[1]

 

 

 

الأَمْثَلُ

 

 

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

 

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

 

 

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثّاني عَشر

 

[5]

 

 

 

 

سُورَة

النمل

 

مكيّة

 

وَعَدَدُ آياتها ثلاث وتَسعون آية

 

 

[7]

«سورة النّمل»

محتوى سورة النمل

هذه السورة نزلت بمكّة ـ كما ذكرنا آنفاً ـ والمعروف أنّها نزلت بعد سورة الشعراء.

ومحتوى هذه السورة ـ بصورة عامّة ـ كمحتوى سائر السور المكية، فأكثر اهتمامها ـ من الوجهة الإعتقادية ـ ينصبّ على المبدأ والمعاد ... وتتحدث عن الوحي والقرآن وآيات الله في عالم الإِيجاد والخلق، وكيفية المعاد والقيامة؟

وأمّا من ناحية المسائل العملية والاخلاقية، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لاُممهم المنحرفة، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلّة بمكّة في ذلك اليوم، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصّة النّبي سليمان وملكة سبأ، وكيفية إِيمانها بالتوحيد، وكلام الطير ـ كالهدهد، والحشرات كالنمل ـ مع سليمان(عليه السلام).

وهذه السورة سُمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الرّوايات «والنمل أُخرى» سليمان أحياناً، وكما سنلاحظ ... فإِنّ هذه التسميات للسور ليست اعتباطاً، بل هي مدروسة ودقيقة في تسميتها، فهي من تعليمات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكشف عن حقيقة

[8]

مهمّة يغفل عنها الناس في الظروف الإِعتيادية!.

وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم الله غير المحدود، وهيمنته وسلطانه على كل شيء في عالم الوجود، وحاكميته عالم عباده ... والإِلتفات إِلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإِنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد، فالبشرى للمؤمنين، والتهديد للناس بأنّ الله غير غافل عن أعمالكم.

 

فضيلة سورة النمل:

جاء في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإِبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلاّ الله»(1).

وبالرغم من أنّ هذه السورة تتحدث عن موسى وسليمان وداود وصالح ولوط، وليس فيها كلام عن هود وشعيب وإبراهيم، إِلاّ أنّه حيث أنّ جميع الأنبياء سواءٌ في دعوتهم إِلى الله ـ فلا مجال لأن نعجب من هذا التعبير.

وورد في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سور الطواسين الثلاث «يعني سور الشعراء والنمل والقصص» في ليلة جمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مئة زوجة من الحور العين» (2).

 

* * *


1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات وتفسير الثقلين، ج4، ص 74.

2 ـ «ثواب الاعمال» نقلا، نور الثقلين، ج 4، ص 74.

[9]

 

 

 

 

الآيات

 

طس تِلْكَ ءَايَـتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَاب مُّبِين (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إنَّ الَّذِيْنَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاْخِرَةِِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمـلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاَْخْسَرُونَ (5) وَاِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيم عَلِيم (6)

 

التّفسير

القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم:

نواجه مرّة أُخرى ـ في بداية هذه السورة ـ الحروف المقطّعة من القرآن (طس).

وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البيّنات منه، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة... وإن الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف،

[10]

وكان لنا في هذا الشأن بحوث مفصّلة في بداية سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (تلك آيات القرآن كتاب مبين ) والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية، والتعبير بـ (المبين ) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً(1).

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل أنّ التعبير بـ (القرآن وكتاب مبين )إشارة إلى معنيين مستقلين، وأن «الكتاب المبين» يراد منه اللوح المحفوظ.... إلاّ أن ظاهر الآية يدلّ على أنّ كلاهما لبيان حقيقة واحدة، فالأوّل في ثوب الألفاظ والتلاوة، والثّاني في ثوب الكتابة والرسم.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول: (هدى وبشرى للمومنين... الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ).

وهكذا فإن اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد، وارتباط متين بالله وخلقه أيضاً... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع!.

وهنا ينقدح سؤال وهو: إذا كان هؤلاء المؤمنون قد اختاروا الطريق السوي، من حيث المباني الإعتقادية والعملية، فما الحاجة لأنّ يأتي القرآن لهدايتهم؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة أنّ الهداية لها مراحل مختلفة، وكل مرحلة مقدمة لما بعدها،.

