3 ـ أي أولى تركه يونس؟

لا شكّ أنّ تعبير «مغاضباً» إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين، وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيّاً تماماً، إذ تحمّل هذا النّبي المشفق المشقّة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضالّين، إلاّ أنّهم لم يلبّوا دعوته


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ومجمع البيان، ونور الثقلين، ذيل الآية محلّ البحث.

2 ـ نور الثقلين، ج4، ص336.

[233]

الخيّرة ..

ومن جهة أُخرى، فإنّ يونس لمّا كان يعلم أنّ العذاب الإلهي سينزل بهم سريعاً، فإنّ ترك تلك المدينة لم يكن معصية، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس ألاّ يتركها حتّى آخر لحظة ـ اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي ـ ولذلك آخذه الله على هذه العجلة، وإعتبر عمله تركاً للأولى.

وهذا هو عين ما أشرنا إليه في قصّة آدم(عليه السلام) من أنّ المعصية ليست مطلقة، بل نسبيّة، أو بتعبير آخر هي مصداق «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين». ولمزيد الإطّلاع راجع ما ذكرناه ذيل الآية (19) وما بعدها من سورة الأعراف.

4 ـ درس مصيري

جملة (كذلك ننجي المؤمنين) العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكماً خاصّاً، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.

إنّ كثيراً من الحوادث المؤلمة والإبتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة اُمور [التي إنتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف] فإنّه سينجو حتماً:

1 ـ التوجّه إلى حقيقة التوحيد، وأنّه لا معبود ولا سند إلاّ الله.

2 ـ تنزيه الله عن كلّ عيب ونقص وظلم وجور، وتجنّب كلّ سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

3 ـ الإعتراف بذنبه وتقصيره.

والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي في الدرّ المنثور عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة

[234]

يونس بن متّى» فقال رجل: يارسول الله هي ليونس خاصّة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس خاصّة وللمؤمنين إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله (وكذلك ننجي المؤمنين)؟ فهو شرط من الله لمن دعاه»(1).

ولا يحتاج أن نذكر بأنّ المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط، بل جريان حقيقتها في أعماق روح الإنسان، أي أن ينسجم كلّ وجوده مع معنى تلك الألفاظ حين قراءتها.

ويلزم التذكير بهذه المسألة، وهي أنّ العقوبات الإلهيّة على نحوين:

أحدهما: عذاب الإستئصال، أي العقوبة النهائية التي تحلّ لمحو الأفراد الذين لا يمكن إصلاحهم، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ، لأنّ أعمالهم ذاتها ستكرّر بعد هدوء عاصفة البلاء.

والآخر: عذاب التنبيه، والذي له صفة تربوية، ويرتفع مباشرةً بمجرّد أن يؤثّر أثره ويتنبّه المخطىء ويثوب إلى رشده. ومن هنا يتّضح أنّ إحدى غايات الآفات والإبتلاءات والحوادث المرّة هي التوعية والتربية.

إنّ حادثة يونس(عليه السلام) تحذّر بصورة ضمنيّة جميع قادة الحقّ والمرشدين إليه بأن لا يتصوّروا إنتهاء مهمتهم مطلقاً، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا الطريق، لأنّ مسؤولياتهم ثقيلة جدّاً.

* * *


1 ـ الدرّ المنثور، طبقاً لنقل الميزان، ذيل الآيات مورد البحث.

[235]

الآيتان

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَرِثِينَ(89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَـشِعِينَ(90)

التّفسير

نجاة زكريا من الوحدة:

تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصّة شخصيتين اُخريين من أنبياء الله العظماء، وهما زكريا ويحيى(عليهما السلام). فتقول الأُولى: (وزكريا إذ نادى ربّه ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين).

