4 ـ إستماع الجميع لدعوة داعي الله، وإنقطاع جميع الأصوات: (يومئذ يتّبعون الداعي ...).

5 ـ عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله: (يومئذ لا تنفع  الشفاعة ...).

6 ـ إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي (يعلم

[84]

ما بين أيديهم ...).

7 ـ خضوع الجميع في مقابل حكمه: (وعنت الوجوه للحي القيّوم ...).

8 ـ يأس الظالمين: (وقد خاب من حمل ظلماً).

9 ـ رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن...).

* * *

[85]

الآيتان

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَـهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً(113) فَتَعَـلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ  وَلاَ  تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً(114)

التّفسير

قل: (ربّ زدني علماً)

الآيات محلّ البحث ـ في الواقع ـ إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد، فتقول: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكراً).

التعبير بـ (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية، وهذا يشبه تماماً أن يذكر إنسان لآخر اُموراً من شأنها التوعية والعبرة، ثمّ يضيف: هكذا ينبغي التذكير والوعظ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التفاسير التي ذكرت والبعيدة هنا عن معنى الآية).

[86]

كلمة «عربي» وإن كانت بمعنى اللغة العربية، إلاّ أنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين:

الأُولى: إنّ اللغة العربية ـ بشهادة علماء اللغة في العالم ـ واحدة من أبلغ لغات العالم، وأدبها من أقوى الآداب.

والثّانية: إنّ جملة (صرفنا) أحياناً تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة، فمثلا نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الاُمم السابقة وحوادثها تارةً، وتارةً أُخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة، وهكذا.

إنّ إختلاف جملة (لعلّهم يتّقون) مع جملة (يحدث لهم ذكراً) قد يكون من جهة أنّ الجملة الأُولى تقول: إنّ الهدف هو إيجاد وغرس التقوى بصورة كاملة. وفي الجملة الثّانية: إنّ الهدف هو أنّ التقوى وإن لم تحصل كاملة، فليحصل على الأقل الوعي والعلم فعلا، ثمّ تكون في المستقبل مصدراً وينبوعاً للحركة نحو الكمال.

ويحتمل أيضاً أن تكون الجملة الأُولى إشارة إلى إيجاد وتحقيق التقوى بالنسبة لغير المتّقين، والثّانية إلى التذكّر والتذكير بالنسبة للمتقين، كما نقرأ في الآية (2) من سورة الأنفال: (إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).

في الآية آنفة الذكر إشارة إلى أصلين مهمّين من اُصول التعليم والتربية المؤثّرة:

أحدهما: مسألة الصراحة في البيان، وكون العبارات بليغة واضحة تستقرّ في القلب.

والآخر: بيان المطالب بأساليب متنوعة، لئلاّ تكون سبباً للتكرار والملل، ولتنفذ إلى القلوب.

أمّا الآية التّالية فتضيف قائلة: (فتعالى الله الملك الحقّ) ومن المحتمل أن

[87]

يكون ذكر كلمة «الحقّ» بعد كلمة «المَلِك»، هو أنّ الناس ينظرون إلى الملك بمنظار سيء وتتداعى في أذهانهم صور الظلم والطغيان والجور والإستعلاء والتجبّر التي تكون في الملوك غالباً، ولذا فإنّ الآية تصف الله الملك سبحانه مباشرةً بـ «الحقّ».

وبما أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل به من القرآن لإهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأنّ يتمهّل فتقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه وقل ربّي زدني علماً).

ويستشفّ من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تنتابه حالة نفسيّة خاصّة من الشوق عند نزول الوحي، فكانت سبباً في تعجّله كما في قوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه)(1).

بحثان

1 ـ لا تعجل حتّى في تلقّي الوحي!

لقد تضمّنت الآيات الأخيرة دروساً تعليميّة، ومن جملتها النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي، وكثيراً ما لوحظ بعض المستمعين يقفون كلام المتحدّث أو يكملونه قبل أن يتمّه هو، وهذا الأمر ناشىء عن قلّة الصبر أحياناً، أو ناشىء عن الغرور وإثبات وجود أيضاً، وقد يكون العشق والتعلّق الشديد بشيء يدفع الإنسان ـ أحياناً ـ إلى هذا العمل، وفي هذه الحالة ينبعث عن حافر مقدّس، غير أنّ هذا الفعل نفسه ـ أي العجلة ـ قد يُحدث مشاكل أحياناً، ولذلك فقد نهت الآيات


1 ـ سورة القيامة، الآية 15 ـ 16 ـ 17.

