![]() |
![]() |
![]() |
كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبيّن السؤال الذي يسأل الله عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير، فيقول تعالى أولا: واذكر يوم يحشر الله هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون الله: (و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله).
فيسأل المعبودين: (فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل).
ففي الإجابة: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء).
فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.
وكان سبب انحراف أولئك هو: أنّ الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلا من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله: (ولكن متعتهم وآباءَهم حتى نسوا الذكر) ولهذا هلكوا واندثروا (وكانوا قوماً بوراً).
هنا يوجه اللّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: (فقد كذبتم بما تقولون).
لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: (فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً، ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).
لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلاّ أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.
و الملفت للنظر أن «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أن القسم الأوّل من البحث وأن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها (محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة)، فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).(1)
* * *
في الإجابة على هذا السؤال، هناك تفسيران بين المفسّرين المعروفين:
أوّلا: أن يكون المقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة)، حيث أن كلّ واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم. ولأنّهم أهل عقل وشعور وإدراك، فيمكنهم أن يكونوا موضع الإستنطاق والمحاسبة، ولإتمام الحجة، ولإثبات كذب المشركين الذين يقولون: إنّ هؤلاء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عمّا إذا كان هذا الإدعاء صحيحاً؟ ولكنّهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة!
التّفسير الثّاني: الذي ذكره جمع من المفسّرين هو أنّ الله يمنح الأصنام في ذلك اليوم نوعاً من الحياة والإدراك والشعور، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة، لينطقوا بالجواب اللازم: إلهنا، نحن ما أضللنا هؤلاء، بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور.
و هناك الإحتمال آخر، وهو أنّ المقصود يشمل جميع المعبودين، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون بألسنتهم عن الوقائع، أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور، حيث يعكسون الحقيقة أيضاً، بلسان حالهم.
ولكن القرائن الموجودة في الآية تتفق أكثر مع التّفسير الأوّل، ذلك لأنّ الأفعال والضمائر تدل جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح والملائكة وأمثالهم.
إضافة إلى أنّ قوله تعالى (فقد كذبوكم...) يُظهر أن المشركين قد ادّعوا من قبل أن هؤلاء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم، وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأنّ الأصنام لا تتكلم (لقد علمت ما هؤلاء
ينطقون)(1).
في حين أنّنا نقرأ مثلاً بالنسبة إلى المسيح(عليه السلام) في الآية (116) من سورة المائدة: (أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله)؟!
ومن المسلّم أنّ ادعاء المشركين وعبدة الأصنام كان واهياً وبلا أساس، فأُولئك لم يدعوهم إلى عبادة أنفسهم.
الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب: إلهنا، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا، بل يقولون: نحن ما اتّخذنا لأنفسنا غيرك معبوداً، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك، فمن الأُولى أنّنا لم ندعهم إلى أحد غيرك، خاصّة وأن هذا الكلام يقترن مع (سبحانك) ومع (ماكان ينبغي لنا) التي تكشف عن غاية أدبهم، وتأكيدهم على التوحيد.
المهم هو أنّ المعبودين يعدّون العامل الأصلي لانحراف هذا الفريق من المشركين هو (الحياة المرفهة) لهم، ويقولون، إلهنا، متّعتَ هؤلاء وآباءَهم من نعم هذه الحياة، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم، فبدلا من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه، توغلوا في دوامة الغفلة والغرور.
فالحياة المرفهة لجماعة ضيقةِ الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور من جهة، ذلك لأنّهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة، ينسون أنفسهم وينسون الله، حتى أنّ فرعون كان يطبّل أحياناً (أنا الله).
ومن جهة أُخرى، فإنّ هؤلاء الأفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذّاتهم من قبيل الحلال والحرام، والمشروع واللامشروع وتمنعهم من
الوصول إلى أهدافهم، ولهذها فهم لا يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية، ولا أن يقبلوا بيوم الحساب والجزاء.
و هكذا نجد أنّ أتباع دين الله وتعليمات الأنبياء قليلٌ في أوساط المرفهين دائماً ولكن المستضعفين هم الأتباع الصامدون والمحبّون الأوفياء للدين والمذهب.
إنّ هذا الكلام له استثناءات في كلا الطرفين قطعاً، ولكن أكثرية كلّ من الفريقين هم كما قلنا.
وممّا تتضمنه الآية أعلاه، أنّها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضاً، ذلك لأنّ الإنسان حينما ينشأ على الدلال والنعمة فإنه سوف يرى فارقاً وامتيازاً بينه وبين الآخرين، ولن يكون مستعداً لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة.
