ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول: (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )(1).

طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر، فالإنسان الذي يقف للصلاة، ويكبّر، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم، ويذكر يوم الجزاء «يوم الدين» ويعترف بالعبودية له، ويطلب منه العون، ويستهديه الصراط المستقيم، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم، ويلتجىء إليه (مضمون سورة الحمد).

فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ، واندفاع نحو الطهارة، ونهوض نحو التقوى.

يركع لله.. ويضع جبهته على الأرض ساجداً لحضرته، ويغرق في عظمته، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعاً.

ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبي(صلى الله عليه وآله).

ويصلي ويسلم على نبيّه، ويرفع يديه متضرعاً بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.

جميع هذه الأُمور تمنح وجوده موجاً من المعنوية، وتكون سداً منيعاً بوجه الذنوب.

ويتكرر هذا العمل عدة مرّات «ليل نهار» فحين ينهض صباحاً يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه..


1 ـ بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (90) من سورة النحل في عبارة موجزة، وقلنا: إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

[401]

وعند منتصف النهار وبينما هو غارق في حياته المادية يفاجأ بصوت تكبير المؤذن، فيقطع عمله ويسرع إلى حضرته، بل في آخر النهار بداية الليل أيضاً وقبل أن يدلف إلى فراش الدعة والراحة، يدعوه ويطلب منه حاجته، ويجعل قلبه مركز أنواره.

وبغض النظر عن كل ما تقدم فإنّ الإنسان حين يتهيأ لمقدمات الصلاة، يطهّر بدنه ويبعد عنه مسائل الحرام والغصب، ويتجه إلى الحبيب، فكلّ هذه الأُمور لها تأثير رادع لنوازع الفحشاء والمنكر.

غاية ما في الأمر أنّ كل صلاة ـ بحسب شروط الكمال وروح العبادة لها ـ أثر رادع ناه عن الفحشاء والمنكر، فتارة تنهى نهياً كليّاً وأُخرى جزئياً.. ومحدوداً.

ولا يمكن لأحد أن يصلي ولا تدع الصلاة فيه أثراً حتى لو كانت الصلاة صورية، وحتى لو كان ملوّثاً بالذنب! وبالطبع فإنّ مثل هذه الصلاة قليلة الفائدة ومثل هؤلاء الأفراد لو لم يصلّوا صلاةً كهذه لكانوا أسوأ ممّا هم عليه.

ولنوضّح أكثر فنقول: النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

وممّا بيّناه آنفاً يتّضح أن تخبط بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية، وانتخاب تفسيرات غير مناسبة لا وجه له! وربّما فسّروها بتفسير غير مناسب، لأنّهم رأوا بعض الناس يصلون ويرتكبون الذنوب، ففسّروا الآية في معناها المطلق دون سلسلة المراتب، وأخذوا يشكّون ويترددون، فاختاروا طرقاً أُخرى في تفسير الآية.

فمنها ما قاله بعضهم: من أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام الإنسان مشغولا بها . وهذا كلام عجيب، إذ لا تتميز الصلاة بهذا وحدها، فكثير من الأعمال على هذه الشاكلة.

[402]

وقال بعضهم: إنّ أعمال الصلاة وأذكارها بمثابة عبارات وجمل، كل جملة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فمثلا كل من التكبير والتهليل والتسبيح.. كلٌّ منها يقول للإنسان: لا تذنب ولكن هل أنّ هذا الإنسان يصغي لهذا النهي أم لا... فهذا أمر آخر.

ولكن من ذهب الى هذا التّفسير، غفل عن هذه الحقيقة، وهي أن النهي هنا ليس نهياً تشريعياً فحسب، بل هو نهي تكويني، فظاهر الآية أنّ الصلاة لها أثر ناه، والتّفسير الأصيل هو ما قدمناه ذكره وبيانه آنفاً.

وبالطبع فلا مانع من القول أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نهياً تكوينياً ونهياً تشريعياً أيضاً.

 

«أحاديث» ينبغي الإلتفاتُ إليها

1 ـ في حديث عن ا لنّبي الأكرم محمّد(صلى الله عليه وآله) ورد أنّه قال: «من لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً». (1)

2 ـ وفي حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر» (2).

3 ـ كما نقرأ في حديث ثالث عنه(صلى الله عليه وآله) أنّ شاباً من الأنصار أدّى الصلاة معه، ولكنّه كان ملوثاً بالذنوب القبيحة، فأخبروا النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال: «إن صلاته تنهاه يوماً» (3).

