![]() |
![]() |
![]() |
كما يجب الإنتباه إلى أنّ ضمير الهاء المتصلّة في «إليه» يعود إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه، أو إلى تحكيمه. وكذلك لابدّ من الإلتفات إلى أن الآية نسبت التخلُف عن هذا الحكم والإعراض عن تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مجموعة من المنافقين فقط. ولعل ذلك لأن الفئات الأُخرى لم تكن بهذه الدرجة من الجرأة وعدم الحياء، لأنّ للنفاق مراتب أيضاً كمراتب الأيمان المختلفة.
وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاءَ تحكيم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت أوّلا (أفي قلوبهم مرض).
هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان، ولكنّهم لا يُسلِّمون بحكم الله ورسوله، ولا يستجيبون له، إمّا بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردد (أم ارتابوا) وطبيعي أنّ الذي يتردّد في عقيدته، لن يستسلم لها أبداً.
وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من المؤمنين: (أم يخافون أن
يحيف الله عليهم ورسوله).
في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضاً صريحاً، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ويعتبر حكمه حكم الله تعالى أن يَنْسِب الظلم إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وهل يمكن أن يظلم الله أحداً؟
أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟
إنّ الله تعالى مقدَّس عن كلّ هذه الصفات (بل أُولئك هم الظالمون) إنّهم لا يقتنعون بحقّهم، وهم يعلمون أنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجحف بحقِ أحد، ولهذا لا يستسلمون لحكمه.
ويرى مفسّر «في ظلال القرآن»: في الآية: (أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟) أنّ السؤال الأوّل للإِثبات، أي لاثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض القلب جدير بأن ينشىء مثل هذا الأثر.
والسؤال الثّاني للتعجب، فهل هم يشكّون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكّون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكّون في صلاحيته لإقامة العدل؟
والسؤال الثّالث لاستنكار أمرهم الغريب، والتناقض الفاضح بين إدعائهم وعملهم.
وإنّه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وربّ العالمين، فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر(1).
وما يورده هذا المفسّر هو أنَّ عبارة «أم ارتابوا» تعني الشك في عدالةِ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المفسّرين أنَّهُ الشكُ في أصل النّبوة كما هو الظاهر.
* * *
ليست هذهِ المرة الأُولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة «المرض» للنفاق، فقد استخدمها في مطلع سورةِ البقرة عند بيانه لصفات المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مَرضاً) وكما قُلنا في المجلد الأوّل في أثناءِ تفسير الآية المذكورة، فإنّ النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن الطريق السوي، فالإنسان السليم له صورة واحدة هي انسجامٌ روحِه مع بدنه.
فإذا كان مؤمناً فكلّ أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها، وإذا كان عديم الإيمان فإنّ ظاهره وباطنه يكشفان عن كفره وانحرافه.
أمّا إذا كان مُتظاهراً بالإيمان ومبطناً للكفر، فإنّ ذلك يعتبر نوعاً من المرض.
وبما أنَ هؤلاء الأشخاص (المنافقين) لا يستحقون لطف الله ورحمته، بسبب عنادهم وإصرارهم على المُضِي بمناهجهم المنحرفة، فقد تركهم الله على حالهم، ليزدادوا مرضاً.
والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع، لأنّه لا يتّضح للمؤمن بأيّ أُسلوب يجب أن يعاملهم، فهم ليسوا أصدقاء ولايبدون أنّهم أعداء، فيستفيدون من إمكاناتِ المؤمنين ويصونون أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاءِ حقائِقهم المشؤُومِة، فأعمالهم أتعس من أعمال الكفّار.
ولكن هؤلاءِ لا يمكنهم أن يُواصِلُوا هذا المنهج لمدّة طويلة، فلابدّ أن يفتضح أمرهم وينكشف باطنهم. وكما ذكرت الآيات ـ موضع البحث ـ وسببُ نُزولها. افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة وانكشاف باطنهم الخبيث(1).
لاشك في أن الانسان مهما سعى في تهذيب نفسه مِن الصفات الرذيلة، خاصّة الكِبر والبغضاء وحب الذات والأنانية، فإنّه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه، إلاّ المعصوم من البشر، إذ يعصمه الله من الخطأ والزلل.
