![]() |
![]() |
![]() |
ويقول القرآن بعد قصّة برج فرعون المعروف: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله). والآية تعليق على عمل فرعون عندما طلب مِن هامان أن يبني لهُ برجاً لِيطّلع بزعمه إِلى إِله موسى كما في الآيتين (36 ـ 37) مِن سورة غافر.
بالرغم مِن أنَّ بعض أشباه العلماء يستفيدون مِن أمثال هذه الآيات إِمكانية رؤية الخالق جلَّ وعلا في العالم الآخر، ويفسّرون لقاء الله باللقاء الحسي، إِلاَّ أنَّهُ مِن المعلوم بداهة أنَّ اللقاء الحسي يقتضي تجسيم الخالق جلَّ وعلا، والتجسيم يقتضي التحديد والحاجة، والمحدود المحتاج يكون قابلا للفناء، والكل يعرف ويؤمن بأنَّ هذه الصفات لا تنطبق على الله تعالى.
لذا فإِنَّ القصد مِن اللقاء أو الرؤيا في الآيات القرآنية ليسَ الرؤية الحسية، بل
1 ـ فاطر، 8.
2 ـ الأنفال، 48.
الرؤية الباطنية المعنوية.
يعني أنَّ الإِنسان في يوم القيامة يُشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل مِن أي زمان، لذا فإِنَّهُ ينظر إِليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير. لهذا السبب ـ ووفقاً للآيات القرآنية ـ فإِنَّهُ حتى أشد الناس إِنكاراً للخالق وأكثرهم عناداً، سوف يقر يوم القيامة بوجود الخالق، وأنّه لا مجال لانكاره(1).
بعض المفسّرين اعتبر هذا المفهوم (لقاء الله) مشاهدة النعم والثواب، وأيضاً العذاب والعقاب الإِلهي وفي ذلك تكون كلمة الثواب والعقاب مقدّرة في الآية.
وبالرغم من أن هذان التّفسيران لا تعارض بينهما، إِلاَّ أنَّ التّفسير الأوّل يبدو أظهر وأوضح.
ليسَ بنا حاجة إِلى أن نفسّر قضية وزن الأعمال عن طريق تجسيم الأعمال والقول بأنَّ عمل الإِنسان سيتحوَّل هناك إِلى جسم وله وزن، ذلك لأنَّ الوزن لهُ معنى واسع يشمل أية مقايسة، فمثلا نقول للأشخاص عديمي الشخصية أنّهم أشخاص لا وزن لهم، أو أنّهم أشخاص خفيفون، ونعني بذلك ضعف شخصيتهم وليسَ القلّة في وزنهم الجسمي.
والجميل هنا أنَّ الاية تصف الأخسرين أعمالا بأنّنا لم نضع لهم يوم القيامة ميزاناً للقياس. ولكن هل تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى في الآية (8) مِن سورة الأعراف: (والوزن يومئذ الحق)؟
طبعاً لا، لأنَّ الوزن يخصّ الأشخاص الذين قاموا بأعمال تستحق الوزن، أمّا الشخص الذي لا يساوي وجوده وأعماله وأفكاره حتى جُناح بعوضة، فهل هو بحاجة إِلى الوزن؟!
1 ـ يمكن مراجعة سورة المؤمنون، الآية 106 فما فوق.
لهذا السبب نقرأ في رواية معروفة عن النّبي قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّهُ ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة»(1).
لماذا؟ لأنَّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.
ومِن هنا يتّضح أنَّ الناس هناك على عدَّة أنواع هي:
1 ـ مجموعة تكون مُثقلة بالحسنات والأعمال الصالحة بحيث لا تحتاج إِلى الوزن والحساب في أعمالها، بل تدخل الجنّة بدون حساب.
2 ـ مجموعة ثانية من الذين حبطت أعمالهم، أو ليسَ لهم أي عمل الصالح، وهذه لا تحتاج إِلى وزن أيضاً، بل تدخل النّار بدون حساب.
