![]() |
![]() |
![]() |
هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة «بالحروف المقطعة» في القرآن، وقد تكررت فيها (طسم ) ثلاث مرات، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها..
وقد بيّنا مراراً وتكراراً أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة، وقد ذكرناها وبحثناها بحثاً وافياً في بدايات سوَر «البقرة» و «آل
عمران» و «الأعراف».
وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن (طسم ) أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى، أو أنّها أماكن مقدسّة.. ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أُمور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.
ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.
ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد «الحروف المقطّعة» مباشرةً عن عظمة القرآن، إذ يقول: (تلك آيات الكتاب المبين )، وبالرغم من أن (الكتاب المبين ) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (61) من سورة يونس (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين ) والآية السادسة من سورة هود (كلّ في كتاب مبين ) ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر «الآيات» وكذلك جملة (نتلوا عليك ) الواردة في الآية التي بعدها..
وقد وصف القرآن هنا بكونه «مبين» وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة «مبين» تستعمل في المعنيين «اللازم والمتعدي»، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج(1).
والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة «فرعون» و «موسى» فيقول: (نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحقّ لقوم يؤمنون ).
1 ـ ونذكر ضمناً أنّ التعبير بـ «تلك» المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقاً ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضاً..
التعبير بـ «من» التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب..
والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأُسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب.. فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية..
والتعبير بـ (لقوم يؤمنون ) هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدَداً وَعُدَداً، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شيء عند الله سهل يسير!..
الله الذي ربّى «موسى» في أحضان «فرعون» لإبادته وتدميره.. الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم.
الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج.. هو قادر على أن ينجيكم «أيّها المؤمنون»..
أجل، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان.
كان ذلك في الحقيقة بياناً إجمالياً، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: (إن فرعون علا في الأرض ).
فقد كان عبداً ضعيفاً، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية.. والتعبير بـ«الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها.. وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر
كان «مصراً» فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة.
ويحتمل أيضاً أنّ الألف واللام للعهد أي «أرض مصر».
وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الإستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى!..
فالجريمة الأولى، أنّه فرّق بين أهل مصر (وجعل أهلها شيعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم، فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تُعدّ شيئاً ـ على الأكثرية إلاّ بالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً ـ.
ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم، كما صنعه فرعون في أهل مصر، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر.
أجل، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و«الأسباط».
فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.
و«الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط»! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً [ والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يُعدّون من أهلها حقيقة!] .
وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك
على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق، ندرك جيداً الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع...
والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله:(يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم ).
فقد كان أصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل، فإن كانوا ذكوراً فإنّ حظهم الذبح، وإن كانوا إناثاً فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط.
وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا؟!
المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر، ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلاّ أحرقته، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك، فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة(1).
وأخيراً كان هذا الأمر سبباً في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل(2).
كما يحتمل ـ أيضاً ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسى(عليه السلام)وخصائصه، وقد أحزن الفراعنة خبره، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له(3).
ولكون ورود جملة (يذبح أبناءهم ) بعد جملة (يستضعف طائفة منهم )
1 ـ راجع في ذلك مجمع البيان، ج 7، ص 239، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث.
فإنّ مسألة أُخرى تتجلّى أمامنا، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم.
والشاهد الآخر هو الآية (25) في سوره المؤمن، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسى(عليه السلام)[ ومجيئه إلى الفراعنة] . إذ تقول: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال ).
وجملة (يستحي نساءهم ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط، أو للإستمتاع الجنسي، أو لكلا الأمرين جميعاً.
وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: (إنّه كان من المفسدين ).
وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض، فاستعلاؤه كان فساداً، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرةً أُخرى أيضاً.
والتعبير بـ «يُذبح » المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم!(1).
1 ـ ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة، وفعلها متعدٍّ بنفسه، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة، كماتستفاد من صيغة المضارع الإستمرار على هذه الجناية [ فلاحظوا بدقة] .
وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة، إذ قال بعضهم: إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل، وأن لا يلي إيلادهن إلاّ قابلة من القبطيّات والفرعونيّات، فإذا كان المولود ذكراً فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا «قربانهم»(1).
ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد «ضحايا الحوامل» من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم: كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفاً، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف!..
لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم.
ثمّ تأتي الآية الأُخرى لتقول: إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض )وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور: (ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).