ولهذا السبب نقول: الله وحده هو المشرّع الحقيقي، لأنّه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات الإنسان، فإنّه يعلم سبل سدِّ هذه الحاجات، وهو الذي لا يزلُّ ولا ينحرف بسبب احتياجه وميول الحب والبغض فيه سبحانه.
وقضاء الله والنّبي والإمام المعصوم أفضل قضاء، ويليهم التابعون السائرون على نهجهم المتوكلون على الله، إلاّ أنّ البشر الذي يصاب بالكبر وحبّ الذات لا يرضخ لهذا القضاء، فهو يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته. ما أجمل العبارة التي استخدمتها الآية الكريمة بحق هؤلاء (أُولئك هم الظالمون).
كما أنّ المرور في مثل هذا الإمتحان، خير دليل على إيمان الإنسان أو عدم إيمانه.
ويستوقفنا قولُ القرآن في موضعِ آخر (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً)(1).
أجل، المؤمنون الحقيقيون لا يرتضون قضاءَك فحسب، وإنّما قد سلّموا أنفسهم لك حتّى إنْ لحقهم ضررٌ.
أمّا المنافقون، فلا يقنعون بحكم من الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ما يحقق مصالحهم، فهم عبيد لها، وعلى الرغم من ادعائهم الإيمان، فهم مشركون حقّاً!
* * *
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُؤلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ (52)وَأقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(53) قُلْ أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(54)
لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين، الذين اسودّتْ قلوبهم، وأصبحت ظلمات في ظلمات. وكيف لم يرضخوا لحكم الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأنَّهُم يَخَافُونَ أن يحيف الله ورسوله عليهم، فيضيع حقّهم!
أمّا الآيات ـ موضع البحث ـ فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم الله ورسوله، فتقول (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا).
ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد (سمعنا وأطعنا)!
وقد وردتْ كلمة «إنّما» في الآية السابقة لتحصر كلام المؤمنين في عبارة (سمعنا وأطعنا) والواقع أن حقيقة الايمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط.
كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم الله، وهو يعتقد بأنّ الله عالم بكلّ شيء، ولا حاجة له بأحد، وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم الله إلاّ السمع والطاعة؟
فما أحسن هذه الوسيلة لامتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في الإمتحان؟! لهذا تختتم الآية حديثها بالقول: (وأُولئك هم المفلحون) ولا شك في أنّ الفلاح نصيبُ الذي يسلّم أمرَه إلى الله، ويعتقد بعدله وحُكمِه في حياته المادية والمعنوية.
وتابعت الآية الثّانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأُولئك هم الفائزون)(1).
وقد وصفت هذه الآية المطيعين المتقين بالفائزين، كما وصفت الآيةُ السابقة الذين يرضخون لحكم الله ورسوله بالمفلحين.
وتُفيد مصادر اللغة أنَّ «الفوز» و«الفلاح» بمعنىً واحد تقريباً، قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: «الفوز: الظفر بالخير مع حصول السلامة» و«الفلاح: الظفر وادراك البغية» (وفي الأصل بمعنى الشق، وبما أنّ الاشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات منه أطلق الفلاح على الفوز أيضاً) وبما أن
الكلام في الآية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق، وفي الآية قبلها عن التسليم أمام حكم الله، وأحدهما عام والآخر خاص، فنتيجة كليهما واحدة.
و ما يستحقُّ الملاحظة هو أن الآية الأخيرة ذكرت ثلاثةَ أوصاف للفائزين: هي: طاعة الله والرّسول، وخشية الله، وتقوى الله.
وقال بعض المفسّرين: إنّ الطاعة ذات معنىً عام، والخشية فرعها الباطني، والتقوى فرعها الظاهري. وقد تحدثت أوّلا عن الطاعةِ بشكل عامّ، ثمّ عن باطنها وظاهرها.
ورُوي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (أُولئك هم المفلحون)قال: «إنَّ المعني بالآية أميرالمؤمنين (علي (عليه السلام))»(1).
