![]() |
![]() |
![]() |
* * *
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرءِيلَ(17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكـفِرِينَ(19) قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ(20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسرءِيلَ(22)
انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الأُولى لمأمورية «موسى(عليه السلام)» وهي موضوع الوحي «والرسالة» وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير!...
وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثّانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم!
تقول الآية الأُولى من هذه الآيات مقدمةً لهذه المرحلة: (فأتيا فرعون فقولا
إنّا رسول ربّ العالمين).
وجملة (فأتيا فرعون) تكشف عن أنّهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأيّة قيمة أو أيّ ثمن كان...
والتعبير بـ «رسول» بصيغة الإفراد مع أنّهما «موسى وهارون» نبيّان مرسلان، يشير إلى وحدة دعوتهما، فكأنّهما روحان في بدن واحد لهما خِطّة واحدة وهدف واحد.(1)
وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: (أن أرسل معنا بني إسرائيل).
وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيرْ العبوديّة والقهر والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.
وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى: (ألم نربّك فينا وليداً...).
إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولا به، فتربّيت في محيط هادىء آمن منعّماً... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً (ولبثت فينا من عمرك سنين).
ثمّ توجه إلى موسى وذكرّه بموضوع قتل القبطي فقال: (وفعلت فعلتك التي فعلت).
إشارةً إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّاً ولديك مثل هذه السابقة؟!
ثمّ بعد هذا كله: (وأنت من الكافرين)! (أي بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّاً وأنت كافر بنعمتي؟!
وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوماً بهذه التهم المواجهة إليه، وبهذا المنطق الإستدراجي.
والمراد من قصّة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص «الآية 15 منها» حيث جاء فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فاستغاثة الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى فقضى عليه انتصاراً لشيعته!...
وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة، إلاّ أنه قدّم الإجابة على الإشكال الثّاني نظراً لأهميته. (أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأن تربية الشخص لا تكون دليلا على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالا، ليسلك سبيل الرشاد)
وعلى كل حال أجابه موسى(عليه السلام): (قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين).
وهنا كلام طويل بن المفسّرين على المراد من كلمة «الضالين» الواردة في تعبير موسى(عليه السلام)... لأنّه كما نعلم لا مجال لأن تكون للنبيّ سابقةُ سوء حتى قبل مرحلة النبوّة.. لأنّها تزلزل موقعه في أفكار عامّة الناس، ويبقى الهدف من بعثته ناقصاً غيرِ تام، ولذلك فإنّ العصمة في الأنبياء لازمة حتى قبل زمان نبوتهم!... هذا من جهة...
ومن جهة أُخرى ينبغي أن يكون هذا الكلام جواباً مسكتاً ومضحماً لفرعون! لذلك فإن كثيراً من المفسّرين يعتقدون أن المراد من «الضال» هنا هو كونُه أخطأ في الموضوع، أي أن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل، بل لكي
يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله، فبناءً على ذلك فإنّ الضالّ هنا معناه «الغافل» والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أدّى عمله إليها.
وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من ذلك أنّه لم يكن أيّ خطأ في قتل القبطي الظالم لأنّه كان مستحقاً، بل إنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يقول: إنّه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه، وأنه لا يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيداً عن وطنه، وأن يتأخر منهجه «في أداء رسالته».
ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعدّ جواباً لفرعون، بل هو موضوع كان لموسى أن يبيّنه لأتباعه ومن حوله من محبّيه! لا أنه ردّ على إشكال فرعون!...
والتّفسير الثّالث الذي من المحتمل أن يكون مناسباً أكثر لمقام موسى(عليه السلام)ـ من جهات متعددة ـ ويتلاءم وعظمة كيانه، أن موسى(عليه السلام) استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون، فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكنّ الله عرّفه إياه بعدئذ، ووهب له حكماً ـ فجعله من المرسلين، إلاّ أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع أَنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة «أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى(عليه السلام) قد ضلّ طريقه فصادف أمامه هذه القضيّة»...
