ويمكن ربط معنى التلاوة بهذه الكلمة، فيقال: التلاوة تشمل التقدير والتصوّر للكلمات، إلاّ أنّها رابطة بعيدة لا أثر لها في كلمات العرب.

أمّا المعنى الذي ذكرناه لتفسير الآية (برامج الأنبياء ومخطّطاتهم للوصول إلى الأهداف الإلهيّة) فإنّه يناسب المعنى الأصلي للكلمة «تمنّى».

وثالث إحتمال في تفسير الآية أعلاه هو ما ذكره بعض المفسّرين ورأى فيه أنّه إشارة إلى بعض الأخطار والوساوس الشيطانية التي تلقى في لحظة عابرة في أذهان الأنبياء الطاهرة النيّرة.

وبما أنّهم معصومون ومنصورون بقوّة غيبيّة وإمدادات إلهيّة، فإنّ الله يمحو أثر هذه الإلقاءات من أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الآيتين الثّانية والثّالثة ممّا نحن بصدده، والقرآن إعتبر هذه الإلقاءات الشيطانية وسيلة إمتحان للكفرة والمؤمنين الواعين على السواء، ولا أثر لها في قلوب الأنبياء لما يمحو الله عنها من إلقاءات الشياطين.

[376]

وبهذا تتّضح ملاءمة التّفسير الأوّل أكثر من غيره، وهي إشارة إلى نشاط الشياطين وما يلقونه على الأنبياء لتعويق عملهم البنّاء، غير أنّ الله يبطل ما يفعلون ويمحو ما يلقون.

2 ـ اُسطورة الغرانيق المختلفة!

جاء في بعض كتب السنّة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عبّاس، مفادها أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشغولا بتلاوة سورة «النجم» في مكّة المكرّمة، وعند ما بلغ الآيات التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثّالثة الاُخرى) ألقى الشيطان على النّبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه: (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى!) أي إنّهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة ومنها ترتجى الشفاعة(1)!

وقد فرح المشركون بذلك، وقالوا: إنّ محمّداً لم يذكر آلهتنا بخير حتّى الآن. فسجد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجدوا هم أيضاً، فنزل جبرائيل (عليه السلام) على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)محذّراً من أنّه لم ينزل هاتين الآيتين وأنّهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه الآيات موضع البحث (وما أرسلنا من قبل من رسول ...) محذّراً الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين(2). ورغم أنّ عدداً من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه ما يحلو لهم للمساس برسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، إلاّ أنّه مختلق يبغي النيل من القرآن وأحاديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهناك أدلّة دامغة عديدة تؤكّد إختلاق شياطين الإنس لهذا الحديث:

أوّلا: ذكر الباحثون ضعف رواته وعدم الثقة بهم، ولا دليل على أنّه من رواية


1 ـ «الغرانيق» جمع غرنوق، على وزن بُهلول، طائر يعيش في الماء أبيض أو أسود اللون، كما جاء بمعان أُخرى «قاموس اللغة».

2 ـ جاء ذكر هذا الحديث نقلا عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة في تفسير الميزان.

[377]

ابن عبّاس. وقد صنّف محمّد بن إسحاق كتاباً أكّد فيه إختلاق الزنادقة لهذا الحديث(1).

ثانياً: ذكرت الكتب الإسلامية أحاديث عديدة عن نزول سورة النجم وسجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولم تذكر شيئاً عن هذا الحديث المختلق. وهذا يدلّ على إضافة هذه الجملة إليه فيما بعد(2).

ثالثاً: تنفي آيات مطلع سورة النجم بصراحة هذه الخرافة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى).

كيف تنسجم هذه الاُسطورة مع هذه الآية التي نزّهت وعصمت الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

رابعاً: استنكرت الآيات التالية للآية التي سمّت أوثان المشركين والأصنام، وبيّنت قبحها وسخفها، فقد ذكرت بصراحة (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتّبعون إلاّ الظنّ وما تهوي الأنفس) وقد جاءهم من ربّهم الهدى، ومع كلّ هذا الذمّ للأصنام، كيف يمكن مدحها؟! إضافةً إلى أنّ القرآن المجيد ذكر بصراحة أنّ الله يحفظه من كلّ تحريف (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(3).

