[275]

والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثمّ هو يوم القيامة من المحضرين ).

ولا شك أن وجدان يقظ يرجّح وعود الله و مواهبه العظيمة الخالدة، على نعم الدنيا التي لا تطول إلاّ أيّاماً و تتبعها آلام وشقاء خالد؟!

جملة (فهو لاقيه ) تأكيد على أن وعد الله لا يتخلف أبداً ولابدّ أن يكون كذلك، لأنّ تخلّف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز، وكلاهما مستحيل على ذات الله المقدسة.

وجملة (هو يوم القيامة من المحضرين ) إشارة إلى الإحضار في محضر الله يوم القيامة للحساب، وفسرها البعض بالإحضار في نار جهنّم، ولكن التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو، وعلى كل حال فإنّ هذا التعبير يدل بصورة واضحة على أنّ المجرمين يساقون مكرهين، وعلى غير رغبة منهم إلى تلك العرصات المخوفة، وينبغي أن يكون الأمر كذلك... لأنّ وحشة الحساب والقضاء يوم القيامة ومشاهدها تغمر وجودهم هناك!.

والتعبير بـ(الحياة الدنيا ) التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الأُخرى والخلود فيها وعدم الزوال والإضمحلال، لأنّ كلمة «دنيا» في الأصل مأخوذة من «دنو» على زنة «غلو» ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثمّ توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ «دنيا أو أدنى» على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد. وحيث أن هذه «الحياة» في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.

[276]

بعد هذا، يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ).

وبديهي أنّ هذا السؤال سؤال توبيخ وإهانة، لأنّ يوم القيامة يوم كشف الحجُب والأستار، فلا مفهوم للشرك، ولا المشركون في ذلك اليوم باقون على عقيدتهم و«شركهم».

فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة!

ولكنّهم بدلا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.

ونعرف أن معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أَن يكونوا أصناماً «وأحجاراً وخُشُباً» أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ. فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن (قال الذين حقّ عليهم القول ربّنا هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ).

فعلى هذا تكون الآية السابقة شبيهة بالآية (28) من سورة يونس إذ تقول: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ).

فعلى هذا يرد المعبودون الغواة على عبدتهم ويتبرؤون منهم، كما يبرأ فرعون ونمرود و الشياطين والجن من عبدتهم وقومهم ويتنفرون منهم، ويدافعون عن أنفسهم، حتى أنّهم ينسبون الضلالة لمن تبعهم ويقولون: إنّهم تبعونا طوعاً... الخ.

ولكن ـ من البديهي ـ ليس لهذا النفي أثر، ولا تنفع البراءة منهم، فالعابد

[277]

والمعبود معاً شريكان «في النّار»(1).

الطريف الذي يستلفت النظر، هو أنّ كل واحد من المنحرفين يتبرأ في ذلك اليوم من الآخر وكلٌ يسعى لأن يلقي تبعة ذنبه على صاحبه.

وهذا يشبه تماماً ما قد نراه في هذه «الدنيا» من اجتماع رهط على أمر ما حتى إذا وقعوا في مخالفة القانون، وأُلقي القبض عليهم، وأحضروا إلى المحكمة، يتبرأ كلّ واحد من الآخر ويلقي بعضهم الجريمة على صاحبه، فهكذا هي عاقبة المنحرفين والضالين في الدنيا والآخرة!

كما نجد مثل هذا في الآية (22) من سورة إبراهيم (وقال الشيطان لما قُضي الأمر أنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).

ونقرأ في الآية (30) من سورة الصافات في شأن المشركين الذين يتحاجون في يوم القيامة مع أتباعهم فيقولون: (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين ).

وعلى كل حال، فتعقيباً على السؤال عن آلهتهم. وعجز المشركين عن الجواب. يطلب أن يدعوهم لنصرتهم (وقيل ادعوا شركاءكم )(2).

