![]() |
![]() |
![]() |
ذلك لأنّه ورد صريحاً في الرّوايات الإسلامية، أن الإنسان إذا قصّر في العمل الذي يستطيع أن يؤديه بنفسه، ثمّ يتوسل بالدعاء فلن يستجاب دعاؤه.
من هنا، فإنّ الدعاء وسيلة لمعرفة الخالق ومعرفة صفاته الجمالية والجلالية،
ووسيلة أيضاً للتوبة من الذنب، ولتطهير الروح، وسبب أيضاً لأداء الحسنات للجهاد والجدّ والاجتهاد إلى منتهى الإستطاعة.
لهذا نجد عبارات مهمّة حول الدعاء لا يمكن فهمها إلاّ على ضوء ما قلناه، مثلا:
نقرأ في رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض».(1)
ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي».(2)
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان».(3)
فضلا عن كل ذلك، فإن من الطبيعي أن حوادث تقع في حياة الإنسان، فتغرقه في اليأس من حيث الأسباب الظاهرية، فالدعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثرة في مواجهة اليأس والقنوط.
لهذا فالدعاء إزاء الحوادث الصعبة المرهقة، يمنح الإنسان قدرة وقوة وأملا وطمأنينة، وأثراً لا يمكن إنكاره من الناحية النفسية.
وقدّمنا بحثاً مفصلا بصدد مسألة الدعاء، وفلسفته، وشرائطه، ونتائجه، في التّفسير الأمثل ذيل الآية (186) من سورة البقرة، فتفضل بمراجعته هناك من أجل التوضيح أكثر.
اللّهمّ، أجعلنا من خاصّة عبادك، وترحم علينا بتوفيق اكتساب خصائص وصفات «عباد الرحمن».
ربّنا، افتح لنا أبواب الدعاء واجعل ذلك سبباً لتثمين وجودنا بين يديك.
اللّهمّ، تفضل علينا بتوفيقات الدعاء المطلوبة بين يديك، ولا تحرمنا من الإستجابة.
إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
* * *
نهاية سورة الفرقان
مكيَّة وَعَدَدُ آياتِهَا مئتان وسبع وعشرون آية
المعروف بين المفسّرين أنّ جميع آيات هذه السورة المائتين وسبع وعشرين نزلت في مكّة عدا الآيات الأربع الأخيرة.(1)
إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضاً مع إيقاعات السور المكية الأُخرى، ونعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام، تستند على بيان الأُصول الإعتقادية: التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء الله، وأهمية القرآن.
وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريباً.
و يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:
القسم الأوّل: مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثمّ يتحدث في عظمة القرآن، وتسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد، وصفات الله تبارك وتعالى.
القسم الثّاني: يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، وفي مكابرات وحماقات أُولئك حيال هؤلاء الأنبياء، حيث فصّل الحديث أكثر في بعض منها، كما في قصة موسى وفرعون، واختصره في بعض آخر منها، كما في قصّة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
في هذا القسم بخاصّة، أشير إلى منطق المشركين. الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر وزمان في مواجهة أنبياء الله، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان هذا سبباً في تسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الأوائل:، ليعلموا تاريخ هذا الصنف من الناس ومنطقهم، حتى لا يتأثروا ويتراخوا، وحتى لا يفسحوا للضعف والفتور ليجد طريقاً إلى أنفسهم.
وفيه بشكل خاص أيضاً، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النّبي في تلك الشرائط.
القسم الثّالث: وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين، يتناول الحديث حول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، والأوامر الصادرة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين.
وبالمناسبة، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدّث حول الشعراء غير المؤمنين.
وهناك نكتة جديرة بالإِهتمام أيضاً، وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة من حيث عدد الآيات، وإن كانت ليست كذلك من حيث عدد الكلمات، بل هي أقصر من كثير من السور.
ورد في الحديث الشريف عن رسول الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان أهمية تلاوة هذه السورة أنّه قال:
«من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل من صدّق بنوح وكذب به، وهود وشعيب وصالح وابراهيم، وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحمّد».
ولا يخفى أن كلّ هذا الأجر والثواب ليس على التلاوة بدون التفكر والعمل بها، بل ان القرائن المتعدد في روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثمّ العزم والعمل، وقد أشرتا الى ذلك سابقاً.
وممّا يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس الحديث اعلاه، لأنّ استحقاق الحسنات بعدد المصدّقين والمكذبين للانبياء من أجل أن يكون الشخص في صف المصدّقين ويتجنّب منهج المكذبين.
