3 ـ «وعداً» مفعول لفعل مقدّر تقديره: وعدنا.

4 ـ هذه الجملة تتضمّن عدّة تأكيدات، فلفظة الوعد، ثمّ التعبير بـ(علينا) وبعدها التأكيد بـ(إنّا) ثمّ إستعمال الفعل الماضي (كنّا) وكذلك كلمة (فاعلين).

5 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

[254]

الآيتان

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـلِحُونَ(105) إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَـغاً لِّقَوْم عَـبِدِينَ(106)

التّفسير

سيحكم الصالحون الأرض:

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيويّة لهؤلاء، فتقول: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر انّ الأرض يرثها عبادي الصالحون).

وكلمة «الأرض» تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافّة أنحاء العالم إلاّ أن تكون هناك قرينة خاصّة في الأمر، ومع أنّ البعض إحتمل أن يكون المراد وراثة كلّ الأرض في القيامة، إلاّ أنّ ظاهر كلمة الأرض عندما تذكر بشكل مطلق تعني أرض هذا العالم.

ولفظ «الإرث» ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ يعني إنتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن أحياناً بمعنى تسلّط وإنتصار قوم صالحين على قوم طالحين، والسيطرة على مواهبهم

[255]

وإمكانياتهم، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها).

وبالرغم من أنّ «الزبور» في الأصل يعني كلّ كتاب ومقال، ومع أنّ موضعين من المواضع الثلاثة التي إستعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور داود، فلا يُستبعد أن يكون المورد الثّالث، أي ما ورد في الآية محلّ البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

إنّ زبور داود ـ أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) ـ عبارة عن مجموعة أدعية النّبي داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.

وإحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الزبور هنا كلّ كتب الأنبياء السابقين(1).

ولكن يبدو على الأغلب ـ مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه ـ أنّ الزبور هو كتاب مزامير داود فقط، خاصةً وأنّ في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه الآية تماماً، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«والذكر» في الأصل يعني التذكير أو ما يسبّب التذكير والتذكّر، وإستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى، واُطلقت أحياناً على كتاب موسى السماوي، كالآية (48) من سورة النساء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتّقين).

وإستعملت أحياناً في شأن القرآن، كالآية (27) من سورة التكوير: (إن هو إلاّ ذكر للعالمين) ولذلك قال البعض: إنّ المراد من الذكر ـ في الآية مورد البحث ـ هو القرآن، والزبور كلّ كتب الأنبياء السابقين، أي إنّنا كتبنا في كلّ كتب الأنبياء السابقين إضافةً إلى القرآن بأنّ الصالحين سيرثون الأرض جميعاً.


1 ـ نقل هذا الإحتمال في تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي عن عدّة من المفسّرين.

[256]

لكن ملاحظة التعبيرات التي إستعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة، فإنّ تعبير (من بعد) حقيقي، وعلى هذا فإنّ معنى الآية: إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.

وهنا ينقدح سؤال، وهو: لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟

ربّما كان هذا التعبير بسبب أنّ داود كان أحد أكبر الأنبياء، وإستطاع أن يشكّل حكومة الحقّ والعدل، وكان بنو إسرائيل مصداقاً واضحاً للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمّروا دولتهم واستولوا على حكومتهم وورثوا أرضهم.

والسؤال الآخر الذي يُثار هنا هو: من هم عباد الله الصالحون؟

إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتّضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع، فستخطر على الذهن كلّ المؤهّلات، الأهليّة من ناحية التقوى، والعلم والوعي، ومن جهة القدرة والقوّة، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الإجتماعي.

عندما يهيء العباد المؤمنون هذه المؤهّلات والأرضيات لأنفسهم، فإنّ الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا اُنوف المستكبرين في التراب، ويقطعوا أيديهم الملوّثة، فلا يحكمون أرضهم بعدُ، بل تكون للمستضعفين، فيرثونها، فبناءً على ذلك فإنّ مجرّد كونهم مستضعفين لا يدلّ على الإنتصار على الأعداء وحكم الأرض، بل إنّ الإيمان لازم من جهة، وإكتساب المؤهّلات من جهة أُخرى، وما دام مستضعفو الأرض لم يُحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة الأرض وحكمها. ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد: (إنّ في هذا لبلاغاً لقوم عابدين).

