![]() |
![]() |
![]() |
تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك، فتحدّثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة، فتقول الآية الأُولى: (ويعبدون من دون الله ما لم
ينزل به سلطاناً) وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية (وما ليس لهم به علم)أي يعبدون عبادةً لا يملكون دليلا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي، ولا من طريق الإستدلال العقلي، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب، لهذا تقول الآية في ختامها: (وما للظالمين من نصير).
قال بعض المفسّرين: إنّ النصير هنا الدليل والبرهان، لأنّ المعيّن الحقيقي هو الدليل ذاته(1).
كما يحتمل أن يكون النصير مرشداً ومكمّلا للبحث السابق، أي إنّ المشركين لا يدعمهم دليل إلهي ولا عقلي، وليس لهم قائد ولا مرشد ولا معلّم يهديهم ويسدّدهم للحقّ الذي فقدوا حمايته والإستنارة به، بظلمهم أنفسهم، ولا خلاف بين هذه التفاسير الثلاثة التي يبدو أنّ أوّلها أكثر وضوحاً من غيره.
وتشير الآية الثّانية موضع البحث إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات الله تعالى، في جملة وجيزة لكنّها ذات دلالات كبيرة: (وإذ تتلى عليهم آياتنا بيّنات تعرف من وجوه الذين كفروا المنكر)(2).
وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصّب الجاهلية الذي لا يرضخ للحقّ ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلاّ ظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتّى إنّهم (يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله ـ عزّوجلّ ـ وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.
كلمة «يسطون» مشتقّة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر، وهي في الأصل ـ كما قال الراغب الاصفهاني في مفرداته ـ قيام الفرس على
1 ـ الميزان، وتفسير الفخر الرازي، في تفسير الآية موضع البحث.
2 ـ «المنكر» مصدر ميمي يعني الإنكار، وبما أنّ الإنكار أمر باطني لا يمكن مشاهدته، فالمراد هنا علائمه ونتائجه.
رجليه ورفع يديه، ثمّ إستعملت بالمعنى الذي ذكرناه.
ولو فكّر الإنسان منطقيّاً لما أغضبه حديث لا يرضاه، ولما ثار مقطّباً متهيّئاً للهجوم على محدّثه مهما خالفه. بل يحاول ردّه ببيان منطقي.
وإنفعال المشركين على النحو المتقدّم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل والباطل عليهم.
وعبارة (يكادون يسطون) التي تتألّف من فعلين مضارعين، دليل على إستمرار حالة الهجوم والسباب في ذات المشركين وتأصّلها فيهم، فتارةً يفعلونه، وأُخرى تبدو علائمه على وجوههم حين لا تسمح به الأحوال.
وقد أمر القرآن المجيد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجبه هؤلاء المتغطرسين هاتفاً (قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم النّار)(1).
أي إن زعمتم أنّ هذه الآيات البيّنات شرّ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة، فإنّني اُخبركم بما هو شرّ منها، ألا وهو عقاب الله الأليم، النّار التي أعدّها الله جزاءً (وعدها الله الذين كفروا)، (وبئس المصير). أجل، إنّ النّار المحرقة لأسوأ مكان للمتشدّدين الحادّي المزاج الذين أحرقت نار عصبيّتهم ولجاجهم قلوبهم، لأنّ العقاب الإلهي يتناسب دائماً مع كيفية الذنب والعصيان.
وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن (ياأيّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) وتدبّروا فيه جيداً (إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له).
أجل، لو إجتمعت الأوثان كلّها، وحتّى العلماء والمفكّرين والمخترعين
1 ـ إنّ «النّار» هنا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي النّار، واحتمل البعض أنّ النّار مبتدأ وجملة «وعدها الله» خبر لها، إلاّ أنّ القول الأوّل هو الأصوب.
وفعل «وعد» أخذ هنا مفعولين، الأوّل «الذين كفروا» الذي تأخّر والثّاني «الهاء» التي تقدّمت ذلك للتخصيص.جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر، في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير، فأين هذه الآلهة الضعيفة من اللّه الخالق القادر الحكيم المتعال؟
وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه)كأنّ الآية تهتف فيهم: ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكماً عليكم وحلاّلا لمشاكلكم؟!