لقد مرّت سنين من عمر زكريا، واشتعل رأسه شيباً، ولم يرزق الولد حتّى ذلك الحين، ثمّ أنّ زوجته كانت عقيماً، وقد كان يأمل أن يُرزق ولداً يستطيع أن يُكمل مناهجه الإلهيّة وأعماله التبليغيّة، ولئلاّ يتسلّط المنتفعون على معبد بني إسرائيل، فينهبوا منه أمواله وهداياه التي ينبغي إنفاقها في سبيل الله.

وعندئذ توجّه إلى الله بكلّ وجوده وسأله ولداً صالحاً .. ودعا الله دعاءً يفيض تأدّباً، فبدأ دعاءَه بكلمة «ربّ»، الربّ الذي يشمل الإنسان بلطفه من أوّل لحظة.

ثمّ أكّد زكريا(عليه السلام) على هذه الحقيقة، وهي أنّي إن بقيت وحيداً فسأُنسى ـ

[236]

 ولا أُنسى وحدي، بل ستُنسى مناهجي وسيرتي أيضاً; أكّد كلّ ذلك بتعبير (لا تذرني)من مادّة (وذر) على وزن مرز بمعنى ترك الشيء لقلّة قيمته وعدم أهميّته. وأخيراً فإنّ جملة (وأنت خير الوارثين) تعبّر عن حقيقة أنّه يعلم أنّ هذه الدنيا ليست دار بقاء، ونعلم أنّ الله خير الوارثين، ولكنّه يبحث ـ من جهة عالم الأسباب ـ عن سبب يوصله إلى هذا الهدف ..

فاستجاب الله هذا الدعاء الخالص المليء بعشق الحقيقة، وحقّق اُمنيته وما كان يصبوا إليه، كما تقول الآية: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب (وأصلحنا له زوجه).

ثمّ أشار الله سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الاُسرة فقال: (إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً(1) وكانوا لنا خاشعين)والخشوع هو الخضوع المقرون بالإحترام والأدب، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عندما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان، فهؤلاء لا ينسون الضعفاء المحتاجين على كلّ حال، ويسارعون في الخيرات، ويتوجّهون إلى الله سبحانه في حال الفقر والغنى، والمرض والصحّة، وأخيراً فإنّهم لا يبتلون بالكبر والغرور عند إقبال النعمة، بل كانوا خاشعين خاضعين أبداً.

* * *


1 ـ «رغباً» بمعنى الرغبة والميل والعلاقة، و «رهباً» بمعنى الخوف والرعب، وهناك إحتمالات متعدّدة في محلّها من الإعراب، فيمكن أن تكون حالا أو تمييزاً أو مفعولا مطلقاً، أو ظرفاً أي في حال الرغبة وفي حال الرهبة. وبالرغم من أنّ نتائج هذه الإحتمالات الخمسة تختلف مع بعضها، إلاّ أنّ هذا التفاوت في جزئيات مفهوم الآية، لا في أساسها ونتيجتها.

[237]

الآية

وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَـهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ(91)

التّفسير

مريم السيّدة الطاهرة:

اُشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة إبنها المسيح (عليهما السلام).

إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام; إمّا من أجل ولدها عيسى (عليه السلام)، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكريا(عليهما السلام) من جهات متعدّدة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم(1). أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختّصة بالرجال، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهنّ على عظمتهنّ، وكنّ قدوة ومثلا أسمى لنساء العالم.

تقول الآية: واذكر مريم: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين).

* * *


1 ـ تراجع الآيات الأُولى من سورة مريم.

[238]

ملاحظات

1 ـ «الفرج» معناه في اللغة الفاصلة والشقّ، وإستعمل كناية عن العضو التناسلي، لا أنّه صريح في هذا المعنى ويرى البعض انّ كلّ ما ورد في القرآن في شأن الاُمور الجنسية له طابع كنائي وغير صريح، من قبيل «اللمس» «الدخول» «الغشيان»(1) «الإتيان»(2) وغير ذلك.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي: إنّ ظاهر الآية المتقدّمة يقول: إنّ مريم قد حفظت طهارتها وعفّتها من كلّ أشكال التلوّث بما ينافي العفّة. إلاّ أنّ بعض المفسّرين إحتمل في معنى هذه الآية أنّها إمتنعت من الإتّصال بالرجال، سواء كان ذلك من الحلال أو الحرام(3)، كما تقول الآية (20) من سورة مريم: (ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً).

