[203]

الآيات

فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّآ أَن أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـمُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَآءَ رُجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَـمُوسى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ (22)

 

التّفسير

موسى يتوجّه إلى مدين خُفيةً:

نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.

حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدلّ على

[204]

أن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسى(عليه السلام) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.

وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عادياً، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة.. ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.

لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب )(1).

وهو على حال من الترقب والحذر، فوجيء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه )(2).

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و (قال له موسى إنك لغوي مبين )إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!!

ولكنّه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى(عليه السلام) أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان، فلمّا أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما صاح ذلك القبطي: (ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً (ان


1 ـ كلمة «يترقب» مأخوذة من «الترقب»، ومعناه الإنتظار، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة، ومحل الجملة إعراباً ـ خبر بعد خبر، وإن قيل أنّها حال، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف.

(*) كلمة «يستصرخ» مشتقة من مادة «الإستصراخ»، ومعناها الإستغاثة، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر، وهذا عادةً ملازم للإعانة...

[205]

تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين )(1).

وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسى(عليه السلام) كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسى(عليه السلام) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً، فأىّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسى(عليه السلام) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أُخرى في طريق الإصلاح..

وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.

ومن جهة أُخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزارئه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة.. وكما يقول القرآن الكريم: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين ).

ويبدو أنّ هذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.

وكان هذا الرجل متألماً من جرائم فرعون، وينتظر أن تقوم ثورة «إلهية»


1 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الإحتمال!

[206]

ضده فيشترك معها.

ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسى(عليه السلام) إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانياً صالحاً ثوريّاً، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وانقذه من مخالب الخطر، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن فيُ هذا الموقف فحسب سنداً وظهيراً لموسى، بل كان يعدّ عيناً لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.

أمّا موسى(عليه السلام) فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة (فخرج منها خائفاً يترقب ).

وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و (قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).

فأنا أعلم ياربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت ـ دفاعاً عن المحرومين ـ بوجه الظالمين، ولم آل جهداً ووسعاً في ردع الأشرار عن الاضرار بالطيبين، فأسألك ـ يا ربّي العظيم ـ أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.

ثمّ قرر موسى(عليه السلام) أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة.. ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقاً خائفاً على نفسه، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه «مدين» ويأسرونه ثمّ يقتلونه.. فلا عجب أن يظل مضطرب البال!

أجل، إن على موسى(عليه السلام) أن يجتاز مرحلة صعبة جدّاً، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه، ليستقرّ أخيراً إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه، وأن يتهيأ لنهضة إلهية

[207]

لصالحهم وضد المستكبرين.

إلاّ أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير.. (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل )(1).

 

* * *


1 ـ «تلقاء» مصدر أو اسم مكان، ومعناه هنا: الجهة والصوب الذي قصده.

[208]

الآيات

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ (24) فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (25)

 

التّفسير

عملٌ صالح يفتح لموسى أبواب الخير:

نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة، وهي قضيّة ورود موسى(عليه السلام) إلى مدينة مدين.

هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً، وقيل: إنّه قطع الطريق في

[209]

ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان )(1).

فحركه هذا المشهد... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، جاء إليهما موسى(عليه السلام)ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قال ما خطبكما )(2).

وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!

لم يرق لموسى(عليه السلام) أن يرى هذا الظلم، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين، فلم يتحمل ذلك كله، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!..

فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم:


1 ـ «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأُخرى.

2 ـ ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

[210]

(قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء )(1).

ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بارسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما (وأبونا شيخ كبير ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور.

فتأثر موسى(عليه السلام) من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم، ولا هم لهم غير أنفسهم.

فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر.. يقال: إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلاّ أن موسى(عليه السلام) استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد (فسقى لهما ) أغنامهما.

ويقال: إنّ موسى(عليه السلام) حين اقترب من البئر لام الرعاء، قال: أي أناس أنتم  لا همّ لكم إلاّ أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له: هلمّ واملأ الدلو، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتليء لا يستخرجها إلاّ عشرة أنفار من البئر.

