![]() |
![]() |
![]() |
وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضاً، وهي: إنّ «الكرب» في اللغة تعني الغمّ الشديد، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.
وأيُّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحقّ (950) عاماً، كما صرّح القرآن بذلك، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدّة الطويلة إلاّ ثمانون شخصاً على المشهور بين المفسّرين (3)، وأمّا عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية1 ـ راجع ما ذكرنا عليه آنفاً ذيل الآية (25) سورة هود.
2 ـ هود، 46.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآية (40) من سورة هود، ونور الثقلين، المجلّد2، ص350.
والإستهزاء والأذى.
وتضيف الآية التالية: (ونصرناه(1) من القوم الذين كذّبوا بآياتنا إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة أُخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهيّة لا تتّصف بصفة الإنتقام مطلقاً، بل هي على أساس إنتخاب الأصلح، أي إنّ حقّ الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لاُناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله، أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الإنحراف إنتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب. أمّا اُولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقاً في صلاحهم في المستقبل، فلا مصير ولا جزاء لهم إلاّ الموت والفناء.
* * *
الجدير بالذكر أنّ هذه السورة ذكرت آنفاً قصة «إبراهيم» و «لوط» وكذلك سوف تذكر قصتي «أيّوب» و «يونس»، وقد ذكرت آنفاً قصّة نوح (عليه السلام) وفي جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء.
وكأنّ منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من الكروب، ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأملا للمؤمنين، وبملاحظة أنّ هذه السورة مكّية، وأنّ المسلمين كانوا حينئذ في شدّة وكرب فستتجلّى أهميّة هذا الموضوع أكثر ...
* * *
1 ـ إن فعل (نصر) يعدّى عادةً بـ (على) إلى مفعول ثان، فيقال مثلا: اللّهم انصرنا عليهم. أمّا هنا فقد إستعملت كلمة (من)، وربّما كان ذلك من أجل أنّ المراد النصرة المقترنة بالنجاة، لأنّ مادّة النجاة تتعدّى بـ(من).
وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَـنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـهِدِينَ(78) فَفَهَّمْنَـهَا سُلَيْمَـنَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَـعِلِينَ(79) وَعَلَّمْنَـهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَـكِرُونَ(80)
بعد الحوادث والوقائع المتعلّقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط(عليهم السلام)، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة خفيّة إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت(1) فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين).
وبالرغم من أنّ القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفيّة، وإكتفى بإشارة
1 ـ «نفشت» من مادّة نَفْش على وزن (حرب) أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي مزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً لذا قال البعض: إنّها الرعي في الليل. و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.
إجمالية وإستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد، إلاّ أنّه وردت بحوث كثيرة حولها في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين.
فقال جماعة: إنّ القصّة كانت كما يلي: إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان ـ والذي كان طفلا آنذاك ـ لأبيه: يانبي الله العظيم، غيّر هذا الحكم وعدّله! فقال الأب: وكيف ذاك؟ قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الأُولى يُردّ إلى صاحبه، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها. وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية.
وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)(1).
ويمكن أن يتصوّر عدم تناسب هذا التّفسير مع كلمة (حرث) التي تعني الزراعة، ولكن يبدو أنّ للحرث معنى واسعاً يشمل الزراعة والبستان، كما يستفاد ذلك من قصّة أصحاب الجنّة في سورة القلم، الآية 17 ـ 32.
لكن تبقى هنا عدّة إستفهامات مهمّة:
1 ـ ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟
2 ـ كيف إختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على أساس الإجتهاد؟
3 ـ هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم، أم أنّهما حكما بحكمين مستقلّين يختلف كلّ منهما عن الآخر؟!
ويمكن الإجابة عن السؤال الأوّل: إنّ المعيار كان جبران الخسارة، فينظر
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
داود إلى أنّ الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبراً للخسارة، لأنّ التقصير من جانب صاحب الأغنام.
وينبغي الإلتفات إلى أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدّي على زرع الآخرين في الليل، كما أنّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار(1).
أمّا معيار حكم سليمان(عليه السلام) فقد كان يرى أنّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!