إنّ هذه الصفة في الحقيقة مقدّمة لإثبات إعجاز ولادة عيسى وكونه آية.

2 ـ إنّ المراد من «روحنا» ـ كما قلنا سابقاً ـ الإشارة إلى روح عظيمة متعالية، ويقال لمثل هذه الإضافة: «الإضافة التشريفيّة»، حيث نضيف شيئاً إلى الله لبيان عظمته، مثل بيت الله، وشهر الله.

3 ـ تقول الآية آنفة الذكر: إنّا جعلنا مريم وإبنها آية للعالمين، ولم تقل: آيتين وعلامتين، لأنّ وجود مريم ووجود إبنها إمتزجا في هذه الآية الإلهيّة العظيمة إمتزاجاً لا يمكن معه تجزئة بعضهما عن بعض، فإنّ ولادة ولد بدون أب إعجاز بنفس المقدار الذي تحمل فيه امرأة بدون زوج. وكذلك معجزات عيسى (عليه السلام) في طفولته وكبره فإنّها تذكر باُمّه.

إنّ هذه الاُمور الخارقة للعادة، والمخالفة للأسباب الطبيعيّة العادية، يبيّن في


1 ـ الأعراف، 189 (فلمّا تغشّاها).

2 ـ البقرة، 222 (فاتوهنّ من حيث أمركم الله).

3 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية محل البحث.

[239]

الجملة حقيقة أنّ وراء سلسلة الأسباب قدرة قادرة على تغييرها في أي وقت شاءت.

وعلى كلّ حال، فإنّ حال السيّد المسيح واُمّه مريم(عليهما السلام) لم يكن له نظير على طول تأريخ البشر، فلم يُر قبله ولا بعده شبيه له وربّما كان تنكير كلمة (آية) [في قوله تعالى: (وجعلناها وابنها آيةً للعالمين)] الدالّ على التعظيم هو إشارة إلى هذا المعنى ..

* * *

[240]

الآيات

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَجِعُونَ(93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَـتِبُونَ(94)

التّفسير

اُمّة واحدة:

لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى، وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ، فتقول: (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من إختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعاً في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة الله الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: (وأنا ربّكم فاعبدون).

[241]

إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام المجتبى (عليه السلام) حيث يقول: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولعرفت أفعاله وصفاته»(1).

«الاُمّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة، الإشتراك في الدين، أو الزمن والعصر الواحد، أو المكان المعيّن، سواء كانت هذه الوحدة إختيارية أو بدون إختيار.

وإعتبر بعض المفسّرين الاُمّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للاُمّة.

وقال البعض الآخر: إنّ المراد من الاُمّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار، أي إنّكم أيّها البشر اُمّة واحدة، ربّكم واحد، وهدفكم الأخير واحد.

إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر إنسجاماً من التّفسير السابق، ولكنّه لا يبدو مناسباً بملاحظة إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة، بل الأنسب منها جميعاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى إنحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت: (وتقطّعوا أمرهم بينهم) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.

جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد، وإذا لاحظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول، فإنّ معنى


1 ـ نهج البلاغة. الرسالة 31.

[242]

الجملة هو: إنّ اُولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا إتّحادهم الفطري والتوحيدي، فمَنُوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!

وتضيف في النهاية: (كلّ إلينا راجعون) فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الإختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة، فنقرأ في الآية 48/سورة المائدة: (إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(1)، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة، ويرجع إلى الوحدة.

وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الاُمّة الواحدة في طريق عبادة الله، أو الإنحراف عنها وإتّخاذ طريق التفرقة، فتقول: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) ومن أجل زيادة التأكيد قالت: (وإنّا له لكاتبون).

