أجل، يجب أن يُضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند حَدّهم، ولتتم المحافظة على كرامة الناس وشرفهم.

* * *

 

[27]

 

 

الآيات

 

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدآءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَـدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّـدِقِينَ (6)وَالْخَـمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَـذِبينَ (7)وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَـذِبينَ(8) وَالْخَـمِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الْصَّـدِقينَ(9) وَلَوْ لاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأنَّ اللهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)

 

سبب النّزول

روى ابن عباس أن سعد بن عبادة (سيد الأنصار) من الخزرج، قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بحضور جمع من الأصحاب: «يا رسول الله! لو أتيت لكاع (زوجته) وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي باربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

[28]

يا معشر الأنصار ما تَسمعون إلى ما قال سيدكم؟

فقالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور. ما تزوج امرأة إلاّ بكراً، ولا طلّق امرأة له فاجترى رجل منّا أن يتزوجها.

فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي، والله إنّي لأعرف أنّها من الله، وأنّها حق، ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك.

فقال: صدق الله ورسوله.

فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له، يقال له: هلال بن أُمية قد رأى رجلا مع امرأته ليلا، فجاء شاكياً إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّي جئت أهلي عِشَاءُ فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بأُذني.

فكره ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى رؤيت الكراهة في وجهه، فقال هلال: إنّي لأرى الكراهة في وجهك، والله يعلم إنِّي لصادق، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً.

فهمَّ رسولُ الله بضربه، واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات، فقال رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أبشريا هلال، فإنّ الله تعالى قد جعل فرجاً.

فقال: قد كنت أرجوا ذاك من الله تعالى.(1)

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة، وشرحها كما يأتي.

* * *



1 ـ تفاسير مجمع البيان، وفي ظلال القرآن، ونورالثقلين، والميزان، في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض الإختلاف).

[29]

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة!

يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإِستثناء الوارد على حد القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها. ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته. وهنا يقدم القرآن المجيد حلا أمثل هو:

على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم الشهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة «اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا» أربع مرات لإثبات ادعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة أُخرى. ويقول في الخامسة: «لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الأُولى تثبت التهمة.

وفي الثّانية (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابلُ شهادات الرجل الخمس ـ أيضاً ـ لتنفي التهمة عنها. بأن تكرر أربع شهادات «أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا» وفي الخامسة تقول «أن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين».

وهذِهِ الشهاداتُ منهما هي ما يسمّى بـ «اللعان»، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

[30]

أوّلها: انفصالهما دون طلاق.

وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها: سقوط حد القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة (وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه الشهادات يقام عليه حَدُّ القذف إن كان الرافض الرجل، وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا.

ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أن اللعانَ فضل من الله، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.

فمن جهة لا يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم الشرعي.

ومن جهة أُخرى لا تتعرض المرأة إلى حدّ الزنا الخاص بالمحصنة بمجرّد توجيه التهمة إليها، بل يمنحها الإسلام حق الدفاع عن نفسها.

ومن جهة ثالثة لا يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة، لاثبات هذه التهمة النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية.

ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ولا يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد في المستقبل أبداً، لتعذّر الإستمرارُ في الحياة الزوجيةِ إن كانت التهمة صادقة، كما أن المرأة تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة. وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ولا تقتصر على حياة باردة وخاملة، بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحلٌ بينهما.

[31]

ومن جهة خامسة توضح الآية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة.

هذا كله فضل من الله ورحمة منّ بها على عباده. وحل هذه المشكلة بشكل عادلُ يُعبِّرُ عَنْ لطفِ اللهِ بعبادِهِ وَرَحمته لهم. ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أنّه  لا يتقاطع مع ضرورة وجود شهود أربعة في هذه القضية. إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟

السّؤال الأوّل الذي يطرح نفسه هنا: ما هي خاصية الزوجين، ليصدر هذا الحكم المستثنى بحقّهما؟

ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الآية، وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر.

كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء الإعتداء على شرفه؟ وإذا توجّه إلى القاضي وهو يصرخ ويستنجد، فقد يواجه حدّ القذف، لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه. وإذا حاول إحضار أربعة شهود، فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه، وقد تنتهي الحادثة ولا يمكنه إحضار شهوده في الوقت المناسب.

