![]() |
![]() |
![]() |
ونقول في الجواب: إنّنا إذا لاحظنا أصل إختيار وحرية إرادة الإنسان، وكون صفاته ومعنوياته وخصائصه الأخلاقيّة قابلة للتغيير، فسيتّضح أن لا تضادّ في الأمر، حيث يمكن تغيير هذه الحالة بالتربية وتزكية النفس.
2 ـ جملة (بل تأتيهم بغتةً فتبهتهم) قد تشير إلى أنّ عذاب القيامة وعقوباتها تختلف جميعها عن عذاب الدنيا، فنقرأ مثلا حول النّار: (نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة)(1)، أو نقرأ في شأن وقود النّار: (وقودها الناس والحجارة)(2).
ومثل هذه التعبيرات توحي بأنّ نار جهنّم تأتي على حين غفلة فتُبهت الناس.
* * *
1 ـ سورة الهمزة، 7.
2 ـ البقرة، 24.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ(42) أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ(43) بَلْ مَتَّعْنَا هَـؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاَْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهِا أَفَهُمُ الْغَـلِبُونَ(44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)
لاحظنا في الآيات السابقة أنّ المشركين والكفّار كانوا يستهزؤون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا دأب كلّ الجهّال المغرورين، إنّهم يأخذون الحقائق المهمّة الجديّة مأخذ الهزل والإستهزاء.
فتقول الآية الأُولى تسلية للنّبي: لست الوحيد الذي يستهزأ به (ولقد
استهزىء برسل من قبلك) ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزؤن به (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون) وبناءً على هذا فلا تدع للغمّ والحزن إلى نفسك طريقاً، وينبغي أن لا تترك مثل أعمال الجاهلين هذه أدنى أثر في روحك الكبيرة، أو تخلّ بإرادتك الحديديّة الصلبة.
وتقول الآية التالية: قل لهم إنّ أحداً لا يدافع عنكم أمام عذاب الله في القيامة، بل وفي هذه الدنيا: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) أي من عذابه، فلو أنّ الله سبحانه لم يجعل السّماء ـ أي الجوّ المحيط بالأرض سقفاً محفوظاً كما مرّ في الآيات السابقة ـ لكان هذا وحده كافياً أن تتهاوى النيازك وتُمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.
إنّ الله الرحمن قد أولاكم من محبّته أن جعل جنوداً متعدّدين لحفظكم وحراستكم، بحيث لو غفلوا عنكم لحظة واحدة لصبّ عليكم سيل البلاء.
ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ كلمة «الرحمن» قد إستعملت مكان (الله) في هذه الآية، أي انظروا إلى أنفسكم كم إقترفتم من الذنوب حتّى أغضبتم الله الذي هو مصدر الرحمة العامّة؟!
ثمّ تضيف: (بل هم عن ذكر ربّهم معرضون) فلا هم يصغون إلى مواعظ الأنبياء ونصحهم، ولا تهزّ قلوبهم نعم الله وذكره، ولا يستعملون عقولهم لحظة في هذا السبيل.
ثمّ يسأل القرآن الكريم: أي شيء يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين والمجرمين في مقابل العقوبات الإلهيّة؟ (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يصحبون)(1) فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ نفسها من1 ـ «يصحبون» من باب الأفعال، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئاً تحت تصرّفهم بعنوان المساعدة والحماية، وهو هنا يعني أنّ هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتياً، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوّة من قبل الله تعالى، ونحن نعلم أنّ أيّة قوّة دفاعية في عالم الوجود إمّا أن تنبع من ذات الشيء، أو تمنح له من قبل الله تعالى. أي أنّها إمّا ذاتية أو عرضية.
العذاب، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.
ثمّ أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمّة، فتقول: (بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتّى طال عليهم العمر) إلاّ أنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حسّ الشكر والحمد، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية الله، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.
ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟ (أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)؟ فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الاُخرى وتذهب، وليس للأفراد الصغار والكبار عمر خالد، والجميع سيصيبهم الفناء، والأقوام الذين كانوا أشدّ منهم وأقوى وأكثر تمردّاً وعصياناً أُودعوا تحت التراب، وفي ظلام القبور، وحتّى العلماء والعظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال (أفهم الغالبون)؟
وقد إختلف المفسّرون في المراد من جملة (إنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها):
1 ـ فقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ الله ينقص تدريجيّاً من أراضي المشركين ويضيفها على بلاد المسلمين. إلاّ أنّه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكّة، ولم يكن للمسلمين تلك الفتوحات، فإنّ هذا التّفسير يبدو غير مناسب.
