وقال آخرون: المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئاً فشيئاً بالتدريج.

طبيعي، أنّه لو لم تكن الجمل الآتية، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنىً واسعاً يشمل جميع الظلال الشاسعة، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسباً، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: (ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا).

[272]

إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس، لأنّ «الظل» يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسماً مانعاً لنفوذ النور، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناءً على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقاً لقاعدة «تعرف الأشياء بأضدادها» فقط، بل إنّ وجوده أيضاً من بركة النور.

بعد ذلك يبيّن تعالى: ثمّ إنّنا نجمعه جمعاً وئيداً (ثمّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً).

من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماماً فوق رأس كل موجود، وفي مناطق أُخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات. لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الإنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات، دون أن يكون له أي ضرر.

التعبير بـ «يسيراً» إشارة إلى انقباض الظل التدريجي، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق. وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضاً.

على أية حال، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة «النور» في حياته، فهو كذلك يحتاج إلى «الظل» لتعديل ومنع «النور» أوقات اشتداده، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضاً.

في الحالة الأُولى تحترق جميع الموجودات، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعاً، ولكن هذا النظام المتناوب من «النور» و«الظل» هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإِنسان.

[273]

لذا فإنّ آيات قرآنية أُخرى تعدُّ وجود الليل والنهار، الواحد تلو الآخر، من النعم الإلهية العظيمة، ففي موضع يقول تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون). ويضيف مباشرة (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون).(1)

و يستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله، ولعلكم تشكرون (و من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).(2)

ولهذا يعد القرآن «الظل الممدود» إحدى نعم الجنّة، حيث لا نورَ مُعش مرهق، ولا ظلمة موحشة.

بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله، يقول تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً).

كم هو تعبير جميل ورائع (جعل لكم الليل لباساً)... هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.

ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم (و النوم سباتاً).

«السبات» في اللغة من «سبت» (على وزن وقت) بمعنى القطع، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب «يوم السبت» وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود، لأنّه يوم تعطيلهم.



1 ـ القصص، 71 و72.

2 ـ القصص، 73.

[274]

هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوّة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة ـ فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.

وفي ختام الآية، أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى: (وجعل النهار نشوراً).

كلمة «النشور» في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يقول كل صباح: «الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور».(1)

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.

في عالم الطبيعة أيضاً، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أمّا عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون، الطيور تؤوب إلى



1 ـ تفسير القرطبي.

[275]

أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم، حتى النبانات تغطُّ في نوع من النوم.

بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول: (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً).

لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً.

صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض، سبب رواء الجفاف على الأرض، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار، ونمو أنواع النباتات.

إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير بـ «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(1)

المهم هنا هو أن «الماء» قد وصف بـ «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من



1 ـ يجب الإنتباه إلى أنّ «بُشْراً»
ـ بسكون الشين مخفف ـ «بُشُراً» ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع «بشور» (على وزن قبول) بمعنى مبشر وبشير.

[276]

الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر الأشياء الملوثة... ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!

وعلى أية حال، فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.

مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثّانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: (لنحي به بلدة ميتاً)(1).

وأيضاً (ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).

* * *

 

ملاحظات

و هنا ملاحظات مهمّة:

1 ـ في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!

هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقاً



1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن «بلدة»
هنا بمعنى الصحراء، ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث، فصفته التي هي «ميتاً»
وردت بصيغة المذكر، ذلك لأن المراد بالمعنى «المكان» وهو مذكر.

[277]

سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السُحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدبُّ في وجودهم ووجود أنعامهم.

2 ـ جملة «نسقيه» من مادة «إسقاء» وفرقها عن «سقى»كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه الإنسان متى أراد، في حين أن مادة «سقى» بمعنى أن يُعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنىً أوسع وأعم.

3 ـ في هذه الآية، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون للأنعام طعام، وإذا لم تعش الأنعام، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.

4 ـ طرح مسألة الإِحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد يكون إشارة إلى الإِرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإِحياء بالماء، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الانبياء).

في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلاّ الإنكار والكفران: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).

وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين، الضمير في جملة «صرفناه» إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.

[278]

لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أُرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة، وأُتبع بجملة «ليذكروا» أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جداً أن يأخذ هذا التعبير مفهوماً آخر في هذا المورد الواحد.

و من حيث الأصل فإنّ «تصريف» التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسباً مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحياناً بصورة وعد، وأحياناً بصورة أمر، وأُخرى بصورة نهي، وأحياناً بصورة قصص الماضين.

