![]() |
![]() |
![]() |
إلاّ أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و (قال إنّي لعملكم من القالين).
إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم... فافعلوا ما شئتم... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالإعتراض والنقد!...
والتعبير بـ
«من القالين» يدلُّ أيضاً على أن جماعة كانوا مثل النّبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها... رغم أن المنحرفين أخرجوهم من قريتهم آخر الأمر.كلمة «القالِين» جمع «قال» من مادة (قَلَى) أو (قَلِيَ) «على وزنيْ حَلَقَ وشَرِكَ» ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان، وهذا التعبير
يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم...
والذي يسترعي النظر أن لوطاً يقول: إنّي لعملكم من القالين. أي إنّني لا أعاديكم بأشخاصكم، بل أعادي أعمالكم المخزية، فلو ابتعدتم عن هذا العمل الشنيع فأنا محبّ لكم وغير قال لكم.
وأخيراً لم تؤثر مواعظ لوط ونصائحه في قومه، فبدّل الفساد مجتمعهم كلّه إلى مستنقع عفن... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية... فعليه أن يغادر هذه المنطقة العفنة، وأن ينجّي من معه ممن استجاب دعوته، لينزل عذاب الله على القوم الفاسقين فيهلكهم، فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: (رب نجني وأهلي ممّا كانوا يعملون).
وبالرغم من أنّ بعضهم احتمل أن يكون المراد من الأهل من الآية جميع من آمن به... إلاّ أن الآية (36) من سورة الذاريات تقول: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين).
ولكن كما أشرنا من قبل ـ فإن بعض التعابير الواردة في الآيات محل البحث، تشير إلى أن جماعة من المؤمنين به كانوا قد أُبعدوا وأُخرجوا من القرية...
ويستفاد ممّا قيل ـ ضمناً ـ أن دعاء لوط لأهله لم يكن بسبب العلاقة العاطفية والإرتباط النسبي القرابتي، بل لإيمانهم به...
فاستجاب الله دعاؤه كما تقول الآية التالية: (فنجّيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزاً في الغابرين).(1)
وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النّبي لوط التي كانت منسجمة مع أفكار قومه الضالين وعقيدتهم، ولم تؤمن بلوط أبداً، ولذلك ابتليت بما أُبتلي به قومه من العذاب والهلاك.
وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآيات «81 ـ 83 من سورة هود».
أجَلْ، لقد نجّى الله لوطاً والمؤمنين القلّة معه، فأمر أن يخرج بهم ليلا من تلك المدينة ـ أو القرية ـ فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب الله في الغداة، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى اصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعاً في ديارهم، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: (ثمّ دمرنا الآخرين) ولم يكف ذلك بل (وأمطرنا عليهم مطراً) وأيّ مطر! إنّه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار. (فساء مطر المنذرين)!...
والأمطار عادة تمنح الحياة، إلاّ أن هذا المطر كان موحشاً مهلكاً مخرّباً...
ويستفاد من الآية (82) من سورة هود أن قرى قوم لوط ومدنهم قُلب عاليها سافلها أوّلا، ثمّ أمطرت بالحجر النضيد المتراكم، ولعله كان إمطارهم بالحجارة لمحوا آثارهم، فلم يبق منها غير تل كبير من الأحجار والتراب بدل تلك المدن العامرة...
تُرى هل كانت هذه الأحجار قد حملت من الصحارى على أثر اعصار عظيم وسقطت على رؤوسهم؟ أو هي أحجار نزلت من السماء بأمر من الله عليهم؟!
أو كما يقول بعض المفسّرين كان هناك بركان أو جبل نار قد خمد لفترة، ثمّ انفجر بأمر الله فأمطرهم بالحجارة، ليس ذلك معلوماً على نحو الدقّة! إلاّ أن من المسلّم به أنّ هذه الأحجار ـ أو هذا المطر المهلك ـ لم يترك للحياة في تلك الأرض من أثر!
«وتفصيل هذا الموضوع ذكرناه في ذيل الآيات 81 ـ 83 من سورة هود، كما ذكرناه في الجزء الثامن مع «لطائف» مختلفة فلا بأس بمراجعتها»...
ومرّة أُخرى نواجه في نهاية هذه القصّة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين، إذ يقول القرآن:
(إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).
وأيّة آية أجلى من هذه الآية التي تعرفكم على هذه المسائل المهمّة والبناءة، دون أن تحتاجوا إلى تجربة شخصية! أجل إن تاريخ الماضين عبرة وآية للآتين، وليس تجربة، لأنّ التجربة ينبغي على الإِنسان أن يتحمل فيها خسائر ليحصل على نتائجها... إلاّ أننّا هنا نحصل على النتائج من خسائر الآخرين!.
(وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
وأية رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواماً فاسقين كقوم لوط فوراً، بل يمهلهم إمهالا كافياً لعلهم يهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم!...
وأية رحمة أعظم من أن لا يخلط عقابه «الأخضر باليابس» بل لو كان في ألفِ ألفِ(1) أُسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنه ينجيها منها وينزل العذاب على اُولئك!
وأية عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دُمرت تدميراً ولم يبق منها أي أثر!
فالأرض التي كانت مهاداً لأمنهم أمرت بإقبارهم، والمطر الذي تحيا به الأرض والناس يكون مميتاً لهم!
* * *
كَذَّبَ أَصْحـبُ الئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(177) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (180)أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونوُاْ مِنَ الُْمخْسِرِينَ(181) وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182) وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(183) وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ(184)
هذه هى القصّة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة... وهي قصة «شعيب»(عليه السلام) وقومه المعاندين.
كان هذا النّبي يقطن في «مدين»، «وهي مدينة تقع جنوب الشامات».
و «أيكة» على وزن (ليلة) «قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين».
والآية (79) من سورة الحجر تدل على أن «أيكة» كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام.
تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين).
إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيباً فحسب، بل كذبوا جميع الأنبياء، لأنّ دعوتهم واحدة... أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبداً...
والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من «مدين»، سمّيت بذلك لأن فيها أشجاراً كثيرة وماءً وظلالا!... والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة، وربّما كانوا لهذه الأُمور غرقى الغرور والغفلة!...
ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب(عليه السلام) وعنهم فيقول: (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون).
وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب(عليه السلام) انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدُّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والإِجتماعية جمعاء...
والجدير بالذكر أن التعبير «أخوهم» الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط(عليهم السلام)، لم يُلاحظ هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن «شعيباً» كان من أهل مدين أصلا ـ وتربطه باهلها روابط نسبية، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة... ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال «شعيب» إلى قومه من أهل مدين يقول: (وإلى مدين أخاهم شعيباً) إلاّ أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة، وشعيب(عليه السلام) لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير «أخاهم»...
ثمّ أضاف شعيب قائلا: (إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون)فطاعتكم
لي طاعة لله.
واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).
وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أُمَمهم، فهي متحدة المآل ومدروسة، إذ تدعو إلى التقوى، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب، وليس ورائها هدف مادي، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين، ليكون مثاراً للشكوك وذريعةً للمتذرعين!
و «شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والإجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الإضطراب الإقتصادي، والإستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس(1)المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة!...
ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه
الحقيقة... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.
ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة... وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن «وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة»...
وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!...
وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً.
فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!
ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس المستقيم، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس
أشياءهم...
ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور.
وبعد اتضاح هذين التعبيرين (وأوفوا الكيل ... وزنوا القسطاس) نأتي الى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من «البخس»، وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين... فبناءً على ما تقدم، فإن الجملة الآنفة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين!
وأمّا جملة (ولا تكونوا من المخسرين) فمع ملاحظة أن «المخسر» هو من يوقع الآخر أو الشيء في الخسران... فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!
وهكذا فإنّ جميع ما ذُكر من الإستغلال وسوء الإِستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار، سواءاً كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر...
وحيث أن الإضطراب الإقتصادي، أو الأزمة الإقتصادية، أساس لا ضطراب المجتمع، فإنّ شعيباً يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط، فعليكم أن تضعوا حدّاً لأي نوع من الإستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين.
وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب،
بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى العدالة الإقتصادية!...
ثمّ إن «شعيباً» في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد اُخرى إلى تقوى الله فيقول: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين).
فلستم أول قوم أو جماعة خُلقوا على هذه الأرض، فآباؤكم والأمم الاُخرى جاءوا وذهبوا، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه...
(الجبلة» مأخوذة من (الجبل) وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيراً» ويسمى الطود أحياناً... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة...
قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف!
كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أن الجبل لا يتغيّر عادةً...
والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيباً يقول: إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة...
إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق، فأجابوه بمنطق «مُرّ وفظ» سنقرؤه في الآيات المقبلة...
* * *
قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185) وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـذِبِينَ(186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(187) قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(189) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)
لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنّهم لا يملكون دليلا ليواجهوا به منطقه المتين... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب.
فالتهمة الأُولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء، وهي
السحر فاتّهموه بها و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين)(1) ولايُرى في كلامك ما هو منطقي!! وتظن أنّك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء!!
ثمّ ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا (وما أنت إلاّ بشر مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين).
وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً (فاسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين) حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب.
و «كِسَف» على وزن (فِرَق) جمع (كِسْفَة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضاً والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء...
وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.
إلاّ أن شعيباً(عليه السلام)، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله، كان جوابه الوحيد لهم أن (قال ربّي أعلم بما تعملون)...
و يشير إلى أنّ الأمر خارج عن يدي، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيرُ مخول بها ليطلب كل ذلك منّي... فالله يعرف أعمالكم ويعلم بها، وما أنتم أهل له، فمتى لم تنفع المواعظ وتمّت الحجّة اللازمة، فإنّ عذابه لا مرد له وسيقطع دابركم لا محالة!...
وهذا التعبير وأمثاله ممّا يردُ على لسان الأنبياء، وما نلاحظهُ في آيات
القرآن يدل على أنّهم كانوا يوكلون جميع الأُمور إلى الله، وإنّها بإذنه وأمره، ولم يدّعوا أنّهم قادرون على كل شيء، أو أنّهم يفعلون ما يشاءون!.
وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلا: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم).
«الظلة» في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل: أي ذي الظل...
يقول أغلب المفسّرين في ذيل هذه الآية: إن حرّاً شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيّام، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيّام ـ وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.
وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً.
ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلاقح القوى أو «الطاقة» الموجبة والسالبة، أو ما يعبر عنها بالشحنات الكهربائية وحين تتلاقح هذه الشحنات بين السحاب والأرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة موحشة، وقد تهتز الأرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها... وهكذا يتّضح أن اختلاف التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة الأعراف جاء التعبير بالرجفة (الآية (91) وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة (الآية 94) أمّا في الآيات محل البحث فقد جاء التعبير بـ (عذاب يوم الظلة)...
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين «كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم» يحتمل أن أصحاب الأيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص، إلاّ أنه مع ملاحظة هذه الآيات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلّى أن هذا الإِحتمال غير وارد!...
وتُختتم القصّة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء الله الكرام، إذ
يقول القرآن: إن في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر (إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).
ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادُوْا في الغي واستوجبوا عذاب الله، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أجل (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
* * *
في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة نجة أن هذه القصص تشكّلُ حلقة كاملة من حيث الدروس التربوية... وينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»(1) وهي أن قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور أُخَر من القرآن أيضاً. إلاّ أنها لم تُعرَض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضاً.
ولوحظ في خمسة أقسام من هذه القِصص أن محتوى الدعوة هو تقوى الله، ثمّ الإشارة إلى أمانة النّبي، وعدم مطالبته قومه بالأجر على تبليغه إيّاهم... وبعد هذه المسائل تعالج المسائل الإجتماعية، والإنحرافات الأخلاقية، من قبل الأنبياء بلغة تنمّ عن الإشفاق والمحبة...
ثمّ يبيّن القرآن ردّ فعل الاُمم المنحرفة تجاه أنبيائهم، وأخيراً عاقبتهم الوخيمة، ويذكر عذاب كل منهم وكيفيته...
وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم لا يؤمنون...
ثمّ يؤكّد القرآن أيضاً في نهاية كل قصّة منها على قدرة الله (وعزته) ورحمته.
وهذا الإنسجام ـ قبل كل شيء ـ يدلُّ على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة... وجميعهم كانوا معلمي مدارس الإنسانية... وبالرغم من أنّ محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغيّر بتقدم الزمن والمجتمع الإنساني، إلاّ أنّ الاُصول والنتائج تبقى على حالها.
ثمّ بعد هذا كله، فإن هذه القصص كانت تسرّي عن قلب النّبي والمؤمنين القلّة في ذلك العصر (والمؤمنون في كل عصر) وتسلّي خاطرهم، لئلا يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والأعداء الضالين، وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم... وأن يكون أملهم بذلك كبيراً...
كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئلا يتصوروا بأنّ عذاب الله بعيد عنهم... العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة، والطوفان والبركان... وانشقاق الأرض والخسف، والأمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدمّرة، والإنسان المعاصر ضعيف أمامها كضعف الإنسان الغابر... لأن الإنسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة... ويبقى ضعيفاً لا حول له ولا طول!...
كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد، والهدف تنوير القلوب ومعالجة الهوى بالتعقّل... وأخيراً فإنّ الهدف هو مواجهة الظلم والإنحراف...
ممّا يلفت النظر أن قسماً مهماً من قصص هؤلاء الأنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود والأعراف، إلاّ أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادةً ـ ويُبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)!
إلاّ أنّه في هذه السورة (الشعراء) ـ كما لاحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم (ألا تتقون)... والحق أنّهما تعودان إلى نتيجة واحدة... لأنّه إذا لم تُوجد في الإنسان أدنى مراتب التقوى، وهي طلب الحق، فإنه لا يؤثر فيه شيء، لا الدعوة إلى التوحيد ولا غيرها... لذا فإنّنا نقرأ في بداية سورة البقرة قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).