* * *
طـسـم(1) تِلْكَ ءَايـتُ الْكِتَـبِ المُبِينِ(2) لَعَلَّكَ بَـخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـقُهُمْ لَهَا خَـضِعِينَ(4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّنَ الرَّحْمَـنِ مُحْدَث إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5) فَقَدْ كَذَّبوُاْ فَسَيأْتِيهِمْ أَنبَـؤُاْ مَا كَانوُاْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(6)
مرّةً أُخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلا آخر من الحروف المقطعة وهو: (طَسَمَ).
وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مُسهَبة ومستقلّة في مستهل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف! فلا نرى حاجةً إلى التكرار والإعادة!
إلاّ أنّ ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو
بعض أصحابه في تفسير «طسم» ويدلّ جميعُها على أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء الله تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنّة!...
وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته، حيث أن هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة!
والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: (تلك آيات الكتاب المبين).
وبالطبع فإنّ «تلك» في لغة العرب اسم إشارة للبعيد، ويشار بها للمؤنث «المفرد» و«الجمع»; كما قد يشار بها لجمع التكسير.(1)
وكما بيّنا آنفاً فقد يعبّر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريباً ـ باسم الإشارة (للبعيد) فكان الموضوع لأهميّتهِ وارتفاع «وعلوّ» مرتبته بعيد عنّا، ومكانه في السماوات العُلى!
وممّا ينبغي الإلتفات إليه وملاحظته أنّ هذه الآية بنصّها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص ـ أيضاً ـ دون زيادة أو نقصان. كما أنّها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهلّ السور آنفة الذكر، وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.
ووصفُ القرآن بـ «المبين» المشتق من «البيان»، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً ـ فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر... ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال!
والآية التالية تُسرّي عن قلب النّبي وتثبته فتقول: (لعلك باخعٌ نفسَك أن لا يكونوا مؤمنين).
كلمة «باخع» مشتقّة من (البَخْع) (على وزن الدَّمع)! ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ... وهذا التعبير يدلّ على مدى تحرّق قلب النّبي وشفقته لأُمته، وأداء رسالته، وما كان عليه من إصرار في خِطته، وتجلّد في مواجهة شدته ومحنته، لأنّه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزلال، ولكنّها لا تزال على ظمئها ولا ترتوي من معينه العذب، فكان يتحرق لذلك!
كان قلقاً ـ وباخعاً نفسه ـ أن يرى الإنسان الذي منحه الله العقل واللبّ يسير في الطريق المظالم، بالرغم من كل هذا الضياء، ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين!
أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على أُممهم ولا سيما الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة...
قال بعض المفسّرين: إن سبب نزول الآية الأنفة الذكر هو أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو أهل مكّة إلى توحيد الله باستمرار، إلاّ أنّهم لم يؤمنوا. فأسف النّبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).(1)
ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين).
وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، يطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، يستسلموا
الأمره وحكمه، إلاّ أن الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.
ومن الواضح أنّ المراد بخضوع الأعناق خضوع أصحابها... فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية عن الإنسان لأنّها جزء مهمٌّ منه، ويقال مثلا كناية عن البغاة القساة: غلاظ الرقاب، وعن المضطهدين والضعفاء: الرقاب الذليلة!
وبالطبع فهناك احتمالات أُخرَ لتفسير «أعناقهم» من جملتها أنّ الأعناق تعني الرؤساء، كما أن من التفاسير أن الأعناق تعني طوائف من الناس. وجميع هذه الإحتمالات ضعيفة.
ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين).
والتعبير بـ «ذكر» هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلاّ أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرّ عن كل ذلك!...
والتعبير بـ «الرحمن» إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!
كما أن هذا التعبير ـ أيضاً ـ ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضاً...
والتعبير بـ «محدث» ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الأُخرى، وكلُّ منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون... فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها ـ فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساساً مهما كان
الجديد موجباً للهداية، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له...
ونقرأ في سورة «المؤمنون» الآية 68 منه إذ تقول: (أفلم يدبّروا القول أم جاءهم مالم يأتِ آباءهم الأولين) فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!
ثمّ يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: (فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزئون).
«الأنباء»: جمع «انبأ»، أي الخبر المهمّ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي. على أنّ بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان»، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب الآخرة. إلاّ أن أغلب المفسّرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين، وهو ـ في الواقع ـ كذلك!... لأنّ الآية مُطْلَقَةٌ.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإِنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان... فكيف يمكن السكوت عنها!
والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ .
ففي المرحلة الأُولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه... ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب.. ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه «وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام».