ويعلو صدى الحقّ في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: (ضعف الطالب والمطلوب).
وقد ورد في الرّوايات أنّ الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة، وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحياناً بالزعفران والعسل، وطافوا حولها وهم يردّدون (لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك)! والإنحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية، والشرك مؤكّد فيها، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد، وهم يرون الذباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!
وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان، وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان، وذكّرهم بعجز آلهتهم عن إستعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.
أمّا ما المراد من «الطالب» و «المطلوب»؟
الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أنّ الطالب هو عبدة الأوثان، والمطلوب هو الأوثان ذاتها، وكلاهما لا يقدر على شيء.
وقال البعض: إنّ الطالب هو الذباب، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه).
وقال الآخرون: الطالب هو الأصنام، والمطلوب هو الذباب (لأنّه لو فكّرت الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما إستطاعت ذلك) وأصحّ هذه التفاسير هو الأوّل.
وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح الدافع، قرّر حقيقة مهمّة، وهي (ما قدّروا الله حقّ قدره).
فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عمّا يفعلون علوّاً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية: (إنّ الله لقوي عزيز).
أجل، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.
* * *
يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفاً، إلاّ أنّه لم يبيّن المثل بصراحة، بل أشار إلى مواضع أُخرى في القرآن، أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب، وليس بمعنى المثل المعروف.
ولا شكّ في أنّ هذا خطأ، لأنّ القرآن دعا عامّة الناس إلى التفكّر في هذا
المثل. وهذا المثل هو ضعف الذبابة من ناحية، وقدرتها على سلب ما لدى الأوثان، وعجز هذه الأوثان عن إسترداد ما سلبه الذباب منها، وهذا المثل ضرب للمشركين من العرب، لكنّه يعني الناس جميعاً ولا يخصّ الأصنام، بل يعمّ جميع ما دون الله تعالى، من فراعنة ونماردة، ومطامع وأهواء، وجاه وثروة. فكلّها ينطبق عليها المثل، فلو تكاتفوا وجمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات، لما تمكّنوا من خلق ذبابة، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.
سؤال وجواب:
قد يقال: إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهميّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة!
فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة عين، والأدمغة الألكترونية وأدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرياضية بأسرع وقت ممكن، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.
وجواب ذلك هو أنّ صنع هذه الأجهزة ـ بلا شكّ ـ يبهر العقول، وهو دليل على تقدّم الصناعة البشرية تقدّماً مدهشاً، ولكنّه يهون مقابل خلق كائن حي مهما كان صغيراً، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة ونشاطها البايولوجي بدقّة، لرأينا أنّ بناء مخّ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات، وأكثر تجهيزاً منها، ولا يمكن مقارنتها بها.
وما زال في قضيّة الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.
وقد ذكر علماء الطبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدّاً، كالحشرات ـ مثلا ـ تتركّب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا إثنتين لا أكثر، هما مؤلّفتان من مئات العيون الدقيقة جدّاً، ويطلق على مجموعها العين المركبة، فلو
فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة التي لا حياة فيها، فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصغيرة التي لكلّ منها ناظورها الدقيق، وقد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض، وربطت أعصابها بمخّ الحشرة لتنقل المعلومات إليها، ولتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟
لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الذي يبدو تافهاً مع أنّه عالم مفعم بالأسرار البالغة الغموض. ولو فرضنا أنّ الإنسان بلغ ذلك، فلا يسمّى إنجازه المفترض خلقاً، لأنّه لم يتعدّ التجميع لأجهزة متوفّرة في هذا العالم. فمن يركّب قطع السيّارة لا يسمّى مخترعاً.
* * *
اللهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَـئِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ(76) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77) وَجَـهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّـكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَـوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَـكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)
ذكر بعض المفسّرين أنّ المشركين وعلى رأسهم «الوليد بن المغيرة»، كانوا عندما بعث الله الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون مستنكرين: «أأنزل عليه الذكر من بيننا»؟! فنزلت الآية الأُولى من الآيات أعلاه لتردّ عليهم (الله يصطفي من الملائكة رسلا
ومن الناس إنّ الله سميع بصير)(1).
بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة. وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة، فانّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد الله وتابعون لأمره: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس).
أجل، إختار الله من الملائكة رسلا كجبرئيل، ومن البشر رسلا كأنبياء الله الكبار. و «مِن» هنا للتبعيض، وتدلّ على أنّ جميع ملائكة الله لم يكونوا رسلا إلى البشر، ولا يناقض هذا التعبير الآية الأُولى من سورة فاطر، وهي (جاعل الملائكة رسلا) لأنّ غاية هذه الآية بيان الجنس لا العموم والشمولية.
وختام الآية (إنّ الله سميع بصير) أي إنّ الله ليس كالبشر، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد أُخرى، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.
وتشير الآية الثّانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة الله من جهة، ومراقبة الله لأعمالهم من جهة أُخرى، فتقول: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم (وإلى الله ترجع الاُمور) فالجميع مسؤولون في ساحة قدسه.
ليعلم الناس أنّ ملائكة الله سبحانه وأنبياءه (عليهم السلام) عباد مطيعون له مسؤولون بين يديه، لا يملكون إلاّ ما وهبهم من لطفه، وقوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم)إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل الله ومراقبته سبحانه لأعمالهم، كما جاء في
1 ـ تفاسير القرطبي، وأبو الفتوح الرازي، والفخر الرازي، وروح المعاني.
الآيتين (27) و28) من سورة الجن (فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم)(1).
وقد إتّضح بهذا أنّ القصد من عبارة (ما بين أيديهم) هو الأحداث المستقبلة و (ما خلفهم) الأحداث الماضية.
الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحجّ حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وإنتصارهم في جميع الميادين، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحجّ.
في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات (ياأيّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون) وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة، الركوع والسجود لأهميتهما الإستثنائية في هذه العبادة العظيمة.
والأمر بعبادة الله ـ بعد الأمر بالركوع والسجود ـ يشمل جميع العبادات.
ولفظ «ربّكم» إشارة إلى لياقته للعبادة وعدم لياقة غيره لها، لأنّه سبحانه وتعالى مالك عبيده وجميع مخلوقاته ومربّيهم.
والأمر بفعل الخير يشمل أعمال الخير دون قيد أو شرط، وما نقل عن ابن عبّاس من أنّ هذه الآية تتناول صلة الرحم ومكارم الأخلاق هو بيان مصداق بارز لمفهوم الآية العامّ.
ثمّ يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة، فيقول عزّ من قائل: (وجاهدوا في سبيل الله).
ومعظم المفسّرين لم يخصّوا هذه الآية بالجهاد المسلّح لأعداء الله، بل فسّروها بما هي عليه من معنىً لغوي عامّ، بكلّ نوع من الجهاد في سبيل الله
1 ـ العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان ذيل الآيات موضع البحث، يعتبر جملة (يعلم ما بين أيديهم) إشارة إلى عصمة الأنبياء وحماية الله لهم، ومع ملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً نوعاً ما.
والإستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).
نقل العلاّمة الطبرسي (رحمه الله) في «مجمع البيان» عن معظم المفسّرين قولهم: إنّ القصد من «حق الجهاد» الإخلاص في النيّة والقيام بالأعمال لله خالصة. ولا شكّ في أنّ حقّ الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها، ولكن مرحلة «الإخلاص في النيّة» هي أصعب مرحلة في جهاد النفس، لهذا أكّدتها الآية، لأنّ عباد الله المخلصين فقط هم الذين لا تنفذ إلى قلوبهم وأعمالهم الوساوس الشيطانية، رغم قوّة نفاذها وخفائها.
والقرآن المجيد يبدأ تعليماته الخمسة من الخاصّ إلى العامّ، فبدأ بالركوع فالسجود، وانتهى بالعبادة بمعناها العامّ الذي يشمل أعمال الخير والطاعات والعبادات وغيرها. وفي آخر مرحلة تحدّث عن الجهاد والمساعي الفرديّة والجماعية باطناً وظاهراً، في القول والعمل، وفي الأخلاق والنيّة.
والإستجابة لهذه التعليمات الربّانية مدعاة للفلاح.
ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمّل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات والتعليمات الشاملة الوسعة؟ ولهذا تجيب بقيّة الآية الشريفة ضمناً عن هذه الإستفهامات، وانّ هذه التعليمات دليل الألطاف الإلهيّة التي منّها سبحانه وتعالى على المؤمنين لتدلّ على منزلتهم العظيمة عنده سبحانه. فتقول الآيّة أوّلا: (هو إجتباكم).
أي حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه.
والعبارة الاُخرى قوله جلّ وعلا: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي إذا دقّقتم جيداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم الله عليها، وهي الطريق إلى تكاملكم، وهي ألذّ من الشهد، لأنّ كلّ واحدة منها له غاية ومنافع تعود عليكم.
وثالث عبارة (ملّة أبيكم إبراهيم) إنّ إطلاق كلمة «الأب» على «إبراهيم»(عليه السلام)، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل (عليه السلام)غالباً، وإمّا لكون إبراهيم (عليه السلام) هو الأب الروحي للموحّدين جميعاً على الرغم من خلط المشركين دينه الحنيف بأنواع من الخرافات الجاهلية آنذاك.
ويليها تعبير (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة، وفي هذا الكتاب السماوي أيضاً (القرآن)، وإنّ المسلم ليفتخر بأنّه قد أسلم نفسه لله في جميع أوامره ونواهيه.
وقد إختلف المفسّرون لمن يعود ضمير (هو) في العبارة السابقة، فقال البعض منهم: إنّه يعود إلى الله تعالى، أي إنّ الله سمّاكم في الكتب السماوية السابقة والقرآن بهذا الإسم الذي هو موضع فخركم، ويرى آخرون أنّ ضمير (هو) يعود إلى إبراهيم (عليه السلام) ويستدلّون بالآية (128) من سورة البقرة حيث نادى إبراهيم (عليه السلام)ربّه بعد إتمامه بناء الكعبة قائلا: (ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا اُمّة مسلمة لك).
ونحن نرى أنّ التّفسير الأوّل أصوب، لأنّه ينسجم مع آخر الآية ذاتها حيث يقول: (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة والقرآن المجيد، وهذا القول يناسب الله عزّوجلّ ولا يناسب إبراهيم (عليه السلام)(1).
وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للاُمم الاُخرى هي قوله المبارك: (ليكون الرّسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس).
و «الشهيد» هو الشاهد، وهي كلمة مشتقّة من شهود، بمعنى إطلاع المرء على
1 ـ إنّ هذا الدين سمّاه القرآن المجيد بصراحة واضحة (الإسلام) كما جاء في الآية الثّالثة من سورة المائدة (وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). كما ذكرت آيات عديدة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره (أوّل المسلمين) الأنعام، 14. الزمر، 12.
أمر أو حدث شهده بنفسه. وكون الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال اُمّته، وينسجم هذا المفهوم مع حديث (عرض الأعمال) وبعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك، حيث تعرض أعمال اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه في نهاية كل اسبوع فتطلع روحه الطاهرة عليها جميعاً، فهو شاهد على اُمّته. وذكرت بعض الأحاديث أنّ معصومي هذه الاُمّة الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) هم أيضاً شهود على أعمال الناس، نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)قوله: «نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله وأعلامه في بريته»(1).
في الحقيقة إنّ المخاطب في عبارة «لتكونوا» وحسب ظاهر الكلمة هو الاُمّة جميعاً، وقد يكون المراد قادة هذه الاُمّة، فمخاطبة الكلّ وإرادة الجزء أمر متعارف في المحادثة اليومية. ومثال ذلك ما جاء في الآية (20) من سورة المائدة (وجعلكم ملوكاً). حيث نعلم أنّ عدداً قليلا منهم أصبحوا ملوكاً.
وهناك معنى آخر لكلمة شهود، هي «الشهادة العمليّة» أي كون أعمال الفرد انموذجاً للآخرين وقدوة لهم، وهكذا يكون جميع المسلمين الحقيقيين شهوداً، لأنّهم اُمّة تقتدي بهم الاُمم بما لديهم من دين يمكنهم أن يكونوا مقياساً للسمو والفضل بين جميع الاُمم.
وجاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بعث الله نبيّاً جعله شهيداً على قومه، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل اُمّتي شهداء على الخلق، حيث يقول: ليكون الرّسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس»(2).
أي كما يكون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة واُسوة حسنة لاُمّته، تكونون أنتم أيضاً اُسوة وقدوة للناس، وهذا التّفسير لا يناقض الحديث السابق فجميع الاُمّة شهداء،
1 ـ كتاب «إكمال الدين» للشيخ الصدوق حسبما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 526. كما أكّدت ذلك أحاديث أُخرى في هذا المجال.
2 ـ تفسير البرهان، المجلّد الثّالث، صفحة 105.
والأئمّة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الاُمّة(1).
وإعادة الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله) فانّ الله هو قائدكم وناصركم ومعينكم: (هو مولاكم) و (فنعم المولى ونعم النصير).
والحقيقة أنّ جملة (فنعم المولى ونعم النصير) دليل على عبارة (واعتصموا بالله هو مولاكم) أي إنّ الله أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.
ربّنا: تفضّل علينا بالتوفيق للإعتصام بذاتك المقدّسة، ولنكون اُسوةً في الإرتباط بالخالق والخلق، وقدوة وشاهداً على الآخرين، ووفّقنا لإكمال هذا التّفسير الجامع والنموذجي لكتابك المنزل.
ربّنا: كما دعوتنا في قرآنك الكريم وفي كتبك السماوية الاُخرى بالمسلمين، فوفّقنا للتسليم لأمرك، وأمحض لنا طاعتك.
ربّنا: انصرنا على أعدائك وأعداء دينك الذين أرادوا بالإسلام والقرآن كيداً، فأنت نعم المولى ونعم النصير.
نهاية سورة الحجّ
* * *
1 ـ شرحنا ذلك بإسهاب في آخر الآية (143) من سورة البقرة، وكذلك في تفسير الآية (41) من سورة النساء.
مكيّة
وعددُ آياتِها مائة وثماني عَشرة آية
ذكرت أحاديث مروية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فضائل لهذه السورة. فعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة المؤمنين، بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت»(1).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) «من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كلّ جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين»(2).
ونؤكّد أنّ فضيلة السورة، ليست فقط في تلاوتها، وإنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها، فهو برنامج عملي لتكامل الإنسان. ولو طابق المرء برنامجه العملي مع محتوى هذه السورة ـ حتّى إن طابق مع آياتها الأُولى التي تبيّن صفات المؤمنين ـ لنال النصيب الأوفر من لدن العلي القدير.
لهذا ذكر في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال حين نزلت الآيات الأُولى من هذه السورة: «لقد أنزل إليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة»(3).
1 ـ تفسير مجمع البيان، المجلّد السابع، صفحة 98.
2 ـ روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.
3 ـ روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.
عبارة «أقام» التي ذكرت مكان «قرء» تعبّر عن الحقيقة التي ذكرناها أعلاه، فالهدف تطبيق ما تضمنّته هذه الآيات وليس تلاوتها فقط.
القسم المهمّ من هذه السورة ـ كما يبدو من اسمها ـ تحدّث عن صفات المؤمنين البارزة، ثمّ تناولت السورة العقيدة والعمل بها، وهي تتمّة لتلك الصفات.
ويمكن إجمالا تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية:
القسم الأوّل: يبدأ بالآية (قد أفلح المؤمنون) وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين، وهذه الصفات دقيقة وشاملة تغطّي جوانب الحياة المختلفة للفرد والمجتمع.
وبما أنّ أساسها الإيمان والتوحيد، فقد أشار القسم الثّاني من هذه المواضيع إلى علائم أُخرى للمؤمنين، التوحيد وآيات عظمة الله وجلاله في عالم الوجود، فعدّدت نماذج لذلك العالم العجيب في خلق السّماء والأرض والإنسان والحيوان والنبات.
ولإتمام الجوانب العمليّة، شرح القسم الثّالث ما حدث لعدد من كبار الأنبياء، كنوح وهود وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وبيّن شرائح من تأريخ حياتهم للعبرة والموعظة.
