وتارة يقول: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة )(3).


1 ـ الأعراف، الآية 78.

2 ـ الذاريات، 44.

3 ـ هود، 67.

[94]

إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعابير الثلاثة أبداً... لأنّ «الصاعقة» هي الشعلة الكبيرة بين السحاب والأرض المقرونة بصيحة عظيمة واهتزاز شديد في الأرض «ذكرنا تفصيلا عن الصيحة السماوية في ذيل الآية 67».

2 ـ روى بعض المفسّرين أن أصحاب صالح الذين نجوا معه كانوا أربعة آلاف رجل، وقد خرجوا بأمر الله من المنطقة الموبوءة بالفساد إلى حضر موت»(1).

3 ـ «خاوية» من (الخواء) على وزن (الهواء) معناه السقوط والهوىّ والإنهدام، وقد يأتي الخواء بمعنى الخلو... وهذا التعبير ورد في سقوط النجم وهويه، إذا قالوا «خوى النجم» أي هوى.

ويرى الراغب في المفردات أن الاصل في «خوى» هو الخلو... ويُرِد هذا التعبير في البطون الغرثى، والجوز الخالي، والنجوم التي لا تعقب الغيث، كان عرب الجاهلية يعتقدون أن كل نجم يظهر في الأفق يصحبه الغيث! «المطر».

4 ـ روي عن ابن عباس أنّه قال: استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها، ثمّ استدل بالآية الكريمة (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا )(2).

وفي الحقيقة فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة، والظلم يزلزل ويدمر... والظلم له أثر كأثر الصيحة ـ في السماء ـ المهلكة المميتة، وقد أكد التأريخ مراراً هذه الحقيقة وأثبتها، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر، إلاّ أنّها لا تدوم مع الظلم أبداً.

5 ـ ما لا شك فيه أن عقاب ثمود «قوم صالح» كان بعد أن عقروا الناقة «قتلوها» وكما يقول القرآن في الآيات (65) ـ (67) من سورة هود: (فعقروها


1 ـ راجع الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره المعروف، ذيل الآيات محل البحث.

2 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث..

[95]

فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فلمّا جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربّك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ).

فبناءً على هذه الآيات لم ينزل العذاب مباشرة بعد المؤامرة على قتل صالح، بل الإحتمال القوي أن الجماعة الذين تآمروا على قتله أهلكوا فحسب، ثمّ أمهل اللّه الباقين، فلمّا قتلوا الناقة أهلك الله جميع الظالمين والآثمين الكافرين.

وهذه هي نتيجة الجمع بين آيات هذه السورة، والآيات الواردة في هذا الشأن في سورتي الأعراف وهود.

وبتعبير آخر: في الآيات محل البحث جاء بيان إهلاكهم بعد مؤامرتهم على قتل نبيهم صالح، أمّا في سورتي الأعراف وهود فبيان هلاكهم بعد عقرهم الناقة. ونتيجة الأمرين أنّهم حاولوا قتل نبيّهم، فلمّا لم يفلحوا أقدموا على قتل الناقة (وعقرها) التي كانت معجزته الكبرى... ونزل عليهم العذاب بعد أن أمهلوا ثلاثة أيام.

ويحتمل أيضاً أنّهم أقدموا على قتل الناقة أولا، فلما هدّدهم نبيّهم صالح بنزول العذاب بعد ثلاثة أيّام حاولوا قتله، فأهلكوا دون أن يفلحوا في قتله(1).

 

* * *

 

 


1 ـ تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث..

[96]

الآيتان

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ (55)

 

التّفسير

انحراف قوم لوط!

بعد ذكر جوانب من حياة موسى وداود وسليمان وصالح(عليهم السلام) مع أُممهم وأقوامهم، فإنّ النّبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة: نبيّ الله العظيم «لوط».

وليست هذه أوّل مرّة يشير القرآن إلى هذا الموضوع، بل تكررت الإشارة إليه عدّة مرّات، كما في سورة الحجر، وسورةهود، وسورة الشعراء، وسورة الاعراف.

