب عدم الإِستعجال في الأعمال، إِذ العديد مِن الأُمور تحتاج إِلى الفرص المناسبة (الأُمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة، ولهذا السبب، فإِنَّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.
هـ: الظاهر والباطن مِن المسائل المهمّة الأُخرى التي نتعلمها مِن القصة، إِذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاماً سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. إِذ ما أكثر الحوادثِ التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد مدَّة أنَّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع مِن الألطاف الخفية الإِلهية. والقرآن يصرّح بمضمون
هذه الحقيقة في قوله تعالى: (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌلكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)(1).
إِنَّ المستفاد مِن هذه القضية أن لا يُصاب الإِنسان باليأس عندما تهجم عليه الحوادث، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقلهُ عبد الله بن المحدَّث والفقية المعروف زرارة بن أعين، ويقول فيه عبد الله: قالَ لي أبو عبد الله(عليه السلام): «اقرأ مِني على والدك السلام، وقل له: إِنّي إِنّما أعيبك دفاعاً مِنّي عنك، فإِنَّ الناس والعدوّ يُسارعون إِلى كلَّ مَن قرَّبناه وحمدنا مكانه لإِدخال الأذى في مَن نحبه ونقرّبه، ويرمونه لمحبتنا لهُ وقربه ودنوه مِنّا، ويرون إِدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل مَن عبناه نحن، فإِنّما أعيبك لأنّك رجلٌ اشتهرت مِنّا، وبميلك إِلينا، وأنت في ذلك مذموم عندَ الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إِلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك مِنّا دافع شرَّهم عنك. يقول الله عزَّ وجلّ: (أمّا السفينة لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) هذا التنزيل مِن عند الله، صالحة، لا والله ما عابها إِلا لكي تسلم مِن الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليسَ للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإِنّك والله أحبّ الناس إِليّ، وأحبّ أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإِن مِن ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصباً، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً»(2).
و: مِن دروس القصة الإِعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالِم، عرف أنَّهُ
1 ـ البقرة، 216.
2 ـ معجم رجال الحديث، ج 7، ص 226.
لا يستطيع الإِستمرار معهُ في الصحبة، وبالرغم مِن أنَّ فراق هذا الأستاذ كان أمراً صعباً على موسى(عليه السلام)، إِلاَّ أنَّهُ(عليه السلام) لم يُكابر وأنصف العالم بإِعطائه الحق، وفارقة عن اِخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة مِن هذه الصحبة القصيرة.
يجب على الإِنسان أن لا يستمر إِلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوَّل حياته إِلى مُختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبداً، اذ عليه عندما يختبر موضوعاً ما عدَّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الإِختبار وأن يقتنع به.
ز: تأثير إِيمان الآباء على الأبناء
لقد تحمّل الخضر مسؤولية حماية الأبناء في المقدار الذي كانَ يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح المُلتزم. بمعنى أنَّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإِيمان وأمانة والتزام الأب، وإِنَّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضاً.
وفي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى، بل هو مِن أجدادهم البعيدين جداً. (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)(1). وإِنَّ مِن علائم صلاح هذا الأب هو ما تركهُ مِن الكنوز المعنوية، ومِن الحِكَمْ لأبنائه.
ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين
عندما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه مِن أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به مِن أذىً وطغيان وكفر، قد يحرفهم بهِ عن الطريق الإِلهي، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا، فإِنَّ الرّوايات الإِسلامية تربط
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 289.
بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا إِلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (23) مِن سورة الإِسراء.
وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب مِن القصة، إِذا كانَ الولد يُقتل لما يلحقه بأبويه مِن ضرر وأذى في مستقبل حياته، تُرى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟
ط: الناس أعداء ما جهلوا
قد يحدث أن يقوم شخص بالإِحسان إِلينا، إِلاَّ أنّنا نتصوره عدوّاً لنا، لأنّنا لا نعرف بواطن الأُمور، ونتسرع ونفقد الصبر، خصوصاً إِزاء الأحداث والأُمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علماً. مِن الطبيعي أن يفقد الإِنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علماً مِن الأحداث والقضايا، إِلاَّ أنَّ الدرس المستفاد مِن القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط مِن خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.
![]() |
![]() |
![]() |