ومن جهة أُخرى، فإنّ الغرباء يتّهمون بعضهم بعضاً بسهولة، ولكن الرجل والمرأة نادراً ما يتّهم أحدهما الآخر.

ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين، وإلاّ نُفِّذَ حَدُّ القذف على الذي يوجه تهمة الزنا، وليس الأمر كذلك بالنسبة للزوجين، ولهذا خصّهما الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خاصّة في هذه الحالة.

[32]

2 ـ كيفية اللعان

توصلنا بعد الإِيضاحات التي ذكرناها خلال تفسير هذه الآيات، إلى وجوب تكرار الرجل شهادته أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا، ولينجو من حَدِّ القذف. وبهذا فإن هذه الشهادات الأربع من الزوج بمثابة أربعة شهود، وفي الخامسة يتقبل لعنة الله عليه إن كان كاذباً.

ومع الإلتفات إلى أن تنفيذ هذه الاحكام يتم عادة في محيط اسلامي ملتزم وبيئة متديّنة، ويرى الزوج نفسه مضطراً للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي، ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم لا يقبل الشك والترديد، وفي الخامسة يطلب من الله أن يلعنه إن كان كاذباً، فهذا كله يمنع الرجل من التهوّر وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته.

أمّا المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة، فعليها تكرار شهادتها أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة، لإيجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة، وبما أن التُّهمة موجهة للمرأة، فإنّها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة، حيث تدعو الله أن ينزل غضبه عليها إن كانت كاذبة.

وكما نعلم فإنّ «اللعنة» إبتعاد عن الرحمة.

وأمّا «الغضب» فإنّه أمر أشد من اللعنة، لأنّ الغضب يستلزم العقاب، فهو أكثر من الابتعاد عن الرحمة.

ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد: إنَّ (المغضوب عليهم) هم أسْوَأ من (الضالين) على الرغم من أنّ الضالّين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة الله تعالى.

 

3 ـ العقاب المحذوف في الآية:

جاءت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نحن بصدده ـ جملةً شرطيةً لم يذكر جزاءها

[33]

حيث تقول: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). لكنّها لم تذكر نتيجة ذلك. وبملاحظة القرائن فيها يتّضح لنا جواب الشرط. والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها البالغة، ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها. وكل تصور منها له مفهوم جديد. فهنا قد يكون جواب الشرط: لو لا فضل الله ورحمته عليكم، لكشف عن أعمالكم وفضحكم.

أو: لولا فضل الله ورحمته عليكم، لعاقبكم فوراً وأهلككم.

أو: لولا هذا الفضل، لما وضع الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأحكام الدقيقة من أجل تربيتكم.

وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارىء كل هذه الأُمور(1).

 

* * *



1 ـ ذكر تفسير «الميزان» جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير الأُخرى قال: «لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم، لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام حياتكم بالجهالة».

[34]

 

الآيات

 

إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىء مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)لَّولاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذَ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلـئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَـذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَنْ نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَـنَكَ هَذَا بُهْتَـنٌ عَظِيمٌ(16)

 

سبب النّزول

ذكر سببين لنزول الآيات السابقة:

أوّلهما: ما روته عائشة زوجة الرّسول قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن

[35]

يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة(1) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب وأنا أُحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك وقفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(2). قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة(3) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.

وكان صفوان بن المعطل السلمي ثمّ الذكر إنّي من وراء الجيش فأدلج(4)فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطّى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.



1 ـ هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس لللهجرة.

2 ـ ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض.

3 ـ العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.

4 ـ أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.

[36]

وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أُبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أُشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما عليَّ فيسلم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أُشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أُم مسطح قبل المناصع(1) وهي متبرزنا وكنّا لا نخرج إلاّ ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا وأُم مسطح فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا(2) من ثيابنا فعثرت أُم مسطح في مرطها(3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدراً؟ قالت: إي هنتاه(4) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي.

فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثمّ قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت: فأذن لي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لاُمي: يا أُمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.



1 ـ المناصع: المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة.

2 ـ أي رفعنا ثيابنا.

3 ـ المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.

4 ـ خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.

[37]

ودعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأمّا اسامة فأشار على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبدالله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواتنا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميّة ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن خضير وهو ابن عم سعد بن عبادة، قال: كذبت لنقتلنه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قائم على المنبر فلم يزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يخفضهم حتى سكنوا وسكت.