لقد إعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي

[257]

جاءت في هذه السورة، أو في كلّ القرآن، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكلّي أيضاً. إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي اُعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.

* * *

بحوث

1 ـ روايات حول ثورة المهدي (عليه السلام)

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهدي (عليه السلام)، كما نرى رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية: «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية: (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال: «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال وواضح، وقلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً، وبناءً على هذا ففي كلّ زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفاً في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات كثيرة جدّاً (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريق السنّة والشيعة، في شأن المهدي (عليه السلام)، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث

[258]

رجلا (صالحاً) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع إختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(1).

وقد نوّهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة: إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام، من أهل السنّة والشيعة قديماً وحديثاً قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهدي (عليه السلام) بلغت حدّ التواتر، وليس لأيٍّ إنكارها بأي وجه، حتّى أنّ كتباً قد أُلّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة.

2 ـ بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود

ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود ـ والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم ـ يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر ـ نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب، فقد بقي هذا القسم مصوناً من تلاعب الأيدي به.

1 ـ فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9: «... لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض، بعد قليل لا يكون الشرّير ..».

2 ـ وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11: «أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

3 ـ وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر: «لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ..».

4 ـ وجاء في هذا المزمور / الجملة 29: «إنّ الصالحين سيرثون الأرض


1 ـ لمزيد الإطّلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).

[259]

وسيسكنون فيها إلى الأبد».

5 ـ وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه: «إنّ الله يعلم أيّام الصالحين، وسيكون ميراثهم أبديّاً»(1).

نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود، إضافةً إلى ورود تعابير أُخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أُخرى.

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين، وتتطابق تماماً مع أحاديث قيام المهدي (عليه السلام).

3 ـ حكم الصالحين قانون تكويني

بالرغم من أنّه يصعب على اُولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجّبرين، قبول هذه الحقيقة بسهولة، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة، وقوانين عالم الخلقة، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين، إلاّ أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قبل أن تكون وعداً إلهيّاً، فإنّها تعتبر قانوناً تكوينيّاً.

توضيح ذلك: إنّ عالم الوجود ـ على حدّ علمنا ـ مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وإرتباط أجزائه.


1 ـ نقلنا هذه الجمل عموماً عن الترجمة الفارسية لكتب العهد العتيق المنشورة (سنة 1878 تحت إشراف الكنيسة المعروفة بـ: مجمع الكتب البريطانية المقدّسة للخارجيين).

[260]

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم، فمثلا: إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة، وكانت حساباتها صحيحة تماماً حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق، لأنّهم إذا إنحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1% من الثّانية، لما كان معلوماً مصير رجال الفضاء!

وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّاً، فهنا ـ وخاصّةً في الكائنات الحيّة ـ سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة، ولا محل للفوضى فيه مطلقاً، فإنّ إختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى إضطراب مؤسف.

وجاء في أخبار الصحف: إنّ شاباً جامعياً قد نسي كل ماضيه تقريباً على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالماً من حيث الجهات الاُخرى، فلم يعرف أخاه ولا اُخته كما كان يتضايق عندما تحتضنه اُمّه وتقبّله، ويتساءل: ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه، وإلى الغرفة التي نشأ فيها، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية، ولوحاته الفنية، إلاّ أنّه يقول: إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر، فكلّ شيء جديد بالنسبة له.

ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة، وهي التي تربط ماضيه بحاضره، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الإختلال الجزئي؟!

هل يستطيع المجتمع الإنساني بإنتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور

[261]

والشقاء أن يعزل نفسه عن تيار نهر عالم الخلقة العظيم، والذي يسير كلّه ببرنامج منظّم؟

ألا تجعلنا مشاهدة الوضع العام للعالم نفكّر في أنّ البشر أيضاً يجب أن يخضعوا لنظام عالم الوجود، شاؤوا أم أبوا، ويقبلوا القوانين المنتظمة العادلة، ويعودوا إلى مسيرهم الأصيل ويكونوا منسجمين وهذا النظام.

