1 ـ يؤتى بعلامة التأنيث في حالة أن يكون للكلمة تذكير وتأنيث، إلاّ أنّ الحمل والإرضاع خاصين بالنساء، لهذا لا حاجة لهما بتاء التأنيث وأمثالها.

2 ـ يراجع قاموس اللغة، وتفسير الكشّاف، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير الميزان.

3 ـ وقعت هذه الغزوة في شهر شعبان في السنة السادسة للهجرة.

[277]

أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام، والناس بين باك حزين أو جالس يتفكّر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتدرون أي يوم ذاك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذاك يوم يدخل الناس من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار، وواحد إلى الجنّة»! فكبر ذلك على المسلمين وبكوا بشدّة! وقالوا: فمن ينجو يارسول الله؟ فأجابهم بأنّ المذنبين الذين يشكّلون الأكثرية هم غيركم. ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة» فكبّروا، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة» فكبّروا، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وإنّ أهل

الجنّة مائة وعشرون صفّاً، ثمانون منها اُمّتي»(1).

* * *


1 ـ بتلخيص عن تفسير مجمع البيان، وتفسير نور الثقلين، وتفاسير أُخرى.

[278]

الآيتان

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـن مَّرِيد(3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4)

التّفسير

أتباع الشيطان!

بعد أن أعطت الآيات السابقة صورة لرعب الناس حين وقوع زلزلة القيامة، أوضحت الآيات اللاحقة حالة اُولئك الذين نسوا الله، وكيف غفلوا عن مثل هذا الحدث العظيم، فقالت: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم).

نجد هؤلاء الناس يجادلون مرّة في أساس التوحيد ووحدانيّة الحقّ تبارك وتعالى، وفي إنكار وجود شريك له. ومرّة يجادلون في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث والنشور، ولا دليل لهم على ما يقولون.

قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في «النضر بن الحارث» الذي كان من المشركين المعاندين، وكان يصرّ على القول بأنّ الملائكة بنات الله، وأنّ القرآن مجموعة من أساطير السلف تنسب إلى الله، كما كان ينكر الحياة بعد الموت.

[279]

والبعض الآخر من المفسّرين يعتقد أنّ هذه الآية إشارة إلى جميع المشركين الذين يجادلون في التوحيد وفي قدرة الله.

إلاّ أنّ سبب النّزول لا يمكنه أن يضيّق مفهوم هذه الآية، فهذان القولان يصبّان في معنى واحد، يشمل جميع الذين يشتركون في جدال مع الله تعالى، إمّا عن تقليد أعمى، وإمّا عن عصبية، أو لإتّباع الخرافات، أو الأهواء النفسية.

ثمّ تضيف هذه الآية (ويتّبع كلّ شيطان مريد) فهؤلاء الأشخاص الذين لا يتّبعون منطقاً أو علماً، وإنّما يتّبعون كلّ شيطان عنيد ومتمرّد، ولا يخضعون لشيطان واحد، بل لجميع الشياطين! شياطين الإنس والجنّ، الذين لكلّ منهم برنامجه وأحابيله وشراكه.

وكلمة «مريد» مشتقّة من «مَرَدَ» وأصلها الأرض المرتفعة التي لا نبت فيها. وتطلق أيضاً كلمة «أمرد» على الشجرة الجرداء، ولهذا تطلق أيضاً على كلّ صبي لم ينبت الشعر في وجهه، وهنا يقصد بـ«المريد» الشخص الذي خلا من أي خير وسعادة. وطبيعي أن يكون مثل هذا الشخص عنيداً وظالماً وعاصياً. وبهذا يتّضح مصير الإنسان الذي يتّبع الشيطان الخالي من كلّ خير!!

ومن هنا كانت الآية اللاحقة (كتب عليه أنّه من تولاّه فإنّه يضلّه ويهديه إلى عذاب السعير)(1).

* * *

ملاحظات

1 ـ الجدال في الحقّ والباطل

رغم أنّ كلمة «المجادلة» تعني في عرف الناس البحث غير المنطقي، فإنّ


1 ـ «السعير» مشتقّة من «سَعَرَ» بمعنى لهب النّار، وتعني هنا نار جهنّم الحارقة. التي تمتاز بأنّها أكثر حرقاً من أي نار.

[280]

أصلها اللغوي ليس كذلك. بل تعني أي نقاش كان. لهذا نرى القرآن يوصي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن)(1) أي جادل مخالفيك بأفضل اُسلوب.