4 ـ هذا الأثر للصلاة له أهمية قصوى إلى درجة أنّنا نجده في الرّوايات الإسلامية معياراً لقبول الصلاة وعدمها، إذ ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:


1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مح البحث «والحديث الثّاني يشعر بالنهي التشريعي».

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[403]

«من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! فبقدر ما منعته قبلت منه!»(1).

ويقول القرآن تعقيباً على ما ذكره ومن شأن الصلاة (ولذكرُ الله أكبر ).

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة أُخرى في الصلاة، أي أن أثراً آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضاً هو ذكر الله، وكونه أكبر لأنّه العلّة والأساس للصلاة!.

وأساساً... فإنّ ذكر الله فيه حياة القلوب ودعتها، ولا شيء يبلغ مبلغه (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب )(2).

ولا ريب أنّ روح العبادة بجميع أقسامها ـ صلاة كانت أم غيرها ـ هو ذكر الله، فأذكار الصلاة، وأفعالها ومقدماتها، جميعها في الواقع تحيي ذكر الله في قلب الإنسان.!

وممّا يلفت النظر أن في الآية (14) من سورة طه إشارة إلى هذه الحكمة الأساسية من الصلاة، إذ نلاحظ فيها الخطاب لموسى قائلا: (وأقم الصلاة لذكري ).

إلاّ أنّ المفسّرين الكبار ذكروا للجملة المتقدمة تفسيرات أُخرى، وقد ورد في الرّوايات الإسلامية إشارة إليها أيضاً... من ضمنها: إنّ المراد من الجملة المتقدمة، أن ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم لله بطاعته(3).

ومنها: إنّ ذكر الله أكبر من الصلاة وأعلى، لأنّ روح كل عبادة «ذكر الله» .

وهذا التّفاسير التي ورد بعضها في الرّوايات الإسلامية، ربّما كانت إشارة إلى


1 ـ المصدر السابق.

2 ـ الرعد، الآية 28.

3 ـ على ضوء هذا التّفسير يكون لفظ الجلالة «الله» فاعلا في المعنى، وعلى التّفسير السابق يكون مفعولا.

[404]

بطون الآية، وإلاّ فإنّ ظاهرها منسجم مع المعنى الأوّل، لأنّه في أغلب الموارد التي يرد التعبير فيها بـ «ذكر الله» أو «ذكروا الله» أو «اُذكروا اللّه» ... الخ، يقصد بها ذكر الناس لله!

والآية المذكورة آنفاً، يتداعى لها هذا المعنى، إلاّ أنّ ذكر الله لعباده يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لذكر العباد لله، وبهذا يرتفع التضاد بين المعنيين.

في حديث عن معاذ بن جبل أنّه قال: لا شيء من أعمال ابن آدم لنجاته من عذاب الله أكبر من ذكر الله، فسألوه: حتى الجهاد في سبيل الله؟! فقال: أجل، فالله يقول: (ولذكر الله أكبر ).

والظاهر أنّ «معاذ بن جبل» سمع هذا الكلام من رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأنّه نفسه ينقل إنّه سأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّ الأعمال أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله».

وحيث أنّ نيّات الناس، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات، كل ذلك متفاوت جدّاً، فإنّ الآية تختتم بالقول: (والله يعلم ما تصنعون ).

أي يعلم ما تصنعون من أعمال في الخفاء أو العلن، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم!.

* * *

 

بحث

تأثير الصلاة في تربية الفرد والمجتمع:

بالرغم من أن فائدة الصلاة لا تخفى على أحد، لكن التدقيق في متون الروايات الإسلامية يدلنا على لطائف ودقائق أكثر في هذا المجال!.

1 ـ إنّ روح الصلاة وأساسها وهدفها ومقدمتها ونتيجتها... وأخيراً حكمتها

[405]

وفلسفتها(1)، هي ذكر الله، كما بيّنت في الآية على أنّها أكبر النتائج.

وبالطبع فإنّ الذكر المراد هنا، هو الذكر الذي يكون مقدمة للفكر، والفكر الذي يكون باعثاً على العمل، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير جملة (ولذكر الله أكبر ) قال: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم» أي على أن يتذكر الله فيتبع الحلال ويغضي أجفانه عن الحرام «بحار الأنوار، ج 82، ص 200».

