![]() |
![]() |
![]() |
والفراعنة كانوا ـ أساساً ـ مستكبرين طاغين، كما تقول الآية (وكانوا قوماً عالين). والفرق بين العبارتين (استكبروا) و (كانوا قوماً عالين) أنّ العبارة الأُولى قد تكون إشارة إلى إستكبارهم عن دعوة موسى (عليه السلام)، والعبارة الثّانية تشير إلى أنّ الإستكبار يشكّل دوماً برنامجهم وبناءهم الفكري والروحي.
ويحتمل أيضاً أن تكون العبارة الأُولى إشارة إلى تكبّر الفراعنة، والثّانية إلى أنّهم كانوا يتمتّعون بقدرة متعالية وحياة متميّزة. وهذا سبب إستكبارهم.
1 ـ نقرأ في سورة النمل الآية (21): (لاُعذبّنه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين) وفي الآية (23) من سورة النجم نقرأ (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان).
ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالإستعلاء، قولهم: (وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(1) فلم يكتفوا بالقول إنّنا لا ينبغي لنا اتّباع موسى وهارون، بل لابدّ أن يكون موسى وهارون عبدين دائمين لهم. فهؤلاء الذين اتّهموا الأنبياء (عليهم السلام) بالتسلّط في وقت هم أسوأ من كلّ متسلّط، وكلامهم يشهد على ذلك.
وعلى كلّ حال فقد تصدّوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلّة الخاوية، مخالفة منهم للحقّ (فكذّبوهما فكانوا من المهلكين).
وهكذا إنتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدّاً مانعاً لدعوة موسى وهارون إلى الله سبحانه.
وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل، فأنزل الله في هذه المرحلة «التوراة» على موسى، الذي دعا بني إسرائيل للإهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على ما ذكرته الآية الأخيرة هنا (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلّهم يهتدون).
والآيات السابقة تحدّثت في مرحلة موسى وهارون عن الفراعنة مستعملة الضمير المثنّى، وهنا تكلّمت عن نزول الكتاب السماوي (التوراة) فخصّصت الحديث بموسى (عليه السلام). لأنّه النّبي المرسل وصاحب الكتاب والشريعة. إضافة إلى أنّ (موسى) كان يتعبّد في جبل الطور حين نزول التوراة، بينما كان هارون بين جموع بني إسرائيل(2).
* * *
1 ـ يطلق على الإنسان «البشر»، لأنّ بشرته وجلده عارية. خلافاً لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكلّ نوع منهما. وذلك لعدم قدرتها على إعداد وسائل الحياة فمنح الله ذلك لها بشكل طبيعي. أمّا بالنسبة للإنسان فقد أوكل ذلك إلى ذكائه وعقله.
2 ـ بحثنا بالتفصيل حول موسى (عليه السلام) وكيفية مبعثه وجهاده مع الفراعنة في تفسير الآيات (103) إلى (162) من سورة الأعراف وفي تفسير الآيات (8) إلى (97) من سورة طه.
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَـهُمَا إِلَى رَبْوَة ذَاتِ قَرَار وَمَعِين (50)
أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيّد المسيح (عليه السلام)واُمّه مريم، فقالت: (وجعلنا ابن مريم واُمّه آية). وقد استعملت «الآية» عبارة «ابن مريم» بدلا من ذكر اسم عيسى (عليه السلام)، لجلب الإنتباه إلى حقيقة ولادته من اُمّ دون أب بأمر من الله، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات الله الكبيرة.
وحمل مريم (عليها السلام) من غير أن يمسّها بشر، وإنجابها عيسى (عليه السلام) وجهان لحقيقة واحدة تشهد بعظمة الله سبحانه المبدعة وقدرته.
ثمّ أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها الله على هذه الاُمّ الزكيّة وإبنها فتقول: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين).
«الربوة» مشتقّة من «الربا» بمعنى الزيادة والنمو. وتعني هنا المكان المرتفع.
و «المعين» مشتّق من «المعن» على وزن «شأن» بمعنى جريان الماء، فالماء
المعين هو الماء الجاري. ويرى البعض أنّ «المعين» مشتق من «العين» أي نبع الماء الظاهر الذي يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة(1).
وفي هذا إشارة مجملة إلى المكان الآمن الوارف البركات والخيرات، الذي منّ الله عزّوجلّ به على هذه الاُمّ وإبنها وجعلهما في أمان من شرّ الأعداء، يؤدّيان واجباتهما باطمئنان.
