![]() |
![]() |
![]() |
فبناءً على هذا قد يكون التعبير بـ «يوم عظيم» في الآية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم وهو الاعصار المدمر، وسيتجلى الشاهد على هذا المعنى في الآيات المقبلة...
كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه... أو إلى العذابين معاً، فيوم الاعصار يوم عظيم،ويوم القيامة يوم عظيم أيضاً...
* * *
قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعَظِينَ(136) إِنْ هَذَآ إِلاَّ خُلُقُ ا لاَْوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَـهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)
رأينا في الآيات المتقدمة أحاديث النّبي هود المحترق القلب شفقةً لقومه المعاندين «عاد» وما حملته هذه الأحاديث من معان غريزة سامية... والآن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي ولا المعقول، يقول القرآن في هذا الصدد (قالوا سواء علينا أوَعظت أمْ لم تكن من الواعظين) فلن يؤثر ذلك فينا، فلا تتعب نفسك.
أمّا اعتراضك علينا بهذه الاُمور فلا محل له من الاعراب (إن هذا إلاّ خُلق الأوّلين).
وليس الأمر كما تقول، فإنّه لا شيء بعد الموت (وما نحن بمعذّبين) لا في هذا
العالم، ولا في العالم الآخر.
و «الخُلقُ» ـ بضم الخاء واللام ـ معناه العادة والسلوك والأخلاق لأن هذه الكلمة جاءت بصيغة الإفراد بمعنى الطبع والسجّية والعادة الأخلاقية... وهى هنا إشارة إلى الأعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة الأصنام، وبناء القصور العالية الجميلة، وحب الذات، والتفاخر عن طريق تشييد الأبراج على النقاط المرتفعة، وكذلك البطش عند الإِنتقام أو الجزاء... أي إن ما نقوم به من أعمال هو ما كان يقوم به السلف فلا مجال للاعتراض والانتقاد!...
وفسّر «الخلقُ» بعضهم بالكذب، أي إنّ ما تقوله في شأن الله والقيامة كلام باطل قيل من قبل (إلاّ أن هذا التّفسير إنّما يُقبل إذا قرىء النص: إن هذا إلاّ خَلْقُ الأولين. فيكون الخلق فيه على وزن (الحلق) إلاّ أن القراءة المشهورة ليست كذلك!).
ويبيّن القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول: (فكذبوه فأهلكناهم).
وفي ختام هذه الاحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبرّتين، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى عليهما السلام... فيقول: (إن في ذلك لآية) على قدرة الله، واستقامة الأنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة، ولكن مع ذلك (وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
فيمهلُ إمهالا كافياً، ويمنح الفرصة، ويبيّن الدلائل الواضحة للمضلينَ ليهتدوا... إلاّ أنه عند المجازاة والعقاب، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذاً عسيراً لا مفرّ لأحد منه أبداً...
* * *
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلينَ(141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُم صَـلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143) فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ (144)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (145)أتُتْرَكُونَ فِى مَا هَـهُنآءَ امِنِينَ(146) فِى جَنَّـت وَعُيون (147)وَزُرُوع وَنَخْل طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَـرِهِينَ(149) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150) وَلا تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ وَلا يُصْلِحُون (152)
القسم الخامس من قصص الأنبياء في هذه السورة، هو قصّة «ثمود» الموجزة القصيرة، ونبيّهم «صالح» الذين كانوا يقطنون في «وادي القُرى» بين المدينة والشام، وكانت حياتهم مترفة مرفهة... إلاّ أنّهم لطغيانهم وعنادهم أُبيدوا وأبيروا حتى لم يبق منهم ديّار ولم تترك لهم آثار...
وبداية القصّة هذه مشابهة لبداية قصة عاد «قوم هود» وبداية قصة نوح وقومه، وهي تكشف كيف يتكرر التاريخ، فتقول: (كذبت ثمود المرسلين)...