ثمّ إنّ استمرار الهداية مسألة مهمّة، وهي ما نسألُها الله سبحانه ليل نهار بقولنا: (إهدنا الصراط المستقيم ) ليثبتنا في هذا المسير، ويجعلنا مستمرين فيه


1 ـ «المبين» مشتق من (الإبانة) وكما يقول بعض المفسّرين «كالآلوسي في روح المعاني»: إنّ هذه المادة قد يأتي فعلها لازماً، وقد يأتى متعدياً ففي الصورة الأُولى يكون مفهوم المبين هو الواضح والبيّن، وفي الصورة الثّانية يكون مفهومه الموضح!

[11]

بلطفه، فلولا لطفه لما كان ذلك ممكناً لنا...

وبعد هذا كلّه، فالإفادة من آيات القرآن والكتاب المبين هي نصيب أُولئك الذين فيهم القابلية على معرفة الحق وطلب الحق. وإن لم يبلغوا مرحلة الهداية الكاملة... وإذا ما وجدنا التعبير في بعض آيات القرآن بأنّه (هدى للمتقين ) «كما في الآية 2 من سورة البقرة» وفي مكان آخر (للمسلمين ) «كما في الآية 102 من سوره النحل» وهنا (هُدًى وبشرى للمؤمنين ) فإنّ ذلك ناشىء من أنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع، فإنّه لا يتجه نحو الحق، ولا يبحث عنه، ولايفيد من نور هذا الكتاب المبين... لأنّ قابلية المحل شرط أيضاً.

ثمّ بعد ذلك فإن الهدى والبشرى مقترنين معاً.. وهما للمؤمنين فحسب، وليس للآخرين مثل هذه المزية...

ومن هنا يتّضح مجيء التعبير بالهداية بشكل واسع لعموم الناس (هدى للناس ) فإن المراد منه أُولئك الذين تتوفر فيهم الأرضيّة المناسبة لقبول الحق، وإلاّ فأنّ المعاندين الألداء. عُماة القلوب، لو أشرقت عليهم آلاف الشموس بدل شمسنا هذه ليهتدوا، لما اهتدوا أبداً.

وتتحدّث الاية التالية عن الاشخاص في المقابلة للمؤمنين، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم يعمهون ). أي حيارى في حياتهم.

فهم يرون الملوّث نقيّاً، والقبيح حسناً، والعيب فخراً، والشقاء سعادةً وانتصاراً!.

أجل، هذا حال من يسلك الطريق المنحرف ويتوغل فيها... فواضح أن الإنسان حين يقوم بعمل قبيح. فإنّ قبحه يخف تدريجاً، ويعتاد عليه، وعندما يتطبع عليه يوجههُ ويبرره، حتى يبدو له حسناً ويعدّه من وظائفه! وما أكثر الذين تلوثت أيديهم بالأعمال الإجرامية... وهم يفتخرون بتلك الأعمال ويعدونها

[12]

أعمالا إيجابيّة.

وهذا التغير في القِيمَ، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان، يؤدي إلى الحيرة في متاهات الحياة... وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.

والذى يلفت النظر أنّ «التزيين» في الآية محل البحث ـ وفي آية أُخرى من القرآن، وهي الآية (108) من سورة الأنعام، نسب إلى الله سبحانه، مع أنّه نُسب في ثمانية مواطن إلى الشيطان، وفي عشرة أُخَر جاء بصيغ الفعل المجهول (زُيّنَ) ولو فكرنا بإمعان ـ وأمعنا النظر، لوجدنا جميع هذه الصور كاشفة عن حقيقة واحدة!

فأمّا نسبة التزيين إلى الله، فلأنّه «مسبب الاسباب» في عالم الإيجاد، وما من موجود مؤثر إلاّ ويعود تأثيره إلى الله.

أجل، إنّ هذه الخاصية أوجدها الله في تكرار العمل ليتطبّع عليه الإنسان... ويتغير حسُّ التشخيص فيه دون أن تسلب المسؤولية عنه، أو أن تكون نقصاً في خلقة الله أو إيراداً عليه (لاحظوا بدقّة) .

وأمّا نسبة التزيين إلى الشيطان (أو هوى النفس) فلأن كلاّ منهما عامل قريب و بغير واسطة للتزيين.

وأمّا مجيء التزيين بصورة الفعل المبني للمجهول، فهو إشارة إلى أنّ طبيعة العمل يقتضي أن يوجد ـ على أثر التكرار ـ حالة وملكة وعلاقة وعشقاً!!

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال » وعاقبة أُولئك الذين شغفوا بها فتقول: (أُولئك لهم سوء العذاب ).

فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة (وفي الآخرة هم الأخسرون ).

