هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضاً ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادةً إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي، للدلالة على تحققه قطعاً وحتماً.

 

* * *

 

 

 

[365]

 

 

 

 

الآيات

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاِّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَـهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَـناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّـصِرِينَ (25) فَأَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهِاجِرٌ إِلَئ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ وَءاتَيْنَـهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاَْخِرَةِ لَمِّنَ الصَّـلِحِينَ (27)

 

التّفسير

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم:

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيم(عليه السلام) ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعاً ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه! ).

[366]

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار، في حين كانت جماعة أُخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيراً رُجح الرأىُ الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الاحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضاً أنّهم جميعاً كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية، غير أنّهم اتفقوا أخيراً على إحراقه بالنّار، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم(عليه السلام) بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو (فأنجاه الله من النّار ).

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات 68 ـ 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة، بل علائم وآيات... فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة، وتبدل النّار إلى روضة و«سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أُخرى، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضاً.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أُولئك المظلمة قلوبهم، آية من آيات الله، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما اُلقي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدوداً وموثقاً به(1).


1 ـ تفسير روح المعاني، ج 20، ص 130.

[367]

أجل، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الاسر، فتحرر إبراهيم(عليه السلام) منها... وهذه بنفسها تعدُّ آية أُخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله: (جعلناها آية ) بصيغة الإفراد، ولكنّه عبّر هنا بقوله: (لآيات ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيم(عليه السلام) نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه.. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة (ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين ).

كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق:

الأوّل: أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية، فصنم «العزّى» كان لقريش، و«اللاّت» كان خاصاً بثقيف، أمّا «منات» فكان خاصاً بالأوس والخزرج!.

الثّاني: أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين اسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون: إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(1) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.


1 ـ «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

[368]

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر، ويلعنه ويتبرأ. منه ومن عمله، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله، وكانوا يقولون في شأنها (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى (1) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية 82 يقول: (كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ).

فعلى هذا، يكون المراد من قوله تعالى: (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم، وما كان أساساً لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة.. كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (67) من سورة الزخرف فيقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين ).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان، بل هو لجميع أُولئك الذين اختاروا «إماماً باطلا» لأنفسهم، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة، ففي يوم القيامة يكونون أعداءً فيما بينهم، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً.(2) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً.. حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة.. في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً(3).

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم، إذ تقول:


1 ـ سورة الزمر، الآية 3.

2 ـ أصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 154.

3 ـ كتاب الصدوق، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص154.

[369]

(فآمن له لوط ).

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم(عليه السلام)» وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد اُمّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصةً ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم(عليه السلام)، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون، فإنّ ذلك ليس مهمّاً.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيم(عليه السلام) فتقول: (وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم ).

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما، ويكون هذا المحيط ملوثّاً وتحت تأثير الجبابرة، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أُخرى لتتسع دعوة الله في الإرض!.

فلذلك تحرك ابراهيم(عليه السلام) وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيم(عليه السلام) يقول في هذا الصدد: (إنّي مهاجر إلى ربي )لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله، طريق رضاه، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى: (وقال إنّي مهاجر ) عائد على لوط(عليه السلام)، أي إنّ لوطاً قال: إنّي مهاجر إلى ربّي، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضاً، إلاّ أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيم(عليه السلام)، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

[370]

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيم(عليه السلام) في الآية (99) من سورة الصافات (إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين ). (1)

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم(عليه السلام) بعد الهجرة العظيمة:

الموهبة الأولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: (ووهبنا له إسحق ويعقوب ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيم(عليه السلام)محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية: (وجعلنا في ذريّته النّبوة والكتاب ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام) واُسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) متعاقبون من ذرية إبراهيم، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة: (وآتيناه أجره في الدنيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أُمور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأُمم، لأنّ الأُمم كلها تحترم ابراهيم(عليه السلام) على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة: هي (إنّه في الآخرة من الصالحين ) وهكذا تشكّل هذه


1 ـ هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيم(عليه السلام) من بابل إلى الشام في ذيل الآية (71) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل، فلا بأس بمراجعته.

[371]

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ أكبر الفخر!...

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيراً من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسف(عليه السلام) بعد وصوله إلى أبرز الإنتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول: (توفني مسلماً والحقني بالصالحين ).(1)

وكذلك نبيّ الله سليمان(عليه السلام) مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة، يطلب من الله (أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )(2)

وشعيب(عليه السلام)، ذلك النّبي العظيم، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له: (ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).(3)

وإبراهيم(عليه السلام) أيضاً يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين (ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ).(4)

كما يطلب من الله أن يرزقه أبناءً صالحين فيقول: (ربّ هب لي من الصالحين ).(5)


1 ـ سورة يوسف، الآية 101.

2 ـ سورة النمل، الآية 19.

3 ـ سورة القصص، الآية 37.

4 ـ سورة الشعراء، الآية 83.

5 ـ سورة الصافات، الآية 100.

[372]

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبداً صالحاً.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى: ما معنى أن يكون الإنسان صالحاً؟!

معناه: أن يكون جديراً بالاعتقاد والإيمان، جديراً بالعمل، جديراً بالقول، جديراً بالاخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحياناً ـ في مقابل الفساد، ويستعمل ـ أحياناً ـ في مقابل السيئة، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

 

2 ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين: إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة.. هي أنّ الله بدل جميع الأُمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الإستياء، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار، فتبدلت روضة وسلاماً.

