وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء. أجل إنّ حكم الله وقانونه واحد في كلّ شيء.

ثمّ تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة أُخرى نمت من ماء المطر، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاُخرى (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين)(2).

ماذا يقصد بـ(طور سيناء)؟

ذكر المفسّرون لهذه الكلمة إحتمالين: الأوّل: أنّها إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء. وإذا وصف القرآن المجيد شجرة الزيتون باعتبارها الشجرة التي تنمو في جبل الطور، لأنّ عرب الحجاز كانوا يمرّون بهذه الأشجار المباركة عندما كانوا يتوجّهون إلى الشمال، حيث تقع منطقة الطور في جنوب صحراء سيناء كما يدلّ على ذلك موقعها الجغرافي بوضوح.

والإحتمال الثّاني: طور سيناء ذات جانب وصفي يعني الجبل ذي الخيرات، أو الجبل ذي الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأنّ «الطور» يعني الجبل، و «سيناء» تعني ذات البركة والجمال والشجر).

وكلمة «صبغ» تعني في الأصل اللون، وبما أنّ الإنسان يلوّن خبزه مع المرق،


1 ـ إنّ «من» في التّفسير الأوّل «تبعيضيّة»، وفي التّفسير الثّاني «نشوية».

2 ـ صبغ الآكلين: غذاء يؤكل مع الخبز.

[439]

لهذا أُطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ. وعلى كلّ حال فكلمة «الصبغ» ربّما تكون إشارة إلى زيت الزيتون الذي يؤكل مع الخبز، أو أنواع الخبز مع المرق الذي يحضر من أشجار أُخرى.

وهنا يواجهنا سؤال: لماذا أُكّد على ثلاث فواكه هي: التمر والعنب والزيتون؟

في الجواب على ذلك لابدّ من الإهتمام بمسألة علميّة، هي أنّ علماء التغذية أكّدوا أنّه من النّادر أن نجد فاكهة مفيدة لجسم الإنسان بقدر فائدة هذه الفواكه الثلاثة.

فلزيت الزيتون أهميّة فائقة في إنتاج الطاقة وبناء الجسم، لأنّ الحرارة الناتجة عن تناوله كبيرة، وهو صديق حميم للكبد، ويزيل أمراض الكلية ويحميها، ويقوّي الأعصاب، وأخيراً يعتبر إكسير السلامة.

أمّا التمور فقد وصفت بدرجة لا يسعها هذا الموجز، فسكّرها من أفضل أنواع السكّر وأسلمها، ويرى عدد كبير من خبراء التغذية أنّ التمور من الأسباب التي تحول دون الإصابة بالأمراض السرطانية، حيث كشف العلماء في التمور ثلاث عشرة مادّة حيوية، وخمسة أنواع من الفيتامينات، وبهذا تعتبر مصدراً غنيّاً بالمواد الغذائية.

أمّا الأعناب فتعبّر ـ كما يراه بعض العلماء ـ صيدلية طبيعيّة، فخواصها تشبه حليب الاُمّ، وتولّد طاقة حرارية في الجسم تعادل ضعف ما تولده اللحوم، وتصفّي الدم، وتدفع السموم عن البدن، وتمنح فيتاميناته الإنسان قوّة وطاقة مثلى(1).

بعد بيان جانب من أنعم الله في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك بحث جانب مهمّ من أنعم الله وهباته في عالم الحيوان (وإنّ لكم في الأنعام لعبرة)(2).


1 ـ للإستزادة في الإطلاع على فوائد هذه الفواكه الثلاثة الحيوية يراجع تفسير الآية (11) من سورة النحل.

2 ـ إستخدمت «عبرة» هنا بصيغة نكرة إشارة إلى عظمتها.

[440]

ثمّ تشرح الآية «العبرة» فتقول: (نسقيكم ممّا في بطونها). أجل إنّ الحيوان يدرّ حليباً لذيذاً يعتبر غذاءً كاملا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة الله حيث يتمكّن بها من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوّثة.