ويكونون اُولي قوّة وقدرة في الأرض (ونمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )
ما أبلغ هاتان الآيتان، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل!.. إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من بني إسرائيل وحكومة الفراعنة، إذ تبدآن بالقول: (ونريد أن نمن... ).
أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء!
فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد. ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين، فكان كما أردنا.
1 ـ التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.
والتعبير بـ «نمنّ» كما أشرنا إلى ذلك من قبل، معناه منح الهبات والنعم، وهو يختلف تمام الإختلاف مع «المنّ» المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل، وهو مذموم قطعاً.
ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين، ويذكر في هذا المجال خمسة أُمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضاً:
الأوّل: قوله تعالى: (ونريد أن نمن... ) لنشملهم بالمواهب والنعم.. الخ.
الثّاني: قوله: (ونجعلهم أئمّة ).
الثّالث: قوله: (ونجعلهم الوارثين ) أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة.
الرّابع: قوله: (ونمكن لهم في الأرض ) أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم..
والخامس: إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح، وتكون العاقبة لهم (ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ).
هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين، أمّا من هم أُولئك المستضعفون؟! وما هي أوصافهم؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله
وكان «هامان» وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معاً (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هاماان بإذن الله في ذيل الآية (38) من هذه السورة ذاتها).
* * *
قلنا: إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترةخاصة أو معينة، ولا تختص ببني إسرائيل فحسب، بل توضح قانوناً كلياً لجميع العصور والقرون ولجميع الأُمم والأقوام، إذ تقول: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).
فهي بشارةٌ في صدد انتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.
وهي بشارةٌ لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.
وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلاّ نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بعد ظهور الاسلام.. حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم ويرزخون تحت تأثير الضغوط «الظالمة» لائمّة الكفر والشرك.
وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزل أُولئك من أسرّةِ الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتراب.
والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد «المهديّ» أرواحنا له الفداء.
فهذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة، ونقرأ عن أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.
فقد ورد في نهج البلاغة عن علي(عليه السلام) قوله: «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها
عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض )» (1).
وفي حديث آخر نقرأ عنه(عليه السلام) في تفسير الآية المتقدمة قوله: «هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم» (2).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) قوله: «والذي بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه» (3) (أي سننتصر أخيراً وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحق لنا).
ومن الطبيعي أن حكومة المهدي(عليه السلام) العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنَّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.
كلمة «المستضعف» مشتقّة من مادة «ضعف»، ولكنّها لما استعملت في باب «الإستفعال» دلت على من يكبّل بالقيد والغلّ ويجرّ إلى الضعف.
وبتعبير آخر: ليس المستضعف هو الضعيف والفاقد للقدرة والقوّة.. بل المستضعف من لديه قوى بالفعل وبالقوة، ولكنّه واقع تحت ضغوط الظلمة والجبابرة، وبرغم أنّه مكبل بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه غير ساكت
1 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم 209.
2 ـ الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 110.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآية.
ولا يستسلم، ويسعى دائماً لتحيطم الأغلال ونيل الحرية، والتصدي للجبابرة والمستكبرين، ونصرة مبدأ العدل والحق.
فالله سبحانه وعد أمثال هؤلاء بالمنّ وبالحكومة على الأرض، لا الأفراد الجبناء الذين لا يجرؤن على ادنى اعتراض فكيف إذا حمي الوطيس وحان أوان التضحية والفداء؟!
فبنوا إسرائيل استطاعوا أن يأخذوا الحكومة ويرثوها من الفراعنة لأنّهم التفوا حول موسى(عليه السلام) وعبؤوا قواهم وشكّلوا صفاً واحداً، واستكملوا بقايا إيمانهم الذي ورثوه عن جدّهم إبراهيم الخليل، ونفضوا الخرافات عن أفكارهم ونهضوا مع موسى(عليه السلام).
وبالطبع فإنّ المستضعفين أنواع، فهناك مستضعف فكريٌّ، وهناك مستضعف ثقافيٌّ، وهناك مستضعف اقتصادي، وآخر مستضعف سياسي، أو أخلاقي، وأكثر ما أكّد عليه القرآن هو الإستضعاف السياسي والأخلاقي!.
وما من شك أنّ المستكبرين الجبابرة يسعون أبداً لأن يجرّوا قرابينهم إلى الاستضعاف الفكري والثقافي، ثمّ إلى الإستضعاف الإقتصادي، لئلا تبقى لهم قوّةً ولا قدرة، ولئلا يفكروا بالنهوض وتولي زمام الحكومة.
