ولا شك أن هنا علائق مجهولة وعللا لا نعزفها في هذا الأمر، إذ نجهل ذلك بعلمنا «المحدود»، لكننا نعرف أن هذا الأمر غير محال.

فهل استطاع «آصف» بقدرته المعنوية أن يبدل عرش بلقيس إلى أمواج من نور، وبلحظة أحضرها عند سليمان(عليه السلام) ثمّ أرجعها إلى مادتها الأصليّة مرّة أُخرى؟... هذا الأمر عندنا يلفّه الغموض.

وما نعرف أن الإنسان يقوم اليوم بأعمال بواسطة الطرق العلمية المتداولة، كانت قبل مائتي عام تعدّ في دائرة المحال!.

فمثلا لو كان يقال لشخص ما قبل عدّة قرون: سيأتي زمان على الناس يتكلم الرجل في المشرق فيسمعه الآخرون ويرونه في المغرب في اللحظة ذاتها.. لكان يعد هذا المقال ضرباً من الهذيان أو الحلم!

وليس هذا إلاّ لأنّ الإنسان يريد أن يقوّم كل شيء بعلمه المحدود وقدرته القاصرة! مع أن ما وراء علمه وقدرته أسراراً خفية كثيرة!

 

* * *

[77]

الآيات

قَالَ نَكِّرُوا لَهَـا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ  لاَ يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَآءَتْ قِيْلَ أَهَـكَذا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَـا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كانَتْ تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْم كَـفِرِينَ (43) قِيلَ لَهَـا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـنَ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ (44)

 

التّفسير

نور الايمان في قلب الملكة:

نواجه في هذه الآيات مشهداً آخر، ممّا جرى بين سلمان وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها، ويهىء الجوّ لإيمانها بالله، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه فـ (قال نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ).

وبالرغم من أن المجيء بعرشها من سبأ ا لى الشام كان كافياً لان لا تعرفه ببساطة.. ولكن مع ذلك فإنّ سليمان أمر أن يوجدوا تغييرات فيه، من قبيل تبديل

[78]

بعض علاماته، أو تغيير ألوانه ومواضع مجوهراته، ولكن هذا السؤال: ما الهدف الذي كان سليمان(عليه السلام) يتوخّاه من اختبار عقل (ودراية) ملكة سبأ وذكائها؟

لعل هذا الاختبار كان لمعرفة أي منطق يواجهها به؟ وكيف يأتي لها بدليل لإثبات المباني العقائدية؟

أو كان يفكر أن يتزوجها، وكان يريد أن يعرف هل هي جديرة بأن تكون زوجة له، أم لا؟.. أو أراد ـ واقعاً ـ أن يعهد لها بمسؤولية بعد ايمانها... فلابدّ من معرفة مقدار استعدادها لقبول المسؤولية!

وهناك تفسيران لجملة (أتهتدي ) فقال بعضهم: المراد منها معرفة عرشها. وقال بعضهم: المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة،  أو لا؟!

إلاّ أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني.

وعلى كل حال... فلمّا جاءت (قيل أهكذا عرشك ) والظاهر أن القائل لها  لم يكن سليمان نفسه، والاّ فلا يناسب التعبير بـ «قيل»، لأنّ اسم سليمان ورد قبل هذه الجملة وبعدها، وعُبّر عن كلامه بـ «قال».

أضف إلى ذلك أنّه لا يناسب مقام سليمان(عليه السلام) أن يبادرها بمثل هذا الكلام.

وعلى أي حال. فإنّ ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و (قالت كأنّه هو ).

فلو قالت: يشبه، لأخطأت.. ولو قالت: هو نفسه، لخالفت الإحتياط، لأنّ مجيء عرشها إلى أرض سليمان لم يكن مسألة ممكنة بالطرق الإعتيادية، إلاّ أن تكون معجزةً.

وقد جاء في التواريخ أن ملكة سبأ كانت قد أودعت عرشها الثمين في مكان محفوظ، وفي قصر مخصوص فيه غرفة عليها حرس كثير!

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له

[79]

من تغييرات.. فقالت مباشرة: (وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين ).