ولكن موسى(عليه السلام) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها.. (ثمّ تولّى إلى الظل وقال ربّ إنّي لما أنزلت إلىّ من خير فقير ).

أجل.. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.

لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات


1 ـ «يصدر» مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء، «والرعاء» جمع راع، وهو سائس الغنم.

[211]

عجيبة! خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.

وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) فلم تزد على أن (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ).

فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيراً!.. رجلا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه، هذا الرجل ينبغي أن يكون انساناً نموذجياً ورجلا سماوياً وإلهيّاً.. ربّاه.. ما أروعها من فرصة.

أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب» النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائناً من كان.

تحرك موسى(عليه السلام) ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلاّ أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب:(1)

دخل موسى(عليه السلام) منزل شعيب(عليه السلام)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة.. وتشع


1 ـ انظر: أبوالفتوح الرازي ـ ذيل الآيات.

[212]

فيه الروحانية من كل مكان.. وإذا شيخ وقور يجلس ناحيةً من المنزل يرحب بقدوم موسى(عليه السلام)، ويسأله:

من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!

ولِمَ أراك وحيداً؟!

وأسئلة من هذا القبيل..

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!..

فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً.. تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الروحانيّة.. ويمكن أن يروي ظمأه منه.

كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!

أجل.. كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذاً عظيماً.. كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.

* * *

 

مسألتان

1 ـ أين كانت مدين؟!

«مدين» : اسم مدينة كان يقطنها «شعيب » وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [ وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل

[213]

«الذبيح» ابن إبراهيم الخليل(عليها السلام)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.

أمّا اليوم فيطلق على «مدين» اسم «معان».

كما أن بعضاً من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء، وجاء اسمها في التوراة بـ «مديان» أيضاً(1).

كما يرى البعض: إنّ أساس تسمية هذه المدينة «بمدين» هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه «مدين»كان يعيش في هذه المدينة(2).

وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها، واسمها «معان» تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين.. وتنطبق عليها تماماً.

 

2 ـ دروس كثيرة توحي بالعبر:

في هذا القسم من قصّة موسى(عليه السلام) دروس كثيرة توحي بالعبر:

أ ـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائماً، فموسى سواءً كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئهُ أن يرى ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخرين، وكان ينهض لنصرة المظلوم.. ولم لا يكون كذلك، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.

ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة!

لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلواً من الماء وسقى الأغنام للبنتين، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه!

ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سبباً لأن يصل


1 ـ راجع أعلام القرآن، ص 572.

2 ـ راجع روح المعاني، ج 20، ص 51.

[214]

إلى منزل شعيب نبي الله، وأن يتخلّص من الغربة، وأن يجد مأوى يطمئن إليه، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة، وأهم من كل ذلك.. إنّه وصل إلى شعيب، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأً لقيادة الأُمة في ذلك الوقت..

ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدىً ـ وخاصّة ما يعمله المخلصون ـ دون أن يؤدوا أجره.. ولهذه السبب فإنّ شعيباً حين بلغه ما قدمه موسى(عليه السلام) من عمل ـ وهو شاب لم يكن معروفاً لم يكن معروفاً هناك ـ لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.

د ـ وهذه المسألة تثير الإنتباه، وهي أن موسى كان يذكر الله دائماً، ويطلب منه العون في كل أمر، يوكل حل مشاكله إليه.

فحين قتل القبطي وعرف أنّه «ترك الأولى» استغفر ربّه فوراً و(قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي ).

وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و(قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).

وحين وصل أرض مدين (قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل! ).

وحين سقى أغنام «شعيب» وتولى إلى الظل دعا ربّه و(قال ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).

وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج، بل سأل المزيد وقال: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).

