وقد بيّن هذا القسم من السورة كيفية المواجهة، وعُدّتها، وعاقبتها للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، ولتكون هذه الآيات إنذاراً للمشركين وعبدة الأوثان، الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة، والظالمين الذين عاصروا النّبي(صلى الله عليه وآله).

3 ـ والقسم الثّالث من هذه السورة، وهو ما ورد في نهاية السورة بوجه خاص، يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه، والمواجهة مع المشركين، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الاحتكام والقضاء الحق!.

4 ـ أمّا القسم الرّابع من هذه السورة، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت، وبيان عظمة القرآن، ودلائل حقانية نبيّ الإسلام، ولجاجة المخالفين، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال: الصلاة، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، وأسلوب مناقشة المخالفين، وما إلى ذلك.

 

فضيلة هذه السورة!

ورد في تفسير مجمع البيان عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في فضيلة هذه السورة مايلي: «من قرأ سورة العنكبوت كان له عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

ولتلاوة سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في الليلة الثّالثة

[329]

والعشرين منه فضيلة قصوى، حتى أنّنا نقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة، لا استثنى فيه أبداً... ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً» .(1)

ولا شك أن محتوى هاتين السورتين الغزير، والدروس العملية المهمّة منها في التوحيد، وما إلى ذلك، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنّة والخلود فيها.

بل لو استلهمنا من بداية سورة العنكبوت وآياتها الأُولى العظة فلعلنا نكون مشمولين في قسم الإمام الصادق(عليه السلام)... تلك الآية التي تعرض الإمتحان لعامّة الناس دون استثناء ليفتضح المبطلون والكاذبون... فكيف يمكن أن يصدّق الإنسان بهذا الإمتحان العظيم وهو لم يهيء نفسه له!؟. ولم يكن من أهل التقوى والورع!

 

* * *

 


1 ـ «ثواب الأعمال» «طبقاً لتفسير نورالثقلين، ج 4، ص 147» من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة 23 من شهر رمضان لسنة 1403 هجرية...

[330]

الآيات

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ  لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ (3)

 

سبب النّزول

طبقاً لما نقل بعض المفسّرين، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأُولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة.. وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها: «إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة» فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون «وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة».

وقال بعضٌ: إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن «عمار بن ياسر» وجماعة من المسلمين الأوائل، الذين آمنوا برسالة النّبي(صلى الله عليه وآله) ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.

كما قال بعضهم: إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام «سعد بن أبي وقاص»!

غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على إرتباط الآيات مع

[331]

هجرة أُولئك، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحياناً من الآباء المشركين والاُمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.

فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والإستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الاعداء.. وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه ـ أيضاً ـ الجهاد في هذا المجال، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة، فذلك شُرّع في المدينة.

وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحياناً... فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.

وعلى كل حال، فإرتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة «جميعها» مكية، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها، لا يمكن أن تقطع هذا الإرتباط!

* * *

 

التّفسير

الامتحان الإلهي سنة خالدة:

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة [ ألف ـ لام ـ ميم] أيضاً.. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(1).

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والإمتحان الإلهي.


1 ـ يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.

[332]

فيقول أوّلا: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ). (1)

ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة، وهي أن الإمتحان سنة الهية دائمية، فالامتحان لا يختص بكم ـ أيّها المسلمين ـ بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: (ولقد فتنا الذين من قبلهم ).

وهكذا ألقينا بهم أيضاً في أفران الإمتحانية الشديدة الصعبة... ووقعوا أيضاً ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القُساة والجهلة المعاندين.. فساحة الإمتحان كانت مفتوحة دائماً، واشترك فيها جماعة كثيرون.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً.. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالإمتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الإدعاءات.؟!

أجل (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ).

من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأُمور جيداً ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلاّ أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل.. ووجودها الخارجي، وبتعبير آخر: ظهور الآثار والشواهد العملية.. ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني، وأن يكشف كلٌّ عمّا في نفسه وداخله... هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.

