![]() |
![]() |
![]() |
لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد أشارت الآيات الأُولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)(1) اُولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم (يمشون في مساكنهم).
1 ـ كما قلنا سابقاً، فإنّ «قرون» جمع قرن، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما، ويقال أحياناً لنفس ذلك الزمان: قرن. وهي من مادّة المقارنة.
إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم، إلاّ أنّهم لا يعتبرون، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتُعوِلُ صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.
نعم .. (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى)(1).
إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الاُمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً، وهو حقّاً مَعْلَمٌ مُذكّر منبّه، فما أكثر اُولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة، ولا يعتبرون بها، إلاّ أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم، وكثيراً ما تغيّر مسير حياتهم.
ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال»(2) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.
الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يُثار هنا، وهو: لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول القرآن: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً وأجل مسمّى).
إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.
1 ـ «النهى» من مادّة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.
2 ـ سفينة البحار ـ مادّة عبر ـ الجزء2 ص146.
إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فوراً، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)(1). وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.
إنّ التعبير بـ (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن، إشارةً إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(2).
وعلى كلّ حال، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة، وقانون التكامل هذا، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.
ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: (فاصبر على ما يقولون) ومن أجل رفع معنويات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنّه يُؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.
لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة، وكلامهم الخشن. إلاّ أنّ هناك بحثاً بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح
1 ـ النحل، 61.
2 ـ لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (1 و2) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).
والحمد المطلق.
في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس، وهي على النحو التالي.
(قبل طلوع الشمس) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.
(وقبل غروبها) وهي إشارة إلى صلاة العصر، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.
(ومن آناء الليل) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك صلاة الليل.
أمّا التعبير بـ(أطراف النهار) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر، لأنّ أطراف جمع طرف، وهو يعني الجانب، وإذا قسّمنا اليوم نصفين، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.
ويستفاد من بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ أنّ (أطراف النهار) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم. وخاصةً أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعاً يشمل ساعات اليوم المختلفة.
وهناك إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية محل البحث أنّه قال: «فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير».
إلاّ أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات، وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة، وفي بعضها بالصلاة.
والجدير بالذكر أنّ جملة «لعلّك ترضى» في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه، والصبر والتحمّل في مقابل قول اُولئك، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه، فلا يخاف من الحوادث الصعبة، ولا يخشى عدوّاً باعتماده على هذا السند والعماد القوي، وبهذا سيملأ الهدوء والإطمئنان وجوده.
ولعلّ التعبير بـ(لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة، وهو أنّ (لعلّ) عادةً إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سبباً لحصول الإطمئنان، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.
ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.
* * *
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى ما مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَـقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132) وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِيَنا بِآيَة مِّن رَّبِّهِ أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاُْولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـبُ الصِّرَطِ السَّوِىِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمّل.
فتقول أوّلا: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلاّ (زهرة الحياة الدنيا)، تلك الأزهار التي تُقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض، ولا تبقى إلاّ أيّاماً معدودات.
في الوقت الذي أمددناهم بها (لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.
وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لروحه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.
لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو اُسرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة عامّة، إلاّ أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً(عليهما السلام)) وربّما شملت بعضاً من أقارب النّبي الآخرين، إلاّ أنّ مصطلح أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.
ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم، فإنّا (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة الله، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والاُمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.
إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات ـ الآية (56 ـ 58): (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون . وما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن
يطعمون . إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين) وعلى هذا، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرةً إلى نفس العابدين.
وتضيف الآية في النهاية: (والعاقبة للتقوى) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى، والمتّقون هم الفائزون في النهاية، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات، لأنّ هذا أساس العبادة، وفي الآية (37) منسورة الحجّ نقرأ: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.
ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه) واجابتهم مباشرة: (أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأُولى)حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ المراد من «البيّنة» نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى، فالآية تقول: لماذا يطلب هؤلاء معجزة، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الإمتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافياً لهؤلاء؟
وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية، وهو: إنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ مع أنّه لم
يكن قد درس وتعلّم ـ فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافةً إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماماً على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة، وهذا دليل أحقّيته(1).
وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اُناساً طلاّب حقّ، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتّى (ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى) إلاّ أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كلّ يوم كلاماً، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.
وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء و (قل كلّ متربّص) فنحن بإنتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب (فتربّصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن إهتدى) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.
وخلاصة القول: فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداء، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة، فتارةً ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم، إذ هي للإمتحان والإبتلاء، وتارةً يأمرهم بالصلاة والإستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيراً يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيراً أسود مشؤوماً يجب أن يكونوا في إنتظاره.
اللهمّ اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.
1 ـ التّفسير الأوّل في مجمع البيان، والثّاني في الظلال، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير، وهذه التفاسير وإن إختلفت إلاّ أنّها لا تتضارب فيما بينها، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.
اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.
واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة، ووفّقنا لقبول الحقّ.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة طه
* * *
مكّيّة
وعددُ آياتِها مائة وإثنتا عشرة آية
روي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل تلاوة هذه السورة أنّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر إسمه في القرآن»(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من قرأ سورة الأنبياء حبّاً لها كان كمن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، وكان مهيباً في أعين الناس حياة الدنيا»(2).
إنّ جملة «حبّاً لها» مفتاح في الواقع لفهم معنى الرّوايات التي وصلتنا في مجال فضل سورة القرآن، وهي تعني أنّ الهدف ليس هو التلاوة وتلفّظ الكلمات فقط، بل عشق المحتوى، ومن المسلّم أنّ عشق المحتوى بلا عمل لا معنى له، وإذا ما ادّعى شخص أنّه يعشق السورة الفلانيّة، ويخالف عمله مفاهيمها، فإنّه يكذب.
وقد قلنا مراراً: إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل، والقراءة مقدّمة للتفكير والتدبّر، وهو مقدّمة للإيمان والعمل!.
1 ـ إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء، لأنّ إسم ستّة
1 ـ تفسير نور الثقلين ج3 ص412.
2 ـ المصدر السابق.
عشر نبيّاً قد جاء في هذه السورة، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم، والبعض كإشارة، وهم:
موسى ـ هارون ـ إبراهيم ـ لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ نوح ـ داود ـ سليمان ـ أيّوب ـ إسماعيل ـ إدريس ـ ذو الكفل ـ ذو النون (يونس) ـ زكريا ـ يحيى (عليهم السلام)، وبناءً على هذا فإنّ عمدة البحوث المهمّة في هذه السورة تدور حول مناهج الأنبياء.
وإضافة إلى هؤلاء الأنبياء، فإنّ هناك أنبياء آخرين لم تذكر أسماؤهم صريحاً في هذه السورة، لكن قد ورد الكلام حولهم، كرسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسيح عيسى بن مريم(عليهما السلام).
2 ـ إضافة إلى ما مرّ، فإنّ خاصية السور المكّية التي تتحدّث عن العقائد الدينيّة، وبالأخصّ المبدأ والمعاد، منعكسة تماماً في هذه السورة.
3 ـ بحثت هذه السورة كذلك عن توحيد الخالق، وأنّه لا خالق ولا معبود سواه، وكذلك عن خلق العالم على أساس الهدف والتخطيط، ووحدة القوانين الحاكمة على هذا العالم، وكذلك وحدة مصدر ومنبع الحياة والوجود، وكذلك إشتراك الموجودات في مسألة الفناء والموت.
4 ـ وتحدث جانب آخر من هذه السورة عن إنتصار الحقّ على الباطل، والتوحيد على الشرك، وجنود الحقّ على جنود إبليس.
5 ـ والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدىء بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد، وتنتهي بتهديدات أُخرى في هذا المجال أيضاً.
إنّ الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في هذه السورة، ذُكر تفصيل حياة ونشاطات بعضهم في سورة أُخرى، إلاّ أنّ التأكيد في هذه السورة كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عندما كانوا يبتلون بالضائقات والمواقف الصعبة، كانوا يمدّون يد التوسّل والإستعانة نحو لطف الله وعونه، وكيف أنّ الله سبحانه كان يفتح أمامهم
الطرق المغلقة، وينجّيهم من الدوامات وتلاطم أمواج البلايا.