ولا خلاف في أنَّ علياً(عليه السلام) خير مصداق لهذه الآية، وهذا هو المراد من هذا الحديث فلا يفقد الآية عموميتها.
لحن الآية التالية ـ وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير ـ يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جداً على ما هم فيه، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقسموا يميناً مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك، ولهذا أجابَهُم القرآن بشكل حاسم (وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم: لا حاجة إلى القسم، وعليكم عملا اطاعة الله بصدق واخلاص(قل لا تقسموا طاعة معروفة إنّ الله خبير بما تعملون).
يرى كثير من المفسّرين أنّ كلمة «ليخرجن» في هذه الآية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل الله، غير أنّ مفسّرين آخرين يرون أنّها تقصد عدم التهالك على المال والحياة، وأتباع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أينما رحل وحَلّ وطاعته.
وقد وردت كلمة «الخروج» ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة، وتركِ المنزل والأهل والوطن في سبيل الله تعالى تارة أخرى، إلاّ أنّ الآيات السابقة التي تحدثت عن حكم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل التّفسير الثّاني. بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ليعربوا عن طاعتهم لحكمُه(صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم له، فأقسموا على اخراج قسم من أموالهم، بل أن يتركوا الحياة الدنيا إن أمرهم بذلك.
ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين، أي إنّهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم، والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل الله.
ولكن بما أنّ المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع، فتراهم يقسمون الأيمان المغلَّظة حتى تشعُرَ بأنّهم كاذبون، فقد رَدَّ القرآن ـ بصراحة ـ أنّه لا حاجة إلى اليمين، وإنّما لا بُدّ من البرهنة على صدق الإدعاء بالعمل، لأنّ الله خبير بما تعملون. يعلم هل تكذبون في يمينكم، أم تبغون تعديل مواضعكم واقعاً؟
لهذا أكدت الآية التالية ـ التي هي آخر الآيات موضع البحث ـ هذا المعنى، وتقول للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول).
ثمّ تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: (فإن تولوا فإنّما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة، ولكن (وإن تطيعوه تهتدوا) لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل الله والحقّ والصواب.
في كل الأحوال (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين) وإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر الله به، فإن أطاعوه استفادوا، وإنْ لم يُطيعوه خَسروا. وَلَيْسَ على النّبي أن يجبر الناس على الهداية وتقبّل دعوته.
وما يلفت النظر في الآية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ «الحملِ» الثقيل
وهذا هو الواقع، فرسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تستوجب الإبلاغ عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الناس طاعته. إنّها لمسؤوليةٌ لا يطيق حملها إلاّ المخلصون.
ولذا روى الإمام الباقر(عليه السلام) حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه «يا معشر قرّاءِ القرآن، اتقوا الله عزَّوجلّ فيما حملكم من كتابه، فإنّي مسؤول، وأنتم مسؤولون: إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأمّا أنتم فتسألون عما حُمِلْتُم من كتاب الله وسنّتي»(1).
* * *
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلوُاْ الصَّـلِحـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(55)
روى كثير من المفسّرين. ومنهم السيوطي في «أسباب التنزيل» والطبرسي في «مجمع البيان» وسيد قطب في «في ظلال القرآن» والقرطبي في تفسيره، مع بعض الإختلاف، سبب نزول هذه الآية أنه: عندما هاجر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون إلى المدينة، استقبلهم الأنصار بترحاب، ولكن العرب تحالفوا ضدهم. لهذا كان المسلمون يبيتون ليلتهم والسلاح إلى جانبهم لا يفارقهم، إذ كانوا في حالة تأهّب تامّ. وقد شقّ على المسلمين ذلك. حتى تساءل البعض: إلى متى يدوم هذا الوضع؟ وهل يأتي زمان نستريح وتطمئنّ أنفسنا ولا نخشى إلاّ الله؟ فنزلت الآية السابقة تبشرهم بتحقّق ما يصبون إليه.