[88]

آنفة الذكر عن العجلة حتّى ولو كان المراد أو الهدف من هذا الفعل صحيحاً، وأساساً لا تخلو الأعمال التي تنجز بإستعجال من العيب والنقص غالباً. ومن المسلّم به أنّ فعل النّبي لمّا كان عليه من مقام العصمة ـ كان مصوناً من الخطأ، إلاّ أنّه ينبغي عليه أن يكون في كلّ شيء مثلا وقدوة للناس، ليفهم الناس أنّه إذا كان الإستعجال في تلقّي الوحي غير محبّذ، فلا ينبغي الإستعجال في الاُمور الاُخرى من باب أولى أيضاً.

ولا ينبغي أن نخلط بين السرعة والعجلة طبعاً ـ فالسرعة تعني أنّ الخطّة قد نُظمت بدقّة كاملة، وحسبت جميع مسائلها، ثمّ تجري بنودها بدون فوات وقت. أمّا العجلة فتعني أنّ الخطّة لم تنضج تماماً بعد، وتحتاج إلى تحقيق وتدقيق، وعلى هذا فإنّ السرعة مطلوبة، والعجلة أمر غير مطلوب.

وقد ذكرت إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة، ومنها أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان لا يطيق تأخّر الوحي، فعلّمته الآية أن يتمهّل فإنّ الله ينزل عليه وحيه عند الإقتضاء والحاجة إليه.

وقال بعض المفسّرين: إنّ آيات القرآن نزلت على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة القدر دفعةً واحدة، ونزلت مرّة أُخرى بصورة تدريجيّة على مدى (23) سنة، ولذلك فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسبق جبرئيل عند النّزول التدريجي للآيات، فأمره القرآن أن لا تعجل في هذا الأمر، ودع الآيات تنزل نزولا تدريجيّاً كلّ في موقعها وزمانها.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

2 ـ اُطلب المزيد من العلم

لمّا كان النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي موهماً النهي عن الإستزادة في طلب العلم، فقد عقّبت الآية بعد ذلك بالقول مباشرةً: (وقل ربّ زدني علماً) لتقف

[89]

أمام هذا التصوّر الخاطىء، أي أنّ العجلة ليست صحيحة، لكن من الضروري الجدّ والسعي من أجل الإرتواء من منهل العلم!

وقال بعض المفسّرين: إنّ الجملة الأُولى أمرت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألاّ يعجل في فهم كلّ جوانب الآيات قبل تبيينها في الآيات الاُخرى، وفي الجملة الثّانية صدر الأمر بأن يطلب من الله سبحانه علماً أكثر فيما يتعلّق بأبعاد آيات القرآن المختلفة.

وعلى كلّ حال، فإذا كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأموراً أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه، وروحه المليئة وعياً وعلماً، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّاً، وفي الحقيقة، فإنّ العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّاً، وزيادة الطلب في كثير من الاُمور مذمومة إلاّ في طلب العلم فانّها ممدوحة، والإفراط قبيح في كلّ شيء إلاّ في طلب العلم.

فالعلم ليس له حدّ مكاني، فيجب الإجتهاد لتحصيله ولو كان في الصين أو الثريا، وليس له حدّ زماني فهو يستمرّ من المهد إلى اللحد.

ولا يعرف حدّاً من جهة المعلّم، فإنّ الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها، وإذا ما سقطت جوهرة من فم ملوّث فاسق فإنّه يلتقطها.

ولا حدّ في الإسلام لمقدار السعي والإجتهاد، فهو يغوص في أعماق البحر ليكتسب العلم، وقد يضحّي بروحه في طريق تحصيل العلم. وعلى هذا فإنّ كلمة (خرّيج) أو (أنهى دراسته) لا معنى لها في منطق الإسلام، فإنّ المسلم الحقيقي  لا يعرف نهاية في تحصيله للعلوم، فهو دائماً طالب جامعي، وطالب علم، حتّى لو أصبح أكثر الأساتذة تفوّقاً وأفضلهم.

الطريف أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: «إنّ لنا في كلّ جمعة سروراً» قال: قلت: وما ذاك؟ قال: «إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العرش، ووافى الأئمّة (عليهم السلام) ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا بأبداننا

[90]

إلاّ بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفذنا»(1).