وهذا التكرار والتشابه، لأنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً كي يتحدث عن الموضوع مرّة ولا يعود إليه.. بل هو كتاب تربوي إنساني.. ونعرف أنّ المسائل التربوية قد تقتضي الظروف أحياناً أن تُكرر الحادثة ويذكر بها مراراً، وأن يُنظر إليها من زوايا مختلفة، ويُستنتج من جهاتها المتعددة.

[97]

وعلى كل حال فإنّ حياة قوم لوط المشهورين بالإنحراف الجنسي والعادات السيئة المخزية الأُخرى، كما أنّ عاقبة حياتهم الوخيمة يمكن أن تكون لوحة بليغةً لأُولئك السادرين في شهواتهم... وإن سعة هذا التلوث بين الناس تقتضي أن يُكرر ما جرى على قوم لوط مراراً.

يقول القرآن: في الآيتين محل البحث أوّلا: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون )(1).

«الفاحشة» كما أشرنا إليها من قبل، تعني الأعمال السيئة القبيحة، والمراد منها الإنحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.

وجملة (وأنتم تبصرون ) إشارة إلى أنّكم ـ يعني قوم لوط ـ ترون بأم أعينكم قبح هذا العمل وآثاره الوخيمة، وكيف تلوّث مجتمعكم من قرنه إلى قدمه به... وحتى الأطفال في غير مأمن من هذا العمل القبيح، فعلام تبصرون  ولا تتنبهون!

وأمّا ما يحتمله بعضهم من أن جملة «تبصرون» إشارة إلى أنّهم كانوا يشهدون فعل اللواط «بين الفاعل والمفعول» فهذا المعنى لا ينسجم وظاهر التعبير، لأنّ لوطاً يريد أن يحرّك «وجدانهم» وضمائرهم، وأن يوصل نداء فطرتهم إلى آذانهم... فكلام لوط نابع من البصيرة ورؤية العواقب الوخيمة لهذا العمل والتنبه منه.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء ).

وقد ورد التعبير عن هذا العمل القبيح بالفاحشة، ثمّ وضحه أكثر لئلا يبقى أي إبهام في الكلام، وهذا اللون من الكلام واحد من فنون البلاغة لبيان المسائل المهمة.


1 ـ يحتمل أن «ولوطاً» منصوب بالفعل (أرسلنا) الذي سبق ذكره في الآيات المتقدمة، ويحتمل أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره (اذكر) وحيث جاء بعد الكلمة (إذ قال) فالإحتمال الثّاني أنسب...

[98]

ولكي يتّضح بأن الدافع على هذا العمل هو الجهل، فالقرآن يضيف قائلا: (بل أنتم قوم تجهلون ).

تجهلون بالله.. وتجهلون هدف الخلق ونواميسه.. وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة، ولو فكرتم في أنفسكم لرأيتم أن هذا العمل قبيح جدّاً، وقد جاءت الجملة بصيغة الإستفهام ليكون الجواب نابعاً من أعماقهم ووجدانهم، فيكون أكثر تأثيراً.

 

* * *

[99]

 

بداية الجزء العشرون

 

 

من

 

 

القرآن الكريم

 

 

 

[101]

 

 

 

الآيات

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوآ أَخْرِجُوا ءَالَ لُوط مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـهَا مِنَ الْغَـبِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَـمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَاللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

 

التّفسير

عندما تُعدُّ الطهارة عيباً كبيراً!

لا حظنا ـ في ما سبق من البحوث ـ منطق نبي الله العظيم «لوط»، ذلك المنطق المتين أمام المنحرفين الملوثين، وبيانه الإستدلالي الذي كان يعنّفهم على عملهم القبيح، ويكشف لهم نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم بقانون الخلق وبجميع القيم الإنسانية.

والآن، لنستمع الى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط»؟!

يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون ).

[102]

فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.

أجل.. إنّ الطهارة تعدّ عيباً ونقصاً في المحيط الموبوء، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا ـ لأنّهم يتطهرون ـ خارج المدينة، وأن يبقى أمثال «زليخا» أحراراً أولي مقام... كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.

وهذا هو المصداق الجلي لكلام القرآن في الضالين، إذ يقول: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ) بسبب أعمالهم السيئة المخزية.