فبكيت يومي ذلك فلا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقاً لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.

[38]

فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأبصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثمّ جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.

فلمّا قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص(1) دمعي حتى ما أُحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لاُمي: أجيبي عني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنّي والله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدّقتم به فلئن قلت لكم: إنّي بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلاّ قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرَّئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرَّئني الله بها.

قالت: فوالله ما رام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدّر منه



1 ـ قلص: اجتمع وانقبض.

[39]

مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أُنزل عليه فلمّا سري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سري عنه وهو يضحك فكان أوّل كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك، فقالت أُمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلاّ الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: «إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم» العشر الآيات كلها.

فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبوبكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: «ولا يأتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم» قال أبوبكر: والله إنّي اُحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مَسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

قالت عائشة: فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب أبنة حجش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلاّ خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.(1)

إمام باقر(عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزناً شديداً فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) وأمره بقتله.

فذهب علي(عليه السلام) ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي(عليه السلام)باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليّاً(عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان فوثب علي(عليه السلام) على الحائط ونزل إِلى البستان واتبعه وولى جريح مدبراً فلما خشي أن يرهقه(2) صعد في نخلة وصعد



1 ـ تفسير الميزان، ج15، ص96 ـ 100.

2 ـ أرهقه: أدركه.

[40]

علي(عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإِذا ليس له ما للرجال ولا له ماللنساء.

فانصرف علي(عليه السلام) إِلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله إِذا بعثتني في الأمر أكون كالسمار المحميّ في الوبر أم أُثبّت؟ قال: لابل تثبّت. قال: والذي بعثك بالحق ما له ماللرجال وما له ماللنساء، فقال: الحمدالله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت.(1)

* * *

 

تحقيق المسألة:

على رغم ممّا ذكرته معظم المصادر الإسلامية لهذين السببين فإن هناك أموراً غامضةً في السبب الأوّل تثير النقاش، منها:

1 ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وقع تحت تأثير الشائعة، وأدى ذلك إلى مشاورتِهِ أصحابَهُ وتغيير سلوكِهِ مع عائشة حتى ابتعد عنها لمدّة طويلة.

وهذا الموضوع لا ينسجم مع عصمةِ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، بل كل مسلم ثابت الإِيمان لا ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر، وإذا تأثّر بالشائعة فعليه ألا يُغيِّر سلوكَهُ عملياً، ولا يَسْتَسلِم للشائعةِ وأثرها فكيف بالمعصوم.

فهل يمكن التصديق أنَّ العتاب الشديد الذي ذكرته الآيات التالية وتساءلت: لماذا وقع بعض المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة، ولماذا لم يطلبوا شهوداً أربعة، يشمل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه تساؤلات تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب النّزول الأول.



1 ـ المصدر السابق، ص103.

[41]

2 ـ رغم أن ظاهر الآيات يَدُلُّ على أن حكم القذف (الإتهام بعمل مخل بالشرف والعفة) نزل قبل حديث الإِفك، فلماذا لم يستدع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عبدالله بن أبي سلول وعدداً آخر ممَّنْ نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه الله؟ (الاّ أن يقال بأن آيات القذف والافك نزلت سويةً، وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع، ففي هذه الصورة ينتفي هذا الإشكال ولكن يبقى الأوّل على قوّته).

أمّا بالنسبة لسبب النّزول الثّاني، فإنّ ما يثير فيه النقاش هو عدّة أُمور، منها:

1 ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقاً لسبب النّزول هذا ـ هو شخصٌ واحدٌ لا غير، في الوقت الذي ذكرت الآيات فيه أنّهم مجموعة، وقد روّجوا لها لدرجة شيوعها تقريباً في المدينة كلها. لهذا استخدمت الآيات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشدّة، والذين تورّطوا في تصديق وترويج هذه الشائعة، وهذا لا ينسجم أبداً مع سبب النّزول الثّاني.

2 ـ يبقى سؤال هو: إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الإثم (القذف) ثمّ ثبت خلاقة، فلماذا لم يُنفِّذِ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حَدَّ القذف بحقها؟

3 ـ كيف يمكن للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة امرأة واحدة؟ مع أنّ التنافس بين زوجات رجل واحد أمراً اعتياديّاً، والإنحراف عن الحق والعدل أو ارتكاب إحداهن لخطأ على الأقل ممكن.

