وكلاهما ـ في الحقيقة ـ تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية.


1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، ص270.

2 ـ نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 492.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد، العاشر، الصفحة 255 (أبواب المزار الباب الثّاني الحديث الثّاني عشر).

[336]

أمّا «الوفاء بالنذر» فيعني أنّ كثيراً من الناس ينذرون تقديم أضاحي إضافيّة في الحجّ، أو التصدّق بمال، أو القيام بعمل خيري في أيّام الحجّ، ولكنّهم ينسون ويغفلون عن كلّ ذلك عند وصولهم إلى مكّة، لهذا أكّد القرآن عليهم الوفاء بالنذور، وإلاّ يقصّروا في ذلك(1).

أمّا لماذا سمّيت الكعبة بالبيت العتيق؟

«العتيق» مشتقّة من «العتق» أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد الله، ولم يكن لها مالك إلاّ الله، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كإبرهة.

ومن معاني «العتيق» أيضاً الشيء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح. ومن المعاني الاُخرى للعتيق «القديم» يقول الراغب الاصفهاني: العتيق المتقدّم في الزمان أو المكان أو الرتبة. وهذا المعنى أيضاً واضح بالنسبة للكعبة، فهي أقدم مكان يوحّد فيه الله. وبحسب ما جاء في القرآن (إنّ أوّل بيت وضع للناس)(2)وعلى كلّ حال فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت الله بعد ملاحظة ما تتضمنّه هذه الكلمة من معان، أشار كلّ مفسّر إلى جانب منها. أو ذكرت الأحاديث المختلفة جوانب أُخرى من معانيها.

أمّا المراد من «الطواف» الوارد في آخر الآية المذكور أعلاه فهناك بحث بين المفسّرين (هناك طوافان ـ بعد مراسم عيد الأضحى في منى ـ على الحجّاج أن يقوموا بهما، الطواف الأوّل يدعى «طواف الزيارة»، والثّاني «طواف النساء»).

يرى بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ مفهوم الطواف عام هنا، لأنّ الآية لم تتضمّن


1 ـ إحتمل بعض المفسّرين القصد من النذور القيام بمشاعر الحجّ، إلاّ أنّه بمراجعة حالات إستعمال كلمة النذر في القرآن المجيد، يتّضح لنا أنّه يقصد المعنى المتداول من كلمة النذر، لهذا فإنّ إستخدامها في مناسك الحجّ دون دليل، خلافاً لمعناها الظاهر.

2 ـ آل عمران، 96.

[337]

قيوداً أو شرطاً ما، فهي تضمّ طواف الحجّ وطواف النساء، حتّى أنّها تشمل طواف العمرة أيضاً(1).

في وقت يرى مفسّرون آخرون أنّ الآية تقصد طواف الزيارة فقط، الذي يجب على الحاج بعد إحلاله من إحرام الحجّ(2).

إلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أنّ القصد هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) قال: «طواف النساء»(3).

كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حديث بهذا المعنى(4).

وهذا الطواف يسمّى عند أهل السنّة طواف الوداع.

ومع ملاحظة هذه الأحاديث يبدو التّفسير الأخير هو الأقوى، خاصّةً إذا عبّر بهذا المعنى أيضاً في تفسير (ثمّ ليقضوا تفثهم). حيث يجب إضافة إلى تطهير البدن من القذارة والشعر الزائد، إستعمال العطر أيضاً. ومن المعلوم أنّه لا يجوز إستعمال العطور في الحجّ إلاّ بعد إتمام الطواف والسعي، أو عندما لا يكون طواف بذمّة الحاج إلاّ طواف النساء.

وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة «ذلك» التي لها جملة محذوفة تقديرها «كذلك أمر الحجّ والمناسك» ثمّ تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت (ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه).

والمقصود هنا بـ «الحرمات» ـ طبعاً ـ أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن


1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، الصفحة 271.

2 ـ مجمع البيان نقلها في تفسير الآية ـ موضع البحث ـ عن بعض المفسّرين لم يذكر أسماءهم.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد التاسع الصفحة 390 أبواب الطواف الباب الثّاني.

