![]() |
![]() |
![]() |
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة «قانتون» معناها هنا «قائمون بالشهادة على وحدانيته» (1) فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات.
وحيث أنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة، والتي ستأتي في ما بعد، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد، فيقول: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو
1 ـ نقل «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» ذيل الآية محل البحث هذا الكلام عن بعض المفسّرين المتقدمين.
أهون عليه )(1).
إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الإستدلال ـ مسألة إمكان المعاد، إذ يقول لهم: إنكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله، فعودة الخلق مرّة أُخرى أيسر وأهون من بداية الخلق!.
والدليل على أن عودة الخلق أهون من البداية، هو أنّه في البداية لم يكن شيء ولكن الله هو الذي أبدعه، وفي الإعادة توجد المواد الأصلية على الأقل، فبعضها في طيّات التراب، وبعضها متناثر في الفضاء، وإنّما تحتاج إلى نظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب، فهي أهون!
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب، هو من خلال نافذتنا الفكرية، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل».
وأساساً فإنّ «الصعب والسهل» يصدقان مفهوماً في مكان يكون الكلام عن قدرة محدودة، كأن يستطيع أحد أن يؤدي عملا بصورة جيدة، والآخرة لا يؤديه بصورة جيدة، بل بمشقّة، أمّا حين يكون الكلام على قدرة لا حدّ لها، فلا معنى للصعب والهيّن هناك!
وبتعبير آخر: إنّ حمل «أعظم الجبال» على الأرض بالنسبة إلى الله وحمل أخف الأشياء عليها عنده سواء، لقدرته التي لا يعظم عليها شيء.
وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ).
لأننا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض، من علم
1 ـ ينقل «الفخر الرازي» عن «الزمخشري» في تفسير الكشّاف أن الله قال في شأن ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب «هو علي هين» ولأنّ كلمة «عليّ» مقدمة، فهي دليل على الحصر، أي إن هذا العمل سهل علي فحسب لا على سواي، أمّا في هذه الآية محل البحث فقد قال: سبحانه: (وهو أهون عليه ) فلا يستفاد منها الحصر، وهي إشارة إلى أن كل من يستطيع أن يؤدي عملا في البداية فهو قادر على إعادته أيضاً «فلاحظوا بدقة».
وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات، إلاّ هو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة، والجميع لديهم أوصاف عارضة، أمّا أوصاف الله فذاتية، وهو مصدر الكمالات وأساسها.
حتى الألفاظ التي تجري على ألسنتنا لبيان مقاصدنا يوميّاً.. لا يمكن أن تكون مبينة لأوصافه... كما هو في تعبير «أهون» الذي نجده مثلا عندنا.
والجملة الآنفة هي كالآية (180) في سورة الأعراف، إذ ورد فيها (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) والآية (11) في سورة الشورى إذيقول: (ليس كمثله شيء ).
وتنتهي الآية ـ بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل، إذ يقول سبحانه: (وهو العزيز الحكيم ).
هو عزيز لا يقهر، إلاّ أنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق، فكل أفعاله وفق حكمته.
وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم ).
هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك فـ (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) أي أن عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم. بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلا... فأنتم غير مستعدين لأنّ يتصرفوا في أموالكم.
فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه! أو تزعمون أن بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الأُخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبيّة شركاءه، ألا ساء ما تحكمون!!
المملوكات المجازية التي يمكن أن تتحرر وتنعتق بسرعة، وتكون في صفوفكم ومن أمثالكم «كما جرى ذلك في الإسلام» ـ لا تكون حالة كونها مملوكة ـ في صف مالكها، وليس لها حق التدخل في منطقة نفوذه، فكيف تجعلون العبيد الحقيقيين أو المملوكات الحقيقية شركاء الله، في حين أنّهم متعلقون بالله ذاتاً ووجوداً، ولا يمكن أن يُسلب هذا التعلق بالله والإرتباط به منهم، وكل ما عندكم فمن عنده، وما أنتم بشيء من دونه!.
قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية ناظرة لما قاله المشركون من قريش، عند التلبية في مناسك الحج، إذ كانوا يقولون عند التلبية.. «لبيك، اللّهم لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكة وما ملك» ... هكذا كان محتوى تلبية المشركين(1).
وبديهي أن شأن نزول هذه الآيات شأن سائر الآيات في نزولها، إذ لا يحدد معنى الآية، كما هي في الوقت ذاته جواب لجميع المشركين، هي مستقاة من حياتهم أنفسهم التي تدور حول الرق والمملوكين، وتحتج عليهم احتجاجاً متيناً.