أي، إذا كان مراد سليمان(عليه السلام) من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر.. كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الامر.

وهكذا فأنّ سليمان(عليه السلام) منعها (وصدّها ما كانت تعبد من دون الله )(1)بالرغم من (أنّها كانت من قوم كافرين ).

أجل، إنّها ودعت ماضيها الأسود برؤية هذه العلائم المنيرة، وخَطت نحو مرحلة جديدة من الحياة المملوءة بنور الإيمان واليقين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمان(عليه السلام) قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير، وأن يجري الماء من تحتها.

فلمّا وصلت مَلكة سبأ إلى ذلك المكان (قيل لها أدخلي الصرح )(2) فلما رأته

ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: (فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها )(3).


1 ـ للمفسّرين أقوال مختلفة في فاعل (صدّ) وأنّ (ما) هل هي موصولة أو مصدرية، فقال جماعة من المفسّرين. إن الفاعل هو سليمان كما بيّناه في المتن، وبعضهم قال: بل هو الله، والنتيجة تكاد تكون واحدة وطبقاً لهذين التّفسيرين تكون «ها» مفعولا أوّلا و (ما كانت) مكان المفعول الثّاني، وإن كان أصلها جاراً ومجروراً، أي وصدها سليمان أو الله عما كانت تعبد من دون الله. إلاّ أن جماعة ذهبوا إلى أن فاعل صدّ، هو (ما كانت)، لكن حيث أن الكلام عن إيمانها لا كفرها فالتّفسير الأوّل أنسب.. وأمّا كلمة (ما) فقد تكون موصولة.. أو مصدرية.

2 ـ «صَرْحُ» معناه الفضاء الواسع، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.

3 ـ «اللّجة» في الاصل مأخوذة من اللجاج، ومعناه الشدّة، ثمّ أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير (لجة) على وزن (ضجة)، أمّا الأمواج المتلاطمة فىُ البحر فتسمى (لُجة) على وزن (جُبة) وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

[80]

إلاّ أنّ سليمان(عليه السلام) التفت إليها وقال: (إنّه صرح ممرد من قوارير )(1).  فلا حاجة الى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أن سليمان نبيّ كبير، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق... والصرح الممرد والبساط الممهّد!.. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد، إلاّ أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبيآء.

إلاّ أنّه، ما يمنع أن يُري سليمان مَلكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة.. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية!

ما يمنعه ـ بدلاً من أن يغير جيشاً لجباً فيسفك الدماء ـ أن يجعل فكر ملكة سبأ حائراً مبهوتاً بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا... خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الاُمور والتشريفات!.

ولا سيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام، وكان هدفه أن يُريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له... وهذا الأمر يدلّ على أن سليمان(عليه السلام) كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وُفق بها للقيام بمثل هذا العمل!.

وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمراً مسرفاً.

ولذلك حين رأت مَلكة سبأ هذا المشهد الرائع (قالت ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين ).


1 ـ «الممرد» معناه الصافي... و (القوارير) جمع قارورة وهي الزجاجة.

[81]

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام، وكنت غارقة في الزينة والتجميل، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا.

أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه!.

ربّاه... أتيت اليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك. الطريف هنا أنّها تقول: أسلمت مع سليمان، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر.

فهنا لا يوجد غالب ومغلوب، بل الجميع ـ بعد قبول الحق ـ في صف واحد!.

صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضاً، لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر (وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين ).

إلاّ أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه، لذلك أكّدت إسلامها مرّة أُخرى.

إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان.

فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة!

وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها.

وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد.

وأخيراً مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية، وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك!

* * *

 

بحثان

1 ـ عاقبة أمر ملكة سبأ

كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيراً ولحقت

[82]

بالصالحين... لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها، وواصلت حكمها من قبل سليمان، أو بقيت عند سليمان و تزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم «تُبّع»؟

هذه الاُمور لم يشر إليها القرآن الكريم، لأنّها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية!... إلاّ أن المؤرّخين والمفسّرين كلاًّ منهم اختار رأياً، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك، وإن كان المشهور ـ طبقاً لما قاله أغلب المفسّرين ـ أنّها تزوّجت من سليمان نفسه(1).