ثمّ تضيف الآية (ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) إضافة إلى اللحم الذي يعتبر من أجزاء الغذاء الرئيسيّة التي يحتاجها الجسم، يستفاد من جلود الحيوان في صنع اللباس والخيم القويّة ذات العمر الطويل. كما يستفاد من صوفها في صنع الملابس والفرش والأغطية. ويصنع من أجزاء بدنها الدواء، ويستفاد حتّى من روثها لتسميد الأشجار والنباتات.

كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البرّ، والسفن في البحر (وعليها وعلى الفلك تحملون)(1).

كلّ هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر ـ حقّاً ـ عبرة لنا، تعرف الإنسان على ما خلق الله من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على الله(2).

السؤال الوحيد المتبّقي هو: كيف أصبحت الدواب والسفن في مستوى واحد؟

إذا لاحظنا مسألةً واحدة فسيكون الردّ واضحاً، وهي أنّ الإنسان بحاجة إلى مركب في حياته، مرّةً في البر، وأُخرى في البحر وهي السفن.

وهذا التعبير هو ذاته الذي إستخدم في الآية (70) من سورة الإسراء حين ذكر ما وهبه الله بني آدم (وحملناهم في البرّ والبحر).

* * *


1 ـ تناولنا بالبحث الإستفادة من الحيوان بشكل مسهب في تفسير الآية (80) من سورة النحل.

2 ـ بحثنا في تفسير الآية (14) من سورة النحل وكذلك من تفسير الآية (65) من سورة الحجّ، أهميّة السفن وميزات المواد المختلفة التي تدخل في إستخدام السفن.

[441]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(23) فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاََنزَلَ مَلَـئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى ءَابَائِنَا الاَْوَّلِينَ(24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِين(25)

التّفسير

منطق الجبناء المغرورين:

تحدّثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة الله وأسباب عظمته في عالم الخليقة، أمّا الآيات ـ موضوع البحث والآيات المقبلة ـ فقد تناولت نفس الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم.

حيث بدأت بأوّل الأنبياء اُولي العزم والمنادي بالتوحيد «نوح» (عليه السلام) (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) و (أفلا تتّقون)أي مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟

أمّا الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس، وهم اللذين يملأون

[442]

العين في ظاهرهم، والفارغون في واقعهم من قوم نوح (عليه السلام) (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم).

وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنساناً فاتّهموه بالسلطوية، وحديثه عن الله والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثمّ أضافوا (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) ولإتمام هذا الإستدلال الخاوي قالوا: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين).

إلاّ أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثرّ في معنويات هذا النّبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى الله، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على إمتياز على الاُخرين، أو أن يتسلّط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أُخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا:

(إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به حتّى حين).

واستخدم المشركون تعبير (به جنّة) ضدّ هذا النّبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطّوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح (عليه السلام) خير دليل على رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون ـ في الحقيقة ـ أن يقولوا: كلّ هذه الاُمور صحيحة، إلاّ أنّ الجنون فنون له صوراً متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!

أمّا عبارة (فتربّصوا به حتّى حين) فقد تكون إشارة إلى إنتظار موت نوح (عليه السلام)من قبل المخالفين الذين ترقّبوا موته لحظة بعد أُخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن أن تعني تأكيداً منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتّى يشفى من هذا المرض(1).

وعلى كلّ حال فإنّ المخالفين وجّهوا إلى نوح (عليه السلام) ثلاثة إتّهامات واهية متناقضة، واعتبروا كلّ واحد منها دليلا ينفي رسالته:

الأوّل: إنّ ادّعاء البشر بأنّهم رسل الله ادّعاء كاذب، حيث لم يحدث مثل هذا في السابق، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!


1 ـ كما قال البعض: إنّ هذه العبارة تشير إلى قولهم: ارموه في السجن زمناً وقال آخرون: إنّهم قصدوا أن يتركوه لحاله الآن. إلاّ أنّ هذين التّفسيرين لا يبدوان صحيحين.

[443]

والثّاني: إنّه رجل سلطوي، وكلامه ادّعاء لتحقيق هدفه!

والثّالث: إنّه لا يملك عقلا سليماً، وكلّ ما يقوله هو كلام عابر!

