ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة! (واتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين!)(1) لعنة الله معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.. وفي كل وقت. وأحياناً تشملهم اللعنة العامة. وأحياناً يأتي اللعن خاصّة


1 ـ «المقبوح» مشتق من «القبح» ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها، فهو من التّفسير بلازم المعنى، وإلاّ فالمقبوح معناه واضح.

[239]

لبعضهم. حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم، ويتنفّر من أعمالهم.

وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة «يوم القيامة»، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحُجب.

* * *

 

ملاحظة!

أئمّة «النّور» وأئمّة «النّار»

هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(1).

فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة، تشكّل متن مناهجهم.. فهم أئمّة النور، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء الى خاتم النّبيين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصيائه عليهم السلام.

وهناك أئمّة للضلال.. وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم: (أئمّة يدعون إلى النّار)!.

ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)مايلي: «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان، قال الله تبارك وتعالى: (وجلعناهم أئمّة يهدون بأمرنا)لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل


1 ـ سورة الأنبياء، الآية 73.

[240]

حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله»(1).

وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة..ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف، كل جماعة تمضي خلف إمامها، فأهل النار إلى النّار، وأهل الجنّة إلى الجنّة.. كما يقول القرآن الكريم: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(2).

وقلنا مراراً: إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم «الصغير» وأُولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره، فهم سائرون خلفه هناك أيضاً.

ينقل «بشر بن غالب» عن الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) أنّه سأله عن تفسير الآية (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فقال(عليه السلام): «إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار.. وهو قوله عزّوجلّ (فريق في الجنّة وفريق في السعير)(3).

من الطريف أن فرعون ا لذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل، يقدم قومه يوم القيامة ـ أيضاً ـ يخزيهم بمعيته في نار جهنم، إذ يقول القرآن في شأنه: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار وبئس الورد المورود).(4)

ونختم هذا البحث بحديث الإمام علي(عليه السلام) في شأن المنافقين حيث يقول(عليه السلام): «ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس»(5).

* * *

 


1 ـ تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ الإسراء، 71.

3 ـ أمالي الصدوق لما ورد في نور الثقلين، ج 3، ص 192.

4 ـ سورة هود، 98.

5 ـ راجع نهج البلاغة، الخطبة 210.

[241]

الآيات

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ مِنْ بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُْولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسَ وَهُدىً ورَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلى مُوسَى الاَْمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـهِدِينَ(44) وَلَـكِنَّآ أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَلَـكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـكِن رَّحْمَةً مِّن رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَومَاً مَّآ أَتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(46)

 

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده..

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام، والتوراة، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

[242]

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأُولى بصائر للناس وهدىً ورحمةً لعلّهم يتذكرون).

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين.. من هم؟!

قال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.. لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأُولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و«البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين.. و«الهدى» و«الرحمة» أيضاً من لوازم البصيرة.. وعلى أثرها تتيقظ القلوب(1).

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يارسول الله، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن، لأنّك لم تكن «حاضراً» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك.. بل هو من الطاف الله عليك، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس.. يقول القرآن: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي الأمر بالنبوّة (وما كنت من الشاهدين).

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسى(عليه السلام) حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.


1 ـ «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

[243]

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق.. ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية «60» (فاتبعوهم مشرقين) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن (ولكنّا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم [أي على أهل مكّة] آياتنا(1) ولكنا كنا مرسلين).. وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية.. لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(2).

وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا: (وما كنت بجانب الطور(3) إذ نادينا) اي نادينا موسى بأمر النبوّة، ولكننا أنزلنا اليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك (ولكن رحمةً من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون).

وخلاصة الكلام: أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين، ولم تكن فيهم من الشاهدين، لتتلو كل ذلك على


1 ـ «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

2 ـ كان بين ظهور موسى(عليه السلام) وظهور النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله) حدود ألفي عام.

3 ـ قال بعض المفسّرين: يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عندما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور، فجاءه النداء من الله، ولكن هذا الإحتمال بعيد جداً; لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضراً هناك ولم يكن من الشاهدين، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

[244]

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال: كيف يقول القرآن: (لتنذر قوماً ما اتاهم من نذير من قبلك) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّد(صلى الله عليه وآله)] في حين أنّنا نعرف أن الأرض  لا تخلو من حجّة لله، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسى(عليه السلام)).

وفي الجواب على ذلك نقول: المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتاباً سماويّاً بيّناً.. لأنّ بين عصر عيسى(عليه السلام) وظهور نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) قروناً مديدة، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ من أولي العزم، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(1).

* * *

 


1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 33.

[245]

الآيات

وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتُكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (47)فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بَمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَـهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَـفِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـب مِّنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إَنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ(49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(50)

 

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق:

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبي(صلى الله عليه وآله) لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

[246]

قومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا ا ذا أردنا انزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا احكامك لنؤمن به (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)(1).

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أن طريق الحقّ واضحٌ وبيّن... وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام.. وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل، وحتى مع عدم إرسال الرسل، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأُمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة، إتماماً للحجّة ونفياً للعذر، لئلا يقول أحد: إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها، ونقرأ في سورة النساءالآية (65) أيضاً (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً).

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الإنحراف، فتقول الآية: (فلما جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى).


1 ـ يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأُولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل».. وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحاً.. وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا.. وإلاّ فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أُخرى، على أنّ واحداً من فوائد إرسال الرسل ـ أيضاً ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد.. «فلاحظوا بدقّة».