هـ ـ لا ينبغي التصور أن موسى(عليه السلام) إنّما كان يذكر الله في الشدائد فحسب، فهو لم ينس ذكر الله حتى حين كان في نعمة ورفاهية من العيش، إذ كان يعيش في

[215]

قصر فرعون ـ لذلك ورد في الرّوايات.. «درج موسى كان يوماً عند فرعون فعطس موسى فقال: الحمد لله ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللحية ـ فهلبها أي قلعها، فآلمه ألماً شديداً، فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته، هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمه إيّاك. فقال فرعون: بلى يدري...» الخ (1).

 

* * *


1 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[216]

الآيات

قَـالَتْ إِحْدهُمَـا يأَبَتِ اسْتئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئْجَرْتَ الْقَوِىُّ الاَْمِينُ (26) قالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَـنِىَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ (27) قَـالَ ذلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْونَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

 

التّفسير

موسى في دار شعيب:

هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسى(عليه السلام) المثيرة، جاء موسى إلى منزل شعيب، منزل قرويّ بسيط، منزل نظيف ومليء بالروحيّة العالية، وبعد أن قصّ عليه قصّته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول ـ وبعبارة موجزة ـ : إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و(قالت يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ).

هذه البنت التي تربّت في حجر النّبي الكبير، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا

[217]

الحديث الوجيز الكريم، وأن تؤدي الكلام حقّه بأقلّ العبارات.

تُرى من أين عرفت هذه البنت أنّ هذا الشاب قويُّ وأمين أيضاً؟ مع أنّها لم تره الاّ لأوّل مرّة على البئر، ولم تتّضح لها سوابق حياته!

والجواب على هذا السؤال واضح وجليّ.. إذ لاحظت قوته وهو يُنحيّ الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأمّا أمانته وصدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها!.

أضف إلى ذلك.. من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتّضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إيّاه بضربة واحدة.. وأمانته وصدقه.. في عدم مساومته الجبابرة.

فرضي شعيب(عليه السلام) باقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى و(قال إنّي أريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ) ثمّ أضاف قائلا: (فإن أتممت عشراً فمن عندك )(1).

وعلى كل حال، فلا أريد إيذاءك (وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).

فأنّا ألتزم بالعهد والميثاق وأفي بما نتعاقد عليه، ولا أشدّد عليك في الأمور، وأتعامل معك معاملة حسنة وصالحة.. إن شاء الله.

ومن خلال هذا الإقتراح هناك أسئلة كثيرة حول الزواج من ابنة شعيب والمهر وسائر الخصوصيات، وسنبحث عنها في البحوث القادمة إن شاء الله.

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى.. وافق موسى


1 ـ هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم، فقال لها شعيب: أمّا قوته فقد عرفتينه إنّه يستقى الدلو وحده، فبم عرفت أمانته؟ فقالت: «إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته» .

[218]

و(قال ذلك بيني وبينك )..

ثمّ أردف مضيفاً بالقول: (أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ ) أي سواءً قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان علي..

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى(عليه السلام) اللّه كفيلا وقال: (والله على ما نقول وكيل! ).

وبهذه البساطة أصبح موسى صهراً لشعيب على ابنته.

* * *

 

بحوث

1 ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة

في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالةً شرطان لخّصا في «القوّة» و«الأمانة».

ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفاً ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضاً.

فالطبيب «القوي الأمين» هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله، وله تسلّط عليه أيضاً.

والمدير القوى هو الذي يعرف «أصول الإدارة» ويعرف الأهداف المطلوبة.. وله تسلط في وضع الخطط و«البرامج»، وله سهم وافر في الإبتكار وتنظيم الأعمال.. ويعبي القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.

وفي الوقت ذاته يكون مشفقاً وناصحاً وأميناً وصادقاً في العمل.

والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.

[219]

فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لاحظ لهم من الإطلاع والمهارة في العمل.

وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأُمور إلى إحدى هاتين الطائفتين..إلى مدراء خائنين لـ «الأمانة»، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.

إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ، وفكّرنا في الأمر، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفاً.

ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأُمور أنّه يقرن «العلم مع التقوى» جنباً إلى جنب.