وبما أنّ جواب هذه الإتّهامات الواهية أمر واضح جدّاً، وقد جاء في آبات قرآنية أُخرى، لهذا لم يتطرّق إلى ردّها في هذه الآيات. لأنّه من المؤكّد ـ من جهة ـ أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم، ليكون على علم بمشاكلهم ويحسّ بآلامهم، إضافةً إلى ذلك فإنّ جميع الأنبياء كانوا من البشر. ومن جهة أُخرى يتّضح لنا خلال تصفّح تأريخ الأنبياء وإستعراض حياتهم، أنّ قضيّة الاُخوّة والتواضع، تنفي أيّة صفة سلطوية عنهم، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتّى عند أعدائهم، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.

* * *

[444]

الآيات

قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ(26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَـطِبْنِي فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ(27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـنَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(29) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَـت وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)

التّفسير

خاتمة حياة قوم معاندين:

اطّلعنا من الآيات السابقة على التهم التي وجّهها أعداء نوح (عليه السلام) إليه. إلاّ أنّه يستدلّ من آيات قرآنية أُخرى ـ بشكل واضح ـ أن أذى القوم المعاندين لنوح (عليه السلام)لم يتحدّد بهذه الاُمور، بل شمل كلّ وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل ـ سلام الله عليه ـ جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر.

[445]

وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلاّ مجموعة صغيرة، دعا الله ليعينه، حيث نقرأ في الآية الأُولى (قال ربّ انصرني بما كذّبون)(1).

هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح (عليه السلام) وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).

إنّ عبارة «بأعيننا» إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا، فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أي شيء.

وإستعمال عبارة «وحينا» يكشف لنا أنّ نوحاً (عليه السلام) تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي، لأنّ التأريخ لم يذكر أنّ الإنسان إستطاع صنع مثل هذه الوسيلة حتّى ذلك الوقت. ولهذا السبب صنع نوح (عليه السلام) السفينة بشكل يناسب غايته في صنعها، ولتكون في غاية الكمال!

ثمّ تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر الله، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كلّ نوع من الحيوانات زوجاً (ذكر واُنثى) واصعد به إلى السفينة: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كلّ زوجين إثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم) إشارة إلى زوج نوح (عليه السلام) وأحد أبنائه، ثمّ أضافت الآية:

(ولا تخاطبني في الذين ظلموا انّهم مغرقون) وهذا التحذير جاء حتّى لا يقع نوح (عليه السلام) تحت تأثير العاطفة الإنسانية، عاطفة الاُبوّة، أو عاطفته نحو زوجته ليشفع لهما، في وقت إفتقدا فيه لحقّ الشفاعة.

وتقول الآية التالية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين).

وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من مخالب الظلمة، ادعوه هكذا (وقل ربّ أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين).


1 ـ الباء في «بما كذّبون» ربّما كانت سببيّة أو للمقابلة. وأمّا «ما» فيمكن أن تكون مصدرية أو موصولة، ويختلف معنى كلّ منهما. إلاّ أنّ هذا الإختلاف ليس مهمّاً (فتأمّلوا جيداً).

[446]

كلمة «منزل» ربّما كانت اسم مكان، أي: بعد الطوفان ندعو الله لينزلنا في أرض ذات خيرات واسعة، لنحيا فيها بسعادة وهدوء.

كما يمكن أن تكون مصدراً ميميّاً أي: أنزلنا بشكل لائق، لأنّ هناك أخطاراً تهدّد ركّاب هذه السفينة بعد رسوها في ختام الطوفان، كعدم مكان للسكن، أو النقص في الغذاء، أو التعرّض للأمراض، لهذا دعا نوح (عليه السلام) ربّه لينزله منزلا مباركاً.

وقد أشارت الآية الأخيرة ـ من الآيات موضع البحث ـ إلى مجمل هذه القصّة فقالت: (إنّ في ذلك لآيات) ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح (عليه السلام)وإنتصاره على أعدائه الظالمين، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم ـ آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.

(وإن كنّا لمبتلين) أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع. وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى إمتحان الله لقوم نوح مراراً، وعندما أخفقوا في الامتحان أهلكهم إلاّ المؤمنين.

