ويجدر التنبيهُ ـ قبل الدخول إلى تفسير هذه الآيات ـ على هذه «اللطيفة» وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات، وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة، يمكن أن يدركها عامّة الناس، إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال، وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى، وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله.

ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له، وأهمهما أيضاً، فيقول: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون )!

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله.

الأوّل: خلق الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم(عليه السلام)، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر!

الثّاني: كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة، فلو

[494]

لم تُخلق خصوصية التناسل في آدم، لإنطوى نسله من الوجود بسرعة!.

تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة؟!

فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية، وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض، نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة، بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة.

فالتراب ليس فيه نور، ولا حرارة، ولا جمال، ولا طراوة، ولا حس، ولا حركة ومع ذلك فقدأضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات، فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً، لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق (فتبارك الله أحسن الخالقين ).

والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان، ويعود جذرهم إلى شيء واحد، وأصل واحدة وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أن كلمة «إذا» تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرة ـ فجأةً ـ ويملأ سطح الأرض.. ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا.

والآية الثّانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ). أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي

وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة،

[495]

يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفةً (وجعل بينكم مودةً ورحمة ).

ولمزيد التأكيد تُختتم الآية بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ).

الطريف هنا أن القرآن ـ في هذه الآية ـ جعل الهدف من الزواج الإطمئنان والسكن، وأبان مسائل كثيرة في تعبير غزير المعنى «لتسكنوا» كما ورد نظير هذا التعبير في سورة الأعراف الآية 189.

والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة، هو أحد مواهب الله العظيمة.

وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية.

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلاّ أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

وعلى كل حال، فإنّ هذا الإطمئنان أو السكن يكون من عدّة جهات «جسمياً وروحيّاً وفردياً واجتماعيّاً».

ولا يمكن إنكار الأمراض التي تصيب الجسم في حالة عدم الزواج، وكذلك عدم التعادل الروحي والإضطراب النفسي عند غير المتزوجين.

ثمّ أنّ الأفراد العزّاب لا يحسّوون بالمسؤولية ـ من الناحية الإجتماعية ـ كثيراً.. ولذلك فإن الإنتحارتزداد بين أمثال هؤلاء أكثر.. كما تصدر منهم جرائم مهولة أكثر من سواهم أيضاً.

وحين يخطو الإنسان من مرحلة العزوبة الى مرحلة الحياة الأُسرية يجد في نفسه شخصية جديدة، ويحس بالمسؤولية أكثر،، وهذا السكن والإطمئنان في

[496]

ظل الزواج.

وأمّا مسألة «المودة والرحمة» فهما في الحقيقة «ملاط» البناء في المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع يتكون من افراد متفرقين كما أن البناء العظيم يتألف من عدد من الطابوق و «الآجر» أو الأحجار. فلو أن هؤلاء الأفراد المتفرقين اجتمعوا، أو أن تلك الأجزاء المتناثرةوصلت بعضها ببعض، لنشأ من ذلك المجتمع أو البناء حينئذ.

فالذي خلق الإنسان للحياة الإجتماعية جعل في قلبه وروحه هذه الرابطة الضرورية.

والفرق بين «المودة» و «الرحمة» قد يعود إلى الجهات التالية:

1 ـ المودة هي الباعثة على الإرتباط في بداية الأمر بين الزوجين، ولكن في النهاية، وحين يضعف أحد الزوجين فلا يكون قادراً على الخدمة، تأخذ الرحمة مكان المودة وتحلّ محلها.

2 ـ المودة تكون بين الكبار الذين يمكن تقديم الخدمة لهم، أمّا الأطفال والصبيان الصغار، فإنهم يتربون في ظلّ الرحمة.