بناءً على هذا فإنّ الإثنين قد قضيا بالحقّ والعدل، مع فارق أنّ حكم سليمان كان أدقّ، لأنّ الخسارة لا تدفع مرّة واحدة في مكان واحد، بل تؤدّي بصورة تدريجيّة بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضاً. وإضافةً إلى ما مرّ، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران، لأنّ جذور النباتات لم تتلف، بل ذهبت منافعها المؤقتة، ولذلك فإنّ من الأعدل ألاّ تنقل اُصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان، بل تنقل منافعها فقط.
ونقول في جواب السؤال الثّاني: لا شكّ أنّ حكم الأنبياء مستند إلى الوحي الإلهي، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ وحياً خاصّاً ينزل في كلّ مورد من موارد الحكم، بل إنّ الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكليّة التي تلقّوها من الوحي.
بناءً على هذا فإنّه لا توجد مسألة الإجتهاد النظري بمعناها الإصطلاحي، وهو الإجتهاد الظنّي، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة كليّة، وأن يكون نبيّان كلّ منهما يرى أحد الطريقين، وكلاهما صحيح في الواقع، وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا ـ على سبيل الإتّفاق ـ من هذا القبيل كما
1 ـ نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.
بيّناه آنفاً بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه، فإنّ الطريق الذي إختاره سليمان(عليه السلام) كان أقرب من الناحية التنفيذيّة، وجملة (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً) والتي ستأتي في الآية التالية، شاهدة على صحّة كلا القضاءين.
ونقول في جواب السؤال الثّالث: لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور، وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء، والتعبير بـ (حكمهم) شاهد أيضاً على وحدة الحكم النهائي، بالرغم من وجود حكمين مختلفين في البداية. (فتأمّلوا بدقّة).
ونقرأ في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «لم يحكما، إنّما كانا يتناظران»(1).
ويستفاد من رواية أُخرى رويت في اُصول الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّ هذه القضيّة حدثت لتعيين وصيّ داود وخليفته وأن يتعلّم اُولئك النفر منهما أيضاً(2).
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة: (ففّهمناها سليمان) ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً).
ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداود(عليه السلام)، فتقول: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير) فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا (وكنّا فاعلين).
* * *
1 ـ من لا يحضره الفقيه، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص443.
2 ـ لمزيد الإطّلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
هناك بحث بين المفسّرين في أنّه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟ وما المراد من قوله تعالى: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن)؟!
1 ـ فاحتُمل أحياناً أنّ هذا كان صوت داود الرخيم المؤثّر الجذّاب، والذي كان ينعكس في الجبال، وكان يجذب الطيور إليه.
2 ـ وقالوا حيناً آخر: إنّ هذا التسبيح كان تسبيحاً مقترناً بالإدراك والشعور الموجود في باطن ذرّات العالم، لأنّ كلّ موجودات العالم لها نوع من العقل والشعور حسب هذه النظرية، وعندما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة والتسبيح كانت تردّد معه، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.
3 ـ وقال البعض: إنّ المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات العالم بلسان حالها، لأنّ لكلّ موجود نظاماً دقيقاً جدّاً. وهذا النظام الدقيق يحكي عن طهارة ونزاهة الله، وعن أنّ له صفات كمال، وبناءً على هذا فإنّ نظام عالم الوجود العجيب في كلّ زاوية منه تسبيح وحمد، فـ «التسبيح» هو التنزيه عن النقائص، و«الحمد» هو الثناء على صفات الكمال(1).
فإن قيل: إنّ التسبيح التكويني لا يختّص بالجبال والطيور، ولا بداود، بل أنّ نغمة هذا التسبيح تنبعث من كلّ الأرجاء والموجودات على الدوام.
قالوا في الجواب: صحيح إنّ هذا التسبيح عام، ولكن لا يدركه الجميع، فقد كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود، وكان يحسن جيداً أنّ الجبال والطير يسبّحن معه.
وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير، وما نفهمه من ظاهر الآية هو أنّ الجبال والطير كانت تردّد وتتجاوب مع داود، وكانت تسبّح الله، وفي الوقت
1 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (44) من سورة الإسراء.
نفسه لا تضادّ بين هذه التفاسير الثلاثة، فالجمع بينها ممكن.
وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة أُخرى من المواهب التي وهبها الله لهذا النّبي الجليل، فقالت: (وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصّنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون).
«اللبوس» كما يقول العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ـ كلّ نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية كالدرع والسيف والرمح(1). إلاّ أنّ القرائن التي في آيات القرآن توحي بأنّ اللبوس هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.
