![]() |
![]() |
![]() |
«كان لنا بحث في شروط إجابة الدعاء وأهميته، وفي سبب عدم الإجابة، فصّلناه في ذيل الآية (186) من سورة البقرة»
نقرأ في آيات القرآن ـ مراراً ـ أنّه يطالب المخالفين بالدليل، وخاصة بقوله: (هاتوا برهانكم ) وقد جاء هذا النص في أربعة مواضع البقرة: الآية 115، الأنبياء: الآية 24، النمل: الآية 64، والقصص: الآية 75 كما أنّه أكّد في مواضع أُخرى على البرهان خاصة «والمراد من البرهان: أصدق دليل».
وهذا المنطق (المطالبة بالبرهان) للاسلام يحكي عن محتواه الغني والقوي، لأنّه يسعى لأن يواجه مخالفيه مواجهة منطقية، فكيف يطالب الآخرين بالبرهان وهو لا يكترث به؟! فآيات القرآن المجيد مملوءة بالإستدلالات المنطقية... والبراهين العلمية في المسائل المتعددة!.
وهذا الأمر على خلاف ما حرفته المسيحية اليوم ـ وعوّلت عليه، وترى أن الدين هو ما يوحيه القلب!! وتفصل العقل عنه إذ تراه أجنبياً عنه... حتى أنّها تؤمن بالتناقضات العقلية كالتوحيد في التثليث، ومن هنا فقد سمحت للخرافات أن تدخل في الدين، مع أن الدين لو خلا من العقل والاستدلال العقلي فسوف لا يقوم دليل عليه، ويكون ذلك الدين وما يضادّه سواء!.
وتبرز عظمة هذا المنهج (وهو الإهتمام بالبرهان ودعوة المخالفين إلى الإستدلال المنطقي) حين نلتفت إلى أن الإسلام ظهر في محيط يعيش الخرافات
التي لا أساس لها والمسائل غير المنطقية في جميع مفاصل منظومته الفكرية والمعرفية!!
في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصباً لإثبات «توحيد المعبود» على «توحيد الخالق»، و«توحيد الرب» اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثتني عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود:
1 ـ السماء والأرض.
2 ـ نزول الغيث.
3 ـ بركاته في الحياة.
4 ـ قرار الأرض.
5 ـ الأنهار.
6 ـ الجبال الرواسي.
7 ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).
8 ـ إجابة دعوة العباد.
9 ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.
10 ـ إرسال الرياح بشراً بين يدي رحمته.
11 ـ بدء الخلق وإعادته.
12 ـ رزق الإنسان «وسائر الخلق» من السماء والأرض.
هذه المواهب «والنعم» الاثنتا عشرة بيّنتْ في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأُمور الخمسة التالية على التوالي:
1 ـ الخلق.
2 ـ والإستقرار.
3 ـ كشف الضرّ.
4 ـ الهداية.
5 ـ إعادة الحياة (بعد الموت).
وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة، بقوله تعالى: (ءإله مع الله )؟!
وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أموراً، فأشار في نهاية الآية الأُولى إلى إنحراف المخالفين عن الحق.
وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم.
وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم!
وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم.
وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالإستدلال!
وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.
* * *
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنِ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاَْخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذا كُنَّا تُرَباً وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَـمُخْرَجُونَ (1) لَقَدْ وُعِدْنَا هَـذا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَـذا إلاَّ أَسَـطِيرُ الاوَّلِينَ (67)
لمّا كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث، فإن الآيات ـ محل البحث ـ تعالج هذه المسألة من جوانب شتى، فتجيب أولا على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً، وهو قولهم: متى تقوم القيامة؟ و«متى هذا الوعد»؟! فتقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله وما يشعرون أيّان يبعثون )!
لا شك أن علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله، إلاّ أنّه لا منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده، كما نقرأ في
الآيتين (26) و( 27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ).
وبتعبير آخر فإنّ علم الغيب بالذات، وبصورته المستقلة والمطلقة غير المحدودة، خاصّ بالله سبحانه، وكل علوم الاخرين مُسترفدة من علمه تعالى. ولكن مسألة تاريخ وقوع القيامة مستثناة من هذا الأمر أيضاً، ولا يعلم بها أحد «إلاّ الله»(1).
ثمّ يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم، فيقول: (بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ).
«ادّارك» في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل، فمفهوم جملة: (بل ادّارك علمهم في الآخرة ) أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم ممّا بذلوه من تفكير، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة (بل هم في شك منها بل هم منها عمون ). لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء!... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت، إلاّ أنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شيء!
وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للجملة أعلاه، منها أنّ المراد من (ادّارك علمهم في الآخرة ) أن أسباب التوصل للعلم في شأن الآخرة متوافرة ومتتابعة، إلاّ أنّهم عمي عنها.
وقال بعضهم: إنّ المراد منها أنّهم عندما تُكشف الحجب في يوم الآخرة، فإنّهم سيعرفون حقائق الآخرة بشكل كاف.
1 ـ كان لنا بحوث مفصلة في علم الغيب في الأجزاء السابقة في هذا التّفسير.