3 ـ المودّة، غالباً ما يكون فيها «تقابل بين الطرفين»، فهي بمثابة الفعل ورد الفعل، غير أنّ الرحمة من جانب واحد لديه إيثار وعطف، لأنّه قد لا يحتاج إلى الخدمات المتقابلة أحياناً،فأساس بقاء المجتمع هو «المودة» ولكن قد يحتاج إلى الخدمات بلا عوض، فهو الايثار والرحمة.

وبالطبع فإنّ الآية تبيّن المودة والرحمة بين الزوجين، ولكن يحتمل أن يكون التعبير «بينكم» إشارة إلى جميع الناس.. والزوجان مصداق بارز من مصاديق هذا التعبير، لأنّه ليست الحياة العائلية وحدها لا تستقيم إلاّ بهذين الأصلين (المودّة والرحمة) بل جميع المجتمع الإنساني قائم على هذين الأصلين وزوالهما من المجتمع ـ وحتى نقصانهما يؤدي الى أنواع الارباك والشقاء

[497]

والاضطراب الإجتماعي.

أمّا آخر آية ـ من هذه الآيات محل البحث ـ فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض ).

السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها.. وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

كان الإنسان يرى الكواكب في السماء بهذا العدد الذي تراه العين (وقد أحصى العلماء الكواكب التي ترى بالعين المجرّدة، فوجدوها تتراوح بين خمسة الآف إلى ستة الآف كوكب).

ولكن كلما تقدم العلم في صناعة المجهر والتلسكوب، فإنّ عظمة وكثرة الكواكب تزداد أكثر... إلى درجة بلغ الإعتقاد اليوم أن مجرتنا لوحدها من بين مجاميع المجرات في السماء تحتوي على أكثر من مئة مليون كوكب وتعد الشمس على عظمتها المذهلة واحدة من النجوم المتوسطة، ولا يعلم عدد المجرات ولا يحصيها إلاّ الله، إذ هو وحده يعلم كم من كوكب ونجمة في هذا المجرات!

وكذلك كلما تقدم العلم الطبيعي والجيولوجيا، وعلم النبات والعلوم البيلوجية «والحيوانية» وعلم التشريح والفيزياء، والعلوم النفسية وغيرها، فستتضح عجائب في خلق الأرض كانت خافية، كل واحدة تعدُّ آية من آيات الله.

ثمّ ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم ).

وبلا شك فإنّ الحياة الإجتماعية للبشر، لا تقوم بغير معرفة وتشخيص الأفراد والأشخاص، إذ لو كان الناس جميعاً في يوم ما على صورة واحدة ولباس

[498]

واحد، فإن أسلوب حياتهم يضطرب في ذلك اليوم ، إذ لا يعرف الأب والابن والزوج من الغرباء، ولايميز المجرم من البريء، ولا الدائن من المدين، ولا الآمر من المأمور، ولا الرئيس من المرؤوس، ولا الضيف من المضيف ولا العدوّ من الصديق، وأي ارباك عجيب كان سيحدث لو كانوا على هذه الشاكلة!.

وعلى سبيل الإتفاق قد تحدث هذه المسألة بين الإخوة التوائم، أو الشقيقين التوأمين المتشابهين من جميع الوجوه، وكم تحدث من المشاكل بين الناس وبينهم، وقد سمعنا ذات مرّة أن امرأة كان لديها توأمان متشابهان تماماً، وكان أحدهما مريضاً، فأعطت الدواء لمعافى دون السقيم!!.

لذلك خلق الله الأصوات والألون لتنظيم المجتمع البشري، على حد تعبير «الرازي» في تفسيره في ذيل الآية محل البحث: إن معرفة الإنسان للإنسان تحصل إمّا عن طريق العين أو الأذن، فخلق الله الألوان والصور والأشكال المختلفة لتعرفها العين وتشخصها، وأوجد اختلاف الأصوات لتشخصها الأذن، حتى أنّه لا يمكن العثور في جميع العالم على انسانين متشابهين في الوجه والصوت معاً، أي إن وجه الإنسان الذي هو عضو صغير، وصوته الذي هو موضوع بسيط، بقدرة الله جاءا على مليارات الأشكال والأصوات المختلفة، وما ذلك الإختلاف إلاّ من آيات عظمة الله.