وقد ورد هذا المضمون في روايات عديدة بعبارات مختلفة، وهو يوضّح أنّ النّبي والأئمّة يضاف ويزاد على علمهم إلى نهاية العالم: ونقرأ في رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه»(2).

وكذلك نقرأ في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلّ الناس قيمة أقلّهم علماً»(3). وهذا هو قدر العلم وقيمته في منظار التعليمات الإسلامية.

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص397.

2 ـ تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين، والصافي في ذيل الآيات مورد البحث.

3 ـ سفينة البحار، الجزء2، ص219 (مادّة علم).

[91]

الآيات

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (116)فَقُلْنَا يَـآدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ  لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى(119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـنُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ يَبْلَى (120) فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَـهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

التّفسير

آدم ومكر الشّيطان:

كان القسم الأهمّ من هذه السورة في بيان قصّة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، والمواجهة بينهم وبين فرعون وأنصاره، إلاّ أنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدّث عن

[92]

قصّة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما. وربّما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحقّ والباطل لا ينحصر بأمس واليوم، وموسى (عليه السلام) وفرعون، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

وبالرغم من أنّ قصّة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن، إلاّ أنّها تمتزج في كلّ مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدّث أوّلا عن عهد الله إلى آدم فتقول: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً).

هناك عدّة آراء في ماهيّة العهد المذكور، فقال البعض: إنّه أمر الله بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة، وهناك روايات متعدّدة تؤيّد هذا المعنى. في حين أنّ بعض المفسّرين إحتملوا إحتمالات أُخرى يمكن إعتبارها بمثابة الأغصان والأوراق لهذا المعنى، كإخطار الله لآدم بأنّ الشيطان عدوّ مبين له، ويجب أن  لا يتبعه.

وأمّا «النسيان» هنا فمن المسلم أنّه ليس بالمعنى المطلق، لأنّه لا معنى للعتاب والملامة في النسيان المطلق، بل إنّه إمّا بمعنى الترك كما نستعمل ذلك في مكالماتنا اليوميّة، فقد نقول لمن لم يف بعهده: أنسيت عهدك؟ أي إنّك كالناسي. أو أنّه بمعنى النسيان الذي يطرأ نتيجة قلّة الإنتباه وشرود الذهن.

والمراد من «العزم» هنا هو التصميم والإرادة القويّة الصلبة التي تحفظ الإنسان من الوقوع تحت تأثير وساوس الشيطان القويّة.

وعلى كلّ حال، فلا شكّ أنّ آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأُولى، أو بتعبير آخر، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت مرحلة تجريبيّة للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبل المسؤولية، خاصةً وإن نهي الله هنا كان نهياً إرشادياً، لأنّه قد أخبره بأنّه إن أكل من الشجرة الممنوعة فسيبتلى بالشقاء. وقد أوردنا تفصيل كلّ ذلك، وكذلك المراد من الشجرة الممنوعة وأمثال ذلك في ذيل الآيات 19 ـ 22 من سورة الأعراف.

[93]

ثمّ أشارت إلى جانب آخر من هذه القصّة، فقالت: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى) ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم، آدم الذي سجدت له الملائكة، وأبدت هذه المخلوقات العظيمة إحترامها إيّاه. كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظمه.

لا شكّ أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصّة بعبادة الله، ولا أحد أو موجود يستحقّ أن يكون معبوداً من دون الله سبحانه، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت لله، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. أو أنّ السجدة هنا تعني الخضوع والتواضع.

على كلّ حال، فإنّ الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله (فقلنا ياآدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنّة فتشقى).

من الواضح أنّ الجنّة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستاناً فيه كلّ شيء ممّا في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف الله، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أنذر آدم بأنّك إن خرجت من هذا النعيم فإنّك ستشقى. وكلمة «تشقى» من مادّة الشقاء، وأحد معانيها الألم والمشقّة.

سؤال: لماذا خاطب الله الإثنين معاً ـ أي آدم وحواء ـ في بداية الأمر فقال: (فلا يخرجنكما) إلاّ أنّه ذكر نتيجة الخروج بصيغة المفرد في شأن آدم فقط فقال: (فتشقى)؟

والجواب هو: إنّ هذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ الآلام والأتعاب كانت تصيب آدم في الدرجة الأُولى، فإنّه كان مأموراً بتحمّل مسؤوليات زوجته أيضاً، وهكذا كانت مسؤولية الرجال من بداية الأمر. أو أنّ العهد لما كان من البداية على عاتق آدم، فإنّ النهاية أيضاً ترتبط به.

