![]() |
![]() |
![]() |
مضافاً إلى أنّ البشر ما يملك من شيء ليمنحه؟ أليس الله سبحانه وتعالى رزّاق العباد؟
والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحقّ، وأنّ أعذارهم في إنكار الحقّ أعذار واهية.
وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكلّ ما مضى: (وإنّك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) صراط مستقيم دلائله واضحة وإستقامته معلومة، فالطريق
1 ـ يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم» بمعنى تذكّرهم وتوقظهم، ويمكن أن تفسّر بمعنى شرفهم وحيثيّتهم في المجتمع البشري، وفي الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين، وقد إستفدنا من كليهما في تفسير الآية.
2 ـ الخرج و الخراج مشتق من الخروج، ويعني الشيء الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلاّ أنّ الخرج ذو معنى أوسع من الخراج. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الخرج أعمّ من الخراج، وجعل الخرج بإزاء الدخل، وقال تعالى: (فهل نجعل لك خرجاً) والخرج مختّص في الغالب بالضريبة على الأرض أو اُجرتها.
المستقيم أقصر الطرق بين نقطتين، وهو طريق واحد، والطريق الملتوية على يساره ويمينه غير متناهية.
ورغم أنّ الرّوايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي (عليه السلام)(1) إلاّ أنّها تكشف ـ كما قلنا مراراً ـ عن المصداق الأكمل لذلك، ولا تتنافى مع المصاديق الاُخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.
وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعيّة لهذا الموضوع، فتقول: (وإنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون).
كلمة «ناكب» مشتقّة من «النكب» و «النكوب» أي الإنحراف عن الطريق. و «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.
ومن الواضح أنّ الصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة، وبديهي أنّ الذي ينحرف عنه في الآخرة فمكانه النّار وبئس المصير، لأنّ المرء يثاب في الآخرة على أعماله في هذه الدنيا.
وعدم إيمان المرء بالآخرة مرتبط بإنحرافه عن طريق الحقّ الناجم عن عدم شعوره بالمسؤولية، فقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنّ الله جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون»(2).
* * *
أشارت الآيات السابقة ـ بشكل عابر ـ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة، وهي إشارة ذات مدلول كبير، حيث تقول: (ولو اتّبع الحقّ
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث صفحة 548.
2 ـ اُصول الكافي (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 549).
أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ). وتفسير هذه المسألة ليس صعباً للأسباب الآتية:
الف ـ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة، وقد ينقض بعضها بعضاً، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.
ولو إستسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟
لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك، وهذا لا يخفى على أحد.
ب ـ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.
ج ـ إنّ الميول والأهواء ذات بعد واحد، ولا تنظر إلى الاُمور إلاّ من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاُخرى.
والآية محلّ البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).
وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات، أم الحقّ الذي هو رمز الوحدة والتوحيد والنظام والإنسجام؟
الجواب في غاية الوضوح والإشراق.
أوضحت الآيات السابقة عدداً من صفات القادة إلى طريق الحقّ، فهم
المعروفون بالصلاح والإستقامة، فلم يبق الله للمشركين ذريعة في هذا الصدد إذ قال سبحانه: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون).
فلو كان الرسل مجهولين لتذرّع المنافقون بذلك، ولأنكروا الرسالات السماوية.
والأمر الآخر أنّ الرسل لا يستسلمون أبداً لأهواء الناس. ولا يقرّون الناس على ما إعتادوه من انحراف، مثلما نشاهده اليوم حيث التأييد المطلق لكلّ الرغبات العامّة (رغم إنحراف الكثير منها). وعلى هذا كان الرسل يواصلون عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقّة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم وحقدهم عليهم.
والصفة الاُخرى للأنبياء أنّهم لم يطلبوا أجراً من الناس، ولم يأخذوا منهم شيئاً في مقابل نشر الحقّ، فهم لا يرجون غير الله، وظلّوا يتجرّعون الفقر والبأساء دون أن يكون لأحد عليهم منّة قطّ، ليبقوا أحراراً طليقين في نشر دعوتهم بين الناس.
لقد إستنكرت آيات القرآن الكريم ـ كالآيات السابقة ـ «الأكثرية» من الناس، في حين نرى أنّ «الأكثرية» يقرّرون اليوم صلاح الشيء أو عدمه فهم معيار الحسن والقبح في المجتمع، وهذا يثير علامة إستفهام كبيرة: وليس الكلام في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر الكافرين والمشركين وأمثالهم، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر الناس) من قبيل: (ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)(1).