إلاّ أنّ الأنسب من بين هذه التفاسير الثلاثة هو التّفسير الأوّل حيث يناسب بقية الجمل في الآية، والبحوث الواردة في الآيات الأخر!.
وهكذا فقد ذكرت ثلاث مراحل لجهل المنكرين (للآخرة).
الأولى: أنّ إنكارهم وإشكالهم هو لأنّهم يجهلون خصوصيّات الآخرة «وحيث أنّهم لم يروها فهم يظنون الحقيقة خيالا».
الثّانية: أنّهم في شك من الآخرة أساساً، وسؤالهم عن زمان تحققها ناشيء من أنّهم في شك منها!.
الثّالثة: أن جهلهم وشكهم ليس منشؤهما أنّهم لا يملكون دليلا أو دلائل كافية على الآخرة، بل الأدلة متوفرة إلاّ أن أعينهم عميٌ عنها!.
والآية التالية: توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة، فتقول: (وقال الذين كفروا ءإذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون )؟!
فهم مقتنعون بهذا المقدار، أنّ هذه المسألة بعيدة (أن يتحول الإنسان إلى تراب ثمّ يعود إلى الحياة)! مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب، ثمّ يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً!
الطريف أنّنا نواجه مثل هذا الإستبعاد في ثمانية مواضع من القرآن، فهم يشكون في مسألة القيامة في المواضع آنفة الذكر بمجرّد استبعاد عودتهم إلى الحياة من «التراب» ثانية!.
ثمّ يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول: (لقد وعدنا هذا وآباؤنا من قبل ) ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد (إن هذا إلاّ اساطير الأولين ). فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.
فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الإستبعاد ثمّ يجعلونه أساساً للإنكار المطلق... فكأنّهم كانوا ينتظرون أن تتحقق القيامة عاجلا، وحيث أنّهم لم يشهدوا
ذلك في حياتهم فهم ينكرونه.
وعلى كل حال، فهذه التعبيرات جميعها تدل على غفلتهم وغرورهم!.
ويستفاد ـ ضمناً من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النّبي في شأن يوم القيامة، ويطعنوا عليه، فيقولوا: إن هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة!.
* * *
قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ (69) وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُنْ فِى ضَيْق مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إَنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ (72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَآئِبَة فِى السَّمَآءِ وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين (75)
كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعادْ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.
ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامتهُ الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يُرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث
بدلا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار، وأنذرتهم بعقابه المخزي... فوجهت الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله) قائلةً: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ).
فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.. فهلاّ سرتم في الأرض قليلا، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.
ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا... فأنتم كأُولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.
والقرآن دعا مراراً إلى السير في الارض، ومشاهدة آثار الماضين، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب، وقصور الظالمين المتداعية، والقبور الدارسة والعظام النخرة، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!
إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحىّ لأُولئك الماضين، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق... والواقع كذلك، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثراً لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.
(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية 137 من سورة آل عمران).
ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين»... وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!
وحيث أن الرّسول(صلى الله عليه وآله) كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً.. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له: (ولا تحزن عليهم ) ولا تقلق من مؤآمراتهم (ولا تكن في ضيق ممّا يمكرون ).
إلاّ أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ).
ومع أنّ المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبي(صلى الله عليه وآله)أيضاً... فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!
وهنا يردُّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: (قل عسى أن يكون قد ردف لكم بعض الذي تستعجلون ).
فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم... فلم هذا العناد واللجاجة؟!
«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الاشخاص أو الاشياء التي تقف صفاً واحداً بعضها خلف بعض.
وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.
كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ).
والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّ(صلى الله عليه وآله). وحتى لو كان من قِبَلِ الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم، فإنّه ليس فيه أي إشكال... إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات
بالمانع، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة) !.
ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة: وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: (وإنّ ربّك لذو فضل على الناس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون ).
وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: (وإن ربّك ليعلم ما تكن صدورهم ومايعلنون )(1).
فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.
فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود، وإلاّ فهي في مقابل غير المحدودتفقد معانيها و تتلاشى حدودها.
وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدماً على علمه بالأفعال الخارجية، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكن القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق! (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين )(2).
وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية، وأسرار
1 ـ «تكنّ» مأخوذ من كَنّ على وزن جَنّ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!..
2 ـ «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث، بل هي إشارة للأشياء المخفية، فهي للمبالغة في الخفاء... إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث، وأن موصوفها محذوف، وتقديره: وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة، والله العالم..
السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة، زمان نزول العذاب، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأُمور المذكورة آنفاً ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ .
والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ، وعلم الله الذي لا نهاية له، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.
* * *
التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق:
1 ـ استبعادالعودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان تراباً، لإعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساساً للحياة!
2 ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.
3 ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد... لأنّه لو كان حقّاً أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!
وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها، وكنا في البداية تراباً ثمّ صرنا أحياءاً!
وكون الشيء قديماً لا ينقص من أهميّته أيضاً... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأُخَر أصول كثيرة ثابتة... فَهَل كون امتناع اجتماع النقيضين قديماً، أو جدول ضرب فيثاغورس قديماً، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسناً والظلم سيئاً منذ القِدَم، ولا يزال كذلك، فهل هو دليل على بطلانه... فكثيراً
ما يتفق أن القِدَم دليل على الأصالة.