أمّا كيف ألان الله الحديد لداود، وعلّمه صنع الدروع، فسنفصّل ذلك في ذيل الآيات (10 ـ 11) من سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
وَلِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الاَْرْضِ الَّتِى بَـرَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْء عَـلِمِينَ(81) وَمِنَ الشَّيَـطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَـفِظِينَ(82)
تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء ـ أي سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الأُولى منهما: (ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به (وكنّا بكلّ شيء عالمين) فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه، ونعلم كيفية السيطرة عليها، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.
إنّ جملة (ولسليمان ...) معطوفة على جملة (وسخّرنا مع داود الجبال) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحياناً لتسبّح معه، وأحياناً نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.
إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ الرياح الهادئة أيضاً كانت تحت إمرة سليمان، كما تصوّر ذلك الآية (36) من سورة ص: (فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب).
إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثّانية أعجب.
ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمان(عليه السلام)، لم تكن الوحيدة، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزاً لحكومة سليمان.
أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟
وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟
وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟
وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الاُخرى؟
والخلاصة: أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(1)؟
إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.
1 ـ يظهر من الآية 12/سورة سبأ: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر) بصورة مجملة أنّهم كانوا يسيرون صباحاً مسافةً أمدها شهر ويسيرون عصراً مسافة أمدها شهر «بمقياس الحركة في ذلك الزمان».
والخلاصة: فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه، فهو قادر على كلّ شيء، وعالم بكلّ شيء.
لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان ـ كالفترات الاُخرى من حياته العجيبة ـ أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقاً، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.
ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط، فربّما كان ذلك إشارة إلى إستغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة، وتلقيح النباتات، وتنقية الحنطة والشعير، وحركة السفن، خاصّةً وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضاً زراعية من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ جانباً مهمّاً منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وكان يُنتفع منها في حركة الملاحة(1).
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيراً وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.
ثمّ تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصّة بسليمان (عليه السلام) فتقول: (ومن الشياطين من يغوصون له) لإستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الاُخرى (ويعملون عملا دون ذلك وكنّا لهم حافظين) من التمرّد والطغيان على أوامر سليمان(عليه السلام).
إنّ ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم «الشياطين»، جاء في آيات سورة «سبأ» باسم الجن ـ الآية (12 و13) من سورة سبأ ـ ومن الواضح أنّ هذين اللفظين
1 ـ قصص القرآن، 185; أعلام القرآن، 386.
لا منافاة بينهما، لأنّا نعلم أنّ الشياطين من طائفة الجنّ.
وعلى كلّ حال، فقد ذكرنا أنّ الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور وإستعداد، وعليها تكليف، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر، ولذلك سمّيت بالجنّ، وهم ـ كما يستفاد من آيات سورة الجنّ ـ كالبشر منهم المؤمنون الصالحون، ومنهم الكافرون العصاة، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه الموجودات، ولأنّ المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.
ويستفاد من أيات سورة سبأ وسورة ص ـ وكذلك من الآية محلّ البحث ـ جيداً أنّ هذه الجماعة من الجنّ التي سخّرت لسليمان، كانوا أفراداً أذكياء نشيطين فنّانين صنّاعاً ماهرين في مجالات مختلفة، وجملة (ويعملون عملا دون ذلك)تبيّن إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنّهم كانوا (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).
ويستفاد من جزء من الآيات المتعلّقة بسليمان أنّ جماعة من الشياطين العصاة كانوا موجودين أيضاً، وكان سليمان(عليه السلام) قد أوثقهم: (وآخرين مقرّنين في الأصفاد)(1)، وربّما كانت جملة (وكنّا لهم حافظين) إشارة إلى هذا المعنى بأنّا كنّا نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرّد والعصيان. وستطالعون تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.
ونذكر مرّة أُخرى أنّ هناك أساطير كاذبة أو مشكوكاً فيها كثيرة حول حياة سليمان وجنوده، يجب أن لا تُمزج مع ما في متن القرآن، لئلاّ تكون حربة في يد المتصيدين في الماء العكر.
* * *
1 ـ سورة ص، 38.
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ(83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَـهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مُّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَـبِدِينَ(84)
تتحدّث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصّته المُلهمة، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي اُشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.
إنّ لأيّوب قصّة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره وتحمّله عجيبين، خاصّةً أمام الحوادث المرّة، بحيث أنّ صبر أيّوب أصبح مضرباً للمثل منذ القدم.