فإبراهيم حين اُبتلي بنار نمرود.
ويونس حينما حلّ في بطن الحوت.
وزكريا عندما رأى أنّ شمس عمره قد أوشكت على الغروب ولا خليفة له يكمل مسيره.
كما أنّها تتكلّم على سائر الأنبياء عند وقوعهم في المشاكل الصعبة العسيرة.
* * *
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة مُّعْرِضُونَ(1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2) لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ(3)قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(4) بَلْ قَالُوا أَضْغَـثُ أَحْلـمِ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الاَْوَّلُونَ(5)
تبدأ هذه السورة ـ كما أشرنا ـ بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: (إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة
معرضون).
إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كلّ وجودهم، وإلاّ فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب .. الحساب الدقيق المتناهي في الدقّة، ومع كلّ ذلك لا يكترث بالاُمور ويرتكب أنواع الذنوب!!
كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.
والتعبير بـ(الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهراً، وهو يدلّ على أنّ الجميع في غفلة، إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام، ويفكّرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.
والجميل في الأمر أنّه يقول: إقترب الحساب للناس، لا أنّ الناس إقتربوا للحساب، فكأنّ الحساب يسرع لإستقبال الناس.
ثمّ إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه، فـ«الغفلة عن الحساب» علّة في الحقيقة، و «الإعراض عن الحقّ» معلول لتلك العلّة. أو أنّ المراد هو الإعراض عن نفس الحساب، وعن الإستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى، أي إنّهم لمّا كانوا غافلين، فإنّهم لا يهيّؤون أنفسهم لذلك ويعرضون عنه.
وهنا يأتي سؤال، وهو: ما معنى إقتراب الحساب والقيامة؟
لقد قال البعض: إنّ المراد منه هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة ـ قرباً نسبيّاً ـ خاصة وأنّه قد روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين»(1) وأشار إلى السبابة1 ـ مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاُخرى.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا التعبير لكون القيامة موجودة، كما نرى ذلك في المثل السائر كلّ ما هو آت قريب.
ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا الأمرين.
وإحتمل بعض المفسّرين ـ كالقرطبي ـ أن يكون الحساب هنا إشارة إلى «القيامة الصغرى»، أي الموت، لأنّ جزءاً من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى الإنسان حين الموت(1). إلاّ أنّ ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.
ثمّ تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث إلاّ استمعوه وهم يلعبون) فلم يتّفق لهم أن يتدبّروا ساعة في كلام الله المجيد، ويتأمّلوا في آياته بجدّية، ويحتملوا ـ على الأقل ـ أن تكون مؤثّرة في حياتهم وعاقبة أمرهم ومصيرهم. فهم لا يفكّرون في الحساب الإلهي، ولا في تحذيرات الله سبحانه.
وأساساً فإنّ أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبّرين هو إتّخاذهم النصائح ومواعظ الأخيار لهواً ولعباً دائماً، وهذا هو السبب في عدم تنبّههم من غفلتهم، في حين أنّهم لو تعاملوا بصورة جديّة مع تلك النصائح ولو مرّة واحدة، فربّما تغيّر مسير حياتهم في تلك اللحظة!
كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كلّ كلام منبّه يوقظ الغافلين، والتعبير بـ(محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر، وتحتوي كلّ سورة من سور القرآن، وكلّ آية من آياته محتوى جديداً ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة، لكن أي فائدة مع مَن يتّخذ كلّ ذلك هزواً؟
1 ـ تفسير القرطبي. الجزء6 ص4307.
وأساساً، فإنّ هؤلاء يفرقون من كلّ جديد، ويتمسكّون ويفرحون لكلّ الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد، وكأنّهم قد تعاهدوا عهداً دائماً على أن يخالفوا كلّ حقيقة جديدة، مع أنّ أساس تكامل الإنسان مبتن على أن يواجه الإنسان كلّ يوم مسائل جديدة.
