![]() |
![]() |
![]() |
ويمكن أيضاً أنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه، لهذا تحدثت الآيات ـ موضع البحث ـ حول هذا الموضوع. فتقول أوّلا: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه).
والمراد من «أمر جامع» كلّ عمل يقتضي إجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عملا استشارياً، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو صلاة جمعة في الظروف الإستثنائية وأمثالها.
وإذا وجدنا أنّ بعض المفسّرين، قالوا بأنّه يعني الإستشارة أو الجهاد أو صلاة الجمعة أو العيد فنقول: إنّهم عكسوا جانباً من معاني هذه الآية. وأسباب النّزول السابقة أيضاً هي من مصاديق هذا الحكم العام.
وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضرراً بالهدف النهائي، خاصّة إذا كان قائد الجماعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامه مطاع.
كما يجب الإنتباه إلى أنّ الإذن لا يعني الإستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصّة والتفرغ لتجارته. وإنّما أن يكون صادقاً في الإستئذان. فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضرراً، فمن حقه أن لا يأذن له، وعليه أن
يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى. لهذا تضيف الآية: (إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم).
ومن الواضح أنّ هؤلاء المؤمنين لا يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أنّهم اجتمعوا لأمر أهم، والمقصود من عبارة «شأنهم»، الأعمال الضرورية والمهمّة فقط.
ومن جهة أخرى، لا تعني إذن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للأشخاص دون دراسة جوانب المسألة وأثر حضور وغياب الأفراد، بل جاء هذا التعبير ليطلق يد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأن لا يأذن لأحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة.
ودليل هذا الكلام ما جاء في الآية (43) من سورة التوبة حيث يلام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لإذنه بعض الأفراد: (عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن الذين صدقوا وتعلم الكاذبين).
وتبيّن هذه الآية كيف أوجبت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) التحقيق قبل الإذن، وأن يلاحظ أبعاد هذه المسؤولية الإلهية.
وتقول الآية في الختام: (واستغفر لهم الله إنّ الله غفور رحيم).
و هنا يطرح سؤال: ما الغرض من هذا الإستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الإذن من الرّسول بالمغادرة، كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟
و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان:
أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيهاً على أنّ الأوْلى أن لا يقع الإِستئذان منهم وإن أذن لهم، لأن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصّة على مصلحة المسلمين، و لا يخلو هذا الامر من «الترك الاولى» ولذا يحتاج الى الاستغفار (كالاستغفار
على عمل مكروه).(1)
كما تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الإستئذان بالقدر الممكن. واتباع التضحية و الإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أوْلى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.
و الوجه الثاني: يحتمل أنّه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتمسّكهم بآداب اللّه تعالى في الإستئذان.(2)
ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين، كما أنّه من الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقط. وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كلّ قائد إلهي، سواء كان نبياً أم إماماً أم عالماً نائباً لهما، حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة. كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق، لأنّ الاستمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادىء، ولا يمكن إدارة المجتمع بدونها.
و المدهش تفسير كبار مفسّري أهل السنة لهذه الآية بأنّها دليل على جواز الإجتهاد وتوقف الحكم على رأي المجتهد. ولا يخفى أنّ الإجتهاد المطروح في مباحث الأصول والفقه يخص الأحكام الشرعية، ولا يتعلق بالاجتهاد في الموضوعات حيث أنّ الإجتهاد في الموضوع لا يقبل الإنكار، فكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الإجرائية الخاصّة بدائرة عمله. وليس هذا دليلا على إمكان الإجتهاد في الأحكام الشرعية العامّة بإيجاب حكم بدعوى المصلحة العامّة، أو نفي حكم أو تشريع آخر.
ثمّ بيّنت الآية التالية حكماً آخر له علاقة بتعاليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
تقول:(لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً).
إن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يدعوكم للإجتماع، فإنه لابدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمّة، لهذا يجب عليكم الإهتمام بدعوته، والإلتزام بتعاليمه، وألاّ تهملوها، فأمره من الله ودعوته منه سبحانه وتعالى.
ثمّ تضيف الآية (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
«يتسللون» مشتقّة من «تسلل»، وتعني سحب الشيء من موضعه، كأنّ يقال: سلّ السيف من غمده. كما يطلق على الذين يفرون سرّاً من مكان تجمع محدد لهم، كلمة «متسللون».
«لواذاً» مشتقّة من «ملاوذة» بمعنى الإختفاء، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار، أو بتعبير آخر: استغفال الآخرين ثمّ الفرار من مكان تجمعهم، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر، يقول لهم القرآن المجيد: «إنّ عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإنّه لا يخفى على الله، وسيعاقبكم على هذه الاعمال ومخالفتكم لاوامر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة».