2 ـ وقال بعض آخر: إنّ المقصود هو خراب وإنهدام الأراضي بصورة تدريجيّة.
3 ـ وبعض يعتبرونها إشارة إلى سكّان الأرض.
4 ـ وذكر بعض أنّ المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصّة.
إلاّ أنّ الأنسب من كلّ ذلك، أنّ المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم المختلفة، والأقوام والأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجيّة ودائمة، ويودعون الحياة الدنيا، وبهذا فإنّه ينقص دائماً من أطراف الأرض.
وقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات التي رويت عن أهل البيت (عليهم السلام)بموت العلماء، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): «نقصانها ذهاب عالمها».
ومن المعلوم أنّ هذه الرّوايات ـ عادةً ـ تبيّن مصاديق واضحة، لا أنّها تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين. وبهذا فإنّ الآية تريد أن تبيّن أنّ موت الكبار والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أنّ محاربة الله تعالى لا تنتج سوى الإندحار.
ثمّ تقرّر الآية حقيقة أنّ وظيفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي، فتوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (قل إنّما أنذركم بالوحي) وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلا على نقص الوحي الإلهي، بل السبب هو (ولا يسمع الصمّ الدعاء إذا ما ينذرون).
إنّ الاُذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام الله، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقاً.
* * *
وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَـوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَـمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ (47)
بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين، تقول الآية الأُولى أعلاه: إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا الله يوماً في الرخاء، ولكن: (ولئن مسّتهم نفحة من عذاب ربّك ليقولنّ ياويلنا إنّا كنّا ظالمين).
كلمة (نفحة) تعني برأي المفسّرين وأرباب اللغة: الشيء القليل، أو النسيم اللطيف، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في نسمات الرحمة والنعمة غالباً، إلاّ أنّها تستعمل في مورد العذاب أيضاً(1).
1 ـ تفسير الفخر الرازي، تفسير في ظلال القرآن، ومفردات الراغب ذيل الآية مادّة (نفحة).
وعلى قول تفسير الكشّاف فإنّ جملة (ولئن مسّتهم نفحة ...) تتضمّن ثلاثة تعابير كلّها تشير إلى القلّة: التعبير بالمسّ، والتعبير بالنفحة، من ناحية اللغة، ومن ناحية الوزن والصيغة أيضاً(1).
والخلاصة: إنّ ما يريد أن يقوله القرآن الكريم هو: إنّ هؤلاء الذين عميت قلوبهم يسمعون كلام النّبي ومنطق الوحي سنين طويلة، ولا يؤثّر فيهم أدنى تأثير، إلاّ أنّهم عندما تلهب ظهورهم سياط العذاب ـ وإن كانت خفيفة يسيرة ـ سيصرخون (إنّا كنّا ظالمين) ألا ينبغي لهؤلاء أن ينتبهوا قبل أن تصيبهم سياط العذاب؟
ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الإضطرارية لا تنفعهم، وإذا ما هدأت فورة العذاب واطمأنّوا فإنّهم سيعودون إلى ما كانوا عليه!
أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقّة، فتقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة).
«القسط» يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثّاني.
وممّا يلفت النظر أنّ «القسط» هنا ذكر كصفة للموازين، وهذه الموازين دقيقة ومنظّمة إلى الحدّ الذي تبدو وكأنّها عين العدالة(2).
ولهذا تضيف مباشرةً: (فلا تظلم نفس شيئاً) فلا ينقص من ثواب المحسنين شيء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شيء.
إلاّ أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقّة في الحساب، بل (وإن كان
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ مع أنّ «موازين» جمع، و «قسط» مفرد، إلاّ أنّ (القسط) مصدر، والمصدر لا يجمع، فليس هنا إشكال.
مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
«الخردل» نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.
وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير (مثقال ذرّة)(1).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد عُبّر في ستّ مواضع من القرآن بـ(مثقال ذرّة)وفي موضعين بـ(مثقال حبّة من خردل). وفي الحقيقة فإنّ الآية آنفة الذكر مع التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.