وفي القرآن المجيد ورد الكلام عن المستضعفين في خمسة موارد، وعلى العموم فإنّ هذا الكلام يدور حول المؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط الجبابرة.
ففي مكان من القرآن الكريم يدعو إلى الجهاد والمقاتلة في سبيل الله والمستضعفين إذ يقول: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم
أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً ).(1)
وفي مكان واحد فقط ورد الكلام عن الذين أعانوا الكفار وظلموا أنفسهم، وادعوا أنّهم مستضعفون، ولم يهاجروا في سبيل الله، فالقرآن ينفي عنهم هذا الاستضعاف فيقول: (إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا ).(2)
وعلى كل حال فإنّه القرآن في كل مكان منه يدافع عن المستضعفين ويذكرهم بخير، ويعبّر عنهم بالمؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط المستكبرين... المؤمنون المجاهدون والساعون بجدّهم المشمولون بعنايةالله ولطفه.
لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لا ذلالهم، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت، فحيث لم يستطيعوا قتل «الرجال» يلجأون إلى قتل «الرجولة»، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدّرات والفحشاء والمنكر والإنحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم و حكومتهم.
ولكنّ أنبياء الله، وخاصّة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوة النائمة ويشحنوا قدرات الشباب الهائلة، ويحرروهم من أسر الذلة، وكانوا
1 ـ النساء، الآية 75.
2 ـ النساء، الآية 97.
يعلمون حتى النساء دروساً من الشجاعة والشهامة، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين.
والشواهد على هذين المنهجين في البلاد الإسلامية في التأريخ المعاصر والتأريخ القديم كثيرة وواضحة جيّداً، فلا حاجة لسردها وذكرها بتفصيل.
* * *
وَأَوْحَيْنآ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيْهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهـمـنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (9)
من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة.. ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه..
يقول القرآن: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفِت عليه فالقيه
في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ).
وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:
كانت سُلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [ من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [ من بني إسرائيل] .
ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى(عليه السلام) «وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.
وحين ولد موسى(عليه السلام) سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبُّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.
فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.
ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فاذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلاّ التنور المشتعل ناراً.. فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت: إنّها صديقتي وقد
جاءت زائرة فحسب، فخرجوا ايسين.
ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالماً وقد جعل الله النّار عليه برداً وسلاماً «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالماً من التنور.
لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.
وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحسّت بالإطمئنان أيضاً.
كان ذلك من الله ولابدّ أن يتحقق، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.
فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً» فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.
فسألها النجار قائلا: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الاُمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.
فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلاّدين، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة، فظن أُولئك أنّه يستهزىء بهم فضربوه وطردوه، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأُولى من الإرتجاج والعيّ، وأخيراً فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.
ولعلّ الوقت كان فجراً والناس ـ بعد ـ نيام، وفي هذه الحال خرجت أم
موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل.. وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولإنكشف الأمر واتضح كل شيء.
ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأُم بدقّة.
لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أُم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف:
أمّ موسى حين ألقت طفلها للذي رب السما أوحى لها
نظرت للنيل يمضي مسرعاً آه لو تعرف حقاً حالها
ودوي الموج فيه صاخب وفتاها شاغل بلبالها
* * *
وتناغيه بصمت: ولدي كيف يمضي بك هذا الزورق
دون ربان، وإن ينسك من هو ذو لطف فمن ذا يشفق
فأتاها الوحي: مهلا، ودعي باطل الفكر ووهما يزهق
* * *
إن موسى قد مضى للمنزل فاتق الله ولا تستعجلي
قد تلقينا الذي ألقيته بيد ترعى الفتى لا تجهلي
وخرير الماء أضحى مهده في اهتزاز مؤنس إن تسألي
* * *
وله الموج رؤوماً حدبا فاق من يحدب أمّا وأبا
كل نهر ليس يطغى عبثاً إن أمر الله كان السببا
* * *
يأمر البحر فيغدو هائجا وله الطوفان طوعاً مائجا
عالم الإيجاد من آثاره كل شيء لعلاه عارجا
* * *
أين تمضين دعيه فله خير ربّ يرتضيه لا هجا
كل هذا من جهة!..
ولكن تعالوا لنرى مايجري في قصر فرعون؟!
ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن له من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهّنُ ونتوقع أن إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام.. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!
ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.
بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلا!.
![]() |
![]() |
![]() |