والتعبير بـ (ما رزقناكم ) يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك لله وحده، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا ممّاليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم، في حين أنّه لا يستلزم محالا ولا مشكلة من الناحية التكوينية لأنّ الكلام يدور مدار الإعتباريّات.
غير أن التفاوت بين الله ومخلوقاته تفاوت تكويني ولا يتغيّر، وجعل هذه
1 ـ تفسير الميزان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.
المخلوقات شريكة لله من سابع المستحيلات.
ومن جهة أُخرى فإنّ عبادة أحد الموجودات، إمّا لعظمته، أو لأنّه ينفع ويضر الإنسان، إلاّ أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر(1).
ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال، فيقول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ).
أجل، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم!.
غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ).
ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة، فتاهوا في وادي الضلالة (فمن يهدي من أضل الله )؟!
والتعبير بـ «ظلموا» مكان «أشركوا» إشارة إلى أن الشرك بعد أعظم الظلم: فهو ظلم للخالق، إذ جعله مخلوقه إلى جانبه وأشركه معه (ونعرف أن الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه).
وظلم للخلق، إذ منعوهم عن طريق الخير والسعادة «طريق التوحيد».
وظلم لأنفسهم، لأنّهم أطلقوا جميع وجودهم وكيانهم للريح، وظلوا في مفازة عمياء! وبيداء قفراء.
وهذا التعبير ـ ضمناً ـ مقدمة للجملة التالية، وهو إنّما أضلهم الله عن طريق
1 ـ فسّر بعض المفسّرين جملة «تخافونهم كخيفتكم أنفسكم» بهذه المناسبة تفسيراً آخر، حاصله أنّ هؤلاء المعبودين ليست لديهم القدرة حتى تخافوهم كما تخافون من بعضكم، فكيف إذا كان الخوف أكثر! «إلاّ أن التّفسير الذي ذكرناه في البداية يبدو أقرب للنظر».
الحق فبظلمهم، كما جاء مثل هذا التعبير في سورة إبراهيم الآية (27) (ويضل الله الظالمين ).
ولا شك أن من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم (فما لهم من ناصرين ).
وبهذا يوضح القرآن عاقبة هذه الجماعة المشؤومة، ولم لا تكون كذلك؟! وهم يرتكبون «أعظم الذنوب وأعظم الظلم»، إذ عطلوا عقولهم وأفكارهم عن العمل، وتركوا شمس العلم خلف ظهورهم، وتوجهوا إلى ظلمة الجهل والهوى.
فمن الطبيعي أن يسلب الله منهم التوفيق، ويتركهم في ظلماتهم، وما لهم من ناصرين ولا معينين!.
* * *
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لاَ تَبْدِيلَ لِخْلْقِ اللهِ ذلِكَ الدَّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيهِ وَاتَّقُوهُ وأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَلاَ تَكُونوُاْمِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعَاً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، والإستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة، بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة!
وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإن الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (فأقم وجهك للدين حنيفاً ) لأنّها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
«الوجه» معناه معروف، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني،
ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده، بل التوجه بجميع الوجود، لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن!
وكلمة «أقم» مشتقة من الإقامة، ومعناه الإستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة)...
وكلمة «حنيف» مشتقة من «حَنَف» ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الإعوجاج نحو الإستواء والإستقامة، على العكس من «جنف» على وزن «حنف» أيضاً، ومعناها الميل من الإستواء إلى الضلالة والإعواجاج.
فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والإستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.
فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها، أن وجّه نفسك دائماً نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الإعوجاج والإنحراف، وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر(1).
إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك، هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة، الفطرة الخالدة التي لا تتغير، وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة.
والآية المتقدمة تبين عدة حقائق:
1 ـ إنّ معرفة الله ـ ليست وحدها ـ بل الدين والإعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاماً لازماً، فما ورد في الشرع لابدّ أن يكون له جذر في الفطرة، وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع!
1 ـ الألف واللام في كلمة «الدين» هما للعهد، وهما هنا إشارة إلى الدين الذي أمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يبلغه، أي دين «الإسلام» .
وبتعبير آخر: إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة، فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان، ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع!
وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدوداً وقيوداً لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف، إلاّ أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة، بل يهديها من الطريق المشروع، وإلاّ فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين، وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد.