خامساً: إنّ جهاد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأصنام جهاد مستمر طوال حياته ولم يقبل المساومة قطّ.

وقد رفض الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوثان، وبرهنت سيرته المطهّرة على إستنكارها والتصدّي لها، حتّى في أصعب الظروف، فكيف ينطق بمثل هذه الكلمات؟!

سادساً: إنّ الكثير من غير المسلمين الذين لا يعتقدون بأنّ النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)


1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، صفحة 50.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ سورة الحجر، 9.

[378]

مرسل من الله، يعترفون بأنّه إنسان مفكّر واع حقّق أعظم الإنتصارات. فهل يمكن لمن شعاره الأساس «لا إله إلاّ الله»، وجهاده الرافض لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنيّة. وحياته برهان على الإباء ورفض الأصنام، يترك فجأةً سيرته تلك ليشيد بالأوثان؟!.

ومن كلّ هذا نستنتج أنّ اُسطورة الغرانيق من وضع أعداء سذّج ومخالفين لا يخافون الله، اختلقوا هذا الحديث لإضعاف منزلة القرآن والرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لهذا نفى جميع الباحثين الإسلاميين من السنّة والشيعة هذا الحديث بقوّة وإعتبروه مختلقاً(1).

وذكر بعض المفسّرين تبريراً لهذه الإضافة بالقول: على فرض صحّة الحديث، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلو سورة النجم وبلغ (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثّالثة الاُخرى) استغلّ بعض المشركين المعاندين هذه الفرصة، فنادى بلحن خاص «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى» فأشكلوا على الناس بالتشويش على كلام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). إلاّ أنّ الآيات اللاحقة ردّتهم بإدانتها الشديدة لعبادة الأصنام(2).

ويتّضح أنّ بعضهم وجد في اُسطورة الغرانيق نوعاً من الرغبة لدى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كسب الوثنيين إلى صفوف المسلمين، إلاّ أنّ هذا القول يعني إرتكاب هؤلاء المفسّرين خطأً كبيراً، ويدلّ على أنّ هؤلاء المسوّغين للوثنية لم يدركوا موقف الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاءها، رغم أنّ المشهود تاريخيّاً هو رفض الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)العطاء السخيّ من المشركين مقابل العدول عن رسالته الإسلامية .. أو أنّ هؤلاء المبرّرين يتجاهلون ذلك متعمّدين.


1 ـ مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، القرطبي، في ظلال القرآن، تفسير الصافي، روح المعاني، والميزان، وتفاسير أُخرى للآيات موضع البحث.

2 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، صفحة 447 ـ والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكره أيضاً كأمر محتمل.

[379]

3 ـ الفرق بين الرّسول والنبي!

هناك أقوال كثيرة في الفرق بين «الرسول» و «النبي»، وأكثرها قبولا أنّ كلمة الرّسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس، وألاّ يألوا أي جهد في هذا الطريق، وأن يتحمّلوا الصعاب ولا يبالوا بالتضحية بأرواحهم من أجل رسالتهم.

أمّا كلمة «النبي» فقد اشتّقت من «نبّأ» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يُكلّف بإبلاغه بشكل واسع. فهو كالطبيب يراجعه المرضى للعلاج وطلب الدواء، ولكلّ نبي مهمّة تختلف عن مهمة الآخر، وذلك بمقتضى الأحوال والبيئة التي يعيشها كلّ واحد منهم(1).

* * *


1 ـ تحدّثنا في هذا أيضاً في تفسير الآية (124) من سورة البقرة.

[380]

الآيات

وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَة مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْم عَقِيم(55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ(56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَـتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)

التّفسير

الرّزق الحسن:

تحدّثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهيّة، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصّبين قساة.