4 ـ المصدر السابق.

[338]

يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامّة. وعلى هذا فإنّ تفسير هذه الآية بإختصاصها بالمحرّمات ـ أي كلّ ما نهى الله عنه ـ أو جميع الواجبات، مخالف لظاهر الآية. كما يجب الإنتباه إلى أنّ «حرمات» جمع «حرمة» وهي في الأصل الشيء الذي يجب أن تحفظ حرمته، وألاّ تنتهك هذه الحرمة أبداً.

ثمّ تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول: (واُحلّت لكم الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم).

عبارة (إلاّ ما يتلى عليكم) يمكن أن تكون إشارة إلى تحريم الصيد على المحرم الذي شرع في سورة المائدة الآية (95) حيث تقول: (ياأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم).

كما قد تكون إشارة إلى عبارة جاءت في نهاية الآية ـ موضع البحث ـ تخصّ تحريم الاُضحية التي تذبح للأصنام التي كانت متداولة زمن الجاهلية. لأنّ تذكية الحيوان يشترط فيها ذكر اسم الله عليه عند الذبح، ولا يجوز ذكر اسم الصنم أو أي اسم آخر عليه.

وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحجّ ومكافحة العادات الجاهلية:

الأوّل يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) و «الأوثان» جمع «وثن» على وكن «كفن» وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان أيضاحاً لكلمة «رجس» التي ذكرت في الآية، حيث تقول: (اجتنبوا الرجس). ثمّ تليها عبارة (من الأوثان) أي الرجس هو ذاته الأوثان.

كما تجب ملاحظة أنّ عبدة الأوثان زمن الجاهلية كانوا يلطّخونها بدماء الأضاحي، فيحصل مشهد تقشّعر الأبدان من بشاعته، وقد يكون التعبير السابق إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

[339]

والأمر الثّاني هو (واجتنبوا قول الزور) أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.

مسألة: ما معنى (قول الزور)؟

يرى بعض المفسّرين أنّه إشارة إلى كيفيّة تلبية المشركين في مراسم الحجّ في زمن الجاهلية، لأنّهم يلبّون بشكل يتضمّن الشرك بعينه، ويبعدونه من صورته التوحيديّة، فقد كانوا يردّدون: «لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك! تملكه وما ملك!».

حقّاً إنّه كلام باطل ودليل على (قول الزور) الذي يعني في الأصل: الكلام الكاذب، والباطل، والبعيد عن حدود الإعتدال.

ومع هذا فإنّ إهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين في مراسم الحجّ على زمن الجاهلية، لا يمنع من تعميمها على بطلان أيّة عبادة للأصنام بأيّة صورة كانت، وإجتناب أي قول باطل مهما كانت صورته.

ولهذا فسّرت بعض الأحاديث الأوثان بلعبة الشطرنج، وقول الزور بالغناء، والشهادة بالباطل. وفي الحقيقة فإنّ ذلك بيان لبعض أفراد ذلك الكلّي، وليس القصد منه حصر معنى الآية بهذه المصاديق فقط. وجاء في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة ألقاها على المسلمين «أيّها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثمّ قرأ (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)».

إنّ هذا الحديث أيضاً إشارة إلى سعة مفهوم هذه الآية.

* * *

[340]

الآيات

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَان سَحِيق(31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـئِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(32) لَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ(33)

التّفسير

تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:

عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكدّها آخِر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أي صنم وعبادة الأوثان. حيث تقول (حنفاء لله غير مشركين به)(1) أي أقيموا مراسم الحجّ والتلبية في حالة تخلصون فيها النيّة لله وحده  لا يخالطها أي شرك أبداً.

«حنفاء» جمع «حنيف» أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والإنحراف، أو


1 ـ «حنفاء» و «غير مشركين»، كلاهما حال لضمير «فاجتنبوا»، و «اجتنبوا» في الآية السابقة.

[341]

بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة، ومَن رغب عن كلّ إنحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة إعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكاً أساسيّاً في الحجّ والعبادات الاُخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أجاب فيه مبيّناً معنى كلمة حنيف: «هي الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة»(1).

