![]() |
![]() |
![]() |
وحتى هذه اللحظة كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي، وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة، أو أن يكونوا وسيلة بيد مُروِّجي الشائعات.
ثمّ تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) أي لماذا لم تطلبوا منهم الإيتان بأربعة شهود. (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).
إنّ هذه الملامة تبيّن أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم، وكذلك حد القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.
وأمّا الجواب عن سؤال: كيف لم يقدم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على تنفيذ هذا الحدّ؟ فإنّه واضح، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس، فالتعصب القبلي قد يؤدي إلى مقاوة سلبية لبعض أحكام الله ولو بصورة مؤقتة، وقد ذكر المؤرخون أنّ الأمر كان هكذا في هذه القضية.
وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات، فقالت (ولولا فضل الله عليكم
ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم).
ونظراً لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة، بمعنى خروج الماء بكثرة، واستُعْمِلت في حالات أُخرى للتوغل في الماء، نَتَج مِن هذِهِ العبارة أنَّ شائعة الإتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).
وتبيّن الآية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق. وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم؟ فتقول (إذ تلقونه بألسنتكم) أي تذكّروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ولا تحسبونه هيناً هو عندالله عظيم).
وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال:
الأوّل: تَقَبُّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.
الثّاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.
الثّالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للّهو وقضاء الوقت، في وقت تمس فيه كيان المجتمع الإِسلامي وشرفه، إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين.
وممّا يلفت النظر أنَّ الآية استعملت تعبير «بألسنتكم» تارةً أخرى تعبير «بأفواهكم» على الرغمِ من أنَّ جميعَ الكلام يصدر عن طريق الفم واللسان، إشارة إلى أنّكم لم تطلبوا الدليل على الكلام الذي تقبلتموه، ولا تملكون دليلا يُسوِّغُ لكم نَشْرَهُ، والأمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة لسانكم وحركات أفواهكم.
ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين، أكدتها الآية ثانية، فانَّبتهم مرّة أُخرى ولذعتهم بعباراتها إذْ قالت (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).
وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلا، وهنا تقول الآية: إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها!
عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة، وأن تذكروا الله سبحانه وتعالى، وأن تلجأوا إلى الله يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها. ومع كل الأسف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر، فأصبحتم بذلك آلةً بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات.
هذا وسنتناول بالبحث ـ خلال تفسير الآيات القادمة ـ ذنب اختلاق الشائعة ودوافعها، والسبيل إلى مكافحتها، بعون الله وتوفيقه.
* * *
يَعُظِكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لْمِثْلِهِ أبَدَاً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الاَْيَـتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَتَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(20)
تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها، واتهام الأشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم. وهذه القضية مهمه بدرجة أن القرآن المجيد تناولها عدّة مرات، وعَرَضَ لها من طرق مختلفة مؤثرة، باحثاً محللا لها من أجل ألاّ تتكرر مثل هذه الواقعة الأليمة في المجتمع الإسلامي، فذكر أولا (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)(1).
أي أن من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام، وإذا ارتكبها فذلك يدلّ على عدم إيمانه أو ضعفه، والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة، إذ أنَّ الندم على الماضي لا يكفي، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل، لتكون توبة كاملة.
ولتأكيد أكثر على أنَّ هذا الكلام ليس اعتيادياً، بل صادر عن الله العليم الحكيم، ولبيان الحقائق ذات الأثَر الفَعَّال في مصير الإنسان، يقول سبحانه وتعالى (ويبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم، ويصدر أحكامَهُ بمقتضى حكمته الهادِيةِ لكم. وبتعبير آخر: إنه يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.
ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم، فقال: (إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والآخرة).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل «الذين يشيعون الفاحشة، بل قال: (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك. وبعبارة أخرى: أنّه لا ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو شخص آخر بمنزلتها، بل من أجل كلّ مؤمن ومؤمنة، فلا خصوصية في ذلك، إنّما هي عامّة للجميع على الرغم من أن كل حالة لها خصائصها، وقد تزيد الواحدة على الأُخرى في الخصائص أو تنقص.
