![]() |
![]() |
![]() |
واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل، أنّها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم: بل هي منطقة على مقربة من «الشام».
وحيث أنّ هذا الموضوع لا تأثير له في الأُمور الأخلاقية والتربوية «للآية» لذلك لم تتطرق له الآية الكريمة.
وهناك ـ ضمناً ـ جدلٌ بين كثير من المفسّرين في أن الإنس والجن والطير،
هل كانوا جميعاً من جنود سليمان؟ فتكون (من) في الآية بيانية، أو أن قسماً منهم كان يؤلف جيشه وجنوده فتكون (من) تبعيضية.. ويبدو أن هذا بحث لا طائل تحته... لأنّ سليمان ـ دون أدنى شك ـ لم يكن حاكماً على وجه البسيطة كلها، بل كانت منطقة نفوذه وحكومته منطقة الشام وبيت المقدس، وقد يدخل بعض ما حولهما تحت سلطته وحكومته!.
كما يستفاد من الآيات التالية أنّه لم تكن له بعدُ سلطة على اليمن أيضاً.. وإنّما صارت اليمن تحت نفوذه بعد قصّة الهدهد و«تسليم ملكة سبأ» وإذعانها له.
وجملة (وتفقد الطير ) في الآيات التالية، تدلّ على أن هُدهداً واحداً كان ضمن الطير التي كانت تحت أمر سليمان، بحيث أنّه لما افتقده سأل عنه، فلو كانت الطيور جميعها تحت أمره وفيها آلاف الهداهد، لكان هذا التعبير غير صحيح «فتأملّوا بدقة» .
وعلى كل حال، فإنّ سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم (حتى أتوا على وادي النمل ).
فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة، كما تقول الآية: (قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون )(1).
ولنا كلام يسأتي ـ إن شاء الله ـ في كيفية اطّلاع النملة ومعرفتها بحضور سليمان وجنوده في تلك المنطقة، وكيف أوصلت صوتها إلى بقية النمل؟.
ويستفاد ضمناً من جملة (لا يشعرون ) أن عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأنّ مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم. (فتبسم ضاحكاً من قولها ).
هناك كلمات مختلفة عند المفسّرين في الشيء الذي أضحك سليمان،
1 ـ قال بعض المفسّرين: إن (التاء) في النملة للوحدة، وتأنيث الفعل مراعاة لظاهر الكلمة!..
والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان، بحيث تُحذّر نملة صويحباتها من النمل... تحذرهنّ من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون: فضحك من أجلها!
وقال بعضهم: كان ضحك سليمان سروراً منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.
وقال بعضهم: كان ضحكه وتبسمه لأنّ الله أعطاه هذه القدرة، وهي أنّه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنّه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.
وعلى كل حال، فإن سليمان توجه نحو الله.. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله (وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي )(1).
أي، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك، ولا أنحرف عن طريق الحقّ.. فإن أداء شكر هذه النعم لا يكون إلاّ بتوفيقك وإعانتك. (وأن أعمل صالحاً ترضاه ) وهو يشير إلى أن بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه، بل المهم أن يؤدي عملا صالحاً يرضي به ربّه، وحيث أن «أعمل» فعل مضارع فهو دليل على طلب استمرار التوفيق من قبل الله له.
والطلب الثّالث الذي طلبه سليمان من ربّه، كما حكته الآية، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )..
* * *
1 ـ «أوزعنى» من مادة (إيزاع) ومعناه «الإلهام»، أو المنع عن الإنحراف، أو إيجاد العشق والتعلق، إلاّ أن أغلب المفسّرين اختاروا المعنى الأوّل.
ليس لنا كثيرُ معرفة بعالم الحيوانات... وما يزال الغموض أو الإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله، بالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.
إنّنا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها.. فبناء خلايا النحل بشكلها المنظّم الدقيق، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدوّ، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض، والعثور على بيوتها وأوكارها من الاماكن البعيدة، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها... وتوقّعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.
كل هذه الأُمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيراً من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلّها!.
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ كثيراً من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية... يعجز عنها حتى الانسان.
