![]() |
![]() |
![]() |
كان هارون في الحقيقة يُشير إلى كلام موسى (عليه السلام) الذي وجّهه إليه عند توجّهه إلى الميقات، وكان محتواه الدعوة إلى الإصلاح ـ الآية (142) من سورة الأعراف ـ فهو يريد أن يقول: إنّي إذا كنت قد أقدمت على الإشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته، وخاصّةً مع ملاحظة الجملة الاُخرى التي وردت الآية (150) من سورة الأعراف: (إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني).
1 ـ سورة الأعراف، 142.
وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: لا شكّ أنّ كلاًّ من موسى وهارون نبي، فكيف يوجّه موسى (عليه السلام) هذا العتاب واللهجة الشديدة إلى أخيه، وكيف نفسّر دفاع هارون عن نفسه؟!
ويمكن القول في الجواب: إنّ موسى (عليه السلام) كان متيقّناً من براءة أخيه، إلاّ أنّه أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل.
الأوّل: أراد أن يُفهم بني إسرائيل أنّهم قد ارتكبوا ذنباً عظيماً جدّاً، وأي ذنب؟! الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبيّاً عظيماً إلى المحكمة، وبتلك الشدّة من المعاملة، أي إنّ المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصوّرها بنو إسرائيل. فإنّ الإنحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك، وذلك بعد كلّ هذه التعليمات، وبعد رؤية كلّ تلك المعجزات وآثار عظمة الحقّ، أمر لا يمكن تصديقه، ويجب الوقوف أمامه بكلّ حزم وشدّة.
قد يشقّ الإنسان جيبه، ويلطم على رأسه عندما تقع حادثة عظيمة أحياناً، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته، ولا شكّ أنّ هذا الاُسلوب مؤثّر في حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الاُناس المنحرفين، وبيان عظمة الذنب الذي إرتكبوه. كما لا شكّ في أنّ هارون ـ أيضاً ـ كان راضياً كلّ الرضى عن هذا العمل.
الثّاني: هو أن تثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها، حتّى لا يتّهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته.
وبعد الإنتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك؟: (قال فما خطبك ياسامري)؟ فأجابه و (قال بصرت بما لم يبصروا فقبضت قبضة من أثر الرّسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي).
تُرى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسّرين قولان مشهوران ...
الأوّل: إنّ مراده هو: إنّني رأيت جبرئيل على فرس، عند مجيء جيش
فرعون إلى ساحل البحر، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، فقبضت شيئاً من تراب قدمه، أو «مركبه» وأدّخرته لهذا اليوم، فألقيته داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلاّ من أثر ذلك التراب الذي أخذته.
الثّاني: إنّني آمنت ـ بداية الأمر ـ بقسم من آثار الرّسول (موسى)، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيداً وملت إلى عبادة الأصنام، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.
فعلى التّفسير الأوّل فإنّ كلمة «الرسول» تعني جبرئيل، وعلى التّفسير الثّاني تعني «موسى» (عليه السلام). «والأثر» في التّفسير الأوّل بمعنى تراب القدم، وفي الثّاني يعني بعض تعليمات موسى (عليه السلام). و «نبذتها» على التّفسير الأوّل بمعنى إلقاء التراب داخل العجل، وعلى الثّاني ترك تعليمات موسى (عليه السلام). وأخيراً فإن (بصرت بما لم يبصروا) تشير ـ طبق التّفسير الأوّل إلى جبرئيل الذي كان قد تجلّى في هيئة فارس ـ وربّما رآه بعض آخر لكنّهم لم يعرفوه ـ إلاّ أنّها تشير ـ وفقاً للتفسير الثّاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى (عليه السلام).