1 ـ البقرة، 243.
(ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)(1).
(ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون)(2).
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(3).
(وأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).(4)
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله)(5).
ومن جهة أُخرى اهتّمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين بإعتباره معياراً صحيحاً للآخرين، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المئة من سورة النساء: (ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً).
ونجد في الرّوايات الإسلامية لدى تعارض الرّوايات أنّ أحد المعايير للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمّة الهدى وأنصارهم وأتباعهم، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(6).
ونقرأ في نهج البلاغة: «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفُرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»(7).
1 ـ الأعراف، 187.
2 ـ هود، 17.
3 ـ يوسف، 103.
4 ـ الإسراء، 89.
5 ـ الأنعام، 116.
6 ـ وسائل الشيعة، المجلّد الثامن عشر، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي).
7 ـ نهج البلاغة، الخطبة 127.
ونقرأ أيضاً في نهج البلاغة: «والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة»(1).
وعلى هذا قد يترأى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات والأحاديث.
ومن جهة أُخرى يمكن أن يتصوّر مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد على آراء أكثر الناس، وهذا ما رفضه القرآن بشدّة.
ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتّضح المفهوم الحقيقي، وهو أنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، لاستحقّوا الإحترام، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.
أمّا إذا كانوا فئةً جاهلة أو واعية لكنّها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم منها، فلا طاعة لها ولا رأي. لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع، كما يقول القرآن المجيد.
وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق «ديمقراطية سليمة» لوجب السعي أوّلا لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية، ثمّ الإستناد على رأي أكثريتهم كمعيار لسلامة الأهداف الإجتماعية، وإلاّ فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضالّة لا تنتج سوى ضلال المجتمع وجرّه إلى جهنّم.
ومن الضروري التنبيه إلى انّنا نعتقد أنّ رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنّما يكون محترماً ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنّة والأحكام الإلهيّة.
ولجوء الاُمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه إنعدام المعيار الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامّة وما يضرّها، فهذه المجتمعات لا تستنير بكتاب ربّاني ولا تلتزم رسالة نبي كريم، وليس لديها سوى الرجوع إلى
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 151.
رأي العامّة. وبما أنّ المتسلّطين لا يسعون لتوعية رعاياهم، بل يجتهدون في إستدامة غفلة الناس وضآلة اطّلاعهم على ما ينهض بتقدّمهم وإزدهار حياتهم، ليتسنّى لهؤلاء الإستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم، لذلك جعلوا الأكثرية الكميّة معياراً لإسكات الأصوات المعترضة.
ولو دقّقنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة، لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمّى رأي الأكثرية.
فما أسوأ القوانين وأقبح المقرّرات التي جعلتها «الأكثرية»، وما أكثر الفتن والحروب التي إندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة، وما أعظم المظالم وأشكال العدوان التي قرّرت الأكثرية صحّتها ومشروعيتها!!
* * *
وَلَوْ رَحِمْنَـهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَـهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَاب شَدِيد إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77) وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَـرَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ(78) وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79) وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَـفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(80)
عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحقّ في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياء (عليهم السلام). وتناولت هذه الآيات إتمام الحجّة عليهم من قبل الله تعالى وتوعيتهم.
فتقول أوّلا: إنّنا تارةً نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا،
ولكن: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ للجّوا في طغيانهم يعمهون).
والله تعالى يبتليهم لعلّهم يَعُون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكنّ طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتّى بالبلاء المذلّ (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون)(1).
«التضرّع» ـ كما أسلفنا ـ مشتقّة من الضرع بمعنى الثدي، فالتضرّع يعني الحلب، ثمّ استعملت بمعنى التسليم المخالط بالتواضع والخضوع.
وتعني هذه الآية أنّ المشركين لم يتخلّوا عن غرورهم وعنادهم وتكبّرهم، ولم يستسلموا للحقّ حتّى وهم يواجهون أشدّ النكبات عصفاً بهم.
وإذا ما فسّر التضرّع في الرّوايات بأنّه رفع اليدين نحو السّماء للدعاء، فهو أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.
فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم (حتّى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون)(2).
الواقع، أنّ نوعين من العقاب الإلهي: أوّلهما «عقاب الإبتلاء»، وثانيهما «عقاب الإستيصال» والإقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.
