![]() |
![]() |
![]() |
وطبيعي أنّ اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط، وإنّما يعني الآراء التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربّه وتشغله بها دون الاُمور المفيدة، إذن فاللغو يتضمّن كلّ هذا، والحقيقة أنّ المؤمنين لم يخلقوا من أجل الإنشغال بآراء
1 ـ تفسير الصافي، وتفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.
2 ـ تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.
باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، كما قال القرآن الكريم.
وتشير الآية الثّالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: (والذين هم للزكاة فاعلون)(1).
ربّما تكون السورة مكّية، كما قلنا سابقاً، نزلت في وقت لم تشرّع فيه الزكاة بعد بمعناها المعروف، لذلك نجد إختلافاً بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، ولكن الذي يبدو أصوب هو أنّ الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنّما هناك أنواع كثيرة منها مستحبّة، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة، إلاّ أنّ الزكاة المستحبّة كانت موجودة قبل هذا.
وذهب مفسّرون آخرون إلى إحتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي في مكّة لكن دون تحديد، حيث كان الواجب على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بما يتمكّن، إلاّ أنّه أصبح للزكاة اُسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس بيت مال المسلمين، حيث تحدّدت أنصبتها من كلّ محصول ومال. وأصبح لها جباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمّا ما يراه بعض المفسّرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في «روح المعاني» والراغب الاصفهاني في مفرداته من أنّ الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح، فبعيد، لأنّ القرآن المجيد كلّما ذكر الصلاة مع الزكاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسّرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات.
ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفّة بشكل تامّ، وإجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: (والذين هم لفروجهم حافظون)(2) يحفظونها1 ـ الزكاة تعني هنا أنّ لها مصدراً، ولهذا إستعملت عبارة «فاعلون» بعدها. وقال مفسّرون آخرون: إنّه يمكن أن تعني الزكاة ذلك المعنى المعروف عنها، أي مقدار من المال، ولهذا تكون (فاعلون) بمعنى مؤدّون.
2 ـ «الفروج» جمع فرج، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.
ممّا يخالف العفّة (إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين).
بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمردّاً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة (فمن إبتغى وراء ذلك فاُولئك هم العادون).
إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوث بالإنحرافات الكثيرة.
أمّا عبارة (أزواجهم) فهي تشمل الزوجين الذكر والاُنثى، رغم أنّ بعض مفسّري أهل السنّه وقعوا في خطأ في تفسير هذه الآية سنشير إليه لاحقاً.
ويمكن أن تكون عبارة (غير ملومين) إشارة إلى الرأي الخاطىء عند المسيحيين الذي أصبح يشكّل إنحرافاً في عقيدتهم، وهو أنّ أي إتّصال جنسي يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له، حتّى نرى القساوسة الكاثوليك ـ نساءً ورجالا ـ ممّن طلّق الدنيا يحيون عزّاباً ويتصوّرون الزواج بأي شكل كان خلافاً لمنزلة الإنسان الروحية وهذه القضيّة شكلية فحسب، حيث يختار هؤلاء لإشباع غرائزهم سبلا خفيّة متعدّدة. ذكرتها كتبهم)(1).
وعلى كلّ حال فإنّ الله لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوّناته المثلى، ثمّ يعتبرها تناقض منزلة الإنسان عنده.
وكون الزوجات حلاًّ للأزواج في علاقتهنّ الجنسيّة باستثناء أيّام العادة الشهرية وأمثالها، لا تحتاج إلى شرح. وكذلك كون الجواري حلالا عندما يكنّ على وفق شروط ذكرتها الكتب الفقهيّة وليس كما يتصوّر البعض أنّ كلّ واحدة منهنّ ودون شرط حلّ لمالكها، وفي الحقيقة لهنّ شروط الزوجة في حالات كثيرة.
1 ـ يراجع بهذا المورد قصّة الحضارة لويل ديورانت.
وأشارت الآية الثامنة ـ موضع البحث ـ إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الإلتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة. وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحقّ والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقّها. ويحرسونها ما داموا أحياءاً. ويرثها أبناؤهم الذين تربّوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.