كما قد تكون إشارة إلى امتحان الله لجميع البشر في كلّ زمان ومكان، وما جاء في هذه الآيات لم يكن خاصّاً بالناس في زمن نوح (عليه السلام)، بل يشمل الناس في جميع الدهور. فيهلك من كان عائقاً في طريق تكامل البشرية وليواصل الأخيار سيرهم الطبيعي.

واكتفت الآيات هنا بقضيّة بناء السفينة ودخول نوح (عليه السلام) وأصحابه إليها، إلاّ أنّها لم تُشر إلى مصير المذنبين، ولم تتحدّث عنهم بالتفصيل، وإنّما إكتفت بالقول بأنّهم لقوا ما وعدهم الله (إنّهم مغرقون) لأنّ هذا الوعد مؤكّد لا يقبل النقض.

ولابدّ من القول بأنّ هناك حديثاً واسعاً عن قوم نوح وموقفهم إزاء هذا النّبي الكبير، ومصيرهم المؤلم، وقصّة السفينة، وفوران الماء من التنور، وحدوث الطوفان، وغرق ابن نوح (عليه السلام). وقد بيّنا قسماً كبيراً منه في تفسير سورة هود، وسنذكر قسماً آخر في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

* * *

[447]

الآيات

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (32)وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا مَا هَـذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسِرُونَ(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَـماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38) قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ(39) قَالَ عَمَّا قَلِيل لَّيُصْبِحُنَّ نَـدِمِينَ(40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَـهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(41)

[448]

التّفسير

المصير المؤلم لقوم ثمود:

تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح (عليه السلام). ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفّار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة.

فهي تقول أوّلا: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).

«القرن» مشتقّ من الإقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد، كما تطلق هذه الكلمة على عصر هؤلاء، وقياس زمن القرن بثلاثين أو مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.

وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني، فقد بعث الله أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

وهذه هي الركيزة الأساسيّة لدعوة الأنبياء، إنّها نداء التوحيد، اُسُّ جميع الإصلاحات الفردية والإجتماعية، وبعدها أكّد رسل الله لهم القول: إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: (أفلا تتّقون).

أمّا أيّ قوم كان هؤلاء؟ ومن هو نبيّهم؟

قال المفسّرون بعد دراسة الآيات المشابهة لهذه الآية: هناك إحتمالان:

الأوّل: أنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث الله النّبي «صالح»(عليه السلام) لهدايتهم، إلاّ أنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم الله بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة) وشاهد هذا التّفسير ودليله هو الصيحة التي ذكرت في ختام الآيات موضع البحث، والتي جاءت في سورة هود الآية (67) حيث خصّت قوم صالح (عليه السلام).

والإحتمال الثّاني: خصها بقوم «عاد» الذين كان نبيّهم «هود» (عليه السلام)، وقد

[449]

ذكرتهم آيات قرآنية مباشرة بعد سرد قصّة نوح (عليه السلام)، وهذا دليل على صحّة هذا التّفسير(1)، إلاّ أنّ عقاب قوم عاد كما جاء في الآيتين السادسة والسابعة من سورة «الحاقة»، كان ريحاً شديداً استمرّ سبعة أيّام فدمّرهم عن بكرة أبيهم، إذن فالتّفسير الأوّل هو الأصحّ.

ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النّبي الكبير؟

يقول القرآن في الآية التالية: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).

أجل إنّ القوم الذين عاشوا في رفاه مطلق دعاهم القرآن باسم الملأ (ترى ظاهرهم يملأ العين، إلاّ أنّ باطنهم خاو من النور).

وبما أنّهم كانوا يرون في دعوة نبي الله خلافاً لأهوائهم ومنافسةً لمصالحهم العدوانية وتسلّطهم الذي لا مبرّر له، وقد أترفوا فبعدوا عن ذكر الله، وأنكروا الآخرة، فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح، فقد رأوا في بشرية القادة الربانيّين وتناولهم الطعام كباقي الناس دليلا على بطلان نبوّة هؤلاء، في حين أنّ هذا الأمر بحدّ ذاته مؤيّد على كون هؤلاء الرجال العظام حملة رسالة من الله إلى الناس، ولأنّهم نهضوا من بين جماهير الناس بعد أن شعروا بآلامهم وعملوا بما يحتاجونه بشكل جيّد.