ماذا يقصد به «فتنة» هنا؟ قال بعض المفسّرين: إنّها القتل، وآخرون قالوا: إنّها تعني الضلال، كما قال بعضهم: إنّها السلطان الظالم، وقيل: إنّها بلاء النفاق الذي يتوغل في قلب الإنسان.
كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الإجتماعية ومشاكلها، وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع، وابتلائه بالهزيمة، وسائر الفتن الاُخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده.
و على كلّ حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضمّ جميع هذه الأُمور وغيرها، مثلما يضمّ العذاب الأليم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.
و ممّا يجب الإنتباه إليه في تفسير الآية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما:
الأوّل: أنّ القصد من قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) أنّكم عندما تدعو النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم) فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته، وليس كما تدعون بعضكم بعضاً، والسبب يكمن في أنّ جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين، فكانوا ينادون الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعبارة: يا محمّد! وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير. وتستهدف الآية تعليم الناس أن يدعوا الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب، كأن يدعوه: يا رسول الله، أو: يا نبىّ الله.
وهذا التّفسير ورد في بعض الرّوايات أيضاً إلاّ أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآية التي تحدثت عن الإستجابة لدعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون استئذان منه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن نقول: إن كلا المعنيين مقصودان للآية واحدة، وأن مفهوم الآية شامل للتفسيرين الأوّل والثّاني .
و الآخر: ويبدو أنّه ضعيف جدّاً، وهو ألاّ تجعلوا دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على أحد الاشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض(1)، لأنّ دعاء ولعن النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يتمّ وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم الإلهية، وهو نافذ حتماً.
و لكن ليس لهذا التّفسير علاقة بأوّل الآية ونهايتهاً، ولم يرد حديث إسلامي خاصّ به، ولهذا السبب لا يمكن قبوله.
و تجدر الإشارة إلى أنّ علماء الأُصول فسّروا عبارة (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) بأنّ أوامر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تدل على الوجوب، إلاّ أنّ هذا الإستدلال فيه نواقص اُشير إليها في علم الاُصول.
و آخر آية من الآيات موضع البحث، ـ والتي هي آخر سورة النور ـ اشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد التي تعتبر دافعاً لإمتثال التعاليم الإلهية جميعاً، وضمان لتنفيذ جميع الأوامر والنواهي، ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول: (ألا أن لله ما في السموات والأرض)
فإنّ الله العالم بكلّ شيء (قد يعلم ما أنتم عليه) أي يعلم أُسلوبكم في التعامل و أعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى. وثابتة في لوحة علمه (و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا) ويجازيهم بها (والله بكل شيء عليم).
و ممّا يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم الله بأعمال البشر. ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم، ولا يخفى على الله شيء من أعمال هذا الإنسان أبداً. ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الإنحرافات والذنوب.
إلهي، نوّر قلوبنا بنور العلم والإيمان، وقوِّ مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا الإيمان، لنجتاز صراطك المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك، ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف.
ربّاه، نوّر أبصارنا بنور العفة، وقلوبنا بنور المعرفة، وأرواحنا بنور التقوى، ونور وجودنا كله بنور الهداية، واحفظنا من التيه والغفلة، وأعذنا من وساوس الشيطان.
إلهي، وطّد أركان حكومة العدل الإسلامي من أجل تنفيذ حدودك، واحفظ مجتمعنا من الزلل والسقوط في هاوية الرذيلة، إنك على كل شيء قدير.
نهاية سورة النور
* * *
مَكيَّة وَ عَدَدُ آياتِها سَبْع وَسَبْعُونَ آية
هذه السورة بحكم كونها من السور المكية(1)، فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد، وبيان نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمواجهة مع الشرك والمشركين، والانذار من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الأصنام والذنوب.
و تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام: ـ
القسم الأوّل: الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، و يستعرض ذرائعهم، ويردُّ عليها، ويخوفهم من عذاب الله، وحساب يوم القيامة، و عقوبات جهنم الأليمة، ويذكرّهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة الأنبياء ـ الشدائد والبلايا والعقوبات، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلاء المشركين المعاندين.
في القسم الثانى: لأجل إكمال هذا البحث، تبحث الأيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان، بدءاً من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل، وهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وإحياء الأراضي الموات، وخلق السماوات والأرضين في ستة أيّام، وخلق الشمس والقمر، وسيرهما المنظم في الأفلاك السماوية، وما شابه ذلك.
فالقسم الأوّل في الحقيقة ـ يحدد مفهوم (لا إله)، والقسم الثّاني يحدد مفهوم (إلاّ الله).