والدليل على عموميّة مفهوم الأمانة هنا، إضافة إلى سعة المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، هو أحاديث عديدة وردت في تفسير الأمانة بأنّها (أمانة الأئمّة المعصومين) أي: ينقلها كلّ إمام إلى وارثه(1).
وأحياناً تفسير الأمانة بأنّها الولاية بشكل عامّ.
وممّا يلفت النظر رواية زرارة أحد تلاميذ الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى (أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(2) «أدّوا الولاية إلى أهلها ...»(3).
وهكذا يكشف عن أنّ الحكومة وديعة إلهيّة مهمّة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.
وهناك تعابير قرآنية عديدة تدلّ على عمومية وشمولية العهد، منها: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(4).
1 ـ تفسير البرهان، المجلّد الأوّل، صفحة 380.
2 ـ سورة النساء، 58.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ النحل، 91.
والجدير بالملاحظة أنّ بعض آيات القرآن عبّرت عن ذلك العهد بأداء الأمانة وعدم خيانتها والمحافظة عليها، و «رعاية الأمانة» التي استعملت في الآية السابقة تضمّ معنى الأداء والمحافظة.
فعلى هذا فانّ التقصير في المحافظة على الأمانة والذي يؤدّي إلى وقوع ضرر أو تعرّضها للخطر، يوجب على الأمين إصلاحها (وبهذا تترتّب ثلاثة واجبات على الأمين: الأداء، والمحافظة، والإصلاح) فلابدّ أن يكون الإلتزام بما تعهّد به المرء والمحافظة عليه.
وأداء الأمانة من أهمّ القواعد في النظام الإجتماعي، ودون ذلك يسود التخبّط في المجتمع. ولهذا السبب نرى شعوباً لا تتمسّك عامّتها بالدين، إلاّ أنّها ـ سعياً منها لمنع الإضطراب ـ تفرض على نفسها رعاية العهد والأمانة، وتعتبر نفسها مسؤولة أمام هذين المبدأين ـ في أقلّ تقدير ـ في القضايا الإجتماعية العامّة (وقد بيّنا بإسهاب أهميّة الأمانة في تفسير الآية (58) من سورة النساء. وفي تفسير الآية (27) من سورة الأنفال، وشرحنا الوفاء بالعهد في تفسير الآية الأُولى من سورة المائدة وفي تفسير الآية (91) من سورة النحل).
وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول: (والذين هم على صلاتهم يحافظون).
وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، بدأت بالصلاة وإنتهت به. لماذا؟ لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.
الصلاة وسيلة ليقظة الإنسان وخير وقاية من الذنوب.
والخلاصة، إنّ الصلاة إن اُقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.
وجدير بالذكر إلى أنّ الآيتين الأُولى والأخيرة تضمنّت كلّ واحدة منها
موضوعاً يختلف عن الآخر، فالآية الأُولى تضمنّت الصلاة بصورة مفردة، والأخيرة بصورة جماعية. الأُولى تضمنّت الخشوع والتوجّه الباطني إلى الله. هذا الخشوع الذي يعتبر جوهر الصلاة، لأنّ له تأثيراً في جميع أعضاء جسم الإنسان، والآية الأخيرة أشارت إلى آداب وشروط صحّة الصلاة من حيث الزمان والمكان والعدد، فأوضحت للمؤمنين الحقيقيين ضرورة مراعاة هذه الآداب والشروط في صلاتهم.
وقد شرحنا أهميّة الصلاة في المجلّدات المختلفة لهذا التّفسير. فليراجع تفسير الآية (114) من سورة هود وكذلك تفسير الآية (103) من سورة النساء وفي تفسير الآية (14) من سورة طه.
بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: (اُولئك هم الوارثون).
اُولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).
«الفردوس» ـ على قول ـ هي مفردة رومية. وذهب آخرون إلى أنّها عربية، وقيل فارسية بمعنى «البستان». أو بستان خاص إجتمعت فيه جميع تسميتها بالجنّة العالية، وأفضل البساتين.
ويمكن أن تكون عبارة «يرثون» إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أنّ الإنسان يبذل جهوداً واسعة ويضحّي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرّب إلى الله، إلاّ أنّ هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأنّ المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقّة.
كما يجب ملاحظة حديث روي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما منكم من أحد إلاّ وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النّار ورث أهل
الجنّة منزله».