وإختلف المفسّرون في هذا المكان، فبعض يرى أنّ مولد السيّد المسيح (عليه السلام)كان في «الناصرة» (من مدن الشام). وقد جعله الله واُمّه في مكان آمن ذي خيرات، وحافظ عليه من شرّ الأعداء الذين أرادوا أن يكيدوا بعد علمهم بولادته ومستقبله.
ويرى آخرون أنّ هذا المكان الآمن هو «مصر»، لأنّ مريم (عليها السلام) وإبنها السيّد المسيح (عليه السلام) عاشا فترةً من حياتهما في مصر طلباً للنجاة من شرّ الأعداء.
وقال غيرهم: إنّ المسيح (عليه السلام) ولد في «دمشق»، وذهب سواهم إلى أنّه في «الرملة» في الشمال الشرقي من القدس، حيث عاش المسيح واُمّه (عليهما السلام) في كلّ من هذه المناطق فترة من حياتهما. ويحتمل أن يكون مولد السيّد المسيح (عليه السلام) في صحراء القدس، وقد جعله الله أمناً لهذه الاُمّ والوليد، وفجّر لهما ماء معيناً ورزقهم من النخل الجافّ رطباً جليّاً.
وعلى كلّ حال، فقد كانت الآية دليلا على حماية الله تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم. وتأكيداً على أنّ إرادة الله هي الأقوى، فلو أراد الملأ كلّهم قتل رسوله دون إذنه لما تمكّنوا. فالوحدة وقلّة الأنصار والأتباع لا تكون سبباً لهزيمتهم إطلاقاً.
* * *
1 ـ في الحالة الأُولى تكون الميم جزءاً من الكلمة، وهي على وزن «فعيل»، وفي الثّانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول «مثل مبيع».
يَـأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلوا مِنِ الطَّيِّبَـتِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51) وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقونِ(52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53) فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِين(54)
تحدّثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء واُممهم، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت: (ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم).
الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة، وإنّما بسموّكم، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي، زكت أنفسكم، وإختارت الطيّبات وصالح الأعمال.
بين عبارتي (كلوا من الطيّبات) و (اعملوا صالحاً) إرتباط واضح، فلنوع
الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع إستجابة الدعاء.
وروي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لرجل سأله عن إستجابة دعائه «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(1) و (2).
وقوله تعالى: (إنّي بما تعملون عليم) بنفسه دليل مستقل على وجوب القيام بالعمل الصالح، لأنّ الإنسان عندما يعلم بأنّ الله يراقب أعماله، ولا يخفى عليه شيء وسوف نحاسبه بدقّة على ذلك، فلا شكّ في أنّ الإلتفات إلى هذا الأمر يساعد في إصلاح عمله.
مضافاً إلى أنّ تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيّبات، وبذلك تؤثّر في عمله أيضاً.
وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح:
الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.
والثّاني: شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.
الثّالث: الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها.
أمّا كلمة «الطيب» فهي كما قلنا تعني كلّ شيء نظيف وطاهر. وهي نقيض كلمة «الخبيث» قال الراغب الاصفهاني في مفرداته: الطيب يعني: كلّ ما يسرّ الإنسان حسيّاً وروحياً، أمّا من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.
والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد:
(ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات)(3). ثمّ لا يقصر الأمر على الرسل، بل:
1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد الرّابع، الدعاء الباب (67) الحديث (4).
2 ـ تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (186) من سورة البقرة.
3 ـ المؤمنون، 51.
(ياأيّها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم)(1) بل إنّ ما يصل إلى مقام القرب هو الطيّب من الأعمال والأقوال:
(إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه)(2).
وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا)(3).
كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عرض لهذه الحقيقة «ياأيّها الناس، إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً»(4).
ثمّ دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله وإلتزام تقواه (وإنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فالإختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلا على التعدّدية إطلاقاً. (وأنا ربّكم فاتّقون).
فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة، ليعيش الناس اُمّة واحدة، كما أنّ الله ربّهم واحد أحد.
ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء (عليهم السلام) إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحّدة، ذات أساس واحد في كلّ مكان «توحيد الله ومعرفة الحقّ، الإهتمام بالمعاد والتكامل في الحياة، والإستفادة من الطيّبات والقيام بالأعمال الصالحة. والدفاع عن العدل والمبادىء الإنسانيّة».
ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «اُمّة» تعني هنا الدين والعقيدة. وليس المجتمع. إلاّ أنّ ضمير الجمع في جملة (أنا ربّكم) دليل على أنّ (الاُمّة) تعني
1 ـ البقرة، 172.
2 ـ فاطر، 10.
3 ـ الإسراء، 70.
