2 ـ فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية

موضوع «معرفة الله الفطرية» لم يختص به القرآن الكريم فحسب، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الإنتباه، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة، وبعضها يؤكّد على المعرفة، وقسم يتناول الفطرة «على الإسلام» وأخيراً فإن قسماً منها تناول عنوان الولاية أيضاً.

ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي، وهو ما نقله عن هشام بن سالم، قال: سألت الإمام الصادق(عليه السلام): ما المراد من قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها )... فقال «هي التوحيد» (1).

كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً


1 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 10، باب «فطرة الخلق على التوحيد».

[529]

حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمام(عليه السلام) «هي الإسلام» (1).

كما نقرأ حديثاً متشابهاً لما سبق ـ عن الإمام الباقر(عليه السلام) جواباً لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقال(عليه السلام) «فطرهم على المعرفة به» (2).

والحديث المنقول عن النّبي(صلى الله عليه وآله) «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» يؤكّد هذا المضمون أيضاً(3).

وأخيراً فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً في تفسير الآية قال: «هي الولاية» (4).

وقد ورد في الخطبة الأُولى لنهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) حديث موجز العبارة غزير المعنى، إذ يقول(عليه السلام) «فبعث فيهم رسوله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول».

وطبقاً للرّوايات المتقدمة، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب، بل مجموع الإسلام بشكل موجز «مضغوط» كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءاً من التوحيد وانتهاءً بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين، وكذلك فروع الأحكام أيضاً.

فعلى هذا، وطبقاً للتعبير الوارد في نهج البلاغة، فإن عمل الإنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح، وتذكر الناس نعم الله المنسية، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!

وممّا يسترعي الإنتباه أن القرآن الكريم ـ في آيات متعددة ـ يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخاً


1 ـ المصدر السابق.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير «جمع الجوامع» للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.

4 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 184.

[530]

ملائماً للحس الديني، أذ يقول في واحدة من هذه الآيات: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلّما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون )(1).

وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضاً.

* * *

 


1 ـ العنكبوت، الآية 65.

[531]

 

 

 

 

الآيات

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

 

التّفسير

إنّ الآية الأُولى من المقطع الذي بين أيدينا، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية: (وإذا مس الناس ضرّ دعوا ربّهم منيبين إليه ).

إلاّ أنّهم الى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية.. (ثمّ إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريق منهم بربّهم يشركون ).

والتعبير بـ (مسّ الناس ضرّ ) إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر... كما أنّ التعبير (أذاقهم منه رحمة ) إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة، لأنّ التعبير بـ «مسّ»

[532]

أو «ذاق» في مثل هذه الموارد يطلق على الأُمور القليلة والجزئية، وخاصّة باستعمال كلمتي «ضر» و «رحمة» نكرتين.

أي إنّ طائفةً تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم، وتنكشف الحُجب عن فطرتهم التوحيدية، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّاً، وينسون كل شيء!

وبالطبع ففي الحالة الأُولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعاً إلى الله عند الضر والشدائد، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع.

ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء. فلا تُنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبداً.

والتعبير بـ (منيبين إليه ) ـ كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقاً ـ من مادة «النوب» وتعني العودة ثانيةً إلى الشيء، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته، والشرك أمر عارض، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد، شاؤوا أم أبوا!.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «الله» ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلاّ أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه، لأنّ كثيراً من الإِبتلائات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

و كلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين، تؤكّد على أنّ الإِنسان يحسّ بالتدبير الإِلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الضمير في كلمة «منه» يعود إلى الله، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه. وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال «الطباطبائى» في الميزان، و«الطوسي» في التبيان، و«أبو

[533]

الفتوح الرازي» في تفسيره وغيرهم، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي الى إن الضمير في كلمة «منه» يعود على الضرّ، وفسّروا الآية هكذا «حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة. إذا فريق منهم يشركون بالله». (فيكون معنى «من» هنا البدلية). إلاّ أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية!

أمّا الآية الأُخرى فجاءت بعنوان التهديد لأُولئك المشركين، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم، إذ تقول: اتركهم (ليكفروا بما آتيناهم ) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك: (فَتمتعوا فسوف تعلمون )(1)

و بالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون، إلاّ أنّه لا يَبعُد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب، دون أن يذكروا واهب النعم.