وأرادوه أن يبقى منفرداً معزولا عن الناس، فوهب الله له أُمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابداً للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناءً مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيم(عليه السلام) في بداية حياته مال ولا جاه، فوهب له الله مالا وجاهاً عظيماً.

[373]

وكان إبراهيم(عليه السلام) في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه (قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم ).

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(1).

 

* * *


1 ـ تفسير الرازي، بشيء من التصرف.

[374]

 

 

 

 

الآيات

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتأتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَنْ قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

 

التّفسير

المنحرفون جنسياً:

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيم(عليه السلام) يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»(عليه السلام) فيقول: (ولوطاً إذْ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين )(1).

«الفاحشة» كما بيناها من قبل، مشتقّة من مادة «فَحَشَ» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية،والمراد بها هنا الإنحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة (ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) بصورة جليّة أن


1 ـ يمكن أن تكون كلمة «لوطاً» عطفاً على كلمة (نوحاً) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطاً».

[375]

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أُمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحداً من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوماً بخلاء جداً، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الإنحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم، إلاّ أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح، وقويت فيهم رغبة اللواط، فسقطوا في الوحل المخزي شيئاً فشيئاً.

على كل حال، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبداً (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثالهم! ).

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضاً.

لوط(عليه السلام) هذا النّبي العظيم، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه (أإنّكم لتأتون الرجال ) أفتريدون أن تقطعوا النسل (وتقطعون السبيل )(1).

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة (وتأتون في ناديكم المنكر ).

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم.. لكنّها قطعاً كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي.. وكما ورد في


1 ـ يرى جماعة من المفسّرين وجوهاً واحتمالات أُخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الإلتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقاً غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر، لأنّ واحداً من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

[376]

بعض التواريخ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار، وأو يعبثون كاالاطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة... الخ(1).

في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسراً لمعنى: (وتأتون في ناديكم المنكر ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه» (2)أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النّبي لوط(عليه السلام) المنطقية.

يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ).

أجل هكذا، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والإستهزاء إزاء دعوة لوط(عليه السلام) المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيداً من هذا الجواب أنّ لوطاً(عليه السلام) كان قد هدّدهم بعذاب الله، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح، إلاّ أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب، فقالوا: (ائتنا بعذاب الله ) على سبيل الإستهزاء والسخرية!!... كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (36) بقوله تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ).

ويستشف ـ ضمناً ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوط(عليه السلام) ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!


1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 517.

2 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

[377]

وهنا لم يكن للوط(عليه السلام) بدّ إلاّ أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم... و(قال ربّ انصرني على القوم المفسدين ).

القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، وسحقوا العدل الإجتماعي تحت أقدامهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

 

ملاحظة

بلاء الإنحراف الجنسي:

الإنحراف الجنسي ـ سواءً كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الإنحرافات الأخلاقية، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساساً فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قُدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوماً بعد يوم، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو«السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

[378]

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسياً يبتلون بضعف جنسي شديد،  ولا  يستطيعون أن يكونوا آباءً وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الإنحراف».

إن المنحرفين جنسياً يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضاً، كما يبتلون بنفصام الشخصية، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أُخرى ـ حرّم الإسلام الإنحراف الجنسي تحريماً شديداً بأي شكل كان وفي أية صورة، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقاباً صارماً يبلغ أحياناً إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيراً من الفتيان والفتيات إلى الإنحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال، وتبدأ من هنا قضية الإنحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال، وتأخذ شكلاً قانونياً بحيث يعدون هذا الأمر عادياً لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة، ولا يسع القلم إلاّ أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(1).

 

* * *

 


1 ـ كان لنا في صدد الإنحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (81) سورة هود...

[379]

 

 

 

 

الآيات

وَلَمَّآ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُوآاْهْلَ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظََـلِمِينَ (31) قَالَ اِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (32) وَلَمَا أَنْ جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَـذهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسِقُونَ (34) وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (35)

 

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين:

لقد أستجيب دعاءُ لوط أخيراً، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم(عليه السلام) لأداء رسالة أُخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب، هي بشارتهم لإبراهيم(عليه السلام) بالوَلد: «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

[380]

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيم(عليه السلام) فتقول: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ).

والتعبيربـ «هذه القرية» يدل على أن مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم(عليه السلام)

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و(قال إنّ فيها لوطاً ).

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلاّ أنّهم أجابوه على الفور، (قالوا نحن أعلم بمن فيها ) فلا تحزن عليه، لأننا لا نحرق «الأحضر واليابس» معاً، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً... ثمّ أضافوا (لننجينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين ).

ويستفاد من هذه الآية جيداً أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضاً... كما نقرأ مثل ذلك في الآية (36) من سورة الذاريات: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين... غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الإنفصال!.

[381]

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة، ولا يبعد أن يكون هذا الإنحراف متأثراً بسبب محيطها... وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوط(عليه السلام) في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث، ما عدا لوطاً وأهله، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

هنا ينقدح هذا السؤال: ترى هل كان «إبراهيم» يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطاً، فأظهر تأثره أمام الملائكة، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!

والجواب الواضح على هذا السؤال، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة، وإنّما سأل ليطمئن قلبه، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير «ليطمئن قلبه».