وبالطبع فإنّ التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو المرتبة الأُخرى...
كما نلاحظ اختلافاً آخر بين هذه السورة وسورتي الأعراف وهود، ففي سورتي الأعراف وهود كانت دعوة الأنبياء تتركز على نبذ الأصنام، أمّا المسائل الأُخَر فكانت تحت الشعاع، إلاّ أنه في سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة الإنحرافات الأخلاقية والإجتماعية، كالمفاخرة وطلب الإستعلاء، والإسراف، والإنحراف الجنسي، والإستثمار والتطفيف. إلخ... وهذا الأمر يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص، ولكلٍّ هدف معين يعرف من السياق!
ممّا يلفت النظر أنّ الاقوام المذكورين في هذه السورة، بالإضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد نحو الشرك وعبادة الاوثان، الذي يعدّ أصلاً مشتركاً
بينهم، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلاقية واجتماعية خاصّة «وكل قوم لهم انحرافات خاصّة»...
فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ... كقوم هود(عليه السلام).
وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح(عليه السلام).
وبعضهم كانوا مبتلين بالإنحراف الجنسي كقوم لوط(عليه السلام).
وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتلاعبون بالمعاملات كقوم شعيب(عليه السلام).
وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح(عليه السلام).
إلاّ أن عقابهم كان متشابهاً إلى حدٍّ ما، وكانت نهايتهم الهلاك...
فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود.
وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح(عليه السلام)
وفي الحقيقة، فإن الأرض التي هي مهد للدعة والإطمئنان، وكانوا يمرحون عليها، أُمرت بإهلاكهم!...
والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا الامر بإماتتهم!
وما أعجب أن تكون حياة الإنسان في قلب الموت، وموته في قلب الحياة، وهو مع كل ذلك غافل مغرور!
* * *
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الُّروحُ الاَْمِينُ (193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194) بِلِسَان عَرَبِىٍّ مُّبِين (195)وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ(196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَـؤُاْ بَنِى إِسْرءِيلَ(197)
بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين، إذ يقول: (وإنّه لتنزيل ربّ العالمين).
وأساساً فإن بيان جوانب مختلفة عن سير الأنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة، والخو من أي نوع من الخرافات والأساطير الكاذبة، وفي محيط مليء بالأساطير والخرافات، ومن قِبَلِ إنسان لا يعرف القراءة والكتابة، أو لم يسبق له
أن تعلمهما... كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ربّ العالمين، وهذا نفسه دليل على إعجاز القرآن!!
لذلك تضيف الآية التالية قائلةً: (نزل به الروح الأمين).
ولو كان القرآن لم يُنزله ملك الوحي «الروح الأمين من قِبَلِ الله» لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل...
وممّا يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الآية: الأوّل أنّه الروح، والوصف الثّاني أنّه الأمين...
فالروح هي أساس الحياة، والأمانة، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة!...
أجل، إن هذا الروح الأمين نزل بالقرآن (على قلبك لتكون من المنذرين).(1)
فالهدف هو أن تنذر الناس، وأن تحذرهم من مغبة الإنحراف عن التوحيد، ليحذروا من سوء العاقبة... إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفاً فكرياً ولملء الفراغ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان!...
ولئلا تبقى حجّة لأحد ولا عذر، فإنّ القرآن أُنزل (بلسان عربيّ مبين)...
فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح، خال من الإبهام، للإنذار والإيقاظ، ولا سيما أنه نزل في محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية، نزل بليغاً واضحاً...
هذا اللسان العربي هو أكمل الألسنة واللغات وأغناها أدباً ومقاماً...
والجدير بالذكر أن أحد معاني «عربي» هو ذو الفصاحة والبلاغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان، وكما يقول الراغب في المفردات: العربي: الفصيح البيّن من الكلام...
وفي هذه الصورة فإنه ليس المعوّل على لسان العرب، بل الاساس صراحة
القرآن ووضوح مفاهيمه، والآيات التالية تؤية هذا المعنى، كما جاء في الآية (44) من سورة فصلت (ولو جعلناه قرءاناً أعجميّاً لقالوا لولا فصلت آياته).
فالمراد من الأعجمي هنا هو االكلام غير الفصيح!...
والآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول: (وإنه لفي زُبرِ الأولين).(1)
وخاصّة أن أوصاف هذا النّبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى(عليه السلام) بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك، حتى قيل أن إيمان قبيلتي الأوس والخزرج بالنّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان على أثر ما كان يتوقعة علماء اليهود عن ظهور هذا النّبي العظيم، ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم..
لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلا: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
![]() |
![]() |
![]() |