وأمّا في شأن الإشكال الثالث، فيجيب القرآن: ألاّ تعجلوا.. فعدم نزول العذاب من لطف الله، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.
* * *
إِنَّ هَـذا الْقُرآءنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إسْرءِِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيْهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْـمُبِينِ (79) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْـمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمآ أَنْتَ بِهَـدِى الْعُمْىِ عَنْ ضَلَـلَتِهِمْ إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِايَـتِنا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (81)
كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد... أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة، وحقّانيّة القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث!.
ومن جهة أُخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.
أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين،
وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.
فتقول الآيات أوّلا: (إنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ).
لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى(عليهما السلام). وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟
كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية... فجاء القرآن موضحاً هذه الأُمور بجلاء، وقال: إن المسيح(عليه السلام) عرف نفسه بصراحة فـ (قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )(1).
وقال أيضاً: إنّ المسيح ولد من دون أب، وليس أمره محالا و(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب )(2).
وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله) ، ولا تنطبق على أحد سواه!.
وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الإختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء... وكل نبي مسؤول أن يحسم الإختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل... وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ، وفي محيط جاهلي، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!
ولما كانت مواجهة الإختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول: (وإنّه لهدى ورحمة للمؤمنين ).
أجل، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات،
1 ـ سورة مريم، الآية 30.
2 ـ آل عمران، الآية 59.
هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!
هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.
وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة.. هو لما ذكرناه آنفاً من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الانسان، وهي مرحلة الإستعداد لقبول الحق والتسليم لله، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.
وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه، لأوامر الله، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم: (إنّ ربّك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ).
وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة... إلاّ أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.
ففي الآية (17) من سورة الجاثية يقول سبحانه: (إنّ ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ).
كما ورد في ذيل الآية (93) من سورة يونس، هذا النص المتقدم نفسه.
ووصف اللّه «بالعزيز» و«العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين، «العلم» بصورة كافية و«القدرة» على إجراء الحكم، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.
وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: (فتوكل على الله ).
توكل على الله العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شيء.. توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و(إنّك على الحق المبين ).
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقّاً مبيناً فلماذا خالفوه؟
فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان أُولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين، فلا مجال للعجب.. لـ (إنّك لا تسمع الموتى )(1).
بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فانهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك، وخاصة إذا اداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك (ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا وَلّوا مدبرين ).
ولعلهم لو كانواعندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم، إلاّ أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.
كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلاّ أنّهم عميٌ (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ).
وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم، فقلوبهم ميتة، وآذانهم صمٌّ موقرة، وأعينهم عميٌ!
فأنت يا رسول الله (إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون )ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.
وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي:
«حس التشخيص»، والعقل اليقظ، في مقابل القلب الميت.
«الأذن الصاغية» لإكتساب الكلام الحق، عن طريق السمع.
1 ـ قال جماعة من المفسّرين: إن هذه الجملة والجمل الأُخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه... مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».
«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل، عن طريق البصر.
إلاّ أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب... كلها تعمي العين التي بها يرى الانسان الحقيقة، وتوفر سمعه، وتميت قلبه.
ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم، لما أثّروا فيهم شيئاً، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.
ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة»في تفسير سورة النحل ذيل الآية 78.
و مرّة أُخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل، فيكون من باب تحصيل الحاصل، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبداً.
* * *
«التوكل» مأخوذ من «الوكالة»، وهو في منطق القرآن يعني الإعتماد على الله وجعله وليّاً وكيلا، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها، بسبب التوكل على الله!
وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.
والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين:
أحدهما: القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.
والآخر: وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.
وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول: لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة.. ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أُخرى.. فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!
وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبداً... فهي لا تملك عيوناً باصرة، ولا آذاناً صاغية، ولا قلوباً حيّة!... وهي خارجة أساساً عن طريق الهداية والتبليغ... وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال، ليرتووا من نميره العذب.
هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة، ومن هذه الألفاظ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب، أي متى كان القلب ينبض، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن، كان البدن حياً.. أمّا إذا سكنت هذه الحركة، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالإختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.
إلاّ أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية، فكثير من الناس يعدون أحياءً بحسب النظرة المادية ـ إلاّ أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية.. كأُولئك الذين أشارت اليهم الآيات المتقدمة.. وعلى العكس منهم الشهداء، فهم بحسب الظاهر أموات، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!
والسبب في هذا الإختلاف بين النظرتين، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الانسان في القيم الروحانية، فهو يرى في
ايصال النفع الى الآخرين وعدمه معياراً لوجود الحياة وعدمها في الانسان.
فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّاً، إلاّ أنّه غارق في الشهوات، فلا يسمع صرخة لمظلوم، ولا صوتاً لمنادي الحق، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار اللّه في خلقه، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه.. فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين، فهؤلاء أحياء خالدون(1).
![]() |
![]() |
![]() |