4 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، صفحة 4519 (حول الآية موضع البحث).
الناس جميعاً.
وقد وردت كلمة «الاُمّة» في القرآن المجيد بمعنى «الجماعة» غالباً، وندر ورودها بمعنى «الدين» مثل (إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون)(1).
وممّا يلفت النظر أنّ هذا المعنى تضمنّته الآية 92 من سورة الأنبياء مع فارق بسيط (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون). في وقت شرحت الآيات السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء، و «هذه» في الحقيقة إشارة إلى اُمم الأنبياء السابقين، الذين كانوا يشكّلون اُمّة واحدة بحسب التعاليم الإلهيّة، حيث تحرّكوا جميعاً لتحقيق هدف واحد.
وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والإختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالوحدة فقالت: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً) وممّا يثير الدهشة أنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون).
«الزبر» جمع «زبرة» على وزن «لقمة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه. يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر. ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله، فتقول الآية: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً). إشارة منها إلى تفرّق الاُمّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.
واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع «زبور» بمعنى كتاب، وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية، مع أنّ مصدرها واحد. ولكن عبارة (كلّ حزب بما لديهم فرحون) تدعم التّفسير الأوّل، فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه، ويصرّ على رأيه.
تستعرض الآية حقيقة نفسيّة وإجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب
1 ـ الزخرف، 23.
والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلاًّ منها قد اتّخذ سبيلا خاصّاً به، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.
وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوٍّ للحقيقة، ولوحدة الاُمّة. إنّ الإعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة وإحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ اُذنيه عن كلّ صوت يخالف ما إعتقده. ويُغطّي رأسه بثوبه، أو يلجأ إلى الفرار خوفاً من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح (عليه السلام) وعلى لسان هذا النّبي المرسل: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا إستكباراً)(1).
ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلاّ بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.
ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين) أي اتركهم على حالهم حتّى يأتي أجلهم، أو يأتيهم الله بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.
وكلمة «حين» قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.
وأمّا «الغمرة» على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كلّ شيء. ثمّ أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه ويواصل جريانه، ثمّ أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما إستعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.
* * *
1 ـ سورة نوح، 7.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّال وَبَنِينَ(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ(56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَـتِ رَبِّهِم يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَجِعُونَ(60) أُوْلَـئِكَ يُسَـرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَهُمْ لَهَا سَـبِقُونَ(61)
تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصّب وحبّ الذات، وتمسّكوا بأفكارهم الضالّة وفرحوا بما لديهم. بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانيّة: (أيحسبون أنّما نمدّهم من مال وبنين) هو من أجل أنّنا: (نسارع لهم في الخيرات).
فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حقّ،
ودليل على قرب منزلتهم من الله؟ (بل لا يشعرون) أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب، أو مقدّمة للعذاب ولعقاب الله، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي. ويمسي عقابهم أشدّ ألماً، لأنّ الإنسان إذا اُغلقت دونه أبواب النعمة ثمّ حلَّ به العذاب، فقد لا يكون بتلك الدرجة موجعاً ومؤلماً أمّا الذين يعيشون في أوساط مرفّهة ثمّ يلقى بهم في دهاليز السجون والزنزانات المرعبة، فسيكون ألم ذلك شديداً عليهم جدّاً.
كما أنّ زيادة النعمة من شأنها أن تزيد حجب الغفلة والغرور عليهم فتمنعهم من العودة إلى طريق الصواب.
وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الإستدراج في النعم)(1).
وكلمة «نمدّ» مشتة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع، وإيصال الشيء إلى نهايته.
وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات، وتبيّن صفاتهم الرئيسيّة، فتقول: (إنّ الذين هم من خشية ربّهم مشفقون). والخشية لا تعني مطلقاً الخوف، بل تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.
وكلمة «المشفق» مشتقّة من «الإشفاق» ومن أصل: الشفق، أي: الضياء المخالط للظلمة، وتعني الخوف الممزوج بالمحبّة والإجلال.
ولكون الخشية ذات جانب عاطفي، والإشفاق ذا جانب عملي، ذكرا معاً إيضاحاً للعلّة والمعلول في الآية. فهي تعني أنّ الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقرّ في قلوبهم، وقد بدت علائمه في أعمالهم وإلتزامهم بالتعاليم الإلهيّة. أي أنّ
1 ـ للإطلاع بشكل أوسع على موضوع الإستدراج يراجع تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.
الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية، وهو ما يؤثّر في عمل الإنسان فيجنّبه ارتكاب الذنوب، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.
