* * *


1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير الميزان، الآيات موضع البحث.

[519]

ملاحظات

1 ـ اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب:

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم، ستتغيّر في عالم الآخرة، ومنها العلاقات الودّية، والأواصر الاُسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة، وأحياناً تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الإجتماعية.

وإذا كان الإنتساب للقبائل والاُسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإنّه ينتفي يوم القيامة، فلا إنتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة، فلا خبر عن الأموال الكثيرة، ولا عن الأولاد (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(1).

حتّى مَن ينتسبون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاضعون لهذا الحكم، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي، إمّا لعدم إيمانه، أو لإنحرافه عن الإسلام الأصيل، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «كل حسب(2) ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ حسبي ونسبي»(3).

يقول العلاّمة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان: إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم، مرّة عن عبدالله بن عمر، وأُخرى عن عمر بن الخطاب، وأحياناً عن صحابة آخرين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

في الوقت الذي نرى أنّ الآية ـ موضع البحث ـ ذات طابع عامّ، فهي تتحدّث


1 ـ الشعراء، 89.

2 ـ الحسب: كلّ فخر للإنسان بالآباء والأجداد. ويعني أحياناً الخُلُق السليم للشخص ذاته، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

3 ـ مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

[520]

عن إنقطاع جميع الأنساب يوم القيامة، وهذا ما تؤازره المبادىء القرآنية وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال. لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: «خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً»(1).

وما ذكر لا ينفي إحترام السادة المتّقين من آل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الإحترام في حقيقته إحترام للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

2 ـ حكاية الأصمعي المؤثّرة:

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها «الغزالي» في كتابه «بحر المحبّة» عن الأصمعي، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالإهتمام.

يقول الأصمعي «كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتاً حنوناً لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة، وكان يقول في مناجاته:

ياسيّدي ومولاي، نامت العيون وغابت النجوم، وأنت ملك حيّ قيّوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك مذنب فقير، خاطيء مسكين، جئتك أرجو رحمتك يارحيم، وأن تنظر إليّ بلطفك ياكريم!

ثمّ أنشد:


1 ـ مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص564).

[521]

يامن يجيب دعا المضطر في الظلم ياكاشف الكرب والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وعين جودك ياقيّوم لم تنم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم

هب لي بجودك فضل العفو عن سرف يامن أشار إليه الخلق في الحرم

ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وناجى:

إلهي سيّدي ومولاي! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنّة عليّ، وإن عصيتك بجهلي فلك الحجّة عليّ.

ورفع رأسه ثانيةً إلى السّماء مناجياً بأعلى صوته: ياإلهي وسيّدي ومولاي، ما طابت الدنيا إلاّ بذكرك، وما طابت العقبى إلاّ بعفوك، وما طابت الأيّام إلاّ بطاعتك، وما طابت القلوب إلاّ بمحبّتك، وما طاب النعيم إلاّ بمغفرتك.

يضيف الأصمعي أنّ هذا الشاب واصل مناجاة ربّه حتّى اُغمي عليه، فدنوت منه وتأمّلت في محيّاه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيراً، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه، فتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ قلت: إنّك من بيت النبوّة ومعدن الرسالة. ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل الله فيكم: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجسل أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).

نهض الإمام السجّاد وقال: ياأصمعي! هيهات هيهات! خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً. ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام الله: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا

[522]

يتساءلون).

يقول الأصمعي: عندما وجدته على هذا الحال، تركته ومضيت لسبيلي(1).

3 ـ تناسب العقاب مع الذنب

أشرنا سابقاً إلى العذاب الإلهي في القيامة، وإلى أنّ الذنوب التي ترتكب تتناسب مع العقاب بدقّة. وقد ذكرت الآيات السابقة إحتراق الوجوه الشديد بلهيب النّار المحرقة، حتّى تكون الوجوه معبّسة والثغور مفتّحة. كلّ ذلك عقاب للذين خفّت موازينهم وإنعدم إيمانهم. ومع التوجّه لهذا المعنى، وهو أنّ هؤلاء كانوا يعبّسون حين سماع الآيات الإلهيّة وأحياناً يسخرون بها. ويجلسون يتحدّثون باستهزاء وتهكّم، فإنّ هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه.