إلاّ أنّه ليس من الواضح أنّ هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس!.. ترى هل تعلم الحيوانات واقعاً: من نحن؟! وما نعمل؟ وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاءً بهذا المستوى، إلاّ أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها.
فعلى هذا الحساب إذا كنّا قرأنا في القصّة السابقة.. أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده، وحذر من البقاء، وأنّه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده.. وسليمان عرف هذا الموضوع تماماً.. فلا مجال للعجب.
ثمّ بعد هذا فإن حكومة سليمان ـ كما قلنا آنفاً ـ كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسّرين اعتقادهم بأن هذا
المستوى من الإطلاع والمعرفة ـ من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان، هو بنفسه إعجاز خارق للعادة، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور والقرون.
والغرض أنّه لا دليل عندنا على حمل قصّة سليمان والنمل، أو سليمان والهدهد، على الكناية أو لسان الحال، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي(1)!
إن واحدةً من أفضل العلامات لمعرفة الحكام الإلهيين وتمييزهم عن الحكام الجبابرة، هي أن الجبابرة حين يصلون إلى القدرة يغرقون في الغرور والغفلة، وينسون القيم الإنسانية كلّها... ويندكّون بشدّة في أنانيتهم!
إلاّ أن الحكام الإلهيين حين ينالون القدرة يحسّون بأعباء المسؤولية.. فيتوجهون نحو الله أكثر من أي وقت مضى، ويسألونه العون والقدرة على أداء رسالتهم... كما أن «سليمان» بعد أن وصل إلى تلك القدرة. كان أهم شيء عنده أن يسأل الله الشكر على نعمه، والإفادة من هذه المواهب في مسير رضاه وسعادة عباده!.
وممّا يلفت النظر أن يبدأ طلبه بعبارة (أوزعني ) ومفهومه الإلهام الوجداني وإعداد القوى الباطنية كلها لأداء هذا الهدف الكبير. ومعناها: اللّهم تفضل علي بقدرة وطاقة تجعلني أعبىءُ كل قواي الداخلية لأداء شكرك، وأداء ما عليّ من مسؤولية.. ودلّني على السبيل إليك، لأنّ الطريق طويل صعب محفوف
1 ـ تحدثنا في تفسير الآية (38) من سورة الأنعام عن هذا الشأن أيضاً..
بالمخاوف والمخاطر.. طريق أداء حقوق جميع الناس في مثل هذه الحكومة الواسعة.
إنّه لا يطلب الإيزاع على شكر نعم الله عليه فحسب، بل يطلب في الوقت ذاته أن يؤدي الشكر على المواهب والنعم التي أنعمها الله على والديه... لأنّ كثيراً من مواهب وجود الإنسان يرثها عن والديه... وممّا لا شك فيه أن الإمكانات التي يمنحها الله للوالدين تعين الأبناء كثيراً في سبيل الوصول لأهدافهم.
ممّا يلفت النظر أن سليمان رغم حكومته وسلطنته التي لا نظير لها، وتلك القدرة الواسعة، إلاّ أنّه يطلب من الله يوفقه للعمل الصالح باستمرار، وأهم من ذلك وأسمى أن يكون في زمرة عباده الصالحين.
ويستفاد من هذا التعبير:
أوّلا: أنّ الهدف النهائي من نيل القدرة هو أداء العمل الصالح، العمل الجدير القيّم... وكل ما سواه يعدّ مقدمة له!.
والعمل الصالح مقدمة ـ أيضاً ـ لنيل رضا الله ـ الذي هو الهدف النهائي وغاية الغايات.
ثانياً: أنّ الدخول في زمرة «الصالحين» مرحلة أسمى من مرحلة أداء العمل الصالح، لأنّ الأوّل يعني صلاح الذات، والثّاني صلاح العمل «لاحضوا بدقّة».
وبتعبير آخر: قد يقوم الإنسان بعمل صالح، إلاّ أن هذا المعنى لا يعدّ جزءاً من ذاته وروحه ونسيج وجوده، فسليمان(عليه السلام) يطلب من الله أن يشمله بعنايته إلى درجة يتجاوز بها مرحلة كونه يعمل صالحاً، لينفد الصلاح إلى أعماق وجوده وروحه، ولا يمكن تحقق هذا إلاّ برحمة الله.