ثمّ يبيّن الله لآدم راحة الجنّة وهدوءها، وألم ومشقّة الخروج منها، فيقول:

[94]

(إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى).

وهنا سؤال يوجّه للمفسّرين، وهو: لماذا إقترن ذكر الظمأ بضحى الشمس، والجوع بالعري، في حين أنّ المعتاد ذكر العطش مع الجوع؟

قيل في الجواب: إنّ بين العطش وأشعّة الشمس علاقة لا يمكن إنكارها. («تضحى» من مادّة «ضحى» أي إشراق الشمس من دون أن يحجبها حاجب من سحاب وأمثاله).

وأمّا الجمع بين الجوع والعري فقد يكون بسبب أنّ الجوع نوع من عراء الجوف وخلوّه من الغذاء! والأفضل أن يقال: إنّ هذين الوصفين ـ الجوع والعري ـ علامتان واضحتان للفقر تأتيان معاً عادةً.

وعلى كلّ حال، فقد اُشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وإبتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس ـ للحماية من حرارة الشمس ـ والمسكن، وكان تأمين هذه الحاجات نتيجة توفّر النعمة، وذكر هذه الاُمور في الواقع توضيح لما جاء في جملة «فتشقى».

لكن، ومع كلّ ذلك، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم يهدأ له بال: (فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك  لا يبلى).

«الوسوسة» في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثمّ قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيّئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجة.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أي شيء، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة والوصول إلى القدرة الأزليّة، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر: فكما أنّ الله قد وعد آدم بأنّك إن تجنّبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنّعم في الجنّة دائماً، فإنّ

[95]

الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق «أي أنّه سيخلد في الجنّة أيضاً».

أجل .. إنّ الشياطين يبدؤون دائماً في بادية خططهم من نفس النقاط والطرق التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحقّ، لكن لا تمرّ الأيّام حتّى يجروهم إلى هاوية الإنحراف، ويجعلون جاذبية طريق الحقّ وسيلة للوصول إلى المتاهات.

وأخيراً وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط عنهما لباس الجنّة، فبدت أعضاؤهما: (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما)(1) فلمّا رأى آدم وحواء ذلك إستحييا (وطفّقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة)(2). نعم، لقد كانت العاقبة المؤسفة (وعصى آدم ربّه فغوى).

«غوى» أُخذت من مادّة الغي، أي العمل الصبياني الناشىء من إعتقاد خاطىء، ولمّا كان آدم هنا قد أكل ـ جهلا وإشتباهاً ـ من الشجرة المحرّمة، نتيجة للظنّ الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عُبّر عن عمله بـ(غوى).

وفسّره بعض المفسّرين بأنّه الجهل الناشىء عن الغفلة، والبعض فسّرها بالمحرومية، والبعض الآخر بالفساد في الحياة.

وعلى كلّ حال فإنّ «الغي» يقابل «الرشد»، والرشد هو أن يسلك الإنسان طريقاً يوصله إلى هدفه ومقصده، أمّا الغي فهو عدم الوصول إلى المقصود.

ولكن لمّا كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته، وكان يسير في طريق رضى الله سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة إستثنائية، فإنّ الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل (ثمّ إجتباه ربّه فتاب عليه وهدى).


1 ـ «سوءات» جمع سوءة، وهي في الأصل كلّ شيء غير سار ويسيء الإنسان، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميّت، وأحياناً على العورة، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

2 ـ «يخصفان» من مادّة خصف، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

[96]

هل إرتكب آدم معصية؟

مع أنّ العصيان يأتي في عرف اليوم ـ عادةً ـ بمعنى الذنب والمعصية، إلاّ أنّه في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر سواء كان الأمر واجباً أو مستحبّاً، وبناءً على هذا فإنّ إستعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب أو إرتكاب محرّم، بل يمكن أن يكون ترك أمر مستحبّ أو إرتكاب مكروه.