ثمّ تضيف الآية (والذين هم بآيات ربّهم يؤمنون).
وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله، مرحلة تنزيهه عن كلّ شبهة وشريك، فتقول الآية: (والذين هم بربّهم لا يشركون).
ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى، وهو معلول الإيمان، أي أنّ الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى السلبية. وعلى كلّ حال فقد تضمّنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك، سواءً كانت جليّة أم خفيّة.
بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث، والإهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيّون لهذه القضيّة، التي تساعدهم عمليّاً في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم، فتقول الآية: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنّهم إلى ربّهم راجعون).
إنّهم ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقلّ الأعمال ثمّ يتصوّر انّه من المقرّبين عند الله. ويتملّكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغار وحقراء، بل إنّ هؤلاء لا يطمئنّون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين. ومع كلّ هذا يقولون: آه من قلّة الزاد وبعد السفر!
وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية: (اُولئك يسارعون في الخيرات) والأعمال الحسنة، والسعادة الحقيقيّة ليست كما يتصوّرها المترفون الغافلون المغرورون بالحياة الدنيا. إنّما هي في إنجاز الأعمال الصالحة قربةً إلى الله كما يفعل المؤمنون الصادقون، المتّصفون بالخصائص الإيمانيّة والأخلاقية السالفة الذكر الذين يسارعون في الخيرات.
وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين، فبدأت أوّلا بالخوف الممتزج بتعظيم الله، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه. وإنتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية. ويدفع الإنسان إلى كلّ عمل طيّب. فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجةً واحدةً. (فتأمّلوا جيداً).
قوله «يسارعون» من باب «مفاعلة» وتعني «التسابق»، وهو تعبير جميل يصوّر حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سام. كما يبيّن تنافسهم في إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل.
* * *
وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَـبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَـلٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَـمِلُونَ(63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ(64) لاَ تَجْئَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ(65) قَدْ كَانَتْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـمِراً تَهْجُرُونَ (67)
بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكلّ أحد.
فتجيب أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ عن ذلك فتقول: (ولا نكلّف نفساً إلاّ وسعها). وكلّ إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.
وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان. وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء اُصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعيّة ومقدّمة عليها.
وقد يُسأل: كيف يُحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟
فتجيب الآية (ولدينا كتاب ينطق بالحقّ وهم لا يظلمون) فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير. وهي تنطق بالحقّ عمّا إقترفه الإنسان من ذنوب، فلا يمكنه إنكارها(1).
وربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ. ولفظ «لدينا» يؤكّد هذا التّفسير.
والخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفاً تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو شرٍّ، فهي مسجّلة بدقّة، والإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال الخير، وإجتناب الأعمال السيّئة.
وتعبير (ينطق بالحقّ) الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول: إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح، أي: لا يحتاج إلى شرح. وكأنّها ناطقة بذاتها، فهي تُجلّي الحقيقة.
وعبارة (وهم لا يظلمون) تبيّن أنّه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب، فكلّ شيء في سجلٍّ معلوم.
ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عمّا ينتظرهم من الوعيد: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)(2).
1 ـ لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (13) من سورة الإسراء وكذلك حين تفسير الآية (49) من سورة الكهف.
2 ـ يمكن أن تكون كلمة «هذا» إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب، أو القرآن المجيد، أو أعمال الصالحين التي أشارت الآيات السابقة إليها.
وهذا الإنغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق، ويمنع الضالّين من العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.
وتضيف هذه الآية (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)، وقد أورد المفسّرون تفاسير لقوله سبحانه: (ولهم أعمال من دون ذلك) فبعضهم قال: إنّها تعني الأعمال السيّئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون «ذلك» إشارة إلى جهلهم)، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم ووعي وقال آخرون: إنّ المراد هو أنّهم إضافة إلى كفرهم إرتكبوا أنواعاً من الأعمال السيّئة.
واحتمل آخرون إختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين إختلافاً كبيراً.
ونحن نرى عدم إختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر، ويمكن الجمع بينها، المهمّ هو الإنتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في إنغمار القلوب في الجهالة.
ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدّة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: (حتّى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون).
فيخاطبون (لا تجأروا اليوم إنّكم منّا لا تنصرون).
أمّا لماذا ورد ذكر «المترفين» هنا فحسب مع أنّ المذنبين لا يختّصون بهم؟ السبب هو إمّا لكونهم قادةً للضالّين، أو لأنّ عذابهم شديد جدّاً.