كما يمكن أن تكون عبارة «يرثون» في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام، وعلى كلّ حال فإنّ هذه المنزلة العالية ـ حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه ـ خاصّة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنّة الآخرين في منازل أقلّ أهميّة من هؤلاء المؤمنين.
* * *
1 ـ إختيار الفعل الماضي «أفلح» لنجاح المؤمنين، تأكيد أقوى، أي إنّ نجاحهم طبيعي وكأنّه تحقّق من قبل. وجاءت كلمة (قد) أيضاً لتأكيد هذا الموضوع ثانية. وجاءت عبارات (خاشعون) و (معرضون) و (راعون) و (يحافظون) بصيغة اسم فاعل أو فعل مضارع دليلا على أنّ هذه الصفات البارزة ليست مؤقتة في المؤمنين الحقيقيين، بل هي دائمة فيهم.
يستفاد من الآيات المذكورة أعلاه على أنّ هناك نوعين من النساء يجوز الدخول بهما: الأُولى الزوجات، والثّانية الجواري (بشروط خاصّة)، لهذا إستندت الكتب الفقهيّة على هذه الآية في مواضيع عديدة خلال بحث النكاح.
ولكن بعض المفسّرين والفقهاء من أهل السنّة حاولوا الإستفادة من هذه الآية في إثبات حرمة الزواج المؤقت.
ومع ملاحظة هذه الحقيقة، وهي أنّ من الثابت المسلّم به هو أنّ الزواج المؤقت (المتعة) كان حلالا على عهد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينكره أحد من المسلمين، إلاّ أنّ البعض يرى أنّه كان في صدر الإسلام وعمل به الكثير من الصحابة، إلاّ أنّه
نسخ، وقال آخرون: إنّ عمر بن الخطاب منعه.
ومفهوم كلام هذه المجموعة من المفسّرين السنّة ـ بعد ملاحظة هذه الحقائق ـ هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (والعياذ بالله) أجاز الزنا في أقلّ تقدير لفترة محدّدة، وهذا غير صحيح أبداً.
إضافةً إلى أنّ «المتعة» خلافاً لتصوّر هؤلاء، هي نوع من الزواج المؤقت بمعظم شروط الزواج الدائم، وعلى هذا فإنّ عبارة: (إلاّ على أزواجهم) هي بالتأكيد تتضمنّه. ولهذا السبب تستخدم صيغ الزواج الدائم (أنكحت وزوّجت) مع ذكر مدّة الزواج عند قراءة صيغة الزواج المؤقت، وهذا خير دليل على كون المتعة زواجاً.
وقد بيّنا بالتفصيل الاُمور المتعلّقة بالزواج المؤقت وأدلّته الشرعيّة في الإسلام، وعدم نسخ هذا الحكم الإلهي، وكذلك فلسفته الإجتماعية، في تفسير الآية (24) من سورة النساء.
إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجّه الباطني إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلّي، هو روح الصلاة. والخشوع ما هو إلاّ توجّه باطني مع تواضع. وعلى هذا يتبيّن أنّ المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة كجسم بلا روح، بل إنّ جميع توجّههم إلى حقيقة الصلاة وباطنها.
وهناك عدد كبير من الناس يودّ بشوق بالغ أن يكون خاشعاً في صلاته، إلاّ أنّه لا يتمكّن من تحقيق ذلك.
ولتحقيق الخشوع والتوجّه التامّ إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات، أُوصي بما يلي:
1 ـ نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيراً
عظيماً، حتّى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.
2 ـ الإهتمام بالاُمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسّه، وكلّما تمكّن الإنسان من التخلّص من مشاغله حصل على توجّه إلى الله في العبادة.
3 ـ إختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا فإنّ الصلاة مع إنشغال البال بغيرها تعدّ مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس أو قبال المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن كانت أبسط بناءً وأقلّ زخرفة واُبّهة، ليكون التوجّه كلّه لله فاطر السموات والأرض.
4 ـ إجتناب المعاصي عامل مؤثّر في التوجّه إلى الله، لأنّ المعصية والذنب تبعد الشقّة بين قلب المسلم وخالقه.
5 ـ معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثّر كبير على ذلك.