ثمّ قال بعضهم للبعض الآخر: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون).

هؤلاء الحمقى لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، وهي انّهم يريدون من الناس بهذه الوساوس الشيطانية أن ينقادوا له في محاربة الأنبياء، في الوقت الذي يعيبون فيه


1 ـ يراجع في ذلك سورة هود الآية (50) وسورة الأعراف الآية (65) وسورة الشعراء الآية (123).

[450]

على الذين يتّبعون من كان يستمدّ العون من مركز الوحي وقد مليء قلبه نوراً وعلماً إلهيّاً. ويرون في هذا العمل تقييد لحريّة الإنسان.

ومن ثمّ أنكروا المعاد، الذي كان دوماً سدّاً منيعاً لاتّباع الشهوات وأرباب اللذّات، وقالوا: (أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون) لتعيشون حياة جديدة (هيهات هيهات لما توعدون) فقد تساءل الكفّار: هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا تراباً وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل!!

وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أُخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت(إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

وأخيراً لخّصوا التّهم التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا: (إن هو إلاّ رجل افترى على الله كذباً وما نحن بمؤمنين) فلا رسالة إلهيّة، ولا بعث، ولا برنامج سماوي، وعليه لا يتسنّى لعاقل الإيمان به.

وعندما طغى عناد الكفّار، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم، فتجاسروا على الله، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكلّ صلافة، وقد أتمّ الله حجّته عليهم، عندها توجّه هذا النّبي الكبير إلى الله سبحانه وتعالى و (قال ربّ انصرني بما كذّبون) ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.

فأجابه الله عزّوجلّ كما ذكرت الآية (قال عمّا قليل ليصبحنّ نادمين) ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.

وهكذا جرى (فأخذتهم الصيحة بالحقّ) حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية

[451]

الكريمة (فجعلناهم غثاءً) أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل (فبعداً للقوم الظالمين).

تعليقات:

1 ـ الحياة المترفة وأثرها المشؤوم

بيّنت الآيات السابقة العلاقة بين «الترف» (حياة الأشراف المنّعمين) وبين «الكفر وإنكار لقاء الله» وهذه هي الحقيقة بعينها. فالذين يعيشون مترفين يطلقون العنان لشهواتهم الحيوانية. فمن الواضح أنّهم لايقبلون برقابة إلهيّة، ولا يعترفون بيوم البعث حيث تنتظرهم محكمة العدل الإلهي. والإقرار بذلك يونّب ضمائرهم ويثير الناس عليهم، لهذا فانّ هؤلاء الأشخاص لا يقرّون بالعبودية لله، وينكرون المبدأ والمعاد، ويرون الحياة كما ذكرت الآيات السابقة (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

هذا هو شعارهم المعبّر عن فتنتهم وضلالهم الصارخ: فلنغتنم هذه الفرصة فلا خبر جاء ولا وحي نزل، ومن يدّعي ذلك فهو كاذب! وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة .. هكذا كانوا يبرّرون إنكارهم ليوم البعث.

إضافةً إلى ذلك فتحقيق مثل هذه الحياة المترفة لا تتمّ بداً إلاّ بسلب حقوق الآخرين وظلمهم، وهذا لا يكون إلاّ بإنكار رسالة الأنبياء والقيامة، ولهذا نرى الذين عاشوا في بذخ مترف يحتقرون كلّ القيم السماوية وينكرون كلّ شيء إلهي.

هؤلاء الحمقى أصبحوا أسرى لأهوائهم النفسيّة، فخرجوا عن طاعة الله وأصبحوا عبيداً لأهوائهم وشهواتهم، بل أصبحوا عبيداً لعبيد آخرين، بنفسيّة وضيعة، وقلوب سوداء قاتمة، ومستقبل موحش، على الرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّهم متنّعمون وسيبقون كذلك، غير أنّ القلق الذي يسيطر عليهم من عقاب الله وزوال نعمته والخوف من الموت لا يدع لهم راحة.

