وتضيف الآية في الختام (لبئس المولى ولبئس العشير) فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.

وهنا يثار سؤال، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول: إنّ ذلك أمرٌ إعتيادي في المخاطبة، ففي مرحلة  لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أُخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول: لا تصادق فلاناً، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك. وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو: (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وإفتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها، ولكنّها تتضمّن ضرراً حتميّاً لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقاً: تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معيّنة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقداً لأيّة صفة، كأن نقول: ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير، إلاّ أنّ الصبر أفضل منها،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

وإحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام، فالآية الأُولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام. فالمجموعة الأُولى لا تضرّ ولا تنفع، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

[298]

قليل فضرّهم كبير جدّاً، وعبارة (لبئس المولى ولبئس العشير) تؤكّد ذلك، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1).

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار). فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ الله سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنّات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحقّ وإستجابتهم له في الحياة الدنيا (إنّ الله يفعل ما يريد).

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلاّ بلسانهم، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة .. ومن جهة أُخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *


1 ـ بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلاّ أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

[299]

الآيات

مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَب إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كِيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَـهُ ءَايَـت بَيِّنَـت وَأَنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ(16) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـبِئِينَ وَالنَّصَـرَى وَالْـمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(17)

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأُولى من هذه الآيات، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمّداً، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون: إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم


1 ـ أبو الفتوح الرازي، وكذلك الفخر الرازي في تفسيرهما الآيات موضع البحث.

[300]

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات:

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أُخرى عن هؤلاء فتقول: (من كان يظنّ أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السّماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ). أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة، وهو غارق في غضبه، فليعمل ما يشاء، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد إختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين، أو ذكروه كإحتمال يستحقّ الإهتمام به(1).

الضمير في قوله سبحانه: (لن ينصره الله) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الإهتمام، وهما:

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة، وبناءً على هذا الرأي: فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفاسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل إنتهى غضبهم؟!


1 ـ تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

[301]

2 ـ إنّ عود الضمير المذكور إلى هؤلاء الأشخاص (ليس إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي أنّ الذين يظنّون عدم نصر الله لهم، وأنّه يقطع رزقهم، عليهم أن يعملوا ما شاءوا، وليذهبوا إلى السّماء ويعلّقوا أنفسهم بحبل، ثمّ ليقطعوا هذا الحبل حتّى يقعوا على الأرض، فهل ينهي غضبهم؟

وجميع هذه التفاسير تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج. والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالا جنونية كلّما بلغت اُمورهم طريقاً مسدوداً في الظاهر، فيضربون الأبواب والحيطان تارةً، وأُخرى يودّون أن تبتلعهم الأرض. وقد يصمّمون على الإنتحار لإخماد نيران غضبهم. في وقت لا تحلّ فيه هذه الأعمال الجنونية مشاكلهم، ولو تريّثوا قليلا، والتزموا بالصبر وسعة الصدر، ونهضوا بعد التوكّل على الله والإعتماد على النفس في مواجهة مشاكلهم، لأصبح حلّها مؤكّداً.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: (وكذلك أنزلناه آيات بيّنات).

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، وأدلّة أُخرى على عدم نفع الأصنام وضرّها، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع التافهة. ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحقّ، بل لابدّ من إستعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (وأنّ الله يهدي من يريد).

وقد قلنا مراراً: إنّ إرادة الله ليست بلا حساب، فهو المدبّر الحكيم يهدي من يشاء بآياته البيّنات، خاصّةً اُولئك المجاهدين في سبيله، وهم يرجون هدايته

[302]

بكلّ مشاعرهم(1).

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها غير مسلمة (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة). أليس يوم الفصل من أسماء يوم القيامة! حيث يفصل الله سبحانه وتعالى، فيه بين الحقّ والباطل، يوم تبلى فيه السرائر، وتنتهي فيه الخلافات. (إنّ الله على كلّ شيء شهيد).

* * *

بحوث

1 ـ إرتباط الآيات

ترتبط هذه الآية بالآيات التي سبقتها، حيث تناولت الآية التي قبلها الهداية الربّانية لمن كان قابلا للهداية، ولكن بما أنّ قلوب الناس ليست على نمط واحد، بسبب وجود التعقّب والعناد والتقليد الأعمى لا يسمح للقلوب بالإهتداء، لذا يبقى التحزّب والخلاف إلى يوم القيامة الذي يكشف فيه عن الأسرار ويتجلّى الحقّ للجميع.