6 ـ ويساعد على ذلك أداء المستحبّات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.
7 ـ وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل هو كبقيّة الأعمال الاُخرى يحتاج إلى تمرين متواصل، ويحدث كثيراً أن يحصل الإنسان على قدرة التركيز الفكري في لحظة من لحظات الصلاة، وبمواصلة هذا العمل ومتابعته يحصل على قدرة ذاتية يمكنه بها إغلاق أبواب فكره في أثناء الصلاة إلاّ على خالقه (فتأمّلوا جيداً).
* * *
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَـنَ مِن سُلَـلَة مِّن طِين(12) ثُمَّ جَعَلْنَـهُ نُطْفَةً فِى قَرَار مَّكِين(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـماً فَكَسَوْنَا الْعِظَـمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَـلِقِينَ(14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ تُبْعَثُونَ (16)
إنّ ذكر الآيات السابقة أوصاف المؤمنين الحقيقيين، وما يمنحهم الله من جزاء عظيم يبعث في القلوب الشوق للإلتحاق بصفوفهم، لكن بأي طريق؟
تبيّن الآيات موضع البحث ـ وقسم من الآيات التالية لها ـ السبيل لكسب الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى «عالم النفس» وليكشف له أسرار باطنه وهو «السير الأنفسي»، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسبر عالم الآفاق، وهو «السير الآفاقي».
تقول الآيات أوّلا: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)(1).
أجل، إنّ هذه الخطوة الأُولى التي خلق الله فيها الإنسان بكلّ عظمته وإستعداده وجدارته والذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر ولا قيمة له، وهكذا تجلّت قدرته سبحانه وتعالى في هذا الخلق البديع.
وتضيف الآية التالية (ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين).
وفي الواقع فانّ الآية الأُولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب، إلاّ أنّ الآية التالية تشير إلى تداوم وإستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الاُنثى في الرحم. وهذا البحث يشبه ما جاء في الآيتين السابعة والثامنة من سورة السجدة (وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين).
والتعبير عن الرحم بـ«قرار مكين»، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهميّة الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة أُخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له. وكلّ ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.
ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتّخاذها شكلا معيّناً في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: (ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً).
1 ـ «السلالة» على وزن «عصارة» تعني الشيء الذي يستخلص من شيء آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه (مجمع البيان حول الآية موضع البحث).
هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافاً إلى مرحلة النطفة تشكّل خمس مراحل، كلّ منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقّة في علم الجنين، وأُلّفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلاّ أنّ القرآن تكلّم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبيّن عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر.
وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر ـ في الحقيقة ـ أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر) و (فتبارك الله أحسن الخالقين).
مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كلّ هذه الاُمور المدهشة.
طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كلّ هذه القابليات والجدارة. تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.
وجدير بالذكر أنّ كلمة «الخالق» مشتقّة من «الخلق» وتعني بالأصل التقدير(1)، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثمّ يقطعها، فيستخدم لفظ «الخلق» بمعنى التقدير، لأهميّة تقدير أبعاد الشيء، قبل قطعه.
أمّا عبارة (أحسن الخالقين) فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟!
وضع بعض المفسّرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأنّ كلمة «الخلق» بمعنى التقدير والصنع، ويصحّ ذلك بالنسبة لغير الله، إلاّ أنّ هناك إختلافاً جوهرياً بين الخلقين ...
يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه ممّا خلق الله، فهو يغيّر
1 ـ مختار الصحاح.
صورها. كمن يبني داراً حيث يستخدم مواداً أوّلية كالجصّ والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة.
ومن جهة أُخرى لا حدود لخلق الله (الله خالق كلّ شيء) سورة الرعد الآية (16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدوداً جدّاً، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصاً يجب سدّه فيما بعد، إلاّ أنّ الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب.
ثمّ إنّ قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كلّ شيء في العالم يتحرّك بإذن الله، حتّى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (عليه السلام) (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني).
وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ ـ بشكل دقيق وجميل ـ إلى مسألة المعاد حيث تقول: (ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون).
ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كلّ شيء، تقول الآية: (ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون) أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.