والدليل على هذه المسألة واضح ـ أيضاً ـ لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.

وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا العالم مثله كمثل «المدرسة» أو «المزرعة»


1 ـ «يفتنون» مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهريومعنوي.. «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (193) من سورة البقرة».

[333]

[ والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية] والمنهج هو أن تتفتح الإستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.

وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة، ثمّ تكون أشجاراً ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن.. وهذه الأُمور لا تكون إلاّ بالإمتحان والإختبار.

ومن هنا نعرف أن الإمتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد، بل هي من أجل تربية الإستعدادات ورعايتها، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.

فعلى هذا.. لو أردنا نحن أن نمتحن شيئاً، فهو لأجل كشف المجهول، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول، لأنّه أحاط بكل شيء علماً... بل هو لتربية الإستعدادت وايصال مرتبة «القوة» إلى «الفعل»(1).

* * *

 

بحث

الإمتحانات في وجوه مختلفة:

وبالرّغم من أن بيان عمومية الإمتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سبباً في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة... إلاّ أن ذلك لم يكن منحصراً في مؤمني مكّة، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها، إلاّ أن الإمتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.


1 ـ لمزيد الإيضاح في مسألة الإمتحان الإلهي وجوانبها المختلفة، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (157) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!...

[334]

فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.

والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل «الإيمان» فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للايمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف، فهنا يكمن امتحانهم..

وجماعة آخرون على عكس أُولئك غرقى في اللذائذ والنعم، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه... ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم.. أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية... غرقى الشهوات والإغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!

وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّاً، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الإجتماعي. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة... وهذا نوع آخر من الإمتحان.

المصائب، والآلآم والهموم، والحروب والنزاعات، والقحط والغلاء، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيراً الأمواج النفسية القوية والشهوات، كلّ منها وسيلة للإمتحان في طريق عباد الله، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم.. الخ.

ولكن لا طريق للانتصار في هذه الإمتحانات الصعبة لاجتيازها إلاّ الجدّ

[335]

السعي المستمر، والاعتماد على لطف الله سبحانه.

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ) يقول فيه: «يُفتنون كما يفتن الذهب، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب» (1).

وعلى كل حال، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم في خطأ كبير.

وعلى حدّ تعبير أميرالمؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: «والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم»(2).

قال(عليه السلام): هذا الكلام والناس جديدو عهد ببيعته، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة، فيبعّض في المال، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام، والقليل للبعض الآخر!.. أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟

 

* * *

 

 


1 ـ أصول الكافي، طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 148.

2 ـ نهج البلاغة، خطبة 16.

[336]

الآيات

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَت وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَـهَدَ فَأِنَّمَا يُجَـهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـلمِينَ (6) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

 

التّفسير

لا مهربَ من سلطان الله:

كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الأُولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فوراً، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ).

فلا ينبغى أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبة

[337]

والعودة إلى ساحة الله تعالى.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.

ثمّ يتحدث القرآن مرّة أُخرى عن سيرالمؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: (من كان يرجوا لقاء الله ) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والاحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتماً (فأنّ أجل الله لأت )(1).

أجل، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف، هو طريق لابدّ من اجتيازه، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم... لأنّه (هو السميع العليم ).

وفي معنى قوله تعالى: (لقاء الله ) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء.. وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق.. وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة.. في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.

وينبغي القول أن «لقاء الله» في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!

وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء الله، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: (ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين )


1 ـ هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ فيها حذف، والتقدير «من كان يرجو لقاء الله فيبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل» أو «من كان يرجو لقاء الله ويقول آمنت بالله فليقله مستقيماً صابراً عليه فإنّ أجل الله لآت».

[338]

[ سورة النور الآية 25] (1).

أمّا الآية التي تليها، فهي ـ في الحقيقة ـ تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: (ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ).

إن خطة الإمتحان الالهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الاعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للانسان... وإلاّ فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون، فكل ما عندهم فمنه، وليس لهم شيء من أنفسهم!.

ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى، وتحمل أنواع الشدائد، والمواجهات «الموضعية» للأعداء الألدّاء والحاقدين.

والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد، فهو في مرحلة أُخرى بعده.

فعلى هذا، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.

وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ).


1 ـ بحثنا المراد من لقاء الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (46) من سورة البقرة فليراجع هناك أيضاً.

[339]

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير [ وهو الإيمن والعمل الصالح] هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ).

كلمة «نكفّر» مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!

والتعبير بـ(أحسن الذي كانوا يعملون ) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة ـ حسنةً كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسناً، فنحاسب الجميع بالأحسن، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.

وفي آيات أُخرى من القرآن، كالآية (38) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضاً (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ).

 

* * *

 

[340]

 

الآيتان

وَوَصَّيْنَا الاِْنْسَـنَ بِوَلِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَـهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـلَحَـتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الْصَّـلِحِينَ (9)

 

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(1)، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأُمهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلاّ أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اُسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأُمهات، في مجال الكفر والإيمان.

 


1 ـ ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

[341]

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين:

إنّ واحداً من أهم الإمتحانات الإلهية، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة.. والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه ).

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازماً» تشريعياً، لها وجود في فطرة الانسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر.. فهذا القانون لا يختصُّ بالمؤمنين، بل كلّ من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره.. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ).

والتعبير بـ(جاهداك ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ(ما ليس لك به علم ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

[342]

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساساً فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضاً ـ في سورة لقمان مع اضافة (وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك، ينبغي عليك احترامهما والاحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي: أي إن شيئاً لايمكن أن يكون حاكماً على علاقة الإنسان بالله، لأنّها مقدمة على كل شيء، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1)... الذي نقل عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يعطينا معياراً واضحاً لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية (إليّ مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون )وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأُولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق.. لأنّها تقول بصراحة: إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أُولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتكرر هذا المضمون أيضاً (والذين آمنوا وعملوا الصالحات


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الجملة 165.

[343]

لندخلنهم في الصالحين ).

وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره.. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم: في الآيات السابقة إشارة إلى أُولئك الذين يسلكون طريق الحق، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أُولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضاً، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء، إلاّ أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين،صف الأنبياء والصديقين والشهداء، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

 

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين:

ليست هذه هي المرّة الأُولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (23) من قبل، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (14) و (15) وسورة الأحقاف الآية (15) أيضاً.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه، حتى مع كونهما مشركين، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

[344]

الإسلام، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الإمتحانات الإلهية العظيمة.. التي أشير إليها في بداية هذه السورة، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحياناً يصعب معه تحمّلهما.. فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الاحسان وإطاعة أمر الله.. وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّ رجلا جاء إليه فقال: «يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمّك: قلت: ثمّ من؟ قال: أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب» (1).

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبي(صلى الله عليه وآله) قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» (2). فلابدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

 

* * *

 

 


1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث...

2 ـ المصدر السابق.

[345]

الآيات

وَمِنَ النَّاسَ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّنْ رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـلَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـفِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـيَـكُمْ وَمَا هُم بِحَـمِلِينَ مِّنْ خَطَـيَـهُم مِّن شَىْء إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

 

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح، ففي الآيات الأُولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث  ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) فلا يصبرون على الاذى والشدائد،

[346]

ويحسبون تعذيب المشركين لهم واذى الناس أنّه عذاب من الله (ولئن جاء نصر من ربّك ليقولن إنّا كنّا معكم )فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ).

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ(أوذي في الله ) معناه أوذي في سبيل الله، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ احياناً ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مُجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس  بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذاباً ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و«الإيذاء» ولاينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذ الإيذاء جزء من منهج الإمتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤالٌ وهو: أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب: إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

[347]

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع...

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالايذاء مناسب لمحيط مكّة... وإلاّ فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.