ويحتمل في جملة (إنّهم أناس يتطهرون ) أن قوم لوط لإنحرافهم وغرقهم في الفساد، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والإستهزاء.. أي إنّهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.

وليس هذا غريباً أن يتبدل إحساس الإنسان ـ نتيجة تطبعه بعمل قبيح ـ فيتغير سلوكه ونظرته.. فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة، إذ ورد أن رجلا كان يدبغ الجلود المتعفنة دائماً، وتطبعت «شامّته» برائحة الجلود «العفنة» فمرّ ذات يوم في سوق العطارين، فاضطرب حاله وأُغمي عليه، لأنّ العطور لا تناسب «شامّته» فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لانقاذه من الموت... فهذا مثال حسىّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.

جاء في الرّوايات أن لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلاّ أنّه لم يؤمن به إلاّ أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم(1).

بديهي أن مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن (فأنجيناه وأهله


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 382.

[103]

إلاّ امرأته قدرناها من الغابرين )(1).

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلمّا أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء، وتزلزت الأرض بهم، فدفنوا جميعاً تحت الحجارة والأنقاض، والى هذا تشير الآية الكريمة التالية (وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المُنذرين ).

وكان لنا بحث مفصل في قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة وآثار الإنحراف الجنسي، في ذيل الآيات 77 ـ 83 من سورة هود، ولا حاجة إلى تكراره.

إن قانون الخلق عيّن لنا مسيراً لو سلكناه لكان ذلك مدعاة لتكاملنا وحياتنا، ولو انحرفنا عنه لكان باعثاً على سقوطنا وهلاكنا.

فقانون الخلق جعل الجاذبية الجنسية بين الجنسين المتخالفين عاملا لبقاء نسل الإنسان واطمئنان روحه. وتغيير المسير نحو الإنحراف الجنسي «اللواط أو السحاق» يذهب بالإطمئنان الروحي .. والنظام الإجتماعي.

وحيث أن لهذه القوانين الإجتماعية جذراً في الفطرة، فالتخلف «أو الإنحراف» يسبب الإضطراب وعدم الإنسجام في نظام وجود الإنسان!.

فلوط نبيّ الله العظيم نبّه قومه المنحرفين إلى هذا الاساس «الفطري» فقال لهم: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون )؟! فالجهل وعدم معرفتكم بقانون الحياة والسفاهة هو الذي يقودكم إلى الضلال والتيه!.

فلا عجب أن تتغير سائر قوانين الخلق في شأن هؤلاء القوم الضالين، فبدلا من أن يغاثوا بماء من السماء يهب الحياة يمطرون بالحجارة.. وبدلا من أن تكون الأرض مهاداً وثيراً لهم تضطرب وتتزلزل ويُقلب عاليها سافلها، لئلا يقتصر الحال على هلاكهم فحسب، بل لتمحى آثارهم!.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه


1 ـ «الغابرين» جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

[104]

المنحرفين، يتوجه الخطاب إلى النّبي الكريم «محمّد»(صلى الله عليه وآله) ليستنتج ممّا سبق، فيقول له:(قل الحمد لله ).

الحمد والثناء الخاص لله، لأنّه أهلك أُمماً مفسدين كقوم لوط، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم!.

الحمد لله الذي أبار قوم صالح ثمود، وفرعون وقومه المفسدين، وجعل آثارهم عبرة للمعتبرين.

وأخيراً فالحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده المؤمنين... كداود وسليمان وأمثالهما، وأولاهم القوّة والقدرة، وهدى القوم الضالين كقوم سبأ.

ثمّ يضيف قائلا: (وسلام على عباده الذين اصطفى ).

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، ومن والاهم بإحسان.

ثمّ يقول: (آلله خير أمّا يشركون )(1)!!

رأينا في قصص هؤلاء الأنبياء أن الأصنام لم تستطع عند نزول البلاء أن تسعف اتباعها، أو تقوم بأدنى مساعدة لهم! غير أن الله سبحانه لم يترك عباده وحدهم في هذه الخطوب، بل أعانهم بلطفه الذي لا ينفذ!

