![]() |
![]() |
![]() |
وواضح أنه مع وجود اُولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه «جزافاً» واعتباطاً..
لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار، وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان جليّاً في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات ـ محل البحث ـ
ونقرأ في الآية (89) من سورة البقرة أيضاً: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به).
وكل هذا شاهد جليّ على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته!...
* * *
وَلَوْ نَزَّلْنَـهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ، عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنينَ(199) كَذَلِكَ سَلَكْنَـهُ فِى قُلُوبِ الُْمجْرِمِينَ (200) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(202) فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)
في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين).
قلنا سابقاً أن كلمة «عربي» قد يراد منها من ينتمي إلى العرب، وقد تطلق على الكلام الفصيح أيضاً. و«عجمي» في مقابل العربي كذلك له معنيان، فقد يُراد منه من ينتمي إلى غير العرب، وقد يراد منه الكلام غير الفصيح، وكلا المعنيين في الآية الآنفة محتمل، إلاّ أن الاحتمال الاكثر هو أن المقصود غير العرب، كما يبدو.
بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة
بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة... وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة!...
ثمّ تضيف الآية لمزيد التأكيد: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين).
في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقة... وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة... والخلاصة... إننا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولا سهلا مطبوعاً إلاّ أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله... فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة.
(التعبير «سلكناه» من مادة (سلوك) ومعناه العبور من الطريق، فيرد فيه من طرف ويخرج من آخر)
ولذلك تقول الآية: (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) أي إن هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب...
واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أن المراد من (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين، بسبب ذنوبهم وجرمهم.
وطبقاً لهذا المعنى فالآية محل البحث تشبه الآية (ختم الله على قلوبهم)(1).
إلاّ أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع الآيات السابقة واللاحقة، لذلك فقد اختاره أغلب المفسّرين.(2)
أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب (فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون).(1)
لا شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتةً، هو عذاب الدنيا والبلاء المهلك وعقاب الإستئصال!...
لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والايمان بالرسالة الالهية: (فيقولوا هل نحن منظرون)...
* * *
لا شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإنّه يعشقها، وهذه العلاقة بالأرض أو القبيلة، ليست غير معيبة فحسب، بل هي عامل بنّاء لأبناء المجتمع، إلاّ أن لهذا الأمر حدوداً، فلو تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب، وربّما إلى عامل مفجع.
والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية، هو الإفراط في التعصب أو العصبية...
«التعصب» و «العصبية» في الأصل من مادة (عصب) ومعناه واضح، وهو الغضروف الذي يربط المفاصل، ثمّ أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط... إلاّ أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين يستعملان عادة في المفهوم الإفراطي المذموم.
إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الأرض والوطن، كان مصدراً لكثير
من الحروب على طول التاريخ، وعاملا على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب وسنن في قبيلة ما أو اُمّة ما! إلى اُمم أُخَر!
هذا الدفاع أو الإنتماء المتطرف، قد يبلغ حداً بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميلا، وأحسن أفراد القبيلة الأُخرى في نظره سيئاً... وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والآداب السيئة والحسنة... وبتعبير آخر: إنّ التعصب القومي يلقي ستاراً من الجهل والأنانية على أفكار الإنسان وعقله، ويلغي التقييم الصحيح!
هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض الاُمم، ومنهم العرب المعروفون بالتعصب.
وقد قرأنا في الآيات الآنفة أنّه لو أنزل الله القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين.
وقد ورد في الرّوايات الإسلامية التحذير من التعصب، على أنّه خُلق مذموم، حتى أنّنا نقرأ حديثاً عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية».(1)
ونقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: «من تعصب أو تُعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه».(2)
ويستفاد من الرّوايات الإسلامية أيضاً، أن إبليس أوّل من تعصب...
يقول الإمام علي(عليه السلام) في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كلاماً بليغاً مؤثراً، ننقل جانباً منه هنا:
«أمّا إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري
وأنت طيني).(1)
ثمّ يضيف الإمام علي في خطبته هذه قائلا: «فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأُمور».(2)
ويتّضح من هذا الحديث ـ بجلاء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق والايجابيات ليس غير مذموماً فحسب، بل بامكانه أن يسدّ فراغاً روحياً قد ينشأ من ترك بعض العادات الجاهلية المقيتة.
لذلك نقرأ عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) حين سئل عن التعصب قوله: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم».(3)
والتعبير الآخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو الآيات هو الحمية (حمية الجاهلية).