والدليل على أنّهم في الآخرة هم الأخسرون، ما جاء في الآية (103) من سورة الكهف (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة

[13]

الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ).

فأية خسارة أعظم من أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً!! وأن يهدر جميع طاقاته من أجله، ظنّاً منه بأنّه عمل «إيجابي» مثبت، إلاّ أنّه يراه في عاقبة أمره شقاءً وذلة وعذاباً.

وأمّا الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: (وإنّك لتلقّى(1) القرآن من لدن حكيم عليم ).

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه، إلاّ أن الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية... وبتعبير آخر: إن العليم يخبر عن علم الله الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النّبي (محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)).

ومثل هذا القرآن النازل من قبل الله ينبغي أن يكن مبيناً ... وهدى وبشرى للمؤمنين، وأن تكون قصصه خالية من أي نوع من أنواع الخرافات والتضليل والأباطيل والتحريف.

 

الواقعية والإيمان:

المسألة المهمة في حياة الإنسان هي أن يدرك الواقعيّات بما هي عليه، وأن يكون موقفه منها صريحاً... فلا تمنعه من فهمها وإدراكها تصوراته وأحكامه المسبقة ورغباته الإنحرافية وحبّه وبغضه، ولذلك فأنّ أهم تعريف للفلسفة هو: إدراك الحقائق كما هي!.


1 ـ «تلقى» فعل مضارع مبني للمفعول، وهو من باب التفعيل، والفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة (لقي ) وهو يتعدى إلى مفعول واحد. أمّا المزيد فيتعدى إلى مفعولين. وفي الآية محل البحث (الله) هو الفاعل وملقي القرآن، والنّبي (مفعول به أول)، والقرآن مفعول ثان، وحيث أنّ الفعل بني للمجهول يقوم المفعول الأوّل مقام الفاعل فرفع، وأمّا المفعول الثّاني فعلى حالة.

[14]

ولذلك فقد كان من دعاء المعصومين: (اللّهم أرنى الأشياء كما هي) أي لأعرف قيمها وأؤدي حقّها.

وهذه الحالة لا تتحقق بغير الإيمان! لأنّ الهوى والهوس والإنحرافات أو الرغبات النفسية، تكون حجاباً وسداً كبيراً في هذا الطريق، ولا يمكن رفع هذا الحجاب أو السد إلاّ بالتقوى وضبط هوى النفس!.

لذلك فقد قرأنا في الآيات آنفة الذكر: (إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ).

والمثل الواضح والجلي لهذا المعنى نراه في حياة كثير من عبدة الدنيا في زماننا بشكل بيّن. فهم يفتخرون ببعض المسائل ويرونها حضارة، إلاّ أنّها في الواقع ليست إلاّ الفضيحة والعار والذل.

فالتفسخ والحماقة عندهم دليل «الحرية».

والتعري والسفور من قبل النساء دليل «التمدن» .

التكالب على بهارج الدنيا وزخارفها دليل على «الشخصيّة» .

الغرق في الوان الفساد دليل «التحرر».

القتل والإجرام دليل على «القوّة» .

التخريب وغصب رؤوس الأموال دليل على الاستعمار، أي البناء والعمران(1)!!

استخدام اجهزة الاعلام العامة كالراديو والتلفزيون لتوكيد المفاهيم!!

سحق حقوق المحرومين دليل على احترام حقوق البشر.

الأسر في قبضة المخدرات والفضائح وما إلى ذلك من أشكال الحرية!.

والتزوير والغش واقتناء الأموال من أي طريق كان وكيف كان، دليل على


1 ـ المفهوم اللغوي للإستعمار مفهوم جميل، يعني الإعمار كما جاء في القرآن (واستعمركم فيها )إلاّ أن المفهوم السياسي للإستعمار هو التسلط من قبل الأجنبي واستثماره لخيرات الشعوب (المصحح).

[15]

الجدارة والذكاء.

رعاية أصول العدل واحترام حقوق الآخرين دليل على الضعف وعدم اللياقة!.

الكذب والدجل ونقض العهود وما إلى ذلك دليل على السياسة.

والخلاصة: إنّ الأعمال السيئة والقبيحة تتزين في نظر هؤلاء الى درجة أنّهم لا يشعرون في أنفسهم بالخجل منها. بل ويفتخرون ويتباهون بها!!

وواضح إلى اين يتجه مثل هذا العالم وماذا سيكون مصيره!!