تحدثت الآية السابقة عن طاعة الله ورسوله والتسليم له، وقد واصلت الآية ـ موضع البحث ـ هذا الموضوع، وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي: وعدها الله المؤمنين به. فقالت الآية مؤكّدة (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم). (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) ويجعله متجذراً وثابتاً وقوياً بين شعوب العالم.
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإِلهية، واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك، (ومن كفر بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون).
وعلى كلّ حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ الله يبشر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر:
1 ـ استخلافهم وحكومتهم في الأرض.
2 ـ نشر تعاليم الحقّ بشكل جذري وفي كلّ مكان (كما يستفاد من كلمة «تمكين»...).
3 ـ انعدام جميع عوامل الخوف والإضطراب.
وينتج من كل هذا أن يُعبد الله بكلّ حرية، وتُطبق تعاليمُه ولا يشرك به، ويتمّ نشرُ عقيدة التوحيد في كلّ مكان.
ويتّضح ممّا يلي متى تمّ وعد الله هذا؟ أو متى سيتم؟
* * *
هناك اختلاف بين المفسّرين حول الذين أشارت إليهم الآية الشريفة من الذين استخلفوا في الأرض قبل المسلمين.
البعض من المفسّرين يرى أنّهم آدم وداود وسليمان(عليهم السلام)، حيث قالت الآية (30) من سورة البقرة حول آدم(عليه السلام)(إنّي جاعل في الأرض خليفة) وفي الآية (26) من سورة ص جاء بصدد داود(عليه السلام) (يا داود إنا جعلناك خليفة في الإرض).
وبما أنَّ سليمان(عليه السلام) ورِث حكم داود(عليه السلام) بمقتضى الآية (16) من سورة النمل فإنَّه قد استخلف في الأرض.
لكن بعض المفسّرين ـ كالعلامة الطباطبائي في الميزان ـ استبعد هذا المعنى وَرَأى أنَّ عبارة (الذين من قبلهم) لا تُناسبُ مقامَ الأَنبياء. إذ أنَّ القرآن المجيد لم ترد فيه هذه العبارة بخصوص الأنبياء. وإنّما هي إشارة إلى أمم خلت، وكانت على درجة من الإيمان والعمل الصالح بحيث استخلفها الله في الأرض.
ويرى مفسرون آخرون أنَّ هذه الآية إشارة إلى بني إسرائيل، لأنّهم استخلفوا في الحكم في الأرض بعد ظهور موسى(عليه السلام) وتدمير حكم فرعون والفراعنة، حيث يقول القرآن المجيد في الآية (127) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) ويضيف (ونمكن لهم الأرض) أي جعلناهم حكاماً بعد أن استضعفوا في الأرض.
ولا شكّ في أنَّهُ كان في بني إسرائيل ـ حتى في زمن موسى(عليه السلام) ـ أشخاص عرفوا بفسقهم وكفرهم، لكنّ الحكم كان بيد المؤمنين الصالحين، (وبهذا يمكن دفع ما أشكل به البعض على هذا التّفسير) ويظهر أن التّفسير الثّالث أقرب إلى الصواب.
لقد وعدالله المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالإستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالإستخلاف؟
هناك اختلاف بهذا الصدد بين المفسّرين: يرى البعض من المفسّرين أنّ الوعد بالإستخلاف خاصّ بأصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذين استخلفهم الله في الأرض في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). (ولا يقصد بالأرض جميعها، بل هو مفهوم يطلق على الجزء والكل).
ويرى آخرون أنّه خاصّ بالخلفاء الأربعة الذين خلفوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى البعض أنَّ مفهومه واسع يشمل جميع المسلمين الذين اتصفوا بهذه الصفات.
ويرى آخرون أنَّه إشارة إلى حكومة المهدي (عج) الذي يخضع له الشرق والغرب في العالم، ويجري حكم الحقّ في عهده في جميع أرجاء العالم، ويزول الإضطراب والخوف والحرب وتتحقق للبشرية عبادة الله النقية من كلّ أنواع الشرك.
ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهدي(عج) مصداق لها، إذْ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي(عج) يملأ الأرض عَدْلا وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً.
ومع كل هذا لا مانع من تعميمها. وينتج من ذلك تثبيت أُسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كلّ عصر وزمان، وأنَّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة.