وبالرغم من أن الأحاديث في هذا المجال كثيرة، إلاّ أننا نختم بحثنا بحديثين منها:
يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) «إنّ الله يعذب ستةً بست ـ العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل).(4)
وكان رسول الله يتعوذ في كل يوم من ست «من الشكِّ والشرك والحميّة والغضب والبغي والحسد».(5)
من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم، وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا، ويصرخون ويدعون ولات حين مناص...
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد، أكثرها بساطة هذه الآية محل البحث (هل نحن مُنظرون).
أمّا في الآية (27) من سورة الأنعام فنقرأ: (يا ليتنا نُردّ ولا نكذب بآيات ربّنا).
أمّا في الآية (66) سورة الأحزاب فتقول منها: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا).
ونقرأ في الآيتين 99 ـ 100 من سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت).
وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين على حافة النار، كما في الآية 27 من سورة الأنعام، إذ تقول: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)...
إلاّ أن هذه العودة لن تتحقق، لأنّها سنة الله سبحانه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثمّ عادت، ولو سقط الجنين من بطن اُمّه قبل اكتماله، ثمّ عاد الى الرحم... لا مكن أن يعود هؤلاء...
فبناءً على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول، هو التوقّي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من الذنب، والأعمال الصالحة، ما دامت الفرصة سانحة وإلاّ فلا ينفع الندم بعد فوات الأوان!...
جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإِمام الصادق ذيل الآيات محل البحث
أنه قال: «لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب... وقد نزل على العرب فآمنت به العجم، فهذه فضيلة العجم».(1)
«وفي هذا الصدد كانت لنا إشارات ذيل الآية 54 من سورة المائدة».
* * *
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204) أَفَرَءَيْتُ إِن مَّتَّعْنَـهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ(206) مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ(207) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَـلِمِينَ(209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيـطِينُ(210) وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)
حيث أن الآيات المتقدمة ختمت بجملة (هل نحن منظرون) التي يقولُها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم علا أبواب الهلاك، طالبين الإِمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال. فالآيات محل البحث تردُّ عليهم عن طريقين:
الأوّل قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون).
إشارة إلى أنّه طالما استهزأتم أيّها المجرمون، وسخرتم من أنبيائكم، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة... لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون الإمهال
لتعوضوا عمّا فات من الأعمال، وكنتم ترون الأمر لهواً ولعباً في يوم، لكن في اليوم الآخر وجدتموه جديّاً ـ
وعلى كل حال فإنّ سنة الله أن لا يعذب قوماً حتى يُتمّ عليهم الحجّة البالغة... لكن اذا تمّت الحجة، وفسح لهم المجال، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فلا ينفع الإبتهال، والرجوع نحو ساحة ذي الجلال.
والآخر أنّه (أفرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتّعون).
فعلى فرض أنّهم أُمهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) وعلى فرض أن يُعمَّروا سنين طوالا في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور، الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوضون عما فاتهم؟! كلاّ أبداً.. فمن المسلّم أنّهم لا يعوضون عمّا فاتهم. وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئاً عند نزول العذاب؟ وهل تحلَّ مشكلتهم أو تحدث تغييراً في عاقبتهم؟!
كما يَرِدُ هذا الإحتمال في تفسير الآيات الآنفة، وهو أنّهم لا يطلبون الإمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات، بل يطلبون الإمهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا، إلاّ أن هذا التمتع لا يغني عنهم شيئاً، ولا بد أن يرحلوا ـ إن عاجلا وإن آجلا ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية، وأن يواجهوا أعمالهم هناك...
وهنا يثار سؤالٌ ـ وهو أنّه مع الإلتفات إلى أن الله بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟
ثمّ أن الاُمم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، وبمقتضى قوله تعالى: (وما كان أكثرهم مؤمنين) الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!
فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله (وما أهلكنا من قرية إلاّ
لها منذرون) فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجّة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم (ذكرى).(1)
ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من قِبَلِ الله ـ لكان ظلماً منّا (وما كنّا ظالمين).
فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجّة عليهم...
وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» وشبيه لهذه الآية ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء: (وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا).
أجل.. إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل «لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 57 من سورة الإسراء»..
ثمّ يرد القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَلِ اعداء القرآن وهي أن النّبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أن القرآن يؤكّد أن هذه الآيات هي من «تنزيل ربّ العالمين».
فيضيف هنا قائلا: (وما تنزلت به الشياطين).
ثمّ يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء فيقول: (وما ينبغي لهم).
أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه. فالشياطين لا يصدر منهم إلاّ الشر والفساد، وهذا كتاب خير وصلاح، فالدقّة في محتواه تكشف عن أصالته.
ثمّ إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك (وما يستطيعون).
فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين بالشياطين (أو على الأقل كان المشركون يُدّعون بأنّهم مرتبطون بالشياطين) أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بلاغتهم وأفكارهم!...
ومضافاً إلى كل ذلك، فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أنّهم بعد ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انقطعت علاقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و (إنهم عن السمع لمعزوُلون).
ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلاّ أنّه بظهور نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم...
وهذا الأمر كان يعلم به المشركون أنفسهم، وعلى فرض أن المشركين كانوا لا يعلمون، فإن القرآن أخبرهم بذلك.(1)
ولذا فقد جعله القرآن دليلا في الآيات الأنفة لدحض ما يتقوله الأعداء...
وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا الإِتهام من ثلاثة طرق:
1 ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين.
2 ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك.
3 ـ منع الشياطين من إستراق السمع.
* * *
فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـجِدِينَ(219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)
تعقيباً على الأبحاث الواردة في الآيات السابقة في شأن مواقف المشركين من الإسلام والقرآن... فإن الله سبحانه يبيّن لنبيّهِ ـ في الآيات محل البحث ـ منهجه وخطّته في خمسة أوامر، في مواجهة المشركين...
وقبل كل شيء فإن الله يدعو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإعتقاد التام بالتوحيد; التوحيد الذي هو أساس دعوات الأنبياء جميعاً... يقول سبحانه: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين)...
ومع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المقطوع به أنّه ينادي إلى التوحيد ولا يمكن أن
يُتصور انحرافه عن هذا الأصل... إلاّ أنّ أهمية هذه المسألة كانت بحيث أن يكون شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قبل كل شيء ـ مخاطباً بها. ليعرف الآخرون موقفهم... ثمّ إن بناء الآخرين يبدأ من بناء شخصية الإنسان نفسهِ...
ثمّ يأمره الله في مرحلة اُخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائلا: (وأنذر عشيرتك الأقربين).(1)
ولا شكَّ أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الإبتداء من الحلقات الأدنى والأصغر، فما أحسن أن يبدأ النّبي دعوته من أقربائه وأرحامه، لأنّهم يعرفون سوابقه النزيهة أكثر من سواهم كما أن علائق القربى والمودّة تستدعي الاصغاء إلى كلامه أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أبعد من سواهم من حيثُ الحسدُ والحقدُ والمخاصمة!
إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الأمر يدلّ على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس لديه أية مداهنة ولا مساومة مع أحد، ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل!...
وعندما نزلت هذه الآية، قام النّبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وسيأتي تفصيل ذلك كله في حقل البحوث بإذن الله...
أمّا المرحلة الثّالثة، فإنّ الله يوصي النّبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل اتباعك باللطف والمحبة: (واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين).
وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أن الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبّة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق! فكذلك الأمر بالنسبة للنّبي إذ أُمرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين.
وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبيّن دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين، ويمكن إدراكها بأدنى التفاتة!...
وذكر هذه الجملة ـ ضمناً ـ بعد مسألة الإنذار يكشف عن هذه الحقيقة، وهي إذا كان التعويل على الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية، فإنّه وبلا فاصلة يأتي التعويل على المحبّة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب...
ثمّ تأتي المرحلة الرّابعة وهي أن الاعداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: (فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون)... ليعرفوا موقفك منهم!
والظاهر أنّ الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأقربين... أيْ إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم، وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعلا، كما سنذكر ذلك في البحوث القادمة، إذ امتنع الجميع عن قبول دعوة النّبي ما عدا علياً(عليه السلام)... فبعضهم لاذ بالصمت، وبعضهم أبدى مخالفته عن طريق الإستهزاء والسخرية...
وأخيراً فالأمر الالهي الخامس للنّبي لإكمال مناهجه السابقة، هو: (وتوكّل على العزيز الرحيم).
فلا تدع لعنادهم مجالا للتأثير على عزيمتك... ولا لقلّة الأعوان والانصار طريقاً لتوهين ارادتك، فلست وحدك... وسندك وملاذك هو الله القادر العزيز الذي لا يقهر، والرحيم الذي لاحدّ لرحمته...
الله الذي سمعت وصفه في ختام قصص الأنبياء بالعزيز الرحيم!...
الله الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود، وتمرّد قوم نوح، وأنانية قوم هود، واتباع الشهوات لقوم لوط. وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا قلّة، وشملهم برحمته الواسعة.