غير أنّ هاتين الآيتين تشيران ـ بصورة خاصّة ـ إلى مرحلة نجاته وإنتصاره على المصاعب، وإستعادة ما فقده من المواهب، ليكون درساً لكلّ المؤمنين على مرّ الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها، ولا سيّما لمؤمني مكّة الذين كانوا يُعانون ضغوطاً من أعدائهم عند نزول هذه الآيات، فتقول: (وأيّوب إذ نادى ربّه
أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين).
وكلمة «الضرّ». تطلق على كلّ سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه، وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزّة وإنهيار الشخصيّة وأمثال ذلك، وكما سنقول فيما بعد، فإنّ أيّوب قد إبتلي بكثير من هذه المصائب.
إنّ أيّوب ـ كسائر الأنبياء ـ يُظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة، ولا يعبّر بتعبير تُشمّ منه رائحة الشكوى، بل يقول فقط: إنّي ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين، فهو حتّى لا يقول: حلّ مشكلتي، لأنّه يعلم أنّه جليل عظيم، وهو يعرف حقّ العظمة.
وتقول الآية التالية: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلّما زادت، وكلّما زادت الإبتلاءات، وكلّما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم، فإنّها جميعاً ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف الله، فلا تجبر الخسارة وحسب، بل إنّ الله سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاءً لصبرهم وثباتهم، وهذا درس وعبرة لكلّ المسلمين، وخاصةً المسلمين الذين كانوا تحت محاصرة العدو الشديدة، وتحت ضغط المشاكل عند نزول هذه الآيات.
* * *
في حديث عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّ رجلا سأله عن بليّة أيّوب لأي علّة كانت؟ فأجابه بما ملخّصه. إنّ هذا الإبتلاء لم يكن لكفران نعمة، بل على العكس من ذلك، فإنّه كان لشكر نعمة حسده عليها إبليس، فقال لربّه: ياربّ إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلاّ بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك
شكرك، فسلّطني على دنياه حتّى يتبيّن الأمر، فسلّطه الله عليه ليكون هذا الحادث سنداً لكلّ سالكي طريق الحقّ.
فانحدر إبليس وأهلك أموال أيّوب وأولاده الواحد تلو الآخر، ولكن لم تزد هذه الحوادث أيّوب إلاّ ثباتاً على الإيمان وخضوعاً لقضاء الله وقدره.
فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه، فأحرق كلّ زرعه، وأهلك كلّ غنمه، فلم يزدد أيّوب إلاّ حمداً وشكراً.
وأخيراً طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيّوب ليكون سبب مرضه، وهكذا كان بحيث لم يكن قادراً على الحركة من شدّة المرض والجراحات، لكن من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.
والخلاصة، فقد كانت النعم تسلب من أيّوب الوحدة تلو الاُخرى، ولكن شكره كان يزداد في موازاتها، حتّى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته، فقالوا: قل لنا أي ذنب عظيم قد إقترفت حتّى إبتليت بمثل هذا الإبتلاء؟ وهنا بدأت شماتة هذا وذاك، وكان هذا الأمر شديداً على أيّوب، فقال مجيباً: وعزّة ربّي انّي ما أكلت لقمة من طعام إلاّ ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي، وما عرض لي أمران كلاهما فيه طاعة لله إلاّ أخذت بأشدّهما عليّ.
عند ذاك كان أيّوب قد إجتاز جميع الإمتحانات صابراً شاكراً متجمّلا: وهو يناجي ربّه بلسان مهذّب ودعا أن يكشف عنه ضرّه بتعبير صادق ليس فيه أدنى شكوى ـ وهو ما ذكرته الآية المتقدّمة: (ربّه أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين)ـ وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهيّة، ورفع البلاء بسرعة، وإنهمرت عليه النعم الإلهيّة أكثر من ذي قبل(1).
أجل .. إنّ رجال الحقّ لا تتغيّر أفكارهم وأعمالهم بتغيّر النعم، فهم يتوجّهون إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوّتهم وضعفهم، وبكلمة واحدة
1 ـ تفسير القمّي، طبقاً لنقل تفسير الميزان.
في كلّ الأحوال، ولا تغيّرهم حوادث الحياة، فإنّ أرواحهم كالمحيط العظيم لا يؤثّر في هدوئه تلاطم الرياح العاتية.