* * *

[279]

 

 

الآيات

 

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة نَّذِيزاً(51) فَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَجَـهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبيراً(52) وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً(53) وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً(54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا  لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً(55)

 

التّفسير

بحران متجاوران: عذب فرات وملح أُجاج:

الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً).

كما أنّ الله عزَّوجلّ ـ طبقاً للآيات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل الأراضي الميتة، فله القدرة أيضاً على إنزال الوحي

[280]

والنبوّة على قلب نبيّ في كل قرية، وأن يبعث لكل أُمة نذيراً، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح، لأنّ تمركز النبوّة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.

و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الاشكال وهو: ألم يكن من الأفضل أن يبعث الله نبيّاً في كل مدينة وقرية؟!

لكن القرآن يقول في ردّهم: لو أراد الله ذلك لفعل، لكن هذا التشتت ليس في صالح الأمم والشعوب قطعاً.

وعلى أية حال، فكما أن هذه الآية دليل على عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عبء مسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية، أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء، فيوجه الخطاب أوّلا إلى الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: (فلا تطع الكافرين).

لا تخطُ أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله، قف أمامهم بقوّة، واسعَ إلى إصلاحهم، لكن كن حذراً ولا تتسلم لأهواءهم وخرافاتهم.

أمّا القانون الثّاني فهو: جاهد أُولئك بالقرآن: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً).

جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

لا شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح، ذلك لأنّ هذه السورة مكية، والأمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان، أن هذه الآية دليل واضح على أنّ الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهة وساوس

[281]

المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد.

وروي عن النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم): «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وربّما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين، هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار، والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل، والمحركة كحركة الرياح الخلاقة، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة، حيث أشارت إلى ذلك الآيات السابقة.

و بعد فاصلة وجيزة، يتناول القرآن الكريم مجدداً الإستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).

«مرج» من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب» بمعنى سائغ وطيب وبارد، و«فرات» بمعنى لذيذ وهنيء.

«ملح» بمعى مالح، و«أجاج» بمعنى مُرّ وحار. (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات).

«برزخ» بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

و جملة (حجراً محجوراً) كما أشرنا سابقاً (ذيل الآية 22 من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه، يعني (أعفُ عنا، وآمنا، وابتعد عنا).

على أية حال، فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق

[282]

في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

و قد اتّضح اليوم أن هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

و رغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل، تشكل بحراً من الماء العذب، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الإمتزاج مع بعضهما، فكل واحد منهما يقول للآخر: (حجراً محجوراً).

الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحراً اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر، وزرعوا اراض شاسعة بالاشجار، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر.

توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسماً منها يسقى فقط بهذه الوسيلة، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر، وأحياناً يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة، لأنّ ذلك يضرُّ بزراعتهم ضرراً بالغاً.

[283]

لكن العادة ليست كذلك، فهذا الماء «العذب الفرات» المستقر إلى جوار الماء «المالح والأجاج» يُعدُّ ذخيرة عظيمة لهم.

معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبداً، وإلاّ فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلاّ فعل الله وإرادته ومشيئته، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات.

و الملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة، يرى جيداً هذان الماءان المختلفان في اللون، غير الممتزجين، فيذكّر هذا المشهد الإِنسان بهذه النكتة القرآنية.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ «الكفر» و«الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، و نمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء، فيقول تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً).

حقاً إن النحت في الماء، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء، دليل على عظمة قدرة الخالق، وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر، و الكلام ـ هنا عن مرحلة أعلى، يعني خلق الإنسان من الماء.

و بين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا:

ذهب جماعة أنّ المقصود من «بشر» هو الإنسان الأول، يعني آدم(عليه السلام)، ذلك لأنّ خلقه كان من «طين» يعني عجيناً من ماء وتراب، إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقاً للرّوايات الإسلامية، وخلق الإنسان من ذلك الماء،

[284]

وتنكير «بشر» شاهد على هذا المعنى.

و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من «الماء» هو ماء النطفة، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق، ومع امتزاج نطفة الرجل «الحيمن» الذي يسبح في الماء مع «البويضة» نطفة المرأة، تتكون أول نواة لحياة الإنسان، يعني الخلية الإنسانية الحية الأُولى.

لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها، حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى.

الشاهد على هذا التّفسير، جملة وردت في آخر الآية، وسنشرحها (فجعله نسباً وصهراً).

فضلا عن هذا، فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان، بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء، لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّاً، في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاماً وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية.

و يحتمل قوياً أيضاً، أنَّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية، أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان، فيقول: (فجعله نسباً وصهراً).

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل ارتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع بعض، أمّا المقصود من

[285]

«صهر» التي هي في الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته، وهذان الإثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ «النسب» و «السبب».

في القرآن المجيد في سورة النساء، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد (الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد (بنت الزوجة، أم الزوجة، زوجة الابن، زوجة الأب).

من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أُخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة، لكن ماقلناه أوضح وأقوى من جميعها.

فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا «النسب» بمعنى أولاد الابن، و «الصهر» بمعنى أولاد البنت، ذلك لأن الإرتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الاُمهات.

و كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الاية (61) من سورة آل عمران ـ فإنّ هذا اشتباه كبير، استمدَّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام، حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط، وليس للأم أي أثر، في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الاُم أيضاً (ولزيادة الاطلاع، راجع التّفسير ذيل الآية (61) من سورة آل عمران).

و الجدير بالذكر، أن لدينا حديثاً معروفاً، نقل في كتب الشيعة والسنة، وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي(عليهما السلام)، ولهذا فقد كان علي(عليه السلام) ابن عمّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته أيضاً، وهذا معنى «نسباً وصهراً».(1)



1 ـ مجمع البيان، وتفسير روح المعاني، ذيل هذه الآية.

[286]

ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي(عليه السلام) من جهتين مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: (وكان ربّك قديراً).

و يبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة، يقول: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم).

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً، وفاقدة لأية قيمة، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

و يضيف القرآن الكريم في ختام الآية أن الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» (وكان الكافر على ربّه ظهيراً).

إن هؤلاء ليسوا وحدهم في طريق الضلال، إنهم يقوي بعضهم بعضاً بشكل قاطع، ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين. وإذا رأينا أن بعض المفسّرين يحصر «الكافر» الوارد في هذه الآية في «أبي جهل» فمن باب ذكر المصداق البارز، وإلاّ فإنّ الكافر في كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار.

 

* * *

 

[287]

مسألتان

1 ـ وحدة القيادة

في الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً) ولكننا لم نفعل مثل هذا... ومن المسلّم أن علة ذلك لأن الأنبياء قادة الأُمم، ونعلم أن التعدد في مسألة القيادة يؤدي إلى إضعاف كل أُمّة وشعب، خاصّة و أنّ الكلام هنا عن خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم. لذا تتّضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز والوحدة في القيادة.

القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى، ويمنحها الإنسجام والوحدة. وفي الحقيقة فإن مسألة وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع الإنساني، ويكون في النقطة المقابلة ظواهر الشرك والتفرقة والنفاق.

و ما ورد في الآية (24) من سورة فاطر: (وإن من أُمة إلاّ خلا فيها نذير)فليس ثمّة منافاة مع البحث أعلاه، لأن الكلام فيها عن الأُمة، لا أهل كل مدينة وكل بلد.

فلو أغمضنا النظر عن مقام الأنبياء، فإنّ هذا الأصل صحيح أيضاً حتى في أدنى مستويات القيادة، والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة، إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها، فضلا عن الضعف والعجز.

 

2 ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير

«الجهاد الكبير» تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاح الرّباني البنّاء.

الملفت للإنتباه في الآيات أعلاه، هو أنّ هذا العنوان قد أُعطي للقرآن، أو بعبارة أخرى: للأشخاص الذين يجاهدون بالقرآن مظاهر الظلال والإنحرافات والتلوثات.

هذا التعبير يبيّن المواجهات المنطقية والعقائدية من جهة، ويكشف عن

[288]

عظمة مقام القرآن من جهة أُخرى.

ورد في بعض الرّوايات: أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة... خرجوا ليلة ليستمعوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثمّ تفرقوا.

فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها.

قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

قال: ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

فقال: ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!!.

[289]

قال: فقام عنه الأخنس وتركه.(1)

نعم، جاذبية القرآن ردت هؤلاء إلى أنفسهم ليالي متوالية، وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه الجاذبية الإلهية، لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح المادية كان مسلطاً عليهم بحيث منعهم من قبول الحق.

ولا شك أنّ هذا النّور الإلهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان، ولهذا كان القرآن وسيلة «الجهاد الكبير» في الآيات مورد البحث.

* * *



1 ـ سيرة ابن هشام، ج 1، ص 337; وفي ظلال القرآن، ج 6، ص 172 .

[290]

 

 

الآيات

 

وَ مَآ أَرْسَلنَـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً(56) قُلْ مَآ أَسْئَلُكُم عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا(57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الَّرحْمَـنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً(59)