إضافةً لما مرّ، فإنّ الأمر والنهي يكون إرشادياً، كأمر ونهي الطبيب حيث يأمر المريض أن يتناول الدواء الفلاني، وأن يجتنب الغذاء الفلاني غير المناسب،  ولا  شكّ أنّ المريض إذا خالف أمر الطبيب فإنّه لا يضرّ إلاّ نفسه، لأنّه لم يعبأ بإرشاد الطبيب ونصيحته. وكذلك كان الله قد أمر آدم أن لا تأكل من ثمرة الشجرة الممنوعة، فإنّك إن أكلت ستخرج من الجنّة، وستبتلى بالألم والمشقّة الكبيرة في الأرض، فخالف هذا الأمر الإرشادي، ورأى نتيجة مخالفته أيضاً. وإذا لاحظنا أنّ هذا الكلام كان في مرحلة وجود آدم في الجنّة، وهي مرحلة إختبار لا تكليف، فسيتّضح معناه بصورة أجلى.

وإضافة لما مرّ، فإنّ العصيان أو الذنب يكون أحياناً متّصفاً بالإطلاق، أي إنّه يُعدّ ذنباً من قبل مرتكبيه جميعاً وبدون إستثناء كالكذب والظلم وأكل المال الحرام، ويكون أحياناً نسبيّاً، أي العمل الذي إن بدر من شخص ما فقد لا يكون ذنباً، بل قد يعتبر أحياناً عملا مطلوباً ولائقاً لصدوره من مثله، أمّا إذا صدر من آخر فإنّه لا يناسبه نظراً إلى مكانته ومنزلته.

فمثلا: تطلب المساعدة من قبل بعض الناس لبناء مستشفى، فيعطى العامل أُجرة يوم من عمله والتي لا تتجاوز أحياناً أكثر من عدّة دراهم. إنّ هذا الفعل الصادر من مثل هذا الشخص يُعدّ إيثاراً وحسنةً وهو مطلوب تماماً، أمّا إذا أعطى رجل ثري هذا المقدار من المال مثلا فإنّه لا يناسبه ولا يليق به فحسب، بل سيكون موضع ملامة ومذمّة وتعنيف مع أنّه أساساً لم يرتكب حراماً، بل ساهم ولو

[97]

بمقدار يسير في عمل الخير والبرّ.

إنّ هذا هو ما نعبّر عنه بـ(حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) وهو المعروف بترك الأُولى، ونحن نعبر عنه بالذنب النسبي الذي لا يعدّ ذنباً، ولا يخالف مقام العصمة.

وفي الأحاديث الإسلامية أيضاً أُطلقت المعصية على مخالفة المستحبّات، فنرى في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال في النوافل اليوميّة: «وإنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض ... ولكنّها معصية، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه»(1).

وقد بحثنا هذا الموضوع وسائر المسائل المرتبطة بآدم وخروجه من الجنّة في سورة الأعراف ذيل الآية 19 وما بعدها، وفي سورة البقرة ذيل الآية 30 ـ 38، ولا حاجة إلى التكرار.

* * *


1 ـ نور الثقلين، الجزء3، ص404.

[98]

الآيات

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَـتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)وَكَذَلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

التّفسير

المعيشة الضنكا:

مع أنّ توبة آدم قد قبلت، إلاّ أنّ عمله أدّى إلى عدم إستطاعته الرجوع إلى الحالة الأُولى، ولذا فإنّ الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعاً من الجنّة: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو). إلاّ أنّي اُعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم (فإمّا يأتينكم منّي هدى

[99]

فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى).

ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحقّ، فقد أضاف تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى).

هنا (قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً)؟ فيسمع الجواب مباشرةً: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث فهي بمثابة الإستنتاج والخلاصة إذ تقول: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربّه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى).

* * *

بحوث

1 ـ الغفلة عن ذكر الحقّ وآثارها

قد توصد أحياناً كلّ أبواب الحياة بوجه الإنسان، فكلّما أقدم على عمل يجد الأبواب المغلقة، وقد تنعكس الصورة فأينما اتّجه يرى الأبواب مفتّحة في وجهه، وقد تهيأت له مقدّمات العمل، ولا يواجه عقبات في طريقه، فيعبّر عن هذه الحالة بسعة العيش ورغده، وعن الأُولى بضيق المعيشة وشظفها، والمراد من قوله تعالى: (معيشةً ضنكاً)(1) الوارد في الآيات محلّ البحث هو هذا المعنى أيضاً.