فكم هو عزيز وغال أن يكون الإنسان عبداً صالحاً لله، بحيث يطلب سليمان من ربّه أن يدخله في عباده الصالحين، على الرغم من جاهه وحشمته وجلاله الذي لا يشك فيها أحد، وأن يحفظه الله من العثرات والزلات في كل آن، وخاصّة ما قد يصدر من الانسان وهو على رأس هيئة عظيمة وتشكيلات واسعة!
* * *
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مالِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغآئِبِينَ (20) لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدَاً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّى بِسُلْطَـنِ مُّبِين (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأِ بِنَبَأ يَقين (22) إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَـا وَقَومَهَا يِسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ (24) ألاَ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمان(عليه السلام)المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ.
فيقول أوّلا: (وتفقّد الطير ).
وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء، حتى لو كان طائراً واحداً.
وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهُدهد، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام (وقال ما لي لا أرى الهُدهد أم كان من الغائبين ).
وهناك كلام بين المفسّرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.
فقال بعضهم: كان سليمان(عليه السلام) عندما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.
وقال بعضهم: كان الهدهد مأموراً من قبل سليمان بالتقصيّ عن الماء كلما دعت الحاجة إليه... وعندما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرّة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.
وعلى كل حال، فهذا التعبير (ما لي لا أرى الهُدهد ) ثمّ قوله: (أم كان من الغائبين )لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أولغير عذر؟
وعلى أيّة حال، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شىء يجري داخل اطار الدولة تحت نظرها ونفوذها.. حتى وجود طائر واحد وغيابه، لابدّ أن لا يخفى عن علمها و نظرها... وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.
ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهُدهد على بقية الطيور، فضلا عن الاشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف «سليمان» قائلا: (لأُعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ).
والمراد من «السلطان» هنا هو الدليل الذي يتسلط به الإنسان من أجل إثبات قصده، وتأكيد هذا اللفظ بـ «مبين» هو أنّه لابد لهذا الفرد المتخلف من
إقامة دليل واضح وعذر مقبول لتخلفه!
وفي الحقيقة فإنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلّف... وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب... مرحلة العقاب بما دون الاعدام، ومرحلة العقاب بالإعدام.
وقد برهن «سليمان» ضمناً أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعوّل على القوّة والقدرة أبدا.
ولكن غيبة الهدهد لم تطل (فمكث غير بعيد ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: (فقال أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ).
وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم، أخبره أوّلاً بخبر مقتضب مهم الى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه، برغم ما عنده من علم، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان، فصّلَ الهدهد له الخبر، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ جنود سليمان ـ حتى الطيور الممتثلة لأوامره ـ كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول: (أحطت بما لم تحط به ).
فتعامل الهدهد «وعلاقته» مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة.. إذ يتملقون في البدء مدة طويلة، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبداً، بل يكنّون كنايةً أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.
أجل، إنّ الهُدهد قال بصراحة: غيابي لم يكن اعتباطاً وعبثاً... بل جئتك بخبر يقين «مهم» لم تحط به!
وهذا التعبير درس كبير للجميع، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد
يعرف موضوعاً لا يعرفه أعلم من في عصره، لئلا يكون الإنسان مغروراً بعلمه... حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.
وعلى كل حال، فإنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال: (إنّى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ).
لقد بيّن الهُدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته!
فقال أوّلاً: إنّه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات، والآخر إنّني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم، والثّالث: لها عرش عظيم ـ ولعله أعظم من عرش سليمان ـ لأنّ الهدهد كان رأى عرش سليمان حتماً، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنّه عظيم.
وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنّه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت «نفوذ أمرك وحكومتك»! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم...
ولما سمع سليمان(عليه السلام) كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلاّ أن الهُدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد.. خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم ) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق (فصدهم عن السبيل ).
وقد غرقوا في عبادة الاصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم (فهم لا يهتدون ).
وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضاً، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروّج عبادة الشمس... والناس على دين ملوكهم.
