[407]

ملاحظات

1 ـ القلب السليم ـ وحده ـ وسيلة النجاة

في اثناء كلام إبراهيم الخليل(عليه السلام) قرأنا ضمن ما ساقته الآيات المتقدمة من تعابير في وصف القيامة، أنّه لا ينفع في ذلك اليوم شيء (إلاّ من أتى الله بقلب سليم).

(السليم) مأخوذ من السلامة، وله مفهوم واضح، وهو السالم والبعيد من أيّ انحراف أخلاقي وعقائدي، أو أيّ مرض آخر!...

تُرى... ألمْ يقل الله القرآن في شأن المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(1)

ونلاحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الأحاديث الغزيرة المعنى.

1 ـ ففيّ حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) ـ ذيل الآية محل البحث(2) ـ يقول فيه: «وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط».

2 ـ ونعلم من جهة أُخرى أن العلائق المادية الشديدة وحب الدنيا... كل ذلك يجرّ الإنسان إلى كل انحراف وخطيئة، لأن «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة»(3).

ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من حبّ الدنيا، كما ورد هذا المضمون في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) ـ ذيل محل البحث ـ إذ يقول: «هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا».(4)

ومع الإلتفات إلى الآية (197) من سورة البقرة إذ تقول: (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى) ... يتّضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محلا لتقوى الله.



1 ـ سورة البقرة، الآية 10.

2 ـ راجع مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

3 ـ بحار الأنوار، ج 70، ص 239 .

4 ـ تفسير الصافي في ذيل الآية محل البحث.

[408]

3 ـ وآخر ما نقوله ـ هنا ـ أنّ القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى الله، كما يجيب الإِمام الصادق(عليه السلام) على سؤال في هذا الشأن فيقول: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه».(1)

ولا يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح الإنسان ونفسُه.

وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات الإسلامية تتحدث حول سلامة القلب والآفات التي تصيبه، وطريق مبارزتها ومكافحتها، ويستفاد من مجموع هذا المفهوم الإسلامي المتين أن الإسلام يهتم قبل كلّ شيء بالأساس الفكري والعقائدي والأخلاقي، لان جميع المناهج التطبيقية والعملية للإنسان هي إنعكاسات لذلك الأساس وآثاره!...

فكما أنّ سلامة القلب الظاهرية سبب لسلامة الجسم، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعاً، لأنّ تغذية الخلايا في البدن تتمّ بواسطة الدم الذي يتوزع ويُرسل إلى جميع الأعضاء بإعانةِ القلب على هذه المهمّة... فكذلك هي الحال بالنسبة لسلامة مناهج حياة الإنسان وفسادها، كل ذلك انعكاس عن سلامة العقيدة والأخلاق أو فسادهما...

ونختتم هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) إذ قال: «إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهرُ أجرد; «أجرد من غير الله» إلى أن قال(عليه السلام): وأمّا الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر. وأمّا المنكوس فقلب المشرك (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوّياً على صراط مستقيم) فإن القلب الذي فيه إيمان ونفاق، فهم قوم كانوا بالطائف، فإن أدرك أحدُهم أجله على نفاقه هلك، وإن أدركه على إيمانه نجا».(2)

2 ـ وجاء في الروايات متعددة عن الإمامين الصادقين (أبي جعفر وأبي



1 ـ الكافي... طبقاً لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الآية محل البحث.

2 ـ أصول الكافي ج 2 ص 422 طـ الرّابعة، باب في ظلمة قلب المنافق.

[409]

عبد الله(عليهما السلام)) في تفسير (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قولهما: «هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره».(1)

وهذا الحديث يدل على أنّ القول بلا عمل قبيح ومذموم جدّاً، إذ يلقي أصحابه في النار، فأولئك قوم ضالون مضلّون، وكلامهم يهدي، الناس إلى الحق، بينما عملهم يجرّهم إلى الباطل، بل إن عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم!

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أن كلمة «غاوون» المأخوذة من «الغيّ» لا تعني الضلال مطلقاً، بل كما يقول الراغب في المفردات: هو نوع من الجهل والضلال الناشيء عن فساد العقيدة.

3 ـ وردت في ذيل الآية (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) روايات متعددة، وبعضها صريحة في أن: «الشافعون الأئمّة والصديق من المؤمنين».(2)

وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إن الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم».(3)

وبديهي أنّه لا الشفاعة بدون معيار وملاك، ولا السؤال في شأن الصديق دون حساب، فلا بد من وجود ارتباط أو علاقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف... «بينّا تفصيل هذا الموضوع في بحث الشفاعة، في تفسير الآية 48 من سورة البقرة ـ فليُراجع في محله».