مضافاً إلى أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن ثلاث فئات: اُولاهما تجادل في الله وفي يوم البعث بغير دليل، وثانيها تضلّل الناس، وثالثها ضعاف الإيمان الذين يميلون كلّ مرّة إلى جهة. لذا فقد أشارت هذه الآية إلى نماذج من هذه الفئات التي تجابه المؤمنين.

ثمّ أنّ الآيات السابقة تضمنّت سؤالا هو: ما الهدف من المعاد؟ وقد بيّنت الآية ـ موضع البحث ـ أحد أهداف المعاد، وهو إنهاء الخلافات والعودة إلى الوحدة.


1 ـ المبتدأ محذوف في قوله تعالى: (إنّ الله يهدي من يريد) وتقديره «الأمر أنّ الله يهدي من يريد»، ويحتمل أيضاً أنّ حرف (أن) بالفتح بمعنى (إن) بالكسر فلا محذوف في البين حينئذ.

[303]

2 ـ من هم المجوس؟

جاءت كلمة «المجوس» مرّة واحدة في هذه الآيات بجانب الأديان السماوية الاُخرى وفي مقابل المشركين، وهذا دليل على أنّ لهم ديناً ونبيّاً وكتاباً.

وتطلق كلمة «المجوس» اليوم على أتباع «زرادشت» أو أنّ أتباع زرادشت يشكّلون جزءاً مهمّاً منهم، وحياة «زرادشت» ليست واضحة تماماً، فقد قيل: إنّه ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقيل: في القرن السادس أو السابع(1).

وهذا الإختلاف بخمسة قرون أمر عجيب! يدلّ على الغموض الذي يحيط بتاريخ زرادشت. والمعروف أنّ له كتاباً اسمه «أفستا» تلف إبّان حملة الإسكندر المقدوني على بلاد فارس. ثمّ اُعيدت كتابته على عهد أحد ملوك الساسانيين(2).

وليس لدينا معلومات كافية عن عقيدة زرادشت، إلاّ ما اشتهر من إعتقاده بمبدأ الخير والشرّ والنور والظلام، فإله الخير والنور عنده «أهورا مزدا» وإله الشرّ والظلام «أهريمن» ويحترم فكرة العناصر الأربعة وخاصّة «النّار» حتّى اُعتبر أتباعه عبدة للنار. وأينما كانوا وجد معهم معبد للنار صغير أو كبير.

ويرى البعض أنّ كلمة «مجوس» مشتقّة من «مغ» التي كانت تطلق على قادة وروحانيي هذا الدين. كما أنّ كلمة «مؤبّد» التي تطلق حالياً على روحانيي هذا الدين، مشتقّة في الأصل من «مغود».

وروي أنّهم من أتباع أحد أنبياء الحقّ (إلاّ أنّهم إنحرفوا بعد توحيدهم الله، فأصبحوا على عقيدة يخالطها الشرك).

وجاء في رواية أنّ مشركي مكّة طالبوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الجزية من أتباع زرادشت مقابل السماح لهم بإلتزام ما يعتقدون به، فبيّن لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لا يأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فقالوا: كيف هذا وقد أخذت الجزية من مجوس


1 ـ أعلام القرآن ص55.

2 ـ تفسير الميزان المجلّد الرّابع عشر صفحة 392.

[304]

منطقة «هجر»؟! أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه»(1).

وجاء في حديث آخر عن «الأصبغ» بن نباتة» أنّ علياً قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث «المنافق المعروف)، فقال:  يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ؟ فقال(عليه السلام): «بلى يا أشعث قد أنزل اللّه عليهم كتاباً وبعث إليهم نبيّاً».الحديث(2).

وفي حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب يعني المجوس»(3).

و «المجوس» جمع مفرده «مجوسي».

3 ـ من هم الصابئة؟

يستفاد من الآية السابقة، ولا سيّما من ذكر الصابئة بين اليهود والنصارى، أنّ الصابئة أصحاب دين سماوي. وقيل: إنّهم أتباع يحيى بن زكريا (عليه السلام) الذي يسمّيه المسيحيون «يحيى المعمدان» وقيل: إنّ الصابئة مزجوا بين العقيدتين اليهودية والنصرانية، فعقيدتهم وسط بين اُولئك وهؤلاء.

