![]() |
![]() |
![]() |
غير أنّ ملك الروم «هرقل» بدأ هجومه على بلاد فارس سنة 622 ميلادية وألحق هزائم متتابعة بالجيش الفارسي، واستمرت هذه المعارك حتى سنة 628 لصالح الروم، وغُلب خسرو پرويز، وانكسر انكساراً مريراً، فخلعه الفرس عن السلطنة وأجلسوا مكانه ابنه «شيرويه».
وبملاحظة أنّ مولد النّبي (صلى الله عليه وآله) كان سنة 571 ميلادية وكانت بعثته سنة 610 ميلادية، فإن هزيمة الروم وقعت في السنة السابعة للبعثة، وكان انتصارهم بين
سنتي خمس وست للهجرة النبوية، ومن المعلوم أن السنة الخامسة حدثت فيها معركة الخندق، وتم في السنة السادسة صلح الحديبية، وبطبيعة الحال فإن تنقّل الأخبار عن حرب فارس والروم إلى منطقة الحجاز ومكّة كانت تستوعب عادة فترة من الزمان، وبهذا ينطبق هذا الخبر القرآني على هذه الفترة التاريخية بوضوح «فلاحظوا بدقة».
* * *
أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنْفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاَّ بَالْحَقِّ وَأَجَل مُّسَمّىً وَإِنَّ كَثيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآىءِ رَبِّهِمْ لَكَـفِرُونَ (8) أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأَثَارُواْ الاَْرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا كَانَ اللهَ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِنْ كَانُوآ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّـوأَى أَنْ كَذَّبُواْ بِايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)
كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي.. وكانوا جاهلين بما وراء الطبيعة ويوم القيامة.
أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أولا على صورة استفهام
فتقول: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمى ).
أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:
أوّلا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.
وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!.
فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك «أجلا مسمى» دليل على المعاد «فلاحظوا بدقة» .
لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربّهم لكافرون ) فينكرون لقاء الله.
أو إنّهم ينكرون المعاد أصلا، كما نقلنا عن قول المشركين مراراً في آيات القرآن، إذ كانوا يقولون: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ) (إنّ هذا إلاّ اختلاق ) (إنَّ هذا لشيء عجاب ). إنَّ هذا.. إنّ هذا.. الخ.. وبتعابير مختلفة «كماورد في سورة الرعد الآية (5)، وسورة المؤمنون الآية (35)، وسورة النمل الآية (67)، وسورة ق الآية (3) وفي غيرها من السور».
أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين!.
والتعبير بـ (في أنفسهم ) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق
العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.
والتعبير (بالحق ) له معنيان: الأوّل: أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً(1).
والتعبير (بلقاء ربّهم ) كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور، حيث تنكشف الحجب، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيّين.
وحيث أنّ التعبير بـ (أجل مسمى ) كاشف عن أن هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات ) أي بالدلائل الواضحات... إلاّ أنّهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب الله الأليم! (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ).
في الواقع إنّ القرآن يشير إلى أمم كانت لهم ـ في نظر مشركي مكّة ـ عظمة ملحوظة من حيث القدرة والقوّة الجسمية والثروة المالية، وكان مصيرهم الأليم يمثل درساً من العبرة لهؤلاء المشركين.
ويمكن أن تكون جملة (أثاروا الأرض ) إشارة إلى حرث الأرض للزراعة والتشجير، أو حفر الأنهار،أو تأسيس العمارات على الأرض، أو جميع هذه الأمور، لأنّ جملة (أثاروا الأرض ) لها مفهوم واسع يشمل جميع هذه الأُمور التي هي مقدمة للعمارة والبناء(2).
1 ـ في صورة ما لو قلنا بالتّفسير الأوّل، فإن «الباء» في كلمة «بالحق» للمصاحبة، وفي التّفسير الثّاني تكون الباء بمعنى اللام، أي للحق.