تقول الآية الأُولى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتّى تأتيهم الساعة

[381]

بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفّار لا الكفّار كلّهم، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصفوف المسلمين. قصدت الآية زعماء الكفّار والمعاندين والمتعصّبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم، بل كانوا في شكّ من القرآن والإسلام، إلاّ أنّ تعصّبهم كان يحول دون توصّلهم إلى الحقيقة.

أمّا «الساعة» فقد ذهب البعض إلى أنّها تعني الموت ونظيره، إلاّ أنّ الآيات اللاحقة بيّنت أنّ القصد ختام العالم وعشيّة يوم القيامة، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد بـ(عذاب يوم عقيم) عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة (الملك يومئذ لله) وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة فقط، بل هو على مدى الزمان، وبما أنّ في الدنيا مالكين وحكّاماً آخرين رغم محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنّها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي، إلاّ أنّه قد يولد تصوّراً بأنّ هناك حكّاماً ملاّكاً غير الله. ولكنّ كلّ هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبتعبير آخر: هناك نوعان من السيادة والملكية: السيادة الحقيقيّة، وهي للخالق على المخلوق، والسيادة الإعتبارية الناتجة عن اتّفاق بين الناس، ويوجد كلا هذان النوعان في الدنيا، ولكن تزول الحكومات الإعتبارية كلّها يوم القيامة،

[382]

وتبقى السيادة الحقيقيّة لخالق العالم(1).

وعلى أي حال، فإنّ الله هو المالك الحقيقي، فهو إذن الحاكم الحقيقي، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات النعيم) الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكلّ الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فاُولئك لهم عذاب مهين) ما أجمل هذا التعبير! عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله، اُولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله. وقد وصف القرآن العذاب بـ«الأليم» و «العظيم» و «المهين» في آيات مختلفة، ليلائم كلّ واحد منه الذنب الذي إقترفه المعاندون!.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين «الإيمان» و «العمل الصالح»، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى «الكفر» و «التكذيب بآيات الله»، وهذا يعني أنّ كلّ منهما متركّب من إعتقاد داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان، حيث إنّ لكلّ عمل إنساني أساساً فكرياً.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، لأنّهم قالوا: ربّنا الله، ودافعوا عن شريعته، فقد إعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: (والذين هاجروا في سبيل الله ثمّ قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً وإنّ الله لهو خير الرازقين).

قال بعض المفسّرين: إنّ «الرزق الحسن» هو النعم التي تشدّ نظر الإنسان إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها، وإنّ الله وحده هو القادر على أن يمنّ


1 ـ الميزان، المجلّد الرّابع عشر، ص433.

[383]

على الإنسان بهذا النوع من الرزق ...

ذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية خلاصته: «لمّا مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم، وإنّ الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً، وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إنّ المقتول في سبيل الله والميّت في سبيل الله شهيد»(1).

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن (ليدخلنّهم مدخلا يرضونه) فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات، وتعوّضهم ـ على أفضل وجه ـ عمّا ضحّوا به في سبيل الله.

وتنتهي هذه الآية بعبارة (وإنّ الله لعليم حليم) أجل، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا تقرّباً إلى الله.

* * *


1 ـ «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المجلّد 11 ـ 12، ص88.

[384]

الآيات

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَـطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(62)

سبب النّزول

رُوي أنّ عدداً من المشركين من أهل مكّة واجهوا المسلمين ولم يبق لإنتهاء شهر المحرّم إلاّ يومان. قال المشركون بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحاربون في شهر المحرّم. ولهذا بدأوا بمهاجمة المسلمين، ورغم الحاح المسلمين عليهم بإيقاف القتال، لم يعطوا اُذناً صاغية لهذا الطلب، فاضطرّ المسلمون إلى قتالهم ببطولة فريدة فنصرهم الله، وهنا نزلت أوّل آية من الآيات المذكورة آنفاً(1).


1 ـ «مجمع البيان» و «الدرّ المنثور» في تفسير الآيات موضع البحث.