إذا ألقينا نظرة على بناء أجهزة بدن الإنسان المختلفة المعقّدة، إبتداءً من القلب والمخ إلى العين والاُذن واللسان، إلى بصيلة الشعر، سنراها جميعاً خاضعة لقوانين وأنظمة وحسابات دقيقة، وإذا كان الأمر كذلك في البدن، فكيف تقدر البشرية أن تستقرّ بدون اتّباع ضوابط ومقرّرات ونظام صحيح وعادل؟

إنّنا نريد بقاء البشرية، ونسعى لذلك، غاية ما في الأمر أنّ مستوى وعي مجتمعنا لم يصل إلى ذلك الحدّ بحيث نعلم أنّ إستمرارنا في هذا الطريق الحالي سينتهي إلى فنائنا، ولكن سنثوب إلى عقولنا تدريجيّاً، ويحصل لنا هذا الإدراك والرشد الفكري.

نحن نريد منافعنا ومصالحنا، ولكنّنا إلى الآن لا نعلم أنّ إستمرار الوضع الحالي سيدمّر مصالحنا ويجعلها هباءً منثوراً، ولكنّا نضع نصب أعيننا الأرقام والإحصائيات الحيّة الناطقة عن سباق التسلّح مثلا، وسنرى أنّ نصف القوى الفكرية والجسمية للمجتمع البشري، ونصف الثروات ورؤوس الأموال الضخمة تهدر في هذا المجال! ولا تهدر فحسب، بل إنّها تسعى إلى فناء وإتلاف النصف الثّاني!

وتزامناً مع إرتفاع سطح وعينا سنرى بوضوح أنّنا يجب أن نعود إلى نظام عالم الوجود العام، ونضمّ صوتنا إليه، ونتّحد معه.

وكما أنّنا جزء من هذا الكلّ فعلا، فيجب أن نكون كذلك من الناحية العملية

[262]

حتّى نستطيع أن نصل إلى أهدافنا في جميع المجالات.

والنتيجة هي: إنّ نظام الخلقة سيكون دليلا واضحاً على قبول نظام إجتماعي صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود(1).

* * *


1 ـ ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ هذا البحث قد كتب في ليلة الخامس عشر من شعبان سنة 1402، والمصادف للميلاد السعيد للإمام المهدي صاحب الزمان(عليه السلام)، فالحمد لله على هذا التقارن.

[263]

الآيات

وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـلَمِينَ(107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءِ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ(109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ(110)وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَـعٌ إِلَى حِين(111) قَـلَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَـنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)

التّفسير

النّبي رحمة للعالمين:

لمّا كانت الآيات السابقة قد بشّرت العباد الصّالحين بوراثة الأرض وحكمها، ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكلّ البشر، فإنّ الآية الأُولى أشارت إلى رحمة وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العامّة، فقالت: (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين) فإنّ عامّة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنّك تكفّلت بنشر الدين الذي يُنقذ الجميع، فإذا كان جماعة قد إنتفعوا به وآخرون لم ينتفعوا، فإنّ

[264]

ذلك يتعلّق بهم أنفسهم، ولا يخدش في عموميّة الرحمة.

وهذا يشبه تماماً أن يؤسّس جماعة مستشفى مجّهزة لعلاج كلّ الأمراض، وفيها الأطباء المهرة، وأنواع الأدوية، ويفتحوا أبوابها بوجه كلّ الناس بدون تمييز، أليست هذه المستشفى رحمة لكلّ أفراد المجتمع؟ فإذا إمتنع بعض المرضى العنودين من قبول هذا الفيض العام، فسوف لا يؤثّر في كون تلك المستشفى عامّة. وبتعبير آخر فإنّ كون وجود النّبي رحمة للعالمين له صفة المقتضى وفاعلية الفاعل، ومن المسلّم أنّ فعلية النتيجة لها علاقة بقابلية القابل.

إنّ التعبير بـ «العالمين» له إطار واسع يشمل كلّ البشر وعلى إمتداد الأعصار والقرون، ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأنّ وجوده رحمة وإمام وقدوة لكلّ الناس إلى نهاية الدنيا، حتّى أنّ هذه الرحمة تشمل الملائكة أيضاً:

ففي حديث شريف مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيّد هذه العمومية، إذ نلاحظ فيه إنّ هذه الآية لمّا نزلت سأل النّبي جبرئيل فقال: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟» فقال جبريل: «نعم إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله: عند ذي العرش مكين»(1).