لأنّ دعوة المرسلين جميعاً دعوة واحدة، فتكذيب ثمود نبيّهم صالحاً تكذيب للمرسلين أيضاً...
وبعد ذكر هذا الإجمال يفصّل القرآن ما كان بين صلاح وقومه، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون)...
لقد كان النّبي صالح هادياً ودليلا لقومه مشفقاً عليهم، فهو بمثابه «الأخ» لهم، ولم يكن لديه نظرة استعلائية ولا منافع ماديّة، ولذلك فقد عبّر القرآن عنه بكلمة «أخوهم»... وقد بدأ دعوته إيّاهم كسائر الأنبياء بتقوى الله والإحساس بالمسؤولية!...
ثمّ يقول لهم معرفاً نفسه: (إنّى لكم رسول أمين) وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا الامر (فاتقوا الله وأطيعون) إذْ لا أريد إلاّ رضا الله والخير والسعادة لكم...
ولذلك فأنا لا أطلب عوضاً منكم في تبليغي إيّاكم... (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين) فأنا أدعوكم له، وأرجو الثواب منه سبحانه...
كان هذا أوّل قسم من سيرة صالح التي تلخصت في دعوته قومه وبيان رسالته إليهم...
ثمّ يضع «صالح» اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية، فيقول: (أتتركون فيما ها هنا آمنين).
وتتصورون أن هذه الحياة المادية التي تستغفل الإنسان دائمة له وهو خالد فيها! فلذلك تأمنون من الجزاء، وأن يد الموت لا تنوشكم؟!
وبالأسلوب المتين، اُسلوب الإجمال والتفصيل... يشرح النّبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة والمجملة بقوله: وتحسبون أنّكم مخلّدون (في جنات وعيون
وزروع ونخل طلعها هضيم).(1)
ثمّ ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المُحكمة فيقول: (وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين).
«الفارِهُ» مشتق من (فره على وزن فَرِح) ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى... كما يستعمل في المهارة عند العمل أحياناً... ومع أن المعنيين ينسجمان مع الآية، إلاّ أنّه مع ملاحظة توبيخ نبيّهم صالح إيّاهم وملامته لهم فيبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب...
ومن مجموع هذه الآيات وبمقايستها مع ما تقدم من الآيات في شأن عاد، يستفاد أن عاداً «قوم هود» كان أكثر اهتمامهم في حب الذات والمقام والمفاخرة على سواهم... في حين أن ثمود «قوم صالح» كانوا أسرى بطونهم والحياة المرفهة»... ويهتمون أكبر اهتمامهم بالتنعم، إلاّ أنّ عاقبة الجماعتين كانت واحدة، لأنّهم جعلوا دعوة الأنبياء التي تحررهم من سجن عبادة الذات للوصول إلى عبادة الله، جعلوها تحت أقدامهم، فنال كلٌّ منهم عقابه الصارم الوبيل...
وبعد ذكر هذه الإنتقادات يتحدث النّبي صالح(عليه السلام) في القسم الثّالث من كلامه مع قومه، فيقول: (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).
* * *
نعرف أن «الإسراف» هو التجاوز عن حدّ قانون التكوين وقانون التشريع... وواضح أيضاً أنّ أيّ تجاوز عن الحد موجب للفساد والإختلال وبتعبير آخر: إن مصدر الفساد هو الإسراف، ونتيجة الإسراف هي الفساد أيضاً.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الإسراف له معنى واسع، فقد يطلق على المسائل المادية كالأكل والشرب، كما في الآية (31) من سورة الأعراف (كلوا واشربوا ولا تسرفوا).
وقد يَرِدُ في الإنتقام والقصاص ـ عند تجاوز الحد ـ كما في الآية (33) من سورة الإسراء...(فلا يسرفْ في القتل إنه كان منصوراً).
وقد يستعمل في الإِنفاق والبذل عند التبذير وعدم التدبير، كما في الآية (67) من سورة الفرقان: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً).
وقد يأتي في الحكم أو القضاء الذي يجرّ إلى الكذب، كما في الآية (28) من سورة غافر: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب)!