[385]

التّفسير

من هم المنتصرون؟

حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله، وما وعدهم الله من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألاّ يتصوّر المرء أنّ الوعد الإلهي يختّص بالآخرة فحسب، تحدّثت الآية ـ موضع البحث ـ في مطلعها عن إنتصارهم في ظلّ الرحمة الإلهيّة في هذا العالم: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمّ بغي عليه لينصرنّه الله) إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حقّ طبيعي لكلّ إنسان.

وعبارة «بمثل» تأكيد لحقيقة أنّ الدفاع لا يجوز له أن يتعدّى حدوده.

عبارة (ثمّ بغي عليه) هي أيضاً إشارة إلى وعد الله بالإنتصار لمن يُظلم خلال الدفاع عن نفسه، وعلى هذا فالساكت عن الحقّ والذي يقبل الظلم ويرضخ له، لم يعده الله بالنصر، فوعد الله بالنصر يخصّ الذين يدافعون عن أنفسهم ويجابهون الظالمين والجائرين، فهم يستعدّون بكلّ ما لديهم من قوّة لمجابهة هذا الظلم. ويجب أن تمتزج الرحمة والسماح بالقصاص والعقاب لتكسب النادمين والتائبين إلى الله، حيث تنتهي الآية بـ(إنّ الله لعفو غفور).

وتطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حقّ القصاص من جهة وأفهمته أنّ العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أُخرى.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: (ذلك بأنّ الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) فما أن يقل من أحدهما حتّى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

كلمة «يولج» مشتقّة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول. وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ تشير إلى التغييرات التدريجيّة المنظمّة تنظيماً تامّاً،

[386]

كمسألة الليل والنهار، فما يقلّ أحدهما إلاّ ليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وربّما تكون إشارة إلى شروق الشمس وغروبها الذي لا يحدث فجأةً بسبب الظروف الجويّة الخاصّة (بالهواء المحيط بالأرض) حيث تمتدّ أشعّة الشمس في البداية نحو طبقات الهواء العليا، ثمّ تنتقل إلى الطبقات السفلى. وكأنّ النهار يلج في الليل ويطرد جيش قوى الظلام.

وعكس ذلك ما يقع حين الغروب، حيث تلملم أشعّة الشمس خيوطها من الطبقات السفلى للأرض، فيسودها الظلام تدريجيّاً حتّى ينتهي آخر خيط من أشعّة الشمس ويسيطر جيش الظلام على الجميع. ولولا هذه الظاهرة، فسيكون الشروق والغروب على حين غرّة، فيلحق الأذى بالإنسان جسماً وروحاً، ويحدث هذا التغيير السريع أيضاً مشاكل كثيرة في النظام الإجتماعي.

ولا مانع من إشارة الآية السالفة الذكر إلى هذين التّفسيرين.

وتنتهي الآية بـ(وإنّ الله سميع بصير) أجل، إنّ الله يلبّي حاجة المؤمنين، ويطّلع على حالهم وأعمالهم، ويعينهم برحمته عند اللزوم. مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحقّ.

وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى حيث تقول: (ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ الله هو العلي الكبير).

إن شاهدتم إنتصار الحقّ وهزيمة الباطل، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.

إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامّة، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حقّ وغيره باطل. وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حقّ أيضاً. أمّا

[387]

غيرها فباطل بمقدار إبتعادها عنه عزّوجلّ(1).

وكلمة «عليّ» مشتقّة من «العلو» بمعنى ذي المنزلة الرفيعة، وتطلق أيضاً على القادر والقاهر الذي لا تقف أمامه قدرة.

أمّا كلمة «الكبير» فهي إشارة إلى سعة علم الله وقدرته، وطبيعي أنّ من يملك هذه الصفات بإمكانه مساعدة أحبّائه وتدمير أعدائه، إذن فليطمئن المؤمنون إلى ما وعدهم الله تعالى.

* * *


1 ـ نقرأ في «الميزان» أنّ إطلاق الحقّ على الله والباطل على غيره، لأنّ الحقّ الذي لم يختلط بباطل أبداً هو الله سبحانه وتعالى، أو لكونه عزّوجلّ مستقلا في حقّانيته والآخرون تابعين له.