إلاّ أنّه ينبغي أن نذّكر بهذا الأمر المهم، وهو أنّه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضاً، ممّا يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية، وربّما يُغشّي هذه الحقائق التاريخية. ظلٌّ مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع.. وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تُراقب مراقبة تامّة!.

 

2 ـ خلاصة عامة عن حياة سليمان

ما ورد عن سيرة سليمان وحالاته في الثلاثين آية آنفة الذكر،يكشف عن مسائل كثيرة، قرأنا قسماً منها في أثناء البحث، ونشير إلى القسم الآخر إشارة عابرة:

1 ـ إنّ هذه القصّة تبدأ بالحديث عن موهبة (العلم الوافر) التي وهبها الله لسليمان بن داود، وتنتهي بالتسليم لأمر الله، وذلك التوحيد أساسه العلم أيضاً.

2 ـ هذه القصّة تدل على أن غياب طائر أحياناً (في تحليقة استثنائية) قد يغير مسير تأريخ أُمّة، ويجرها من الفساد إلى الصلاح، ومن الشرك إلى الإيمان... وهذا مثل عن بيان قدرة الله، ومثل من حكومة الحق!.


1 ـ الآلوسي في روح المعاني.

[83]

3 ـ إنّ هذه القصّة تكشف عن أن نور التوحيد يشرق في جميع القلوب، حتى الطائر الذي يبدو ظاهراً أنّه صامت، فإنّه يخبر عن أسرار التوحيد العميقة!.

4 ـ ينبغي من أجل لفت نظر الإنسان إلى القيمة الواقعية له وهدايته نحو الله، أن يُدمّر غروره وكبرياؤه أولا.. ليُماط عن وجه ستار الظلام، كما فعل سليمان، فدمر غرور مَلكة سبأ وذلك بإحضار عرشها، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجةً.

5 ـ إنّ الهدف النهائي في حكومة الأنبياء ليس التوسع في رقعة الأرض، بل الهدف هو ما قرأناه في آخر آية من الآيات محل البحث، وهو أن يعترف الظالم بذنبه، وأن يسلم لربّ العالمين، ولذلك فإن القرآن ختم بهذه «اللطيفة» القصّة المذكورة.

6 ـ إنّ روح الإيمان هي التسليم، لذلك فقد أكّد سليمان عليه في كتابه إلى مَلكة سبأ.

7 ـ قد يكون بعض الناس مع ما لديه من قدرة عظيمة لا ترقى إليه قدرة الآخرين، محتاجاً إلى موجود ضعيف كالطائر مثلا، لا إلى علمه فحسب، بل قد يستعين بعلمه أيضاً، وقد تحقّره نملة بما هي عليه من ضعف!

8 ـ إنّ نزول هذه الآيات في مكّة حيث كان المسلمون تحت نير العدو، وكانت الأبواب موصدة بوجوههم، هذا النّزول كان له مفهومه الخاص. وهو تقوية معنويات المسلمين وتسلية قلوبهم، واحياء أملهم بلطف الله ورحمته والإنتصارات المقبلة.

 

* * *

[84]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَـهُمْ صَـلحاً أَنِ اعْبُدُ اللهَ فَإذا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَـقَومِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرنَا بِكَ وَبِمَنْ مَّعَكَ قَالَ طَـئرُكُمْ عِنْدَ الله بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ تُفْتَنُونَ (47)

 

التّفسير

صالحٌ في ثمود:

بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمان(عليهم السلام) فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصّة رابع نبيّ ـ وتبيّن جانباً من حياته مع قومه ـ في هذه السورة، وهي ما جاء عن صالح(عليه السلام) وقومه «ثمود»!

إذ يقول القرآن: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله )(1).

وكما قيل من قبل: إنّ التعبير بـ «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء، هو إشارة إلى منتهى المحبّة والإشفاق من قبل الأنبياء لأُممهم، كما أن في بعض


1 ـ جملة (أن اعبدوا الله) مجرورة بحرف جر مقدرو أصلها: ولقد ارسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً بعبادة الله.