3 ـ أمّا المجموعة الثّالثة، فهي التي تملك السيئات والحسنات، وهذه يشملها الوزن والحساب. وقد يكون أكثر الناس مِن هذه الفئة.
(حول) على وزن (علل) لها معنى مصدري وتعني التحوّل ونقل المكان، وكما قلنا في تفسير الآيات، فإِنَّ الفردوس بستان الجنة توجد فيه أفضل النعم والمواهب الإِلهية، ولهذا السبب فإِنّها تعتبر أفضل مناطق ذلك العالم، حيث أنَّ الساكنين فيها لا يتمنون أبداً الإِنتقال مِنها إِلى مكان آخر.
وقد يقول البعض: إِنَّ الحياة قد تكون هناك رتيبة وراكدة، وهذا بحد ذاته نقص وعيبٌ كبيرٌ فيها؟!
في الجواب نقول: ليس ثمة مانع مِن أن يكون التحوُّل والتكامل في نفس المكان، إِذا توافرت أسباب التكامل واجتمعت هناك، وهي ـ قطعاً ـ متوافرة. وفي ظل الأعمال التي قام بها الإِنسان في هذه الدنيا، فإِنَّ الإِنسان ـ مِن خلال
1 ـ عن تفسير مجمع البيان، في تفسيره للآية.
المواهب الإِلهية هناك ـ سوف يستمر في طريق تكامله بشكل دائم ومستمر.
وسنقوم إِن شاء الله بشرح أفضل لتكامل الإِنسان حتى في الجنة، وذلك في نهاية الآيات التي تُناسب الموضوع.
قلنا: إِنَّ «الفردوس»(1) أفضل مناطق الجنة، ولا يسكنهُ سوى المؤمنين وذوي الأعمال الصالحة، إِذاً سيكون السؤال: مَن يسكن الأقسام الأُخرى في الجنة، إِذا كانت الجنة مكاناً للمؤمنين وحسب وممنوعة على غيرهم؟
في الجواب نقول: إِنَّ الفردوس لا تشمل كل مؤمن ذي عمل الصالح، بل هي لمن بلغ درجة عالية مِن الإِيمان والعمل الصالح، وهذه المرتبة هي المعيار للوصول إِلى الفردوس بالرغم مِن أنَّ ظاهر الآية مطلق، إِلاَّ أنَّ الإِنتباه إِلى معنى الفردوس يقيّد الإِطلاق المذكور.
لذلك عندما تتحدث سورة المؤمنون عن صفات ورثة الفردوس فإِنّها تبيّن الحد الأعلى لصفات المؤمنين والذي لا يكون موجوداً عند جميع الأفراد. وهذا دليل آخر على أنَّ سكنة الفردوس يملكون صفات ممتازة بالإِضافة إِلى شَرطي الإِيمان والعمل الصالح.
لذلك رأينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث سابق، يعلمنا بأنّنا عندما نطلب الجنّة، فعلينا أن ندعو لنيل الفردوس بالخصوص، لأنّها أكمل وأفضل منازل الجنّة.
وهذه إِشارة إِلى ضرورة أن تنصرف همة المؤمن ـ في كل الأُمور ـ إِلى أعلى حد، وحتى في الجنة عليه أن لا يقنع بمراحلها الدنيا بالرغم ممّا في هذه المراحل
1 ـ ذهب بعض إِلى أن هذه الكلمة مأخوذة من اللغة الرومية في الأصل، وذهب آخرون الى أن جذورها حبشية انتقلت الى العربية (تفسير الفخر الرازي وتفسير مجمع البيان).
مِن نعم ومواهب.
وطبيعي أنَّ الذي يطلب هذه المنزلة مِن الله لا بدَّ وأن يكون قد أعدَّ نفسهُ لها، وعليه أن يبذل كل سعيه وجهده لكسب أفضل الصفات وأرضى الأعمال.
ومن ذلك يعلم أن من يقول بأن المهم هو أن أدخل الجنة حتى في أدنى درجة منها هو شخص يفتقد للهمة العالية للمؤمنين الحقيقيين.