يهتمّ الصابئة بالماء كثيراً، ولهذا ترى معظمهم يعيشون على ضفاف الأنهر الكبيرة، وذكر أنّهم يقدّسون بعض النجوم، ولهذا اتّهموا بعبادة النجوم. رغم أنّ الآية السابقة لم تضعهم في صفّ المشركين (إيضاحاً لذلك يراجع التّفسير الأمثل في تفسير الآية 62 من سورة البقرة).


1 ـ وسائل الشيعة المجلّد الحادي عشر ـ أبواب جهاد العدو ـ الباب49 صفحة96.

2 ـ وسائل الشّيعة، المجلد الحادي عشر، ص 98، أبواب جهاد العدو الباب 49، الحديث 7.

3 ـ المصدر السابق.

[305]

3 ـ مجموعة المنحرفين عن التوحيد

أشارت الآيات السابقة إلى خمس فئات منحرفة، يحتمل أن يكون ترتيبها هنا بحسب درجة إنحرافها عن أصل التوحيد، فاليهود أقل إنحرافاً من الآخرين بشأن التوحيد، والصابئة وسط بين اليهود والنصارى، ويليهم النصارى لقولهم بالتثليث أي تأليههم عيسى واُمّه مريم(عليهما السلام) أيضاً، وبذلك إزداد إنحرافهم. أمّا المجوس فهم في مرحلة رابعة لتقسيمهم العالم قسمين: الخير والشرّ، وقولهم بوجود مبدأين منذ الخليقة. أمّا المشركون وعبدة الأصنام فهم في آخر مرحلة، لإنحرافهم عن التوحيد أكثر من الآخرين.

* * *

[306]

الآية

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18)

التّفسير

الوجود كلّه يسجد لله:

بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد، فإنّ الآية ـ موضع البحث ـ بطرحها مسألة التوحيد، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد، وتخاطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول (ألم تر أنّ الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدّواب) و (كثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب) ثمّ تضيف وهؤلاء ليست لهم قيمة عند الله تعالى، ومن كان كذلك فهو مهان: (ومن يُهن الله فما له من مكرم).

أي إنّ من يهينه الله لا يكرمه أحد، وليست له سعادة ولا أجر، حقّاً (إنّ الله يفعل ما يشاء) فهو يكرم المؤمنين به، ويذلّ المنكرين له.

* * *

[307]

بحثان

1 ـ في كيفية السجود العام!

جاء في القرآن المجيد ذكر «السجود العامّ» لجميع المخلوقات في العالم، وكذا «التسبيح» و «الحمد» و «الصلاة»، وأكّد القرآن الكريم على أنّ هذه العبادات الأربع، لا تختص بالبشر وحدهم، بل يشاركهم فيها حتّى الموجودات التي تبدو عديمة الشعور. وعلى الرغم من أنّنا بحثنا في ختام الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء عن حمد الموجودات وتسبيحها بحثاً مسهباً، وتناولنا سجود المخلوقات العامّ لله في تفسير الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد، نجد الإشارة إلى هذا الحمد والتسبيح الكوني العامّ ضرورية.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية ـ موضع البحث ـ شكلين من السجود «سجود تكويني» و «سجود تشريعي».

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها، حتّى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكويناً.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلّها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص (شرحنا ذلك في تفسير الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعاً للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كلّه.

أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله سبحانه. وهنا يثار سؤال، وهو أنّه إذا كان السجود العامّ يشمل المخلوقات وجميع البشر، فلماذا خصّصته الآية المذكورة أعلاه ببعض البشر لا كلّهم؟

[308]

لو دقّقنا في مفهوم السجود في هذه الآية لرأيناه يجمع بين المفهومين التشريعي والتكويني، فتتيسّر الإجابة عن هذا السؤال، لأنّ سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني، وسجود البشر تشريعي يؤدّيه ناس ويأباه آخرون، فصدق فيهم القول: (كثير حقّ عليه العذاب). وإستخدام لفظ واحد بمفهوم شامل عامّ مع الإحتفاظ بمصاديقه لا يضرّه شيئاً، حتّى عند الذين لا يجيزون إستخدام كلمة واحدة لعدّة معان. فكيف بنا ونحن نجيز إستعمال كلمة واحدة في معان عديدة؟

2 ـ هل سجود الملائكة تشريعي؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ عبارة (يسجد له من في السموات) تضمّ الملائكة، وسجودهم تشريعي، لأنّهم عقلاء ذوو أحاسيس وعلم وإرادة، أي أنّ سجودهم عبادة وخضوع على وفق إرادتهم ووعيهم، بدلالة ما قاله القرآن الكريم عنهم:  (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(1).