أمّا قول البعض: إنّ كلمة «الأرض» مطلقة وغيرمحددة، وتشمل كلّ الأرض، وبذلك تنحصر بحكومة المهدي (أرواحنا له الفداء)، فهولا ينسجم مع
عبارة (كما استخلف الذين من قبلهم)، لأن خلافة وحكومة السابقين بالتأكيد لم تشمل الأرض كلها.
وإضافة إلى ذلك فإنّ سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا ـ على أقلّ تقدير ـ وقوع مثل هذا الحكم في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (رغم حدوثه في أواخر حياته(صلى الله عليه وآله وسلم)).
ونقولها ثانية: إنّ نتيجة جهود جميع الأنبياء والمرسلين حصول حكم يسوده التوحيد والأمن الكامل والعبادة الخالية من أيّ نوع من الشرك، وذلك حين ظهور المهدي(عج)، وهو من سلالة الأنبياء(عليهم السلام) وحفيد النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المقصود في هذا الحديث الذي تناقله جميع المسلمين عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1).
وممّا يجدر ذكره هنا قول العلاّمة الطبرسي في تفسير هذه الآية: روي عن أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حول هذه الآية: «إنّها في المهدي من آل محمد»(2).
وذكر تفسير «روح المعاني» وتفاسير عديدة لمؤلفين شيعة عن الإمام السجاد(عليه السلام) في تفسير الآية موضع البحث أنه قال: «هم والله شيعتنا ـ أهل البيت ـ يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا، وهو مهدي هذه الأُمة يملأ الأرض عدلا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهو الذي قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم...».
وكما قلنا، لا تعني هذه التفاسير حصر معنى هذه الآية، بل بيان مصداقها التام، وممّا يؤسف له عدم انتباه بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في روح البيان ـ إلى هذه المسألة، فرفضوا هذه الأحاديث.
وروى القرطبي المفسّر المشهور من أهل السنة عن المقداد بن الأسود عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام»(1).
وللحصول على إيضاح أكثر حول حكومة المهديّ(عج) وشرح أدلتها في كتب علماء السنة والشيعة، يراجع تفسير الآية (33) من سورة التوبة.
إنّ مفهوم عبارة (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) من الناحية الأدبية سواء كانت جملة حالية أم مستقبلية(2)، هو أن الهدف النهائي إعدادُ حكومة عادلة راسخة الأُسس، ينتشر فيها الحقّ والأمن والإطمئنان، وتكون ذات تحصينات أُسسها العبودية لله وتوحيده على نحو ما ذكرتهُ آية قرآنية أُخرى تذكر الغاية من الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون)(3).
عبادة هدفها السامي تربية البشر وتسامي أنفسهم. عبادة لا يحتاج الله إليها، وإنّما يحتاج إليها البشر لطّي مراحل تكاملهم الإنساني.
وعلى هذا فإنّ الفكر الإسلامي ليس كالأفكار المادية التي تتوخى مكاسب مادية ورفاهية في الحياة، بل تكون للحياة المادية قيمة في الإسلام إن أصبحت وسيلة لتحقيق هدف معنوي سام، فالإهتمام بكون العبادة خاليةً من شوائبِ الشرك نافيةً للأهواءِ الزّائفة، يعني أنّه لا يمكن تحقق هذه العبادة الصافية إلاّ بتشكيل حكومة عادلة.
هذا ويمكن كسب مجموعة من الناس إلى جانب الحقّ بالتربية والتعليم والتبليغ المستمر، ولا يمكن تعميم هذه الحالة في المجتمع إلاّ بتشكيل حكومة عادلة يقودها المؤمنون الصالحون، ولهذا سعى الأنبياء إلى تشكيل مثل هذه الحكومة خاصّة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فَبمجرَّد وصوله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة، وفي أوّل فرصة، شكَّل نموذجاً لها.
ويمكن الإستنتاج من ذلك أنّ جميع الجهود ـ من حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية ـ تنصّب في ظلّ هذه الحكومة في مسيرة العبودية لله الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك.
ولابدّ من القول: إنّه لا يعني خُلو الأرضِ من المذنبين والمنحرفين في ظلّ حكومة الصالحين المؤمنين الذين يمكّنهم الله من نشر الحقّ والعدل، وعبادته عبادة خالية من صور الشرك، بل مفهوم هذه الحكومة هو أنها تُدار من قبل المؤمنين الصالحين، والصفة السائدة في المجتمع هي خلوه من الشرك. وبما أن الإنسان خلق حرّاً، فإن مجال الإنحراف موجود حتى في أفضل المجتمعات الإنسانية (فتأملوا جيداً).
* * *
وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوْا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ وَمَأْوَيهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)
وعدت الآية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلافة في الأرض، وتعيىء هاتان الآيتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة، وخلال نفيها وجود حواجز كبيرة لهذا العمل، تضمن هي بذاتها نجاحه. وفي الحقيقة أن إحدى هاتين الآيتين بيّنت المقتضي، بينما نفت الثّانية المانع، فهي تقول أوّلا: (وأقيموا الصلاة).
وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق، وتقرّب الناس إلى بارئهم، وتمنع عنهم الفحشاء والمنكر.
(وآتوا الزّكاة) وهي الوسيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتقلل الفواصل بينهما، وتقوي ارتباطهما العاطفي.
وبشكل عام يكون في كلّ شيء تبعاً للرسول: (وأطيعوا الرّسول) طاعة
تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الأرض (لعلكم ترحمون) وتكونون لائقين لحمل رأية الحقّ والعدل.
وإذا احتملتم أن الأعداء الأقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم الله إيّاهُ، فذلك غير ممكن، لأن قادرٌ على كلّ شيء، ولا يحجُب إرادته شيء، ولهذا (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) فهؤلاء الكفار لا يستطيعون الفرار من عقاب الله وعذابه في الأرض، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، بل أنّهم في الآخرة (مأواهم النار ولبئس المصير)
وكلمة «معجزين» جمع «معجز»، المشتقّة من الإعجاز بمعنى نفاذ القدرة، وأحياناً يتابع المرء شخصاً يفر من يديه، ولا يمكنه القبض عليه وقد خرج من سلطته فهو يعجزه، لهذا استعملت كلمة «معجز» بهذا المعنى، وكذلك تشير الآية السابقة إلى المعنى ذاته، ومفهومها أنّكم لا يمكنكم الفرارُ من حكومة الله.
* * *
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَئْذِنُكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَـثَ مَرَّت مِنْ قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَـثُ عَوْرَت لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّفُونَ عَلَيْكُمْ بَعضُكُمْ عَلَى بَعْض كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الاَْيَتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58) وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَـلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَئْذِنُوا كَمَا اسْتَئْذَن الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ ءَايـتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59) وَالْقَوَعِدُ مِنَ النِّسآءِ الَّـتِى لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَـاتِ بِزينَة وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60)
إنّ أهم مسألة تابعتها هذه السورة ـ كما ذكرنا ـ هي مسألة العفاف العام
ومكافحة كل انحطاط خلقي، بأبعاده المختلفة.
وقد تناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة، وشرحت خصائصها، وهي استئذان الأطفال البالغين وغيرالبالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين.
فتقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) فيجب على عبيدكم وأطفالكم الاستئذان في ثلاث أوقات (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء).
«الظهيرة» تعني كما يقول «الراغب الإصفهاني» في مفرداته «والفيروزآبادي» في القاموس المحيط: منتصف النهار وقريب الظهر حيث ينزع الناس عادة الملابس الإضافية، وقد يختلي الزوج بزوجته.
(ثلاث عورات لكم) أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصّة بكم.
«العورة» مشتقّة من «العار»، أي: العيب. وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة، لأنّ الكشف عنه عار.
كما تعني العورة الشقّ الذي في الجدار أو الثوب، وأحياناً تعني العيب بشكل عامّ.
وعلى كلّ فإنّ إطلاق كلمة (العورة) على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصّة خلال هذه الأوقات الثلاثة، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الأُخرى.
![]() |
![]() |
![]() |