وحيث يعلم المشركون أن دعاءهم غير نافع، وأن المعبودين «الشركاء» لايمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة لأمر الله الذي يريد


1 ـ ويحتمل في الآية الآنفة ـ أيضاً ـ أَنّ القائلين جواباً على سؤال الله هم رؤوساء المشركين «أي جماعة من عبدة الأصنام» فهم من أجل أن يفروا عن الجواب يتحدثون عن أتباعهم، ويقولون: ربّنا إنّنا غوينا فمضينا في طريق الشرك، وهؤلاء اتبعونا طوعاً فأغويناهم، ولكنّهم لم يطيعونا «العبادة في الآية الآنفة معناها الطاعة» وإنّما اطاعوا هواهم، ولكن التّفسير السابق أظهر.

2 ـ التعبير بـ «شركاءكم» مع أن هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء الله سبحانه، هو اءشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا بالله...

[278]

أَن يفضح المشركين والشركاء أمام أعين الخلق، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: (فدعوهم ).

ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم «لبيك».. (فلم يستجيبوا لهم ).

فحينئذ لا ينفعهم شيء (ورأوا العذاب ).

ويتمنون (لو أنّهم كانوا يهتدون! ). (1)

 

* * *


1 ـ بحث المفسّرون في الآية (لو أنّهم كانوا يهتدون ) بحوثاً شتى، فكثير منهم قالوا بأن «لو» حرف شرط هنا، فبحثوا عن الجزاء، فقالوا: يستفاد من جملة (رأوا العذاب ) وتقدير الجملة يكون هكذا: «لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب في الدنيا بعين اليقين».

وهذا يشبه قوله تعالى (لترون الحجيم ) في سورة التكاثر الآية السادسة.

كما يرى البعض أن التقدير هكذا (لو أنّهم كانوا يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة ).

وزعم بعضهم أن الجزاء غير ما تقدم «يطول بها البحث هنا».

لكنّ بعضهم يعتقد أن جواب الشرط «الجزاء» غير محذوف أساساً، وجملة (ورأوا العذاب ) هي الجواب المتقدم، وما بعده جملة الشرط، فيكون المعنى هكذا: (لو كانوا يرون ويهتدون لرأوا العذاب لكنّهم لم يهتدوا )!...

لكن وراء كل هذه المعاني معنى آخر ذكرناه في بيان الآية آنفاً، وهو أن نفسر معنى لو بـ «تمنّوا، فلا بأس بمراجعة الكتب اللغوية والأدبية «كمغني اللبيب» وغيره!.

[279]

الآيات

وَيُوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَت عَلَيْهِمُ الا،َنبَآءُ يَوْمَئِذ فَهُم لاَ يَتَسَآءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَـنَ اللهِ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)وَهُوَ اللهِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاُْولَى وَالاْخِرَةِ وَلَهُ الْحكمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

 

التّفسير

تعقبُ الآيات محل البحث، على ما كان في الآيات السابقة في شأن المشركين وما يسألون يوم القيامة.

فبعد أن يُسألوا عن شركائهم ومعبوديهم، يسألون عن مواقفهم وما أبدوه من عمل إزاء أنبيائهم (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ).

ومن المسلم به أنّ هؤلاء «المشركين» لا يملكون جواباً لهذا السؤال، كما لم يملكوا للسؤال السابق جواباً.

[280]

تُرى: أيقولون بأنّنا لبيّنا دعوة المرسلين؟ فهذا كذب محض! والكاذب خاسر في ذلك اليوم، أم يقولون بأنّنا كذّبناهم، واتهمناهم، وقلنا لهم بأنّكم سحرة ومجانين وحاربناهم وقتلناهم مع اتباعهم؟...

ما عسى أن يقولوا هناك؟! فكلّ ما يقولون كاشف عن فضيحتهم وشقائهم!. حتى أَنّ الانبياء والمرسلين في ذلك اليوم يجيبون ربّهم حين يسألون (ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب ).(1)

ما الذي يقوله في ذلك اليوم وفي ذلك المكان عمي القلوب من المشركين؟!