أجوبة عن إستفسارات

1 ـ لماذا جاءت عبارة (كثير من الناس) بعد (ومن في الأرض) التي تضمّ البشر كلّهم؟

يمكن القول أنّ هذه العبارة إيضاح لعبارة (من في الأرض) أي أنّ أهل الأرض فئتان: الأُولى مؤمنة خاضعة لله، والاُخرى كافرة متمرّدة عنيدة.

وقال بعض المفسّرين: إنّ تعبير (من في الأرض) بصيغة العامّة إشارة إلى السجود التكويني، الذي يشترك فيه جميع الناس بما فيهم الكفرة، حيث تشارك


1 ـ التحريم، 6.

[309]

أجزاء أبدانهم في هذا السجود، وإنّ عبارة (كثير من الناس و...) إشارة إلى السجود التشريعي الذي يختلف فيه الناس. كما يحتمل أنّ عبارة (من في الأرض)إشارة إلى الملائكة الساكنين في الأرض كعبارة (من في السّماء) التي تشير إلى الملائكة الساكنين في السّماء، في وقت تتحدّث فيه العبارة التي تليها عن البشر الساكنين في الأرض.

2 ـ لماذا تحدّثت هذه الآية عن أهل السّماء والأرض، وليس عن السّماء والأرض ذاتهما!

في الجواب نقول: السموات داخلة في كلمة «النجوم»، مثلما يقصد «بالجبال» التي تشكّل جزءاً مهمّاً من الكرة الأرضية، الأرض ذاتها.

3 ـ وأخيراً: لماذا قال سبحانه وتعالى: (ألم تر)، أي: ألم تشاهد بعينيك، رغم أنّ السجود العام من قبل المخلوقات لله تعالى لا يمكن رؤيته؟

ومع ملاحظة أنّ كلمة «رؤية» في العربية تعني أحياناً العلم، يتّضح الجواب. وإضافةً إلى ذلك نعبّر أحياناً عن الواضحات جدّاً بكلمة الرؤية، فنقول: ألم تر فلاناً حسوداً بخيلا؟ أو: ألم تر فلاناً عالماً وعادلا؟ (رغم أنّ هذه الصفات ليست حسّية) وإنّما نقصد بذلك تأكيد الإدراك والعلم بهذه الصفات.

* * *

[310]

الآيات

هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّار يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20) وَلَهُم مَّقَـمِعُ مِنْ حَدِيد(21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسَهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَطِ الْحَمِيدِ(24)

سبب النّزول

ذكر عدد من المفسّرين من الشيعة والسنّة روايات في سبب نزول أوّل آية من الآيات السالفة الذكر نلخّصها بتركيز: «نزل إلى ساحة الحرب يوم معركة بدر ثلاثة من المسلمين هم (علي (عليه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب)،

[311]

فقتلوا بحسب ترتيبهم «الوليد بن عتبة» و «عتبة بن ربيعة» و «شيبة بن ربيعة» فنزلت هذه الآية لتبيّن مصير الذين اشتركوا في هذه المبارزة.

كما روي أنّ أبا ذر أقسم بأنّ هذه الآية نزلت بحقّ هؤلاء الرجال(1)، إلاّ أنّنا نكرّر قولنا ثانيةً بأنّ سبب النّزول الخاصّ بشخص أو جماعة معيّنة لا يمنع أن يكون مضمون الآية عامّاً يشمل الجميع.

التّفسير

خصمان متقابلان!

أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفّار، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول: (هذان خصمان اختصموا في ربّهم)(2) أي أنّ الخصام بين مجموعتين، هما: طوائف الكفّار الخمس من جهة، والمؤمنون الحقيقيّون من جهة أُخرى. وإذا تفحّصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بين الأديان في ذات الله تعالى وصفاته، وهو يمتدّ إلى الخلاف في النبوّة والمعاد. لهذا لا ضرورة إلى القول بأنّ الناس مختلفين في دين الله. إذ أنّ أساس الخلاف وجذوره يعود إلى الخلاف في توحيده تعالى فقط. فجميع الأديان قد حرّفت، والباطل منها قد إختلط بنوع من الشرك، وبدت دلائله في جميع إعتقادات أصحاب هذه الأديان.

ثمّ تبيّن الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين لله تعالى بوعي منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآية: (فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار)ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي اُعدّ لهم من قطع من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنّم بهم من كلّ جانب.