2 ـ إنّ الصلاة وسيلة لغسل الذنوب والتطهر منها، وذريعة إلى مغفرة الله، لأنّ الصلاة ـ كيف ما كانت ـ تدعوا الإنسان إلى التوبة وإصلاح الماضي، ولذلك فإننا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) إذ سأل بعض أصحابه: «لو كان على باب دار أحدكم نهر واغتسل في كل يوم منه خمس مرات أكان يبقي في جسده من الدرن شيء؟! قلت لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّى كفرت ما بينهما من الذنوب» (2).

وعلى هذا فإنّ الجراح التي تخلفها الذنوب في روح الإنسان، وتكون غشاوة على قلبه، تلتئم بضماد الصلاة وينجلي بها صدأ القلوب!

3 ـ إنّ الصلوات سدّ أمام الذنوب المقبلة، لأنّ الصلاة تقوي روح الإيمان في الإنسان، وتربّي شجيرة التقوى في قلب الإنسان، ونحن نعرف أن الإيمان والتقوى هما أقوى سدّ أمام الذنوب، وهذا هو ما بيّنته الآية المتقدمة عنوان «النهي عن الفحشاء والمنكر»، وما نقرؤه في أحاديث متعددة من أن أفراداً كانوا مذنبين، فذكر حالهم لأئمّة الإسلام فقالوا: لا تكترثوا فإنّ الصلاة تصلح شأنهم... وقد أصلحتهم.

4 ـ إن الصلاة توقظ الإنسان من الغفلة، وأعظم مصيبة على السائرين في طريق الحقّ أن ينسوا الهدف من إيجادهم وخلقهم، ويغرقوا في الحياة المادية


1 ـ «الفلسفة» كلمة يونانية معناها «الحكمة» فهي ليست عربية لكنّها شاعت في العربية أيضاً.

2 ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 7 (الباب الثّاني من أبواب أعداد الفرائض الحديث 3).

[406]

ولذائذها العابرة!

إلاّ أنّ الصلاة بما أنّها تؤدى في أوقات مختلفة، وفي كل يوم وليلة خمس مرات، فإنّها تخطر الإنسان وتنذره، وتبيّن له الهدف من خلقه، وتنبهه إلى مكانته وموقعه في العالم بشكل رتيب، وهذه نعمة كبرى للإنسان بحيث أنّها في كل يوم وليلة تحثه وتقول له: كن يقظاً.

5 ـ إنّ الصلاة تحطّم الأنانية والكبر، لأنّ الإنسان في كل يوم وليلة يصلي سبع عشرة ركعة، وفي كل ركعة يضع جبهته على التراب تواضعاً لله، ويرى نفسه ذرة صغيرة أمام عظمة الخالق، بل يرى نفسه صفراً بالنسبة إلى ما لا نهاية له!.

ولأمير المؤمنين علي(عليه السلام) كلام معروف تتجسد فيه، فلسفة العبادات الإسلامية بعد الإيمان بالله، فبيّن أوّل العبادات وهي الصلاة مقرونة بهذا الهدف إذ قال: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر» (1).

6 ـ الصلاة وسيلة لتربية الفضائل الخُلقية والتكامل المعنوي للإنسان، لأنّها تخرج الإنسان عن العالم المحدود وتدعوه إلى ملكوت السماوات، وتجعله مشاركاً للملائكة بصوته ودعائه وابتهاله، فيرى نفسه غير محتاج إلى واسطة إلى الله أو أن هناك «حاجباً» يمنعه... فيتحدث مع ربّه ويناجيه!.

إن تكرار هذا العمل في اليوم والليلة ـ وبالإعتماد على صفات الله الرحمن الرحيم العظيم، خاصة بالاستعانة بسور القرآن المختلفة بعد سورة الحمد التي هي خير محفّز للصالحات، والطهارة ـ له الأثر في تربية الفضائل الخُلقية في وجود الإنسان!

لذلك نقرأ في تعبير الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) عن حكمتها قوله: «الصلاة قربان كل تقيّ!» (2).


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 252.

2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 136.

[407]

7 ـ إن الصلاة تعطي القيمة والروح لسائر أعمال الإنسان; لأنّ الصلاة توقظ في الإنسان روح الإخلاص... فهي مجموعة من النية الخالصة والكلام الطاهر «الطيب» والأعمال الخالصة... وتكرار هذه المجموعة في اليوم والليلة ينثر في روح الإنسان بذور سائر الأعمال الصالحة ويقوّي فيه روح الإخلاص.

لذلك فإنّنا نقرأ في بعض ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في ضمن وصاياه المعروفة بعد أن ضربه ابن ملجم بالسيف ففلق هامته، أنّه قال: «الله الله في صلاتكم فإنها عمود دينكم» (1).