* * *
إستخدمت الآيات المذكورة أعلاه لإثبات وجود الله وقدرته وعظمته نفس الدليل الذي إستخدمته سورة الحجّ لإثبات المعاد، وهو مسألة المراحل المختلفة لخلق الإنسان في عالم الجنين.
كما إنتقلت آخر هذه الآيات إلى بحث مسألة المعاد(1).
أجل، يمكن أن تعرف عظمة الله في خلق الإنسان في ظلمات الرحم، وإتّخاذه في كلّ مرحلة صورة جديدة مدهشة، وكأنّ عشرات الأشخاص من رسّامين وصنّاع مبدعين التفّوا حول هذه القطرة من الماء، وعملوا ليل نهار ليخرجوها بهذه الصورة البديعة، ولتمرّ من صورة إلى أُخرى أبدع، حتّى تمرّ في مختلف مراحل الحياة.
وإذا تمكّنا من تصوير مراحل نمو الجنين بشكل كامل في فيلم سينمائي، وعرضناها لَفَهِمنا مدى العجائب التي تكمن في هذا العمل. وبتقدّم علم الجنين في عصرنا ودراسات العلماء وتجاربهم المختبرية على هذا الأمر، اتّضحت الكثير من الغوامض التي عندما يطّلع عليها المرء يصرخ دون إرادته (فتبارك الله أحسن الخالقين) هذا من جهة.
ومن جهة ثانية نلاحظ الخلق المتعاقب وإتّخاذه صورة جديدة في كلّ مرحلة، وبالتالي ظهور إنسان للوجود كامل الخلق من تلك القطرة الصغيرة من الماء .. كلّ ذلك يدلّ على قدرة الله على بعث الإنسان ثانية إلى الحياة. وبهذا يمكن البرهنة بدليل واحد على مسألتين(2).
ممّا يلفت النظر إستخدام الآيات السابقة لمراحل الجنين الخمسة تعبير «الخلق»، في حين إستخدمت كلمة «الإنشاء» لآخر مرحلة، وكما ذكر اللغويون فإنّ كلمة «الإنشاء» تعني (خلق الشيء مع تربيته) وهذا التعبير يدلّ على إختلاف
1 ـ تناولنا في بداية سورة الحجّ خلال البحث الآيتين الخامسة والسابعة أدلّة المعاد ومنها إستعراض مراحل الجنين في الرحم.
2 ـ شرحنا مراحل الجنين وعظمة الخلق فيها في تفسير الآية السادسة من سورة آل عمران (وهو الذي يصوّركم كيف يشاء).
هذه المرحلة عن المراحل السابقة (مرحلة النطفة والعلقة والمضغة واللحم والعظم) إختلافاً بيّناً. مرحلة ذكرها القرآن في عبارة موجزة (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر)ويعقّب ذلك مباشرةً بالقول: (فتبارك الله أحسن الخالقين).
ما هذه المرحلة التي تمتاز بهذه الأهميّة؟
إنّها مرحلة يدخل فيها الجنين مرحلة الحياة الإنسانيّة، يكون له إحساس وحركة، وبتعبير الأحاديث الإسلامية «نفخ الروح».
هنا يترك الإنسان حياته النباتية بقفزة واحدة ليدخل عالم الحيوان، ومنه إلى عالم الإنسانية، وتتباعد الشقّة مع المرحلة السابقة بدرجة إستخدمت الآية لها عبارة (ثمّ أنشأنا) لأنّ عبارة (ثمّ خلقنا) لم تعدّ كافية. حيث يتّخذ الإنسان في هذه المرحلة شكلا خاصاً يرفعه عن المخلوقات الاُخرى، ليكون جديراً بخلافة الله في الأرض، وليحمل الأمانة التي تخلّت عنها الجبال والسموات، لعدم إستطاعتها حملها.
وهنا انطوى «العالم الكبير» في «الجرم الصغير» بكلّ عجائبه، فيكون جديراً حقّاً بعبارة (تبارك الله أحسن الخالقين).