وعلى كلّ حال، ففي دنيا اليوم حيث ينتشر الفساد والظلم والإستبداد في كلّ جانب، ونيران الحروب مستعرة في كلّ جهة، وأخذت قبضات الجبّارين العتاة بأنفاس المستضعفين المظلومين .. في الدنيا الغارقة في الجهل وفساد الأخلاق والخيانة والظلم والجور .. أجل في مثل هذه الدنيا سيتّضح أكثر فأكثر معنى كون النّبي رحمة للعالمين، وأي رحمة أسمى من أنّه أتى بدين إذا عُمل به فإنّه يعني نهاية كلّ المآسي والنكبات والأيّام السوداء؟


1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.

[265]

أجل، إنّه هو وأوامره، ودينه وأخلاقه كلّها رحمة، رحمة للجميع، وستكون عاقبة إستمرار هذه الرحمة حكم الصالحين المؤمنين في كلّ أرجاء المعمورة.

ولمّا كان أهمّ مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة لذلك هي مسألة التوحيد وتجليّاته، فإنّ الآية التالية تقول: (قل إنّما يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون)؟

وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمّة:

الأُولى: إنّ التوحيد هو الدعامة الأساسيّة للرحمة، وحقّاً كلّما فكّرنا أكثر فستّتضح هذه العلاقة أقوى، التوحيد في الإعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون وفي كلّ شيء.

الثّانية: إنّه بمقتضى كلمة (أنّما) الدالّة على الحصر، فإنّ كلّ دعوات الأنبياء تتلخّص في أصل التوحيد، والمطالعات الدقيقة تبيّن أيضاً أنّ الاُصول، بل وحتّى الفروع والأحكام ترجع أخيراً إلى أصل التوحيد، ولذلك فإنّ التوحيد ـ وكما قلنا سابقاً ـ ليس أصلا من الاُصول وحسب، بل إنّه كالخيط القوي الذي يربط خرز المسبحة، أو الأصحّ أنّه كالروح السارية في البدن.

والنقطة الثّالثة: إنّ المشكلة الأساسيّة في جميع المجتمعات هي التلوّث بالشرك بأشكال مختلفة، لأنّ جملة (فهل أنتم مسلمون) توحي بأنّ المشكلة الأساسيّة هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها، ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كلّ الأصنام، وفي أي شكل كانت، وخاصّة طواغيت البشر!

ثمّ تقول الآية التالية: إنّهم إذا لم يذعنوا ويهتّموا لدعوتنا ونداءاتنا هذه (فإن تولّوا فقل آذنتكم على سواء).

«آذنت» من مادّة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، وجاء أحياناً بمعنى إعلان الحرب، لكن لمّا كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، ولم تكن هناك أرضية

[266]

للجهاد، ولم يكن حكم الجهاد قد نزل، فيبدو من البعيد جدّاً أن يكون معنى هذه الجملة هنا إعلان الحرب، والظاهر أنّ النّبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفّره وإبتعاده عن اُولئك، ويبيّن بأنّه قد يئس منهم تماماً.

وتعبير «على سواء» إمّا أن يكون إشارة إلى أنّي قد أنذرتكم جميعاً وحذّرتكم من العذاب الإلهي على حدّ سواء، لئلاّ يتصوّروا أنّ أهل مكّة أو قريشاً يختلفون عن الآخرين، وأنّ لهم عند الله فضلا أو كرامة. أو أنّه إشارة إلى أنّ النّبي قد بلّغهم جميعاً وبدون إستثناء.

ثمّ يبيّن هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأنّي لا أعلم هل أنّ موعد عذابكم قريب أم بعيد: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) فلا تظنّوا أنّ هذا الوعيد بعيد، فربّما كان قريباً وقريباً جدّاً.

قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو كليهما، ففي الصورة الأُولى هو مختص بعلم الله، ولا يعلم أي أحد تاريخ وقوع القيامة بدقّة حتّى أنبياء الله، وفي الصورة الثّانية والثّالثة يمكن أن يكون إشارة إلى جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته، لأنّ علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هذه الحوادث ليس له صفة فعليّة دائماً، بل له صفة إرادية أحياناً، أي ما دام لم يرد فهو لا يعلم(1).

ثمّ إنّكم لا ينبغي أن تتوهّموا أنّ عقوبتكم إذا تأخّرت فهذا يعني أنّ الله غير مطّلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كلّ شيء، فـ(إنّه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) فإنّ الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث أنّ علمكم محدود عادةً، أمّا بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإنّ الغيب والشهادة، والسرّ والعلن سواء لديه.


1 ـ كما ورد في كتاب الكافي في باب يتعلّق بهذا الشأن أيضاً.

[267]

وكذلك إذا رأيتم أنّ العقوبة الإلهيّة لا تحيط بكم فوراً، فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعلّه إمتحان لكم: (وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين) ثمّ يأخذكم أشدّ مأخذ ويعاقبكم أشدّ عقاب!

لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:

الأُولى: مسألة الإمتحان والإختبار، فإنّ الله سبحانه لا يعجّل في العذاب أبداً حتّى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويُتمّ الحجّة عليهم.

والثّانية: إنّ هناك أفراداً قد تمّ إختبارهم وحقّت عليهم كلمة العذاب حتماً، إلاّ أنّ الله سبحانه يوسّع عليهم النعمة ليشدّد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في النعمة تماماً، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشدّ وآلم، وليحسّوا جيداً بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.

وتتحدّث آخر آية هنا ـ وهي آخر آية من سورة الأنبياء ـ كالآية الأُولى من هذه السورة عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلّ هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مشاهدة كلّ هذا الإعراض (قال ربّ احكم بالحقّ)(1). وفي الجملة الثّانية يوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول: (وربّنا الرحمن المستعان على ما تصفون).

إنّه في الحقيقة ينبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

والتعبير بـ «الرحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامّة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كلّ وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق كلّ هذه النعمة والرحمة؟

وتعبير (المستعان على ما تصفون) يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام


1 ـ لا شكّ أنّ حكم الله سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ) هنا له صبغة التوضيح.

[268]

جمعكم وكثرته، ولا تتصوّروا أنّ كلّ إتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات الله المقدّسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلاّ مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كلّ أشكال الكذب والإفتراء والإتّهام.

نهاية سورة الأنبياء

اللهمّ لا تدعنا وحدنا قبال الشرق والغرب اللذين صمّما جميعاً على إبادتنا، بل نسألك أن تنصرنا كما نصرت نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وهم قلّة ولم تدعهم وحدهم قبال كثرة الأعداء.

اللهمّ إنّك قد بيّنت في هذه السورة المباركة رحمتك الخاصّة على الأنبياء في الشدائد والأزمات وعند تقلّبات الحياة ومصاعبها.

اللهمّ وإنّنا مبتلون في عصرنا وزماننا بمثل تلك الشدائد والأزمات، وانّا لنرجو رحمتك التي خصّصت بها أنبياءك وعبادك الصالحين، فارحمنا وفرّج عنّا..

آمين ربّ العالمين

* * *

[269]

سورة الحجّ

مدنيّة

وعددُ آياتِها ثمان وسَبعُونَ آيةً

«سورة الحجّ»

مضمون سورة الحجّ:

سمّيت هذه السورة بـ «سورة الحجّ» لأنّ جزءاً من آياتها تحدّث عن الحجّ. وهناك إختلاف بين المفسّرين وكتّاب تأريخ القرآن حول مكّيتها أو مدنيّتها. فالبعض يرى أنّها مكيّة باستثناء عدد من آياتها. في الوقت الذي يرى آخرون أنّها مدنية عدا بعض آياتها. وآخرون يرون أنّها مزيجاً من الآيات المكيّة والمدنيّة. إلاّ أنّنا لو أخذنا بنظر الإعتبار إستنتاجاتنا من السور المكية والمدنيّة، أو بتعبير آخر: أجواء هاتين المدينتين وحاجات المسلمين وكيفية صدور تعاليم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم في كلّ من هاتين المنطقتين، لوجدنا أنّ آيات هذه السورة تشبه السور المدنيّة، فالتعاليم الخاصّة بالحجّ، وكذلك التعاليم الخاصة بالجهاد تناسب أوضاع المسلمين في المدينة، مع أنّ تأكيد آيات في هذه السورة للمبدأ والمعاد لا تستبعد ملاءمتها للسور المكيّة.