* * *



1 ـ نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم، والمحاسن للبرقي.

2 ـ المحاسن للبرقي. ذيل الآية محل البحث.

3 ـ مجمع البيان ذيل الآية.

[410]

 

 

الآيات

 

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوح الْمُرْسَلِينَ(105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخوُهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(106) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (109)فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110) قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ(111) قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَو تَشْعُرُونَ(113) وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114) إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(115)

 

التّفسير

يا نوحُ، لِمَ يحفُّ بك الأرذلون؟!

يتحدّث القرآن الكريم بعد الإنتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضّالين، عن قوم نوح(عليه السلام) حديثاً للعبرة والإتعاظ... فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوح(عليه السلام) وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات... فيقول أوّلا: (كذّبت

[411]

قوم نوح المرسلين).(1)

وواضح أن قوم نوح إنّما كذبوا نوحاً فحسب... ولكنْ لمّا كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيباً للمرسلين جميعاً... ولذا قال القرآن (كذبت قوم نوح المرسلين).

كما ويحتمل أنّ قوم نوح أساساً كانوا منكرين لجميع الأديان والمذاهب، سواءً قبل ظهور نوح أو بعده...

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح(عليه السلام)، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسى(عليهما السلام)، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون)...

والتعبير بكلمة «أخ» تعبير يبيّن منتهى المحبّة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة... أي أن نوحاً دون أن يطلب التفوق والإستعلاء عليهم، كان يدعوهم إلى تقوى الله في منتهى الصفاء.

والتعبير بالأُخوة لم يَردْ في شأن نوح في القرآن فحسب، بل جاء في شأن كثير من الأنبياء، كهود وصالح ولوط، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالإجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق، ولا يستثقله الناس!...

وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) فإن إطاعتي من إطاعة الله سبحانه...

وهذا التعبير يدلّ على أن نوحاً(عليه السلام) كانت له صفة ممتدة من الأمانة بين قومه،



1 ـ تأنيث لفظ (كذبت)
لأن (قوم)
في معنى الجماعة، والجماعة فيها تأنيث لفظي... وقال بعضهم: إن كلمة (قوم)
بذاتها مؤنثة، لأنّهم قالوا في تصغيرها «قويمة»
نقل الوجه الأوّل الطبرسي في مجمع البيان، ونقل الوجه الثّاني الفخر الرازي في تفسيره... إلاّ أن «الآلوسى» قال في روح المعاني: إن لفظ «قوم» يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء...

[412]

وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية، فهو يقول لهم: (إنّي لكم رسول أمين) ولهذا فإنّي أمين أيضاً في أداء الرسالة الالهية، ولن تجدوا خيانةً منّي أبداً...

وتقديم التقوى على الإِطاعة، لأنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بالله وخشية منه، فلن تتحقق الإطاعة لنبيّه...

ومرّة أُخرى يتمسك نوح(عليه السلام) بحقانية دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين).

ومعلوم أن الدوافع الإلهية ـ عادةً ـ دليل على صدق مدعي النبوّة، في حين أن الدوافع المادّية تدل بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة،  ولا سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم...

ثمّ يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول: (فاتقوا الله وأطيعون)...

إلاّ أنّ المشركين الحمقى، حين رأوا سُبُلَ ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة، فـ (قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون).

إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع، وبعبارة أخرى «إن الولي يعرف من زوّاره ـ كما يقال» فحين نلاحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنةً من الأراذل والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك الاثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!

وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يُعرف عن طريق أتباعه، إلاّ أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القِيَم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا

[413]

للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الاشراف.

إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها، ولذلك كانوا يسمّون الفقراء الحفاة بالأراذل.

و «الأراذل» جمع (أرذل) كما أنّه جمع (للرذل) ومعناه الحقير... ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي، لأدركوا جيداً أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النّبي وأصالتها!

إلاّ أنّ نوحاً(عليه السلام) جابههم وردّهم بتعبير متين، وجرّدهم من سلاحهم و (قال وما علمي بما كانوا يعملون).

فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النّبي، وقالوا له: لبّيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحقّ من أن ينفذ إلى قلوبهم!...

وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحاً أو طالحاً، فلست مُحاسباً ولا مسؤولا عنهم آنئذ (إن حسابهم إلاّ على ربي لو تشعرون).