معابدهم وأوضاعهم الأُخرى تدل على أنّهم سادرون في التيه، ويتباهون
بهذا الضلال والإنحراف، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد، فمن البعيد إمكان هدايتهم.
ثمّ أضاف الهُدهد قائلا: (ألاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون )(1).
وكلمة «خَبء» على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض، أي: لِمَ لا يسجدون لله الذي يعلمُ غيب السماوات والأرض وما فيهما من أسرار؟!
وما فسّره بعضهم بأن الخبء في السماوات هو الغيث، والخبء في الأرض هو النبات، فهو ـ في الحقيقة ـ من قبيل المصداق البارز.
والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلاً عما خفي في السماوات والأرض، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!.
إلاّ أنّه لِمَ استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره و صغيره؟!
لعل ذلك لمناسبة أن سليمان ـ بالرغم من جميع قدرته ـ كان يجهل خصائص بلد سبأ، فالهدهد يقول: ينبغي الإعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.
أو لمناسبة أنّه ـ طبقاً لما هو معروف ـ للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض... لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.
وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا (الله لا اله إلاّ هو ربّ العرش العظيم ).
1 ـ كلمة «ألاّ» مركبة من (أن ولا) كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسّرين، وهي متعلقة بجملة (فصدهم) أو «زين لهم الشيطان» وقدروا لها اللام فتكون الجملة هذا النحو من التقدير «صدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله» إلاّ أن الظاهر أن (ألاّ) حرف تحضيض ومعناه (هلاّ) وكما قلنا في المتن فإنّ هذه الجملة من كلام الهدهد تعقيباً على ما سبق، وإن كان هناك من يقول بأنها استثنافية وإنها من كلام الله..
وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى «توحيد العبادة» و«توحيد الرّبوبية» لله تعالى. مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.
* * *
ما قرأناه في هذا القسم من الآيات، فيه لطائف كثيرة ومسائل دقيقة، يمكن أن يكون لها كبير الأثر في حياة الناس وسياسة الحكومات جميعاً.
1 ـ فرئيس الحكومة أو المدير العام، ينبغي عليه أن يكون دقيقاً في دائرته أو تشكيلاته التنظيمية، بحيث يتابع حتى غياب الفرد الواحد ويتفقده!
2 ـ أن يراقب تخلف الفرد، وأن يتخذ الحكم الصارم، لكيلا يؤثر غيابه على الآخرين.
3 ـ لا ينبغي أن يُصدر حكماً غيابياً أبداً دون أن يمنح المتخلف الفرصة للدفاع عن نفسه، مع الإمكان.
4 ـ ينبغي أن يجعل لكل جريمة عقاباً مناسباً... وأن يكون العقاب بمقدار الذنب، وأن يراعي سلسلة مراتبه.
5 ـ أن على أي شخص ـ حتى لو كان أكبر الناس، أو بيده أعظم المسؤوليات والقدرة الإجتماعية ـ أن يذعن للمنطق والدليل حتى ولو صدر من فم أضعف الخلق!.
6 ـ ينبغي أن تحكم الصراحة في محيط المجتمع، وأن يتمتع أفراده بالحرية بحيث يستطيع الواحد منهم عند اللزوم أن يقول لرئيس الحكومة: (أحطت بما لم تُحط به )!
7 ـ من الممكن أن يكون أقل ا لأفراد على اطلاع ومعرفة، في حين أنّ أكبر
العلماء وأصحاب النفوذ غير مطلعين، لكيلا يغتر أىّ إنسان بعلمه!
8 ـ في المجتمع البشري حاجات وضرورات متبادلة، بحيث قد يحتاج أكبر شخص فيه ـ كسليمان مثلا ـ إلى مساعدة أدنى شخص حتى ولو كان مثل الهدهد!
9 ـ بالرغم من أن في النساء قابليات كثيرة! وقصّة سليمان نفسها حاكية عن أن ملكة سبأ كانت تتمتع بدراية كبيرة وفهم عال، إلاّ أنّ قيادة الحكومة لا تتلاءم مع حالة المرأة وروحها وجسمها، بحيث يتعجب الهدهد من هذه المسألة ويقول: (إنّي وجدت امرأة تملكهم )!