 

* * *

 


1 ـ (آلله) أصلها (أألله) فانقلبت إحدى الهمزتين ألفاً ثمّ صارت مدة كما هي عليه الآن.. وجملة (أمّا يشركون) أصلها (أم ما يشركون) إذ أُدغمت (أم) المعادلة الإستفهامية بما الموصولة فصارت (أمّا) .

[105]

 

 

 

 

الآيات

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاْرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة مَّا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَآ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أمَّن جَعَلَ الاْرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلَـلَهآ أَنْهَـراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الاَْرْضِ أَءِلَـهٌ مَّعَ الله قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيـحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَـلَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمآءِ وَالاْرْضِ أَءلَـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (64)

 

التّفسير

أمع كلّ هذه الأدلة ما تزالون مشركين؟!

في آخر آية من آيات البحث السابق، وبعد ذكر جوانب مثيرة من حياة

[106]

خمسة أنبياء عظام، أُلقي هذا السؤال الوجيز المتين (آللهِ خير أمّا يشركون )؟!

أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال.. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة، لتناقش المشركين وتحاكمهم، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلا!

فالآية الأُولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه، فتقول: هل أن معبوداتكم أفضل (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ).(1)(2)

«الحدائق» جمع «الحديقة»، وهي كما يقول كثير من المفسرين: البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط، ومحفوظ من جميع الجهات، ومنها سمّيت حدقة العين حدقة لأنّها محفوظة بين الجفنين والهدب، أمّا الراغب فيقول في المفردات: إنّ الحديقة تطلق في الأصل على الأرض المجتمع فيها الماء، كما أنّ حدقة العين فيها الماء دائماً.

ويستفاد من مجموع هذين الرأيين أن الحديقة بستان له جدار وماء كاف.

و «البهجة» على وزن (لهجة) معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ).


1 ـ كلمة (ذات) في «ذات بهجة» جاءت مفردة، مع أن حدائق جمع وهي موصوفها، وذلك لأنّ الحدائق جمع تكسير، وجمع التكسير قد يأتي أحياناً بمعنى الجماعة، وهي ـ أي لفظة الجماعة ـ مفرد وصفتها مفردة أيضاً..

2 ـ هذه الآية في الحقيقة فيها حذف وتقديره: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض؟ وفي الحقيقة إن السؤال في الآية السابقة كان هكذا: اللّه خير أم الشركاء؟ وهنا يبدأ السؤال بالعكس: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض.

[107]

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة فتكون شجراً، هو الله فحسب.

فهذه حقائق لا يمكن إنكارها، ولا أن تنسب لغير الله... فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الغيث من السماء، وهو مبدأ هذه البهجة والحسن والجمال في عالم الحياة!.

إن مجرّد التأمل في لون الزهرة الجميلة، وأوراقها اللطيفة المنظمة التي تشكل حلقةً رائعة.. كاف أن يجعل الإنسان عارفاً بعظمة الخالق وقدرته وحكمته.. فهذه الأُمور تهز قلب الإنسان وتدعوه إلى الله.

وبتعبير آخر فإن التوحيد في الخلق يؤدي الى «توحيد الخالق»، والتوحيد في الربوبيّة «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة»!.

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية: (أإله مع الله ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم (بل هم قوم يعدلون )(1).

والسؤال الثّاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم، فيقول: هل أنّ اصنامكم أفضل، (أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي )(2)كما تحافظ على القشرة الارضية من الزلازل، كما (وجعل بين البحرين حاجزاً ) ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض! فتقول:

إن استقرار الأرض في الوقت الذي تتحرك بسرعة وتدور حول نفسها


1 ـ قد يكون (يعدلون) من مادة (العدول) أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل، أو أنّه مادة (عِدْل) على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير.. ففي الصورة الأُولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره، وفي الصورة الثّانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلا.

2 ـ «الخلال» في الأصل معناه الشق بين الشيئين. و«الرواسي» جمع «راسية»، وهي الثابتة.

[108]

وحول الشمس، وتتحرك في المنظومة الشمسية وحركة هادئة وفي وتيرة واحدة، إلى درجة أن سكّانها لا يحسّون بحركتها أبداً... فكأنّها أوتدت في مكان واحد! وبقيت ثابتة فلا يُرى فيها أقلّ حركة.