يقول مؤلّف «تأريخ القرآن» إستناداً إلى «فهرست ابن النديم ونظم الدرر»: إنّ سورة الحجّ نزلت في المدينة، باستثناء آيات منها والتي نزلت بين مكّة والمدينة، ويُضيف: إنّها السورة السادسة بعد المائة التي نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وتقع بعد سورة النور. وقبل سورة المنافقين.

وعلى أي حال فإنّ كون هذه السورة مدنيّة أقوى.

هذا ويمكن تقسيم مواضيعها إلى عدّة أقسام هي:

[272]

1 ـ تضمنّت آيات منها موضوع «المعاد» وأدلّته المنطقية، وإنذار الغافلين عن يوم القيامة ونظائر ذلك التي تبدأ هذه السورة بها لتضمّ جزءاً كبيراً منها.

2 ـ يتضمّن جزء ملحوظ من هذه الآيات جهاد الشرك والمشركين، وجلب إنتباه الناس إلى عظمة الخالق بواسطة معاجز الخلق في عالم الوجود.

3 ـ دعا جزء آخر من هذه السورة الناس إلى الإعتبار بمصير الأقوام البائدة، وما لاقت من عذاب إلهي، ومن هذه الأقوام قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وقوم شعيب وموسى.

4 ـ وتناول جزء آخر منها مسألة الحجّ وتاريخه منذ عهد إبراهيم (عليه السلام)، ومسألة القربان والطواف وأمثالها.

5 ـ وتضمّن الجزء الآخر مقاومة الظالمين والتصدّي لأعداء الإسلام المحاربين.

6 ـ وإحتوى قسم آخر نصائح في مجالات الحياة المختلفة.

7 ـ التشجيع على أعمال الصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوكّل والتوجّه إلى الله (سبحانه وتعالى).

فضيلة تلاوة سورة الحجّ:

جاء في حديث للرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة الحجّ اُعطي من الأجر كحجّة حجّها، وعمرة إعتمرها، بعدد من حجّ وإعتمر فيما مضى وفيما بقي»(1)!

وهذا الثواب والفضل العظيم ليس لمجرد التلاوة اللفظيّة فقط، وإنّما لتلاوة تنير الفكر، وتفكّر يتبعه عمل وتطبيق.


1 ـ مجمع البيان بداية سورة الحجّ.

[273]

ومن يجعل هذه السورة ومضمونها من مبدأ ومعاد وتعليمات تعبّدية أخلاقية ومسائل خاصّة بالجهاد ومقارعة الظالمين، مصباحاً لبصيرته ومنهاجاً لحياته، سيجد نفسه قد إرتبط بجميع المؤمنين السابقين واللاحقين ـ معنوياً وروحيّاً ـ إرتباطاً يُشعره بأنّه شريك في أعمالهم، وهم شركاء في أعماله، دون أن ينقص من أجرهم. وأنّه سيكون همزة وصل بين جميع المؤمنين عبر التاريخ.

وعلى هذا، فلا عجب من مقدار الثواب والأجر الذي نصّ عليه هذا الحديث.

* * *

[274]

الآيتان

يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شِىْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـرَى وَمَا هُم بِسُكَـرَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ(2)

التّفسير

زلزلة البعث العظيمة:

تبدأ هذه السورة بآيتين تشيران إلى يوم البعث ومقدّماته، وهما آيتان تبعدان الإنسان ـ دون إرادته ـ عن هذه الحياة المادية العابرة، ليفكّر بالمستقبل المخيف الذي ينتظره المستقبل الذي سيكون جميلا وسعيداً إن فكّرت فيه اليوم، ولكنّه مخيفٌ حقّاً إن لم تعدّ العدّة له، والآية المباركة: (ياأيّها الناس اتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم). خطاب للناس جميعاً بلا استثناء، فقوله تعالى: (ياأيّها الناس) دليل واضح على عدم التفريق بينهم من ناحية العنصر، واللغة، والزمان، والأماكن الجغرافية، والطوائف، والقبائل. فهو موجّه للجميع: المؤمن والكافر،

[275]

والكبير والصغير، والشيخ والشابّ، والرجل والمرأة، على إمتداد العصور.