إنّ كلمة «موازين»، وبصيغة الجمع، وبعدها ذكر وصف «القسط»، وبعده التأكيد على نفي الظلم (فلا تظلم نفس شيئاً) وبعد ذلك ذكر كلمة «شيئاً» ثمّ التمثيل بحبّة الخردل، وأخيراً جملة (وكفى بنا حاسبين) كلّ هذه أدلّة على أنّ حساب يوم القيامة دقيق جدّاً، وخال من أي نوع من الظلم والجور.
أمّا ما المراد من الموازين؟
بعض المفسّرين ظنّوا أنّ هناك موازين كموازين هذه الدنيا تُنصب، ثمّ فرضوا بعد ذلك أنّ لأعمال الإنسان هناك وزناً وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.
إلاّ أنّ الصحيح هو أنّ الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن، ومن المعلوم أنّ لكلّ شيء مقياس وزن متناسب معه، كميزان الحرارة، وميزان الهواء، والموازين الاُخرى الذي يتناسب كلّ منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.
ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمّة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم(2). فنقرأ: «السلام على ميزان الأعمال»! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا الموضوع ذيل الآية (8) من سورة الأعراف.
إنّ ذكر الموازين بصيغة الجمع لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّ رجال
1 ـ الزلزال، 7.
2 ـ بحار الأنوار، ج7، ص252.
الحقّ كلّ منهم ميزان لأعمال البشر، فمضافاً إلى أنّ جميعهم ممتازون، فإنّ لكلّ منهم إمتيازاً خاصّاً بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياساً ومثلا. وبتعبير آخر: فإنّ كلّ من يشبه هؤلاء إلى حدّ ما، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء، فإنّ وزنه سيثقل بذلك المقدار، وكلّما إبتعدت وإختلفت فسيخفّ وزنه.
* * *
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50)
ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة باُمور تربوية بالغة الأثر، وتوضّح البحوث السابقة حول نبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الاُصول المشتركة الحاكمة عليها.
تقول الآية الأُولى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتّقين).
«الفرقان» يعني في الأصل الشيء الذي يميّز الحقّ عن الباطل، وهو وسيلة لمعرفة الإثنين. وقد ذكروا هنا تفاسير متعدّدة في المراد من الفرقان في هذه الآية.
فقال بعضهم: إنّ المراد التوراة.
والبعض إعتبره إنشقاق البحر لبني إسرائيل، والذي كان علامة واضحة على
عظمة الحقّ وأحقّية موسى. في حين أنّ البعض إعتبره إشارة إلى سائر المعجزات والدلائل التي كانت بيد موسى وهارون(عليهما السلام).
غير أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها مطلقاً، لأنّ من الممكن أن يكون الفرقان إشارة إلى التوراة، وإلى سائر معجزات ودلائل موسى (عليه السلام).
وقد أطلق الفرقان في سائر الآيات على نفس القرآن أيضاً، مثل: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)(1)
وأحياناً يعبّر عن الإنتصار الإعجازي الذي ناله النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال في شأن معركة بدر: (يوم الفرقان)(2)
أمّا كلمة «الضياء» فتعني النور الذي ينبع من ذات الشيء، ومن المسلّم أنّ القرآن والتوراة ومعجزات الأنبياء كانت كذلك(3).
«الذكر» هو كلّ موضوع يبعد الإنسان عن الغفلة، وهذا أيضاً من آثار الكتب السماوية والمعجزات الإلهيّة الواضحة.
إنّ ذكر هذه التعابير الثلاثة متعاقبة ربّما كان إشارة إلى أنّ الإنسان من أجل أن يصل إلى هدفه يحتاج أوّلا إلى الفرقان، أي أن يشخّص الطريق الأصلي عند مفترق الطرق، فإذا شخّص طريقه يحتاج إلى ضياء ونور ليتحرّك في ذلك الطريق ويستمرّ فيه، وقد تعترضه موانع أهمّها الغفلة، فيحتاج إلى ما يذكره ويحذّره دائماً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود لفظ «الفرقان» معرفةً، وورود كلمتي [ضياءً وذكراً] نكرتين في الآية محلّ البحث، وعُدّ أثرهما خاصّاً بالمتّقين، ولعلّ هذا التفاوت إشارة إلى أنّ المعجزات والخطابات السماوية تضيء الطريق للجميع، إلاّ أنّ من ينتفع من الضياء والذكر ليس جميع الناس، بل الذين يحسّون بالمسؤولية،
1 ـ الفرقان، 1.