كما يجب الإنتباه إلى أن إشاعة الفحشاء لا تنحصر في ترويج تُهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن، يتهم بعمل مخل بالشرف، بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.
وقد وردت في القرآن المجيدِ كلمةُ «الفحشاء» غالباً للدلالة على العمل
المخل بالعفّة والشرف. ولكن من الناحية اللغوية، فقد ذكر الراغب الإصفهاني مفهوماً واسعاً لها فقال: الفحش والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.
ويستعمل القرآن أحياناً هذا المفهوم الواسع، حيث يقول (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش).(1)
وبهذا يتّضح المفهوم الواسع للآية:
أمّا قول القرآن الكريم: (لهم عذاب عظيم في الدنيا) فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات الشرعية. وردود الفعل الإجتماعية، وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب أعمالهم القبيحة، إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم، وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح أمرهم. كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة.
وأمّا عذابهم الأليم في الآخرة، فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ الله، واستحقاقهم غضب الله وعذاب النار.
وتختم الآية بالقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أجل، وإن الله يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والآخرة، ولكنّكم لا تعلمون أبعاد هذه القضية.
إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونَهُ.
أجل، يعلم الله كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه الأعمال القبيحة.
وكررت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نَحنُ بصددِه مِن الآيات التي تناولت حديث الافك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقَذْف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة
لتؤكّد القول (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم).(1)
* * *
بما أن الإنسان مخلوق إجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلَّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والإِنحطاط.
ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع.
أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.
وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له»(2). فالسبب هو ماذكرنا.
وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً،
ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها.
وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها.
وقد جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها»(1).
وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام(عليه السلام) لي: «يا محمّد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة. وقال لك قول فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عزَّوجلّ:(إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)(2)(3).
وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس.
واخرى يكون بانشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء.
وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب.
ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً (فتأملوا جيداً).
إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الإضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ.
فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وَلِيَحْرِفَهُمْ عَنْ أهم قضاياهم حساسيةٌ، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم.
وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين .
ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية… إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الإنتقام،
وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة. وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.
ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها،وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة.
يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرتْ استصغار نشر البهتان والتهمة، وهو خطأ فادِحٌ وَجُرْمٌ عظيمٌ وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران.
أمّا الذي يستصغر الذنب ويقول: ماأسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه، لهذا نقرأ في حديث للإمام علي(عليه السلام) قوله: «أشد الذنوب ما استهان به صاحبهُ»(1).
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً وَلَـكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوآ أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـكِينَ وَالْمُهَـجِرينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الُْمحْصَنَـتِ الْغَـفِلَـتِ الْمُؤْمَنَـتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ(25) الْخَبِيثَـتُ لِلْخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـتِ وَالطَّيِّبَـتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـتِ أُوْلَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ(26)
على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلاّ إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة، فلابدّ من الإنتباه إليها، وإلاّ فالنتيجة سيئة للغاية، ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعةِ الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.
وتخاطب الآية الأُولى المؤمنين، فتقول (يا أيّها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر)(1).
وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب، يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعادِ حياتنا كلها، وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أُخرى في طريق الفساد:
الخطوة الأُولى: مرافقة الملوثين والمنحرفين.
الخطوة الثّانية: المشاركة في مجالسهم.
الخطوة الثّالثة: التفكير بارتكاب الذنوب.
الخطوة الرّابعة: ارتكاب الأعمال المشتبه بها.
الخطوة الخامسة: إرتكاب الذنوب الصغيرة.
وأخيراً الإبتلاء بالكبائر. وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم
ليقوده نحو الهاوية، أجل هذه (خطوات الشيطان)(1).
ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منَّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم).
ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والإنحراف من الذنوب جميعاً، فالله منحه العَقْلَ، ولطف به فأرسل إليهِ الرُّسُلَ، وَيسَّرَ له سُبُلَ الإِرتقاء والإهتداء، وأعانَهُ على استكمالِ الخَيْرِ. وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.