وقد يستعمل في الإعتقاد المنتهى إلى الشك والتردد والإرتياب كما في الآية (34) من سورة غافر إذ تقول: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).
وقد يأتي بمعنى الإستعلاء والإستكبار والإستثمار كما جاء في الآية (31) من سورة الدخان في شأن فرعون (إنّه كان عالياً من المسرفين).
وأخيراً فقد يأتي بمعنى مطلق الذنوب كما هو في الآية (53) من سورة الزمر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً).
وبملاحظة كل ما بيّناه آنفاً، تتّضح العلاقة بين الإسراف والفساد بجلاء...
يقول العلاّمة الطباطبائي في الميزان: «إن الكون على ما بين أجزائه من
التضاد والتزاحم، مؤلف تأليفاً خاصاً يتلائم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار... فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة، وهو بما بين أجزائه من الإرتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصّاً يسير فيها بأعمال خاصّة، من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط، فإنّ في الميل والإِنحراف إفساداً للنظام المرسوم ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل... ومن الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له، وإفساد النظم المفروض له ولغيره، يستعقب منازعة بقية الأجزاء له، فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الإِعتدال فهو وإلاّ أفنته وعفت آثاره، حفظاً لصلاح الكون واستبقاءً لقوامه والإِنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية، فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدّى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة، لعله يرجع إلى الصلاح والسداد، قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).(1)
وإن أقاموا مع ذلك على الفساد ـ لرسوخه في نفوسهم ـ أخذهم الله بعذاب الإِستئصال وطهّر الأرض من قذارة فسادهم قال الله تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(2)(3)
ومن هنا يتّضح بجلاء، لِمَ ذكر الله سبحانه في الآيات المتقدمة الإسراف والفساد في الأرض وعدم الإصلاح، في سياق واحد ومنسجم.
* * *
قَالواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153) مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأتِ بِآيَة إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَّعْلُوم(155) وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْم عَظِيم(156) فَعَقَرُوهَا فأَصْبَحُواْ نَـدِمِينَ(157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)
لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير، مع قومه المضلين ـ في الآيات المتقدمة ـ والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.
إنهم واجهوه بكلام خشن و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين) فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.
ثمّ بعد هذا كله (ما أنت إلاّ بشر مثلنا) وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع
انساناً مثله (فأت بآية إن كنت من الصادقين) لكي نؤمن بك ونتبعك.
كلمة (المسحّر) مشتقّة من (السحر) ومعناها المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل، وهذا القول لم يتّهم به النبيّ صالحاً فحسب، بل اتهم به كثير من الأنبياء، حتى أن المشركين اتّهموا نبيَّنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) به فقالوا: (إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً)(1). أجَلْ، إنّهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون الإنسان متوفقاً مع البيئة والمحيط، فيأكل الخبز ـ مثلا ـ بسعر يومه، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد... فلو أن رجلا مصلحاً إلهيّاً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عَدُّوهُ ـ بحسب منطقهم ـ مجنوناً «مسحّراً».
وهناك احتمالات أُخر في معنى «المسحّرين»، صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها...
وعلى كل حال فإنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزةً لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحُجة الواهية، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم ـ وبأمر الله ـ قال: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم).
و «الناقة» معروفة عند العرب، وهي أنثى الجمَلِ، والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان لها حالة إعجازية، إلاّ أنه ذكرها بنحو الإجمال... لكننا نعرف أنّها لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، فكما يقول جماعة من المفسّرين: كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم، واليوم الآخر لأهل الحي «أو القرية» وهكذا دواليك... كما أشارت الآية آنفة الذكر إلى هذا المعنى، ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في الآية (28) من سورة القمر أيضاً.
وقد ذكر المفسّرون لها خصائص أُخر(1).
وعلى كل حال، كان على صالح(عليه السلام) أن يُعلمَهُم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها، وقال: (ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم)...
وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة: (فعقروها فأصبحوا نادمين)(2) لأنّهم رأوا انفسهم قاب قوسين من العذاب الالهي.
ولما تجاوز طغيانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة الله ومشيئته أن يطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فأخذهم العذاب).
وكما نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف، والآية (67) من سورة هود، ما جاء عن عذاب الله لهم إجمالا... أن الأرض زُلزلت من تحتهم ليلا، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة، فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة!...
ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم(عليه السلام)، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إن في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة، والمصير
الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر: (إنّ في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين).
أجلْ، ليس لأحد أن يغلب ربّه; فما فوق قوته من قوّة!! وهذه القوّة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه، بل أعداءه أيضاً: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)(1)
* * *
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط الْمُرْسَلِينَ(160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(161) إِنِّى لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ(162) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـلَمِينَ(165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)
سادس نبيّ ـ ورد جانبٌ من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة ـ هو «لوط»(عليه السلام)، ومع أنَّه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل، إلاّ أنّ قصته لم تأت بعد قصّة إبراهيم(عليه السلام)، لأن القرآن لم يكن كتاباً تاريخياً ليبيّن الحوادث بترتيب وقوعها... بل يلفت النظر إلى جوانبه التربوية البناءة، والتي تقتضي تناسباً آخر... وقصّة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة الأنبياء الآخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد...
يقول القرآن أوّلا في هذا الصدد: (كذبت قوم لوط المرسلين).
ورود «المرسلين» بصيغة الجمع، إمّا لأنّ دعوة الأنبياء(عليهم السلام) واحدة، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأيّ نبي قبل لوط واقعاً وحقيقة...
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون).
ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة «الأخ» لهم.
ثمّ أضاف لوط قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة الله إليكم أبداً... (فاتقوا الله وأطيعون)فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.
ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادّياً، كلاّ: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).
ثمّ يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية... وحيث أنّ أهم نقطة في انحرافاتهم... هي مسألة الإِنحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال: (أتأتون الذكران من العالمين). فتختارون الذكور من بين الناس لاشباع شهواتكم!!
أي، إنّكم على الرغم ممّا خلق الله لكم من الجنس المخالف «النساء» حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلاّ أنّكم تركتم نعمة الله هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي...
كما ويحتمل في تفسير هذه الآية أن «من العالمين» جاء قيداً لقوم لوط أنفسهم، أي إنّكم من دون العالمين وحدكم المنحرفون بهذا الإنحراف والمبتلون به... كما أن هذا الإحتمال ينسجم مع بعض التواريخ إذ يقال أن أوّل أمّة ارتكبت
الإِنحراف الجنسي «اللواط» بشكل واسع هي قوم لوط،(1) إلاّ أن التّفسير الأوّل مع الآية التالية ـ أكثر إنسجاماً.
ثمّ أضاف قائلا: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون).
فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الإنحرافي الشنيع ابداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به...
إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم، ويمضي نحو الغذاء المسموم الملوّث المميت... فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية... بل هو التجاوز والطغيان!
* * *
أشار القرآن في سور متعددة منه ـ كالأعراف وهود والحِجر والأنبياء والنمل والعنكبوت، إلى ما كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع... إلاّ أن تعابيره ـ في السور المذكورة آنفاً ـ يختلف بعضها عن بعض... وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى بُعد من أبعاد عملهم الشنيع:
ففي «الأعراف» نقرأ مخاطبة لوط إيّاهم (بل أنتم قوم مسرفون).(2)
وفي الآية (74) سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول: (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين).
أمّا في الآية ـ محل البحث ـ فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله: (بل أنتم
قوم عادون).
وجاء في الآية (55) من سورة النمل قوله لهم: (بل أنتم قوم تجهلون) «الآية 55».