كما يحتمل أن المراد باختلاف الألسنة كما أشار إليه كبار المفسّرين هو اختلاف اللغات، من قبيل العربية والفارسية واللغات الأخرى.

ولكن يمكن أن يستفاد من كلمة «اختلاف» معنى واسع بحيث يشمل هذا التّفسير وما قبله، وأي تفسير آخر، فهذا التنوع في الخلقة شاهد على عظمة الخالق وقدرته.

يقول «فريد وجدي» في دائرة معارفه، نقلا عن قول «نيوتن» العالم الغربي المعروف (لا تشكوا في الخالق، فإنه ممّا لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي

[499]

قائدة الوجود، لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلاّ من كائن أزلي له حكمة وإرادة)(1).

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر (إنّ في ذلك لآيات للعالمين ).

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.

* * *


1 ـ دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي، ج 1، ص 496 (مادة اله).

[500]

 

 

 

 

الآيات

وَمِنْ ءَاَيَـتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ ءَايَـتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَنُنَزِّلُ مِنِ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالاَْرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الاَْرْضِ إِذآ أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

 

التّفسير

آياتُ عظمته ـ مرّةً أُخرى:

تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، تتحدث هذه الآيات ـ محل البحث ـ حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة.

فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق، فتقول: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ).

وتُختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون ).

وهذه الحقيقة غير خافية على أحد، هي أن جميع «الموجودات الحية»

[501]

تحتاج إلى الراحة والدعة، وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الإستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية، الراحة التي لابدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجاديّن.

فأي شيء يُتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف، وهو يأتيه بشكل إلزامي، ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني، وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني، بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني، وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب، أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل.

هذه الموهبة العظيمة تؤدي الى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن، ونوع من التعطيل له. ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطاً جديداً في حياته.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الانسان وذبل جسمه وانهار بسرعة، ولعجل عليه العجز والشيخوخة... وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر، ودوام «الشباب» ونشاطه.

وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلاً: أنّ النوم ورد قبل عبارة (ابتغاؤكم من فضله )التي تعني السعي وراء الرزق، وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّه ـ من دون النوم الكافي ـ يصعب الإبتغاء من فضل الله.

ثانياً: صحيح أنّ النوم يقع في الليل، والإبتغاء من فضل الله في النهار، إلاّ أنّه ليس صعباً على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة. بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم، ويجعلها وفقاً للضرورات والحاجات، فكأنّ التعبير (منامكم بالليل والنهار ) إشارة إلى هذه «اللطيفة» الدقيقة.

ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل، ولأنّ الليل هادىء بسبب الظلمة، فله أولوية خاصة في هذا المورد.

[502]

ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبراً على السفر ليلا وأن يستريح نهاراً.. فلو كان منهج تنظيم النوم خارجاً عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتماً.

وأهمية هذا الموضوع، خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار، ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها، هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى!

وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة.

ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم.

وكذلك يُعدُّ النوم واحداً من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض، حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته.

وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقداراً معيناً للنوم على أنّه «مقدار النوم اللازم» لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي «الجسيمي والروحي»، بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه... كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماماً.

وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّه بالإضافة إلى «طول» زمان النوم ،فلعمقه خصوصية وأهمية أُخرى أيضاً... فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوماً عميقاً تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوماً سطحياً في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه.

[503]

وبالطبع، فحيث لا يمكن النوم العميق، فالنعاس أيضاً من النعم الإلهية، كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر (إذْ يغشيّكم النعاس أمنة منه ) لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب، وليس مفيداً ـ أيضاً ـ ولا نافعاً.

وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والإطمئنان الناشىء منه، وما يحصل عليه الانسان من قوة ونشاط بعد النوم، هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان!.