* * *
1 ـ ورد في بعض خُطب أمير المؤمنين «في نهج البلاغة» المعروفة بالخطبة
القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله أرسل الأنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه، بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان الإيمان إجبارياً، إذ يقول: «ولوْ أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل... ولو فعل لسقط البلاءُ وبطل الجزاء...»(1).
وورد في كتاب الكافي ذيل الآية محل البحث «لو أنزل الله من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين».(2)
وممّا يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالإرشاد للشيخ المفيد، وروضة الكافي، وكمال الدين للشيخ الصدوق، وتفسير القمي، أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال في تفسير الآية: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية...) قال: «تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي الصيحة في السماء باسم صاحب الأمر ـ صلوات الله عليه ـ».(3)
وواضح أنّ المراد من هذه الرّوايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للآية، إذ ستخضع أخيراً جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية، وذلك عندما يظهر المصلح المهدي(عليه السلام) إمامُ الحكومة العالمية، فتستسلم إذعاناً لقدرته وحماية الله له وتنحني له إجلالا.
2 ـ أحد البحوث التي كثر الكلام فيها والتعليق عليها في القرون الأُولى ـ أو الصدر الأوّل ـ للإسلام هو البحث أو الكلام عن كون كلام الله قديماً أو حادثاً؟! وقد انجرّ هذا الكلام إلى كتب التّفسير أيضاً، وقد استدل جماعة من المفسّرين بالتعبير الوارد في الآية آنفاً «محدث» على كون القرآن حادثاً.
إلاّ أنّه ـ كما أشرنا من قبل أيضاً ـ فإنّ أساس هذا البحث لا يمكن أن يكون منطقيّاً بأيِّ وجه، ويبدو أنّ ذوي السلطة أو أولي الأمر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس، كان لهم الأثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهمّة والجديّة، وليشغلوا علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظاً على حكومتهم وسلطتهم.
لأنّه إذا كان المراد من كلام الله هو محتوى القرآن، فهو من الأزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه، وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه، فذلك حادث قطعاً ولا خلاف فيه.
فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو، وأُخرى هو حادث قطعاً بهذه الصورة، فعلى المجتمع الإسلامي أن يكون فطناً ولا سيما العلماء، فلا يُبتلوا بالبحوث المضلة الإنحرافية المبتدعة من قِبَلِ الجبابرة وأعداء الإسلام.
* * *
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاَْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم(7) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنينَ(8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد)، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقِه وما أوجده سبحانه، فالكفار لم يَصمّوا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النّبي وكلماته فحسب، بل كانوا يحرمون أعينهم رؤية دلائل الحق المنتشرة حولهم.
فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم).(1)
والتعبير بـ «زوج» في شأن النباتات يستحق الدقّة... فبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف، وأن الأزواج معناها الأصناف والانواع، إلاّ أنّه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الإشارة إلى الزوجيّة في النباتات؟!
كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان (ذكر وأُنثى) وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر ... وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماماً في النخيل...
إلاّ أنّ العالم السويدي والخبير بعلم النبات «لينه» وُفّق لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لاكتشاف هذه الحقيقة، وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريباً، والنباتات كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لأنثاه ثمّ تقذف بالثمار...
غير أنّ القرآن المجيد أشارَ إلى هذه الظاهرة «الزوجية في النبات» في آيات مختلفة مراراً قبل هذا العالم السويدي بقرون، كما هي الحال في الآيات محل البحث. وفي الآية الرّابعة من سورة الرعد، والآية العاشرة من سورة لقمان، والآية السابعة من سورة ق. وهذه الإشارة بنفسها إحدى معاجز القرآن العلمية!
وكلمة «كريم» في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين، فقد تستعمل في الإنسان، وقد تستعمل في النبات، وقد تستعمل في الكتاب [أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين] أيضاً... كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت: (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم).(1)
والمراد من (كم أنبتنا فيها من كلّ زوج كريم) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة، وطبعاً ما من نبات إلاّ وله فائدة أو فوائد جمّة، ومع تقدم العلم تتجلى هذه
الحقيقة يوماً بعد يوم.
وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدةً بصراحة: (إنّ في ذلك لآية).
أجل إن الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا التراب الذي لا قيمة له ظاهراً، بما فيه من تركيب معين هو مبدأ ظهور أنواع الأزهار الجميلة، والأشجار المثمرة الظليلة، والفواكه ذات الألوان الزاهية، وما فيها من خواص مختلفة. وهو ـ أي التراب ـ يبيّن منتهى قدرة الله، إلاّ أن أُولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل!