* * *
قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمـتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمـتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً(109) قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلـهُكُمْ إِلـهٌ وحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً(110)
عن ابن عباس قال: «قالت اليهود لما قال لهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة وَمَن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً؟ فنزل قوله تعالى: (قل لو كانَ البحر مِداداً لكلمات ربّي لنفد البحر).
وقيل أيضاً: قالت اليهود: إِنّك أوتيت الحكمة، ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ثمّ زعمت ـ والمخاطب هنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أنّك لا علم لك بالروح؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأنّي وإِن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إِلى كلمات الله تعالى قليلة»(1).
1 ـ تفسير القرطبي، المجلد11 ـ 12، صحفة 68 ـ 69. وكذلك تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.
الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلا، إِلاَّ أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، حيثُ أنَّ كل قصة مِن القصص الثلاث الواردة في السورة، تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الإِطلاع على قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شيء إِزاء علم الله غير المحدود، لأنَّ علمهُ سبحانه وتعالى ومعرفتهُ تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.
القرآن الكريم يخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوّل آية نبحثها بقوله: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثلهُ مدداً).
«مداد» تعني الحبر، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة، وهي في الأصل مأخوذة مِن «مدَّ» بمعنى السحب، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم(1).
(كلمات) جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها، أو بعبارة أُخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى، وبما أنَّ كل موجود مِن موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإِنَّهُ يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.،
فبالنسبة للمسيح عيسى(عليه السلام) يقول القرآن الكريم: (إِنّما المسيحُ عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إِلى مريم)(2).
1 ـ نقل الفخر الرازي في معنى (مداد) إِضافة إِلى ما ذكر معنىٌ آخر، وهو «الزيت» الذي يوضع في المصباح ويكون سبباً للنور، والإِثنان يرجعان إِلى معنى واحد.
2 ـ النساء، 171.
وفي الآية التي نبحثها فإِنَّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إِشارة إِلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.
وفي الحقيقة إِن القرآن يُلفت أنظارنا في هذه الآية إِلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنَّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر مِن السعة والعظمة بحيث لو أنَّ البحار تتحول إِلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإِنّها ـ أي البحار ـ ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.
ومِن الضروري الإِلتفات هنا إِلى أنَّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة (مثل) في قوله: (ولو جئنا بمثله مدداً) فإنّه يراد بها الجنس أيضاً، وهذه إِشارة إِلى أنّنا مهما أضفنا مِن أمثال هذه البحار إِليها فإِنَّ الكلمات الإِلهية لا تنتهي ولا تنفد.
ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية (27): (ولو أنَّ ما في الأرض مِن شجرة أقلام والبحر يمده مِن بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). يعني أنَّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة، ومع ذلك فإِنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي.
وينبغي الإِنتباه هنا إِلى أنَّ الآية أعلاه في الوقت الذي تُجسِّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإِنّها تُوَضِّح ـ أيضاً ـ العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلَّ وعلا، لأنّنا نعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً. وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علماً حضورياً» فإِنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات. (فدقق في ذلك).
إِذن نستطيع أن نقول: لو أنَّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إِلى
حبر ومداد، ولو أنَّ كافة الأشجار تحولت إِلى أقلام، فإِنَّ ذلك كُلّه لا يستطيع الإِحاطة بما موجود في عالم الخالق جلَّ وعلا.
يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إِلى أفكارنا. وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحاً بليغاً للغاية، وذكر أرقاماً حيَّة وذات روح.
تُرى هل هناك أعداد حيَّة وأُخرى ميتة؟
نعم، ففي الرياضيات إِذا وُضعت الأصفار إِلى يمين العدد الصحيح فهي لا تعبِّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسِّد عظمة شيء معين.
الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنَّ العدد الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامهُ مِن الجهة اليمنى أصفاراً بطول كيلومتر واحد، فسيكون عدد عظيم جدّاً ومحيِّر ولا يمكن تصوّر عظمته، ولكن لمن؟ للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم.
العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسِّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.
والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار، يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إِلى أقلام، وكل البحار إِلى مواد وحبر، فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى.
فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم، ثمّ ما هو عدد
الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة؟
ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الاقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها!
من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد، فبحيرة واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها!
إِنَّ الحصيلة ـ بلا شك ـ ستكون رقماً عجيباً وخيالياً!!
وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم (سبع) ليسَ للتحديد، بل هو إِشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار، فإِنَّ كلمات الله لا تنفد.
والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي يبغث اليقظة في روح الإِنسان، ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية!
إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين.
نعم، إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد.
علم غير محدود ولا مُتناهي.
علم يشمل كل الوجود، سابقاً وحاضراً ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!
الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة مِن الأسس والأصول للإِعتقادات الدينية، التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). والآية في مضمونها إِشارة إِلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة. ففي البداية تحدَّثت السورة عن الله والوحي
والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.
ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ، لذا فإِنَّ الآية تقول: (قل إِنّما أنا بشرٌ مِثلكم يوحى إِليّ).
وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإِمتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الإنبياء مِن صفة البشرية إِلى صفة الألوهية.
ثمّ تشير الآية إِلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: (إِنما إِلهكم إِله واحد).
أمّا لماذا تمت الإِشارة إِلى هذه القضية؟ فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والإِجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان.
وفي مكان آخر، أشرنا إِلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب، وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام.
لو أردنا ـ على سبيل المثال ـ أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إِلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة.
وإِذا أردنا أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية أصولا وفروعاً بأعضاء الجسم، فإِنَّ التوحيد سيكون روح الإِنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.
وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنَّ هذين الأصلَيْن لا ينفصلان عن التوحيد. يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته، فإِنّنا نعلم أنَّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثاً.
والمسائل الإِجتماعية، وكل المجتمع الإِنساني وما يرتبط به، ينبغي أن يكون فيه شعاع مِن التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.
لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إِن: «كلمة لا اله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».
وكل منّا قد سمع أيضاً أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في بداية الإِسلام: (قولوا لا إِله إِلاَّ الله تفلحوا).
الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إِلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: (فمن كان يرجوا لقاءَ ربّه فليعمل عملا صالحاً).
بالرغم مِن أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمرٌ ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إِلاَّ أنَّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإِنَّ القرآن استخدام هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.
مِن جانب آخر، فإِنَّ الإِنسان الذي ينتظر أمراً معيناً، ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يُهيء نفسهُ ويعدّها لإِستقبال ذلك الأمر. أمّا الشخص الذي يدّعي ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.
لهذا السبب فإِنَّ الآية أعلاه تقول: (فليعمل عملا صالحاً) وردت بصيغة الأمر; الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.
وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً).
بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص.
فالهدف الإِلهي يعطي لعمل الإِنسان عمقاً ونورانية خاصّة، ويوجهه الوجهة
الصحيحة، وعندما نفقد الإِخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إِلى المنافع الخاصّة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهتهُ الصحيحة.
في الحقيقة إِنَّ العمل الصالح الذي ينبع مِن أهداف إلهية، ويمتزج بالإِخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى.
وقد أشرنا سابقاً إِلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية مِن قضايا الحياة.
أعطت الرّوايات الإِسلامية مكانةً خاصّة لقضية «النية»، والإِسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف مِن العمل.
الحديث المشهور عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا عمل إِلاَّ بنية» بيانٌ واضح لهذه الحقيقة.
وبعد (النية) هناك (الإِخلاص)، فلو اقترن العمل بالإِخلاص فسيكون عملا ثميناً للغاية، وبدون الإِخلاص هو لا قيمة له. والإِخلاص هو أن تكون الدوافع الإِنسانية خالية مِن أي نوع مِن أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمّي الإِخلاص بـ «توحيد النية» يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأُمور والحالات.
والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية مِن أنَّ رجلا جاء إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إِنّي أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلاَّ لله، فيذكر ذلك مِنّي، وأحمد عليه فيسرّني ذلك، وأعجب بهِ. فسكت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل شيئاً، فنزلت الآية: (... فمن كانَ يرجوا لقاء ربَّه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربِّة أحداً)(1).