وممّا يستحقّ الإنتباه، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاُخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطاً، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاُخرى قد عدّت الإيمان شرطاً لقبول الأعمال الصالحة.

ذكر جملة (فلا كفران لسعيه) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد، هو


1 ـ آل عمران ـ 55، والأنعام ـ 164، والنحل ـ 92، والحجّ ـ 69، و...

[243]

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده، ويشكر لهؤلاء سعيهم.

وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19/سورة الإسراء: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً).

* * *

[244]

الآيات

وَحَرَمٌ عَلَى قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ(95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَب يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَـخِصَةٌ أَبْصَـرُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَـوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَـلِمِينَ(97)

التّفسير

الكافرون على أعتاب القيامة:

كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات، وتشير الآية الأُولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لاُولئك، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: (وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون)(1).

إنّ هؤلاء في الحقيقة اُناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وإنتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن


1 ـ بناءً على هذا التّفسير فإنّ (حرام) خبر لمبتدأ محذوف، وجملة (إنّهم لا يرجعون) دليل على ذلك، والتقدير: (حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنّهم لا يرجعون).

[245]

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلاّ أنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ رجوع هؤلاء حرام تماماً، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون: (حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ ..).

وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أُخرى نشير إلى بعضها في الهامش(1).

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم، كما يقول القرآن: (حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون).

لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج»، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟ وأين كانا يعيشان؟ وأخيراً ماذا يعملان، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما بعدها من سورة الكهف، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضاً ..

هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الاُخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة، بل ذكرت إنتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة، فتقول مباشرةً: (واقترب الوعد الحقّ فإذا هي شاخصةً أبصار الذين كفروا). لأنّ الرعب يسيطر


1 ـ اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب، وقالوا: إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحياناً بهذا المعنى، فتكون (لا) زائدة، ويصبح معنى الآية: إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب.

وقال البعض الآخر: إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه، إلاّ أنّ (لا) زائدة، فيكون المعنى: إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام.

وإعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان، والفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث).

وقال بعض آخر: إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي، فتقول: إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين، ذيل الآية مورد البحث) إلاّ أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

[246]

على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: (ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا). ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: (بل كنّا ظالمين).

كيف يمكن عادةً مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

معنى بعض الكلمات:

«حدب» على زنة «أدب» معناه ما إرتفع من الأرض بين منخفضاتها، وقد يطلق على ما إرتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضاً.

«ينسلون» من مادّة «نسول» (على وزن فضول)، أي الخروج بسرعة. وما قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنّهما يمرّان بسرعة على المرتفعات إشارة إلى نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.

«شاخصة» من الشخوص، وهو في الأصل الخروج من المنزل، أو الخروج من مدينة إلى أُخرى، ولمّا كانت العين عند التعجّب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

* * *

[247]

الآيات

إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَرِدُونَ(98) لَوْ كَانَ هَـؤُلاَءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَـلِدُونَ(99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ(100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـلِدُونَ(102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاَْكْبَرُ وَتَتَلَقَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103)

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم)!

«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب

[248]

في التنور.

وقال بعضهم: إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظاً مختلفة، فبعض القبائل يسمّيه حصباً، والبعض الآخر خضباً، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحياناً، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين: إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها، ثمّ تضيف (أنتم لها واردون).

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيداً لهذا المطلب، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا، ثمّ تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(2).

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب: إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافةً إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعاً، هذا في حالة كون (ما يعبدون) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالباً لغير العاقل.


1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى»، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأُولى، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى»، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

[249]

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماماً، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كإستخلاص للنتيجة: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب، بل (وكلّ فيها خالدون). وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائماً، وكانوا يعدّونها درعاً واقياً عن البلاء، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة»، تقول الآية محلّ البحث: (لهم فيها زفير وشهيق).