[388]

الآيات

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الاَْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63) لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ(64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاَْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(65)وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الاِْنسَـنَ لَكَفُورٌ(66)

التّفسير

دلائل الله في ساحة الوجود:

تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحقّ المطلق، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحقّ المطلق وتقول أوّلا: (ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضّرة).

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن ـ من أثر الجفاف ـ بعد ما نزل

[389]

المطر عليها. فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل (إنّ الله لطيف خبير). وكلمة «لطيف» مشتقّة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته. ولهذا يطلق على الرحمة الإلهيّة الخاصّة لفظ «اللطف». وكلمة «الخبير» تعني المطّلع على الاُمور الدقيقة.

وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض، ثمّ ترتفع خلافاً لقانون جاذبية الأرض، وترى الشمس وتشمّ نسيم الهواء حتّى تصبح نباتاً مثمراً أو شجرة باسقة.

وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافّة لطفاً ورقة لتسمح للبذرة بالحركة والنمو. وهو خبير بجميع الإحتياجات والمراحل التي تمرّ بها هذه البذرة حتّى ترتفع نحو السّماء. يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلا، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة المؤمنين: (وأنزلنا من السّماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض)(1).

الآية التالية تعرض علامة أُخرى على قدرة الله غير المتناهية، وهو قوله سبحانه وتعالى: (له ما في السموات وما في الأرض).

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادراً عليهم، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه: (وإنّ الله لهو الغني الحميد)والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام:

أوّلا: لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء، إلاّ أنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط، وقد غرقوا في الغفلة والغرور. وتغلّب على أصحاب الثروة الطائلة هذه الصفات. أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.


1 ـ بحثنا في تفسير الآية (103) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.

[390]

ثانياً: إنّ الأغنياء غيّر الله تعالى غناهم ظاهري، وإذا كانوا كرماء فإنّ كرمهم في الواقع ليس منهم، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه، فكلّ إمكاناتهم إنّما هي من أنعم الله. فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكلّ حمد وثناء.

ثالثاً: لأنّ الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخّون فائدته، أمّا ربّ العالمين سبحانه وتعالى، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب، ولا إبتغاء فائدة، ولا سدّ حاجة، وإنّما يفعل ذلك كرماً منه ورحمة، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان (ألم تر أنّ الله سخّر لكم ما في الأرض) وجعل تحت إختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. (الفلك تجري في البحر بأمره) إضافةً إلى (ويمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه) فالكواكب والنجوم تسير في مدارات محدّدة بأمر الله سبحانه وتعالى، كلّ ذلك لتسير في فاصلة محدّدة لها عن الكواكب الاُخرى، وتمنع إصطدام بعضها ببعض.

وخلق الله طبقات جويّة حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.

وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم، فقد خلق الأرض آمنة لعباده، فلا تصل إليهم الأحجار السائبة في الفضاء، ولا تصطدم الأجرام الاُخرى بالأرض. وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة (إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم).

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضيّة في الوجود، أي قضيّة الحياة والموت فتقول: (وهو الذي أحياكم) أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة (ثمّ يميتكم)وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم (ثمّ يحييكم) أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم الله عليه قائلة: (إنّ الإنسان لكفور)

[391]

فرغم كلّ ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسّماء، في الجسم والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كلّ الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله!

* * *

ملاحظات

1 ـ الصفات الخاصّة بالله:

بيّنت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها، أربع عشرة صفة من صفات الله (في نهاية كلّ آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم ـ العفو والغفور ـ السميع والبصير ـ العلي والكبير ـ اللطيف والخبير ـ الغني والحميد ـ الرؤوف والرحيم. وكلّ صفة تكمل ما يقترن بها. وتنسجم معها وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية، كما مرّ سابقاً.

2 ـ الآيات تدلّ على توحيد اللّه وعلى المعاد

إنّ الآيات السابقة، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من نصر لعباده المؤمنين، وشاهد على حقّانيته المقدّسة التي إستندت الآيات السالفة الذكر إليها، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد. فإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، ونموّ النبات فيها، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور. ومعظم الآيات عرضت هذه الأدلّة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.