لذلك فإنّ الآية هذه تعقّبُ قائلة: (وما كان أكثرهم مؤمنين).
أي إنّ عدم الإيمان لدى أُولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات، لأنّ قابليّة المحل من شرائط التأثير الأصيلة أيضاً كما نقرأ قوله تعالى: (هُدى للمتقين).(1)
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدلُّ على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...
«العزيز» معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم.. إلاّ أنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!
ولعل تقديم كلمة «العزيز» على «الرحيم» لأنّه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لأشعرت الإحساس بالضعف، إلاّ أنّه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليُعلم أنّه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!
* * *
وَإذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(10) قَومَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ(11) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافَ أَن يُكَذِّبُونِ (12)وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَـروُنَ (13)وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخافُ أَن يَقْتُلُونِ(14) قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأَيَتِنَآ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ(15)
قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ...
فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى(عليه السلام)، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل!
وقد جاء الكلام عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الآن في سور شتى «كالبقرة والمائدة والأعراف ويونس والإسراء وطه» كما ورد الكلام في هذا الشأن أيضاً في بعض السور التالية!...
وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ أن الإمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ بحث منها يتناول جانباً خاصّاً من هذه القصّة ذات المحتوى الغزير، ويعوّل على هدف معين!...
مثلا.. حين نزلت الآيات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قلّةً ضعافاً وكان أعداؤهم كثرةً أولي قوّة وبأس شديد، بحيث لا يمكن الموازنة بين الفرقتين، فكان ينبغي أن يبيّن الله قصص الأُمم السابقة المشابهة لحال هؤلاء، ليعلم المسلمون أن هذه القوّة التي يمتلكها الأعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أيٌّ منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين، ولتزداد معنويات المسلمين وتثّبت استقامتهم ومقاومتهم...
وممّا يلفتُ النظر تكرار عبارة: (و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم) بعد تمام الحديث عن كل نبي... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أن ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون...
فتقول الآيتان الأُوليان من الآيات محل البحث (وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون). ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أن الظلم له معنى جامعٌ واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان (إنّ الشرك لظلم عظيم)...
كما أنَّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الأُخرى أيضاً، ثمّ بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم
بجميع أبعاده!...
ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: (قال ربّ إنّي أخاف أن يكذبونِ) وأخشى أن أُطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما أُلاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود...
وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً..
وإضافة إلى ذلك فان صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الالهية: (ويضيق صدري).
ثمّ بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها: (ولا ينطلق لساني)...
فلذلك فإني أطلب أن تشدّ أزري بأخي (فأرسل إلى هارون).(1)
لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.
وبغض النظر عن كلّ ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني (ولهم عليّ ذنب) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك (فأخاف أن يقتلونِ).
وفي الحقيقة إنّ موسى(عليه السلام) كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه، فكان يطلب من الله حلّها لأداء رسالته وهذه المشاكل هي...
مشكلة التكذيب.
مشكلة ضيق الصدر.
مشكلة عدم الفصاحة الكافية.
و مشكلة القصاص!
ويتّضح ضمناً أنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوّة لهذه المواجهة!...
طلبات موسى(عليه السلام) من الله في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة، إذ طلب أن يشرح صدره وحلّ عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيلا إذ قال: (ربّ اشرح لي صدري ويسِّرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً).
فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و(قال كلاّ) فلن يستطيعوا قتلك، أو كلاّ لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمّة: (فاذهبا بآياتنا) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.
ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان (إنّا معكم مستمعون)...
فإنا معكما ولن اتتركما أبداً، وسأنصركما في الحوادث الصعبة، فاذهبا مطمئني الخاطر، وامضيا في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!...
وهكذا فإنّ الله سبحانه أعطى لموسى الإطمئنان الكافي في جمل ثلاث وحقّق له طلبه... إذ طمأنه بقوله: (كلا) على أنّ قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك... ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانهِ وبقوله: (فاذهبا بآياتنا) أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله: (إنا معكم مستمعون) وعدهما أنّهما سيكونان أبداً تحت ظل خيمته وحمايته!...
وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله: (إنا معكم) ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات، ويسمع ما يدور بينهم جميعاً، فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!...
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أن كلمة «مع» دالة على النصرة والحماية فلا تشمل قوم فرعون، غير سديد، بل إن «مع» تعني حُضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين، حتى مع المذنبين، وحتى مع الموجودات التي لا روح فيها، فهو في كل مكان ولا يخلو منه مكان.
والتعبير بـ «مستمعون»، أي الإصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.
![]() |
![]() |
![]() |