وعلى كلّ حال، فإنّ لكلّ واحد من هذين التّفسيرين أنصاراً، وله نقاط واضحة أو مبهمة، لكن ـ كمحصّلة نهائية ـ يبدو أنّ التّفسير الثّاني هو الأفضل والأنسب من عدّة جهات، خاصّة وأنّا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الإحتجاج) إنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لمّا فتح البصرة أحاط الناس به ـ وكان من بينهم «الحسن البصري» وقد جلبوا معهم ألواحاً يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته: «ما تصنع؟» قال: أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين: «أما إنّ لكلّ قوم سامرياً، وهذا سامري
هذه الاُمّة! إلاّ أنّه لا يقول: لا مساس، ولكنّه يقول: لا قتال»(1).
ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلا منافقاً، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقاً، وهذا المعنى ينسجم والتّفسير الثّاني أكثر.
من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (عليه السلام) لم يكن مقبولاً بأي وجه، ولذلك فإنّ موسى (عليه السلام) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلا: (قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزوياً بعيداً عنهم!
قال بعض المفسّرين: إنّ جملة (لا مساس) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى (عليه السلام) التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحداً(2). فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضالّة، ويجمعهم حوله، ويجب أن يُحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتّصل به أيّ شخص، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه. لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.
وقال بعض المفسّرين: إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه
1 ـ نور الثقلين الجزء3 ص392.
2 ـ تفسير في ظلال القرآن. المجلّد الخامس ص494.
وخطئه، فإبتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّاً لا يمكن لأحد أن يمسّه، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض. أو أنّ السامري قد اُبتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كلّ إنسان، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)(1).
والعقاب الثّاني: إنّ موسى (عليه السلام) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: (وإنّ لك موعداً لن تخلفه)(2).
والثالث: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفاً).
وهنا يأتي سؤالان:
الأوّل: إنّ جملة (لنحرقنّه) تدلّ على أنّ العجل كان جسماً قابلا للإشتعال، وهذا يؤيّد عقيدة من يقولون: إنّ العجل لم يكن ذهبيّاً، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل.
ونقول في الجواب: إنّ ظاهر جملة (جسداً له خوار) هو أنّ العجل كان جسداً لا روح فيه، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل بالطريقة التي قلناها سابقاً. أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين:
أحدهما: إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّاً خالصاً، بل يحتمل أن يكون من الخشب، ثمّ طلي بالذهب.
والآخر: إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط، فإنّ إحراقه كان للتحقير والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك
1 ـ تفسير القرطبي، الجزء6، ص4281.
2 ـ (لن تخلفه) فعل مبني للمجهول نائب فاعله السامري، وضميره مفعول ثان، وفاعل الفعل في الأصل هو الله، ومعنى الجملة في الجملة: إنّ لك موعداً لا يخلفه الله لك.
المستكبرين الجبابرة في عصرنا!
بناءً على هذا فإنّهم بعد حرقه كسروه قطعاً صغيرة بآلات معيّنة، ثمّ ألقوا ذرّاته في البحر.
والسؤال الآخر هو: هل يجوز إلقاء كلّ هذا الذهب في البحر، ألا يُعدّ إسرافاً؟
والجواب: قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجباً في بعض الأحيان، إذا اُريد منه تحقيق هدف أهمّ وأسمى، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام، لئلاّ يبقى بين الناس مادّة الفساد، وتكون باعثاً للوسوسة في صدور بعض الناس.
وبعبارة أوضح: فإنّ موسى (عليه السلام) لو أبقى الذهب الذي استُعمل في صناعة العجل، أو قسّمه بين الناس بالسويّة، فربّما نظر إليه الجاهلون يوماً ما نظرة تقديس، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل، فيجب أن تتلف هذه المادّة الغالية الثمن فداءً لحفظ عقيدة الناس، وليس هناك اُسلوب آخر لذلك وبهذا فإنّ موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي إتّخذه مع السامري وعجله إستطاع أن يقطع مادّة عبادة العجل، وأن يمحو آثارها من العقول، وسنرى فيما بعد كيف أثّر هذا التعامل القاطع مع عبّاد العجل في عقول بني إسرائيل(1).