2 ـ «آثار» مأخوذة من مادة (ثور) على زنة (غور) ومعناها التفريق والنثر، وإنّما سمي الثور ثوراً لأنّه يثير الأرض ويفرّقها.
وحيث كانت أكبر قدرة ـ في ذلك العصر ـ تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات، فإنّه يتّضح رفعة الأُمم السالفة وعلوهم على مشركي مكّة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدّاً.
إلاّ أنّ أُولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟!
وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولا يظلم ربّك أحداً.
أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).
أجل، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له.
إنّ نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنّهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبّب يوماً بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر.
ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب(عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفاً... لأنّها حين رأت يزيد يسخر بكل شيء ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعاراً من ضمنها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
وهذه الكلمات تكشف عن عدم إيمانه بأساس الإسلام، فحمدت زينب الله تعالى وصلّت وسلّمت على النّبي(صلى الله عليه وآله) وقالت:
«صدق الله، كذلك يقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون )» .
أي إذا أنكرت الإسلام والإيمان هذا اليوم بأشعارك المشوبة بالكفر، وتقول لأسلافك المشركين الذين قتلوا على أيدي المسلمين في معركة بدر: ليتكم تشهدون انتقامي من بني هاشم، فلا مجال للتعجب، فذلك ما قاله الله سبحانه: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).. وقد ذكرت في هذا الصدد مطالب كثيرة.
ولمزيد من الإيضاح يراجع الجزء الخامس والأربعون من بحار الأنوار الصفحة 157.(1)
* * *
1 ـ طبقاً لما ذكرنا في التّفسير تكون كلمة «السوءى» مفعولا لأساءوا وجملة (أن كذبوا بآيات الله )مكان اسم كان وخبرها «عاقبة الذين» .
ويذكر العلاّمة الطباطبائي ذلك في الميزان بصورة احتمال، وإن لم ينتخبه هو نفسه، ويرى «أبو البقاء» في كتاب «إملاء ما منّ به الرحمن» الصفحة 185 الجزء الثاني، أنّه واحد من احتمالين مقبولين. إلاّ أن أغلب المفسّرين كالطبرسي وصاحب الميزان، والفخر الرازي، والآلوسي، وأبو الفتوح الرازي والقرطبي وسيد قطب في ظلاله، والطوسي في تبيانه» يقوّون إحتمالا آخر في تفسير الآية.. وهو أن كلمة «السوءى» اسم كان، وجملة «إن كذبوا» في مقام التعليل. وطبقاً لهذا التّفسير يكون معنى الآية: وأخيراً فإن عاقبة أعمال المسيئين كانت السوء، لأنّهم كذبوا بآياتنا. وهذا المعنى شبيه بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى ). إلاّ أن الأنصاف أن هذا التفسير خلاف ما يستظهر من الآية، وانتخاب المفسّرين لهذا الرأي والتفسير لا يصرفنا عما هو منسجم مع الآية، وخاصة أنّهم اضطروا إلى أن يقدروا اللام في جملة «أن كذبوا» والتقدير خلاف الظاهر «فلاحظوا بدقة» .
اللهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْـمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ مِّنْ شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَـؤُاْ وَكَانُوا بِشُرَكَآئِهِمْ كَـفِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّآ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّآ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِايَـتِنَا وَلِقَآىءِ الاَْخِرَةِ فَأُولَـئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات الله، وفي الآيات ـ محل البحث ـ تستكمل البحوث السابقة عن المعاد، مع بيان جوانب منه، ومآل المجرمين في القيامة!
فتبدأ الآيات بالقول: (الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده ثمّ إليه ترجعون ) ويُبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز، وذو معنى كبير، على مسألة المعاد. وقد ورد هذا المعنى بعبارة أُخرى في بعض آيات القرآن الأُخرى ومنها (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليهم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً
فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم )(1)
وجملة (ثمّ اليه ترجعون )إشارة إلى أنّه بعد النشور والقيامة يعود الجميع إلى محكمة الله، والأسمى من ذلك أن المؤمنين يمضون في تكاملهم نحو ذات الله المقدسة إلى ما لا نهاية..