وبعبارة أُخرى: إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبداً، بحيث يقول أمره التكويني: افعل! ويقول أمره التشريعي: لا تفعل.
2 ـ إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان، أمّا الإنحرافات فأمر عارض، ووظيفة الأنبياءإذن إزالة هذه الأُمور العارضة، وفسح المجال لفطرة الإنسان في الأشراق.
3 ـ إنّ جملة (لا تبديل لخلق الله ) وبعدها جملة (ذلك الدين القيّم )تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة!... وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي!
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أن الفطرة في الأصل من مادة «فطر» على زنة «بذر» ومعناها شق الشيء من الطول، وهنا معناها الخلقة، فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها.
وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود، كان هذا النور متوقداً في داخله، من أوّل يوم ومن ذلك الحين!
والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفاً، وسنتحدث عن ذلك لاحقاً إن شاء الله، بالإضافة إلى الأبحاث الأُخرى في مجال كون التوحيد فطرياً.
ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم (منيبين إليه ) فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.
وكلمة «منيبين» من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية) ومعناها متى ما حصل عامل يحرف الإنسان عقيدته وعن أصل التوحيد فينبغي أن يعود إليه.. ومهما تكرر هذا الأمر فلا مانع من ذلك الى أن تغدو أسس الفطرة متينة وراسخة، وتغدو الموانع والدوافع خاوية ويقف الانسان بصورة مستديمة في جبهة التوحيد، ويكون مصداقاً للآية (وأقم وجهك للدين حنيفاً ).
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن (أقم وجهك ) جاءت بصيغة الإفراد، وكلمة «منيبين» جاءت بصيغة الجمع، وهذا يدل على أنّه وإن كان الأمر الأوّل مخاطباً به النّبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ أن الخطاب ـ في الحقيقة ـ لعموم المؤمنين وجميع المسلمين.
ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه، إذ يقول: (واتقوه ) أي اتقوا مخالفة أوامره!.
ثمّ يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: (وأقيموا الصلاة ).
لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشد الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.
كما أنّه يؤكّد في نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول: (ولا تكونوا من المشركين ).
لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، إذ يمكن أن يغفر الله جميع الذنوب إلاّ الشرك بالله، فإنّه لا يغفره. كما نقرأ في الآية (48) من سورة النساء (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول: لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ).
والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون ).
أجل، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الإنفصال والتفرق، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات، أو متولد عنها، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والإتحاد إلاّ في ظل عبادة الله، والعقل والتواضع والإيثار!.
فعلى هذا، حيثما وجدنا تفرقة واختلافاً فينبغي أن نعرف أن نوعاً من الشرك حاكم هناك، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف، والتضاد، وهدر القوى، وأخيراً الضعف وعدم القدرة.
وأمّا مسألة (كل حزب بما لديهم فرحون ) فهي واضحة ودليلها بيّن، حين يعتقدون أن ما لديهم حق، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والإنحراف.
إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو، ولا يمكنه أن يقضي قضاءً صحيحاً خالياً من الحبّ والحقد.
يقول القرآن المجيد في الآية (8) من سورة فاطر: (فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ).. كالذي يمضي في طريق الحق، ويرى الحقائق كما هي، ويعرفها حق المعرفة؟!
* * *
كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً.. بحيث تعين له الجهة «أحياناً» من حيث يدري أو لا يدري!
وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائماً ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.
فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام.. أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلاّ أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة أُخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه «الدوافع» أشد وأقوى أيضاً.
لكن ينبغي الإلتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين:
فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.
وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إن هذه الدوافع الداخلية
تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!
وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثّاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).
عبادة الله والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه بـ «الفطرة».
ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاءً محضاً، يدّعيه المؤمنون، إلاّ أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى الله» فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:
1 ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.
يقول المؤرخون الكبار: لم يُر في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري، وفي عصر ما قبل التاريخ أن اقواماً بشرية عاشت بلا دين إلاّ بشكل استثنائي.
ويقول «ويل دورانت» المؤرخ المعاصر:
«إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة، وهي أن بعض الأُمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهراً» ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع: فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة، والرأي القائل: التدين يشمل عموم أفراد البشر، يوافق الحقيقة»!
ثمّ يضيف قائلا: «تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة، فهو لا يقنع بهذه المسألة: إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة، وهي
أن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقاً للتاريخ البشري»(1).