ويستفاد من هذا الكلام ـ ضمناً ـ أنّهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلاء الطائفة من المؤمنين، بالإضافة إلى خلوّ أيديهم، بسوء سابقتهم الأخلاقية والعملية، مع أن الفساد والإنحراف الخلقي عادةً في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات... فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد، وهم سكارى المقام والمال، وقلّ أن يكونوا من الصالحين.

إلاّ أن نوحاً(عليه السلام) ـ دون أن يصطدم بهم في مثل هذه الأُمور ـ يقول: ما علمي بهم وبما كانوا يعملون، فإذا كان الأمر كما تزعمون فإنّما حسابهم على ربي لو تشعرون!

وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلاّب الحق (وما أنا بطارد المؤمنين).

وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله، ليتقربوا

[414]

منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد أُولئك الفقراء...

ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب (إن أنا إلاّ نذير مبين).

فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي!

وممّا ينبغي الإِلتفات إليه أن هذا الإِيراد لم يتعرّضْ له نوحٌ النّبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب، بل ووُجهَ الى النّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء به، فالأغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلاء الفقراء البيضاء، فيرونها سوداء، فيطلبون طردهم دائماً. ولم يقبلوا بربّ ولا نبي يتبعه مثل هؤلاء العباد الفقراء!...

إلاّ أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف، إذ يقول: (واصبر نفسك مع الذين يدعونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).

وهذا الإيراد أو الإشكال يوردونه حتى على قادةِ الحق والأدلاّء على الهدى في كل عصر وزمان، وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون.

إنّهم يريدون أن يعيبوا بكلامهم هذا الرسالة والمذهب، مع أنّهم من حيث لا يشعرون، يمدحون ويطرون ذلك المذهب ويوقّعون على أصالته.

* * *

[415]

 

 

الآيات

 

قَالوُاْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ(116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ(117) فافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن الْمؤْمِنِينَ(118) فَأَنجَيْنَـهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ المَشْحُونِ(119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)

 

التّفسير

نجاةُ نوح وغرقُ المشركين:

كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوح(عليه السلام)، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الإعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين).

والتعبير بـ «من المرجومين» يدلُ على أنّ الرجمَ بالحجارة بينهم كان جارياً في شأن المخالفين... وفي الحقيقة إنّهم يقولون لنوح: إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد... والإستمرار على عقيدتك ودينك، فستنال ما يناله المخالفون

[416]

ـ عامّة ـ وهو الرجم بالحجارة، الذي يعد واحداً من أسوأ أنواع القتل.(1)

ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بيّن... وبما يقترن بها من إصطبار، لم تؤثر إلاّ في جماعة قلة آمنوا به... شكا إلى ربّه أخيراً، وضمن بيان حاله، سأل ربه أن ينجيّه من قبضة الظالمين، وأن يُبعده عنهم... إذ (قال ربّ إن قومي كذبون).

وصحيح أن الله مطّلع على كل شيء، إلاّ أنه لبيان الشكوى وتمهيداً للسؤال التالي، يذكر نوح مثل هذا الكلام.

وممّا يلفت النظر أنّ نوحاً لم يشتكِ من المصائب التي أُبتلي بها، بل اشتكى من تكذيب قومه إيّاه فحسب، إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته الالهية لهدايتهم...

ثمّ يلتفت إلى ربّه فيقول: والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وافصل بيني وبينهم: (فافتح بيني وبينهم فتحاً).

«الفتح» معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعمالان... فتارة يستعمل في القضايا المادية كفتح الباب مثلا، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم، وكفتح المستغلق من العلوم، وفتح القضية، اي بيان الحكم حسم النزاع!

ثمّ يضيف فيقول: (ونجّني ومن معي من المؤمنين).

وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة الله نوحاً، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) اي المليء بالناس وانواع الحيوانات (ثمّ أغرقنا بعدُ الباقين)...

«المشحون» مأخوذ من مادة (شحن) على وزن (صحن) ومعناه الملءُ، وقد



1 ـ «الرجم»
مأخوذ من (رجام) على وزن (كتاب) وهو جمع (رجمة) على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل، كما يأتي أحياناً بمعنى القتل بأيّ شكل كان، لأن القتل كان بالحجر سابقاً.

[417]

يستعمل بمعنى التجهيز... و«الشحناء» تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب الإِنسان، والمراد من «المشحون» هنا هو أنّ ذلك الفلك [أي السفينة] كان مملوءاً من البشر وجميع الوسائل... ولم يكن فيه أي نقص... إي أن الله بعدما جهز السفينة وأعدّها للحركة، أرسل الطوفان لئلا يُبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الأذى... وهذا بنفسه إحدى نعم الله عليهم!

وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم(عليهما السلام)، فيكرر قوله: (إن في ذلك لآية) أي في ما جرى لنوح(عليه السلام) ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه (وما كان أكثرهم مؤمنين).

ولهذا فلا تحزن يا رسول الله من إعراض المشركين وعنادهم، واستقم كما أُمرت... فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.

(و) اعلم (إن ربّك لهو العزيز الرحيم).

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خُسْرَاً!...

* * *

[418]

 

 

الآيات

 

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ (124)إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ(127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع ءَايَةً تَعْبَثُونَ(128) وَتَتَّخُذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُم تَخْـلُدُونَ (129)وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جَبَّارِينَ(130) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُم بمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَـم وَبَنِينَ (133)وَجَنَّـت وَعُيُون(134) إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(135)

 

التّفسير

جنايات عاد واعمالهم العدوانية:

والآن يأتي الكلام عن «عاد» قوم «هود» إذ يعرض القرآن جانباً من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها من دروس العبر، ضمن ثماني عشرة آيةً من آياته!...

«عادُ» ـ كما قلنا من قبل ـ جماعة كانوا يقطنون في «الأحقاف»، وهي منطقة في حضرموت تابعة لليمن، تقع جنوب الجزيرة العربية...

[419]

فيقول القرآن: (كذّبت عادٌ المرسلين).(1)

بالرغم من أنّهم كذبوا هوداً فحسب، إلاّ أنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، فكأنّهم كذبوا الأنبياء جميعاً...

وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل، فيتحدّث القرآن عنهم فيقول: (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون).

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة «أخوهم»...

ثمّ أضاف قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإنّي لم أخنكم أبداً... ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق!...

ثمّ يضيف مؤكّداً: لما كنتم تعرفونني جيداً (فاتقوا الله وأطيعون) ... لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة لله سبحانه... ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لأنتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه، فلست كذلك (وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إلاّ على ربّ العالمين)... فجميع النِعَم والبركات من قِبَلهِ سبحانه، وإذا أردتُ شيئاً طلبته منه، فهو ربّ العالمين جميعاً...

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة «هود» في قومه إلى أربعة أُمور على الترتيب...

فالأمر الأوّل: هو محتوى دعوة «هود» الذي يدور حول توحيد الله وتقواه، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي...

أمّا الأُمور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكياً عن لسان هود في ثوب الإستفهام الإنكاري، فيقول: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون).



1 ـ لما كانت «عاد»
قبيلةً، وتتألف من جماعة من الناس أُنث الفعل كما يُرى، فجاء (كذبت عاد)
لأنّ لفظي القبيلة والجماعة مؤنثان...

[420]

«الريع» في الأصل يُطلقُ على المكان المرتفع، أمّا كلمة (تعبثون) فمأخوذ من «العبث»، ومعناه العمل بلا هدف صحيح، ومع ملاحظة كلمة (آية) التي تدل على العلامة يتّضح معنى العبارة بجلاء... وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الأُخر مبانيَ عالية للظهور والتفاخر على الآخرين، وهذه المباني [كالأبراج وما شاكلها] لم يكن من روائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين، وإظهار قدرتهم وقوّتهم ـ من خلالها ـ !!

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا التعبير هو المباني والمنازل التي كانت تُبنى على المرتفعات، وكانت مركزاً للهو واللعب، كما هو جار في عصرنا بين الطغاة... فيبدو بعيداً، لأن هذا التعبير لا ينسجم مع كلمتي (الآية) و(العبث).

كما أنّ هناك احتمال ثالث ذكره بعض المفسّرين، وهو أنّ عاداً كانت تبني هذه البنايات للاشراف على الشوارع العامّة، ليستهزئوا منها بالمارة، إلاّ أن التّفسير الأوّل يبدو أكثر صحة من سواه...

وأمّا الأمر الثّالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون).

«المصانع» جمع «مصنع» ومعناه المكان أو البناء المجلّل المحكم، والنّبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائِمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة!... فلم تتخذوا الدنيا على أنها دار ممر، بل اتخذتموها دار مقر دائم لكم...

أجل، إنّ مثل هذه المباني التي تُذهل أهلها، وتجعلهم غافلين عن اليوم الآخر، هي لا شك مذمومة!