ذلك الله (الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين).
أجل (إنه هو السميع العليم)...
وهكذا تذكر الآيات ثلاث صفات لله بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكلّ منها يمنح الأمل ويشدّ من عزم النّبي على مواصلة طريقةِ، إذ أن الله يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناتهِ، وقيامه وسجوده وركعاته!...
ذلك الله الذي يسمع صوته.
الله الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته...
أجل، فعلى هذا الإله توكل، وأركن إليه أبداً.
* * *
بين المفسّرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين).
وظاهر الآية هو ما ذكرناه آنفاً، أن الله يرى قيامك وانتقالك وحركتك بين الساجدين.
وهذا القيام يمكن أن يكون قياماً للصلاة، أو القيام للعبادة من النوم، أو القيام للصلاة فرادى، وفي مقام تقلبك في الساجدين... الذي يشير إلى صلاة الجماعة.
«التقلب» معناه الحركة والإنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبيِّ بين الساجدين في أثناء الصلاة، أو إلى حركة النّبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان يتابع أحوالهم ويسأل عنهم...
وفي المجموع فإنّ هذا التعبير إشارة إلى أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيءٌ من حالاتك وسعيك، سواءً كانت شخصيّة فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير اُمور العباد ولنشر مبدأ الحق مع الالتفات الى اَن الأفعال الواردة
في الآية مضارعة وفيها معنى الحال والإستقبال».
وهنا تفسيران آخران ذكرا في معنى الآية، إلاّ أنّهما لا ينسجمان مع ظاهرها، ولعلهما من بطون الآية:
الأوّل: أنّ المراد من الآية رؤية النّبي ونظره إلى المصلين والساجدين خلفه، لأنّه كما يرى من أمامه يرى من خلفه كما ورد في الحديث: «لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي، فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي»(1) ثمّ تلا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الآية آنفة الذكر.
الثّاني: أنّ المراد منه أنّ انتقال في أصلاب النبيّين من لدن آدم حتى أبيه عبد الله، كلّه تحت نظر الله سبحانه، أي حين تنتقل نطفتك المباركة من نبيّ موحد ساجد إلى ساجد آخر فإن الله عليم بذلك...
وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير (وتقلبك في الساجدين) ما يشير إلى هذا المعنى، قال(عليه السلام): «في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم».(2)
وفي تفسير مجمع البيان في توضيح هذه الجملة جاء عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) ما يلي: «في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ، حتى أخرجه من صلب أبيه، عن نكاح غير سفاح من لدن آدم».(3)
وبالطبع فإنّه بقطع النظر عن الآيات آنفة الذكر وتفسيراتها، فإن الدلائل المتوفرة تدلّ على أن والد النّبي وأجداده لم يكونوا مشركين أبداً، وولدوا في محيط منزّه عن الشرك والدنس «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية، 74 من سورة الأنعام» إلاّ أن التفاسير الآنفة هي من بطون الآية...
وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، أُمر النّبي في السنة الثّالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، لأنّ دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية «سريّة»، وكان الذين دخلوا في الإِسلام عدداً قليلا، لذلك حين نزلت الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) والآية (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين)(1) أمر النّبي أن يجعل دعوته علنية، وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه(2).
وأمّا كيفية إبلاغه وإنذاره إيّاهم، فهو بإجمال أنّه دعا النبيّ «عشيرته» إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلا، وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس، وبعد أن تناولوا الطعام، وأراد النّبي أن يؤدي ما عليه، تكلم أبولهب كلمات أحبط بها خطة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا فقد دعاهم النّبي في اليوم التالي أيضاً.
وبعد أن تناولوا الطعام، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة... وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: «يا نبيّ الله، أنا أكون وزيرك عليه»، فأخذ رسول الله برقبته، وقال: «إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع.(3)
وقد نقل هذا الحديث كثير من أهل السنة كابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والثعلبي، كما نقله «ابن الأثير» في
الجزء الثّاني من كتابه «الكامل»، وأبو الفداء في الجزء الأوّل من تأريخه، وجماعة آخرون.(1)
وهذا الحديث يوضع لنا كيف كان النّبي وحيداً حينذاك، وكيف ردّوا عليه دعوته بالسخرية والإستهزاء، وكيف وقف علي(عليه السلام) إلى جانب النّبي في وحدته ناصراً ومعيناً...
وفي حديث آخر أن النّبي دعا قريشاً واحداً واحداً وحذرهم من النار فقال: «يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار».
![]() |
![]() |
![]() |