2 ـ الأنفال، 41.
3 ـ لقد أوضحنا الفرق بين «الضياء» و «النور» بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (5) من سورة يونس.
وعلى جانب من التقوى.
ثمّ تعرف الآية التالية المتّقين بأنّهم (الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون).
ولكلمة «الغيب» هنا تفسيران: الأوّل: إنّه إشارة إلى ذات الله المقدّسة، أي مع أنّ الله سبحانه غائب عن الأنظار، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل، ويحسّون بالمسؤولية أمام ذاته المقدّسة.
والآخر: إنّ المتّقين لا يخافون الله في العلانية وبين المجتمع فقط، بل يعلمون أنّه حاضر وناظر إليهم حتّى في خلواتهم.
وممّا يلفت النظر، أنّه عبّر عن الخوف أمام الله بالخشية، وفي شأن القيامة بالإشفاق، إنّ هذين اللفظين وإن كان كلاهما بمعنى الخوف، إلاّ أنّ «الخشية» ـ على قول الراغب في المفردات ـ تقال في موضع يمتزج فيه الخوف بالإحترام والتعظيم، كخوف الابن من أبيه الموقّر، وبناءً على هذا فإنّ خوف المتّقين ممتزج بالمعرفة.
وأمّا «الإشفاق» فيعني الإهتمام والحبّ المقترن بالخوف، وهذا التعبير يستعمل أحياناً في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبّهم الإنسان، إلاّ أنّه يخاف عليهم في الوقت نفسه من تعرّضهم للبلايا والأمراض مثلا. وفي الواقع فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب والرحمة، إلاّ أنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب الله فيه.
ويمكن أن تستعمل هاتان الكلمتان أيضاً في معنى واحد.
وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)؟ ولماذا الإنكار؟ لأنّه ذكر لكم ومصدر وعيكم ويقظتكم وتذكيرهم؟ ألأنّه مصدر البركة وفيه خير الدنيا وخير الآخرة، ومنبع الإنتصارات والسعادات؟ فهل يُنكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقّيته
فيه، وقد سطعت نورانيّته، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!
ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق، ثمّ نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا اُسوة ومثلا حسناً للآخرين، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.
* * *
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـلِمِينَ(51) إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَـبِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِى ضَلَـل مُّبِين(54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ الَّلـعِبِينَ(55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّـهِدِينَ(56) وَتَاللهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَـمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58)
قلنا: أنّ هذه السورة تحدّثت ـ كما هو معلوم من إسمها ـ عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء ـ ستّة عشر نبيّاً ـ فقد اُشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارون (عليهما السلام)، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانباً
مهمّاً من حياة إبراهيم (عليه السلام) ومواجهته لعبدة الأصنام، فتقول أوّلا: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين).
«الرشد» في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة. وقد يكون إشارة إلى كلّ خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.
والتعبير بـ(من قبل) إشارة إلى ما قبل موسى وهارون(عليهما السلام).
وجملة (وكنّا به عالمين) إشارة إلى مؤهّلات وإستعدادات إبراهيم لإكتساب هذه المواهب، وفي الحقيقة إنّ الله سبحانه لا يهب موهبة عبثاً وبلا حكمة، فإنّ هذه المؤهّلات إستعداد لتقبّل المواهب الإلهيّة، وإن كان مقام النبوّة مقاماً موهوباً.
ثمّ أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيم (عليه السلام)، فقالت: إنّ رشد إبراهيم قد بان عندما قال لأبيه وقومه ـ وهو إشارة إلى عمّه آزر، لأنّ العرب تسمّي العمّ أباً ـ ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).
لقد حقّر إبراهيم (عليه السلام) الأصنام التي كان لها قدسيّة في نظر هؤلاء بتعبير (ما هذه)(1) أوّلا، وثانياً بتعبير (التماثيل) لأنّ التمثال يعني الصورة أو المجسّمة التي لا روح لها. ويقول تاريخ عبادة الأصنام: إنّ هذه المجسّمات والصور كانت في البداية ذكرى للأنبياء والعلماء، إلاّ أنّها إكتسبت قدسيّة وأصبحت آلهة معبودة بمضيّ الزمان.