«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم: إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيراً، وفي آخره شهيقاً. وعلى كلّ حال فإنّه استُعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(1).

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاُخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي (وهم فيها لا يسمعون). وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث


1 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.

[250]

 لا يسمعون صوت أي أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة، و «البليّة إذا عمّت طابت»، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أوّلا: (إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى اُولئك عنها مبعدون) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون إشارة إلى من عُبد من دون الله كالمسيح ومريم(عليهما السلام)، الذين عبدوا دون إرادتهم، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول: ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيح (عليه السلام)، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كإستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبداً.

وذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس هذا السؤال، فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جواباً لهذا السؤال، وأن تكون حكماً عامّاً لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأُولى: إنّهم (لا يسمعون حسيسها) و «الحسيس» ـ كما قال أرباب  اللغة ـ الصوت المحسوس، وجاءت أيضاً بمعنى الحركة، أو الصوت الناشىء من الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائماً لها صوت خاصّ، وهذا الصوت مرعب من جهتين: من جهة أنّه صوت النّار، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها. ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقاً.

[251]

والثّانية: إنّهم (وهم فيما إشتهت أنفسهم خالدون) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيراً من النعم دون أن ينالها، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين، بل على إمتداد الخلود.

والثّالثة: إنّهم (لا يحزنهم الفزع الأكبر). وقد إعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور وإختلافات الأحوال وتبدّلها عند إنتهاء هذه الدنيا، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة النحل. ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الاُمور، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة: من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث: (وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون).

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قال: «فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره، رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبداً»(1).

* * *


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 183.

[252]

الآية

يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـعِلِينَ(104)

التّفسير

يوم تطوى السّماء!

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب، فتقول: (يوم نطوي السّماء كطي السجل للكتب)(1).

لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقاً كالطومار لكتابة الرسائل والكتب، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة، ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّاً ويكتب عليه ما يريد كتابته، ثمّ يُطوى بعد الإنتهاء من الكتابة ويضعونه جانباً، ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضاً على هيئة الطومار، وكان هذا الطومار يسمّى سجلا، إذ كان يستفاد منه للكتابة.

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند إنتهاء الدنيا، ففي


1 ـ السَجْل: الدلو العظيمة، والسِّجِلّ حجر كان يكتب فيه، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا ـ مفردات الراغب والقاموس ـ وينبغي الإلتفات إلى أنّه احتملت إحتمالات عديدة في تفسير جملة (كطي السجل للكتب) إلاّ أنّ أقربها أنّ «طي» مصدر للسجل الذي اُضيف مفعوله، واللام في (للكتب) إمّا للإضافة أو لبيان العلّة. دقّقوا ذلك.

[253]

الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه، وكلّ منها في مكان معيّن، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه.

طبعاً، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض، بل يعني تحطّمه وجمعه، وبتعبير آخر: فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض، لكن  لا تفنى مواده، وهذه الحقيقة تستفاد من العبيرات المختلفة في آيات المعاد، وخاصةً من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة، ومن القبور.

ثمّ تضيف (كما بدأنا أوّل خلق نعيده) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية (29) من سورة الأعراف: (كما بدأكم تعودون) أو أنّه مثل تعبير (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه)(1)(2).

أمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم، أو التلاحم والإرتباط كما في بداية الخلق، فيبدو بعيداً جدّاً.

وفي النهاية تقول الآية: (وعداً(3) علينا إنّا كنّا فاعلين)(4).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأُولى، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أُخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني إنحصار معنى الآية في ذلك وإقتصاره عليه، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأُولى(5).

* * *


1 ـ سورة الروم، 27.

2 ـ كما قلنا سابقاً، فإنّه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية، بل كلّ شيء متساو مقابل قدرته، وعلى هذا فإنّ التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنّما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر، دقّقوا ذلك.