[85]

المواطن إشارة الى علاقة القربى «الروابط العائلية للانبياء بأقوامهم».

وعلى كل حال، فإنّ جميع دعوة هذا النّبي العظيم تلخصت في جملة (أن اعبدوا الله ). أجل، إنّ عبادة الله هي عصارة كل تعليمات رسل الله.

ثمّ يضيف قائلا: (فاذا هم فريقان يختصمون )(1). المؤمنون من جهة والمنكرون المعاندون من جهة أُخرى.

وقد عبر في الآيتين 75 و 76 من سورة الأعراف عن الفريقين، بالمستكبرين والمستضعفين: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربّه قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتهم به كافرون ).

وبالطبع فإنّ هذه المواجهة بين الفريقين «الكفار والمؤمنين» تصدق في شأن كثير من الأنبياء، بالرغم من أن بعض الانبياء بقوا محرومين حتى من هذا المقدار القليل من الانصار حيث وقف كل افراد قومهم ضدهم.

فأخذ صالح(عليه السلام) ينذرهم ويحذرهم من عذاب الله الأليم... إلاّ أنّ أُولئك  لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه باصرار أن إذا كنت نبيّاً فليحل بنا عذاب الله «وقد صرحت الآية 77 من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب» (فقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ).

إلاّ أن صالحاً أجابهم محذراً و (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ).

فلِمَ تفكرون بعذاب الله دائماً وتستعجلونه؟ ألا تعلمون أن عذاب الله إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للايمان؟


1 ـ كلمة (فريقان) تثنية، وفعلها مسند إلى ضمير الجميع، وذلك لأنّ كل فريق يتألف من جماعة... فأخذ الجمع بنظر الإعتبار..

[86]

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الايجابي والأمل في رحمة الله في ظل الإيمان به (لولا تستغفرون الله لعلكم تُرحمون )!.

علام تسألون عن نزول العذاب وتصرون على السيئات؟! ولم هذا العناد وهذه الحماقة؟!

لم يكن قوم صالح ـ وحدهم ـ قد طلبوا العذاب بعد انكارهم دعوة نبيّهم، فقد ورد في القرآن المجيد هذا الامر مراراً في شأن الامم الآخرين، ومنهم قوم هود «كما في الآية 70 من سورة الاعراف».

ونقرأ في شأن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) وما واجهه به بعض المشركين المعاندين، إذ قالوا: (اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ).(1)

وهذا أمر عجيب حقّاً أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك، لا عن طريق طلب الرحمة! مع أنّهم يعلمون يقيناً احتمال صدق دعوة هؤلاء الأنبياء «يعلمون ذلك في قلوبهم وإن أنكروه بلسانهم».

وهذا الأمر يشبه حالة ما لو أدعى رجل بأنّه طبيب، فيقول: هذا ا لدواء ناجع شاف، وذلك الدواء ضار مهلك. و نحن من أجل أن نختبر صدقه نستعمل الدواء المهلك!!

فهذا منتهى الجهل والتعصب... ولمرض الجهل الكثير من هذه الافرازات.

وعلى كل حال، فإنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة!... منها أنّهم (قالوا اطيرنا بك وبمن معك ) ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب، فقالوا: إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلّها بسبب قدوم هذا النّبي وأصحابه... فهم مشؤومون


1 ـ الأنفال، الآية 32.

[87]

جلبوا الشقاء لمجتمعنا!!

فكانوا يحاولون مواجهة دعوة نبيّهم صالح ومنطقه المتين بحربة التطير، التي هي حربة المعاندين الخرافيين.

لكنّه ردّ عليهم و (قال طائركم عند الله ) فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي ادت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إن ذلك اختبار وإمتحان إلهي كبير لكم، أجل (بل أنتم قوم تفتنون ).

هذه امتحانات وفتن إلهية... هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه ـ من فيهم اللياقة من غفلتهم، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو الله!.

* * *

 

بحث

«التطيُّر والتفاؤل»

«التطيُّر» مأخوذ من مادة «طير» وهو معروف، إذ يعني مايطير بجناحين في الجوّ، ولما كان العرب يتشاءمون غالباً من بعض الطيور، سمي الفأل غير المحبوب تطيّراً، وهو في قبال «التفأل» ومعناه الفأل الحسن المحبوب.