أمّا هدف العقاب الثّاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم، لأنّه لم يبق لهم حقّ الحياة في نظام الحقّ،
1 ـ «استكانوا» مشتقّة من السكون، بمعنى الصمت في حالة الخضوع والخشوع، وبهذه الصورة ستكون من باب «إفتعال» التي كانت في الأصل استكنوا. أشبعت فتحة الكاف وبدّلت إلى ألف. فأصبحت استكانوا. وقال البعض: إنّها مشتقّة من كون، ومن باب «إستفعال» أي طلب الإقامة في مكان بخضوع وخشوع. وعلى كلّ حال فإنّها تبيّن حالة العبد الخاضع لربّه، وقد اعتبرها البعض بمعنى الدعاء بسبب كونه أحد مصاديق الخضوع والتواضع. أمّا الإحتمال الثالث، فهي مشتقّة عن «الكين» على وزن «عين» ومن باب الإستفعال، لأنّها تعني الخضوع أيضاً. وجميع هذه المعاني متقاربة.
2 ـ «المبلس» كلمة مشتقّة من «الإبلاس». بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة. وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.
ولهذا يستوجب إقتلاع هذه الأشواك من طريق تكامل البشر.
وبيّن المفسّرين إختلاف في قصد الآية من عبارة (باباً ذا عذاب شديد).
فالكثيرون يرون أنّه الموت، ثمّ العذاب وعقاب يوم القيامة.
وآخرون يرونه القحط الشديد الذي واجه المشركين سنين عديدة بدعاء من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحوا لا يجدون ما يأكلون، حتّى تناولوا ما تشمئز منه الأنفس.
وغيرهم يرونه العقاب الأليم الذي نزل على المشركين بضربات سيوف جند الإسلام في معركة بدر.
وهناك إحتمال أنّ الآية لا تختّص بفئة معيّنة، بل هي إستعراض لقانون شامل عامّ للعقوبات الإلهيّة، يبدأ من الرحمة، فالتنبيه والعقاب التربوي، وينتهي بعذاب الإقتلاع من الجذور والدمار(1).
ثمّ تناول القرآن المجيد القضيّة من باب آخر، فعدّد النعم الإلهيّة لدفع الناس إلى الشكر (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)والتأكيد على (الاُذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرّف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاُذن، والقضايا غير الحسّية يدركها بالعقل.
ومعرفة أهميّة حاسّتي النظر والسمع يكفي لتصوّر حالة الإنسان الذي يفقدهما، إذ تظلم الدنيا بعينه. وبفقدان هاتين الحاسّتين بالولادة تفقد حواسّ أُخرى عملها. فالأصمّ بالولادة يكون بالبداهة أبكم، فإنطلاق اللسان مرتبط بسمع الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة إرتباطه مع الآخرين.
وبعد هاتين الحاسّتين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادّة، يأتي العقل الذي ينتزع الأفكار ممّا تُموّنه به الحواسّ، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها، ومهمّته
1 ـ الآية (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة) التي ذكرت قبل هذه الآيات تؤيّد هذا التّفسير.
النقد والإستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟
وتقديم ذكر الاُذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه. ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل ـ كما يقول العلماء ـ أنّ اُذن الوليد تعمل أوّلا، ثمّ عينه، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي إستعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا، ثمّ تتعودّان النور تدريجيّاً.
وليست الاُذنان هكذا، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم(1). فهي تسمع صوت دقّات قلب الاُمّ.
إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعاً لمعرفة واهب هذه النعم، وهو المنعم الوحيد حقّاً (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساساً لوجوب معرفة الله عقلا).
وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: (وهو الذي ذرأكم في الأرض)(2).
وبما أنّه ـ جلّ إسمه ـ خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية، ثمّ يبعثكم: (وإليه تحشرون).
ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به
1 ـ تحدّثنا عن أجهزة التعرّف الثلاثة في تفسير الآية (78) من سورة النحل.
2 ـ «ذرأ» مشتقّة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار، إلاّ أنّ كلمة (ذرو) وهي أيضاً على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأُولى من النوع الأوّل.
وبالمعاد.
وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل أُخرى من بديع صنع الله تعالى (وهو الذي يحيي ويميت وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون).
وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسيّة والآفاقية، فالقول المبارك إستعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتّى الموت والعودة إلى الله تعالى، التي تتمّ مراحلها جميعاً بإرادة الله العزيز الحكيم.