ذكر مفسّر (في ظلال القرآن) عند تفسير هذه الآية جملة مدهشة هي أنّ الجنين بعد قطعه مرحلة «العلقة» و «المضغة» تتبدّل خلاياه إلى خلايا عظميّة، ثمّ تكتسي بالتدريج بالعضلات واللحم. لهذا فإنّ عبارة (كسونا العظام لحماً) معجزة علمية تكشف سرّاً لم يكن يعلم به أي شخص حتّى ذلك الزمن. لأنّ القرآن لم يقل: أبدلنا المضغة عظماً ولحماً، بل قال: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً)أي تبدّلت المضغة إلى عظام أوّلا، ثمّ اكتست باللحم.
إنّ إستخدام اللباس للتعبير عن العضلات واللحم يكشف لنا حقيقة قباحة شكل الإنسان إن فقد هذا اللباس الذي يكسو العظام (فيصبح هيكلا عظميّاً مرعباً كما شاهدناه جميعاً أو شاهدنا صورته) إضافة إلى ذلك فإنّ اللباس يحمي الجسم، وهكذا اللحم والعضلات تحمي العظام، وبفقدانها تتلقّى العظام ضربات تؤدّي إلى كسرها، ويؤدّي اللحم وظيفة اللباس بالنسبة للعظام في المحافظة عليها من الحرّ والبرد. وهذا كلّه يبيّن لنا قوّة التعبير القرآني ودقّته.
* * *
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـفِلِينَ(17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَر فَأَسْكَنَّـهُ فِى الاَْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَـدِرُونَ(18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّـت مِّن نَّخِيل وَأَعْنَـب لَّكُمْ فِيهَا فَوَكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغ لِّلآكِلِينَ(20) وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاَْنْعَـمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(22)
قلنا: إنّ القرآن تناول سبل كسب الإيمان بعد ذكر صفات المؤمنين، كما تحدّثت الآيات السابقة عن آيات الله العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسموات، حيث قالت
الآية الأُولى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق).
و «الطرائق» جمع «طريقة» بمعنى سبيل أو طبقة، ولو أجزنا المعنى الأوّل للطرائق، يصبح معنى الآية، أنّنا خلقنا فوقكم سبلا سبعة، ويمكن أن تفسّر بأنّها سبل مرور الملائكة، كما يمكن أن تكون مدارات لنجوم السّماء، وبحسب المعنى الثّاني للطرائق، فإنّ الآية تعني طبقات السّماء السبع.
وقد تحدّثنا عن السماوات السبع قبل هذا كثيراً، وإذا كان القصد من العدد «سبعة» الكثرة، فيكون معنى الآية أنّنا خلقنا فوقكم عوالم كثيرة من النجوم والكواكب والسيارات، وعبارة الطبقة لا تعني نظرية «بطلميوس» الذي صوّرها وكأنّها قشرة بصل الواحدة فوق الاُخرى. فإنّ القرآن لم يقصد هذا المعنى أبداً، بل يقصد بالطرائق والطبقات العوالم التي تحيط بالأرض بفواصل محدّدة، وهي بالنسبة لنا الواحدة فوق الاُخرى، بعضها قريب والبعض الآخر بعيد عنّا. وإذا كان العدد «سبعة» قد إستخدم في الآية للتعداد، فتعني الآية أنّنا خلقنا ستّة عوالم فوقكم إضافة إلى عالمكم الذي ترونه (مجموعة الثوابت والسيارات والمجرّات). وهذه العوالم لم يبلغها الإنسان حتّى الآن.
ولو دقّقنا بخارطة المنظومة الشمسية. وتفحّصنا مواقع السيارات المختلفة حول الشمس، لعثرنا على تفسير آخر لهذه الآية، هو أنّ من هذه السيارات التسع التي تدور حول الشمس، إثنان هما عطارد والزهرة لهما مداران تحت مدار الأرض، في الوقت الذي تتّخذ فيه السيارات الستّ الاُخرى مداراتها خارج مدار الأرض، وهي تشبه طبقات ستّ إحداها فوق الاُخرى. وإضافةً إلى مدار القمر الذي يدور حول الأرض تصبح المدارات سبعة، وكأنّها طبقات سبع(1).
وربّما يتوهّم أنّ العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل الله تعالى عن
1 ـ للإطلاع على السموات السبع راجع تفسير الآية (29) من سورة البقرة.
إدارته؟
فتجيب الآية مباشرةً (وما كنّا عن الخلق غافلين). إنّ الإستناد هنا إلى مسألة الخلق، إشارة إلى أنّ قضيّة خلق الكون بنفسها دليل على علم الله تعالى بمخلوقاته وتوجّهه إليها: فهل يمكن أن يغفل الخالق عن مخلوقاته؟!