وبديهيٌ أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد!.

والقرآن في الآية الأُخرى يصوغ الكلام في صيغة الإِستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ).

«أم» هنا للإستفهام، ويحمل الإِستفهام هنا غرضاً استنكارياً وتوبيخاً... أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة، أو بحكم العقل، أو بأمر الله، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد.... فإن العقل يقول أيضاً: ينبغي التوجه نحو واهب النعم.

يبقى أن حكمَ الله في هذه الآية هو في مورد النفي، أي: لم يؤمروا من قِبل الله بمثل هذا الأمر، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل


1 ـ إنّ «اللام» في جملة «ليكفروا» هي لام الأمر، وهذا الأمر للتهديد، وكذلك جملة «تمتعوا» إذ هي للتهديد أيضاً. وإن كانت الأُولى جاءت بصيغة «الغائب» والثّانية بصيغة «الخطاب»... فكأنّما افترض في الحالة الأُولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب، إلاّ أنّ بعض المفسّرين عدّوا «اللام» للعاقبة، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله، إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية.

[534]

مقبول!.

و «السلطان» معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإِنتصار عادةً، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

والتعبير بـ «يتكلم» هو نوع من التعبير المجازي، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين «كأن هذا الدليل يتكلم مع الإِنسان»!

واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين، فيكون استعمال «يتكلم» هنا على نحو الحقيقة، أي لم نرسل عليهم ملكاً يتكلم بالشرك فيتبعوه!.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: (وإذا أذقنا الناس رحمةً فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ).

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون الله على نعمه، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.

فالمشركون يعيشون دائماً بين «الغرور» و «اليأس» ، أمّا المؤمنون فهم بين «الشكر» و «الصبر» .

ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإِبتلاءات التي تحل بالإِنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه.

و ينبغي الإِلتفات الى أنّ جملة (فرحوا بها ) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة، وإلاّ فإن

[535]

السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمراً سيئاً، بل هو مأمور به (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا )(1).

والتعبير (بما قدمت أيديهم ) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإِنسان، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع، إلاّ أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: ألا تخالف هذه الآية، الآية الثّالثة والثلاثين «ما قبل آيتين» لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد. والخلاصة، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن «الرجاء» والأُخرى عن «اليأس»؟

لكن مع الإِلتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن «الضر» أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأُخرى التي تصيب عامة الناس «الموحدين منهم والمشركين». فيتذكرون الله في هذه الحال، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد.

أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشىء منها، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحاً أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودَهم اليأسُ من رحمة الله، فكلتا الحالين «العُجب والغرور» و «اليأس والقنوط من رحمة الله» مذمُومتان!

فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعاً منفصلا عن الآخر.

* * *


1 ـ يونس، الآية 58.

[536]

 

 

 

 

الآيات

أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ (37) فَأَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيِلْ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَآءَ اتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ  فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللهِ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْء سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

 

التّفسير

الآية الأُولى من الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد والربوبيّة أيضاً، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء، فإنّها تقول: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ).

فلا ينبغي أن يكون إقبال النعم مدعاةً للغرور ونسيان الله والطغيان، ولا إدبارها سبباً لليأس والقنوط، لأنّ سعة الرزق وضيقه بيد الله، فتارة يرى المصلحة

[537]

للعبد في الحالة الأُولى «سعة الرزق»، وتارةً يراها في الثّانية، أي «الضيق».

وصحيح أنّ العالَم هو عالم الأسباب، فمن جَدّ وجد، ومن سعى قاوم الصعاب ينلْ فائدة أكثر ويربح عادةً، وأمّا أُولئك الكسالى فلا ينالون إلاّ قليلاً... لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك، إلاّ أنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الإِستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جَعَل للأسباب من تأثير، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب، ولا ينبغي للانسان أن يغفل أن وراء هذا العالم يداً قوية أُخرى تديره كيف شاءت!

فأحياناً ـ ووفق مشيئته ـ توصد جميع الأبواب بوجه الإِنسان مهما سعى وجدّ في الأمر، وقديرحم الانسان وييسّر له الاُمور الى درجة انه ما أن يخطو خطوة... وإذا الأبواب متفتحة أمامه!