ثمّ تقول من أجل زيادة التأكيد: (لاهيةً قلوبهم) لأنّهم في الظاهر يتّخذون كلّ المسائل الجديّة لهواً ولعباً ـ كما تشير جملة «يلعبون» إلى ذلك، حيث وردت بصيغة فعل مضارع مطلق ـ وهم في الباطن مشغولون باللهو والمسائل التي لا قيمة لها، والتي تجعلهم في غفلة عن الواقع. ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة، ولا يوفّقون إليه.
ثمّ تشير إلى جانب من الخطط الشيطانيّة فتقول: (وأسّروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلاّ بشر مثلكم)(1) وإذا لم يكن سوى بشر إعتيادي، فلابدّ أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحراً، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر: (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)؟
قلنا: إنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وفي تلك الأيّام التي كان فيها أعداء الإسلام في غاية القوّة والمنعة، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم، بل وحتّى نجواهم؟ (وينبغي الإلتفات إلى أنّ القرآن يقول إنّهم كانوا يخفون حتّى مناجاتهم).
قد يكون ذلك من أجل أنّ هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتّصف بالتخطيط والتآمر، حتّى يظهروا أمام عامّة الناس موقفاً واحداً ضدّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إضافة إلى أنّ هؤلاء كانوا من ناحية القوّة متفوقّين حتماً، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوّة ونفوذ الكلام أكثر تفوّقاً، وهذا التفوّق هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لإنتخاب الأجوبة المصطنعة في
1 ـ في لغة العرب إذا كان الفعل إسماً ظاهراً فيؤتى عادةً بفعل مفرد، إلاّ أنّ هذه ليست قاعدة عامّة وثابتة، بل يأتون ـ لعلل خاصّة ـ بالفعل بصيغة الجمع وبالفاعل إسماً ظاهراً وجملة (وأسّروا النجوى الذين ظلموا) من هذا القبيل أيضاً.
مقابل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
على كلّ حال، فإنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم: إحداهما: كون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشراً، والاُخرى: تهمة السحر، وستأتي الإتّهامات الاُخرى في الآيات التالية أيضاً، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.
إلاّ أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامّه على لسان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: (قال ربّي يعلم القول في السّماء والأرض) فلا تتصوّروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفيّة تخفى عليه (وهو السميع العليم) فهو يعلم كلّ شيء، ومطّلع على كلّ شيء، فلا يسمع كلامكم وحسب، بل هو مطّلع حتى على الأفكار التي تمرّ في أذهانكم، والقرارات التي في صدوركم.
بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين، يتطرّق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع أُخرى منها، فيقول: (بل قالوا أضغاث أحلام)(1) وهم يعتقدون أنّها حقيقة.
وقد يغيّرون كلامهم هذا أحياناً فيقولون: (بل إفتراه) ونسبه إلى الله.
ويقولون أحياناً: (بل هو شاعر)، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.
وفي المرحلة الرّابعة يقولون: إنّا نتجاوز عن كلّ ذلك فإذا كان مرسلا من الله حقّاً (فليأتنا بآية كما أُرسل الأوّلون).
إنّ التحقيق في هذه الإدّعاءات المتضادّة المتناقضة في حقّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلاّب حقّ، بل كان هدفهم خلق الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن، وبأي صورة كانت.
فهم يعتبرونه ساحراً تارةً، وأُخرى شاعراً، وثالثة مفترياً، وأُخرى إنساناً
1 ـ «أضغاث» جمع ضِغْث، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك، و «الأحلام» جمع حُلم وهو المنام والرؤية، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها، فإنّ هذا التعبير اُطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.
يختلط الأمر عليه ويهجر ـ والعياذ بالله ـ فهو يحسب مناماته المضطربة وحياً! ويقولون حيناً: لماذا أنت بشر؟ ويتذرّعون أحياناً بطلب معجزة جديدة مع كلّ تلك المعاجز.
إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلاّ هذا الإضطراب والتمزّق، فإنّه كاف لوحده، ولكنّنا سنرى في الآيات التالية أنّ القرآن سيجيبهم جواباً حاسماً من طرق أُخرى أيضاً.
* * *
لقد أورد جمع من المفسّرين في ذيل الآيات ـ لوجود كلمة (محدث) في الآية الثّانية من الآيات محلّ البحث ـ بحوثاً جمّة حول كون كلام الله حادثاً أم قديماً؟ وهي نفس المسألة التي اُثيرت في زمن خلفاء بني العبّاس وصارت مثاراً للجدل لسنين طويلة، وكانت قد لفتت إنتباه وأفكار جماعة من العلماء.
إلاّ أنّنا نعلم اليوم جيداً أنّ معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال السياسي ليهتمّ به علماء الإسلام، وينصرفوا عن المسائل الضروريّة والأساسيّة التي تتعلّق بشؤون الحكومة وكيفيّة حياة الناس، وحقائق الإسلام الأصيلة.
واليوم اتّضح لنا تماماً أنّ المراد من كلام الله محتواه ومضمونه، وهو قديم قطعاً، أي إنّه كان دائماً في علم الله، وإنّ علم الله الواسع كان محيطاً بالقرآن على الدوام. وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات، وهذا الوحي الذي نزل على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شكّ في أنّه حادث.
أي عاقل يقول: إنّ ألفاظ القرآن وكلماته أزليّة؟ أو أنّ نزول الوحي على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناءً على هذا فأنتم تلاحظون بأنّ
المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.
وبتعبير آخر فإنّ القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان، فألفاظه حادثة قطعاً، ومعانيه قديمة قطعاً، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.
ثمّ إنّ أيّ مشكلة علميّة وإجتماعية وسياسيّة وأخلاقية في المجتمع الإسلامي يحلّها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب الحكّام المكَرَةِ المتآمرين الخدّاعة؟
ولهذا نرى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد بيان هذه المسألة، قد حذّروا هؤلاء من هذه البحوث، ودعوهم إلى الإبتعاد والإمتناع عنها(1).
* * *
1 ـ نور الثقلين الجزء3 ص412.
مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(7) وَمَا جَعَلْنَـهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَـلِدِينَ(8) ثُمَّ صَدَقْنَـهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَـهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون(10)
قلنا: إنّ ستّة إشكالات وإيرادات قد أُعيد ذكرها في الآيات السابقة، وهذه الآيات التي نبحثها تجيب عنها، تارةً بصورة عامّة جامعة، وأُخرى تجيب عن بعضها بالخصوص.
أشارت الآية الأُولى إلى المعجزات المقترحة لاُولئك، ونقصد منها: المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرّعاً، فنقول: إنّ جميع المدن والقرى التي
أهلكناها سابقاً كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز، ولكن لمّا استجيب طلبهم كذّبوا بها، فهل يؤمن هؤلاء؟: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)؟ وهي تنذرهم بصورة ضمنيّة بأنّ الآيات لو تحقّقت على ما إقترحتم ثمّ لم تؤمنوا، فإنّ فناءكم حتمي!
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى كلّ إشكالات هؤلاء المتناقضة ويقول: إنّ هذا التعامل مع دعوة الأنبياء الحقيقيين ليس جديداً، فإنّ الأفراد العنودين كانوا يتوسّلون دائماً بهذه الأساليب، ولم تكن عاقبة عملهم وأمرهم إلاّ الكفر، ثمّ الهلاك والعذاب الأليم.
ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأوّل ـ خاصةً ـ حول كون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشراً، فتقول: إنّك لست الوحيد في كونك نبيّاً، وفي نفس الوقت أنت بشر (وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم) فإنّ هذه حقيقة تاريخيّة يعرفها الجميع (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
لا شكّ أنّ (أهل الذكر) تشمل من الناحية اللغوية كلّ العلماء والمطّلعين، والآية أعلاه تبيّن قانوناً عقلائيّاً عامّاً في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإنّ مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من عمومية القانون. ولهذه العلّة إستدلّ علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة «جواز تقليد المجتهدين المسلمين».
![]() |
![]() |
![]() |