* * *


1 ـ بحر المحبّة ـ للغزالي، صفحة 41 إلى 44 (مع التلخيص).

[523]

الآيات

أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا منْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـلِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا  وَلاَ تُكَلِّمُونِ(108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُم ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110) إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(111)

التّفسير

لا تكلّمون!

تحدّثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النّار، وتناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إستعراض جانب من كلام الله مع أهل النّار، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون)(1).


1 ـ إنّ هذه الجملة في الحقيقة فيها محذوف تقديره (يقول الله تعالى ألم تكن ...).

[524]

ألم اُرسل إليكم آيات وأدلّة واضحة بواسطة رسلي! ألم اُتمّ حجّتي عليكم! ومع كلّ هذا واصلتم تكذيبكم وإنكاركم.

وبملاحظة كون فعلي «تتلى» و «تكذّبون» مضارعان وهما دليل على الإستمرار، فإنّه يتّضح لنا إستمرار تلاوة الآيات الإلهيّة عليهم، وكذلك هم يواصلون التكذيب!

وهم يعترفون في ردّهم (قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالّين).

«الشقوة» و «الشقاوة» نقيض السعادة، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء. أو بتعبير آخر: هي الشرّ والبلاء الذي يصيب الإنسان، بينما تعني السعادة توفّر ظروف النعمة والطيب.

والشقاوة والسعادة ليستا إلاّ نتيجة لأعمالنا وأقوالنا ومقاصدنا، والإعتقاد بأنّ السعادة أو الشقاوة ذاتية للإنسان منذ الولادة، ما هو إلاّ تصوّر يذكر لتسويغ الفرار من عبء المسؤولية والإعتذار من الأعمال المخالفة للحقّ، أو هو تفسير لأعمال الجهل.

ولهذا نرى المذنبين أهل النّار يعترفون بصراحة أنّ الله أتمّ عليهم الحجّة، وأنّهم كانوا السبب في تعاسة أنفسهم، لأنّهم قوم ضالّون.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى الله ورحمته، لهذا يضيفون مباشرةً (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون) يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء، وليست دار عمل، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم الله سبحانه وتعالى بقوّة (قال اخسؤا فيها ولا تكلّمونِ) وعبارة «اخسؤا» التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثمّ يبيّن الله عزّوجلّ دليل ذلك بقوله: هل نسيتم: (إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين). ولكنّكم كنتم تستهزئون

[525]

بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري:

(فاتّخذتموهم سخرياً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون) على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم (إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا إنّهم هم الفائزون).

وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألماً، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقّونه.

وبهذا بيّنت الآيات الأربع الأخيرة السبب الرئيسي لتعاسة أهل النّار، وسبب إنتصار وفلاح أهل الجنّة بشكل صريح.

الفئة الضالّة هي التي كانت وراء تعاستها، فقد هانت حتّى لم تخاطب يوم القيامة إلاّ بما يخاطب به الكلب، لاستهزائهم بأهل الحقّ والإستهانة بمعتقداتهم السامية، فما أجدر المستهزئين بالمؤمنين بهذا المصير!

وأمّا الفئة الصالحة فقد نالت خير جزاء من الله بصبرها وإستقامتها في مواجهة العدو المعاند المغرور المتعنّت، ومواصلتهم الطريق إلى الله بإخلاص.

* * *

[526]

الآيات

قَـلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَسْئَلِ الْعَادِّينَ(113) قَـلَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا  لاَ  تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَـلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)

التّفسير

الدنيا، وعمرها القصير:

بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النّار الأليم، عقّبت الآيات ـ موضع البحث ـ ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي الموجّه من قبل الله تعالى لأهل النّار للإستهانة بهم.