وشخّص موسى في آخر جملة، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد، حاكمية نهج الله، فقال: (إنّما إلهكم الله الذي لا إله إلاّ هو وسع كلّ شيء علماً)فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاماً، ولا تجيب سائلا، ولا تحلّ مشكلة، ولا تدفع ضرّاً.
1 ـ نقرأ نظير هذا التعامل القاطع من أجل قلع جذور الأفكار المنحرفة في شأن مسجد ضرار في القرآن كإشارة سريعة، وفي التاريخ والحديث بصورة مفصّلة، بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أوّلا بحرق مسجد ضرار، وأن يهدموا الباقي منه، ويجعلوا مكانه محلاًّ لأوساخ وقاذورات وفضلات الناس (ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل في ذيل الآيات 107 ـ 110 من سورة التوبة).
في الواقع، إنّ جملة (وسع كلّ شيء علماً) جاءت في مقابل وصف العجل وجهله وعجزه الذي ذكر قبل عدّة آيات.
* * *
إنّ طريقة موسى (عليه السلام) في مقابلة إنحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل، يمكن أن تكون مثلا يقتدى به في كلّ زمان ومكان في مجال مكافحة الإنحرافات الصعبة المعقّدة.
فلو أنّ موسى (عليه السلام) كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الإستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح، فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة اُمور: أمام أخيه، والسامري، وعبدة العجل، فبدأ أوّلا بأخيه فأخذ بمحاسنه وجرّه إليه وصرخ في وجهه، فهو في الحقيقة قد شكّل محكمة له ـ وإن كانت قد ثبتت براءته في النهاية ـ حتّى يحسب الآخرون حسابهم.
ثمّ توجّه إلى المسبّب الأصلي لهذه المؤامرة ـ أي السامري ـ فحكمه بحكم كان أشدّ من القتل، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس ملوّث يجب أن يبتعد عنه الجميع، ثمّ تهديده بعقاب الله الأليم.
ثمّ جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل، ووضّح لهم بأنّ ذنبكم كبير لا توبة منه إلاّ أن تُشهر السيوف ويقتل بعضكم بعضاً ليتطهّر هذا المجتمع من الدماء الفاسدة، وبهذه الطريقة يُعدم جماعة من المذنبين بأيديهم، ليتوارى هذا الفكر الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء، وقد بيّنا شرح هذه الحادثة في ذيل الآيات 51 ـ 54 من سورة البقرة تحت عنوان: «توبة لم يسبق لها مثيل».
وهكذا فإنّه توجّه أوّلا إلى قائد المجتمع ليرى هل كان في عمله قصور أو لا؟ وبعد ثبوت براءته توجّه إلى سبب الفساد، ثمّ إلى أنصار الفساد ومبتغيه!
إنّ أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولمّا كان المعتاد أن يبدّل حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل «موشى» إلى «موسى»، و «يشوع» إلى «يسوع»، نفهم من ذلك أنّ السامري كان منسوباً إلى «شمرون»، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرّابع ليعقوب.
ومن هنا يتّضح أنّ إعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد ـ بأنّ القرآن قد عرّف شخصاً كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيماً ومروّجاً لعبادة العجل باسم السامري المنسوب إلى «السامرة»، في حين أنّ السامرة لم يكن لها وجود أصلا في ذلك الزمان ـ لا أساس له، لأنّه كما قلنا منسوب إلى شمرون لا السامرة(1).
على كلّ حال، فإنّ السامري كان رجلا أنانياً منحرفاً وذكيّاً في الوقت نفسه، حيث إستطاع أن يستغلّ نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوجد ـ بجرأة ومهارة خاصّة ـ تلك الفتنة العظيمة التي سبّبت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام، وكذلك رأينا أيضاً أنّه لاقى جزاء هذه الأنانيّة والفتنة في هذه الدنيا.