كما أنّهم لا ييأسون لهول الحوادث المرّة وكثرتها، بل يواجهونها ويصمدون لها حتّى تفتح أبواب الرحمة الإلهيّة، لعلمهم أنّ الحوادث والظروف الصعبة إمتحانات إلهيّة يُعدّها الله لخاصّة عباده ليكونوا أكثر مراناً ومراساً ..
2 ـ المعروف بين المفسّرين في تفسير جملة (آتيناه أهله ومثله معهم) أنّ الله سبحانه أرجع أولاده الهلكى إلى حياتهم الأُولى ورزقه أولاداً آخرين.
ونقرأ في بعض الرّوايات: إنّ الله قد ردّ عليه الأولاد الذين هلكوا في هذه الحادثة، وأولاده الذين ماتوا قبلها(1).
وإحتمل بعضهم أنّ الله قد وهب أيّوب أولاداً وأحفاداً جدداً ليسدّوا مسدّ الأولاد المفقودين ويملأوا الفراغ الذي تركوه.
3 ـ نقرأ في بعض الرّوايات غير المعتبرة أنّ بدن أيّوب قد تعفّن، نتيجة المرض الشديد، إلى درجة أنّه لم يكن بمقدور الناس أن يقتربوا منه، إلاّ أنّ الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تنفي هذا المعنى بصراحة، والدليل العقلي يؤكّد هذا المعنى أيضاً، لأنّ النّبي إذا كان في حال منفّرة، فإنّ ذلك لا يناسب منهج رسالته، فكلّ نبي ينبغي أن يكون على حالة تُمكّن الناس من الإتّصال به وملاقاته ليسمعوا كلام الحقّ، أي إنّ للنّبي جاذبية خاصّة.
وستطالعون إن شاء الله تعالى تفصيلا أكثر حول قصّة أيّوب في الآية (41 ـ 44) سورة ص.
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج3، ص448.
وَإِسْمَـعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّـبِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَـهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّـلِحِينَ(86)
تعقيباً على قصّة أيّوب(عليه السلام) التربوية، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث، تشير الآيتان ـ محلّ البحث ـ إلى صبر ثلاثة من أنبياء الله الآخرين فتقول الأُولى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين) فكلّ واحد من هؤلاء صبر طوال عمره أمام الأعداء، أو أمام مشاكل الحياة المجهدة المضنية، ولم يركع أبداً في مقابل هذه الحوادث، وكان كلّ منهم مثلا أعلى في الصبر والإستقامة.
ثمّ تبيّن الآية الاُخرى موهبة إلهيّة لهؤلاء مقابل الصبر والثبات، فتقول: (وأدخلناهم في رحمتنا إنّهم من الصالحين).
ممّا يلفت النظر هنا أنّه لم يقل: وهبناهم رحمتنا، بل قال: وأدخلناهم في رحمتنا، فكأنّ كلّ أجسامهم وأرواحهم أصبحت غارقة في الرحمة الإلهيّة، بعد أن كانت غارقة في بحر المشاكل.
«إدريس» ـ نبي الله العظيم ـ وكما تقدّم ـ هو جدّ والد نوح(عليه السلام) وفقاً لما رواه أغلب المفسّرين، وإسمه في التوّراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ويرى بعضهم أنّ إدريس مشتق من مادّة الدرس، لأنّه كان أوّل من كتب بالقلم، وكان ذا إحاطة بعلم الفلك والنجوم والحساب والهيأة بالإضافة إلى كونه نبيّاً .. ويقال أنّه أوّل من علّم الناس خياطة الثياب.
وأمّا «ذو الكفل»، فالمشهور أنّه كان من الأنبياء(1)، وإن كان بعضهم يعتقد أنّه كان من الصالحين. وظاهر آيات القرآن التي ذكرته في عداد الأنبياء يؤيّد أنّه من الأنبياء، وأغلب الظنّ أنّه كان من أنبياء بني إسرائيل(2).
وهناك إحتمالات عديدة في سبب تسميته بهذا الإسم، مع ملاحظة أنّ كلمة «كفل» جاءت بمعنى النصيب، وكذلك بمعنى الكفالة والضمان والتعهّد.
فقال بعضهم: إنّ الله سبحانه لمّا غمره بنصيب وافر من ثوابه ورحمته في مقابل الأعمال والعبادات الكثيرة التي كان يؤدّيها سمّي ذا الكفل، أي صاحب الحظّ الأوفى.