فما نرى في حياتنا من هذه المفارقات، بالإِضافة إلى أنّه يحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة، واليأس الناشىء من الفقر، فهو في الوقت ذاته دليل على أن وراء إرادتنا ومشيئتنا يداً قوية أُخرى «تسيّر أعمالنا».

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية: (إنّ في ذلك لآية لقوم يؤمنون ).

وينقل بعض المفسّرين كلاماً بهذا المضمون وهو: سئل أحد العلماء: ما الدليل على أنّ للعالم صانعاً واحداً؟

فقال هناك ثلاثة أدلة: «ذل اللبيب، وفقر الأديب، وسقم الطبيب». (1)

أجل إن وجود هذه المستثنيات والمفارقات دليل على أن الامور بيد قادر آخر، كما ورد في كلام الإِمام علي(عليه السلام) أيضاً «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم،


1 ـ تفسير روح البيان، ج 7، ص 29، ذيل الآية محل البحث.

[538]

وحلّ العقود، ونقض الهمم». (1)

وحيث أن كل نعمة وموهبة ينالها الإِنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها، فإن القرآن يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية التالية قائلا: (فآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ).

وينبغي أن لا تتصور عند سعة الرزق أن ما عندك هولك فقط، بل إنّ للآخرين في مالك حقّاً أيضاً، ومن هؤلاء الأقارب والمساكين الذين باتوا متربين لشدة الفقر، وكذلك الأعزة الذين ابتعدوا عن الوطن وانقطع بهم الطريق نتيجة حوادث معينة وهم محتاجون!...

والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإِنسان، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدي حقهم، وليس له منٌّ عليهم!.

وهناك جماعة من المفسّرين يرون أنّ المخاطب في هذه الآية هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب، وأن «ذا القربى» أرحامه، وقد ورد في رواية عن أبي سعيد الخدري وغيره مايلي: «لما نزلت هذه الآية على النّبي أعطى فاطمة فدكاً وسلّمها إليها». (2)

وبالمضمون نفسه نقل عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام) أيضاً.(3)

وقد ورد المعنى نفسه مفصلا في احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على أبي بكر في قضية فدك، وذلك في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام).(4)

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا: إنّ الخطاب في هذه الآية عام، وهو يشمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره، وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ جميع الناس عليهم أن لا ينسوا حق ذوي القربى أيضاً.


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة 250

2 ـ مجمع البيان.

3 ـ مجمع البيان.

4 ـ تفسير على بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين عنه، ج4، ص 186.

[539]

وبالطبع فإنه لا منافاة في الجمع بين التّفسيرين، وعلى هذا فإن مفهوم الآية مفهوم واسع، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه وخاصة فاطمة الزهراء(عليها السلام) هم المصداق الأتم لهذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن لا منافاة لأي من التفاسير الآنفة مع كون السورة مكّية، لأنّ مفهوم الآية مفهوم جامع ينبغي العمل به في مكّة وفي المدينة أيضاً، وحتى خبر إعطاء «فدك» لفاطمة(عليها السلام) على أساس هذه الآية مقبول جدّاً.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا، هو جملة «لما نزلت هذه الآية....» في رواية أبي سعيد الخدري، إذ أن ظاهرها أن إعطاء فدك كان بعد نزول الآية، ولكن لو أخذنا كلمة «لما» به معنى العلة، لا بمعنى الزمان الخاص، ينحل هذا الإِشكال، ويكون مفهوم الآية أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدكاً لأمر الله إياه، أضف إلى ذلك فإن بعض آيات القرآن يتكرر نزولها!.

ولكن لم ذكر هؤلاء الثلاثة من بين جميع المحتاجين وأصحاب الحق؟

لعل ذلك لأهميتهم، لأنّ حق ذى القربى أهم وأعلى من أي حق سواه، ومن بين المحرومين والمحتاجين فإنّ المساكين وأبناء السبيل أحوج من الجميع!.

أو أن ذلك لما أورده «الفخر الرازي» هنا إذ يقول: «في تخصص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم، مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات، فنقول: أراد هاهنا بيان من يجب الإِحسان إليه على كل من له مال، سواء كان زكوياً أم لم يكن، وسواءً كان بعد الحول أو قبله، لأنّ المقصود هاهنا الشفقة العامة، وهؤلاء الثلاثة يجب الإِحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد، أمّا القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كمال القاصرين أو مال لم يحل عليه الحول، والمسكين كذلك فإنّ من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة، يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابةٌ يمكنُه بها إيصاله إلى مأمن، يلزمه ذلك، وإن لم تكن عليه

[540]

زكاة، والفقير داخل في المسكين، لأنّ من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً «فما ذكرته الآية من ترتيب لهؤلاء إنّما يناسب شأنهم».(1)

و على كل حال فإنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين، وشَرَطَ القبول ضمناً، فيقول: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأُولئك هم المفلحون ).