والآية التي تلتها، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها فتقول: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً ).

«الخوف» ممّا يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق فتحرق كل شيء تقع عليه وتحيله رماداً.

«والطمع» من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث (بالإضافة إلى فوائد البرق المختلفة المهمة والتي كشف العلم عنها أخيراً وقد تحدثنا عنه في بداية سورة الرعد»(1).

ثمّ يضيف القرآن معقباً (وينزل من السماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها ).

الأرض الميتة التي لا يؤمل فيها الحياة والنبات، تهتز بنزول الغيث الذي يمنحها الحياة، فتحيا وتظهر آثار الحياة عليها على هيئة الأزهار والنباتات، بحيث لا تصدق أحياناً أنّها الأرض الميتة سابقاً.


1 ـ راجع تفسير «سورة الرعد» الآيات الأُولى منها.

[504]

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون )ويفهمون أن وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً.

وفي آخر اية من الآيات محل البحث، يقع الكلام عن آية أُخرى من الآيات الآفاقية، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما، إذ تقول: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمر ).

أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية أُخرى، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى أُمور كثيرة، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوّة الجاذبة والدافعة!

إنّ الخالق الكبير جعل هذا التعادل دقيقاً، بحيث لا يعترض الأجرام أدنى انحراف في مسيرها ودورانها حول نفسها إلى ملايين السنين.

وبتعبير آخر: إنّ الآية السابقة كانت إشارة إلى «توحيد الخلق» وأمّا هذه الآية فهي إشارة إلى «توحيد الربوبية والتدبير».

والتعبير بقيام السماء والأرض، تعبير لطيف مأخوذ من حالات الإنسان، لأنّ أحسن حالات الإنسان لأجل استدامة نشاطه هي حالة قيامه، إذ يستطيع فيها أداء جميع حوائجه، وتكون له السيطرة والتسلط الكامل على أطرافه.

والتعبير بـ «أمره» هنا إشارة إلى منتهى قدرة الله، إذ يكفي أمر واحد من قبله لإستمرار الحياة، ونظم هذا العالم الوسيع.

وفي نهاية الآية وبالإستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول: (ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ).

ولقد رأينا ـ مراراً ـ في آيات القرآن أن الله سبحانه يستدل على المعاد

[505]

بآيات قدرته في السماء والأرض، والآية محل البحث واحدة من تلك الآيات.

والتعبير بـ«دعاكم» اشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة، وخاصة إذا لاحظنا جملة (إذا أنتم تخرجون ) فإنّ كلمة «إذا» تبين بوضوح مؤدى هذه الجملة، حيث أنّها «فجائية» كما يصطلح عليها أهل النحو واللغة، ومعناها: إذا دعاكم الله تخرجون بشكل سريع وفجائي.

والتعبير بـ(دعوة من الأرض ) دليل واضح على المعاد الجسماني، إذ يثب الإنسان في يوم القيامة من هذه الأرض «فلاحظوا بدقّة» .

* * *

 

بحوث

1 ـ دورة دروس كاملة لمعرفة الله

تناولت الآيات الست المتقدمة بحوثاً مختلفة في معرفة الله، وهي بمجموعها تمثل حلقات متصلة ودورة كاملة طريفة، بدءاً بخلق السماء إلى خلق البشر من التراب، ومن رباط الحب في الأسرة، إلى النوم الذي يمنح الدعة والإطمئنان في الليل والنهار، ومن تدبير النظام والعالم متدرجاً، إلى البرق والغيث واختلاف الألسنة والألوان... فهي مجموعة مناسبة من آيات الآفاق وآيات الأنفس!.

الطريف هنا أن كلّ آية من الآيات الست يذكر فيها قسمان من دلائل التوحيد، ليهيء الأوّل الأرضية المناسبة، والآخر للتحكيم والتأكيد، وهذا يشبه تماماً الإتيان بشاهدين عدلين لإثبات المدّعى، فيكون المجموع اثني عشر شاهداً صادقاً على قدرة الله الحق، التي لا نهاية ولا أمد لها.