[452]

2 ـ «التراب» و «العظام»

يتفسّخ جسم الإنسان بعد موته حتّى يتحوّل إلى تراب، إلاّ أنّ الآية السابقة قدّمت التراب على العظام، لماذا؟

قد يكون ذلك إشارة إلى القسمين المهمّين من مكوّنات الجسم (اللحم والعظم) فاللحم يتفسّخ أوّلا ويصبح تراباً، وتبقى العظام لسنين عديدة ثمّ تبلى أخيراً وتصبح تراباً أيضاً.

وربّما كان التراب هنا إشارة إلى الأجداد القدماء جدّاً الذين أصبحوا تراباً، والعظام إشارة إلى الآباء الذين تفسّخت أجسامهم، وبقيت العظام لم تتحوّل إلى تراب(1).

3 ـ ما معنى الغثاء؟

اطّلعنا على مصير قوم ثمود وهو ـ كما ذكرته الآيات السابقة ـ أنّهم قد أصبحوا «غثاء». والغثاء، يعني النباتات الجافّة المتراكمة والطافية على مياه السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وإنكسارها وتفاهتها، لأنّ هشيم النبات فوق مياه السيل تافه لا قيمة له، ولا أثر له بعد إنتهاء السيل (وقد شرحنا بإسهاب الصيحة السماوية في تفسير الآية 67 من سورة هود) هذا ولم يكن هذا العقاب خاصّاً ـ فقط ـ بقوم ثمود، حيث هناك أقوام أُخرى اُهلكت به. وقد تمّ شرحه في حينه.


1 ـ تفسير روح المعاني حول الآيات موضع البحث.

[453]

4 ـ مصير عام

وممّا يلفت النظر أنّ آخر عبارة في الآيات ـ موضع البحث ـ أخرجت القضيّة من إطارها وجعلتها قانوناً عامّاً، حيث تقول: (فبعداً للقوم الظالمين) وهذا إستنتاج نهائي من كلّ هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهيّة والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيّئة لا تختّص بجماعة معيّنة، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.

* * *

[454]

الآيات

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ(42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ(43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَـهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ (44)

التّفسير

هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر:

بعد أن تحدّث القرآن عن قصّة قوم نوح، أشار إلى أقوام أُخرى جاءت بعدهم، وقبل النّبي موسى (عليه السلام) حيث يقول: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين)لأنّ هذا أمر الله وسنّته في خلقه، فالفيض الإلهي لا ينقطع عن عباده فلو سعى جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه المسيرة إلى أمام.

ولهذه الأقوام تأريخ معيّن وأجل محدود (ما تسبق من اُمّة أجلها وما يستأخرون) فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فوراً، دون تأخير لحظة أو تقديم لحظة.

[455]

«الأجل» بمعنى العمر ومدّة الشيء، كأن نقول: أجل هذا الصكّ ثلاثة أشهر، أي أنّ مدّته تنتهي بعد ثلاثة أشهر، أو إلى أجل مسمّى أي إلى تاريخ محدّد.

وكما قلنا سابقاً فالأجل نوعان: «المحتّم» و «المشروط»، فالأجل المحتّم إنتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغيير فيه. أمّا الأجل المشروط فيمكن أن يتغيّر حسب تغيّر الظروف فيزداد أو ينقص، وقد تحدّثنا عن ذلك سابقاً بإسهاب(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية السابقة تشير إلى «الأجل المحتّم».

وتكشف الآية التالية حقيقة إستمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى الله حيث تقول: (ثمّ أرسلنا رسلنا تترا).

كلمة «تترا» مشتقّة من «الوتر» بمعنى التعاقب، و «تواتر الأخبار» تعني وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها يتيقّن الإنسان بصدقها، وهذه الكلمة مشتقّة في الأصل من «الوتر» بمعنى حبل القوس حيث يتّصل الحبل بالقوس من جهتيه ويقع خلفه ليقرب رأسي القوس (ومن حيث التركيب فإنّ كلمة «تترا» في الأصل «وترا» تبدّلت الواو فيه تاءً).