وقد وردت في القرآن الإشارة إلى هذا المعنى مراراً وهي أن المشركين الخرافيّين كانوا يواجهون أنبياءهم بحربة التطير، كما نقرأ ذلك في قصّة موسى وأصحابه (وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه )(1).

وفي الآيات ـ محل البحث ـ أظهر قوم «ثمود» المشركون رد فعلّهم في


1 ـ الأعراف، 131.

[88]

مقابل نبيّهم «صالح*» بالتطير أيضاً.

وأساساً، ونقرأ في سورة «يس» أن المشركين تطيّروا من مجيء رسل المسيح(عليه السلام) الى «انطاكية» (يس ـ 18).

فإنّ الإنسان لا يمكن أن يقف أمام الحوادث على حال واحدة، فلابدّ أن يفسّر آخر الأمر لكل حادثة علةً... فإذا كان الإنسان مؤمناً موحداً لله، فإنّه يرجع العلل إلى ذاته المقدسة تعالى طبقاً لحكمته، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ولو استند إلى العلم في تحليل العلة والمعلول الطبيعيين، فستُحل مشكلته ايضاً، وإلاّ فإنّه سينتج أوهاماً وخرافات لا أساس لها.. أوهاماً  لا حد لها.. وأحدها «التطير» والفأل السيء!

مثلا كان عرب الجاهلية إذا رأوا الطائر يتحرك من اليمين نحو الشمال عدوّه فألاً حسناً، وإذا رأوه يتحرك من الشمال «اليسار» نحو اليمين عدّوه فألا سيئاً، ودليلا على الخسران أو الهزيمة! وغيرها من الخرافات الكثيرة عندهم(1).

واليوم يوجد ـ من قبيل هذه الخرافات والأوهام ـ الكثير في مجتمعات  لا تؤمن بالله، وإن حققت نصراً من حيث العلم والمعرفة، بحيث لو سقطت «مملحة» على الأرض أقلقتهم إلى حد كبير!... ويستوحشون من الدار أو البيت أو الكرسي المرقم بـ 13، وما زالت سوق المنجمين وأصحاب الفأل رائجة غير كاسدة! فهناك مشترون كثر «للطالع والبخت»!.

إلاّ أنّ القرآن جمع كل هذه الامور فجعلها في جملة موجزة قصيرة فقال:

(طائركم عند الله ).


1 ـ يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول:

ولا أنا ممن يزجر الطير هَمّهُ أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السانحات البارحات عشيةً أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضبُ (المصحح).

[89]

أجل، فطائركم وطالعكم وانتصاركم وهزيمتكم وتوفيقكم وفشلكم كله عند الله، الله الحكيم الذي يهب عطاياه لمن كانت عنده اللياقة، واللياقة بدورها انعكاس تنعكس عن الايمان والأعمال الصالحة أو الطالحة!.

وهكذا فإنّ الاسلام يدعو أتباعه ليخرجهم من وادي الخرافة إلى الحقيقة، ومن المفازة(1) إلى الصراط المستقيم.

«كان لنا بحث مفصل في مجال التطير والتفاؤل ذيل الآية 131 من سورة الأعراف».

 

* * *


1 ـ المفازاة تأتي بمعنى الفوز، وتأتى بمعنى الهلاك... فهي من الأضداد في اللغة ـ وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).

[90]

الآيات

وَكَـانَ فِى الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْط يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ  وَلاَ يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَـا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وِإنَّا لَصَـدِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـهُمْ وَقَومَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَةً لِّقَوم يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)

 

التّفسير

تآمر تسعة رهط في وادي القُرى:

نقرأ هنا قسماً آخر من قصّة «صالح» وقومه، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل «صالح» من قِبل تسعة «رهط»(1) من المنافقين والكفار، وفشل هذا التآمر! في وادي القرى منطقة


1 ـ «الرهط» من الناس ما لا يقل عن الثلاثة ولا يزيد عن العشرة، وهو اسم جنس لا مفرد له من نوعه ويجمع على أراهط وأرهاط ـ ولا يكون في الرهط امرأة (المصحح).