وقد يكون ضيق العيش ناتجاً أحياناً من قلّة المورد، وقد يكون المرء كثير المال موفور الثراء. إلاّ أنّ البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه، فلا يميل إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه أيضاً، وعلى قول الإمام علي (عليه السلام): «يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب


1 ـ الضنك: المشقّة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

[100]

الأغنياء».

حقّاً، لماذا يبتلى الإنسان بهذه الضائقات؟

القرآن يقول: إنّ العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله، فإنّ ذكر الله يبعث على إطمئنان الروح والتقوى والشهامة، ونسيانه مبعث الإضطراب والخوف والقلق.

عندما ينسى الإنسان مسؤولياته بعد أن ينسى ذكر الله، فإنّه سيغرق في خضمّ الشهوات والحرص والطمع، ومن الوضوح بمكان أنّ نصيبه سيكون المعيشة الضنك، فلا قناعة تملأ عينه، ولا إهتمام بالمعنويات تغني روحه، ولا أخلاق تمنعه أمام طغيان الشهوات.

وأساساً فانّ ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وإنعدام الغنى الروحي .. ينشأ من عدم الإطمئنان إلى المستقبل، والخوف من نفاد الإمكانيات الموجودة، والعلاقة المفرطة بعالم المادّة، بينما نجد أنّ الإنسان الذي يؤمن بالله، وتعلّق قلبه بذاته المقدّسة، يعيش بعيداً عن كلّ هذه الإضطرابات، وفي مأمن منها.

إلى هنا كان الكلام عن الفرد، وعندما نأتي إلى المجتمعات التي أعرضت عن ذكر الله، فإنّ المسألة ستكون أشدّ رعباً وخطراً، فإنّ المجتمعات البشرية على رغم تقدّمها الصناعي المذهل، وبالرغم من توفّر كلّ وسائل الحياة، فهي تعيش في حالة إضطراب وقلق شديد، ومبتلاة بضائقات عجيبة وترى نفسها سجينة.

فكلّ فرد يخاف من الآخرين، ولا يعتمد أحد على الآخر، والروابط والعلاقات تتمحور حول محور المصالح الشخصيّة، وسبّاق التسلح ـ نتيجة الخوف من الحرب ـ يلتهم ويستهلك أغلب إمكانياتهم الإقتصادية.

السجون مليئة بالمجرمين، وتقع في كلّ ساعة ودقيقة ـ وطبقاً للإحصاءات الرسميّة ـ حوادث قتل وجرائم مرعبة .. التلوّث بالفحشاء، والإدمان على المواد المخدّرة قد إستعبد هؤلاء، ولا يوجد في عوائلهم نَسمة حبّ، ولا إرتباط عاطفي

[101]

يبعث على النشاط .. أجل هذه هي حياتهم القاسية، ومعيشتهم الضنك.

لقد إعترف ريتشارد نيكسون الريئس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ـ بلد الشيطان الأكبر ـ بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأوّل إذ قال: (إنّنا نرى حولنا دائماً حياة جوفاء، ونحن نأمل أن نرضى، ولكنّنا لا نرضى)!

رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمّته إيجاد السرور والفرح في المجتمع، يقول: إنّي أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شيء في نهايته إلاّ القلق المطلق.

ومن الطريف أن نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّه سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن المراد من الآية: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً)؟ قال: «يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين»(1).

أجل .. فإنّ الذي يستلهم العبرة من حياة علي (عليه السلام)، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز، والذي إنقطع إلى الله حتّى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحدّ، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه، أمّا اُولئك الذين ينسون المُثُل والقدوة فإنّهم في ضنك العيش في كلّ الأحوال.

وقد فُسّر الإعراض عن ذكر الله ـ في الآية ـ بترك الحجّ من قِبَل القادرين عليه، وذلك لأنّ مراسم الحج تهزّ الإنسان، وتوجد إرتباطاً وعلاقة جديدة بين الإنسان وربّه بحيث يكون هذا الإرتباط هو مفتاح حياته، في حين أنّ عكس هذا الأمر يؤدّي إلى الإرتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكا.

2 ـ عمى البَصَر وعَمى البصيرة!

لقد حُدّدت عقوبتان لاُولئك الذين يعرضون عن ذكر الله: إحداهما: المعيشة


1 ـ نور الثقلين، الجزء3، ص405.