وليس مهماً ما يكون سبب النّزول، بل المهم أن نعلم من مجموع الآيات هو أنه قد اتهم شخص بريء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات، وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة، كما يفهم من الدلائل الموجودة في هذه الآية، أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية خاصّة في المجتمع آنذاك. وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإِسلامي بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت

[42]

المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم.

ومهما يكن سبب نزول هذه الأحكام، فإنها لا تخص سبب النّزول وحده، ولا تنصرف لزمانه ومكانه فقط، بل هي أحكام نافذة في كُلِّ بيئة وزمان.

بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه الآيات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلاغته هذه الحادثة الخاصّة، وكيف يبحث تفاصيلها بدقة.

* * *

 

التّفسير

حديث الافك المثير:

تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث، دون أن تطرح أصل الحادثة (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم) لأن من علائم الفصاحة والبلاغة، حذفَ الجملِ الزائدة، والإكتفاء بما تدلّ عليه الكلمات من معان شاملة.

كلمة «الإفك» على وزن «فكر» كما يقول الراغب الأصفهاني: يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة» ثمّ اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب «أفك».

ويرى «الطبرسي» في مجمع البيان أن الأفك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية، وعلى هذا يستفاد أن كلمة «الأفك» بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة.

وأمّا كلمة «العُصبة» فعلى وزنِ «فُعْلَة» مشتقّة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثمّ أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

[43]

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإِرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

وقال البعض: إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً(1).

وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة (لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم)، لأنّه كشف عن حقيقةِ عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء، وفضح أمر هؤلاء المرائين، وسوّد وجوههم إلى الأبد.

ولو لم تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنَّ عليهم أن يَقِفُوا بقوّة امام هذا العمل. كما علّم هذا الحادث المسلمين درساً آخر، وهو أنَّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادِثِ المؤلم، بل عليهم أن يتبحّروا فيه، فقد يكون فيه خيراً كثيراً رغم سوء ظاهره.

وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير «لكم» يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث، وهذا حقّ، لأن شرف المؤمنين وكيانهم الإجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض، فهم شركاء في السرّاء والضرّاء.

ثمّ تعقّب هذه الآية بذكر مسألتين:

أوّلاهما: (لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم) إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية، ولهذا يتحمل كلّ شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.



1 ـ نقل تفسير «روح المعاني» هذا المعنى عن كتاب «الصحاح».

[44]

والمسألة الثّانية: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قال بعض المفسّرين: إن الشخص المقصود هو «عبدالله بن أبي سلول» قائد أصحاب الإفك.

وقال آخرون: إنّه مسطح بن أُثاثة. وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب.

وعلى كل حال، فإنّ الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين، وأضرم نار الإفك، هو قائد هذه المجموعة الذي سيُعاقَبُ عِقاباً عظيماً لِكبر ذنبه. (ويحتمل أن كلمة «تولى» يقصد بها رأس مروجي حديث الإِفك).

ثمّ تَوجّهت الآية التالية: إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلا متهم بشدّة (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً).

أي: لِمَاذا لم تقفوا في وَجْهِ المنافقين بقوّة، بل استمعتم إلى أقوالهم الّتي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء: (وقالوا هذا افك مبين).

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين، وتعرفون جيداً طهارة الذي اتّهم، وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلائل المتوفرة لديكم.

وكنتم تعلمون أيضاً بما يحاك من مؤامرات ضدّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء والمنافقين، لذا فإنّكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة، ولالتزامكم الصمت إزاءها، فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟

وممّا يلفت النظر أن الآية السابقة بدلا من أن تقول: عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا تهمته، فإنها تقول (ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى أنَّ أنفس المؤمنين كنفس واحدة، فإذا اتهم

[45]

أحدهم، فكأن التهمة موجهة لجميعهم، ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية الأعضاء لنجدته.

وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه(1).

وقد استعملت كلمة «الأنفس» في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضاً ـ في مثل هذه الحالات ـ كما هو في الآية (11) من سورة الحجرات (ولا تلمزوا أنفسكم)! أمّا الإستناد إلى الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة الإيمان على ردع سوء الظن بالآخرين.