والنعمة الأُخرى وجود الجبال، التي قلنا عنها سابقاً أنّها تُحيط بالأرض، وجذورها متصلة بعضها ببعض كالحاجر القوي الذي يقاوم الضغوط الداخلية للأرض، وحركات الجزر والمدّ الذين يحصلان بسبب جاذبية القمر، كما أنّها تعبر مانعاً امام الاعاصير والسيول من أن تدمّر الأرض بطغيانها!

والنعمة الأُخرى الحجاب الحاجز بين البحرين، و الحائل الطبيعي الذي يحول بين الماء المالح والماء العذب، وهذا الحجاب ـ غير المرئي ـ هو الإختلاف في درجة الغلظة بين الماء العذب والماء المالح، أو كما يصطلح عليه اختلاف «الوزن النوعي» الخاص الذي يسبب عدم انحلال مياه الأنهار العظيمة العذبة التي تنصب في البحار المالحة لمدّة طويلة، وعند حالة «المدّ» تتمدد هذه المياه العذبة على السواحل الصالحة للزراعة فتسقيها (وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع ذيل الآية 53 من سورة الفرقان).

وفي الوقت ذاته جعل الله خلال أجزاء الأرض المختلفة أنهاراً تسقي المزارع والأحياء... فتخضرّ البساتين وتثمّر الاشجار وبعض مصادر هذه المياه تكمن في قمم الجبال... وبعضها بين الطبقات الأرضيّة!.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال: (أإله مع الله )؟! حاش للَّهِ (بل أكثر هم لا يعلمون ).

السؤال الثّالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة

[109]

المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات، وفتح الطرق الموصدة، وإجابة الدعاء، إذ تقول الآية التالية: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ).

أَجَلْ... عندما تُغلق جميع أبواب عالَم الأسباب بوجه الإنسان، ويبلغ النصل إلى العظم، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له، فإنّ الذي يحلّ المعضلة، ويفتح الأقفال، ويزيل السدود عن الطرق، وينثر في القلوب نور الأمل، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين، هو الله لا غير!.

وحيث أنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في اعماق نفوسهم جميعاً، فإنَّ المشركين حين يقعون بين امواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله، كما يقول القرآن: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين )(1)

لذلك تضيف الآية قائلة: إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب، بل: (ويجعلكم خلفاء الأرض أاله مع اللّه ) ولكنكم لا تتعضون بهذه الدلائل.. (قليلا ما تذكرون )(2).

وحول مفهوم المضطر، ومسألة استجابه الدعاء وشروطها، بحوث ستأتي في نهاية هذه الآيات!

والمراد من (خلفاء الأرض ) لعله بمعنى «سكنة الأرض» وأصحابها.. لأنّ الله جعل الإنسان حاكماً على هذه الأرض، مبسوط اليد فيها بما أولاه من النعم وأسباب الرفاه والدعة والإطمئنان!.

ولا سيما حين يقع الإنسان في شدّة، فيغدو مضطراً ويتجه نحو خالقه الكريم ـ فيرفع بكرمه البلايا والموانع ـ فتستحكم أسس هذه الخلافة وهنا


1 ـ العنكبوت، الآية 65.

2 ـ (ما) في قوله تعالى: (قليلا ما تذكرون ) زائدة ظاهراً، ونعرف أن الحروف الزائدة في كثير من المواطن للتأكيد، و(قليلا) صفة لمصدر محذوف وتقديره: تتذكرون تذكراً قليلا.

[110]

تتجلى العلاقة بين شطري الآية.

كما قد يكون المراد بهذا المعنى، وهو أنّ الله جعل ناموس الحياة أن يخلفَ قوم قوماً على الدوام، بحيث لو لم يكن هذا التناوب لم تغدُ الصورة متكاملة(1)!.

ويثير القرآن في السؤال الرّابع مسألة الهداية فيقول: هل أن الاصنام أفضل، (أمّن يهديكم في ظلمات البرّ والبحر ) بواسطة النجوم (ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته )؟!!.

فالرياح التي تدل على نزول الغيث، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث، إنّها في الحقيقة تهدي الناس إلى الغيث أيضاً.