والآية الأُخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة (يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ).
«يبلس» مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.
وبديهي أنّه إذا يئس الإنسان من شيء غير ضروري، فهذا اليأس غير مهم، لكن الحزن والغم يكشف في هذه الموارد عن أُمور ضرورية مأيوس منها، لذلك يرى بعض المفسّرين أنّ «الضرورة» جزء من «الإبلاس» وإنّما سمّي «إبليس» بهذا الإسم، فلأنّه أبلس من رحمة الله واستولى عليه الهم.
وعلى كل حال فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر، ولا صديق حميم، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى!.
لذلك يضيف القرآن في الاية التالية قائلا: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء ).
فتلك الأصنام والمعبودات المصنوعة التي كانوا يتذرعون بها عندما يسألون: من تعبدون؟ فيقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عندالله )(2)، سيتّضح لهم جيداً حينئذ أنّه لا قيمة لها ولا تنفعهم أبداً.. فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون الله
1 ـ سورة يس، 79 ـ 81.
2 ـ سورة يونس، الآية 18.
ويبرأون منها (وكانوا بشركائهم كافرين ).
ولم لا يكفرون بهذه الأصنام؟ وهم يرونها ساكنة عن الدفاع عنهم بل كما يعبّر القرآن تقوم بتكذيبهم وتقول: يا رب (ما كانوا إيانا يعبدون )(1) بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم؟!
وأكثر من هذا، فقد عبر القرآن عن هذ المعبودات في الآية (6) من سورة الأحقاف أنّها ستكون معادية لهم وكافرة بهم (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين ).
ثمّ يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة، فيقول: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ).
كلمة «يحبرون» مأخوذة من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً، وحيث أن قلوب أهل الجنّة في غاية السرور والفرح بحيث أن آثارها تظهر في وجودهم قاطبة، فقد استعمل هذا التعبير لهذه الحالة أيضاً.
و«الروضة» معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.. وقد جاءت هذه الكلمة هنا بصيغة التنكير لغرض التعظيم والمبالغة، أي إنّهم في أفضل الجنان وأعلاها التي تبعث السرور، فهم منعمون، بل غارقون في نعيم الجنّة.
(وأمّا الذين كفرا بآياتنا ولقاء الآخرة فأُولئك في العذاب محضرون ).
الطريف هنا أنّه في شأن أهل الجنّة استعملت كلمة «يُحبرون» وتدلّ على منتهى الرضا من جميع الجوانب لدى أهل الجنّة.. ولكن استعملت كلمة «محضرون» في أهل النّار، وهي دليل على منتهى الكراهة وعدم الرضا لما
1 ـ سورة القصص، الآية 63.
يتلقونه ويستقبلونه، لأنّ الإحضار يطلق في موارد تكون على خلاف الرغبات الباطنيّة للإنسان.
اللطيفة الأُخرى أن أهل الجنّة ذكروا بقيدالإيمان والعمل الصالح، ولكن أهل النّار اكتفي من ذكرهم بعدم الإيمان «إنكار المبدأ والمعاد». وهي إشارة أن ورود الجنّة ـ لابد له من الإيمان والعمل الصالح ـ فلا يكفي الإيمان وحده، ولكن يكفي لدخول النّار عدم الإيمان ـ وإن لم يصدر من ذلك «الكافر» ذنب ـ لأنّ الكفر نفسه أعظم ذنب!.
* * *
ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة... وهي أنّه في كثير من آيات القرآن، ومن ضمنها الآيتان من الآيات محل البحث، عبر عن قيام «القيامة» بقيام«الساعة» وذلك لأنّ «الساعة» في الأصل جزء من الزمان، أو لحظات عابرة، وحيث أنّه من جهة تكون القيامة بصورة مفاجئة وكالبرق الخاطف، ومن جهة أُخرى بمقتضى أن الله سريع الحساب فإنه ينهي حساب عباده بسرعة، فقد استعمل هذا التعبير في شأن يوم القيامة ليفكر الناس بيوم القيامة ويكونوا على «أهبة الإستعداد».
يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» اسم للوقت الذي تصعق فيه العباد والوقت الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة ، سمّيت ساعة لأنّها تفاجيء الناس في ساعة فيموت الخلق كلّهم عند الصيحة الاُولى التي ذكرها الله عزّوجلّ فقال: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا خامدون )(1).. وأشار إلى الثّانية بقوله: (إن1 ـ سورة يس، الآية 29 ـ وما بعدها...
كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم من الاجداث إلى ربّهم ينسلون )(1).
وينقل «الزبيدي» في «تاج العروس» عن بعضهم أن الساعة ثلاث «ساعات»:
فساعة كبرى: وهي يوم القيامة، وإحياء الموتى للحساب.
وساعة وسطى: وهي يوم الموت الفجائي لأهل زمان واحد «بالعذاب والعقوبة الإلهية للإستيصال».
وساعة صغرى: وهي يوم الموت الطبيعي لكل إنسان.
* * *
1 ـ المصدر السابق.
فَسُبْحَـنَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَعَشِّيَّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد، وقسم من ثواب المؤمنين، وجزاء المشركين وعقابهم... ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه لله من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب، إذ تقول الآية: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون ).
وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح الله:
1 ـ بداية الليل (حين تمسون ).
2 ـ وطلوع الفجر (حين تصبحون ).
3 ـ وعصراً (عشياً ).
4 ـ وعند الزوال ـ في الظهر ـ (حين تظهرون )(1).
أمّا «الحمد» من حيث المكان فهو عام وشامل لجميع السماوات والأرض.
وذكر هذه الأوقات الأربعة في الآيات المتقدمة لعله كناية عن الدوام والإستمرار في التسبيح، «أي كل وقت وكل زمان».
كما احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الأوقات الأربعة الإشارة إلى أوقات الصلاة، إلاّ أنّهم لم يجيبوا على هذا السؤال، وهو: لم ذكر في القرآن أربعة أوقات بدلا من خمسة أوقات؟ «ولم يرد الكلام على صلاة العشاء»!
ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال بأن وقت صلاة المغرب مقارب لوقت صلاة العشاء نسبياً، والفاصلة بينهما حدود الساعة إلى الساعة والنصف، فجاءت الصلاتان في مكان واحد، غير أنّ الفاصلة بين الظهر والعصر أطول نسبياً، حيث تطول أكثر من ساعتين.
لكننا لو أخذنا التسبيح والحمد بمفهومهما الوسيع في الآية، لوجدنا أنّهما لا يتحدّدان بالصلوات الخمس، وإن كانت هذه الصلوات من مصاديقهما الواضحة.
وينبغى أن نذكر هذه المسألة «اللطيفة» وهي: إن كلا من جملتي (سبحان الله )و(له الحمد ) يمكن أن تكونا إنشاء لتسبيح الله وحمده من قبل الله سبحانه، كما قال في الآية (14) من سورة المؤمنون (فتبارك الله أحسن الخالقين ).
ويمكن أن يكون هذا الحمد والتسبيح بمعنى الأمر، أي «سبّحوه واحمدوا له».
وهذا التّفسير يبدو أقرب للنظر، إذ الآيات المتقدمة هي بمثابة دستور لجميع العباد لمحو آثار الشرك والذنب من الروح والقلب كل صباح ومساء وكل ظهر وعصر، فسبحوا الله واحمدوا له في الصلاة وفي غير الصلاة.
ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) يقول فيه: «من قال حين يمسي ثلاث مرات
1 ـ يرجى ملاحظة أن «عشياً» و «حين تظهرون» قد عطفتا على «حين تمسون» ويرجع الجميع للتسبيح...