تقول الآية الأُولى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين) يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟

كلمة «الأرض» في هذه الآية وكذلك القرائن التي سوف تأتي لاحقاً تدلّ على أنّ السؤال هو عن مقدار عمرهم في الدنيا بالمقارنة مع أيّام الآخرة.

[527]

فما ذهب إليه بعض المفسّرين: من أنّ المراد من هذا الإستفسار هو عن السؤال مقدار إنتظارهم في عالم البرزخ، بعيد حسب الظاهر، رغم وجود شواهد قليلة على ذلك في آيات أُخرى(1).

إلاّ أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً جدّاً (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم).

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقّة قالوا (فاسأل العادين) أي: ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقّة حين مقارنة بعضها مع بعض، ويمكن أن يكون القصد من كلمة «العادّين» الملائكة الذين يحسبون أعمار الناس وأعمالهم بدقّة، لأنّ هؤلاء يجيدون الحساب أفضل من غيرهم.

وهنا يؤنّبهم الله ويستهزىء بهم (قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنّكم كنتم تعلمون).

فسوف يدركون يوم القيامة مدى قصر عمر الدنيا المحدود بالنسبة لعمر الآخرة الممدود، فالعمر الأوّل ما هو إلاّ كلمحة بصر. ولكنّهم كانوا يتصوّرونه خالداً، لأنّ حجب الغفلة وآثارها قد أسدلت على قلوبهم، فحجبتها عن رؤية الحقّ، فاستهانوا بالآخرة وحسبوها وعداً آجلا بعيداً، لهذا قال لهم الله عزّوجلّ: لو أنّكم كنتم تعلمون لأدركتم هذه الحقيقة التي توصّلتم إليها يوم القيامة في دنياكم(2).


1 ـ نقرأ في سورة الروم الآية (55) و56): (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون) تبيّن هاتان الآيتان أنّ الإستفسار والردّ خاص بالتوقّف في البرزخ، وإذا جعلناه دليلا على الآيات موضع البحث، فمفهومها سيكون أيضاً التوقّف في البرزخ، إلاّ أنّه كما قلنا: إنّ الدلائل الموجودة ـ في الآيات موضع البحث ـ مقدّمة عليها، وإنّها تبيّن أنّ الإستفسار وجوابه يخصّ التوقّف في الدنيا.

2 ـ إن «لو» في الآية السابقة شرطية كما قلنا سابقاً. وهناك جملة تقديريّة محذوفة فتكون «لو أنّكم كنتم تعلمون» لعلمتم أنّكم ما لبثتم إلاّ قليلا، وقال بعض المفسّرين أن «لو» تعني هنا «ليت» وبهذا تكون الجملة بهذا الشكل «ليتكم علمتم بهذا الموضوع في دنياكم».

[528]

وإستعملت الآية اُسلوباً مؤثّراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون) هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد. فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها الله من مناهج ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهمّ يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية (فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم).

فإنّ الذي يقوم بعمل تافه ـ في الواقع ـ هو الجاهل غير الواعي أو الضعيف غير القادر، أو من هو بالذات تافه خاو.

أمّا «الله» الذي جمع الكمال في صفاته.

وهو «الملك» الذي يملك جميع الكائنات ويحكم عليها وهو «الحقّ» الذي لا يصدر منه غير الحقّ، فكيف يخلق الوجود عبثاً بلا غاية.

ولو توهّم أحد الأشخاص بأنّه يمكن أن يوجد من يمنعه من الوصول إلى هدفه، فإنّ عبارة (لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم) تنفي ذلك وتؤكّد ربوبيّته ومفهومها أنّ هذا المالك مصلح وهادف في خلقه للعالم.

وبإختصار نقول: إنّه إضافة إلى ذكر كلمة «الله» التي هي إشارة إلى صفاته الكمالية في ذاته، ذكرت الآية أربع صفات بشكل صريح: مالكية وحاكمية الله، ثمّ حقّانيّة وجوده، وكذلك عدم وجود شريك له، وأخيراً مقام ربوبيّته. وهذا كلّه دليل على أنّه تعالى لا يقوم بعمل عبثاً، كما أنّه لم يخلق البشر عبثاً.