كما جاء في الآية (29) من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطباً إيّاهم (إنّكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل).(1)
وهكذا فقد ذُكر هذا العمل القبيح بعناوين «إسراف»، «خبيث»، «فسق»، «تجاوز»، «جهل»، و«قطع السبيل».
«الإسراف» من جهة أنّهم نسوا نظام الخلق في هذا الأمر، وتجاوزوا عن الحد، و«التعديّ» ذكر أيضاً لهذا السبب.
و«الخبيث» هو ما ينفر منه طبع الإنسان السليم، وأيّ عمل أقبح من هذا العمل الذي يُنفَرُ منه؟!
«الفسق» معناه الخروج عن الطاعة ـ طاعة الله ـ والتعري عن الشخصيّة الإنسانية، وهو من لوازم هذا العمل حتماً.
و«الجهل» لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع!...
وأخيراً فإن «قطع السبيل» هو النتيجة السيئة لهذا الفعل، لأنّه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند اتساع هذا الفعل، لأنّ العلاقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلاقة نحو الجنس المخالف بالتدريج (كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق).
بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل الآيات 81 ـ 83 بحثاً مفصّلا في أضرار هذا العمل القبيح، إلاّ أنه ـ نظراً لأهميته ـ نرى هنا من اللازم أن نذكر
مطالب أُخَر مضافاً إلى ما سبق!
في الحديث عن النبيّ (محمّد)(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا يجد ريح الجنّة زنوق وهو المخنث».(1)
وفي حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام) أنه قال: «اللواط هو الكفر».(2)
وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال: «علة تحريم الذكران للذكران، والإِناث للإِناث، لما رُكب في الإِناث وماطبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران، والإِناث للإِناث من انقطاع النسل، وفساد التدبير، وخراب الدنيا».(3)
وهذه المسألة قبيحة جدّاً في نظر الإِسلام بحيث جعل ـ في أبواب الحدود ـ حدّة القتل دون شك... حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقاباً صارماً...
ففي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من قبل غلاماً من شهوة، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار».(4)
وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلاثين سوطاً إلى تسعة وتسعين سوطاً...
وعلى كل حال، فلا شك أن الإنحراف الجنسي من أخطر الإنحرافات الاجتماعية... لأنّه يلقي بظله المشؤوم على جميع المسائل الأخلاقية، ويجر الإنسان إلى الإنحراف العاطفي.
«وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الآية 81 من سورة هود».
* * *
قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الُْمخْرَجِينَ(167) قَالَ إِنِّى لَعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ(168) رَبِّ نَجِنِّى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)فَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170) إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغَـبِرِينَ(171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ(172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهُم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173) إِنَّ فِى ذَلكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174)وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)
إن قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنهم نهضوا لمواجهتهِ و (قالوا لئن لم تنتهِ يا لوط لتكونن من المخرجين)...
إن كلامك يُبلبل أفكارنا، ويسلب اطمئناننا وهدوءنا، فنحن غير مستعدين
حتى للإصغاء إلى كلامك... وإذا واصلت هذا الاُسلوب ولم تنته منه، فإنّ أقل ما تجزى به هو الإبعاد والإخراج من هذه الأرض...
ونقرأ في مكان آخر من القرآن أن قوم لوط سعوا لتنفيذ تهديدهم، وأمروا بإخراج لوط وأهله، فقالوا: (أخرجوهم من قريتكم إنّهم اُناس يتطهّرون).
إن فعل هؤلاء الضالّين ـ بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة، وهذه هي العاقبة المشؤومة للمجتمع المسرع نحو الفساد!
ويستفاد من عبارة (لتكونن من المخرجين) أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اُناساً طاهرين من حيّهم فهدّدوا لوطاً بهذا الأمر أيضاً، وهو أنه إذا لم تنته فستنال ما ناله سواك من الإبعاد والإخراج...
وقد صُرّح في بعض التفاسير أنّهم كانوا يُخرجون المتطهرين من القرية بأسوأ الحال(1)...
![]() |
![]() |
![]() |