1 ـ ذكر ذلك الطبرسي في «مجمع البيان» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والألوسي في «روح المعاني» والسيوطي في «أسباب النّزول» والقرطبي في تفسيره.

2 ـ كلمة «خصمان» مثنّى أمّا فعلها «اختصموا» فجاء بصيغة جمع، والسبب يكمن في أنّ هذين ليسا شخصين، بل فئتين، إضافة إلى كون الفئتين ليس في صفّين وإنّما في صفوف مختلفة، وتنهض كلّ مجموعة لمبارزة الآخرين.

[312]

ثمّ (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم)(1) أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم النّار، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها (يصهر ما في بطونهم والجلود)(2).

وثالث نوع من العقاب هو (ولهم مقامع من حديد)(3) أي اُعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع: (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) أي كلّما أرادوا الخروج من جهنّم والخلاص من آلامها وهمومها اُعيدوا إليها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اُسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار).

فخلافاً للمجموعة الأُولى الذين يتقلّبون في نار جهنّم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنّة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الأُولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير)(4).

وهاتان مكافئتان يمنّ الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنّة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويجملّهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الأُولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم. أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس


1 ـ الحميم: الماء الحارق.

2 ـ «يصهر» مشتقّة من «صهر» على وزن «قهر» وتعني تذويب الشحم. أمّا «الصِهر» على وزن «فكر» فتعني النسيب.

3 ـ «المقامع» جمع «مقمع» على وزن «منبر» وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقاباً له.

4 ـ «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع لكلمة «سوار» على وزن «كتاب» وتعني المعضد.

[313]

الحرير والحلي وغيرها. وبالطبع ستكون للحياة الاُخروية مفاهيم أسمى ممّا نفكّر به في هذه الدنيا الدنيّة، لأنّ مبادىء الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عمّا هي في الآخرة (فتأمّلوا جيداً).

وأخيراً الهبة الرّابعة والخامسة التي يهبها الله للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية (وهدوا إلى الطيب من القول) حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، (وهدوا إلى صراط الحميد)(1) هكذا يهدون إلى طريق الله الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة الله والتقرّب المعنوي والروحي إليه، سبيل العشق والعرفان.

حقّاً إنّ الله يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذّة الروحيّة.

ونقرأ في حديث رواه علي بن إبراهيم (المفسّر المعروف) في تفسيره، أنّ القصد من «الطيب من القول» التوحيد والإخلاص ويعني «الصراط الحميد» الولاية والإقرار بولاية القادة الربانيّين (وبالطبع هذا أحد البراهين الواضحة للآية).

كما يستنتج من التعابير المختلفة الواردة في الآيات السابقة وفي سبب نزولها أنّ هناك عذاباً عسيراً صعباً ينتظر مجموعة خاصّة من الكفّار الذين يعاندون الله ويحاولون تضليل الآخرين. إنّهم أفراد من قادة الكفر كالذين تقدّموا في معركة بدر لمبارزة علي (عليه السلام) وحمزة بن عبدالمطّلب وعبيدة بن الحارث.

* * *


1 ـ كلمة «الحميد» تعني المحمود، وتطلق على من يستحقّ الثناء، وهنا يقصد بها الله تعالى، وعلى هذا فإنّ «الصراط الحميد» يعني السبيل إلى مقام مقرّب من الله تعالى. كما قال البعض بأنّ «الحميد» وصف للصراط يشبه الإضافة البيانيّة، وعلى هذا يكون المعنى: إنّ هؤلاء يُرشدون إلى سبيل جدير بالثناء كلّه. (الآلوسي في روح البيان)، إلاّ أنّ المعنى الأوّل يبدو أصحّ.

[314]

الآية

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَـهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَـكِفُ فِيهِ والْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْم نُّذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم(25)

التّفسير

الذين يصدّون عن بيت الله الحرام!

تحدّثت الآيات السابقة عن عامّة الكفّار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحجّ العظيم.

تبدأ هذه الآية بـ (إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله) وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد) أي سواءً المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد. (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) أي كلّ من أراد الإنحراف في هذه الأرض المقدّسة عن الحقّ ومارس الظلم والجور أذقناه عذاباً أليماً.

وهذه الفئة من الكفّار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافةً إلى إنكارها الحقّ،

[315]

وجرائمها هي:

1 ـ صدّ الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.

2 ـ صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام، وتوهم أنّ لهم إمتيازاً عن الآخرين.