وقال آخرون: إنّه لمّا تعهّد بأن يحيي الليل في العبادة ويصوم النهار، وأن لا يغضب عند الحكم، وأن يفي بوعده أبداً، لذلك سمّي بذي الكفل.
ويعتقد بعضهم ـ أيضاً ـ أنّ «ذا الكفل» لقب «إلياس»، كما أنّ إسرائيل لقب يعقوب، والمسيح لقب عيسى، وذا النون لقب يونس(3). على نبيّنا وآله وعليهم الصلاة والسلام ..
* * *
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ تفسير في ظلال القرآن، الجلد5، ص556.
3 ـ تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث، ونقرأ في التأريخ الكامل: إنّ الكفل كان أحد أولاد أيّوب، وكان إسمه الأصلي (بشر) وكان يعيش في أرض الشام. الكامل لابن الأثير، ج1، ص136.
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـلِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُجِى الْمُؤْمِنِينَ(88)
تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصّة النّبي الكبير يونس(عليه السلام)، حيث تقول الأُولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضباً عليهم: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً).
كلمة «النون» في اللغة تعني السمكة العظيمة، أو بتعبير آخر تعني الحوت، وبناءً على هذا فإنّ «ذا النون» معناه صاحب الحوت، وإختيار هذا الإسم ليونس بسبب الحادثة التي سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وعلى كلّ حال، فإنّه ذهب مغاضباً (فظنّ أن لن نقدر(1) عليه) فقد كان يظنّ1 ـ «نقدر» من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كلّ شيء قدراً محدوداً، لا على نطاق واسع وبدون حساب.
أنّه قد أدّى كلّ رسالته بين قومه العاصين، ولم يترك حتّى «الأُولى» في هذا الشأن، فلو تركهم وشأنهم فلا شيء عليه، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتجّهون إلى الله سبحانه.
وأخيراً، ونتيجة تركه الأولى هذا، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين) فقد ظلمت نفسي، وظلمت قومي، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب، وأُواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.
وتقول الآية التالية: (فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين)أجل لم يكن هذا الأمر خاصّاً بيونس، بل هو لطف الله الشامل فكلّ مؤمن يعتذر من ربّه عن تقصيره ويسأله العون والمدد والرحمة فإنّ الله سيستجيب له ويكشف عنه غمّه.
* * *
ستأتي تفاصيل قصّة يونس في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى، أمّا ملخّصها فهو:
إنّ «يونس» كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض نينوى بالعراق، ولكن رغم كلّ ما بذله من جهود ومساع فإنّ إرشاداته وتوجيهاته لم تؤثر في قلوبهم، فغضب وهجر تلك الأرض، وذهب باتجاه البحر وركب السفينة، وأثناء الطريق هاج البحر، فكاد كلّ ركّاب السفينة أن يغرقوا.
وهنا قال ربّان السفينة: إنّي أظنّ أنّ بينكم عبداً هارباً يجب أن يلقى في البحر ـ أو إنّه قال: إنّ السفينة ثقيلة جدّاً ويجب أن نلقي فرداً منّا تخرجه
القرعة ـ فاقترعوا عدّة مرّات، وكان اسم يونس(عليه السلام) يخرج في كلّ مرّة! فعلم أنّ في هذا الأمر سرّاً خفيّاً، فسلّم للحوادث، وعندما ألقوه في البحر إبتلعه حوت عظيم وأبقاه الله في بطنه حيّاً.
وأخيراً إنتبه إلى أنّه قد ترك الأولى، فتوجّه إلى الله وإعترف بتقصيره، فإستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيّق(1).
من الممكن أن يتصوّر إستحالة هذا الحادث من الناحية العلمية، ولكن لا شكّ أنّ هذا الأمر خارق للعادة، إلاّ أنّه ليس بمحال عقلي، كإحياء الموتى فإنّه يعدّ أمراً خارقاً للعادة وليس محالا، وبتعبير آخر: فإنّ وقوعه غير ممكن بالطرق العادية، ولكنّه ليس صعباً مع الإستعانة بقدرة الله غير المحدودة.
وستقرؤون تفصيلا أكثر حول هذه الحادثة في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.
من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وتؤيّد ذلك الرّواية التي رويت عن الإمام الباقر(عليه السلام)(2).
![]() |
![]() |
![]() |