لذلك يكشف القرآن عن حالهم هناك فيقول: (فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ) أي يسأل بعضهم بعضاً ولا يعرفون جواباً!.

والذي يستلفت النظر أن العمى نسب في الآية للأنباء لا للمشركين فلا يقول عمي المشركون هناك بل يقول: «عميت عليهم الأنباء».. لأنّه كثيراً ما يحدث أن يكون الإنسان غير عالم بالخبر، لكنّه يصله بانتشاره على أفواه الناس، كما يتفق لنا أن نكون جاهلين بالشيء أحياناً فنعرف به حين ينتشر بين المجتمع، لكن في يوم القيامة، لا الناس مطّلعون، ولا الأخبار تنتشر!.

فعلى هذا تعمى الأخبار، فلا يملكون جواباً هناك على قوله تعالى: (ماذا أجبتم المرسلين ) فيحيط بهم الصمت من قرنهم إلى أقدامهم.

وحيث أنّ اُسلوب القرآن هو ترك الأبواب مفتوحة بوجه الكافرين والآثمين دائماً، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الحق في أي مرحلة كانوا من الإثم، فإنّه يضيف في الآية التي بعدها: (فأمّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ).

فسبيل النجاة ـ حسب ما يوضحه القرآن ـ يتلخّص في ثلاث جمل هي العودة والتوبة إلى الله، والإيمان، والعمل الصالح، وعاقبتهما النجاة والفلاح حتماً.


1 ـ المائدة، الآية 109.

[281]

والتعبير بعسى «من أفعال الرجاء» مع أن الذي آمن وعمل صالحاً فهو من أهل الفلاح حتماً ـ ربّما كان لأنّ الإيمان والعمل الصالح مشروطان بالبقاء والدوام عليهما، وحيث أن التائبين لا يبقى جميعهم على التوبة، بل قد يعود بعضهم لعمله السابق، عبر القرآن بقول: (فعسى ).. ألخ.

قال بعض المفسّرين: التعبير بـ«عسى» حين يكون من شخص كريم، فإنّه يدل على المفهوم القطعي، والله سبحانه أكرم الأكرمين.

والآية التي بعدها في الحقيقة دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين، إذ تقول: (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة )(1).

فالخلق بيده، والتدبير والإختيار بيده أيضاً، وهو ذو الإرادة، وليس لأحد سواه أن يفعل ما يشاء، فكيف بالأصنام؟!

فاختيار الخلق بيده، والشفاعة بيده، وإرسال الرسل بيده أيضاً. والخلاصة أنّ اختيار كل شيء متعلق بمشيئته وإرادته المقدسة، فعلى هذا لا يمكن للأصنام أن تعمل شيئاً، ولا حتى الملائكة والأنبياء، إلاّ أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى!

وعلى كل حال فإطلاق الإختيار دليل على عموميته.. بمعنى أن الله سبحانه صاحب الإختيار في الأُمور التكوينية والأُمور التشريعية أيضاً.. فجميعها يتعلقان به.

فمع هذه الحال، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير الله؟ لذلك فإنّ الآية تنزه الله عن الشرك وتقول: (سبحان الله وتعالى عمّا يشركون ).

وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) فُسرت الآية المتقدمة باختيار الأئمّة المعصومين من قبل الله سبحانه ـ وجملة (وما كان لهم الخيرة ) أيضاً وردت في هذا المعنى، وهي في الواقع من قبيل بيان المصداق الواضح، لأنّ


1 ـ «ما» في جملة «ما كان لهم الخيرة» نافية، ولكن البعض يحتمل أنّها موصولة ومعطوفة على المفعول المحذوف «ليختار» لكن هذا الإحتمال بعيد جداً...

[282]

مسألة حفظ الدين والمذهب واختيار القائد المعصوم لأجل هذا الهدف، لا تكون إلاّ من قِبَل الله تعالى(1).

أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم الله الواسع، وهي في الحقيقة تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة، إذ تقول هذه الآية: (وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون ).

فإحاطته بكل شيء دليل على اختياره لكل شيء، كما هي ـ ضمناً ـ تهديد للمشركين، لئلا يظنوا أن الله غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و«مؤامراتهم».

والآية الأخيرة من هذا المقطع ـ هي نتيجة الحكم، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف الله، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.

فالأول: أنّه (هو الله لا إله إلاّ هو ).

فكيف يمكن أن يكون معبود آخر سواه، وهو الخالق وحده وجميع الإختيارات بأمره وبيده. فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند الله فهو من المضلين الخاطئين.

والثّاني: أن جميع النعم دنيويةً كانت أم أُخروية هي منه، وهي من لوازم خالقيته المطلقة، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد (له الحمد في الأُولى وفي الآخرة ).

الثّالث: أنّه (وله الحكم ) فهو الحاكم في هذا العالم، وفي العالم الآخر.

والرّابع: (وإليه ترجعون ) للحساب والثواب والعقاب.

فالله الخالق، وهو المطّلع، وهو الحاكم يوم الجزاء، وبيده الحساب والثواب والعقاب.

* * *


1 ـ اصول الكافي. وتفسير علي بن إبراهيم «طبقاً لتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 136».

[283]

الآيات

قُلْ أَرَأَيْتُمْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيآء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْل تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيداً فَقُلْنا هَاتُوا بُرْهَـنَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوايَفْتَرُونَ (75)

 

التّفسير

نعمتا «الليل والنهار» العظيمتان:

هذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم كبير من مواهب الله سبحانه، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة، كما أنّها تكمّل البحث السابق..

[284]

وتذكر مثلا للنعم التي تستوجب الحمد والثناء.. الحمد المشار إليه في الآيات المتقدمة، كما هي في الوقت ذاته شاهد على اختيار الله وتدبيره في نظام الخلق من جهة أُخرى!.

ففي الآية الأُولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأية حركة، فتقول الآية: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون )(1).

هنا عبر عن النهار بالضياء، لأنّ الهدف الأصلي من النهار هو الضياء والإنبلاج، ذلك الضياء الذي تتعلق به حياة كل الموجودات الحية، فلولا ضياء الشمس لما تنسمت «زهرة» ولانمت «شجرة» ولا طار «طائر» ولا بقي «إنسان» ولا هطل مطر.

«السرمد» معناه الدائم المتواصل، ويرى البعض بأنه المتتابع، وأصله «سرد» ويرون أن ميمها زائدة.. لكن الظاهر أنّها كلمة مستقلة تعطي معنى الدوام والاستمرار.(2)

كما تتحدث الآية الأُخرى عن نعمة الظلمة فتقول: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ).

أمّا الآية الثّالثة فتحكي عن نتيجة النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول (من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )

أجل، إنّ سعة رحمة الله تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم، فأنتم ـ


1 ـ «أرأيتم» جملة تأتي بمعنى «أخبروني» عادةً، كما فسّروها، ولكن كما قلنا سابقاً تأتي أحياناً بمعنى: هل علمتم؟!

2 ـ قال أهل اللغة: إن كلمة «سرمدى» تطلق على ما ليس له بداية ولا نهاية، و «الأزلي» ما ليس له بداية، و«الأبدي» ما ليس له نهاية...

[285]

من جانب ـ بحاجة إلى السعي والحركة، وكل ذلك لابدّ لهما من الليل!

لقد ثبت ـ في هذا العصر ـ علميّاً أن جميع أجهزة البدن تكون فعالةً ونشطة مع وجود النور، إذ تنشط الحركة الدموية والجهاز التنفسي وحركة القلب وسائر الأجهزة، وإذا استمر النور أكثر من المعتاد تعبت خلايا الجسم وتحول النشاط إلى خمول!