إِنَّ المقصود مِن هذه الرّواية ليسَ الفرح أو السرور اللاإِرادي، بل هي الحالة
1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.
التي يكون فيها الفرح والسرور هدفاً لعمل الإِنسان، أو الحالة التي تؤدي إِلى عدم خلوص النية.
فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإِسلام إِلى الحد الذي يقول فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه»(1).
إِلهي، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكّر بأحد سواك، ولا نعدوك إِلى غيرك ... واجعل ما نريده وما لا نريده تبعاً لطاعتك ورضاك ... آمين ربّ العالمين.
نهاية سورة الكهف
1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 408.
مكّية
وعَدَدُ آيَاتِها ثمان وتسعُونَ آية
لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة:
1 ـ يشكل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح(عليهم السلام)ويحيي وإِبراهيم(عليهما السلام) بطل التوحيد، وولده إِسماعيل، وإِدريس وبعض آخر من كبار أنبياء الله، الجزء الأهم في هذه السورة، ويحتوي على أُمور تربوية لها خصوصيات مهمّة.
2 ـ الجزء الثّاني من هذه السورة ـ والذي يأتي بعد القسم الأوّل من حيث الاهمية ـ عبارة عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين، وأمثال ذلك.
3 ـ القسم الثّالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمل ـ في الواقع ـ الأقسام السابقة.
4 ـ وأخيراً، فإِنّ آخر قسم عبارة عن الإِشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن الله سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثراً من أجل دفع النفوس الإِنسانية إِلى الإِيمان والطهارة والتقوى.
روي عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأها أُعطي من الأجر بعدد مَن صدّق
بزكريا وكذب به، ويحيي ومريم وموسى وعيسى وهارون وإِبراهيم وإِسحاق ويعقوب وإِسماعيل عشر حسنات، وبعدد من ادعى لله ولداً، وبعدد من لم يدع ولداً»(1).
إِن هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ دعوة إِلى السعيت والجد في خطين مختلفين: خط مساندة ودعم النّبي والطاهرين والخيرين، وخط محاربة المشركين والمنحرفين والفارسقين، لأنا نعلم أن هذه المكافئات والعطايا الجزيلة لا تعطى لمن يتلفظ كلمات السورة بلسانه فقط، ولا يعمل بأوامرها، بل إِن هذه الألفاظ المقدسة مقدمة للعمل.
ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده»(2).
إِن هذا الغنى وعدم الإِحتياج ـ حتماً ـ قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإِنسان، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.
* * *
1 ـ مجمع البيان الجزء 3، ص 500.
2 ـ المصدر السابق.
كهيعص(1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ(2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً(3) قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً(4) وَإِنِّى خِفْتُ الْمَوَلِىَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً(5)يَرِثُنِى وَيَرِتُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً(6)
مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولما كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.
ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الرّوايات في المصادر الإِسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.
الأُولى: تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إِلى اسم من أسماء الله الحسنى، فالكاف يشير إِلى الكافي، وهو من أسماء الله الحسنى، والهاء تشير إِلى
الهادي، والياء إِشارة إِلى الولي، والعين إِشارة إِلى العالم، والصاد إِشارة إِلى صادق الوعد(1).
الثّانية: تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإِمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، فالكاف إِشارة إِلى كربلاء، والهاء إِشارة إِلى هلاك عترة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والياء إِشارة إِلى يزيد، والعين إِشارة إِلى مسألة العطش، والصاد إِشارة إِلى صبر وثبات الحسين وأصحابه المضحين(2).
وكما قلنا مراراً، فإِن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة، وتبيّن أحياناً مفاهيم من الماضي والمستقبل، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها، في حين أننا إِذا حصرنا المعنى وفسّرناه تفسيراً واحداً، فمن الممكن أن نبتلى بإشكالات من ناحية وضع و سبب نزول الآية و زمانه.
وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الأُولى من قصّة زكريا(عليه السلام)فتقول: (ذكر رحمة ربّك عبده زكريا)(3). وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا(عليه السلام)مغتماً ومتألماً فيه من عدم إِنجاب الولد، توجه إِلى رحمة ربّه: (إِذ نادى ربّه نداء خفياً) بحيث لم يسمعه أحد، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإِنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: (قال ربّ إِنّي وهن العظم منّي واشتمل الرأس شيباً).
إِن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل، لأنّ خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة، وتلتهم كل ما يحيط بها.
ومن جهة ثانية فإِنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الإِنتباه من بعيد.
ومن ناحية ثالثة، فإِنّ النّار إِذا اشتعلت في محل له، فإِنّ الشيء الذي يبقي
1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 320.
2 ـ المصدر السّابق.
3 ـ كلمة «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف، وعليه فالتقدير: هذا ذكر رحمة ربّك.
منه هو الرماد فقط.
لقد شبه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار، والرماد الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جداً.
ثمّ يضيف: (ولم أكن بدعائك ربَّ شقياً) فقد عودتني دائماً ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.
إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إِنّي لم أتعب ولم أتاذَّ في طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.
ثمّ يبيّن حاجته: (وإِنّي خفت الموالي من ورائي) أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم (وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضياً) أي مرضياً عندك.
* * *
لقد قدم المفسّرون الإِسلاميون بحوثاً كثيرة حول الإِجابة عن هذا السؤال، فالبعض يعتقد أنّ الإِرث هنا يعني الإِرث في الأموال، والبعض اعتبره إِشارة إِلى مقام النبوة، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعاً شاملا لكلا الرأيين السابقين.
وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأوّل، في حين ذهب جماعة من علماء العامّة إِلى المعنى الثّاني، والبعض الآخر ـ كسيد قطب في (في ظلال القرآن)، والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثّالث.
إِنّ الذين حصروا المراد في الإِرث في المال استندوا إِلى ظهور كلمة الإِرث
في هذا المعنى، لأن هذه الكلمة إِذا كانت مجرّدة عن القرائن الأُخرى، فإِنّها تعني إِرث الأموال، أمّا في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأُمور المعنوية، كالآية (32) من سورة فاطر: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.
إِضافة إِلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذوراً كثيرة كانت تجلب إِلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إِسرائيل، وكان زكريا رئيس الأحبار(1).
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود، وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود، فقد كان لها نصيب منها.
لقد كان زكريا خائفاً من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين، وانتهازيين، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة، فتكون بنفسها سبباً لنشوء وانتشار الفساد في المجتمع، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولداً صالحاً ليرث هذه الأموال وينظر فيها، ويصرفها في أفضل الموارد.
الرّواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والتي استدلت فيها بهذه الآية من أجل استرجاع فدك، هي شاهد آخر على هذا المدعى.
ينقل العلاّمة الطبرسي في كتاب الإِحتجاج عن سيدة النساء(عليها السلام): إِنّه عندما صمم الخليفة الأوّل على منع فاطمة الزهراء(عليها السلام) فدكاً، وبلغ ذلك فاطمة، حضرت عنده وقالت: «يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إِذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا: (إِذ قال رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب؟)(2).
1 ـ نور الثقلين، ج3، ص323.
2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 324 (نقلا عن الإِحتجاج).
أمّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية، أو خارجة عنها، مثل:
1 ـ يبدو من البعيد أن نبيّاً كبيراً كزكريا، وفي ذلك السن الكبير، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته، خاصّة وأنّه يضيف بعد جملة (يرثني ويرث من آل يعقوب) جملة (واجعله ربّ رضياً)، ولا شك أن هذه الجملة إِشارة إِلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.
2 ـ إِنّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة، فإِنّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة، ومن جملتها مقام النبوة.
3 ـ إِن الآية (38) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إِلى هذا الطلب والدعاء، وأنّه فكر في ذلك عندما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنّة في محرابها بلطف الله: (هنا لك دعا زكريا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طبية إنّك سميع الدعاء).
![]() |
![]() |
![]() |