ونحن نعرف أن «التورية» هي أن يقول الإنسان كلاماً باطنه حق، إلاّ أن الطرف الآخر يفهمُ من ظاهره شيئاً آخر، وهذا الأمر يقع في موارد خاصّة يُبتلى الإنسان فيها بالحرج أو الضيق، ولا يريد أن يكذب، وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلامه...(1)
ثمّ يضيف موسى قائلا: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين)!
وهناك اختلاف بين كلمات المفسّرين في المراد من «الحكم» في هذه الآية، أهو مقام النبوة، أم مقام العلم، أم سواهما؟! لكن مع ملاحظة ذيل الآية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم يتّضح أنّه غير الرسالة والنبوّة!
والشاهد الآخر على هذا الموضوع الآية (79) من سورة آل عمران إذ قال: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله...).
إن كلمة «الحكم» تعني في اللغة: المنع من أجل الإصلاح، هذا هو الأصل في ما وضعت له، ولذا سمّوا لجام الحيوان «حَكَمةً» على وزن (صَدَقَة) ثمّ أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة، ومن هنا سمي العقل والعلم حكماً أيضاً لهذا التناسب، وقد يقال: إنّه يستفاد من الآية (14) من سورة القصص أن موسى(عليه السلام) كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول: (ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلماً).
فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة، فكان موسى(عليه السلام) قد بلغ مرحلة منهما من قبل، وحين بلغ مقام النبوّة أدرك المرحلة الأكمل!...
ثمّ يردّ موسى(عليه السلام) على كلام فرعون الذي يمنُّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباهُ، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: (وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبّدتِ بني إسرائيل).
صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك، لأتربّى في كنفك، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيتُ في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!
ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر! حتى
أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!
فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني اُمي في الصندوق حفاظاً عليّ، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج «زورقي» الصغير حتى توصله إلى قصرك... أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوّث!...
وبهذا التّفسير يتّضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تماماً.
كما يحتمل في تفسير هذه الآية أنّ مراد موسى(عليه السلام) هو الإِعتراض على فرعون بأنّه لو كانت تربيتي عندك نعمةً من قبلك، فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل البحر، فأية نعمةَ لك عليّ مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟!
والتّفسير الثّالث لجواب موسى لفرعون، هو أنّه: لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة، فلا تنس بُناة قصرك الأوائل فهم أرقّاء من قومي، والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من بني إسرائيل، فكيف تمنّ عليّ بجهود قومي وأتعابهم؟!
وهذه التفاسير الثلاثة لا تتنافى جميعاً، وإن كان التّفسير الأوّل من بعض الجهات أكثر وضوحاً!
ويستفاد من عبارة: «من المرسلين» ضمناً بأنّني لست الوحيد المرسل من قبل الله. فمن قبلي جاء رُسُل عدّة، وأنا واحدٌ منهم، إلاّ أن فرعون نسيَهم أو تناساهم!!
* * *
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رِبُّ العَـلَمِينَ(23) قَالَ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الاَْوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لََمجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(28) قَالَ لَئِن اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِى لاََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)
حين واجه موسى(عليه السلام) فرعون بلهجة شديدة: وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و (قال فرعون وما ربّ العالمين)..
ومن المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى(عليه السلام) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلا ومستهزئاً.
إلاّ أنّ موسى ـ على كل حال ـ لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجدّ... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتُمْ موقنين).
فالسماوات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلاّ ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّي، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!...
وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكلّ موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُم متفرقة، إلاّ أن كلام موسى(عليه السلام) يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له ربّاً واحداً...
وجملة (إن كنتم موقنين) لعلها إشارةً إلى أنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يفهم فرعون ومن حوله ـ ولو تلويحاً ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافياً.. فكأنّه يقول لهم: افتحوا أعينكم قليلا وتفكروا ساعة في السماوات والأرض بما فيهما من الآثار وعجائب المخلوقات... لتطلعوا على معالمها وتصححوا نظرتكم نحو الكون!
إلاّ أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي... فعاد لمواصلة الإستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و (قال لمن حوله ألا تستمعون).
ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوّة والظلم والقهر والمال.
يقول ابن عباس: كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر، وهم يعدّون من خواص قومه.(1)
وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لأُولئك الرهط... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.
إلاّ أن موسى(عليه السلام) عاد مرّةً أُخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و (قال ربّكم وربّ آبائكم الأولين).
إن موسى(عليه السلام) بدأ في المرحلة الأُولى بـ «الآيات الآفاقية»، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى «الآيات الانفسية»، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها.
إلاّ أن فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الإستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، فـ (قال إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون)...
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!...
وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأنّ يقول: «إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا»، بل قال: «إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم»، لأن التعبير برسولكم ـ أيضاً ـ له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الإستعلائية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.
إلاّ أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى(عليه السلام) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ (قال
ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون).
فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!... وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إلاّ أنّ العيب كامن فيكم، لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير (وينبغي الإلتفات إلى أن جملة (إن كنتم تعقلون) هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة).
وفي الواقع إن موسى(عليه السلام) أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فانه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!».
وصحيح أنّ موسى(عليه السلام) أشار بادىء الأمر إلى تدبير أمر السماوات والأرض، إلاّ أنه حيث أن السماء عالية جداً، وأن الأرض ذات أسرار غربية، فقد وضع موسى(عليه السلام) أخيراً إصبعه على نقطة لا يمكن لأحد إنكارها; ويواجهها الإِنسان كلّ يوم، وهي نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق... وليس لأحد من البشر أن يدعي أنّ بيده نظامها أبداً...
والتعبير بـ «ما بينهما» إشارة إلى الوحدة والإرتباط في ما بين المشرق والمغرب، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات والأرض. (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما).
ويبيّن التعبير (ربُكم ورب آبائكم الأولين) أيضاً ارتباط النسل والوحدة فيه...
غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى
استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين).
فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!...
ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في «من المسجونين» هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجيناً حتى تخرج جنازته.(1)
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى(عليه السلام) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!...
* * *
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْء مُّبِين(30) قَالَ فأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ(33) قَالَ لِلْمَلاءِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ(34) يُريدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّار عَلِيم(37)
رأينا في الآيات المتقدمة كيف حافظ موسى(عليه السلام) على تفوّقه ـ من حيث المنطق ـ على فرعون، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارةً يرميه بالجنون، وأخيراً يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام!...
وهنا يقلب موسى(عليه السلام) صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً أخرى يخذل
فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضاً، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و (قال أو لوجئتك بشىء مبين)...
وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود... لأن موسى(عليه السلام) أشارَ إلى خطّة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادراً على ذلك فلنرى، ونعلم حينئذ أنّه لا يمكن الوقوف امامه، وإلاّ فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة...
فاضطر فرعون إلى الإستجابة لا قتراح موسى(عليه السلام) و (قال فأت به إن كنت من الصادقين).
(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) «بأمر الله».
ثمّ أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (اعلى الثوب) وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).
في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والأُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة! والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي(عليه السلام).
«الثعبان» معناه الحية العظيمة، ويحتمل الراغب في مفرداته أن «الثعبان» من مادة (ثعب) المأخوذ معناه من جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهار المتحركة!
والتعبير بـ «المبين» لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أنّ عصّا موسى(عليه السلام)تبدلت إلى ثعبان عظيم فعلا، ولم يكن في الأمر من إيهام أو سحر.
ولا بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا، وهي أنّ الآية محل البحث عبرت [عن تبدل العصا] بـ «ثعبان». أمّا الآية العاشرة من سورة النمل، والآية الحادية
والثلاثون من سورة القصص، فقد عبرت عنها بـ «جان» «ما تجنّه(1)الأرض وما يمشي عليها من الأفاعي الصغار بسرعة وقفز». أمّا الآية العشرون من سورة طه فقد عبّرت عنها بأنّها «حية» «المشتقّة من الحياة».