وجملة (أنتم لها عاكفون) بملاحظة معنى «العكوف» الذي يعني الملازمة المقترنة بالإحترام، توحي بأنّ اُولئك كانوا يحبّون الأصنام، ويطأطئون رؤوسهم في حضرتها ويطوفون حولها، وكأنّهم كانوا ملازميها دائماً.
1 ـ إنّ التعبير بـ (ما) في مثل هذه الموارد يشير عادةً إلى غير العاقل، واسم الإشارة القريب أيضاً يعطي معنى التحقير أيضاً، وإلاّ كان المناسب الإشارة إلى البعيد.
إنّ مقولة إبراهيم (عليه السلام) هذه في الحقيقة إستدلال على بطلان عبادة الأصنام، لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسّمة والتمثال، والباقي خيال وظنّ وأوهام، فأي إنسان عاقل يسمح لنفسه أن يوجب عليها كلّ هذا التعظيم والإحترام لقبضة حجر أو كومة خشب؟ لماذا يخضع الإنسان ـ الذي هو أشرف المخلوقات ـ أمام ما صنعه بيده، ويطلب منه حلّ مشاكله ومعضلاته؟!
إلاّ أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم ـ في الحقيقة ـ جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم، ولهذا (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين).
ولمّا كانت حجّتهم بأنّ «هذه العبادة هي سنّة الآباء» غير مجدية نفعاً .. ولا نمتلك دليلا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة، بل القضيّة على العكس غالباً، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن، فأجابهم إبراهيم مباشرةً فـ(قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).
إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات، والحاكي عن الحزم التامّ سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلا، ويتوجّهوا إلى التحقّق من قول إبراهيم، فأتوا إلى إبراهيم (قالوا أجئتنا بالحقّ أم أنت من اللاعبين) لأنّ اُولئك الذين كانوا قد إعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتميّة، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحداً يخالفها بصورة جديّة، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّباً.
إلاّ أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة: (قل بل ربّكم وربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين).
إنّ إبراهيم (عليه السلام) قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحقّ العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكلّ الموجودات، أمّا قطع الحجر والخشب المصنوعة فهي لا شيء، وليس لها حقّ العبادة، وخاصةً وقد أكّد بجملة (وأنا على ذلكم من الشاهدين) فأنا لستُ الشاهد الوحيد على هذه الحقيقة، بل إنّ كلّ العقلاء الذين
قطعوا حبل التقليد الأعمى شاهدون على هذه الحقيقة.
ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنّه يتقبّل كلّ ما يترتّب على ذلك بكلّ وجوده، أضاف: (وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين).
«أكيدنّ» مأخوذة من الكيد، وهو التخطيط السرّي، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واُحطّم هذه الأصنام!
إلاّ أنّ عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربّما كانت قد بلغت حدّاً لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجدّ، ولم يظهروا ردّ فعل تجاهه، وربّما ظنّوا بأنّ أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدّسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدّسات تماماً، بأيّة جرأة؟ وبأيّة قوّة؟!
ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرّاً في نفسه، أو بيّنها لبعض بصورة خاصّة لا داعي له، خاصّةً وأنّه مخالف تماماً لظاهر الآية. إضافةً إلى أنّنا سنقرأ بعد عدّة آيات أنّ عبّاد الأصنام قد تذكّروا قول إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدّث عن مؤامرة ضدّ الأصنام.
على كلّ حال، فإنّ إبراهيم نفّذ خطّته في يوم كان معبد الأوثان خالياً من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضراً.
وتوضيح ذلك: إنّه طبقاً لنقل بعض المفسّرين، فإنّ عبدة الأوثان كانوا قد اتّخذوا يوماً خاصّاً من كلّ سنة عيداً لأصنامهم، وكانوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثمّ يخرجون من المدينة أفواجاً، وكانوا يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في إعتقادهم.
وكانوا قد عرضوا على إبراهيم أن يخرج معهم، إلاّ أنّه إعتذر بالمرض ولم
يخرج معهم.
على كلّ حال، فإنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل وما سيحدث من غضب عبدة الأصنام العارم، دخل الميدان برجولة وتوجّه إلى حرب هذه الآلهة الجوفاء ـ التي لها أنصار متعصّبون جهّال ـ بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول: (فجعلهم جذاذاً إلاّ كبيراً لهم) وكان هدفه من تركه (لعلّهم إليه يرجعون)(1).