وعبارة (اتّقوا ربّكم) خلاصة لجميع برامج السعادة، فهي تبيّن التوحيد في «ربّكم» من جهة والتقوى من جهة أُخرى. وبهذا جمعت البرامج الإعتقادية والعمليّة.

وجملة (إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم) التي جاءت في عدد من الآيات القرآنية، تكرّر هنا الحديث عنها بشكل مختصر، هو أنّ البعث يحدث ثورة وتبدّلا حادّاً في عالم الوجود، الجبال تقتلع من مكانها، وتموج البحار، وتنطبق السّماء على الأرض، ثمّ يبدأ عالم جديد وحياة جديدة، ويسيطر ذعر شديد على الناس يفقدهم صوابهم.

ثمّ بيّنت الآية التالية في عدّة جمل إنعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت) من شدّة الوحشة والرعب.

(وتضع كلّ ذات حمل حملها).

وثالث إنعكاس لهذا الذعر الشديد: (ترى الناس سكارى وما هم بسكارى)وعلّة ذلك هو شدّة العذاب في ذلك اليوم (ولكن عذاب الله شديد) هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.

مسائل مهمّة

1 ـ تحدث هذه الظواهر المذكورة آنفاً بشكل يسير في الزلازل الدنيويّة والأحداث المرعبة، حيث تنسى الاُمّهات أطفالهنّ، وتسقط الحوامل حملهنّ، وترى آخرين كالسكارى قد فقدوا صوابهم، إلاّ أنّ هذا لا يتّخذ طابعاً عاماً. أمّا زلزال البعث فإنّه يصيب الناس جميعاً دون إستثناء.

2 ـ قد تكون هذه الآيات إشارة إلى خاتمة العالم التي تعتبر مقدّمة للبعث، وفي هذه الحالة ستأخذ عبارة «كلّ ذات حمل ... وتذهل كلّ مرضعة» مفهومها

[276]

الحقيقي، إلاّ أنّه يحتمل أنّها تشير إلى زلزال يوم البعث، بدلالة قوله سبحانه: (لكن عذاب الله شديد) والعبارات السابقة تكون كأمثلة. أي إنّ الموقف مرعب لدرجة أنّه لو فرض وجود ذات حمل لوضعت حملها، وتغفل الاُمّهات عن  أطفالهنّ ـ تماماً ـ إن شهدن هذا الموقف.

3 ـ نعلم أنّ كلمة «المرضع» تطلق في اللغة العربية على المرأة التي ترضع ولدها(1)، إلاّ أنّ مجموعة من المفسّرين وبعض اللغويين يقولون: إنّ هذه الكلمة تستخدم بصيغة مؤنثة «مرضعة» لتشير إلى لحظة الإرضاع، أي يطلق على المرأة التي يمكنها إرضاع طفلها كلمة المرضع، وكلمة المرضعة خاصة بالمرأة التي هي في حالة إرضاع طفلها(2).

ولهذا التعبير في الآية أهميّة خاصّة، فشدّة زلزال البعث، ورعبه بدرجة كبيرة، يدفعان المرضعة إلى سحب ثديها من فم رضيعها ونسيانه دون وعي منها.

4 ـ إنّ عبارة (ترى الناس سكارى) إشارة إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب فيها فيقول له: سترى الناس هكذا، أمّا أنت فلست مثلهم، ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين الراسخين في الإيمان الذين ساروا على خطى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّهم في أمان من هذا الخوف الشديد.

5 ـ نقل كثير من المفسّرين ورواة الحديث في خاتمة هذه الآيات حديثاً عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أنّ الآيتان من بداية السورة نزلتا ليلا في غزاة بني المصطلق(3)ـ وهم حي من خزاعة ـ والناس يسيرون، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحثّوا المطي حتّى كانوا حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم. فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلمّا