التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة:

مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة، ونظامي النور والظلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية... ونحن نعرف أن أصول التعليم

[149]

والتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضاً ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ «عالم الوجود» ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!... وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام، فيستريح في الليل ويسعى في النهار، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النهار، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار، كما يوصف الليل أحياناً بأنه «ليل نائم» (1).


1 ـ هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي»، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة، منها العلاقة الزمانية، فيقال مثلا: نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)

[150]

وهذا التفاوت في التعبير في الآية، هو لبيان فائدة الليل والنهار، إذ جاء في شأن الليل (لتسكنوا فيه ) وعبر عن النهار بـ(مبصر ) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها «فلاحظوا بدقة» .

وعلى كل حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النوم بمثابة الموت، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: (و ) اذكر (يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين ) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأُولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله!

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة.. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه النفخة، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأُولى أم الثّانية أم الثّالثة؟!.. القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين، وقيل: بل هي تشمل الجميع.

إلاّ أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأُولى التي

[151]

تقع في نهاية الدنيا، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الإستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب، يعدّ من آثار هذه النفخة... ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر: إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزغ» أن الفزع ناشىء من النفخة في الصور، وهذا خاص بالنفخة الأولى، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب، بل هي مدعاة للحياة والحركة، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (68) من سورة «الزمر» بإذن الله!.

وأمّا جملة (إلاّ من شاء الله ) المذكورة للإستثناء من الفزع العام، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواءً كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأُولى  ولا الأُخرى .. إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).

وأمّا جملة (وكل أتوه داخرين ) فظاهرها عامٌ وليس فيه أي استثناء، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (127) من سورة الصافات: (فإنّهم لمحضرون إلاّ عباد الله المخلصين )، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع، فتقول: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي اتقن كل

[152]

شيء )(1).

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و (إنّه خبير بما تفعلون ).

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض، وقد اشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

* * *

 

وتوضيح ذلك:

1 ـ إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب.. وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة.. لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ).(2)

2 ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.


1 ـ «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.

2 ـ سورة الحج، الآية 2.

[153]

3 ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً.

4 ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم، يتناسب زمان استقرار نظام العالم، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

5 ـ جملة (إنّه خبير بما تفعلون ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا، لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم، لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة».

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ).

وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها... ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة، وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار...

لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه، فحيث أن هذه

[154]

الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع ا لأرض» فقدرته على كل شيء «بينة، وثابتة»!

وعلى كل حال، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية... لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و«كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً، وتعرضاً لمضايقات كثيرة..

إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(1)

 

* * *


1 ـ المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها.. وبتعبير آخر: إن لدينا وجودين مختلفين ذاتاً.. الوجود الثابت «الوجود ماوراء المادي»، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.

[155]

الآيات

مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِّنْ فَزَع يَوْمَئِذ ءَامِنُونَ (89) وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىْء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرءانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَـتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

 

التّفسير

آخر ما أُمر به النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها.. أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية:

[156]

ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلاّ الله» والإيمان بالله.

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه دخل أبو عبدالله الجدلي على أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أبا عبدالله ألا أخبرك بقول الله عزّوجلّ: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار هل يجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) قال: بلى يا أميرالمؤمنين جعلت فداك، فقال: «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأ (عليه السلام)الآية» (1).

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مراراً ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً... فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أُخرى تشملها الآية.

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه: على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه: من جاء بالحسنة فله خير منها؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح... لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأُمور مقدمة له... وذو المقدمة خير من المقدمة!.

وهناك سؤال آخر يثار هنا، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية 2 من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.

فالآية (103) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول:


1 ـ اصول الكافي، وفقاً لماجاء في تفسير نور الثقلين، ج4، ص 104.

[157]

 ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).

و«الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة» .

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأُخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار ).

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ).

و «كُبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد!.

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب . إضافة إلى ذلك، فإنّ أُولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين... فالآن لابدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.

وجملة (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا، وهو ما لو قيل: إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد، فيجاب: بأنّ هذا الجزاء إن هو إلاّ عملك في الدنيا، فهل تجزون إلاّ ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة».

ثمّ يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أُولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته... سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟!

فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (إنّما أُمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة ).

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها... البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات.. إلاّ أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن اللّه، وأشرف بقعة على وجه الأرض،

[158]

وأقدم معبد للتوحيد!

أجل... أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة (الذي حرمها ) وجعل لها خصائص وأحكاماً وحرمةً، وأموراً أُخر لا تتمتع بها أية بلدة أُخرى في الأرض!.

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله، بل له كل شي في عالم الوجود (وله كل شيء ).

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له (وأُمرت أن أكون من المسلمين ).

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول: (وأن أتلوا القرآن ).

أتلوه فأستضيء بنوره، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل.. فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها،

ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه: لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي، كما أن الله غني عنكم ، بل (فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ).

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح (ومن ضلّ فقل إنّما أنا من المنذرين ).

وعواقبه الوخيمة لا تصيبُني... فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق، إلاّ أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال، فإنّما يشقى وحده، فيكون من الخاسرين.

[159]

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية:(ومن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه )ولكنّه لا يقول في شأن الضلال: ومن ضل فضرره عليه، بل يقول: (فقل إنّما أنا من المنذرين ).

وهذا الإختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبي(عليه السلام) يقول: إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبداً، ولاأتركهم على حالهم، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار  ولا أعيا عن ذلك، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين... كقوله تعالى: (من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها ) لكننا نعلم أنّ هذا الإختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن، وإنتهت بالأمر بتلاوته، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ مُوجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى، ولا سيما نعمة الهداية فيقول: (وقل الحمدلله )

هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن، كما يعود للهداية أيضاً، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية (سيريكم آياته فتعرفونها ).

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود، ويرفع ستار جديد عنها.. وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم.. وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائماً  ولا  تنقطع مدى عمر البشر.

إلاّ أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والإنحراف، فلن يترككم الله سدى (وما ربّ بغافل عما يعمل الظالمون ).

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه، فهو غير مطلع على أعمالكم،

[160]

وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة (وما ربّك بغافل عمّا تعملون ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة، وهي تهديد ذو معنى عميق، وإنذار لجميع الناس.

 

والحمد لله رب العالمين

نهاية سورة النمل

 

* * *

 

[161]

 

 

 

 

سُورَة

 

 

القصص

 

 

مكيّة

 

وعَدَدُ آيَاتِها ثَمان وثمانُونَ آية

 

 

 

 

[163]

 

 

 

 

«سورة القصص»

محتوى سورة القصص:

المعروف أنّ هذه السورة نزلت بمكّة، وبإمكاننا ملاحظة أنّ محتواها الكلي وخطوطها العامّة الأساسيّة على شاكلة السور المكّية(1) غير أن بعض المفسّرين استثنوا الآية 85، أو الآيات 51 ـ 55 من هذه السورة معتقدين أن الآية الأُولى «85» نزلت بالجحفة ـ وهي منطقة بين مكّة والمدينة ـ وأمّا الآيات الاربع الأُخرى فيقولون: إنّها نزلت بالمدينة. ولا يوجد دليل واضح على كلامهم..

ولعل محتوى الآيات الخمس التي تتحدث عن أهل الكتاب. (وكان أكثر أهل الكتاب يقطنون في المدينة). كان سبباً لمثل هذا التصور. في حين أن نزول الآيات القرآنية في مكّة لا يعني إنّها لابدّ أن تتحد عن المشركين في مكّة فحسب، وخاصّة أن أهالي مكّة والمدنيّة كانت لهم رحلات متقابلة وعلاقات وروابط قبلية وتجارية. وبالطبع فإن المفسّرين ذكروا سبباً آخر لنزول الآيات 52 ـ 55 يتناسب مع كونها مدينة، وسنتحدث; عن ذلك في محله إن شاء الله..

أمّا الآية (85) التي تتحدث عن عودة النّبي إلى موطنه الأصلي، أي «مكّة» فلا مانع من أن تكون نزلت حين خروجه وهجرته من مكّة على مقربة من هذه الأرض المقدسة... لأنّ النبي كان في غاية الشوق والحنين لمكّة بلد الله الحرام الآمن، والله سبحانه يبشره في هذه الآية بأنّه سيردّه إلى معاده «مكّة المكرمة».