3 ـ ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدّسة، والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

* * *

ملاحظات

1 ـ جاء «كفر» هؤلاء في هذه الآية بصيغة الفعل الماضي، وجاء «الصدّ» عن سبيل الله بصيغة الفعل المضارع، إشارةً إلى كونهم كفّاراً من قبل. وإلى أنّ تضليلهم الناس هو عملهم الدائم. وبتعبير آخر: تشير العبارة الأُولى إلى إعتقادهم الباطل، وهو أمر ثابت، بينما تشير العبارة الثّانية إلى عملهم الدائم وهو الصدّ عن سبيل الله.

2 ـ يقصد بالصدّ عن سبيل الله كلّ عمل يحول دون إيمان الناس ودون قيامهم بالأعمال الصالحة، وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية والعملية التي تتوخّى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة.

3 ـ إنّ جميع الناس في هذا المكان العبادي سواء.

وقد وردت لعبارة (سواء العاكب فيه والباد) عند المفسّرين معان مختلفة، فذهب بعضهم أنّ المراد هو أنّ الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحّد فيه الله، وليس لأحد الحقّ أن يُعرقل حجّ الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام.

وأعطى آخرون لهذه العبارة معنى أوسع، وهو أنّ الناس ليسوا سواسية فقط في أداء الشعائر وإنّما هم كذلك في الإستفادة من الأرض والبيوت المحيطة بالكعبة لإستراحتهم وسائر حاجاتهم الاُخرى، لهذا حرّم بعض الفقهاء بيع وشراء

[316]

وإيجار البيوت في مكّة المكرمة، ويتّخذون الآية السابقة دليلا على ما يرون.

كما ذكرت الأحاديث الإسلامية عدم جواز الحيلولة دون سكنى حجّاج بيت الله الحرام في منازل مكّة، حتّى حرّمه قوم، ورآه آخرون مكروهاً.

جاء في رسالة بعث بها الإمام علي (عليه السلام) إلى قثم بن العبّاس والي مكّة آنذاك: «وأمر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول: (سواء العاكف فيه والباد) فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله»(1).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «كانت مكّة ليست على شيء منها باب، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين، معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها».

وذكرت أحاديث أنّ لحجّاج بيت الله الحقّ في إستخدام البيوت المحيطة بالكعبة، ويرتبط هذا الحكم بشكل كبير ببحثنا المقبل، وهو: هل يقصد بالمسجد الحرام في هذه الآية المسجد ذاته أو يشمل مكّة كلّها؟

فإذا سلّمنا بالرأي الأوّل فإنّ الآية السابقة لا تشمل منازل مكّة، وعلى فرض شمولها فإنّ قضيّة حرمة بيع وشراء وإيجار منازل مكّة بالنسبة للحجّاج تكون مطروحة للبحث، إلاّ أنّ هذه القضيّة ليست مؤكّدة في المصادر الفقهيّة والأحاديث والتفاسير، فإنّ الحكم بحرمتها أمر صعب. وما أجدر أهل مكّة بأن يقدّموا جميع التسهيلات الممكنة لحجّاج بيت الله الحرام! وألاّ يضعوا لأنفسهم إمتيازات على الحجّاج حتّى بالنسبة لمنازلهم، ويبدو أنّ الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة وغيره تشير إلى هذه المسألة.

والقول بالتحريم لا يحظى بتأييد واسع من فقهاء الشيعة والسنّة (للإطّلاع أوسع بهذا الصدد يراجع المجلّد العشرين من جواهر الكلام الصفحة الثامنة


1 ـ نهج البلاغة، الرسالة السابعة والستّين.

[317]

والأربعين وما بعدها في أحكام منى).

ولا يحقّ لأحد بإعتبار كونه حامي حرم الله ـ أو أيّة صفة أُخرى ـ مضايقة حجّاج بيت الله، أو اتّخاذ الحجّ والبيت قاعدة لإعلامه وتنفيذ مآربه.

4 ـ ما الذي تعنيه هذه الآية بالمسجد الحرام؟

قال بعض: تعني الكعبة وجميع أجزاء المسجد الحرام. وقال غيره: تشير إلى جميع أنحاء مكّة، بدلالة الآية الأُولى من سورة الإسراء التي تخصّ معراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومضمون هذه الآية أنّ بداية المعراج كانت من المسجد الحرام، في الوقت الذي ذكر المؤرخّون أنّ المعراج بدأ من منزل خديجة أو شعب أبي طالب أو من منزل أم هانىء، وعلى هذا فإنّ المقصود من المسجد الحرام مكّة كلّها(1).