والتعبير بـ (بشراً ) في شأن الرياح، والتعبير بـ (بين يدي رحمته ) في شأن الغيث، كلاهما تعبيران طريفان لأنّ الرياح هي التي تحمل الرطوبة في الجو وتنقل أبخرة الماء من على وجه المحيطات بشكل قطعات من السحب على متونها، إلى النقاط اليابسة، وتخبر عن قدوم الغيث!

وكذلك الغيث الذى ينشد نغمة الحياة على وجه البسيطة، وحيثما نزل حلت البركة والرحمة(2).

(ذكرنا شرحاً مفصلا في تأثير الرياح في نزول الغيث في ذيل الآية 57 من سورة الأعراف).

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة أُخرى فيقول: (ءإله مع الله )؟!

ثمّ يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلا (تعالى الله عما يشركون ).

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث، فيثير القرآن السؤال الخامس في


1 ـ فبناءً على هذا المعنى يكون (خلفاء الأرض) بمعنى: خلفاء في الأرض.

2 ـ «بُشر» على وزن «عشر» ـ كما ذكرنا آنفاً ـ مخفف بُشر على وزن «كتب»، وهي جمع «بشور» على وزن «قبول» ومعناه المبشر.

[111]

شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، (أمّن يبدأ الخلق ثمّ يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله ).. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )؟!

وفي الواقع فإن الآيات المتقدمة كلها كانت تتكلم على المبدأ، وايات عظمة الله في عالم الخلق والوجود، ومواهبه ونعمه، إلاّ أنّه في الآية الأخيرة ينتقل البحث من معبر ظريف إلى مسألة المعاد، لأنّ بداية الخلق نفسها دليل على تحققها، والقدرة على بداية الخلق تعد دليلا واضحاً على المعاد.

ومن هنا يتّضح الجواب على السؤال الذي يثيره كثير من المفسّرين، وهو أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات أغلبهم لم يعتقدوا بالمعاد «المعاد الجسماني» فكيف يمكن أن يوجه إليهم هذا السؤال مع هذه الحال ويطلب منهم الإقرار.

فالجواب عليه أن هذا السؤال مقرون بدليل يسوق الطرف الآخر للإقرار، لأنّه باعترافهم أن بداية الخلق من الله، وهذه المواهب والنعم كلّها منه، لكي تقبل عقولهم إمكان المعاد والرجوع الى الحياة في يوم القيامة مرّة أُخرى.

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك، أمّا (الرزق الارضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته!.

* * *

 

بحوث

1 ـ مَن المضطر الذي يجاب إذا دعاه؟

مع أنّ الله ـ يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء، إلاّ أنّ في الآيات آنفة الذكر اهتماماً بالمضطر، وذلك لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض

[112]

الإنسان عينيه عن عالم الأسباب كليّاً، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله، وأن يرى كل شيء منه وله! وأن حل كل معضلة بيده، وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحققان في حال الإضطرار.

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسببات، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن... إلاّ أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبداً... ويرى كل شيء من بركات ذاته المقدسة، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ «مسبب الأسباب» فيطلب منه ما شاء!.

أجل، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة، فإنه يوفّر لنفسه أهم شرط لإجابة الدعاء.

الطريف أنّه قد ورد في بعض الرّوايات تفسير هذه الآية بقيام المهدي صلوات الله وسلامه عليه!

ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه... قال والله هو المضطر في كتاب الله في قوله: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )» (1)!

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام) هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا الله عزَّوجلّ فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض» (2).

ولا شك أن هذا التّفسير ـ كما رأينا نظائره الكثيرة ـ لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهدي(عليه السلام)، بل مفهوم الآية واسع، والمهدي(عليه السلام) واحد من مصاديقها الجليّة... إذ الأبواب في زمانه موصدة، والفساد عمّ البسيطة، والبشرية في طريق


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.

[113]

مسدود، وحالة الإضطرار ظاهرة في جميع العالم.. فعندئذ يظهر الإمام في أقدس بقعة.. فيطلب كشف السوء، فيلبي الله دعوته، ويجعله بداية «الظهور» المبارك في العالم، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه، فيكون مصداقاً لقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الأرض ).