ونعرف أنّ عمود الخيمة إذا انكسر أو هوى، فلا أثر للأوتاد والطنب مهما كانت محكمة... فكذلك إرتباط عباد الله به عن طريق الصلاة، فلو ذهبت لم يبق لأي عمل آخر أثر.

ونقرأ عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردّت ردّ سائر عمله!».

ولعل الدليل على هذا الحديث هو أن الصلاة رمزٌ للعلاقة والإرتباط بين الخالق والمخلوق! فإذا ما أدّيت بشكل صحيح، وكان فيها قصد القربة والإخلاص «حيّاً» كان وسيلة القبول لسائر الأعمال، وإلاّ فإنّ بقية أعماله تكون مشوبة وملوّثة وساقطةً من درجة الاعتبار.

8 ـ إنّ الصلاة ـ بقطع النظر ـ عن محتواها، ومع الإلتفات إلى شرائط صحتها، فإنّها تدعوا إلى تطهير الحياة! لأنّنا نعلم أن مكان المصلي، ولباس المصلي، وبساطه الذي يصلي عليه، والماء الذي يتوضأ به أو يغتسل منه، والمكان الذي يتطهر فيه «وضوء أو غسلا» ينبغي أن يكون طاهراً من كل أنواع الغصب والتجاوز على حقوق الآخرين. فإنّ من كان ملوّثاً بالظلم والغصب والبخس في الميزان والبيع وآكلا للرشوة ويكتسب أمواله من الحرام... كيف يمكن له أن يهيء


1 ـ نهج البلاغة، ومن كتاب له «وصية له» 47.

[408]

مقدمات الصلاة!؟ فعلى هذا فإنّ تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ـ هو نفسه ـ دعوة إلى رعاية حقوق الآخرين!

9 ـ إنّ للصلاة ـ بالإضافة إلى شرائط صحتها ـ شرائط لقبولها، أو بتعبير آخر: شرائط لكمالها، ورعايتها ـ أيضاً ـ عامل مؤثر ومهم لترك كثير من الذنوب!.

وقد ورد في كتب الفقه ومصادر الحديث روايات كثيرة تحت عنوان موانع قبول الصلاة، ومنها «شرب الخمر» إذ جاء في بعض الرّوايات: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً إلاّ أن يتوب (1).

كما نقرأ في روايات متعددة أنّ من جملة «من لا تقبل صلاته «الإمام الظالم» (2).

كما صُرّح في بعض الرّوايات بأنّ الصلاة لا تُقبل من «مانع الزكاة».

كما أنّ هناك بعض الرّوايات تقول: «إنّ الصلاة لا تقبل ممن يأكل السحت والحرام، ولا ممن يأخذه العجب والغرور» وهكذا تتّضح الحكمة والفائدة الكبيرة من وجود هذه الشروط.

10 ـ إنّ الصلاة تقوي في الإنسان روح الإنضباط والإلتزام، لأنّها ينبغي أن تؤدى في أوقات معينة، لأنّ تأخيرها عن وقتها أو تقديمها عليه موجب لبطلانها.

وكذلك الآداب والأحكام الأُخرى في موارد النية والقيام والركوع والسجود وما شابهها، إذ أن رعايتها تجعل الإستجابة للإلتزام في مناهج الحياة ممكناً وسهلا.

كل هذه من فوائد الصلاة ـ بغض النظر عن صلاة الجماعة ـ وإذا أضفنا إليها خصوصية الجماعة، حيث أنّ روح الصلاة هي الجماعة، ففيها بركات لا تحصى ولا تعدّ، ولا مجال هنا لشرحها وبيانها، مضافاً الى أن الجميع يدرك خيراتها وفوائدها على الإجمال.


1 ـ بحار الأنوار، ج 84، ص 317 و 320.

2 ـ بحار الأنوار، ج 84 ص 318.

[409]

ونختم كلامنا في مجال حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها بحديث جامع منقول عن الإمام الرضا(عليه السلام) إذ سئل عنها فأجاب بما يلي: «إن علة الصلاة أنّها إقرار بالربوبيةلله عزّوجلّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبار جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاماً لله عزّوجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللا، راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزّوجلّ بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومديره وخالقه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً له عن أنواع الفساد». (1)

* * *


1 ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 4.