ويمكن أن تقصد الآية أنّنا نملك سبلا كثيرة لتردّد الملائكة من فوقكم، ولسنا غافلين عنكم، كما أنّ ملائكتنا مشرفة عليكم وتشهد أعمالكم.
وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهيّة، الذي يعتبر من بركات السموات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول: (وأنزلنا من السّماء ماءً بقدر).
أنزلنا المطر بقدر لا يغرق الأرض من كثرته، وليس قليلا بحيث لا يكفي لري النباتات والحيوانات. أجل لو إنتقلنا من البحث حول السّماء إلى الأرض لوجدنا الماء من أهمّ الهبات الإلهيّة، وأصل حياة جميع المخلوقات، وبهذا الصدد أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة، هي قضيّة إحتياطي المياه الجوفية فتقول: (فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون).
نحن نعلم أنّ القشرة السطحيّة من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين: إحداهما نفوذية وأُخرى غير نفوذية. ولو كانت القشرة الأرضية جميعاً نفوذية لنفد المطر إلى جوف الأرض فوراً، ثمّ يظهر الجفاف بعد هطول المطر وإن إستغرق مدّة طويلة .. حيث لا نعثر على ذرّة من الماء!
ولو كان سطح الأرض من طين أحمر لبقي المطر فوق سطح الأرض وتلوّث وتعفّن وشدّد الخناق على الإنسان، وأصبح سبباً لموت الإنسان في الوقت الذي هو أصل الحياة.
إلاّ أنّ الله الرحيم جعل القشرة الأُولى من سطح الأرض نافذةً، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو
توجّه للإنسان أقلّ أذى(1).
ويحتمل أن يكون هذا الماء الذي نرتوي به بعد إخراجه من أعماق الأرض من قطرات مطر نزل قبل آلاف السنين وخزن في أعماق الأرض حتّى اليوم، دون أن يتعرّض لتلوّث أو فساد.
وعلى كلّ حال فإنّ الذي خلق الإنسان ليحيا، وجعل الماء أساساً لحياته، بل أكثرها أهميّة، خلق له مصادر كثيرة من هذه المادّة الحيوية وخزنها له قبل أن يخلقه! وبالطبع هناك إحتياطي من هذه المادّة الحيوية فوق قمم الجبال (على شكل ثلوج). تراه يذوب خلال السنة وينحدر إلى السهور، وقسم آخر لا زال فوق قمم الجبال منذ مئات بل آلاف السنين، ينتظر الأمر بالذوبان على أثر تغيير حرارة الجو لينحدر إلى السهول والوديان ليروي الأرض ويزيل العطش عنها.
وبملاحظة حرف الجر «في» في عبارة «في الأرض» يبدو لنا أنّ الآية تشير إلى مصادر المياه الجوفية وليس السطحية.
وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول: (فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع أُخرى من الفواكه كثيرة.
ولعلّ عبارة (ومنها تأكلون) إشارة إلى أنّ محاصيل هذه الجنّات ذات الخيرات الواسعة لا تنحصر بالفواكه المأكولة فقط، وأنّ المأكولات تشكّل قسماً من خيراتها، فهذه البساتين (ومنها بساتين النخيل) لها فوائد كثيرة أُخرى لحياة الإنسان، حيث يصنع الإنسان أوراقها حُصُراً يجلس عليها، وأحياناً يصنع منها لباساً لنفسه، ويعمل من أخشابها منازل لسكناه. ويستخرج دواءه من بعض
1 ـ ويجب ملاحظة أنّ الماء الملوّث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات!
جذورها وأوراقها وفاكهتها. كما يستخدم الكثير منها كعلف لحيواناته، ومن أخشابها مادّة للوقود.
ويعطي الفخر الرازي في تفسيره إحتمال قصد الآية (منها تأكلون) أنّ حياتكم ومعيشتكم تعتمد على هذه البساتين، مثلما أنّ فلاناً يعتاش على العمل الفلاني، أي إنّ حياته تعتمد على ذلك العمل(1).
![]() |
![]() |
![]() |