وبالعكس فإنّ الخلايا تهدأ في الليل وتستريح استراحة عميقة تستعيد نشاطها وقواها «شرحنا هذا المعنى في الجزء السادس ذيل الآية 67 من سورة يونس و الآية (12) من سورة الاسراء»،

الطريف هنا أن الآية حين تتحدث عن سرمديّة الليل تخاطب الناس قائلةً: (أفلا تسمعون )... وحين تتحدث عن سرمدية النهار تخاطبهم قائلة: (أفلا تبصرون ) ولعل هذا التعبير لأجل أَن الحسّ المناسب لليل هو السمع والأذن، وما يناسب النهار هو البصر والعين.. إلى هذه الدرجة نلاحظ الدقّة في القرآن الكريم.

كما أنّ من الجدير الإلتفات إلى أنَّ الآية هنابعد ذكر مسألتي السمع والبصر أو الليل والنهار، تختتم الحديث بالقول: (لعلكم تشكرون ) الشكر إزاء النظام المحسوب النور والظلمة، الشكر الذي يوصل الإنسان إلى معرفة المنعم والشكر الذي يكون باعثاً على الإيمان في المباحث الإعتقادية!.

ومرّة أُخرى ـ بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك ـ يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير في الآيات السابقة ليقول: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ).

وهذه الآية مكررة في السورة نفسها، إذ وردت بنصّها في الآية 62، ولعل هذا التكرار ناشىء عن السؤال مرتين في يوم القيامة، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها.. ليخجلوا أيضاً من حضورهم.

[286]

لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول: (ونزعنا من كل أمة شهيداً(1) فقلنا هاتوا برهانكم ) أيّها المشركون الضالون.

وحين تنكشف المسائل وتتجلى الأُمور لا تبقى خافية (فعلموا أن الحق الله وضل عنهم ما كانوا يفترون ).

هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الأُخرى في القرآن، إذ أن كل نبي شاهد على أمته، ونبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والأُمم، كما نقرأ ذلك في الآية (41) من سورة النساء (فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ).

فعلى هذا، ينعقد يوم القيامة مجلس كبير بحضور الأنبياء، ويؤتى بالمشركين المعاندين عمي القلوب، وهناك يعرفون الفاجعة العظمى للشرك، وحقانية الله، وضلال الأصنام... بجلاء.

ومن الطريف أن القرآن يعبر بـ (ضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي إن تصوراتهم واعتقاداتهم في الأصنام تمحى عنهم يوم القيامة، لأنّ عرصة القيامة عرصة الحق، ولا مكان للباطل هناك، فالباطل يضل هناك ويمحى من الوجود!.

فإذا كان الباطل يغطي وجهه هنا (في هذا العالم) بستار من الحق ليخدع الناس أيّاماً، فهناك تنكشف الحجب ولا يبقى سوى الحق.

نقرأ في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير (ونزعنا من كل أمّة شهيداً )قوله: «ومن هذه الأُمة إمامها» (2).

وهذا الكلام إشارة إلى أنّه لابدّ في كل عصر وزمان من شاهد معصوم للأُمة، والحديث آنف الذكر من قبيل بيان مصداق هذا المفهوم القرآني.

* * *


1 ـ التعبير بـ «نزعنا» التي تعني جذب الشيء من مقرّه، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وأُمة...

2 ـ تفسير الميزان، ج 16، ص 20.

[287]

الآيات

إِنْ قَـرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَـهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ اءِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ إليْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَآ أُوْتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِندِى أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونَ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْـمجُرِمُونَ (78)

 

التّفسير

الثّري الاسرائيلي البخيل:

جاء تفصيل قصّة موسى(عليه السلام) العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة.. وذكرنا الأقوال فيها، وكان الكلام إلى حد ما كافياً عليها.

وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة، وقع الكلام على مواجهة بني

[288]

إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون».

قارون هذا كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان.