وكما أسلفنا. مراراً، فإنّ عبارة «من يشاء» لا تعني المشيئة دون مبرّر، بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها، الذين يسيرون في الطريق إلى الله، ويجاهدون في سبيله، فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى.
وبعبارة أُخرى: إنَّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل عليهم السلام والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية. وأُخرى يتخذ الفضل والرحمة الإِلهية جانباً تكوينياً عن طريق الإِمدادات المعنوية الإِلهية.
والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني، بدليل عبارة «من يشاء»، ويجب الإنتباه إلى أن «الزكاة» و «التزكية» تعني في الأصل النمو، والعمل من أجل النمو، إلاّ أنها وردتْ غالباً بمعنى التطهُّر والتطهير.
ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد، إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلاّ
بزوالِ الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل.
وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانية ـ من الآيات موضع البحث ـ يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومَهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.
وقد روى سبب النّزول هذا «القرطبي» في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم «الطبرسي» عن ابن عبّاس، ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.
إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص «أبي بكر» حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ «مسطح بن أثاثة» الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.
ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم، وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين.
نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا:
يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع
الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.
كلمة «يأتل» مشتقّة من «أليّة» (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من «ألُو» (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات(1)، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله «الغفور» و«الرحيم».
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين
فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدُّ المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن «قوة الجذب»!
ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: «المحصنات» أي العفيفات الطاهرات الذيل و«الغافلات» البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و«المؤمنات»، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل(1).
كما أنّ عبارة ـ «غافلات» تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.
ويحتمل أن يكون المراد من «الغافلات» أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلاّ أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي: فتقول الآية: أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائماً، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الإرتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عامّ، لا تختص بحالة معينة.
والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في «التّفسير الكبير»، وآخرين، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة «اللعن» التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيماً كإتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لوحده سبباً للكفر. لهذا لم يعامل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يُوازي الكفر بالله.
وأمّا «لعنة الله» فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضاً، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدِّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة «لعن» ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كراراً كلمة «اللعن» ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث «لعن الله في الخمر عشر طوائف...» معروف.
وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة (ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون).
تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعندما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية، تراهم يُعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافاً لرغبتهم الباطنية، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.
وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم وكأنّها شريط مسجّل، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.
وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)(1) فإنّه لاخلاف فيها مع هذا البحث، إذ يمكن أن تتعطل الأفواه عن الكلام أولا، فتشهد سائر أعضاء الجسم. وعندها تكشف الأيدي والأرجل الحقائق، ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كلّها.
* * *
ذكر المفسّرون تعاريف مختلفة لـ «الخبيثات» و«الخبيثون» و«الطيبات» و«الطيبون».
1 ـ قيل أنّ المراد هو الكلام السيء والتهمة والإفتراء والكذب الصادر عن
المخطئين والمذنبين من الناس، وعلى العكس من ذلك الكلام الطيّب ما يصدر عن الطيّبين المتطهرين، وحسبما يقول المثل المأثور «ينضح الإناء بما فيه».
2 ـ وقيل إن كلمة «الخبيثات» تعني «السيئات» وكل الأعمال السيئة وغير المرغوب فيها التي تصدر عن الخبثاء من الناس، وعلى العكس من ذلك «الحسنات» الخاصّة بالطيبين من الناس.
2 ـ «الخبيثات» و«الخبيثون» تعنيان النساء والرجال الساقطين، وهم عكس (الطيبات) و(الطيبون) الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين.
وظاهر الآية قصد هذا المعنى بذاته، حيث هناك قرائن تؤكّد هذا المعنى:
أ ـ جاءت هذه الآيات إثر آيات الإفك ـ وبعد آية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)وهذا التّفسير ينسجم مع مفهوم تلك الآيات.
![]() |
![]() |
![]() |