إنّ التّفسير الذي تضمنّه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص، أي: الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدراً لقصد القربة إلى الله، وتحريكاً ذاتياً من الله.

ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: (ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق)(2).

«السّماء» هنا كناية عن التوحيد، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوماً زاهرة وشمساً ساطعة وقمراً منيراً فطوبى لمن يكون شمساً أو قمراً أو في الأقل نجماً متلألئاً، ولكن الإنسان عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإمّا يصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أُخرى: يبتلى بفقدانه هذا


1 ـ توحيد الصدوق، حسبما نقله تفسير الصافي.

2 ـ «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشيء أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

[342]

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانباً من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما. وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أُخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.

حقّاً أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الإتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيهاً للشرك يُضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة إنعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى إختبارات على الفضائيين للإستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة إنعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى إضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة إنعدام الوزن، ويسيطر عليه إضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول (ذلك)أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف (ومن يعظّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب).

«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة

[343]

مسألة الاُضحية التي إعتبرتها الآية (36) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله، إلاّ أنّ من الواضح مع كلّ هذا إحتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية، ولا دليل على إختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي، أو جميع مناسك الحجّ. خاصّةً أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ، وهذا دليل على أنّ الاُضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (158) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله).

ويمكن القول: إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة (يعظّم) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الاُضحية وأمثالها، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم وإحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضاً، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة، يحدث كثيراً أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلاّ أنّ ذلك لا قيمة له، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر إجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد. لهذا نقول: إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(1).

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال وهو يشير إلى صدره


1 ـ بما أنّ هناك إرتباطاً بين الشرط والجزاء، وكلاهما يخصّان موضوعاً واحداً، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفاً تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفاً فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره: «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».

[344]

المبارك: «التقوى هاهنا»(1).

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاُضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأي شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى).

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال (عليه السلام): «اركبها» فقال: يارسول الله إنّها هدي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) «اركبها ويلك»(2).

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الموضوع ومنها حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى) قال: «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها، وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها»(3).

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبداً حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة (لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد).

ومن جهة أُخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الإستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للاُضحية، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.


1 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، الصفحة 448.

2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرين، الصفحة 33.

3 ـ نور الثقلين، المجلّد الرّابع، الصفحة 497.

[345]

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر، هو أنّ الآيات السابقة، لم تتطرّق إلى الأضاحي، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي اُشير إليها في الآية السابقة، وسيأتي ذكرها أيضاً بعد هذا، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الإستفسار(1).

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاُضحية: (ثمّ محلّها إلى البيت العتيق).

وعلى هذا يمكن الإستفادة من الانعام المخصّصة للاُضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم. وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الاُضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضاً.

* * *


1 ـ ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث، وهنا نذكر تفسيرين آخرين:

الأوّل: إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعاً، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بإنتهاء الحجّ أو نهاية العالم، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاوراً للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقاً (ليشهدوا منافع لهم).

والتّفسير الثّاني: أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر إنسجاماً معها.

[346]

الآيتان

وَلِكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَـمِ فَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الُْمخْبِتِينَ(34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّـبِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَـوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ(35)

التّفسير

بشّر المخبتين:

يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاُضحية، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعاً في الأديان الاُخرى، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم، بل إنّ كلّ اُمّة لها قرابين: (ولكلّ اُمّة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام).

[347]

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: «النُسك» يعني العبادة، والناسك هو العابد، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.

إلاّ أنّ العلاّمة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان»: «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الاُضحية، بين عبادات الحجّ الاُخرى(1).

ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الاُضحية بدلالة (ليذكروا اسم الله).

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الاُضحية كانت دوماً مثار سؤال، لإمتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.

ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن إستعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله، والإستفادة من لحم الاُضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية (فإلهكم إله واحد) وبما أنّه إله واحد (فله أسلموا) وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و (بشّر المخبتين)(2).

ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع: إثنتان منها ذات طابع معنوي، وإثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم، وإحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه


1 ـ ولهذا السبب يقال: نسكت الشاة، أي ذبحتها.

2 ـ «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الإطمئنان والخضوع، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الإطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

[348]

بكلّ خشوع(1).

والثّاني: (والصابرين على ما أصابهم) فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها، ويحافظون على إتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الإمتحان، ولا يصابون باليأس والخيبة، ولا يكفرون بأنعم الله أبداً. وبإيجاز نقول: يستقيمون وينتصرون.

والثّالث والرابع: (والمقيمي الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون) فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارىء الخلق وإزدادوا تقرباً إليه، ومن جهة أُخرى إشتدّ إرتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وبهذا يتّضح جليّاً أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.

* * *


1 ـ بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

[349]

الآيات

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـهَا لَكُم مِّن شَعَـئِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَـهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36) لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الُْمحْسِنِينَ(37) إِنَّ اللهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللهَ  لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور(38)

التّفسير

لماذا الاُضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والاُضحية ثانية، ليقول أوّلا: (والبُدن جعلناها لكم من شعائر الله) إنّ «البُدن» وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة، ومن جهة أُخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة. فالاُضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من

[350]

قبل.

«البدن» على وزن «القدس» جمع لـ«البُدنة» على وزن «عجلة» وهي الناقة الكبيرة والسمينة. وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الاُضحية، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الاُضحية. وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفاً.

ثمّ تضيف الآية: (لكم فيها خير) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين، ومن جهة أُخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية ـ بعبارة موجزة ـ كيفية ذبح الحيوان (فاذكروا اسم الله عليها صواف) أي اذكروا اسم اللّه حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة. بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها، كما يبدو من ظاهر الآية، إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال: الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، اللهم منك ولك(1).

إلاّ أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عبارات أكثر وضوحاً فبعد شراء الاُضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح: «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك اُمرت وأنا من المسلمين، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر، اللهمّ تقبّل منّي»(2).

كلمة «صوافّ» جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ. وكما ورد في


1 ـ مجمع البيان في تفسير ختام الآية، وروح المعاني في تفسير هذه الآية بإختلاف يسير.

2 ـ وسائل الشيعة، المجلّد العاشر، صفحة 138 ـ أبواب الذبح الباب (37).

[351]

الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معاً حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقداراً من الدم، فتتمدّد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) أي عندما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يُعطى وتبدو عليه علائم الرضى والإرتياح ولا يعترض أو يغضب، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.

كلمة «القانع» فمشتقّة من «القناعة»، و «المعترّ» مشتقّة من «عرّ» على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان. ثمّ اُطلقت كلمة «المعترّ» على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض. وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الإهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ عبارة (كلوا منها) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول: (كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون). وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معاً ثمّ ينحره. (وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة، لتنزف دمها، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحياناً طاعة هذا الحيوان وإنقياده للإنسان، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان

[352]

مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة، وهي: ما هي حاجة الله تعالى للاُضحية؟

وما هي فلسفة الاُضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها). إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شيء، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود. إنّ الغاية من الاُضحية كما تقول الآية: (ولكن يناله التقوى منكم) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الاُضحية ـ مثلا ـ فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والإستعداد للشهادة في سبيل الله، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) مع أنّ دماءها غير قابلة للإستفادة، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحياناً على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد اتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(1) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الاُضحية على باب وجدران منزلهم الجديد، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضاً. ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.


1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، صفحة 314.

[353]

ثمّ تشير الآية ثانيةً إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم).

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي إستجابةً لله تعالى، وتعملون عملا طيّباً يُساعد المحتاجين، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام: (وبشّر المحسنين)اُولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبداً. وفاعلوا الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضاً.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره (إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا).

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه

[354]

العبارة الصريحة (إنّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور) اُولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي، ولا يذكرون اسم الله عليها، فكيف يحبّ الله قوماً كهؤلاء الخونة الكفرة؟!

* * *

[355]

الآيات

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمَسَـجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ(41)