2 ـ جدال الباطل سبيل الشيطان

يرى بعض كبار المفسّرين أنّ عبارة (يجادل في الله بغير علم) إشارة إلى أقوال المشركين التي تفتقد السند والدليل. وعبارة (ويتّبع كلّ شيطان مريد)إشارة إلى أفعال المشركين الخاطئة.

ويرى آخرون أنّ العبارة الأُولى تشير إلى إعتقاداتهم الفاسدة والخرافية. أمّا العبارة الثّانية فتشير إلى سلوكياتهم الخاطئة والمنحرفة.

وبما أنّ الآية السابقة والتالية هذه الآية، تناولتا الاُسس الإعتقادية، فلا يستبعد أن تشير هاتان الجملتان إلى حقيقة واحدة، أو بتعبير آخر: تتضمنّان طرفي موضوع واحد ـ نفيه وإثباته ـ فالعبارة الأُولى تقول: (يجادل في الله بغير علم) أي يجادل في الله وقدرته تقليداً لأحد، أو عصبيّة، أو هوى نفس، والعبارة الثّانية تشير إلى أن من لا يتّبع العلم والمعرفة، فمن الطبيعي أنّه يتّبع كلّ شيطان طاغ عنيد.

3 ـ لماذا أي شيطان كان؟

إنّه ممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يقل أنّ هذا الشخص يتّبع الشيطان، بل ذكر أنّه يتّبع أي شيطان عنيد كان، وهذا يشير إلى تعدّد مناهج ومكائد الشياطين، فكلّ منهم إختار لنفسه مكيدة خاصّة، وهذه المكائد والفخاخ متنوّعة ومتكثّرة إلى حدّ


1 ـ النحل، 125.

[281]

يكون من العسير تشخيصها، إلاّ المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته: (إلاّ عبادك منهم المخلصين)(1).

ولابدّ من الإنتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلاّ أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرةً، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة (كتب عليه)(2).

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام»، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلاّ أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج إختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعانده بملء إرادته، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات: كُتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة، فهل يعني ذلك جبراً؟!

* * *


1 ـ سورة الحجر، 40.

2 ـ قال البعض: إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان، وقال آخرون: إنّه يعود إلى اتّباع الشيطاع. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضاً، إلاّ أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولاّه» يعود إلى الشيطان أيضاً.

[282]

الآيات

يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِن مُّضْغَة مُّخَلَّقَة وَغَيْرِ مُخَلَّقَة لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاَْرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْم شَيْئاً وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(6) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ(7)

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنبات:

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

[283]

الجسماني: أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صوراً للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا، ويرونه باُمّ أعينهم، إلاّ أنّهم لم ينتبهوا لذلك، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضرباً من الخيال، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة)(1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل (لنبيّن لكم).

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل (ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام اُمّهاتكم.

(ثمّ نخرجكم طفلا) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون اُمّهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء، وإمكانات واسعة جدّاً، إلاّ أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف، ألا وهو الرُّشد والكمال الجسمي والعقلي. (ثمّ لتبلغوا أشدّكم).

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوّة، والتبعيّة إلى الإستقلال، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم: (ومنكم من يتوفّى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر).

أجل، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئاً، حيث يسيطر عليه النسيان،


1 ـ «المضغة» مشتّقة من «المضغ» وتعني مقداراً من اللحم يمكن للإنسان مضغهُ في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

[284]

ويصبح في وضع وكأنّه طفل (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة إنتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الإنفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات، فتبيّن ما يلي: تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء إهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج)(1).

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه، وذلك بإستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما إستعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ (ذلك بأنّ الله هو الحقّ) وبما أنّه هو الحقّ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضاً، لهذا لا يمكن أن يكون


1 ـ «الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال: إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«إهتزّت» مشتقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.

«ربت» مشتقّة من «الربو» وتعني الزيادة والنمو، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقة أيضاً من «الربو».

«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

[285]

هذا الخلق دون هدف، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر: (وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا)(1).

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثاً، وأنّ لها هدفاً، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتماً.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا (وأنّه يحيي الموتى). إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2)؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم (وأنّه على كلّ شيء قدير) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباساً جديداً من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهيةً تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحلّ بلا شكّ فيها (وإن الساعة آتية لا ريب فيها).

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي (وأنّ الله يبعث من في القبور).


1 ـ سورة ص، 27.

2 ـ يرى بعض المفسّرين في عبارة (أنّه يحيي الموتى) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمنّته عبارة (وأنّ الله يبعث من في القبور) أيضاً، مع فارق هو أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى أصل الحياة، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلاّ أنّ التّفسير الآخر الذي إستندنا إليه بصورة أكثر، هو أنّ عبارة (أنّه يحيي الموتى) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا، ليكون دليلا على إمكان تحققّ ذلك يوم البعث.