[247]

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولِمَ لِمَ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا) أي موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق (وقالوا إنا بكلّ كافرون).

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول: هو العدل بعينه، أو بعينه، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ وهو: إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى(عليه السلام) وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل: ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح.. وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً.. فجميعهم من نسيج واحد، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفاً، إلاّ أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيراً آخر وقالوا: إنّ المقصود بقوله تعالى: (سحران تظاهرا) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله)» لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون: إن كليهما ساحران... وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»(صلى الله عليه وآله) أهو نبيّ حقّاً؟! فأجابوا: إنّهم وجدوا مكتوباً عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

[248]

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود، فقالوا: (سحران تظاهرا وإنّا بكل كافرون).

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيداً جدّاً:

الأولى: أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحراً.

الثّانية: كيف يمكن لأحد أنْ يدعي أن موسى ومحمّداً(صلى الله عليه وآله) ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِمَ لَم يأت النّبي(صلى الله عليه وآله) بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة أُخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة... لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله) ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!! (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).

وبتعبير آخر: إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافياً في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونو طلاّب حق، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنّما يتبعون أهواءهم) لأنّ أي إنسان إذا لم يتّبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح، لكن أُولئك لم يكونوا على صراط مستقيم، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

[249]

ولكن من أضيعُ منهم (ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله  لا يهدي القوم الظالمين).

ولو كانوا طلاّب حقّ وقد أضلوا سبيلهم، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد... فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

 

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال:

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقاً به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها.. لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم، شرط لدرك الحقائق.. التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي، مراً كان أم عذباً، موافقاً لرغبات النفس أم مخالفاً، منسجماً مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم... لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (43) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدةٌ تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

[250]

وقائده الإلهي واتبع هواه(1).

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام) وبعض الائمّة الطاهرين(عليهم السلام).. هي من قبيل المصداق البارز.. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللّه... هذه الهداية تارةً تنعكس في كتاب اللّه، واُخرى في وجود النّبي وسنته، وأُخرى في وأوصيائه المعصومين، وأُخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

 

* * *


1 ـ هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقاً لما في نور الثقلين، ج 4، ص 132.

[251]

الآيات

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذْا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُولَـئك يُؤتُونَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِّمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ(54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أعمَالُنَاا وَلَكُم أَعْمَـلُكُمْ سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَـهِلِينَ(55)

 

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيرة و مختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلام(صلى الله عليه وآله).

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّاً مسيحياً بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والإطلاع على دين النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله)، فلمّا

[252]

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقاً وأسلموا(1).

وقال بعضهم: هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(2).

وقال آخرون: بل نزلت في النجاشي وقومه.(3)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(4).

وأخيراً فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالماً مسيحياً من ذوي الضمائر حيّة والنيرة، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وثمانية آخرون من الشام، من بينهم «بحيرا»الراهب الى النّبي(صلى الله عليه وآله)فأسلموا.(5)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلاّن على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناءً، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعل كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن... لأنّه لا يمكن لنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فوراً ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبي(صلى الله عليه وآله).

* * *


1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 357، و 358.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 258.

5 ـ المصدر السابق.

[253]

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن:

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها.،

يقول القرآن في هذا الصدد: لقد انزلنا لهم آيات القرآن تباعاً (ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يذكرون)(1).

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة، وكيفيات متفاوتة، فتارة تحمل الوعد بالثواب، وتارة الوعيد بالنّار، وأُخرى الموعظة والنصيحة، وأُخرى تنذر وتهدد. وأحياناً تحمل استدلالات عقلية، وأحياناً تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان، حيث أنّها تجذب القلوب إليها... إلاّ أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلاّ أنّ (اليهود والنصارى) (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون). لأنّهم يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب»، إلاّ أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أوأي شيء آخر، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّاً، أمّا سواهم فلا.


1 ـ «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل، فهي تدل على الكثرة، ويستفاد منها التأكيد أيضاً..

[254]

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا: (وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنّه الحق من ربّنا).

أجل: كانت تلاوة الآيات عليهم كافيةً لأن يقولوا «آمنا»... ثمّ يضيف القرآن متحدثاً عنهم: إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب، بل (انّا كنّا من قبله مسلمين)

إنّنا وجدنا علائم النّبي(صلى الله عليه وآله) في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى، وإنّما طلباً للحق، فيقول: (أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا).

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه... ومرّة أُخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيم(صلى الله عليه وآله) النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضاً ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة، إنّما يؤتون أجرهم مرتين; لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهداً وصبروا زماناً طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسؤولية... ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الإجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا، إلاّ أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة، وهي خصال أربع ممتازة.

[255]

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم: (ويدرءون بالحسنة السيئة).

يدرئون بالكلام الطيب الكلام الخبيث، وبالمعروف المنكر، وبالحلم الجهل والجاهلين، وبالمحبّة العداوة والبغضاء، وبصلةالرحم من يقطعها، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم (يدرءون بالحسنة السيئة!).

وهذا أسلوب مؤثر جدّاً في مواجهة المفاسد ومبارزتها، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مراراً وكراراً، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (22) من سورة الرعد وذيل الاية (69) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأُخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).

وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الإجتماعية، وجميع هذه الأُمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل (قالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).

فلاتحاسبون بجريرة أعمالنا، ولا نُحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم، ولكن ما أسرع ما سيجد كلٌ منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله، حيث يقولون: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).