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (الآيات الثلاث إلى.. تخرجون) أدرك مافاته في يومه، وإن قالها حين يمسي أدرك ما فاته ليلته» (1).
وفي الآية التالية عودة إلى المعاد، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر، فيقول: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ).
أي إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة أُخرى!
أمّا التعبير بـ «يخرج الحي من الميت» المستعمل للأراضي الموات، فقد ذكره القرآن مراراً في مسألة المعاد وواضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء، فلا خضرة ولا أزهار تضحك ولا براعم تتفتح، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء، تدبّ الحركة في الأرض، وتنمو الخضرة في كل مكان، وتتبسّم الأزهار وتنمو البراعم على الأغصان وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا.
وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحيّ» فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً، فدائماً تموت الأشجار على الأرض وتتبدل إلى أخشاب، ويفقد الإنسان والحيوان حياتهما، ويتبدل كل منهما إلى جسد هامد لا روح فيه.
وأمّا ما يتعلق بـ «إخراج الحيّ من الميت» ففسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة، وقال بعضهم: بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر، وقال بعضهم: المراد منه تيقظ النائمين والراقدين.
والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي، لأنّ النطفة بنفسها
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 172.
موجود حي، ومسألة «الكفر والإيمان» هي من بطون الآية، لا من ظواهر الآية، وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي، إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين.
إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة، ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة.
وبالرغم من أنّه من المسلّم به ـ في العصر الحاضر على الأقل ـ أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أونطف الموجودات الحية الأُخرى، غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي، ثمّ وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم ـ حتى الآن ـ بصورة دقيقة، تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.. لكن هذا الموضوع وفي الظروف الفعلية للكرة الأرضية. وحيث أنّ العلم البشري لم يتوصل إليه، فلم يشاهد هذا الموضوع (وبالطبع يحتمل أن تتحقق هذه القفزة الكبرى في أعماق البحار والمحيطات في بعض الظروف الحالية).
لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة! فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه، كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين.
أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت، أو «الحي من الميت»؟!
فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء
الموتى في العالم الآخر.
وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر.. منها تولد المؤمن من الكافر، وتولد الكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والصالح من المفسد، والمفسد من الصالح، كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً.
ويمكن أن تكون هذه المعاني من بطون الآية، لأنّنا نعرف أنّ آيات القرآن لها ظاهر وباطن، كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي.
هذا وقد جاء في رواية عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في تفسير الآية (يحيي الأرض بعد موتها ) مايلي: «ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل، فتحيي الأرض لإحياء العدل ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً» (1).
وواضح أنّ مراد الإمام(عليه السلام) أن معنى الآية لا ينحصر بنزول الغيث، ولا ينبغي تفسير الآية بالغيث فحسب، لأنّ الإحياء المعنوي للأرض بالعدل أهم من إحيائها بالغيث عند نزوله.
* * *
1 ـ نقلا عن كتاب الكافي وطبقاً لتسفير نور الثقلين، ج 4، ص 173.
وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب ثُمَّ إِذَآ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّلْعَـلَمِينَ (22)
تحدثت هذه الآيات ـ وبعض الآيات الأخر التي تليها ـ عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة، ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات!
هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعالى: (ومن آياته ) ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة، مجموعة من سبع آيات، ستٌ منها متتابعات، وواحدة منفصلة «وهي الآية السادسة والأربعون».
هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث «آيات الآفاق» و «آيات الأنفس» إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس (دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه) وثلاث منها عن آيات الآفاق (دلائل الخالق خارج وجود الإنسان) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة: (ومن آياته )مجموعها إحدى عشرة آية فحسب، في سائر سور القرآن، سبع منها في هذه السورة، واثنتان في سورة فصلت هما «الآية 37 والآية 39» وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32 ـ ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير. وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد.
![]() |
![]() |
![]() |