وممّا يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب إختلاف الليل والنهار، وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات، فمثلما يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور، ويستخفي بين أستار الظلام، كذلك تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة، وتستخفي في ظلمة الموت، ولكليهما صفة التدرّج.
وسبق أن قلنا بأنّ «إختلاف» الليل والنهار قد يعني تواليهما حيث يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل. وقد يعني إختلافهما وتفاوتهما التدريجي الذي يوجد الفصول الأربعة، ويقود دورة الحياة في عالم النبات في ظلّ نظام دقيق.
وكلّ هذه المسائل يمكن أن تكون السبيل إلى معرفة الله، إذا انتبه لها الإنسان وتأمّلها بفطنة.
ولهذا تقول الآية في النهاية: (أفلا تعقلون)؟!
* * *
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الاَْوَّلُونَ(81) قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ(83) قُل لِّمَنِ الاَْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (85)قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـوَتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89) بَلْ أَتَيْنَـهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (90)
دعت الآيات السابقة منكري الله والمعاد إلى التفكّر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتّبعوا
أسلافهم وقلّدوهم تقليداً أعمى: (بل قالوا مثل ما قال الأوّلون).
ثمّ إنّ هؤلاء ملكهم التعجّب و: (قالوا أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنّا لمبعوثون)(1).
إنّ ذلك لا يصدق! (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) فكانت وعوداً كاذبة، و (إنّ هذا إلاّ أساطير الأوّلين) فإعادة الخلق اُسطورة، والحساب والكتاب أساطير أُخرى، وكذا الجنّة والنّار.
ولكون الكفّار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، تذرّعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحقّ وتمسّكهم بالباطل.
ولهذا سدّدت الآيات موضع البحث ضربةً قويّة إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق: بتذكيرها الإنسان بمالكية الله لعالم الوجود المترامي الأطراف، وربوبيته له، وسيادته عليه. وتستنتج ـ من جميع الأبحاث ـ قدرة الله وسهولة المعاد عليه سبحانه، وأنّ عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر وحياة أُخرى.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين إعترافاً بكلّ مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم.
يقول أوّلا: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون).
ثمّ تضيف الآية أنّهم يؤمنون بالله خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم، وسيجيبونك و: (سيقولون لله) فأجبهم: (قل أفلا تذكرون) كيف تتصوّرون إستحالة إحياء الموتى بعد إعترافكم الصريح؟
ثمّ يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم: (قل من ربّ السماوات السبع وربّ
1 ـ تقديم التراب على العظام إمّا لعودة التراب إلى الحياة الأُولى هي أعجب من عودة العظام، وإمّا لأنّ الأجداد أصبحوا تراباً والآباء عظاماً نخرة، وإمّا لصيرورة لحم الإنسان تراباً قبل العظام، ثمّ تتحوّل العظام إلى تراب.
العرش العظيم).
فيأتي الجواب نابعاً من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الإعتراف بربوبيّته تعالى (سيقولون لله) وبعد هذا الإعتراف الواضح فلماذا لا تخافون الله، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية: (قل أفلا تتّقون).
واسألهم مرّة أُخرى عن سيادة الله على السماوات والأرض (قل من بيده ملكوت كلّ شيء). ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد: (وهو يجير ولا يجار عليه)، (إن كنتم تعلمون).
فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود لله فقط (سيقولون لله).
(قل فأنّى تسحرون) أي: كيف تقولون: إنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سحركم رغم كلّ هذا الإعتراف والإقرار منكم؟!
إنّها لحقائق إعترفتم بها في كلّ مرحلة، فقد أقررتم بأنّه سبحانه مالك الوجود وخالقه، وأنّه المدير والمدبّر والحاكم والملجأ، فكيف لا يستطيع مَن له كلّ هذه القدرة والحكم والحكمة، إعادة الإنسان إلى تراب وبعثه ثانيةً كما خلقه أوّل مرّة؟
لماذا تفرّون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتّهمون النّبي الأكرم بالسحر وقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!
وأخيراً يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً ولا شعوذة ولا شيء آخر: (بل أتيناهم بالحقّ وإنّهم لكاذبون).
لقد بيّن الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنّهم عصوا أمره، ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكلّ خير، المنقذة من كلّ شرّ.
* * *
«الأساطير» جمع «اُسطورة» قال بعض اللغويين: إنّها مشتقّة من «السطر» بمعنى الصفّ، فيطلق على الكلمات التي إصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر. فالاُسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة. وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات. وجميعها جاء على لسان الكفّار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء الله تعالى.