ثمّ إنّ هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويّاً أو اُخرويّاً أو كليهما. حيث يصيبهم العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم، ويستغيثون فلا يغاثون.
وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم (قد كانت آياتي تتلى
عليكم وكنتم على أعقابكم تنكصون) بدلا من الإستفادة منها والإنتباه للواقع.
كلمة «تنكصون» مشتقّة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.
و «أعقاب» جمع «عقب» على وزن «فَعِل» وتعني عقب القدم.
وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.
ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية (مستكبرين به)(1).
وإضافةً إلى ذلك (سامراً تهجرون) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.
وكلمة «سامراً» مشتقّة من «سَمَرَ» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلا. وقال البعض: إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة، وجُلّ حديثهم يتناول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض. ويقال «سمراء» لمن إختلط بياضها بشيء من السواد.
و (تهجرون) مشتقة من «هَجْر» وتعني بالأصل الإبتعاد والإنفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض. لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم. ويبعث على النفور. كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.
وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير. فتقول: إنّ المشركين
1 ـ هناك إختلاف بين المفسّرين في مَن يعود إليه الضمير في (به). فذهب بعض أنّه يعود إلى المسجد الحرام والحرم المكّي، لأنّ سدنة الكعبة إستكبروا لإعتبارهم أنفسهم أصحاب الحرم المكّي، وهذا الإحتمال ضعيف لأنّ الآيات السابقة لم تتناول الكعبة والحرم. ويبدو أنّ هذا الضمير يعود إلى القرآن المجيد والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون معنى الآية: إنّكم استكبرتم إزاء القرآن ونبي الإسلام. أو أنّها تشير إلى سيرهم المعاكس، فهم استكبروا ولم يهتّموا به.
من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.
وهذا الاُسلوب اُسلوب الجبناء وضعاف النفوس، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل، ليكيلوا السباب، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار. إنّهم إختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس، ليصلوا إلى أهدافهم المشؤومة، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية. يقول القرآن الكريم: إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم إستكبرتم عن قبول الحقّ. ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله. كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح. ولولا ذلك لأهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.
* * *
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ(68)أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـرِهُونَ(70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـوَتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنـهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ(71) أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ(72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(73) وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَطِ لَنَـكِبُونَ(74)
تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفّار وإستكبارهم إزاء الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والردّ عليهم، وشرحت الدوافع الحقيقيّة لإعراض المشركين عن القرآن والرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ويمكن تلخيصها في خمس مراحل:
الاُول: (أفلم يدبّروا القول).
فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو تفكّروا مليّاً لما بقيت مشكلة لديهم.
وفي المرحلة الثّانية تقول الآية: (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين). سألت الآية مستنكرةً: أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصّة بهم دون آبائهم الأوّلين، ليحتجّوا بأنّها بدعةً، ويقولوا: لماذا لم يبعثه الله للأوّلين، وهو لطيف بعباده؟
ليس لهم ذلك، لأنّ الإسلام من حيث المبادىء له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياء (عليهم السلام) فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له!
وفي المرحلة الثّالثة تقول الآية: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون).
أي إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حقّ، إلاّ أنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا، نُخدع بكلامه. ولكنّهم يعرفون ماضيك جيداً، وكانوا يدعونك محمّداً الأمين، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك، ويعرفون جيداً والديك وقبيلتك، فلا حجّة لهم!
وفي المرحلة الرّابعة تقول الآية: (أم يقولون به جنّة) أي انّه مجنون، فبعد إعترافهم بأنّك لست مجهولا بالنسبة لهم، إلاّ أنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتّخذوا هذا دليلا على جنونك.
يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجّة: (بل جاءهم بالحقّ) وكلامه شاهد على هذه الحقيقة، ويضيف (وأكثرهم للحقّ كارهون).
أجل، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة، إلاّ أنّهم ينكرونها لعدم إنسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق
الحقّ مع رغبات الناس (ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ).
لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالباً، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم.
وتأكيداً لذلك تقول الآية: (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)(1)أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلاّ أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضيء لهم درب السعادة والشرف.
وفي المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحقّ هو أنّك تريد منهم أجراً على دعوتك: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربّك خير وهو خير الرازقين)(2).
فلو طلب قائد ديني أجراً من الناس مقابل وعظهم ودعوتهم إلى الحقّ لأعطى المتعذّرين ذريعةً للإعراض عنه والطعن عليه، فيعرضون عنه بحجّة عدم قدرتهم المالية، ويتّهمونه بأنّه ما دعاهم إلاّ ابتغاء منافع خاصّة به.
![]() |
![]() |
![]() |