 

[506]

2 ـ من هم المستلهمون من هذه الآيات

ورد في أربع آيات من هذه الآيات الست التأكيد على أن في هذه الأُمور دلائل واضحة «للعالمين، المتفكرين، السميعين، العاقلين» إلاّ أنّ هذا التأكيد لم يرد في الآية الأولى، ولا الآية الأخيرة.

ويوضح الفخر الرازي في هذا المجال فيقول: لعل عدم ذكر ذلك، في الآية الأُولى لأنّ الآية الأُولى والثّانية جاءتا متصلتين في سياق واحد، وكلتاهما من الآيات التي تتحدث في الأنفس.

وأمّا في الآية الأخيرة فإنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج بعدها إلى مزيد إيضاح، ولا تأكيد على التعقل والتفكر(1)!

الطريف هنا أن الحديث عن التفكر ورد قبل الحديث والكلام عن «العلم» لأنّ التفكر مقدمة وقاعدة للعلم، ثمّ يأتي الكلام على من يسمع، لأنّ الإنسان يستعد للإستماع وتقبل الحق، إذا كان في صدد العلم والإطلاع، كما يقول القرآن في هذا المجال: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )(2)

وفي آخر مرحلة كان الكلام عن العقل، لأنّ أُولئك كانوا يسمعون، فلابدّ أن يبلغوا مرحلة العقل الكامل!

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، هي أنّه وقع الكلام في ذيل الآية الأُولى عن خلق الإنسان وانتشار نسله في الأرض (ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ).

ووقع الكلام في آخر آية أيضاً عن خروج الناس ونشورهم في يوم القيامة (إذا أنتم تخرجون ).

فالآية الأُولى لبداية الخلق، والأخيرة للنهاية.


1 ـ التفسير الكبير الفخر الرازي ـ ذيل الآيات محل البحث.

2 ـ الزمر، الآية 18.

[507]

 

3 ـ عجائب عالم النوم

بالرغم من جميع الأبحاث التي كتبها العلماء حول النوم وخصائصه، يبدو أن زوايا هذا العالم لم تنكشف جميعها، ولم يرفع النقاب عن أسراره وحقائقه الغامضة!

فما زال البحث يدور بين العلماء: أي فعل وانفعال يكون في البدن بحيث يتوقف ـ خلال لحظة مفاجئة ـ قسم من نشاطات المخ والبدن، ويظهر تحول في عامّة الروح والجسد؟!

قال بعضهم: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل فيزياوي» ويعتقدون أن انتقال الدم من المخ إلى أجزاء البدن الأخرى، يوجد هذه الظاهرة، ولأجل إثبات معتقدهم عمدوا إلى صنع سرير للنوم على شكل خاص يدعى «سرير النوم المعياري» يبيّن كيفية انتقال الدم من المخ إلى سائر أعضاء البدن!.

وقال جماعة: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل كيمياوي» ويعتقدون أن الإنسان في حالة السعي والعمل تزداد فيه السموم بحيث تؤدي الى تعطيل قسم من المخ عن عمله، فينام الإنسان على أثر ذلك، وحين تتلاشى السموم وتسيطر عليها كريات الدم يتيقظ الإنسان مرّة أُخرى!

وقال جماعة آخرون: إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل عصبي» ويعتقدون أن للنشاط العصبي خصوصيةً في المخ لها حكم وقود السيارة، فعندما تتعب ينطفىء المخ ويتوقف عن العمل مؤقتاً.

ولكن هناك أسئلة ونقاط مبهمة حول جميع هذه النظريات، لم نحصل إلى الآن على جواب واضح لها، وما يزال النوم محتفظاً بوجهه المليء بالأسرار.