القسم الثالث: مختصر جذاب جدّاً، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً. كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.
و اسم هذه السورة قد اُخذ من آيتها الأُولى، التي تعبر عن القرآن بـ «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن «من قرأ سورة الفرقان (و تدبّر في محتواها وعمل بما ورد فيها) بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور».(1) (أي مؤمن بأن الساعة...)
و نقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال له: «يابن عمار، لا تدع قراءة سورة (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبداً، ولم يحاسبه، وكان منزله في الفردوس الأعلى».(2)
كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كلَّ من تلا بحق صفات عباد الله المخلصين المبيّنة في السورة كما هي، وامتزجت بقلبه وروحه، وبنى صفاته أعماله طبقاً لها فإنّ منزِله الفردوس الأعلى.
* * *
تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لَلْعَـلَمِينَ نَذيراً(1) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ والأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَريكٌ فِى الْمُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(2)
تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة»، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(1)
الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزَّوجلّ بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل.
و هنا وقفة مهمّة أيضاً، وهي أنّ كلمة «الفرقان» وردت بمعنى «القرآن» تارةً، و تارةً بمعنى معجزات مميزة للحق من الباطل، ووردت بمعنى «التوراة» تارةً
أخرى.
عن القرآن والفرقان، أهما شيئان، أو شيء واحد؟ فقال: «القرآن: جُملةُ الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به».
ولا منافاة بين هذا القول وبين أنّ الفرقان هو جميع آيات القرآن، والمراد هو أنّ آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقاً أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل.
ولموهبة «الفرقان والمعرفة» أهمية بالغة بحيث أنّ القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: (يا أيّها الذي آمنوا إنْ تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..)(1).
نعم، فبدون التقوى لا يمكن تمييز الحق من الباطل، لأنّ الأهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجاباً كثيفاً، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.
و على أية حال، فالقرآن المجيد هو الفرقان الأعلى.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والإجتماعية، وهو الميزان والمحك على صعيد الأفكار والعقائد، والقوانين، والأحكام، والآداب، والأخلاق.
وهذه الوقفة مهمّة أيضاً، حيث يقول تعالى (نزّل الفرقان على عبده) نعم، فمقام العبودية والإنقياد التامّين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.
والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام
عالمية لا تختص بمنطقة معينة، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن «العالمين» كما أنّها غير محدودة من حيث المكان، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضاً، فـ «العالمين» تشمل جميع الأجيال القادمة أيضاً (فتأمل!).
الآية الثّانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلا: (الذي له ملك السموات والأرض)(1).
نعم، إنّه الحاكم على كل عالم الوجود، وكل السماوات والأرض، فلا شيء خارج عن سلطة حكومته، وبالإلتفات إلى تقدم «له» على «ملك السموات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه.
ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأُخرى، فيقول تعالى: (ولم يتخذ ولداً)(2).
و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الإستفادة من طاقته البشرية في الأعمال، أو لأجل الإستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة، أو لأجل الإستئناس به في حال الوحدة، ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عزَّوجلّ منزّهة عن أي واحد من تلك الإحتياجات.
وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح»(عليه السلام) ابن الله، أو ما
يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن الله، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب، ثمّ يضيف جل ذكره: (ولم يكن له شريك في الملك).
فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة، ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم، حتى آل بهم الأمر أنّهم كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جملا قبيحة ملوثة بالشرك، مثل: «لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك». فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.
و يقول تعالى في العبارة الأخيرة: (وخلق كلَّ شيء فقدّره تقديراً).
ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات «الله»، وأن قسماً منها مخلوقات «الشيطان».
و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان، ذلك لأنّهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من «الخير» و «الشر»، والحال ألاّ شيء في عالم الوجود إلاّ الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرّاً، فإمّا أن يكون ذا جنبة «نسبية» أو «عدمية»، أو أن يكون نتيجة لأعمالنا (فتأمل)!.
* * *
ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلائل المحكمة على معرفة الله وتوحيده، فتقديراته الدقيقة أيضاً دليل واضح آخر، أنّنا لا يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة، وكميتها وكيفيتها المحسوبة، معلولة للصدفة التي لا تتوافق مع حساب الإحتمالات.
و قد تقصّى العلماء الأمر في هذا الصدد، وأزاحوا الستار عن أسراره
المدهشة التي تذهل فكر الانسان، وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بلا اختيار.
و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانباً من ذلك:
يقول العلماء: لو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي عليه الآن بمقدار بضعة أقدام، لما وجد غاز «الاوكسجين» الذي يعتبر المادة الاصلية للحياة، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدّة أقدام لا متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الاوكسجين، ولما امكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح الارض، ويحتمل أن تقوم قشرة الأرض والبحار بامتصاص كل الأوكسجين، وكان على الانسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الأوكسجين.