[91]

«النّبي صالح وقومه».

يقول القرآن في هذا الشأن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ).

ومع ملاحظة أنّ «الرّهط» يعني في اللغة الجماعة التي تقلُّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين، فإنّه يتّضح أن كلاّ من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص، وقد اجتمعوا على أمر واحد، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الإجتماعي) ومبادىء العقيدة والأخلاق فيه.

وجملة «لا يصلحون» تأكيد على هذا الأمر، لأنّ الإنسان قد يفسدُ في بعض الحالات ثمّ يندم ويتوجه نحو الإصلاح.. إنّ المفسدين الواقعيين ليسوا كذلك، فهم يواصلون الفساد والإفساد ولا يفكرون بالإصلاح!.

وخاصّة أن الفعل في الجملة «يفسدون» فعل مضارع، وهو يدل على الإستمرار، فمعناه أن إفسادهم كان مستمراً... وكلّ رهط من هؤلاء التسعة كان له زعيم وقائد... ويحتمل أن كلاًّ ينتسب إلى قبيلة!.

ولا ريب أن ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ).

«تقاسموا» فعل أمر، أيّ اشتركوا جميعاً في اليمين، وتعهّدوا على هذه المؤامرة الكبرى تعهداً لا عودة فيه ولا انعطاف!.

الطريف أنّ أُولئك كانوا يقسمون بالله، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله، مع أنّهم يعبدون الأصنام، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمّة.. كما يدل هذا الأمر على أنّهم كانوا في منتهى الغرور و«السكر» بحيث يقومون بهذه الجناية الكبرى على اسم الله وذكره!! فكأنّهم يريدون أن يقوموا بعبادة أو خدمة مقبولة... إلاّ أنّ هذا نهج الغافلين المغرورين الذين لا يعرفون الله والضالين عن الحق.

[92]

وكلمة «لنبيتنّه» مأخوذة من ـ«التبييت»، ومعناه الهجوم ليلا، وهذا التعبير يدلّ على أنّهم كانوا يخافون من جماعة صالح وأتباعه، ويستوحشون من قومه.. لذلك ومن أجل أن يحققوا هدفهم ولا يكونوا في الوقت ذاته مثار غضب أتباع صالح، اضطروا إلى أن يبيتوا الأمر، واتفقوا أن لو سألوهم عن مهلك النّبي ـ لأنّهم كانوا معروفين بمخالفته من قبل ـ حلفوا بأن لا علاقة لهم بذلك الأمر، ولم يشهدوا الحادثة أبداً.

جاء في التواريخ أن المؤامرة كانت بهذه الصورة، وهي أن جبلا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح، وكان يأتيه ليلا بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه، فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثمّ يعودوا إلى بيوتهم، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلمّا كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال!

لذلك يقول القرآن في الآية التالية: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم  لا  يشعرون ).

ثمّ يضيف قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرنا هم وقومهم أجمعين ).

وكلمة (مكر) ـ كما بينّاها سابقاً ـ تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما.. ولا تختص بالاُمور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع.. فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ.. قال سبحانه: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ). وقال: (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله )! «فتأملوا بدقّة»

يقول الراغب في المفردات.. المكر صرف الغير عما يقصده.. فبناءً على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل

[93]

الآخرين، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية، والحيلولة دونها.

ثمّ يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول: (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا ).

فلا صوتَ يُسمع منها

ولا حركة تتردد

ولا أثر من تلك الزخارف والزبارج والنعم والمجالس الموبوءة بالذنوب والخطايا.

أجل، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً (إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ).

إلاّ أن الأخضر لم يحترق باليابس، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء... بل سلم المتقون (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ).

* * *

 

ملاحظات

1 ـ عقوبة ثمود

تختلف تعابير آيات القرآن في موضوع هلاك قوم صالح «ثمود».

فتارةً يأتي التعبير عن هلاكهم بالزلزلة (فأخذتهم الرجفة ).(1)

وتارة يقول: «عنهم» القرآن: (فأخدتهم الصاعقة )(2).