[286]

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة، وبعضها ذو المقدّمة، البعض منها إشارة إلى الإمكان، والآخر إشارة إلى الوقوع، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب، بل إنّه سيقع حتماً.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات باُمّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟ فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الاُمور، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له، وإلاّ فإنّه باطل تافه، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر، وسيع، خالد، جدير بأن يعدّ هدفاً للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه:

المرحلة الأُولى: عندما كان الإنسان تراباً، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدم (عليه السلام). كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب، لأنّ جميع المواد

[287]

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءاً ملحوظاً من جسم الإنسان، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون، وليس من التراب، إلاّ أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتماً.

المرحلة الثّانية: (النطفة): يتحوّل التراب، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة، وتكون خلاياه كحبّات التوت، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة، يطلق عليها علميّاً «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه. وفجأةً تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّاً، ويسقط كلّ جنين

[288]

 لا يمكنه المرور بهذه المرحلة، ويمكن أن تكون عبارة (مخلّقة وغير مخلّقة)إشارة إلى هذه المرحلة، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة (لنبيّن لكم) بعد ذكر هذه المراحل الأربع، مؤكّداً أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1).

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائناً حيّاً، قفزة كبيرة، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة، وولادة الإنسان من بطن اُمّه قفزة مهمّة جدّاً، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث، قد يكون إشارةً إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضاً. وما أجدرنا بالإنتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يُوحى من قُدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسماً وروحاً في العالم الاُخروي، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.


1 ـ الذي يثير الإنتباه أنّ تعبير القرآن (ثمّ نخرجكم طفلا) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقاً للقاعدة، إلاّ أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدراً يتساوى فيه المفرد والجمع، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

[289]

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلاّ فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول: (وإنّ الله يبعث من في القبور) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساساً فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني، فهم يقولون: كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار تراباً؟ وبقاء الروح لم يكن شيئاً عجباً، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر إنحطاطاً وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة، ولما يغلبه فيها من الضعف والإنفعال، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء، ويرضى ويفرح لا يسر شيء، ويفقد سعة صدره وصبره، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس  لا يتوقّعون منه ذلك، لأنّه ليس طفلا، مضافاً إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّاً ونفسيّاً وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية، لهذا يتركوا أحراراً في ممارستها، وليس كذلك في الفرد المسنّ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مئة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص، وإلاّ فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من


1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، الصفحة 472.

[290]

مئة عام. كما أنّ هناك أشخاصاً تجاوزت أعمارهم مئة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

[291]

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَـب مُّنِير(8) ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنَذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ(10)

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أُخرى:

تتحدّث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاوياً  لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير).

وعبارة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى مجموعة من الناس، والثّانية إلى مجموعة أُخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين، في

[292]

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1).

وعبارة (ليضلّ عن سبيله) تبيّن هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة (يتّبع كلّ شيطان مريد) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الإستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربّانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقاً لدراسات العلماء، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضاً.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفاً».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلى أحد الأدلّة: العقل، أو الكتاب، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: (ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشيء وعدم الإهتمام به.


1 ـ تفسير الميزان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.

[293]

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الإهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: (له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق).

ونقول له: (ذلك بما قدّمت يداك) و (إنّ الله ليس بظلاّم للعبيد) لا يعاقب الله أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه(1).

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *


1 ـ «ظلاّم» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلا، ويمكن أن يكون إستخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً ـ مصداق ظلم كبير.

[294]

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11) يَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَـلُ الْبَعِيدُ(12) يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13) إنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14)

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالّين، والقادة المضلّين. أمّا هذه الآيات، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

[295]

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص (فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة إنقلب على وجهه)(1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام. إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية: «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً. وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته، رضي به واطمأنّ إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته اُنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلاّ بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة


1 ـ كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماماً، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوماً.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، ص13، وتفسير القرطبي، المجلّد السادس، ص4409.

[296]

الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ (خسر الدنيا والآخرة) و (ذلك هو الخسران المبين) مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا إعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّةً من الإيمان، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا. أمّا إذا قُصِد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله، فتقول: (يدعوا من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه. فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر. فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل (ذلك هو الضلال البعيد). إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلاّ رجاءً ضعيفاً جدّاً.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: (يدعوا لمن ضرّه أقرب من نفعه)لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم

[297]

نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم).