![]() |
![]() |
![]() |
وطبيعي أنّ المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الأُصول، لأنّ الأطفال لم يبلغوا بعد سنّ التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية.
كما أنّ عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات، وكلمة «ألَّذين» التي هي لجمع المذكر السالم، لا تمنع أن يكون مفهوم الآية عاماً، لأنّ هذه العبارة
استعملتْ في كثير من الموارد وقصد بها المجموع، كما في آية وجوب الصوم، فلفظ «ألَّذين» هناك يَعُمُّ المسلمين كافةً (سورة البقرة الآية 83).
ولابدّ من القول بأنّ هذه الآية تتحدّث عن أطفال مميزّين يعرفون القضايا الجنسية، ويعلمون ماذا تعني العورة. لهذا أمرتهم بالإستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين، وهم يدركون سبب هذا الإستئذان، وجاءت عبارة «ثلاث عورات» شاهداً آخراً على هذا المعنى ولكن هل أن الحكم المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل الأماء والجواري، هناك أحاديثٌ مختلفةٌ في هذا المجال، ويمكن ترجيح الأحاديث التي تؤيد ظاهر الآية، أي شمولها الغلمان والجواري.
وتختتم الآية بالقول: (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض) فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، أجل: (كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
كلمة (طوافون) مشتقة من «الطواف» بمعنى الدوران حول شيء ما، وقد جاءت بصيغة مبالغة لتأكيد تعدد الطواف.
وبما أنّ عبارة (بعضكم على بعض) جاءت بعد كلمة (طوافون) فإنّ مفهوم الجملة يكون: إنهُ مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه الأوقات الثلاثة، ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم ويخدم بعضكم بعضاً.
وكما قال «الفاضل المقداد» في كنز العرفان، فإنّ هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة الإستئذان في غير هذه الأوقات، لأنّ المسألة تتعقد إن رغبتم في الإستئذان كلّ مرّة(1).
وبيّنت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث تقول: (وإذا بلغ الأطفال
منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم).
وكلمة «الحلم» على وزن «كتب» بمعنى العقل والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأماً لِطفرة عقلية وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.
وقيل أنّ الحلم بمعنى الرؤيا، فهي كناية عن احتلام الشباب حين البلوغ.
وعلى كلّ حال يستفاد من الآية السابقة، أنّ الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين، لأنّ أولئك يجب عليهم إستئذانُ الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط، لأنّ حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيلُ بها الإستئذانُ كلّ مرة، وكما أنّهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد. أمّا الشباب البالغ، فهم مكلّفون في جميع الأوقات بالإستئذان حين الدخول على الوالدين.
ويَخصُّ هذا الحكم المكان المخصَّص لاستراحهِ الوالدين. أمّا إذا كان في غرفة عامّة يجلس فيها آخرون أيضاً، فلا حاجة للإستئذان منهما بالدخول.
والجدير بالذكر إنّ عبارة (كما استأذن الذين من قبلهم) إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما. وقد أردفتِ الآيةُ الشباب الذين بلغوا الرشد بهؤلاء، الكبار.
وتقول الآية في الختام للتأكيد والإهتمام الفائق: (كذلك يبيّن الله لكم آياته والله عليم حكيم).
وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر الآية السابقة دون تغيير، باستثناء استعمال الآية السابقة كلمة «الآيات» وهذه استعملت كلمة «آياته» ولا فرق في معناهما.
وسنتناول بحث ميزات هذا الحكم، وكذلك فلسفته في ذيل تفسير هذه الآيات.
وفي آخر الآيات ـ موضع البحث ـ استثناء لحكم الحجاب، حيث استثنت النساء العجائز والمسنّات من هذا الحكم، فقال: (والقواعد من النساء اللاتي لا
يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة).
ولهذا الإستثناء شرطان:
أولهما: وصول هذه العجائز إلى عمر لا يتوقع أن يتزوجن فيه، أو بعبارة أُخرى: أن يفقدن كلّ جاذبية أُنثوية.
وثانيهما: ألا يتزيَّن بزينة بعد رفع حجابهنّ، ويتّضح بذلك أنّه لا ضير في رفع الحجاب بعد إجراء هذين الشرطين. ولهذا استثناهنّ الإسلام من حكم الحجاب.
كما أنّ ـ من الواضح ـ أنّه لا يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع الملابس كلها والتعريّ، بل خلع اللباس الفوقاني فقط. وكما عبّرت عنه بعض الأحاديث بالجلباب والخمار.
وجاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في شرح هذه الآية: «الخمار والجلباب»، قلت: بين يدي من كان؟ قال: «بين يدي من كان غير متبرجة بزينة».(1)
كما وردت أحاديث أُخرى عن أهل البيت(عليهم السلام) بهذا المضمون أو ما يقاربه(2).
وتضيف الآية في ختامها (وإن يستعففن خير لهن).
فالإسلام يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفّة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن الإستفادة من هذه الحرية، ويتحدثن أو يتصرفن بأُسلوب لا يليق بشرفهنّ، تقول الآية محذرة إيّاهن: (والله سميع عليم) كلّما تقولونه يسمعه الله، وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه الله أيضاً.
* * *
لا يكفي اللجوء إلى القوة لاقتلاع جذور المفاسد الإجتماعية كالأعمال المخلة بالشرف، ولا يرجى نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الإجتماعية. وإنّما يستوجب اتباع عدة أُمور كالتثقيف الإسلامي، وتعليم آدابه الخلقية، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية. وإلى جانب هذه الأُمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي.
ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد الرجال الزناة والنساء الزانيات، كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب الإسلامي، والنهي عن النظر بلذة وتحريم إتهام الآخرين بشرفهم وناموسهم، وأخيراً استئذان الأبناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين.
وهذا يدلّ على عدم إغفال الإسلام أي من هذه التفاصيل التي لها علاقة بمسألة العفاف والشرف.
وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخاصّة اللذين يخدمانهما، كذلك يستوجب على الأطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان، وتعليم الأطفال غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالوالدين، أن لا يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان وعلى الأقل في الأوقات الثلاثة التي أشارت إليها الآية «قبل صلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد صلوة العشاء».
وهذا نوع من الأدب الإسلامي، رغم قلّة الالتزام به مع كلّ الأسف. ورغم بيان القرآن ذلك بصراحة في الآيات السابقة. فإنّه من النادر أن يتناوله الخطباء
والكتّاب، ولا يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟!
ورغم أنّ ظاهر الآية يوجب هذا الحكم، وحتى لو اعتبرناه مستحباً فإنّه ينبغي الحديث عنه، وبحث جزئياته. ورغم تصور بعض السذج بأن الأطفال لا يدركون شيئاً عن هذه الأُمور، وأن خدم البيت لا يهتمون بها، فإنّ الثابت هو حساسية الأطفال بالنسبة لهذه القضية (فكيف بالنسبة للكبار). وقد يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الأطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقياً وأحياناً إلى إصابتهم بأمراض نفسية.
وقد واجهنا أشخاصاً اعترفوا بأنّهم اثيروا جنسياً، أو أُصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا القبيل وقد شبّت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين، إلى درجة الرغبة في قتلهما، أو الانتحار. كلّ ذلك بسبب الأثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين، وعدم حيطتهم حين الممارسة الجنسية أومقدماتها.
هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم الإسلامي الذي بلغه العلماء المعاصرون، بينما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً. وهنا نجد لزاماً علينا توصية الآباء والأُمهات بالجدية في الحياة الزوجية، وتعليم أولادهم الإستئذان حين الدخول إلى غرفتهما، واجتناب كلّ عمل قد يثير الأولاد ويحركهم. ومن هذه الأعمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولاد بالغون، فيجب اجتناب ذلك بالقدر الممكن. وأن يعلما بأنّ هذه الأُمور تؤثّر بشكل كبير في مستقبل أولادهما.
وممّا يلفت النظر حديث للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه «إيّاكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما»(1).
لاخلاف في أصل هذا الإستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين، لأنّ القرآن صريح في هذا الأمر. إلاّ أنّ هناك أقوالا في خصوصيات هذا الحكم.
فبالنسبة لعمر هؤلاء النسوة، والحد الذي يجب أن يبلغنه ليكنَّ من القواعد، هناك أقوال. فبعض الأحاديث الإسلامية تنص على أنّ المراد هو «المسنّة».(1)
بينما فسرته أحاديث أخرى بـ «القعُود عن النكاح»(2).
ولكن عدد من المفسّرين يرى أنّها تعني «النساء اللواتي لا يطمئن، فيصلن إلى مرحلة عدم الحمل. ولا يرغب أحد في الزواج بهنّ»(3).
ويبدو أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد، هو بلوغهن سناً لا يتزوجن عادة. وقد يحدث نادراً أن يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر.
كما جاءت تعابير مختلفة في الأحاديث الإسلامية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه، لأنّ القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام (فليس عليهن جناح أن يَضَعْنَ ثيابهن غير متبرجات) ويقصد بهذه الثياب الملابس الفوقانية.
وجاء في بعض الأحاديث جواباً على سؤال: أي الثياب يجوز وضعها؟
يجيب الإمام الصادق(عليه السلام) «الجلباب» (4).
بينما ذكر حديث آخر أنه «الجلباب والخمار»(5).
ويبدو أنّ هذه الأحاديث غير متناقضة، وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن، وعدم تغطية الشعر والرقبة والوجه. كما قالت أحاديث أُخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول الإستثناء إلى حدّ الرسغ. ولا سند لدينا يسمح بأكثر من ذلك.
وعلى كلّ حال، فإنّ ذلك مسموح لهنّ بشرط أن يكنّ (غير متبرجات بزينة)وأن يخفين الزينة التي تحت الحجاب، والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع النساء، وأن لا يرتدين الملابس التي تنزين بها النساء، والتي تثير انتباه الآخرين. وبتعبير آخر: إنّه مسموح لهنّ بعدم التحجب على أن يخرجن إلى الشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة.
وهذا كلّه ليس حكماً إلزامياً. إذ أنّ الأفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء الأُخريات، كما جاء في آخر الآية المذكورة، إذ هنّ معرضات إلى الزلل ـ وإن كان نادراً.
* * *
لَيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلى الاَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَـتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَتِكُم أَوْ بُيُوتِ أَعْمَـمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّـتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَـلَـتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةْ مِّن عِندِ اللهِ مَبَـرِكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الاَْيَـتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61)
تحدثت الآيات السابقة عن الإستئذان في أوقات معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والأُم.
أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم، حيث يجوز للبعض
وبشروط معينة، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم، وحتّى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان، حيث تقول هذه الآية أولا (ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
لأنّ أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث ـ وقبل قبولهم الإسلام، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم، ويتنفّرون من هذا العمل.
وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلامها، تفرد لمثل هؤلاء موائد خاصّة، ليس لاحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة، وإنّما لأسباب إنسانية، فالأعمى قد لا يرى الغذاء الجيد في المائدة، وهم يرونه، ويأكلونه، وهذا خلاف الخلق السليم، وكذلك الأمر بالنسبة للأعرج والمريض، حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء، وتقدم السالمين عليهما. ولهذا كلّه لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة. ولهذا كان الأعمى والأعرج والمريض يسحب نفسه حتى لا يزعج الآخرين بشيء. ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنباً إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة.
وقد استفسر من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الموضوع، فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.(1)
وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلاث من حكم الجهاد، أو أنّ القصد أنّه مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الأحد عشر بيتاً التي أشارت إليها الآية في آخرها، ليشاركوكم في غذائكم.
إلاّ أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصد الآية، ولا ينسجمان مع
ظاهرها. (فتأملوا جيداً).
ثمّ يضيف القرآن المجيد (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم).
والمقصود بعبارة بيوتكم الأبناء أو الزوجات.
(أو بيوت آبائكم).
(أو بيوت أمهاتكم).
(أو بيوت إخوانكم).
(أو بيوت إخواتكم).
(أو بيوت أعمامكم).
(أو بيوت عماتكم).
(أو بيوت أخوالكم).
(أو بيوت خالاتكم).
(أو ما ملكتم مفاتحه).
(أو صديقكم).
بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.
ثمّ تضيف الآية (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً).
ذكر أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الأكل منفردين، بل كانوا يبقون جياعاً لمدّة حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم، فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية أو فردية.(1)
ويرى البعض: إنّ مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احتراماً له، ولا يشاركونه الغذاء (حتى لا يخجل أثناء تناوله الطعام).
لقد رفعت الآية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة(1)
وقال آخرون: إنّ البعض كان يرى عدم جواز تناول الأغنياء الغذاء مع الفقراء، والمحافظة على الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام. لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطىء والظالم بذكره العبارة السابقة.(2)
ولا مانع من احتواء الآية السابقة لكلّ هذه المعاني.
ثمّ تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول: (وإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) واختتمت بهذه العبارة (كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تعقلون).
وقال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من عبارة «بيوتاً» في هذه الآية، هي البيوت الأحد عشرة المذكورة سابقاً.
وقال آخرون: إنّها المساجد.
ولكن بيدو أنها عامّة، تشمل جميع البيوت، سواء الأحد عشر بيتاً التي يجوز للمرء الأكل فيها، أو غيرها كبيوت الأصدقاء والأقرباء. حيث لا يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الآية.
ولكن ما هو المقصود من عبارة (سلّموا على أنفسكم)؟
نجد هنا عدداً من التفاسير: حيث يرى البعض من المفسّرين أنّه سلام البعض على البعض، مثلما جاء في قصّة بني إسرائيل (سورة البقرة الآية 54) (فاقتلوا أنفسكم).
ورأى آخرون أنّه يعني السلام على الزوجة والأبناء والأهل، حيث هم بمنزلة النفس، لهذا استخدمت الآية تعبير «الأنفس»، كما جاء هذا التعبير أيضاً في آية المباهلة (سورة آل عمران الآية 61). وهذا يبيّن لنا أن قرب الشخص من
الآخر قد يصل إلى درجة أنّه يكون كنفسه، أي يكونان كنفس واحدة، مثلما كان عليّ(عليه السلام) من الرّسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد، حيث يحيي المرء نفسه عند دخولها فيقول: السّلام عليكم من قبل ربّنا. أو: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ونرى عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير. حيث يجب السلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض، ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر. وأمّا إذا لم يجد أحداً في المنزل فيحيي المرءُ نفسه، حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته.
لهذا نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) يجيب فيه على سؤال يخصّ تفسير هذه الآية فيقول: «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم».(1)
وفي حديث عن الباقر(عليه السلام) أيضاً، يقول فيه: «إذا دخل الرجل منكم بيته فإنّ كان فيه فليسلم عليه، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول الله عزَّوجلّ «تحيّة من عند الله مباركة طيبة»(2).
* * *
كما شاهدنا في الآية السابقة، أنّ الله تعالى سمح أن يأكل الإنسان في بيوت أقربائه المُقرّبين وبعض الأصدقاء وأمثالهم، وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتاً. ولم تشترط الآية استئذانهم لتناول الطعام، ولا شك في عدم وجوب
الاستئذان. إذ أنّ بوجود الإذن بالأكل يمكن تناول الغذاء العائد لأي شخص، وبذلك لا تبقى ميزة لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتاً.
فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء «وكما يقال من شاهد الحال». بسبب الصلة الوثيقة بين الطرفين إن ظاهر اطلاق الآية ينفي هذا الشرط، إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة يحصل الرضى.
أمّا إذا كانت الحالة تؤكّد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه، فبالرغم من اطلاق الآية وشمولها لهذا المورد أيضاً، إلاّ أنّه لا يبعد إنصراف الآية عن هذا المورد، وخاصّة أنّ مثل هذا المورد نادر الوقوع، ومن المعلوم أنّ الإطلاقات لا تشمل الأفراد النادرة.
وعلى هذا فإنّ الآية المذكورة تخصص الآيات والرّوايات التي تشترط في التصرف بأموال الآخرين احراز رضاهم في دائرة محدودة. وتكرر القول بأن هذا التخصيص. في نطاق محدد، أي تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناولا بعيداً عن الإسراف.
والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا. وجاء بعضه بصراحة في الأحاديث الإسلامية، حيث ذكر رواية معتبرة عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال عند الإستفسار منه عبارة «أو صديقكم» الوارد في هذه الآية قال(عليه السلام): «هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه»(1).
كما ذكرت أحاديث أُخرى بهذا المضمون، أكّدت أنّه لا يشترط الإستئذان في هذه الحالات. (وبالطبع لا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدمِ جواز الأكل من غذاء الآخرين دون استئذان، الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي. لهذا أهملت الآية السابقة ذكرهُ).
وحول عبارتي «عدم الإفساد» و«عدم الإسراف» فقد صرحت بعض الأحاديث بذلك أيضاً(1).
ولا بد من الإشارة إلى أنّه ورد حديث في هذا الباب يقول بأنّه يمكن الإستفادة فقط من غذاء خاص وليس أيّ غذاء، إلاّ أنّ الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده.
واستثنى بعض المفسّرين الأطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه، أو لضيوفه المقربين، أو لمناسبات خاصّة. وهذا الإستثناء غير بعيد، بسبب انصراف الآية عنه(2).
يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤلا بالمقارنة مع الأحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم الغصب، هو: كيف سمح الإسلام بذلك، رغم تشديده في قضية التصرف بأموال الآخرين؟!
إنّنا نرى أنّ هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تماماً، كالمجتمع الغربي، حيث يطرد الأبناء من المنزل حين البلوغ! ولا يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة! حيث نشاهد الأبناء هناك، لا يثمنون أتعاب الوالدين ولا يشفقون عليهما، بسبب تسلط التفكير المادي على العلاقات الإجتماعية في الغرب! ولا خبر هناك عن العاطفة الإنسانية والشفقة!
إلاّ أنّ التعاليم الإسلامية والعواطف الإنسانية التي تمتد جذورها في المجتمع الإسلامي، خاصّة بين الأهل والأقرباء والأصدقاء، قد ميّزت المجتمع الإسلامي عن المجتمع الغربي.
والواقع أنّ الإسلام جعل علاقات الأقرباء والأصدقاء أسمى من الأُمور المادية، وهذا يعكسه الصفاء والود اللذان يسودان المجتمع الإسلامي الحقيقي، حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن الصفات غير المحمودة كالبخل وحب الذات.
ولا ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة. ولكن الإسلام في داخل هذه الدائرة يفضل القضايا العاطفية والروابط الإنسانية، فهي التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الأقرباء والأصدقاء جميعاً.
لا شك أنّ للصداقة مفهوماً واسعاً، وهي تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة، وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر، ولا حاجة هنا ـ كما أسلفنا ـ إلى احراز الرضا، بل يجوز الأكل بمجرّد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء.
لهذا قال بعض المفسّرين حول هذه الآية: الصديق هو الذي يصدق في علاقاته معك.
وقيل: الصديق هو الذي يصدّق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة.
ويتّضح من هذه العبارة أنّ الذي لا يسمح بمشاركة صديقه لغذائه، لا يمكن اعتباره صديقاً!
ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) ضمّ مفهوم الصداقة الواسع وشروطها الكاملة:
«لا تكون الصداقة إلاّ بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فإنسبه إلى الصداقة، ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة.
فأوّلاها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.
والثّاني: أن يرى زينك زينه وشينك شينه.
والثّالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.
والرّابعة: أن لا تمنعك شيئاً تناله مقدرته.
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات».(1)
جاء في بعض أسباب النّزول أنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا يسلمون أحياناً مفاتيح منازلهم إلى الذين لا يشملهم الجهاد. حين توجههم إلى الجهاد في سبيل الله. وكانوا يسمحون له بتناول الطعام من هذه المنازل، إلاّ أنّ هؤلاء كانوا يمتنعون من الأكل في هذه المنازل خوفاً من ارتكاب إثم في ذلك.
وحسب هذه الرواية فإنّ المراد من عبارة (ما ملكتم مفاتحه) هو ما ذكرنا.(2)
وروي عن ابن عباس أيضاً أن قصد الآية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان ومواشي، حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموكّل بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته.
كما فسّر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في هذا المخزن.
ومع ملاحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه الآية، يبدو أنّها تقصد الذين يسلمون مفاتيح منازلهم لأشخاص مؤثقين ومقربين لهم، وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا في صف الأقرباء والأصدقاء المقرّبين، وسواءً كان وكيلا رسمياً أم لا.
وإذا لاحظنا أنّ بعض الأحاديث تفسر عبارة (ما ملكتم مفاتحه) بالوكيل الذي يتعهد بالإِشراف على أموال شخص آخر، فإنّ ذلك مصداق للآية وليس لتحديد معناها وحصرها بهذا التّفسير.
«التحية» مشتقّة من الحياة، بمعنى الدعاء لسلامة الآخرين، سواء كانت بشكل السلام عليكم، أو السلام علينا، أو قولا كحيّاك الله، فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه بآخر، وتدعى بالتحية.
ويقصد بعبارة (تحية من عند الله مباركة طيبة). ربط التحية بالله بشكل ما، أي «السلام عليكم»، سلام الله عليكم، أو نسأل الله أن يسلمكم، إذ أن كل موحّد يرى ربط الدعاء بالله، وطبيعي أنّ الدعاء بهذا الشكل يكون مباركاً وطيباً. (تناولنا بحث السلام وأهميته ووجوب الردّ على التحية، في تفسير الآية 86 من سورة النساء).
* * *
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْر جَامِع لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُوكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَئْذَنُوكَ لِبَعْضِ شأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنِ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(62) لاَّ تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـواتِ وَالاَْرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أنَتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(64)
ذكرت عدة أسباب لنزول الآية الأُولى من الآيات أعلاه، فقد جاء في بعض الأحاديث أنّ هذه الآيه نزلت في «حنظلة بن أبي عياش» الذي صادف زواجه ليلة معركة أُحد، وكان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يشاور أصحابه حول هذه المعركة، فجاءه
حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته، فأجازه(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد بكّر حنظلة للإلتحاق بصفوف المسلمين، وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من الإغتسال. ودخل المعركة على هذه الحال، وقاتل حتى قتل في سبيل الله.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض».
لهذا سمي حنظلة بعدها بـ «غسيل الملائكة»(1).
وذكر سبب آخر لنزول هذه الآية حيث «روى ابن إسحاق» في سبب نزول هذه الآيات أنّه لما سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بتجمع قريش والاحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين لا ينجزون إلاّ اليسير من العمل، أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا إذنه، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ويسأله في اللحوق بحاجته فيأذن له.
فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له، فأنزل الله تعالى في أُولئك المؤمنين (إنّما المؤمنون ...) الآية، ثمّ قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم ...) الآية(2)
* * *
قال بعض المفسّرين حول علاقة هذه الآيات بسابقتها، وفيهم المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان «وسيد قطب» في تفسير في ظلال القرآن: بما أنّ الآيات السابقة طرحت للبحث جانباً من أُسلوب التعامل مع الأصدقاء والأقرباء. فإنّ الآيات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين مع قائدهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد أكّدت التزام الوقار أمامه، وطاعته وعدم ترك الجماعة إلاّ بإذنه.
![]() |
![]() |
![]() |