1 ـ يراجع في هذا الشأن «تاريخ القرآن» لأبي عبدالله الزنجاني و«الفهرست» لابن النديم، وكتب التّفسير الأخرى..

[164]

فعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه الآية ـ المشار إليها آنفاً ـ مكيّة، ولو فرضنا أنّها نزلت «بالجحفة» فهي إلى مكّة أقرب منها إلى المدينة.

وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ لا يمكن ـ في تقسيم الآيات إلى مكّية ومدنية ـ إلاّ أنّ نعد هذه الآية (85) مكّية!..

أجلْ.. هذه السورة نزلت في مكّة... وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم.. الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوّةً ونفيراً..

فهؤلاء الأقلية من المؤمنين والمسلمين كانوا يرزحون تحت وطأة هذا التصور بحيث كان جماعة من المسلمين قلقين على مستقبل الإسلام وخائفين من أجله. وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصّة بني إسرائيل وموسى(عليه السلام) والفراعنة..

ولعل هذا القسم يستوعب نصف هذه السورة تقريباً.. خاصة أنّها تتحدث عن فترة كان موسى طفلا ضعيفاً رضيعاً في قبضة الفراعنة... ولكنّ تلك القدرة التي تستوعب عالم الوجود كلّه ـ ولا تقف أية قوّة أمامها ـ تكفلت هذا الطفل الضعيف ورعته وهو في أحضان أعدائه الأقوياء، حتى منحته قدرة وقوّة قصوى قهرت سلطان الفراعنة ونكّست تيجانهم وقلبت قصورهم!!.

هكذا تتحدث هذه السورة ليطمئن المسلمون إلى لطف الله وقدرته،  ولا يرهبوا كثرة الأعداء وقوّتهم، ولا يخافوا من الطريق ذاته!..

أجل.. القسم الأوّل من هذه السورة يتضمن هذا التاريخ المليء بالدروس والعبر ويبشر المستضعفين في بداية السورة بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.

تتحدث هذه السورة عن أن بني إسرائيل كانوا مصفدين بأغلال أعدائهم ما

[165]

داموا بعيدين عن خيمة الإيمان والتوحيد، وفاقدين لأي نوع من أنواع الحركة والنهوض والسعي الذي يتحدَّون به أعداءهم، لكن ما إن وجدوا قائدهم ونوّروا قلوبهم بنور العلم والتوحيد حتى أغاروا على الفراعنة وسيطروا على الحكم وحرروا أنفسهم من نير الفراعنة.

و«القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون»، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته... حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود!

احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.. وذلك معتمد على سلطانه وجيشه في حكمه، وهذا معتمد على ماله وثروته! ليتّضح أنّه لا يمكن لتجار مكّة وأثريائهم ولا لأقويائهم من المشركين، ولا سياسييّهم في ذلك المحيط، أن يقاوموا إرادة الله في انتصار المستضعفين على المستكبرين.

وهذا القسم جاء في أواخر السورة.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن، وبيان حال المشركين في يوم القيامة، ومسألة الهداية والضلالة، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف، وهي في الحقيقة «نتيجة» الأوّل و«مقدمة» للقسم الثاني.

 

فضيلة تلاوة سورة القصص:

نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من قرأء طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلاّ شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً» (1).

كما ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله، وفي جواره وكنفه، لم يصبه


1 ـ تفسير مجمع البيان في بداية سورة القصص.

[166]

في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين» (1).

وبديهي أن كلّ هذا الأجر والثواب هو لأُولئك الذين يقفون جنباً إلى جنب مع أصحاب موسى(عليه السلام) والمؤمنين الصادقين ـ عند قراءة هذه السورة ـ ليبارزوا فراعنة عصرهم وقارون زمانهم، ولا يقبعون في الأجحار أو يطاطئون رؤوسهم. عند مواجهتهم الأخطار والمشاكل والأعداء، ولا يضيّعون مواهبهم ليستغلّها الآخرون..

هذا الأجر خاص لمن يقرأون ويتفكرون، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم..

 

* * *


1 ـ ثواب الأعمال طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين في بداية سورة القصص.

[167]

 

 

 

 

الآيات

 

طسم (1) تِلْكَ ءَايـَتُ الكِتَـبِ الْمُبِينَ (2) نَتْلُوا عَلَيكَ مِن نَّبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُمْ مَّا كَآنُوا يَحْذَرُونَ (6)