ويختتم كلامه بهذا الإستفهام الكبير معنىً ومغزى «ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه»؟!
وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ «وإذا لم نتصور للدين جذوراً في فترات ما قبل التاريخ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه»(2).
والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر، تؤيد هذا الموضوع أيضاً، كما يصرح بذلك العالم الإجتماعي «ساموئيل كنيج» في كتابه «دراسة المجتمع»: إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر «ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال» كان لديهم دين حتماً، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة».(3)
وعلى كل حال، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.
2 ـ إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.
ونعرف جيداً أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الإتحاد السوفياتي، ومنذ أكثر من ستين سنة، وبوسائل الإعلام و «الدعايات» المختلفة، حاول أن يغسل
1 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 87 ـ 89.
2 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 156.
3 ـ دراسة المجتمع، ص 192 أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.
الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعيناً بالخلايا التنظيمية الجماعية، إلاّ أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق، وما نقرؤه في الصحف والجرائد، تكشف أنّهم «أي الحزب الحاكم في روسيا» مضافاً الى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد الى المسائل الدينية في بعض الدول الإشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوماً واحداً، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضاً.
3 ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: «إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني» أو بتعبير آخر «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الأُخرى وهي «البعد العلمي» ، و«البعد الجمالي»، و«البعد الخيّر».
إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:
1 ـ دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!
2 ـ حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.
3 ـ الحس «الجمالي» : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.
4 ـ الحس «الديني»، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.
ونقرأ في مقالة كتبها «كوونتايم» في هذا المجال مايلي:
«إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية ـ التي بوشر بها بواسطة فرويد «في البداية» استمرّت بالإستعانة بـ«آدلر» و «يونك» ـ في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحاً من مفاتيح حل هذه الأحجية.
وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء، إلاّ أنّه ومع هذه الحال فما يزال «مسير فكري» في ازدياد يوماً بعد يوم، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا:
«إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان، وهو أكثرها أصالة وما هويّة، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحساسيس والدوافع الأُخرى، حيث يمدّ جذوره الى أعماق اللاوعي ويعدّ «المفهوم الديني» أو بتعبير أصح «المفهوم المقدس» بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة، مقولة رابعة، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضاً(1).
كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق «تان كي دو ـ كنتن» ما يلي «كما أن من مزايا العصر الحاضر ـ في عالم الطبيعة ـ هو اكتشاف البعد الرابع، الذي أطلق عليه اسم «بعد» الزمان مضافاً الى الأبعاد الثّلاثة للجسم، وهو في الوقت ذاته جامع لها، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة «المقدسة» أو المقولة الإلهية «الربانية» بموازاة المفاهيم الثلاثة «الجمال، الإحسان، طلب الحقيقة» وهي البعد الرّابع لروح الإنسان، ففي هذا المقام أيضاً فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى، وربّما كان هذا البعد منشأ
1 ـ يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني [ للكاتب كوونتايم] .
ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى»(1).
4 ـ إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً ـ أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.
وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الإجتماعي المتدين!
إلاّ أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس، حتى في أُولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادةً، تدلّ على أن لها جذراً أعمق من هذه الفرضية.
5 ـ وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق أصالة الحسّ الديني... فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية، ولا يزالون يضحون أيضاً، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضاً.
الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة ـ من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها ـ بشوق وعشق بالغين، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل، بل في تأريخ الأمم الأُخرى أيضاً، يكشفون عن هذه الحقيقة، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.
لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال، وهو أنّ أفراداً ـ كالشيوعيين مثلا ـ لهم موقع إلحادىّ ـ ضد الأيدلوجية والدين ـ ولا يكتمون موقعهم هذا أبداً.. كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!
إلاّ أنّ هذا الإشكال ينحل تماماً بملاحظة هذه المسألة، وهي أنّه حتى
1 ـ المصدر نفسه الطبعة الثّانية، ص 39.
الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّاً ـ بحسب الظاهر ـ ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية.. أجل، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني «واللاوعي».
فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم، وصفوفهم الطويلة عند جسد «لينين» لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضاً.
وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش، فهي مقدّسة عندهم، ويتصورون أن ماركس ولينين وأنجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنباً لا يغتفر أبداً.. ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم «مرتدون» وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!
![]() |
![]() |
![]() |