كلمة «العرش» كما أشرنا سابقاً، هي إشارة إلى أنّ عالم الوجود كلّه الخاضع

[529]

لحكم الله (لأنّ العرش في اللغة يعني السرير ذي الأرجل العالية والخاصّ بالحكّام، وهذه كناية عن حكم الله المطلق). وللإطلاع أوسع على معنى العرش في القرآن المجيد يراجع التّفسير الأمثل تفسير الآية 54 من سورة الأعراف.

وسبب توصيف العرش بالكريم، هو أنّ كلمة «الكريم» تعني بالأصل الشريف والمفيد والجيّد، وبما أنّ عرش الله سبحانه وتعالى له هذه الصفات، فقد سمّي بالكريم.

ولابدّ من القول بأنّ صفة الكريم لا تخصّ العاقل فقط، بل تطلق على غيره في اللغة العربية. كما نشاهد ذلك في سورة الحجّ الآية 50 الخاصّة بالمؤمنين الصالحين (لهم مغفرة ورزق كريم) أي رزق ذو بركة. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الكرم لا يقال إلاّ في المحاسن الكبيرة، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمّل حمالة ترقىء دماء قوم.

* * *

بحث

الموت ليس نهاية الحياة:

قلنا: إنّ من بين الأدلّة المطروحة لإثبات المعاد والعالم الآخر هي «مطالعة نظام هذا العالم» أو بتعبير آخر: إنّ دراسة «النشأة الأُولى» شاهد على وجود «النشأة الاُخرى».

ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.

فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش، حتّى إعترف كبار العلماء بأنّ أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزاً إزاءها، فإنّ معلوماته مهما كانت لا تشكّل سوى صفحة من كتاب كبير جدّاً. بل إنّ معلوماتنا عن هذا الوجود ما هي إلاّ «ألفباء» لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.

[530]

فكلّ واحدة من هذه المجرّات العظيمة تضمّ مليارات من الكواكب، وعدد المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها بسرعة الضوء، علماً بأنّ سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثّانية. والدقّة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي إستخدمت في أوسع بناء فيه.

والإنسان ـ بحسب علمنا ـ أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود، وهو أسمى نتاج لهذا العالم، ومن جهة أُخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال عمره القصير حتّى يبلغ أشدّه!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها ويتنفّس الصعداء منها حتّى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلبّاتها الشديدة المدمّرة.

وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتّى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة بألوان الأذى وأنواع المصاعب، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة، فيتّضح له مدى ضعفه وعجزه.

فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الاُعجوبة في الخلق، الذي يسمّى الإنسان، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عدداً من السنين، وليمرّ بكلّ هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب، وليأكل مقداراً من الطعام ويلبس لباساً وينام وينهض ثمّ يموت وينتهي كلّ شيء. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، ألا يعني هذا عبثاً؟

أتكون كلّ هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب والنوم؟

افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا، وتتعاقب الأجيال، وترتقي العلوم الماديّة فتوفّر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من الرفاهية للبشر، أتكون تشكيلات الوجود كلّه من أجل هذه المقاصد الدنيا؟

[531]

وعلى هذا فإنّ دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدّمة لعالم أوسع يمتاز بالدوام الخالد، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها، ويخلصها من التفاهات. ولهذا لا نستغرب من تصوّر الفلاسفة الماديّين الذين لا يعتقدون بالقيامة والآخرة أنّ هذا العالم تافه لا هدف له. ولو كنّا نحن نعتقد بمثل هذا فحسب لأتّجهنا نفس اتّجاههم. ولهذا نؤكّد أنّه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق الوجود يصبح أمراً تافهاً، لهذا نقرأ في الآية (66) من سورة الواقعة (ولقد علمتم النشأة الأُولى فلولا تذكرون)؟!