[102]

الضنك في هذه الدنيا، والتي اُشير إليها في الملاحظة السابقة، والاُخرى: العمى في الآخرة.

وقلنا مراراً: إنّ عالم الآخرة هو تجسّم أوسع لعالم الدنيا، وكلّ حقائق هذا العالم تتجسّد هناك بما يناسبها هنا، فاُولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا، ستعمى هناك عيون أجسامهم، ولذلك فإنّهم حين يتساءلون بأنّا كنّا قبل هذا صحيحي البصر، فلماذا حشرنا عمياً؟ يقال لهم: لأنّكم قد نسيتم أيات الله، وهذه الحالة إنعكاس لتلك الحالة.

وهنا ينقدح سؤال، وهو: إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أنّ كلّ الناس يبصرون في يوم القيامة، ويقال لهم: اقرؤوا صحيفة أعمالكم (اقرأ كتابك ...)(1)، أو أنّ المجرمين يرون نار جهنّم بأعينهم: (ورأى المجرمون النّار ...)(2)، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عمياً؟

قال بعض المفسّرين إنّ حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم، فربّما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الاُمور، وعمياناً عن مشاهدة البعض الآخر، وعلى ما ينقل العلاّمة الطبرسي عن بعض المفسّرين: إنّه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشيء منها، لأنّ نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.

ويحتمل أيضاً أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عمياً، وفي بعضها مبصرين.

ثمّ إنّ المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم، بل من الواضح أنّ المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليوميّة، فإذا لم يهتمّ شخص بآخر، فإنّ الثّاني يقول له: لماذا نسيتني؟


1 ـ الإسراء، 14.

2 ـ الكهف، 53.

[103]

3 ـ الإسراف في المعصية

ممّا يلفت النظر أنّه قد ذكرت في الآيات ـ محلّ البحث ـ هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.

إنّ التعبير بـ«الإسراف» هنا قد يكون إشارة إلى أنّهم قد إستعملوا تلك النعم والعطايا الإلهيّة، كالعين والاُذن والعقل، في طرق الشرّ، وليس الإسراف إلاّ أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.

أو أن يكون إشارة إلى أنّ المذنبين قسمان: قسم لهم ذنوب محدودة، وفي قلوبهم خوف الله، أي أنّهم لم يقطعوا إرتباطهم وصلتهم بالله تماماً، فإذا  ما ظلموا ـ على سبيل الفرض ـ يتيماً أو ضريراً فإنّهم لا يستبيحون ذلك العمل، بل يعدّون أنفسهم مقصّرين أمام الله. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفرد عاص يستحقّ العقاب، إلاّ أنّ بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب ـ ولا يعتبر ذلك ذنباً، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه، بل ويفتخر أحياناً بإرتكابه المعاصي، أو يحتقر الذنب ويستصغره ـ فرقاً شاسعاً، لأنّ القسم الأوّل يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب، أمّا اُولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.

4 ـ ما هو الهبوط؟

«الهبوط» في اللغة بمعنى النّزول الإجباري، كسقوط الصخرة من مرتفع ما، وعندما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد والإنزال عقاباً له.

وبملاحظة أنّ أدم قد خُلق للحياة على وجه الأرض، وكانت الجنّة أيضاً بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم، فإنّ هبوط ونزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني، أي إنّ الله سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأُولى، وحرمه من كلّ نعم الجنّة تلك، وإبتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.

وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي

[104]

اهبطا كلاكما، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاُخرى، فلأنّ الشيطان قد اُشرك معهما في الخطاب، لأنّه هو الآخر قد طُرد من الجنّة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المخاطب آدم والشيطان، لأنّ الجملة التي تلي هذه الجملة تقول: (بعضكم لبعض عدو).

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (بعضكم لبعض عدو) والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع، هو تولّد العداوة بين أدم وحواء من جهة، وبين الشيطان من جهة أُخرى، وتولّد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر.

وعلى كلّ حال، فإنّ المخاطب في جملة: (إمّا يأتينكم منّي هدى) هم أولاد آدم وحواء حتماً، لأنّ هداية الله مختصة بهم، أمّا الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهيّة، فإنّ الخطاب لا يشملهم.

* * *

[105]

الآيات

أَفَلَمْ يَهْدِ لَـهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَت لاُِّوْلِى النُّهَى (128) وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمّىً (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاى الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)