أُولئك المفلحون في هذه الدنيا، لأنّ الإِنفاق يجلب معه البركات العجيبة، وفي الآخرة أيضاً، لأنّ الإنفاق هو أكثر الأعمال ثقلا في ميزان الله يوم القيامة.

ومع الإِلتفات إلى أن المراد من (وجه الله ) ليس هو المحيّا الجسماني، إذ ليس له تعالى وجه جسماني، بل هو بمعنى ذاته المقدّسة، فإن هذه الآية تشير إلى أن الإِنفاق وإيتاء حق الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً، بل المهم هو الإِخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وخلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين. من أنّ الانفاق لغرض الوصول إلى الجنّة ليس مصداقاً لوجه الله، فان جميع الأعمال التي يؤديها الإِنسان وفيها نوع من الإِرتباط بالله، سواء كانت لمرضاته أو ابتغاء ثوابه أو للنجاة من جزائه، فكلها مصداق لوجه الله، وإن كانت المرحلة العليا والكاملة من ذلك أن لا يبتغي الإِنسان من وراء عمله إلاّ الطاعة والعبودية المحضة!.

وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإِنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإِنفاق: أحدهما لله، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا، فتقول: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلايربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون ).

مفهوم الجملة «الثّانية» وهي إعطاء الزكاة والإِنفاق لوجه الله والثواب واضح، إلاّ أن الجملة الأُولى (وما آتيتم من ربا ) مختلَف في تفسيرها مع


1 ـ ذيل الآيات محل البحث «الفخر الرازي».

[541]

الإِلتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة».

فالتّفسير الأوّل، وهو أوضح من جميع التفاسير، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال، كي ينالوا منهم أجراً أحسن وأكثر!

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لايؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان، تعود على مُهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية، والمعنوية!.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذهِ الآية هو «الهدية والعطية» والمراد من جملة (ليربو في أموال الناس ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراماً، إذ ليس فيه شرط أو قرار، إلاّ أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية... ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في مصادر معروفة، بـ «الربا الحلال» في قِبالِ «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الإتفاق.

ونقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في كتاب تهذيب الأحكام، في تفسير الآية هو قوله(عليه السلام): «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما، فذلك ربا يؤكل»!

كما نقرأ حديثاً آخر عنه(عليه السلام) «الربا رباءان، أحدهما حلال والآخر حرام، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضاً يريدأن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه، وهو قوله: (فلا يربو عندالله ) وأمّا الحرام فالرجل

[542]

يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هوالحرام». (1)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام، وطبقاً لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإِنفاق الخالص لوجه الله، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال، إلاّ أنّه ليس زيادةً عند الله، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإِنفاق في سبيل الله.

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضاً في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس».

وبالطبع ليس بين المعنيين أيُّ تضاد، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و «الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإِنفاق في سبيل الله، إلاّ أن تعبيرات الآية أكثر انسجاماً مع التّفسير الأول، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب، وهو مباح، لأنّ الآية تقول: إن هذا العمل لا يربو عند الله، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب، وليس شيئاً يستوجب مَقْتَ الله وغضبَهُ... وقد قلنا: إن الروايات الإِسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.

وينبغي الإِشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول، مثل «الموسِر» أي: صاحب المال الكثير.

وينبغي أيضاً أن يُعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 191.

[543]

ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال، لأنّ القرآن يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ).(1)

وتبلغ الزيادة أحياناً كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: «على باب الجنّة مكتوب: القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر». (2)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإِنفاق في سبيل الله، إذ تقول الآية: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء )(3)

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أُخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة... وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك، ودليلا على المعاد أيضاً فتقول: (الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون ).

و من المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قِبل الأوثان، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي، والإِستفهام هنا استفهام إنكاري!.

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أُولئك المشركين لم يكونوا


1 ـ الأنعام، الآية 160.

2 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 190.