«الربّ» تعني ـ كما قلنا في تفسير سورة الحمد ـ المالك المصلح، ولهذا لا يطلق على كلّ مالك، وإنّما يختّص بالمالك الذي يسعى لإصلاح وحفظ وإدارة ملكه حفظاً جيّداً، وتطلق كلمة «ربّ» أحياناً على المربّي والمعلّم أيضاً.
«الملكوت» مشتقّة من «المُلك» (على وزن كُفر)، بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة الواو والتاء للتأكيد والمبالغة.
«العرش» يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحياناً على السقف وشبهه. وعندما تتعلّق هذه الكلمة بالله سبحانه، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه، فهو كلّه دون جلاله المقدّس وحكمه الحكيم.
وقد تطلق أحياناً على عالم ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) مقابل «الكرسي» الذي يعني عالم الطبيعة والمادّة، مثال ذلك (وسع كرسيه السماوات والأرض)(1)(2).
1 ـ بحثنا موضوع العرش بإسهاب في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.
2 ـ البقرة، 255.
يستنتج من آيات القرآن أنّ معظم مخالفة المنكرين للمعاد يدور حول مسألة المعاد الجسماني، ودهشتهم من عودة الروح والحياة ثانية إلى الإنسان بعد أن يصير تراباً، من هنا عدّدت الآيات معالم قدرة الله في عالم الوجود، وأكّدت خلقه لكلّ شيء من عدم، ليؤمنوا بالحياة بعد الموت، وتزول إستحالتها من تصوّرهم.
وبحثت هذه الآيات هذه المسألة من خلال بيان قدرة الله على الأرض وسكّانها. وقدرته على السموات والعرش العظيم، وقدرته على إدارة عالم الخلق والنشر، وهذه السبل الثلاثة مصاديق لمفهوم واحد. ويحتمل أيضاً أنّ كلا من هذه الأبحاث الثلاثة يشير إلى وجهة نظر المنكرين للمعاد، فلو كان إنكاركم للمعاد يعود إلى أنّ العظام البالية قد خرجت من دائرة حكومة الله وملكيّته، فهذا خطأ، لأنّكم تعترفون أنّ الله تعالى هو مالك الأرض ومن عليها.
وإن كان إنكاركم لأنّ بعث الأموات يحتاج إلى إله مقتدر، فأنتم تعترفون بأنّ الله ربّ السماوات والعرش.
وإن كان جحودكم أنّكم في شكّ من تدبير العالم بعد الحياة الجديدة وبعد بعث الأموات، فهو أيضاً في غير مورده، لأنّكم قبلتم تدبيره وإعترفتم بقدرته على إدارة عالم الوجود، وجوار من لا جار له (أي كلّ الموجودات) حيث يتكفّل برعايتها وتدبير اُمورها، فعلى هذا لا مجال لإنكاركم أيضاً. وإجابة الكفّار في الحالات الثلاث بشكل منسجم موحّد (سيقولون لله) تؤكّد التّفسير الأوّل.
والجدير بالإهتمام هو أنّه بعد السؤال الأوّل وإجابته جاءت عبارة: (أفلا تذكرون).
وبعد السؤال الثّاني وإجابته جاءت عبارة (أفلا تتّقون).
وبعد السؤال الثّالث وإجابته جاءت عبارة (فأنّى تسحرون).
وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفّار وإستنكار لما هم عليه من باطل بشكل متدرّج ومرحلة بعد أُخرى، وهو اُسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة في التعليم والتربية المنطقيّة. فإذا احتاج المربّي إلى إدانة شخص، يبدأ أوّلا بتنبيهه بلطف، ثمّ بحزم، وبعد ذلك يعنّفه!
* * *
مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـه إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَـنَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91) عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ فَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)
تناولت الآيات السابقة بحوثاً في المعاد والملك والحكم والربوبيّة، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك، وإستعرضت جانباً من إنحرافات المشركين. وردّتها عليهم بالأدلّة الساطعة، قائلة: (ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله).
إنّ الإعتقاد بوجود ابن لله لا ينحصر في المسيحيين الذين يرون النّبي عيسى (عليه السلام) إبناً حقيقيّاً له! فقد كان المشركون يرون الملائكة بنات لله، ولعلّ المسيحيين أخذوا هذه الفكرة من المشركين القدماء، وعلى أساس أنّ الولد جزء من الأب، فلذلك اعتقدوا بأنّ الملائكة أو المسيح (عليه السلام) لهم حصّة من الاُلوهيّة، وهذا أوضح مظهر للشرك.
