![]() |
![]() |
![]() |
في الواقع، إنّهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الرّسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّلا بالإِفتراء والكذب، خاصّة وأنّهم قد استخدموا لفظة «هذا» ليحقروا القرآن.
ثمّ من أجل أن يثبتوا أنّه غير قادر على الإِتيان بمثل هذا الكلام ـ لأنّ الإِتيان بمثل هذا الكلام المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة، وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن يقولوا أيضاً: إنّ هذا خطّة مدبرة ومحسوبة، قالوا: إنّه لم يكن وحده في هذا العمل، بل أعانه قوم آخرون، وهذه مؤامرة بالتأكيد، ويجب الوقوف بوجهها.
بعض المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بـ (قوم آخرون) جماعة من اليهود.
وقال آخرون: إنّ المقصود بذلك ثلاثة نفر كانوا من أهل الكتاب، وهم: «عداس» و «يسار» و «حبر» أو «جبر».
على أية حال ـ بما أنّ هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مكّة، وإنّ قسماً منها مثل قصص الأنبياء الأولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه الآيات.
لكن القرآن يردُّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً).(1)
«الظلم» هنا لأنّ رجلا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اتّهموه بالكذب والإِفتراء على الله، وبالإِشتراك مع جماعة من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضاً.
و «الزور» هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم عدّة مرات إلى الإِتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.
وهذا بالذات يدل على أن هذه الآيات ليست من صنع عقل البشر، لأنّ الأمر لو كان كذلك، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها. ومن هنا فإنّ عجزهم دليل على كذبهم، وكذبهم دليل على ظلمهم.
لهذا فالجملة، القصيرة (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.
كلمة «زور» في الأصل من «زَور» (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثمّ أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أن «الكذب» انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد، سمّوه «زوراً».
تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها).
لا شيء عنده من قبل نفسه، لا علم ولا ابتكار، فكيف له بالنّبوة والوحي! إنّه استعان بآخرين، فجمع عدّة من الأساطير القديمة، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).
إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلُّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.
هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح للإِتهامات التي نقلت عنهم في الآية السابقة. إنّهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف:
أوّلها: أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقاً، بل مجموعة من الأساطير القديمة.
و الثّانية: أنَّ نبي الإِسلام لا يستطيع الإستمرار بدعوته ـ حتى يوماً واحداً ـ بدون مساعدة الآخرين، فلابدّ أن يُملوا الموضوعات عليه بكرة وعشياً، وعليه أن
يكتبها.
والأُخرى: أنّه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال: إنّني اُمّي، فهي دعوى كاذبة.
إنّهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة هذه الأكاذيب والإتهامات، في الوقت الذي يعلم كل العقلاء الذين عاشوا مدّة في ذلك المجتمع، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد درس عند أحد، مضافاً إلى أنّه لم تكن له أية رابطة مع جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من الآخرين كل يوم بكرة وعشياً، فكيف أمكن أن يخفى على أحد؟ فضلا عن هذا، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر، بين الناس ومنفرداً، وفي كل حال.
مضافاً إلى كل هذا، كان القرآن مجموعة من التعليمات الإِعتقادية، والأحكام العملية، والقوانين، ومجموعة من قصص الأنبياء، ولم تكن قصص الأنبياء لتشكل كل القرآن، مضافاً إلى أنّ ما ورد من قصص الأقوام الأولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين (التوراة والإِنجيل) المحرفين، وأساطير العرب الخرافية، لذلك لأنّ ما في العهدين مليء بالخرافات، والقرآن منزّه عنها، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنباً إلى جنب، وقايسنا بينهما، فسوف تتجلى حقيقة الأمر جيداً.(1)
لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإِتهامات الواهية، فتقول: (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب، والأسرار، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأولين، والقوانين والإِحتياجات البشريه، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية،
تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك. بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شيء علماً.
لكن مع كل هذا، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية (إنّه كان غفوراً رحيماً).
فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإِيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.
* * *
وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ االطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاَْسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(7) أَوْيُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْتَكوُنُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّـلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُوراً(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمثَـلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا(9) تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا(10)
في رواية عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام)، أنّه قال: قلت لأبي علي بن محمد(عليهما السلام): هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول الله كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبدالله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد أدّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين
وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي، فقال رسول الله: اللّهمّ أنت السامع لكل صوت، والعالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه: يا محمد: (وقالوا ما لهذا الرّسول...)إلى قوله تعالى (و يجعل لك قصوراً).(1)
عُرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد، وأجيب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويجاب عنها، فيقول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق).
ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإِلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع!
لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.
ثمّ أضافوا: (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً)، فلِمَ لم يُرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس!؟
حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال!؟ (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة
يأكل منها).
ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً). ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم!
من مجموع الآيات أعلاه، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة.
أوّلا: إنّه أساساً يجب أن يكون ملكاً، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكاً بالضرورة.
ثمّ قالوا: حسن جدّاً، إن لم يكن ملكاً، فيرسل اللّه ـ على الأقل ـ ملكاً يرافقه ويعينه.
ثمّ تنازلوا عن هذا أيضاً، فقالوا: لنفرض أن رسول الله بشر، فينبغي أن يُلقى إليه كنز من السماء، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله.
وقالوا في نهاية المطاف: لنفرض أنه لم يكن له أىٌّ من تلك الميزات، فينبغي على الأقل ألا يكون إنساناً فقيراً، فليكن كأي مزارع مرفه، له بستان يضمن منه معيشته. لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف، ويقول إنّني نبيّ!؟
واستنتجوا في الختام، أنّ ادعاءة الكبير هذا، في مثل هذه الشرائط، دليلٌ على أن ليس له عقل سليم.
الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).
هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة.
حقّاً، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي.
و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، لأن:
أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الانسان تماماً، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الإِهتمام بالدنيا: إنّه ملك، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات (إذا) مثل تلك.
ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!
ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر، والغوص في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.
رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ و حتى القرب من الله ـ في الأثرياء خاصّة، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان.
خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحوراً» أو «مجنوناً»؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم
الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!
إتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً.(1)
و ينبغي أيضاً الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهي أنّ أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتهمونه ـ بـ «الساحر» وأحياناً بـ «المسحور» وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور» بمعنى «الساحر» (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً.
عندما يقال عنه بأنّه ساحر، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ «الساحر».
أمّا «المسحور» فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختلال حواسه، هذا الإِتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.
أمّا جواب جميع هذه الإِتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه
و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنّه لماذا قال تعالى: (فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا).
الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما، إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه، أمّا من يتخذ موقفه ـ ابتداءً ـ على أساس أحكام
مسبّقة خاطئة ومضلّة، نابعة من الجهل والتزمت والعناد، فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً.
الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على سبيل تحقير مقولات أُولئك، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها، يقول تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).
و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!
لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس.
أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن «الكنز» وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.
ورد في «الخطبة القاصعه» من «نهج البلاغة» بيان معبر وبليغ: هنالك حيث يقول الإِمام(عليه السلام):
«... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال
الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذىً.
و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل».(1)
و الجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور، جنّة الآخرة قصورها، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(2)
* * *
بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَاَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)إِذا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِ بَعيد سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(12) وَإِذَآ أُلْقُوأ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَواْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لاَّ تَدْعُواْ الْيَوَمَ ثُبُوراً وَحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً(14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً(15) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـلِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولا(16)
في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والإِنحراف في تمام أصول الدين، في التوحيد، وفي النبوة، وفي المعاد، حيث ورد القسمان
الأولان منه في الآيات السابقة، ونقرأ الآن القسم الثالث:
يقول تعالى أوّلا: (بل كذبوا بالساعة).
وبما أنّ كلمة «بل» تستعمل لأجل «الإِضراب» فيكون المعنى: أن ما يقوله أُولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد، ذلك أنه إذا آمن الانسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإِلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإِستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزينّها بيده.
لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الإِستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا: (واعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً).(1)
ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).
في هذه الآية، تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإِلهي:
1 ـ إنّه لا يقول: إنّهم يرون نار جهنم من بعيد، بل يقول: إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عيناً وأُذناً ـ فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين.
2 ـ إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها، حتى تهيج، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة.. من مسافة مسيرة عام، طبقاً لبعض الروايات.
3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ «التغيظ» وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإِنسان عن غضبه بالصراخ والعويل.
4 ـ إن لجهنم «زفيراً» يعني كما ينفث الإِنسان النفس من الصدر بقوة، وهذا
عادة في الحالة التي يكون الإِنسان مغضباً جداً.
مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير بالله».
هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: (وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً).(1)
هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة، فإنّه طبقاً للآية (30) من سورة ق (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) فهي مكان واسع، لكن أُولئك يُحصَرون مكاناً ضيقاَ في هذا المكان الواسع، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».(2)
كما أن كلمة «ثبور» في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد»، فحينما يجد الإِنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي مفهومها ليقع الموت عليّ».
لكنّهم يجابون عاجلا (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).
على أية حال، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.
هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى (أصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون).
مَن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء.
وأمّا لماذا يقال لهم هنا: (لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً)؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتاً فينتهي بقول (واثبورا) واحداً، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة، علاوة على أنّ العقوبات الإِلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة، فتعلوا أصواتهم بـ (واثبورا)، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا.
ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويأمره أن يدعو أُولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: (قل أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً).
تلك الجنّة التي (لهم فيها ما يشاؤون).
تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبداً (خالدين).
أجل، إنّه وعد الله الذي اُخذه على نفسه: (كان على ربّك وعداً مسؤولا).
هذا السؤال، وطلب هذه المقايسة، ليس لأن أحداً لديه شك في هذا الأمر، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد، وعلى مفترق طريقين:
فإذا قالوا في الجواب: إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهو ما سيقولونه حتماً) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك. وإذا قالوا: إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شاباً ترك المدرسة والجامعة بقولنا: اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟
* * *
1 ـ ينبغي الإِلتفات أوّلا إلى هذه النكتة، وهي الايات الكريمة وصفت الجنّة بالخلود تارةً وصفة لأهل الجنّة تارةً أُخرى، ليكون تأكيداً على هذه الحقيقة، وهي كما أن الجنة خالدة، فكذلك ساكنوها.
2 ـ قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) جاءت في مقابل حال الجهنميين في الآية (54) من سورة سبأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).
3 ـ التعبير بـ «مصير» بعد كلمة «جزاء» بالنسبة إلى الجنّة، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء، وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النّار، حيث ورد في الآيات السابقة أنّهم يلقون في مكان ضيق محدود مقرنين بالأصفاد.
4 ـ قوله تعالى (كان على ربك وعداً مسؤولا) إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنّة وجميع نعمها، فهم السائلون، والله «المسؤول منه» كما نقرأ قول المؤمنين في الآية (194) من سورة آل عمران (ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك...)، لسان حال جميع المؤمنين أيضاً، إنّهم يطلبون هذا الطلب من الله، لأن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى أن يطلب ذلك.
والملائكة كذلك يسألون الله الجنّة والخلود للمؤمنين، كما نقرأ في الآية (8) من سورة المؤمن: (ربّنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم...).
و يوجد هنا تفسير آخر، وهو أنّ كلمة (مسؤولا) تأكيد على هذا الوعد الإِلهي، الحتمي، يعني أنّ هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أنّ المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به، وهذا يشبه ما إذا أعطينا وعداً لأحد، وأعطيناه ـ في الضمن ـ الحقَ في أن يطالبنا به.
قطعاً لا يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ (مسؤولا).
5 ـ بالإِلتفات إلى قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) ينشأ لدى البعض هذه
السؤال: إذا أخذنا في الإِعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة، فنتيجة هذا أن أهل الجنّة إذا أرادوا مقام الأنبياء والأولياء يعطى لهم، مثلا، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم، يعطون سؤلهم، وما سوى هذه الرغبات؟!
و يتّضح الجواب مع الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهو أنّ الحجب تزول عن أعين أهل الجنّة فيدركون الحقائق جيداً، ويتّضح تناسبها في نظرهم كاملا، إنّهم لا يخطر ببالهم أبداً أن يطلبوا من الله طلبات كهذه، وهذا يشبه تماماً أن نطلب في الدنيا من طفل في الإِبتدائية أن يكون اُستاذاً في الجامعة، أو أن يكون لصٌ مجرم قاضيَ محكمة... ترى هل تخطر مثل هذه الأُمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟ وفي الجنّة أيضاً كذلك، فضلا عن هذا فإنّ كلَّ إرادتهم في طول إرادة الله، وإنَّ ما يريدونه هو ما يريده الله.
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقوُلُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَـؤُلآءِ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ(17) قَالُواْ سُبحَـنَكَ مَا كاَنَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابِآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكانُواْ قَوْمَا بُوراً(18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقوُلوُنَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً ولاَنَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً(19)
![]() |
![]() |
![]() |