10 ـ أغلب الناس على دين ملوكهم.. لذلك نقرأ في هذه القصّة أن الهدهد يقول في شأن الملكة وقومها: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ).
يتحدث الهدهد أولا عن سجودها ثمّ عن سجود قومها.
للمفسرين هنا بعض الأسئلة، ومنها: كيف لم يُحط سليمان(عليه السلام) بمثل هذه البلدة مع ما لديه من علم وإمكانات وفيرة في حكومته؟.
ثمّ كيف طوى الهدهد هذه المسافة بين اليمن ومركز حكومة سليمان الّذى كان في الشام «على ما يظهر»؟
وهل كان الهدهد قد ضل الطريق ثمّ اهتدى إلى ذلك المكان، أو كان له غرض آخر؟!
أمّا في ما يخص السؤال الأوّل فيمكن أن يُجاب عنه بأن سليمان(عليه السلام) كان ذا علم بوجود هذه البلدة، إلاّ أنّه لم يعرف خصائصها، ثمّ إن صحراء الحجاز كانت تفصل بين اليمن والشام، ولم تكن وسائل المواصلات بين البلدان يومئذ كما هي
عليه في يومنا هذا «وبالطبع فإنّ علمه عن طريق الغيب والإلهام الإلهي موضوع آخر».
وأمّا قطع المسافة من قبل الهدهد، فأنّها لم يكن عسيرة عليه.. لأنّنا نعرف بعض الطيور التي تقطع المسافة بين القطبين.. والفاصلة بين الشام واليمن إزاء تلك المسافة لا تعدّ شيئاً.
وأمّا مجيء الهدهد إلى سبأ فكان ـ كما تقول بعض التواريخ ـ أنّ سليمان عزم على زيارة بيت الله الحرام، فتوجه من الشام ليؤدي مناسك إبراهيم(عليه السلام) «أى الحج»، وفي مسيره رغب في السير نحو الجنوب، فواصل منطقةً لا تبعد عن اليمن كثيراً.. فاغتنم الهدهد الفرصة عندما استراح سليمان في تلك المنطقة وجاء إلى قصر ملكة سبأ فرأى ما رأى من المشهد المثير العجيب(1).
* * *
1 ـ لا بأس بمراجعة دائرة المعارف لمحمّد فريد وجدي، ج 10، ص 470 مادة «الهدهد» بالرغم من أن الرّواية المذكورة هناك لم تخل من المبالغات!..
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَـذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَـبِى هَذا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُون (28) قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إلَىَّ كِتَـبٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَـنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَاَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّة وَأُولُوا بَأس شَدِيد وَالاَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِى مَاذَا تَأمُرِينَ (33) قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفَسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهآ أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
لقد أصغى سليمان(عليه السلام) إلى كلام الهُدهد بكل اهتمام.. وفكّر مليّاً، ولعل سليمان كان يظنُّ أن كلام الهدهد صحيح، ولا دليل على كذب بهذا الحجم.. لكن
حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة «ساذجةً» بسيطة، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمّة كبيرة!.. فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ).
وهذا الكلام يثبت بصورة جيدة أنّه يجب الاهتمام في المسائل المصيرية المهمّة، حتى لو أخبر بها «فردٌ» صغير، وأن يُعجّل في التحقيقات اللازمة «كما تقتضيه السين» في جملة «سننظر»!
سليمان(عليه السلام) لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب.. ولم يُصدّق كلامه دون أىّ دليل... بل جعله أساساً للتحقيق!
وعلى كل حال،فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق، وسلّمه إلى الهدهد وقال له: (اذهب بكتابي فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون )(1).
يستفاد من التعبير (ألقه إليهم ) أن يلقي الكتاب عندما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان.، ومن هنا يتّضح أن ما ذهب إليه بعض المفسّرين بأن الهدهد ذهب إلى قصر ملكة سبأ ودخل مخدعها وألقى الكتاب على صدرها أو حنجرتها ـ لا يقوم عليه دليل ـ وإن كان متناسباً مع الجملة التي وردت في الآية التالية (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم ).
ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان، واطّلعت على مضمونه، وحيث أنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه، ومحتوى الكتاب يدلّ على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ»، لذلك فكّرت مليّاً، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمّة تستشير من حولها، لذلك فقد دعتهم وتوجهت إليهم و(قالت يا أيّها الملأ إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم ).
1 ـ قال بعض المفسّرين: إن جملة «ثمّ تول عنهم» مؤخرة معنىً، وإن تقدمت في العبارة، وأصلها هكذا: فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم... وإنّما قدروا ذلك لأنّ تولّ عنهم معناه العودة والرجوع، مع أن ظاهر الآية أنّه ألق الكتاب واعرض عنهم وانتظر في مكان مشرف لترى رد فعلهم!..
ترى، حقّاً أن ملكة سبأ لم تكن رأت «حامل الكتاب»، إلاّ أنّها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلا ومفترى أبداً..؟!
أم أنّها رأت الرّسول بأُم عينيها، ورأت كيفية وصول الكتاب المدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمّة، ومهما كان الأمر فإنّها عوّلت على الكتاب بكل اطمئنان؟.
وقول الملكة: (إنّي ألقي إلي كتاب كريم ) «أي قيم» لعله لمحتواه العميق، أو لأنّه بُدىء باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح(1). أو لأنّ مرسله رجل عظيم، وقد احتمل كل مفسّر وجهاً منها ـ أو جميعها ـ لأنّه لا منافاة بينها جميعاً. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.
صحيح أنّهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس، إلاّ أننا نعرف أن كثيراً من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله ـ أيضاً ـ ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.
ثمّ إن «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت: (إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا علي وأتوني مسلمين )(2).
ومن البعيد ـ كما يبدو ـ أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات «وهذه الألفاظ العربيّة». إذاً فالجمل الآنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى، أو أنّها خلاصة ما كان كتبه سليمان، وقد أدّتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.
1 ـ ورد في الحديث أن كون الكتاب كريماً هو بخاتمه «تفسير مجمع البيان والميزان والقرطبي». وجاء في حديث آخر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب رسالة للعجم، فقيل له: إنّهم لا يقبلونها إلاّ بالخاتم، فأمر النّبي أن يصنع له خاتم ونقشه «لا اله إلاّ الله محمّد رسول الله» وختم الرسالة أو الكتاب بذلك الخاتم «القرطبي ذيل الايات محل البحث».
2 ـ جملة «ألاّ تعلوا علي» يمكن أن تكون بمجموعها بدلا من (كتاب) وبيان لمحتواه. كما يمكن أن تكون (أن) تفسيرية فهي هنا بمعنى (أي) ـ كما يحتمل أن (أن) تكون متعلقة بمحذوف وتقديره: أوصيكم ألا تعلوا الخ..
الطريف أن مضمون هذا الكتاب لم يتجاوَز في الواقع ثلاث جمل:
الأولى: ذكر «اسم الله» وبيان رحمانيّته ورحمته.
الثّانية: الأمر بترك الإستعلاء والغرور.. لأنّ الإستعلاء مصدر المفاسد الفرديّة والإجتماعيّة.
والثّالثة: التسليم والإذعان للحق.
وإذا أمعنا النظر لم نجد شيئاً آخر لابدّ من ذكره.
وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها... التفتت إليهم و (قالت يا أيّها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون ).
لقد أرادت الملكة بهذه الإستشارة تقوية مركزها في قومها، وأن تلفت أنظارهم إليها، كما أرادت ضمناً أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تُقدم عليه من تصميم.
كلمة «أفتوني» مشتقّة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة... فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بصعوبة المسألة أوّلا، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ليتجنبوا الخطأ ثانياً.
«تشهدون» مأخوذ من مادة «الشهود»، ومعناه الحضور... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة!.
فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها فـ (قالوا نحن أُولوا قوّة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ).
وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها... كما أبدوا رغبتهم في الإعتماد على القوّة والحضور في ميدان الحرب.
![]() |
![]() |
![]() |