وفي القسم الرّابع وجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارةً، وأُخرى بتعابير دافعة عنيفة، ليعيد القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليه عزّوجلّ.
وبيّن القسم الخامس ـ في بحث مركّز ـ المعاد.
وتناول القسم السادس سيادة الله على عالم الوجود، وإطاعة العالم ولأوامره.
وأخيراً تناول القسم السابع حساب يوم القيامة، وجزاء الخير للمحسنين، وعقاب المذنبين. وينهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.
فالسورة مجموعة من دروس العقيدة والعمل، وقضايا التوعية وشرح لنهج المؤمنين من البداية حتّى النهاية.
إنّ هذه السورة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ نزلت في مكّة، إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا أنّ عدداً من آياتها نزل في المدينة، وكان الدافع لذلك وجود آية الزكاة فيها، لأنّ الزكاة شرّعت لأوّل مرّة في المدينة اثر نزول الآية (خذ من أموالهم صدقة) التوبة (103)، حيث أمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمع الزكاة من المسلمين.
إلاّ أنّه يجب الإنتباه إلى أنّ للزكاة مفهوماً واسعاً يشمل الواجب والمستحبّ، ولا يتحدّد معناه بالزكاة الواجبة فقط، لهذا نقرأ في الأحاديث أنّ الصلاة والزكاة مترادفتان(1).
وإضافة إلى ذلك فإنّ بعض المفسّرين يرون أنّ الزكاة كانت واجبة في مكّة أيضاً، غير أنّها كانت بصورة مجملة أوجبت على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بمقدار من ماله، ثمّ أصبحت وفق برنامج محدّد ودقيق بعد تشكيل الحكم الإسلامي في المدينة، حيث حدّد نصابها، وعيّن العاملين عليها، وبعثهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المناطق الإسلامية لجمع الزكاة(2).
* * *
1 ـ جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما السلام): «فرض الله الزكاة مع الصلاة».
2 ـ تفسير روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الَّلْغوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَـعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـفِظُونَ(4) إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(6) وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَـنَـتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوَرِثُونَ(10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ(11)
إختيار اسم المؤمنين لهذه السورة ـ كما تقدّم ـ لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، وممّا يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين
للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية (قد أفلح المؤمنون).
كلمة «أفلح» مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، والحقيقة أنّ المنتصرين يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً بضمّ الفلاح المادّي والمعنوي، ويكون الإثنان للمؤمنين.
فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرّاً مرفوع الرأس عزيز النفس غير محتاج، ولا يمكن تحقيق كلّ ذلك إلاّ في ظلال الإيمان والتمسّك بالله وبرحمته. أمّا فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب أصدقاء جديرين طاهرين، حياة العزّ والرفعة.
ويلخّص الراغب الاصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأنّ الفلاح الدنيوي في ثلاثة أشياء: البقاء والغنى والعزّ، وأمّا الفلاح الاُخروي ففي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل.
ثمّ تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كلّ شيء على الصلاة فتقول: (الذين هم في صلاتهم خاشعون).
«خاشعون» مشتقّة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصيّة كبيرة، أو حقيقة مهمّة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.
والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص في إرتباط مع الله، ويدعوه بتضرّع في حالة تسود جسمه كلّه، فيرى نفسه ذرّة إزاء
الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له.
لحظات هذه الصلاة درساً للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه.
وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلّي قوله: «أمّا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(1).
إشارة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدّون صلاتهم بخشوع حتّى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إنّه كان يرفع بصره إلى السّماء في صلاته، فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض»(2).
وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع ممّا تذكره الآية (والذين هم عن اللغو معرضون) حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء، لأنّ «اللغو» يعني الأعمال التافهة غير المفيدة، وكما قال بعض المفسّرين فإنّ اللغو كلّ قول أو عمل لا فائدة فيه، وإذا فسّر البعض اللغو بالباطل.
وبعض فسّره بالمعاصي كلّها.
وآخر بمعنى الكذب.
وآخر: السباب أو السباب المتقابل.
والبعض الآخر قال: إنّه يعني الغناء واللهو واللعب.
وآخر: إنّه الشرك. فإنّ هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.
![]() |
![]() |
![]() |