وقوله تعالى: (إنّ الإنسان لكفور) تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر، ففي صيغة المبالغة «كفور» دلالة على هذا العناد، فهذا الإنسان منكر لفضل ربّه مع مشاهدته لآياته العظيمة، ومصرّ على الإنحراف عن هداه ونور رحمته الواسعة.

[392]

3 ـ تسخير الأرض والسّماء للإنسان:

لقد سخّر الله هذه الموجودات للإنسان وذلّلها لمصالحه. (وقد بيّنا هذا الموضوع مفصّلا في تفسير الآية (12) إلى (14) من سورة النحل، وفي تفسير الآية الثّانية من سورة الرعد).

وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم، لأنّها كانت أهمّ وسيلة للنقل والتجارة. ولم تحلّ محلّها أيّة وسيلة أرخص منها حتّى الآن. ولو توقّفت هذه السفن يوماً لاختلّت منافع البشر، فالطرق البريّة لا تسدّ حاجة الإنسان إلى النقل والإنتقال، خاصّةً في العصر الحاضر الزاخر بالإحتياج إلى النفط المحمول في السن التي لا تفتر عن الحركة، لتدير عجلة الصناعة في العالم. ولقد تجلّت هذه النعمة اليوم أكثر، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيّارة في البرّ ناقلة نفط عملاقة، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطيّة لا يستوعب إلاّ مناطق محدودة من العالم.

* * *

[393]

الآيات

لِّكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـزِعُنَّكَ فِى الاَْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيم(67) وَإِن جَـدَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِى كِتَـب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(70)

التّفسير

لكلّ اُمّة عبادة:

تناولت البحوث السابقة المشركين خاصّة، ومخالفي الإسلام عامّة، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادىء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة. وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية، وقوّة في أديانهم، في حين أنّ ذلك لا يشكل ضعفاً إطلاقاً، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الربّاني جلّياً (لكلّ اُمّة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)(1).


1 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات تشير إلى ردّ لما أثاره المشركون من إعتراض قائلين: لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها الله، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لتردّ عليهم.

إلاّ أنّه يستبعد أن تتضمّن هذه الآيات ذلك. لأنّ أكل الميتة لم تسمح به شريعة ـ في الظاهر ـ لما فيه من ضرر، حتّى يأتي القرآن ليؤيّد ذلك ويقول: لكلّ شريعة تعاليمها.

[394]

«المناسك» ـ كما قلنا سابقاً ـ جمع «منسك» أي مطلق العبادات، ومن الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهيّة. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكلّ اُمّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكنّ ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المرتقّية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة: (فلا ينازعنّك في الأمر). فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.

(وادع إلى ربّك إنّك لعلى هدى مستقيم). تخاطب الآية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ياأيّها النّبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالّة، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

فوصف «الهدى» بالإستقامة، إمّا تأكيداً لها، وإمّا إشارة إلى أنّها يمكن أن تتحقّق بطرق مختلفة، قريبها وبعيدها، مستقيمها وملتويها، إلاّ أنّ الهداية الإلهيّة أقربها وأكثرها إستقامة.

ثمّ أضافت الآية (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون) فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثّر فيهم كلامك. فقل لهم: انّ الله أعلم بأعمالكم، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس: (الله يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)(1).

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى: (ألم تعلم أنّ الله يعلم ما في السموات والأرض) و (إنّ ذلك في كتاب).


1 ـ هذه الآية قد تخاطب المخالفين للإسلام والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا فإنّ عبارة (الله يحكم بينكم ...) قول الله على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن تخاطب جميع المسلمين والمخالفين، وعلى هذا تكون هذه الآية ذات بيان خاص موجّه من الله إلى الجميع.

[395]

أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شيء، فهو في تغيير دائم، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة. أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى: (إنّ ذلك على الله يسير).

* * *

[396]

الآيات

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِن نَّصِير(71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا بَيِّنَـت تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(72) يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ(74)