و في بعض الرّوايات عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة

[421]

فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه وصنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب به وبالاعراض عنه، فشكى ذلك إلى أصحابه وقال: والله إليّ لأنكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ما أدرى ما حدث فيّ وما صنعت؟

قالوا: خرج رسول الله فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه، فرجع الى قبّته فسواها بالأرض، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ها هنا قالوا: شكى إلينا صاحبها انحراصل عنه فاخبرناه فهدمها فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلاّ ما لابُدّ منه».(1)

ويعرف من هذه الرّواية وما شابهها من الرّوايات نظر الإسلام بجلاء، فكل بناء «طاغوتي» مشيد بالإسراف والبذخ ومستوجب للغفلة... يمقته الإسلام، ويكره للمسلمين أن يبنوا مثل هذه الأبنية التي يبنيها المستكبرون المغرورون الغافلون عن الله، ولا سيما في محيط يسكن فيه المحرومون والمستضعفون...

إلاّ أن ما ينبغي التنويه به، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستعمل القوة للوصول إلى هذا الهدف الإِنساني أبداً، ولم يأمر بتخريب البناء، بل استطاع أن يحقق هدفه برد فعل لطيف كالإِعراض وعدم الإِهتمام بالبناء مثلا!...

ثمّ ينتقد النّبي «هود» قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين).

فمن الممكن أن يعمل الإنسان عملا يستوجب العقوبة، إلاّ أنّه لا يصح تجاوز الحد والإِنحراف عن جادة الحق والعدل عند محاسبته ومعاقبته، وأن يعامل ذو الجرم الصغير معاملة ذي الجرم الكبير... وأن تسفك الدماء عند الغضب ويقع التماصع بالسيف(2)، فذلك ما كان يلجأ إليه الجبابرة والظلمة والطغاة آنئذ...



1 ـ مجمع البيان: ذيل الآية محل البحث، نور الثقلين، ج 4، ص 63.

2 ـ التماصع، التطاحن والقتال. (المصحح)

[422]

ويرى الراغب في المفردات أن «البطش» على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء...

وفي الحقيقة أن هوداً يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة:

الأوّل: علاماتهم التي كانت مظهراً لحبّ الإستعلاء وحب الذات، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم.

ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله، وإن الدنيا دار ممر لا مقر.

وأخيراً فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الإنتقام...

والقدر الجامع بين هذه الأُمور الثلاثة هو الإِحساس بالإِستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعوا الألوهية... فهم باعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة، وهي أن «حب الدنيا رأس كل خطيئة».(1)

والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا الطريق ـ الإِحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله...

وفي هذا الصدد يتبع النّبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث، فيلتفت نحوهم أولا فيقول: (واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون).(2)

وبعد هذا التعبير المُجل يذكر تفصيل نعم الله عليهم، فيقول: (أمدكم بأنعام وبنين)...

فمن جهة وفّر لكم الأُمور المادية، وكان القسم المهم منها ـ خاصّة في ذلك



1 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.

2 ـ (أمدّ)
مأخوذ من «الإمداد»، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم، وحيث أن الله يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضاً...

[423]

العصر ـ الأنعام والمطايا من النياق وغيرها. ومن جهة أخرى وفرّ لكم القوّة الكافية وهي «الأبناء» للحفاظ على الأنعام وتدجينها...

وهذا التعبير تكرر في آيات مختلفة، فعند عدّ النعم المادية تذكر الأموال أولا ثمّ الأبناء ثانياً، وهم الحفظة للأموال ومنمّوها، ويبدو أن هذا ترتيب طبيعي، لا أن الأموال أهم من الأبناء... إذ نقرأ في الآية (6) من سورة الإِسراء... (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً)...

ثمّ يضيف بعد ذلك: (وجنات وعيون).

وهكذا فقد وفر الله لكم سبل الحياة جميعاً، من حيث الأبناء أو القوّة الإِنسانية، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل، بشكل لا يحس الإِنسان معه بأي نقص أو قلق في حياته!.

لكن ما الذي حدث حتى نسيتم واهب هذه النعم جميعاً، وأنتم تجلسون على مائدته ليل نهار، ولا تعرفون قدره؟!

وأخيراً، فإنّ هوداً في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب الله لهم، فيقول: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)...

ذلك اليوم الذي ترون فيه نتائج أعمالكم وظلمكم وغروركم واستكباركم، وحب الذات وترك عبادة الله... ترون كل ذلك بأم أعينكم.

وعادة ـ يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه... إلاّ أنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الأُمم...

كما نقرأ في هذه السورة في قصة «شعيب»، أن قومه بعد أن جحدوه ولم يؤمنوا به وعاندوه واستهزؤوا به، أرسل الله عليهم صاعقة «وكانت قطعة من الغيم» فعاقبهم بها، فسّمي ذلك اليوم باليوم العظيم، كما تقول الآية: (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنّه كان عذاب يوم عظيم).