وأساساً، فإنّ موسى(عليه السلام) واجه في طول حياته ثلث قوى استكبارية طاغوتية:

1 ـ «فرعون» الذي كان مظهراً للقوّة «والقدرة في الحكومة».

2 ـ «قارون» الذي كان مظهراً للثروة والمال!

3 ـ «السامري» الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة.

وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسى(عليه السلام) هي مواجهته لفرعون و«حكومته» إلاّ أَنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضاً، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير!.

المعروف أن «قارون» كان من أرحام موسى و أقاربه «ابن عمه أو ابن خالته» وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلاّ أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى(عليه السلام) وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية:

يقول القرآن في شأنه أوّلا: (إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم )وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بايمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الإنحراف والإستكبار.

يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: (وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة ).

«المفاتح» جمع «مفتح» على زنة «مكتب» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار بـ «القاصة».

فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة، بحيث

[289]

كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء (أولي القوّة ).

ومع ملاحظة كلمة «عصبة» التي تعني الجماعة المُتآزرة يداً بيد على الأمر المهم، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون، قال بعضهم: العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا.

وكلمة «تنوء» مشتقّة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الاثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه!.

وهذا الذي بيّناه في «المفتاح» اتفق عليه جماعة من المفسّرين.

في حين أنّ بعضهم يرى أنّها جمع «مفتح» على زنة «مِنْبَر» وهو المفتاح الذي تفتح به الخزائن، يقولون: إن خزائن قارون كانت من الكثرة إلى درجة إن مفاتيحها ينوء بحملها الرجال الأشداء.

والذين ذهبوا إلى هذا المعنى أتعبوا أنفسهم كثيراً في توجيهه، إذ كيف يمكن تصور عدد هذه «المفتاح» بشكل هائل حتى لا يمكن حملها إلاّ بمشقّة وعناء بالغين.. وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر وأوضح بياناً. لأنّنا وإن سلّمنا على أن «مِفتَح، بكسر الميم» تعني آلة الفتح أي «المفتاح» فإنّ أهل اللغة ذكروا لهذا الوزن (مِفتَح) معاني أُخرى منها «الخزانة» التي يجمع فيها المال، فالمعنى الأوّل أقرب للواقع وبعيد عن المبالغة. فلا ينبغي الخلط بين «المفاتح» التي تعني الخزائن. و«المفاتيح» التي تعني آلات الفتح، وهي جمع «مفتاح»(1).

فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا الصدد: (إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين (2)).


1 ـ فسّر بعضهم «المفتاح» تفسيراً آخر، وهو أنّ الإتيان بالمفتاح لحفظ الأموال وجمعها كان صعباً على الرجال الأشداء، ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً «فلا بأس بمراجعة لسان العرب لزيادة الإيضاح».

2 ـ كلمة «الفرحين» جمع الفرح، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشيء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر.

[290]

ثمّ يقدمون له أربع نصائح قيّمة أُخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له:  (لا  تفرح )

فالنصيحة الأُولى قولهم له: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) وهذا إشارة إلى أن المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهّمين، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال، وفي أي طريق ينفق، فإذا ابتغي به الدار الآخرة فما أحسنه! أو كان وسيلة للعب والهوى والظلم والتجاوز، فلا شيء أسوأ منه!

وهذا هو المنطق الذي ورد على لسان أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلام معروف «من أبصر بها بصَّرته ومن أبصر إليها أعمته» (1).

وكان قارون رجلا ذا قدرة على الأعمال الإجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.

والنصيحة الثّانية قولهم له: (ولا تنس نصيبك من الدنيا ) والآية تشير إلى مسألة واقعيّة، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة!... فالإنسان... كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ ولم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟! وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟!

فالباقي ـ إذن ـ رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.

وما أجمل قول الإمام علي(عليه السلام) : «يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك» (2).

وهناك تفسير آخر لهذه الجملة في الرّوايات الإسلامية وكلمات المفسّرين،


1 ـ نهج البلاغة، خطبة 82.