وهذا التفاوت أو الإختلاف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر، إلاّ أنّ الإختلاف أو التفاوت إنّما هو لبيان واحد من أمرين:
1 ـ لعله إشارة إلى حالات ذلك الثعبان المتباينة، ففي البداية تبدلت العصا إلى جانّ أو حية صغيرة، ثمّ بدأت تكبر حتى صارت ثعباناً مبيناً!...
2 ـ أو أنّ هذه الألفاظ الثلاثة «الثعبان، والجان، والحية» كلٌّ منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها، والجان إشارة إلى سرعتها، والحية إشارة إلى حياتها!
غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى(عليه السلام)، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم).
ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيء للوصول إلى هدفهم.
وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولا عند السامعين، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى(عليه السلام) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.
ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى(عليه السلام)، قال لهم: (يريد أن
يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟).
والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: (أليس لي ملكُ مصر)؟!
والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة!...
فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله: «ماذا تأمرون»؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!...
ويستفاد من الآية (110) من سورة الأعراف أنّ أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر، وكانوا في حالة من الإِضطراب النفسي بحيث كان كلُّ منهم يسأل الآخر قائلا: وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟!
أجل هذه سُنّةُ الجبابرة في كل عصر وزمان... فحين يسيطرون على الأوضاع يزعمون أن كل شيء لهم، ويعدون الجميع عبيدهم، ولا يفهمون شيئاً سوى منطق الإستبداد. إلاّ أنّهم حين تهتزّ عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر، ينزلون مؤقتاً عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم الناس، فالأرض أرض الشعب، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار، فاذا هم أصحاب الأمس و«عادت حليمة إلى عادتها القديمة».
ورأينا في عصرنا بقايا السلاطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تُقبل الدنيا عليهم، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلاد قائلين له: اذهب في أرض الله العريضة الواسعة، ففي هذا البلد لابدّ من تنفيذ ما نقول لا غير. ورأينا هذه الحالة عندما بدأت هبّت رياح الثورة الإسلامية كيف
أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه، وحتى أنّهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو، ولكن الناس الذين عرفوا سجيّتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك.
وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين).(1) أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والأمصار.
(يأتوك بكل سحّار عليم).
وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للأمر. فهيأوا خطةً على أنّه ساحر، ولابدّ من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة!...
وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى(عليه السلام).
وكلمة (حاشرين) مأخوذه من مادة (الحشر) ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك، وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى(عليه السلام) بأيّ ثمن كان!...
* * *
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَـتِ يَوْم مَّعْلُوم(38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هُلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ(39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغـلِبِينَ (40)فَلَمَّا جآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَـلِبِينَ(41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ(42)
في هذه الآيات يُعرض مشهداً آخر من هذه القصّة المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الوعد المحدد (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم).
وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في «ميدان العرض»...
والمراد من «اليوم المعلوم» كما يستفاد من بعض الآيات في سورة الأعراف، أنّه بعض أعياد أهل مصر، وقد اختاره موسى(عليه السلام) للمواجهة ومنازلة السحرة... وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع للإجتماع، لأنّه كان مطمئناً بأنّه سينتصر،
وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والملأ من حوله للجميع، وليشرق نور الإيمان في قلوب جماعة كثيرين!...
وطُلب من الناس الحضور في هذا المشهد: (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون)وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قِبَلِ فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد... وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّاً، لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا الأسلوب جرّ الكثير إلى حضور ذلك المشهد.
وقيل للناس: إنّ الهدف من هذا الحضور والإجتماع هو أنّ السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الالهة وينبغي علينا اتباعهم: (لعلنا نتّبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الالهة إلى الأبد.
وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاةً لأن يبذل أقصى جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج إلى درجةً يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه «الخصم» فلا يدعه ينتصر!
أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس، كما أنّ موسى(عليه السلام) كان يطلب ـ من الله ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسنِ وجه.
كل هذا من جهة، ومن جهة أُخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون ءَإنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)...
وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن
يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و (قال نعم وإنّكم إذاً لمن المقرّبين). اي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه، فكلاهما تحت يديّ!...
![]() |
![]() |
![]() |