[410]

 

[411]

 

 

بداية الجزء الحَادي والعشرون

 

 

من

 

 

 

 

القرآن الكريم

 

 

 

ويبدأ من بداية الآية ست وأربعون

 

سورة العنكبوت

[412]

 

[413]

 

 

 

 

الآية

وَلاَ تُجَـدِلُوا أَهْلَ الْكِتَـبِ إلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـهُنَـا وَإِلَـهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ فالَّذِينَ ءَاَتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بَاَيَـتِنَآ إلاَّ الْكَـفِرُونَ (47)وَمَا كنْتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ ءَايَـتٌ بَيِّنَـتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِاَيَـتِنَآ إلاّ الظَّـلِمُونَ (49)

 

التّفسير

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال:

كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، وأن يعدَّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، إذ أنّهم ـ على الأقل ـ قد سمعوا قسماً ممّا جاء به الأنبياء والكتب

[414]

السماوية، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه.

فيقول القرآن في هذا الصدد: (لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن )(1).

«تجادلوا» مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته.. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله (ولا تجادلوا ) المناقشات المنطقية.

والتعبير بـ( التي هي أحسن ) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.

فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلا، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.

كل هذه الأُمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر... وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.


1 ـ «التي» هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها...

[415]

وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.

وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة «السؤال والإستفهام» لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!

وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناءً، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً الى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: (إلاّ الذين ظلموا منهم ).

وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله).

الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم.

الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا: إن المسيح ابن الله، أو العزير ابن الله.

وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي(صلى الله عليه وآله) وعلى الإسلام.

ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث; فيقول القرآن الكريم: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ).

كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد، وحذف جميع العصبيّات، ونحن وأنتم جميعاً موحدون لله مسلمون له.

[416]

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق.

وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن، ومن ضمنها ماأشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) إذ قال: «أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله حاكياً عنه: قل [يا محمّد]» (يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجرة الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون )(1).

والآية الأُخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ) أي القرآن.

أجل... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله; والمجادلة بالتي هي أحسن!.

قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) أيّ كما أنزلنا كتباً من السماء على الأنبياء الماضين، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.

إلاّ أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكناً أيضاً.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: (والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) ويعتقدون بصدقه.. إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.

ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة


1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 4، ص 163.

[417]

محمّد(صلى الله عليه وآله) «نبي الإسلام» فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم، والتي تبتغي الحق دون تعصب، فتكون جديرة أن يطلق عليها «أهل الكتاب».

ويضيف القرآن بعدئذ: (ومن هؤلاء من يؤمن به )(1) أي أهل مكّة والمشركون العرب.

ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون ).

ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، ومنهج النّبي و طريقته وحياته النقية، وأن أتباعه هم المخلصون، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته، إلاّ أنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.

وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأُمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين:

فقسمٌ هم أهل الإيمان، سواءً من علماء اليهود والنصارى، أو المؤمنين بصدق، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.

وقسم آخر هم المنكرون المعاندون، الذين رأوا الحق إلاّ أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءاً من نسيج وجودهم، فهم يستوحشون من نور الإيمان.


1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ جملة «الذين آتيناهم الكتاب» إشارة إلى المسلمين، وجملة «من هؤلاء من يؤمن به» إشارة إلى أهل الكتاب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد ـ كما يبدو ـ جدّاً لأنّ التعبير بـ (الذين آتيناهم الكتاب ) وما شابهه لم يأت في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ في خصوص اليهود والنصارى.

[418]

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ هذا القسم ـ أو هذا الطائفة ـ كانوا كفرةً من قبل، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضاً، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة، فقد أصبحوا كافرين كفراً حقيقتاً، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم، وخطوا في دروب الضلال!.

ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى علامة أُخرى من علائم حقانية دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله)الجلية والواضحة، وهي تأكيدٌ على محتوى الآية السابقة، فيقول: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط، ولم تكتب من قبل كتاباً قط، لكّنك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مئة مدرس!.

كيف يمكن أن يُصدق أن شخصاً لم يقرأ كتاباً ولم ير أستاذاً ولا مدرسةً، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.

أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!

وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل: من أين نعرف أن النّبي(صلى الله عليه وآله) لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.

فنجيب أنّه(صلى الله عليه وآله) قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون... حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة، فمن المستحيل أن يكون مجهولا، بل يكون معروفاً في كل مكان. كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضاً.

فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذب

[419]

هذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة، مهد نشأة النّبي(صلى الله عليه وآله) وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.