* * *

[532]

الآيتان

وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ لاَ بُرْهَـنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَـفِرُونَ(117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ(118)

التّفسير

المفلحون والخائبون:

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن قضيّة المعاد، وإستعرضت الصفات الإلهيّة، فانّ الآية الأُولى أعلاه تناولت التوحيد نافيةً الشرك مؤكّدة للمبدأ والمعاد. في قوله تعالى: (ومن يدّع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنّما حسابه عند ربّه)(1).

أجل، إنّ المشركين يستندون إلى الأوهام، فلا دليل على ما يدّعون سوى أنّهم كالببغاء يقلّدون آباءهم في التمسّك بالخرافات والأساطير ـ التي لا أساس


1 ـ وإعتبر بعض المفسّرين عبارة «فإنّما حسابه عند ربّه» جواب الشرط لعبارة «من يدّع مع الله» ويعتبر جملة «لا برهان له به» جملة إعتراضية جاءت بين سؤال الشرط وجوابه. وهي لتأكيد الهدف النهائي. إلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّ عبارة «لا برهان له» جواب الشرط وجملة «فإنّما حسابه» ... فرع عنها، لكنّ هذا الإحتمال لا ينسجم مع الأدب العربي، إذ يستوجب أن يقترن جواب الشرط بالفاء. أي «فلا برهان له، وذهب آخرون إلى أنّ هذه الجملة صفة أو حالا. إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل يبدو أقرب إلى الصواب رغم أنّه لا فرق في المعنى يستحقّ الملاحظة».

[533]

لها من الصحّة ـ ومن هنا ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلّته وإشراق حقيقته، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه. ومن الطبيعي أن يعاقب مثل هؤلاء الذين داسوا حكم العقل بأقدامهم، واتّجهوا في دروب الكفر والشرك المظلمة بوعي منهم.

وفي النهاية تقول الآية: (إنّه لا يفلح الكافرون) ما أجمل بداية هذه السورة (قد أفلح المؤمنون)! وما أجمل نهايتها المؤكّدة لبدايتها (لا يفلح الكافرون)! هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.

وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كإستنتاج عام بأن وجّهت الكلام إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وقل ربّ اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).

والآن وقد إختارت فئة الشرك سبيلا، وجارت فئة أُخرى وظلمت، فأنت ـ أيّها الرّسول ومن معك تدعون الله ربّكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع الكريم.

ولا شكّ في أنّ هذا الأمر بالدعاء شامل لجميع المؤمنين، رغم كون المخاطب به هو النّبي بذاته.

وروي «إنّ أوّل سورة (قد أفلح المؤمنون) وآخرها من كنوز العرش، ومن عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح(1)».

ويحتمل أنّه يقصد الآيات الثلاث التي تلت عبارة (قد أفلح المؤمنون) والتي تدعو إحداها إلى الخشوع في الصلاة، وتدعو الاُخرى إلى إجتناب اللغو وتدعو الثّالثة إلى الزكاة. فإحداها تنظّم علاقة الإنسان بربّه، والاُخرى تنظّم هذه العلاقة مع الناس، والثّالثة مع النفس.

والقصد من الآيات الأربع الأخيرة، هي الآية 115 وما يليها التي تحدّثت


1 ـ تفسير الفخر الرازي في آخر الآيات موضع البحث المجلّد 23 و24 مطبعة البهيّة المصرية ـ القاهرة ـ ص128.

[534]

عن غائيّة الخلق، والمعاد، والتوحيد، وأخيراً الإنقطاع إلى الله والتوجّه إليه.

ربّاه! ندعوك بحقّ المؤمنين الذين وعدتهم في هذه السورة بالفلاح. وفي طليعتهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أن تحشرنا مع هذه الفئة الصالحة وأن تكتبنا مع المفلحين.

ربّاه! مُنَّ علينا برحمتك وغفرانك إنّك أرحم الراحمين.

إلهي! اجعل خاتمة أعمالنا خيراً. واحفظنا من كلّ خطأ وإنحراف، إنّك على كلّ شيء قدير.

ختام تفسير سورة المؤمنين

* * *

نهاية المجلّد العاشر