فمرجع التقليد لابدّ أن يكون «مجتهداً عادلا» والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون «مجتهداً عادلا».. وبالطبع فإن شروطاً أُخرى ينبغي توفرها أيضاً، ولكن أساس هذه الشروط جميعاً شرطان هما «العلم المقترن بالتقوى والعدل».

 

2 ـ اسئلة عن زواج موسى من بنت شعيب!...

ذكرنا ـ آنفاً ـ أنّ الآيات المتقدمة تحمل بين ثنايها أسئلة متعددة، وعلينا أن نجيب عليها ولو باختصار:

أ ـ هل يجوز من الناحية الشرعية والفقهية، أن تكون الزوجة غير معلومة، بل يقال عند إجراء صيغة العقد «أزوّجك إحدى البنتين مثلا»؟...

والجواب: ليس من المعلوم أن العبارة السابقة (أنكحك إحدى ابنتي هاتين )ذكرت عند إجراء صيغة العقد.. بل الظاهر أنّه جرى كلام و مقدمات للعقد والزواج، وبعد موافقة موسى على الزواج، ثمّ تجري صيغة العقد على واحدة

[220]

بعينها.

ب ـ هل يمكن أن يكون المهر مجهولا، أو مردداً بين النقصان والتمام؟!

والجواب: يفهم من لغة الآية أن المهر الواقعي كان ثماني سنوات خدمة.. أمّا السنتان الأخريان فموكلتان لرغبة موسى، أن شاء أدّاهما، وإلاّ فلا!

ج ـ وهل يجوز أساساً أن يكون المهر «خدمة وعملا»؟!

وكيف يمكن الزواج من امرأة على هذا المهر والدخول بها، والمهر بعد لم يتمّ، ولا يمكن إتمامه في مكان واحد!

والجواب: إنّه لا دليل على عدم جوازمثل هذا المهر، بل إطلاقات الأدلة على المهر في شريعتنا ـ أيضاً ـ تشمل كل شيء ذي قيمة!

كما أنّه لا يلزم أداء المهر في مكان واحد، بل يكفي أن يكون في ذمّة الرجل، والمرأة مالكة له.

وأصل السلامة والإستصحاب يقضيان أنّ هذا الرجل يحيا مدّةً ويستطيع أداء هذا المهر.

د ـ أساساً كيف يمكن جعل الخدمة للأب مهراً للبنت؟! فهل المرأة بضاعة تباع في مقابل الخدمة(1)؟!..

والجواب: لا شكّ أن شعيباً كان يحرز رضا ابنته على مثل هذا المهر، ولديه وكالة منها على هذا العقد، وبتعبير آخر: إن المالك الأصلي لما في ذمّة موسى، هي زوجته «بنت شعيب».

ولكن.. حيث أنّهم كانوا يعيشون في بيت واحد وفي غاية الصفاء والنقاء، ولم تكن بينهم فرقة وانفصال «كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر القروية


1 ـ قال المحقق الحلي في الشرائع «يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة» ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله: «وفاقاً للمشهور» (جواهر الكلام، ج 31، ص 4).

[221]

القديمة التي تبدو حياتها منسجمة تمام الإنسجام» فلم تكن هذه المسألة ـ مسألة أداء الدين ـ محل بحث ولا كيف يوفّى المهر.

المهم هنا أن المالك للمهر البنت وحدها لا الأب، والخدمات التي قدمها موسى كانت في هذا السبيل أيضاً.

هـ ـ كان مهر بنت شعيب مهراً ثقيلا نسبياً ـ لأنّنا إذا أردنا أن نلاحظ أجرة العامل العادي خلال شهر ثمّ خلال سنة، وبعدئذ نضاعف ذلك ا لأجر إلى ثماني مرات فسيكون مبلغاً كثيراً جدّاً.

الجواب: أولا لم يكن هذ ا الزواج زواجاً بسيطاً، بل كان مقدمة لبقاء موسى عند «شعيب» متبعاً شاكلته ومذهبه، ومقدمة لأن يدرس موسى(عليه السلام) في جامعة علمية كبرى خلال هذه الفترة الطويلة، والله العالم كم تعلم موسى من «شيخ مدين» في هذه المدّة من اُمور؟!