* * *
1 ـ أعلام القرآن، ص359.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَـكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً(99) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وِزْراً(100)خَـلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ حِمْلا(101) يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ زُرْقاً(102) يَتَخَـفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً(103) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً(104)
مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الإنتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول: (كذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق). ثمّ يضيف (وقد آتيناك من لدنا ذكراً) قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقليّة، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.
إنّ قسماً مهمّاً من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمراً إعتباطيّاً عبثيّاً، بل الغاية منه الإستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء، عوامل الإنتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والإستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ اُولئك السابقين.
وبصورة عامّة، فإنّ من أكثر العلوم إطمئناناً وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الاُمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها وتعاستها، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع بالإستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسماً من معارفنا الأكثر إطمئناناً في مجال اُمور حياتنا.
وبتعبير آخر، فإنّ حاصل حياة الإنسان ـ من جهة ـ هو التجربة، ولا شيء غيرها، والتاريخ ـ إذا كان خالياً من كلّ أشكال التحريف ـ هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين. ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) على هذه النقطة بالذات، فيقول:
«أي بني، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما أنتهي إليه من اُمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله»(1).
بناءً على هذا، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر
1 ـ نهج البلاغة. الرسالة 31. قسم الرسائل.
بالماضي، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.
التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الاُمم وسقوطها، فيحذر الظالمين، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للإستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزّهم على المضي في مسيرهم.
التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.
التأريخ مربّي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.
والخلاصة، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.
ولكن ينبغي الإنتباه جيداً، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاءً ملهماً مربّياً نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والإنحراف، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائماً إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله، بتحريف التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(1).
ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضاً، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة أُخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.
ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره، فتقول: (من أعرض عنه فإنّه يحمل يوم القيامة وزراً).
نعم .. إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والإنحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادةً تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيداً أكبر على
1 ـ لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (120) من سورة هود.
هذه المسألة.
ثمّ تضيف: (خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائماً في وزرهم ومسؤوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئاً هنا ونقول: إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقاً لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.
ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) وكما أشرنا سابقاً، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيّتين، وعبّر عن كلّ منهما بـ(نفخة الصور)، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية 68 إن شاء الله تعالى.
لفظة «زُرق» جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلاّ أنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدّه والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.
وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى «العمى»، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادةً بضعف شديد في البصر، وذلك يقترن عادةً بكون كلّ شعر بدنهم أبيضاً. إلاّ أنّ ما ذكرناه آنفاً من تفسير ربّما كان هو الأنسب.
في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلاّ عشر ليال، أو عشرة أيّام بلياليها: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاّ عشراً)(1).
1 ـ العدد في لغة العرب من 3 إلى 10 يخالف المعدود في الجنس، فإذا كان العدد مذكّراً كان المعدود مؤنثاً، فإن (عشراً) لما جاءت هنا بصيغة المذكّر، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثاً حتماً، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال: عشرة. إلاّ أنّ بعض أُدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقاً وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة، وبناءً على هذا فإنّ (عشراً) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.
لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة، إلاّ أنّها تبدو قصيرة جدّاً في مقابل عمر القيامة. وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.
وإحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا، والذي يعدّ أيّاماً قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخيفة.
ثمّ يضيف: (نحن أعلم بما يقولون) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلاّ يوماً).
ومن المسلّم به أنّه: لا العشر مدّةً طويلة، ولا اليوم كذلك، إلاّ أنّ هناك تفاوتاً بينهما، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ(أمثلهم طريقة) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة، ويكون أنسب مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقّة).
* * *
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً(105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً(106) لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً(107) يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الاَْصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً(108) يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَـعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً(110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً(111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً (112)
تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بإنتهاء الدنيا وبداية القيامة.