وطبقاً للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتّضح أنّ للأوكسجين مصادر مختلفة، ولكن مهما كان مصدره فإنّ كميته مطابقة لاحتياجاتنا بالضبط.
ولو كانت طبقة الغلاف الجوي أرق ممّا هي عليه الآن ممّا هو، فإنّ بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثّانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للإحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة، ولو تعرض الأنسان للاصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، لتحول الى رماد لمجرّد حرارته.
الغلاف الجوي سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلاّ إذا عرّض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من اعماق الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.
إنّ الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء،
أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، وأخيراً استمد الإنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى، ويقرُّ بواجباته شاكراً!
إنّ التعادل العجيب بين الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النبات كلّه، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا، وهوغاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، و لايتمّ فصله إلى أوكسجين وكاربون إلاّ بصعوبة كبيرة، وإذا أشعلت ناراً، فإنّ الخشب ـ الذي يتكون غالباً من الأوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع الأوكسجين بشدّة، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره.
وحين يتنفس رجل فإنّه يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه، ويقوم هذا الأكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء.
و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه، ويعود الى الجو مرّة اُخرى من خلال الزفير، وكلّ كائن حيواني حي يمتص الاوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون.
ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أنّ الإنسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثلا في تطورات آفات الحيوان
والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان، فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار (الكاكتوس) في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الإنتشار، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبّار، ثمّ تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبّار عن الأنتشار إلى الابدّ.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية.
ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك.
و لماذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» «الذبابة المنومة» حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقاً إلى الدهشة!(1).
* * *
وَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعَاً وَلاَ يَمْلِكونَ مَوْتاً ولاَ حَيَوةً وَلاَ نُشُوراً(3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّإفْكٌ افْتَرِاهُ وَأَعَانَهُ عَليْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُو ظُلْماً وَزُوراً (4)وَقَالُواْ أسَـطِيرُ الاَْوَّلينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلا(5) قُلْ أنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(6)
هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. ثمّ في الإدعاءات الواهية لعبدة الأوثان، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن، وشخص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
الآية الأُولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم
تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض: (واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون).
المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود، ولا يدعي المشركون هذا الإدعاء لأوثانهم، بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله.
وبعدُ، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين!؟ (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً).
والاُصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأُمور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.
فمن يكن بحق مالكاً أصيلا لهذه الأُمور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.
لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأُمور لنفسها، فكيف تريد أن توفّر هذه الاُمور لمن يعبدها من المشركين؟!
أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجود لا اختيار له في نفسه، فما بالك باختياره للآخرين!؟
هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً.
هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين، المخاطبة في هذه الآيات، كانت تقبل بالمعاد نوعاً من القبول (المعاد الروحي لا الجسدي)، أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد ـ يتناول القضية كمسلّمة، فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد، وهذا مألوف، فالإِنسان أحياناً يكون أمام شخص منكر للحقيقة، لكنّه يدلي بكلامه طبقاً لأفكاره هو، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر. خاصّة وأنّ دليلا ضمنياً على المعاد قد كمن في نفس الآية، لأنّ خالقاً حينما يبتدع مخلوقاً ـ وهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعه ـ لابدّ أن يكون له هدف من خلقه،
ولايمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإِيمان بالنشور، ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإِنسان كل شيء، فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى، وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيماً.
إذا تأملنا جيداً وجدنا مسألة «الضرر» جاءت في الآية قبل «النفع» وذلك لأن الإِنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأُولى، ولهذا كانت جملة «دفع الضرر أولى من جلب المنفعة» أحد القوانين العقلائية.
وإذا كان «الضرر» و «النفع» و «الموت» و «الحياة» و «النشور» جاءت بصيغة النكرة، أيضاً، فلأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، حتى في مورد واحد، فما بالك بالموارد كلها!؟
وإذا ذكرت «لا يملكون» و «لا يخلقون» بصيغة «جمع المذكر العاقل» (في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب، بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح، ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة، فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب «التغليب» كما في الإِصطلاح الأدبي.
أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقاً لإعتقاد المخاطبين به، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم، يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور، فلماذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرراً، أو أن تجلب منفعة!؟
الآية التالية ـ تتناول تحليلات الكفار ـ أو حججهم على الأصح ـ في مقابل دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (وقال الذين كفروا إن هذا إلاّ إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون).
![]() |
![]() |
![]() |