وعلى كلّ حال فإنّ معلّمي السّماء، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس، إلاّ أنّ الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار، فإنّه: (كلّما جاء اُمّة رسولها كذّبوه).

وعندما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حدّه وتمّت الحجّة عليهم. (فاتّبعنا بعضهم بعضاً).

أي أهلكنا الاُمم المعاندة الواحدة بعد الاُخرى ومحوناهم من الوجود.

وقد تمّ محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداول الناس (وجعلناهم


1 ـ للإستزادة يراجع تفسير الآية الثّانية من سورة الأنعام.

[456]

أحاديث). إشارة إلى أنّ كلّ اُمّة تتعرّض للهلاك، ويبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناك، وأحياناً لا يبقى منهم أي أثر. وهذه الاُمم المعاندة والطاغية كانت ضمن المجموعة الثّانية(1).

وتقول الآية في الختام، كما ذكرت الآيات السابقة (فبعداً لقوم لا يؤمنون)أجل، إنّ هذا المصير نتيجة لعدم الإيمان بالله، فكلّ مجموعة لا إيمان لها، معاندة وظالمة، تبتلى بهذا المصير، فتمحق بشكل لا يبقى إلاّ ذكرها في التاريخ وأحاديث الناس.

وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة الله في هذه الدنيا فحسب، بل بعيدون عن هذه الرحمة في الآخرة أيضاً، لأنّ تعبير الآية جاء عامّاً يشمل الجميع.

* * *


1 ـ «الأحاديث» جمع حديث، وتفسيرها كما مرّ أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جمع «اُحدوثة» وتعني الأخبار المدهشة التي يتحدّث الناس عنها. (تفسير الفخر الرازي حول الآية موضع البحث).

[457]

الآيات

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَـرُونَ بِآيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ(45) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـبِدُونَ(46) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)

التّفسير

قيام موسى وهلاك الفراعنة:

كان الحديث حتّى الآن عن أقوام بعث الله لهم رسلا قبل موسى (عليه السلام)، وهلكوا. أمّا الآيات موضع البحث فقد تحدّثت بإختصار جدّاً عن إنتفاضة موسى وهارون على الفراعنة، ومصير هؤلاء القوم المستكبرين فقالت: (ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين).

وهناك تفاسير عديدة لما تقصده كلمة «الآيات» وعبارة (سلطان مبين) وما الفرق بينهما؟

1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ «الآيات» تعني المعجزات التي أعطاها الله

[458]

لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة «سلطان مبين» المنطق القوي والبرهان الدافع لموسى (عليه السلام) أمام الفراعنة.

2 ـ التّفسير الثّاني أنّ «الآيات» تعني جميع معاجز موسى(عليه السلام)، ويقصد بعبارة (سلطان مبين) بعض معاجز موسى المهمّة كعصاه واليد البيضاء، لأنّ لهما خصائص ساعدت موسى على الإنتصار على الفراعنة.

3 ـ واحتمل البعض أنّ كلمة «الآيات» إشارت إلى آيات «التوراة»، وبيان التعاليم وما شاكل ذلك، وعبارة «سلطان مبين» إشارة إلى معجزات موسى (عليه السلام).

إلاّ أنّه لو لاحظنا إستعمالات عبارة «سلطان مبين» في القرآن المجيد لوجدنا التّفسير الأوّل أقرب إلى الصواب، لأنّ كلمة «سلطان» أو «سلطان مبين» وردت في القرآن بمعنى الدليل والمنطق الواضح(1).

أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين (إلى فرعون وملأه). لماذا تتحدّث الآية فقط عن الملأ (المجتمع المترف المعاند أو ما يسمّى بطبقة الأشراف). ولم تقل أنّ رسالتهما إلى شعب مصر كلّه.

لعلّ ذلك إشارة إلى أنّ الفراعنة هم أساس الفساد، وإن صلحوا فالباقون أمرهم سهل. إضافةً إلى كونهم قادة البلد، ولا يصلح أي بلد إلاّ بصلاح قادته. إلاّ أنّهم (فاستكبروا) لأنّهم لم يرضخوا لآيات الحقّ والسلطان المبين.