ويظهر من الآية الأُولى أنّ الناس كانوا قد سألوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مصير الجبال
عند إنتهاء الدنيا، وربّما كان ذلك لأنّهم لم يكونوا يصدّقون إمكانية تصدّع وزوال هذه الجبال العظيمة التي إمتدّت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها إلى السّماء، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه القدرة؟ ولذلك يقول: (ويسألونك عن الجبال) والجواب: (فقل ينسفها ربّي نسفاً)(1).
يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة:
فهي ترجف وتهتزّ أوّلا: (يوم ترجف الأرض والجبال)(2).
ثمّ تتحرّك: (وتسير الجبال سيراً)(3).
وفي المرحلة الثّالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل: (وكانت الجبال كثيباً مهيلا)(4)
وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)(5)
ثمّ تقول الآية: إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض (فيذرها قاعاً صفصفاً(6) لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)(7) وفي ذلك الحين1 ـ «نسف» في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها، ثمّ تناثرها في الهواء.
2 ـ سورة المزمل، 14.
3 ـ سورة الطور، 10.
4 ـ سورة المزمل، 14.
5 ـ سورة القارعة، 5.
6 ـ «القاع»: الأرض المستوية، وفسّره البعض بأنّه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأمّا «الصفصف» فقد فسّرت أحياناً بأنّها الأرض الخالية من كلّ أنواع النباتات، وأحياناً بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أنّ كلّ الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.
7 ـ «العوج» بمعنى الإعوجاج، و «الأمت» أي الأرض المرتفعة والربية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أي إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.
يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والإجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه (يوم يتّبعون الداعي لا عوج له).
هل إنّ هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقرّبين؟ القرآن لم يشخّص ويحدّد ذلك بدقة، وكائناً من كان فإنّ أمره نافذ لا يقدر أي أحد على التخلّف عنه.
وجملة «لا عوج» أيمكن أن تكون وصفاً لدعوة هذا الداعي، أو وصفاً لاتّباع المدعوين، أو لكليهما. وممّا يلفت النظر أنّه كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أي إعوجاج، فإنّ أمر الله والداعي أيضاً كلّ منهما صاف ومستقيم جلي، واتّباعه واضح لا سبيل لأي إنحراف وإعوجاج إليه.
عند ذلك: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً)(1). إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهيّة على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.
وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرةً: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والإستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها.
والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطىء، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ
1 ـ «الهمس» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسّره بعضهم بأنّه الصوت الخفي للقدم الحافية، والبعض بحركة الشفاه من دون أن يسمع معها صوت، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.
بجدّ وسعي إلاّ أنّهم يبتلون أحياناً بالنقائص والزلاّت، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلاّت والهفوات، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول: لا تيأسوا، واستمروا في طريقكم، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والإجتهاد في هذا المسير، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة.
إنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس، أو الفرار من تحمّل المسؤولية، أو أنّها ضوء أخضر لإرتكاب المعاصي، بل هي دعوة إلى الإستقامة في طريق الحقّ، وإجتناب الذنوب قدر الإمكان.
ومع أنّنا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآية (47 ـ 48) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (255) من سورة البقرة، لكن لا بأس من أن نضيف هنا قصّة جميلة:
فقد روى العالم الربّاني المرحوم «ياسري» ـ أحد علماء طهران المحترمين ـ أنّ شاعراً يسمّى «حاجباً» كان قد اُبتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة، فنظّم شعراً قال فيه:
ياحاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر، فأنا ضامن لك النجاة واعمل ما شئت من الذنوب.
فرأى أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في المنام، وكان مغضباً، وقال له: لم تحسن قول الشعر، فقال: فماذا أقول؟ فقال: أصلح شعرك وقل: ياحاجب: إن كانت معاملتك مع علي في المحشر فاستح منه وقلّل من ذنوبك ومعاصيك.
ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإنّ الآية التالية تضيف: (يعلم ما
بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً)(1) فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا، وهو مطّلع على كلّ أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزء في المستقبل، إلاّ أنّهم لا يحيطون بعلم الله. وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التامّ العادل، وهو أن يكون القاضي عالماً ومطّلعاً تماماً على الحوادث التي وقعت، وكذلك يعلم بحكمها وجزائها.