ثمّ بيّنت الآية بطلان الشرك: أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم، فسيكون لكلّ إله مخلوقاته الخاصّة به يحكم عليها ويدبّر اُمورها.
وسيكون تبعاً لذلك أنظمة متعدّدة للعالم، لأنّ كلّ واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص (إذاً لذهب كلّ إله بما خلق) وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا العالم.
(ولعلا بعضهم على بعض) وهذه نتيجة محتومة لكلّ صراع، إذ يسعى كلّ طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سبباً آخر لتفكّك النظام الموحّد السائد في العالم.
وجاء في ختام الآية تقديس لله سبحانه (سبحان الله عمّا يصفون).
وزبدة الكلام ما نجده بوضوح من سيادة نظام موحّد لساحة الوجود كلّه. فالقوانين السائدة لهذا العالم في أرضه وسمائه واحدة، والنظام الحاكم لذرّة واحدة هو ذاته يحكم المجموعة الشمسيّة المنظومات الكبيرة، ولو اُتيحت لنا صورة مكبّرة لذرّة واحدة لحصّلنا على شكل المنظومة الشمسيّة، والعكس صحيح.
وقد برهن العلماء في تجاربهم في مختلف العلوم، بإستخدام أدقّ الأجهزة وأحدثها على وحدة النظام السائد لهذا العالم كلّه. هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى إنّ الإختلاف والتباين يلازمان التعدّد دوماً. فلو تشابهت صفات شيئين تمام التشابه لكانا شيئاً واحداً، إذ لا معنى لثنائيتهما عندئذ، ولو فرضنا لهذا العالم آلهة عديدة لوقع أثر هذا التعدّد على مخلوقات العالم والنظام الحاكم له، ولأنتفت وحدة نظام الخلق.
مضافاً إلى أنّ كلّ موجود لابدّ أن يسعى لإستكمال وجوده إلاّ الوجود الكامل من كلّ جهة فلا معنى للتكامل في وجوده حينئذ، فلو فرضنا وجود مناطق خاصّة لكلّ إله من هذه الآلهة المزعومة، وطبعاً لا يكون لكلّ منها كمال مطلق،
ومن الطبيعي أيضاً أنّها سوف تسعى لإستكمال ذاتها، وتحاول ضمّ بقيّة المناطق إلى حوزتها، وهذا السعي للتكامل والتنافس في الإقتدار مدعاة لوقوع العالم فريسة بين مخالب الناقصين الباحثين عن السيطرة على غيرهم، والنتيجة هي فساد العالم ودماره.
وبهذا تكون كلتا الجملتين في الآية إشارة إلى دليل منطقي واحد، ولا تصل النوبة إلى حصر الجملة في جهة إقناعية وليست منطقية.
السؤال الوحيد الباقي في هذا المورد هو أنّ البرهان المذكور يصحّ فيما لو فرضنا أنّ الآلهة تسعى للتغلّب والسيطرة المطلقة، أمّا لو فرضناها حكيمة وعالمة، فما المانع من أنّ تدير العالم بالتشاور فيما بينها؟
لقد أجبنا عن هذا السؤال في تفسيرنا للآية الثّانية والعشرين من سورة النساء، في بحث برهان التمانع، ولا حاجة لتكراره هاهنا.
والآية التالية تردّ على المشركين المغالطين فتقول: (عالم الغيب والشهادة)أي إنّ الله يعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فكيف تتصوّرون وجود إله آخر تعرفونه أنتم ولا يعرفه الربّ الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟
هذا البيان يشبه ما ورد في الآية الثامنة عشرة من سورة يونس (قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض)؟!
وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافيّة: (فتعالى عمّا يشركون).
وختام هذه الآية يشبه ختام الآية الثامنة عشرة من سورة يونس وهو (سبحانه وتعالى عمّا يشركون). وهذا يدلّ على وحدة الموضوع.
كما أنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ الله الذي يعلم السرّ والعلن، يعلم ما تقولونه. وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.
* * *
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّىِ مَا يُوعَدُونَ(93) رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَومِ الظَّـلِمِينَ(94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُم لَقَـدِرُونَ(95)ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَتِ الشَّيَـطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ(98)
![]() |
![]() |
![]() |