* * *
صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر، إلاّ أنّ الصنم والصنمية ـ من وجهة نظر ـ لها مفهوم واسع يشمل كلّ ما يُبعد الإنسان عن الله، بأي شكل وصورة كان، حيث يقول الحديث المعروف: «كلّما شغلك عن الله فهو صنمك».
وفي حديث عن الأصبغ بن نباتة ـ وهو أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام)المعروفين أنّه قال: انّ علياً (عليه السلام) مرّ بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله»(2).
1 ـ قال كثير من المفسّرين: إنّ مرجع ضمير (إليه) إلى إبراهيم، وقال البعض إنّ المراد هو الصنم الكبير، إلاّ أنّ الأوّل يبدو هو الأصحّ.
أمّا ما نقرؤه في الآية آنفة الذكر من أنّه كان أكبرهم، فيمكن أن يكون إشارة إلى كبره الظاهري، أو إشارة إلى إحترامه من قبل عبّاد الأصنام الخرافيين، أو إلى الإثنين معاً.2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
ممّا يلفت النظر أنّ عبدة الأصنام قالوا في جواب إبراهيم (عليه السلام)، إعتماداً على كثرتهم، وعلى طول الزمان: إنّا وجدنا آباءنا على هذا الدين. فأجابهم على كلا الشقّين، بأنّكم كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين دائماً. أي إنّ الإنسان العاقل الذي له تفكير مستقل لا يربط نفسه بمثل هذه الأوهام مطلقاً، فلا يعتبر كثرة الأنصار للمذهب المتداول دليلا على أصالته، وكذلك لا يعتنى بدوامه وتجذّره.
* * *
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّـلِمِينَ(59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَهِيمُ(60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61) قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَابِآلِهَتِنَا يَـإِبْرَهِيمُ(62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ(63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظّلِمُونَ(64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاَءِ يَنطِقُونَ(65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(67)
وأخيراً إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى المعبد مباشرةً، حتّى يظهروا ولاءهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبرّكت ـ
بزعمهم ـ بمجاورة الأصنام. فما أن دخلوا المعبد حتّى واجهوا منظراً أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلاًّ من الأيادي والأرجل المكّسرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و (قالوا من فعل هذا بآلهتنا)(1)؟! ولا ريب أنّ من فعل ذلك فـ(إنّه لمن الظالمين) فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.
إلاّ أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيم (عليه السلام) وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! (قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال لهم إبراهيم)(2).
صحيح أنّ إبراهيم ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ كان شاباً، وربّما لم يكن سنّه يتجاوز (16) عاماً، وصحيح أنّ كلّ خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ مراد عبّاد الأصنام لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إنّ إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إنّ فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا ... أي إنّه فرد مجهول تماماً، ولا شخصيّة له في نظرهم.
إنّ المألوف ـ عادةً ـ عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع، و (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون)عليه بالجريمة.
1 ـ إعتبر بعض المفسّرين (من) هنا موصولة، إلاّ أنّ ملاحظة الآية التالية التي هي في حكم الجواب، فسيظهر أنّ (من) هنا إستفهامية.
2 ـ كما أشرنا سابقاً: إنّ الوثنيين لم يكونوا مستعدّين للقول: إنّ هذا الفتى كان يعيب الآلهة، بل قالوا فقط: إنّه كان يتحدّث عن الأصنام.
وإحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم، لا الشهادة على كونه مجرماً. غير أنّ الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق والإستجواب تنفي هذا الإحتمال، إضافةً إلى أنّ التعبير بـ«لعلّ» لا يناسب المعنى الثّاني، لأنّ الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتماً، فلا معنى لـ«لعلّ».
فنادى المنادون في نواحي المدينة: «ليحضر كلّ من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام»، فإجتمع كلّ الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتّهم؟
لقد حدثت ضجّة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأنّ هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شابّ مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزّت البناء الديني للناس.
وأخيراً تشكّلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، ويقول بعض المفسّرين: أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم (عليه السلام) هو أن: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم)؟
هؤلاء لم يكونوا مستعدّين حتّى للقول: أأنت حطّمت آلهتنا وجعلتها قطعاً متناثرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟
فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون).
إنّ من اُسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، [وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].
![]() |
![]() |
![]() |