في ذلك اليوم: (وعنت الوجوه للحي القيّوم).
«العنت» من مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلّة، ولذلك يقال للأسير: «عاني»، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر. وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا، فلأنّ كلّ الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها أوّلا على وجه الإنسان.
وإحتمل بعض المفسّرين أنّ الوجوه هنا تعني الرؤساء والزعماء وأولياء الاُمور الذين يقفون في ذلك اليوم أذلاّء خاضعين لله. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب وأنسب.
إنّ إنتخاب صفتي «الحي والقيّوم» هنا من بين صفات الله سبحانه، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».
وتختتم الآية بالقول: (وقد خاب من حمل ظلماً) فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة، وإنّ الظالمين ـ سواء منهم من ظلم نفسه أو ظلم الآخرين ـ لما يرون بأعينهم في ذلك اليوم خفيفي الأحمال يهرعون إلى الجنّة، وهم قد جثوا حول جهنّم ينظرون
1 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ ضمائر الجمع في الجملة الأُولى تعود إلى الشافعين. وإحتمل البعض أيضاً أنّ الضمير في (به) يعود إلى أعمال المجرمين ونتائجها، ولكن ما ذكرناه أعلاه هو الأصحّ كما يبدو. دقّقوا ذلك.
إلى أهل الجنّة يتملّكهم اليأس والخيبة والحسرة.
ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)(1).
التعبير بـ(من الصالحات) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كلّ الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدّة أيّام لكنّها تجفّ آخر الأمر، ولذلك ورد قيد (وهو مؤمن) بعد ذكر العمل الصالح في الآية.
قاعدة: لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان، ولو قام بعض الأفراد غير المؤمنين ـ أحياناً ـ بأعمال صالحة، فلا شكّ أنّها ستكون ضئيلة ومحدودة وإستثنائية، وبتعبير آخر: فإنّ العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصّل ويتعمّق يجب أن يروى من عقيدة سالمة وإعتقاد صحيح.
* * *
قرأنا في الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث أنّ المؤمنين الصالحين لا يخافون ظلماً ولا هضماً، وقال بعض المفسّرين: إنّ «الظلم» إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يخافون مطلقاً من أن يظلموا في تلك المحكمة العادلة ويؤاخذوا على ذنوب لم
1 ـ «الهضم» في اللغة بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.
يرتكبوها و «الهضم» إشارة إلى أنّهم لا يخافون ـ أيضاً ـ نقصان ثوابهم، لأنّهم يعلمون أنّ ما يستحقّونه من الثواب يصل إليهم دون زيادة أو نقصان.
وإحتمل بعضهم أنّ الأوّل يعني أنّهم لا يخافون من محو حسناتهم، والثّاني إشارة إلى أنّهم لا يخافون نقصان حتّى مقدار قليل منها، لأنّ الحساب الإلهي دقيق جدّاً.
ويحتمل أيضاً أنّ للمؤمنين الصالحين زلاّت وهفوات أيضاً، وأنّ الكاتبين لا يكتبون أكثر ممّا صدر منهم، ولا ينقصون شيئاً من ثواب أعمالهم الصالحة.
إنّ التفاسير المتقدّمة لا تتقاطع فيما بينها، ويمكن أن تكون الجملة آنفة الذكر إشارة إلى كلّ هذه المعاني أيضاً.
وردت الإشارة في الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها:
1 ـ رجوع الأموات إلى الحياة: (يوم ينفخ في الصور).
2 ـ جميع المجرمين وحشرهم: (نحشر المجرمين).
3 ـ تلاشي جبال الأرض، ثمّ تبعثرها في كلّ مكان، وإستواء سطح الأرض تماماً: (ينسفها ربّي نسفاً).
![]() |
![]() |
![]() |