من عجائب عالم النوم ما أماط العلماء النقاب عنه أخيراً، وهو حين يتعطل قسم كبير من المخ عن العمل تبقى بعض خلاياه التي ينبغي أن تسمى بـ «الخلايا الحارسة» متيقظة ولا تنسى الوصايا التي يوصيها الإنسان قبل النوم عند ساعة

[508]

التيقظ... وعند الحاجة توقظ هذه الخلايا جميع المخ ويتحرك نحو العمل مرّة أُخرى!

فمثلا: الأم المرضعة المتعبة حين تنام الليل وإلى جنبها رضيعها في المهد، يوصي عقلها الباطني الخلايا الحارسة التي تربط بين الروح والجسم، أنّه متى ما سمعت أقل صوت لطفلي فأيقظيني، ولكن لا يهمني أي صوت آخر، فقد لا تتيقظ المرأة من صوت الرعد المهول، ولكنّها تتيقظ لأقل صوت من ولدها الرضيع، فهذه المهمّة هي وظيفة الخلايا الحارسة.

ونحن أيضاً جرّبنا هذا الموضوع كثيراً، فمتى ما كان لدينا تصميم أن نستيقظ مبكرين أو في منتصف الليل لنسافر أو لأداء مهمّة، ونحدث أنفسنا بذلك، فإننا غالباً ما نستيقظ في الوقت المطلوب، في حين أن من الممكن أن نغرق في النوم لساعات طوال في غير هذه الحالة!

والخلاصة، حيث أنّ النوم هو من الظواهر الروحية، وللروح عالم مليء بالأسرار، فليس عجيباً أن تبقى كثير من زوايا هذه المسألة غامضة... ولكن كلما سبرنا غور هذا العالم نتعرف على عظمة خالق هذه الظاهرة.

هذا عن ظاهرة النوم، وأمّا عن الرؤيا والأحلام، فقد بحثنا عنه بحوثاً كثيرة، ولا بأس بمراجعة تفسير سورة يوسف(عليه السلام).

 

4 ـ علاقة الحب بين الزوجين

بالرّغم من أنّ العلاقة أو الإرتباط بين الإنسان وأبيه وأمه وإخوته هي علاقة نسبية، تمتد جذورها العميقة بالقرابة. والعلاقة بين الزوجين علاقة قانونية. و«معاقدة بينهما» لكن كثيراً ما تتغلب هذه العلاقة حتى على علاقة الإنسان بأبيه وأُمه، وفي الحقيقة هذا هو ما أشارت إليه الآيات الآنفة بالتعبير (وجعل بينكم مودّة ورحمة ).

[509]

ونقرأ حديثاً عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه أخبر ابنة جحش باستشهاد خالها حمزة، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأخبرها باستشهاد أخيها فقالت مرّة أُخرى: «إنا لله وإنا إليه راجعون» (وطلبت له الأجر والثواب من الله).

ولكن حين أخبرها باستشهاد زوجها، وضعت يدها على رأسها وصرخت، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما يعدل الزوج عند المرأة شيء» (1).

 

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج4، ص 174.

[510]

 

 

 

 

الآيات

وَلَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـنِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِى يَبْدَوُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاَْعْلى فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلا مِّنْ أَنْفُسِكُمْ هَل لَّكُمْ مِّنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ مِّنْ شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِّنْ نَّـصِرِينَ (29)

 

التّفسير

المالكية لله وحده:

كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: (وله من في السماوات والأرض ).

ولأنّهم ملك يده فـ (كلٌّ له قانتون ) وخاضعون.

وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها، الملك

[511]

والقنوت التكوينيان... أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله، شاؤوا أم أبوا.

حتى العُتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة، هم مضطرون أيضاً أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه!

وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم، هي أيضاً مملوكة لمالك «الملك» والملوك، وهي طوع أمره.

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ كلمة «قانت» تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ في الأصل: الطاعة الملازمة للخضوع!

ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال «كل قنوت في القرآن فهو طاعة».

غاية ما في الأمر، تارة تأتي هذه الطاعة «تكوينية» وأُخرى «تشريعية».