في حين أن التقيد بأمر الله، وبتعاليم الدين تحتاج إلى الإيثار، وأحياناً إلى الهجرة، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة، وأحياناً إلى التعاطي مع أنواع المحروميات، وعدم التسليم للعدو، وهذه الأُمور نادراً ما تتوافق مع مزاج المرفهين، إلاّ إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية، فإذا توفرت يوماً ما شكروا الله، وإلاّ فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا، وبعبارة أُخرى: إنّهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها، أمراء عليها لا أسارى عندها.
و يستفاد أيضاً من التوضيح أنّ المقصود من قوله تعالى (نسوا الذكر)نسيان ذكر الله، حيث ورد مكان ذلك في الآية (19) من سورة الحشر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أو نسيان يوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي، كما جاء في الآية (26) سورة ص (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) أو نسيان كل منهما، وجميع التعاليم الإلهية.
«بور» من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، كما جاء في المثل العربي «كسد حتى فسد»، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثمّ أُطلقت بعد هذا على الهلاك، ولهذا يقولون للأرض الخالية من الشجر والورد والنبات، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتة كلمة «بائر».
وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: (كانوا قوماً بوراً) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم الله واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة، وصارت أراضي قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة، وأُخليت من أزاهير ملكات القيم الإنسانية، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية.
مطالعة حال الأُمم الغرقى في الدلال والنعمة اليوم، الغافلة عن الله وعن الخلق، توضح عمق معنى هذه الآية في كيفية غرق هذه الأُمم في بحر الفساد الأخلاقي، وكيف اجتثت الفضائل الإنسانية من أرض وجودهم البائرة.(1)
* * *
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاَْسْواقِ وَجَعَلْنَابَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(20)
أورد جماعة من المفسّرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الآية «أن سادات قريش «عتبة بن ربيعة» وغيره اجتمعوا معه(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالوا: يا محمد، إن كنت تحبّ الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحبّ المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، رجعوا في باب الإحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيّروه بأكل الطعام، لأنّهم أرادوا أن يكون الرّسول ملكاً، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان(عليه السلام)يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يريد أن يتملك علينا، فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيّه:
(وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)فلا تغتم ولا تحزن، فأنّها شكاة ظاهرٌ عنك عارُها».(1)
في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة: لماذا يأكل رسول الله الطعام، ويمشي في الأسواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب، أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلا وصراحة، فيقول تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) وامتحاناً.
وهذا الإمتحان، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصّة إذا كان في مستوىً واطىء من حيث الإِمكانات المادية، وهم في مستوى عال مادياً، أو أن أعمارهم أكبر، أو أنّهم أكثر شهرة في المجتمع.
ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة، وهو أنّ الناس عموماً بعضهم لبعض فتنة، ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى والأيتام والمزمنين فتنة للأقوياء والأصحاء السالمين، وبالعكس، فإنّ الأفراد الأصحاء الأقوياء فتنة للضعفاء والعجزة.
تُرى هل أنّ الفريق الثّاني راض برضا الله! أم لا؟
وهل أن الفريق الأوّل يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الثّاني، أم لا؟!
من هنا، لا تقاطع بين هذين التّفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلاهما في المفهوم الواسع للآية في أن الناس بعضهم لبعض فتنة.
و على أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى:
(أتصبرون)؟
ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الإمتحانات هو الصبر والإستقامة والشجاعة... الصبر والإستقامة أمام خيالات الغرور الذي يمنع من قبول الحق... الصبر والإستقامة أمام المشكلات الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالات، وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الأليمة التي لا تخلو منها حياة الإنسان على كل حال.
والخلاصة: أنّ من الممكن اجتياز هذا الإمتحان الإلهي العظيم بقوّة الإستقامة و الصبر.(1)
ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: (وكان ربّك بصيراً) فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الإختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء. إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.
يرد هاهنا استفسار، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة، بل يزيد من حدّتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء.
أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به، ولهذا كانوا يقولون: مالهذا الرّسول...
يقول القرآن في جوابهم: ليس هذا منحصراً بالرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فجميع الأنبياء كانت لهم مثل هذه الأوصاف، وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا) «كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجاً للناس في كل مجالات». إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.
* * *
وَقَالَ الَّذِينَ لاَيَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوَّاً كَبيراً(21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَـئِكَةَ لاَبُشْرَى يَوْمَئِذ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقوُلُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22) وَقَدِمْنآ إِلَى مَا عَمِلوُاْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَـهُ هَبَآءً مَّنثُوراً(23) أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذ خَيْرٌ مُّستَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلا(24)
قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانوا يقولون تارةً: لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.
الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها، فيقول
تعالى أوّلا: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا).
فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا مالا يمكن القبول به، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟
هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).
المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا)، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.
في الآية (7) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول، حيث قالوا (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).
في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أمّا نوع الدليل، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح، إذن فما معنى هذه الذرائع؟
وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .
لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً).
«العتو» على وزن «غلو»، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر،
مصحوباً بالعناد واللجاجة.
و تعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.
في عصرنا وزماننا أيضاً، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو.
و من حيث الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.
ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الامر، لكن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين).(1)
بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون: الأَمان.. الأَمان، اعفوا عنّا: (ويقولون حجراً محجوراً).
ولكن لا هذه الجملة ـ ولاغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم.
كلمة «حجر» (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها
وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (5) من سورة الفجر (هل في ذلك قسم لذي حجر)، وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.
هذا في ما يخص كلمة «حجر».
أمّا جملة «حجراً محجوراً»فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.
كان هذا عرف العرب، خاصّة في الأشهر الحرم، حيث كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى، فإنّه يكرر هذه الجملة، والطرف المقابل ـ أيضاً ـ مع سماعة لها كان يعطيه الأمان، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف.
على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو: «أريد الأمان، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير».(1)
اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضاً ـ يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع المشركين من رحمة الله.
وقال آخرون: إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون، يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى الأول، حيث اختاره كثير من المفسّرين، أو ذكروه كأوّل
تفسير لذلك.(1)
أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم). والثّاني: أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.
و مع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.
الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).
كلمة «العمل» على ما قاله «الراغب» في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد، ولكن الفعل أعم منه، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد.(2)
جملة «قدمنا» من «القدوم» بمعنى «المجيء» أو «الذهاب على أثر شيء» وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهراً ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم.
كلمة «هباء» بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها.
هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة.
هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول: (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف).
الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.
على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط.(1)
من وجهة نظر المنطق الإسلامي، فإن للأعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية، كمثل العمل الذي يتخذ
(رياءً).
و احياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك.
و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل الإنفاق الذي تتبعه «منّة»، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد.
حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً.(1)
على أية حال، فللإسلام منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال:
يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: (كن هباءً منثوراً) ثمّ قال: أمّا والله ـ يا أبا حمزة ـ إنّهم كانوايصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس».(2)
و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا).
ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن، ووضع أهل الجنّة أحسن، لأنّ صيغة «أفعل التفضيل» تأتي أحياناً حيث يكون أحد الأطراف واجداً
للمفهوم، وآلاخر فاقداً له كلياً. مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت: (أفمن يُلقى في النّار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة).
«مستقر» بمعنى محل الإستقرار.
و «مقيل» بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة «قيلولة»، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.
* * *
وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـمِ وَنُزِّلَ الْمَلَـئِكَةُ تَنزِيلا (25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـنِ وكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَـفِرِينَ عَسِيراً(26)
مرّة أخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوّلا: إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم:(ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا).(1)
«الغمام» من «الغم» بمعنى ستر الشيء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام»، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».
هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على طلبات المشركين، وعلى إحدى ذرائعهم، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة ـ طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضاً ـ أنّ الله أحياناً يظهر ما بين الغيوم.(1)
يقول القرآن في الردّ عليهم: نعم الملائكة (وليس الله) يأتون إليهم يوماً ما، لكن أي يوم؟ اليوم الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلاء المجرمين، وينهي ادعاءاتهم الباطلة.
ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام، مع أنّنا نعلم أن لا وجود حولنا لشيء يسمى السماء، يكون قابلا للتشقق؟
قال بعض المفسّرين مثل «العلامة الطباطبائي» في تفسير «الميزان»: المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب، فيكون للانسان إدراك ورؤية تختلف كثيراً عمّا هي عليه اليوم، فحينئذ تزول الحجب، فيرون الملائكة وهي تتنزل من العالم الأعلى.
ثمّة تفسير آخر، هو أنّ المقصود من السماء هو الأجرام السماوية التي تتلاشى على أثر انفجارات متوالية، فيملأ الغيم الحاصل من هذه الإنفجارات ومن تلاشي الجبال صفحة السماوات، وبناءً على هذا فالأفلاك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك.(2)
آيات كثيرة من القرآن المجيد، خصوصاً التي وردت في السور القصار آخر القرآن، تبيّن هذه الحقيقة، حيث تملأ جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة، وانقلاب وتحول عجيب، تتلاشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار، الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم. ويلتقي الشمس والقمر، وتملأ نواحي الأرض
![]() |
![]() |
![]() |