 

* * *

[16]

 

 

 

الآيات

إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً سَأَتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَاب قَبَس لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمّـا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهـا وَسُبْحَـنَ اللهِ رَبِّ الْعـالَمِينَ (8) يَـمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَـاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسَى لاَتَخَفْ إِنِّى لاَيَخـافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فىِ جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء فِى تِسْعِ ءَايـت إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فـسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايـتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عَـقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ (14)

 

التّفسير

موسى يقتبس النّور:

يجري الكلام في هذه السورة ـ كما أشرنا من قبلُ ـبعد بيان أهمّية القرآن، عن قصص خمسة أنبياء عظام، وذكر أُممهم، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

[17]

الكافرين.

فأوَّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة، هو موسى عليه السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرةً بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه، وتكليم الله إيّاه إذ تقول الآية: (إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً )(1) اي رأيت ناراً من بعيد، فامكثوا هنيئة (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون )(2).

في تلك الليلة الظلماء، كان موسى(عليه السلام) يسير بزوجته بنت النبيّ شعيب(عليه السلام) في طريق مصر ـ وفي الصحراء ـ فهبت ريح باردة، وكانت زوجته (أهله ) مُقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى (عليه السلام)نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أىّ شيء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتَيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

ممّا يلفت النظر أنّ موسى(عليه السلام) يقول لأهله سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس «بضمير الجمع لا الإفراد» ولعل هذا التعبير هو أنّ موسى (عليه السلام)كان معه بالإضافة إلى زوجته أطفال أيضاً.. لأنّه كان قد مضى على زواجه عشر حجج (عشر سنين) في مدين.. أو أنّ الخطاب بصيغة الجمع (آتيكم) يوحي بالإطمئنان في هذه الصحراء الموحشة!.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النّار» التي آنسها (فلمّا جاءها نودي أن بورك من في النّار ومن حولها وسبحان الله ربّ العالمين ).

وهناك احتمالات مختلفة عند المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (من في


1 ـ «آنستُ» فعل ماض مأخوذ من (الإيناس) وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

2 ـ «الشهاب» هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود، وكل نور له عمود يدعى شهاباً، وفي الأصل يطلق الشهاب على واحد النيازك التي تهوي من السماء بسرعة مذهلة فتحرق بسب اصطدامها بالغلاف الجوي فيكون لها عمود من نار، «والقبس» شعلة من النّار تنفصل عنها. «وتصطلون» من الإصطلاء وهو الدفء (بالنّار)..

[18]

النّار ) (ومن حولها )!... فما المقصود من هذا التعبير؟!

ويبدو أنّ المراد مِن (مَن في النّار ) هو موسى نفسه، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها، فكأنّ موسى كان في النّار نفسها، وأنّ المراد مِن (مَنْ حولها ) هم الملائكة المقرّبون من ساحة القدس، الذين كانوا يحيطون

بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت.

أو أنّ المراد ـ على عكس ما ذكرنا آنفاً ـ فمن في النّار: هم الملائكة المقرّبون، ومن حولها هو موسى(عليه السلام)

وعلى كلّ حال فقد جاء في بعض الرّوايات أنّ موسى(عليه السلام) لما وصل النّار ونظر بدقّة، رأى النّار تشتعل من غصن أخضر! وتتسع الشعلة لحظة بعد أُخرى، والشجرة تزداد اخضراراً وجمالا.. فلا حرارة النّار تحرق الشجرة، ولا رطوبة الشجرة تطفىء لهب النّار، فتعجب من هذا المشهد الرائع.... وانحنى ليقتبس من هذه النّار ويشعل الغصن اليابس «الحطب» الذي كان معه، فأتته النّار فارتاع ورجع... فمرّة يأتي موسى إلى النّار، ومرّة تأتي النّار إلى موسى، وبيّنا هو على هذه الحالة، إذا بالنداء يقرع سمعه مبشراً إيّاه بالوحي.

فالمراد أنّ موسى(عليه السلام)اقترب من النّار ألى درجة عُبّر عنه بأنّه «في النّار».

والتّفسير الثّالث لهذه الجملة، هو أنّ المراد من (من في النّار ) هو نور الله الذي تجلّى في تلك الشعلة، والمراد من «من حولها» هو موسى الذي كان قريباً منها. وعلى كل حال فمن أجل أن لا يتوهم أحد من هذه العبارة مفهوم «التجسيم» فقد خُتمت الآية بـ (سبحان الله ربّ العالمين ) تنزيهاً له عن كل عيب ونقص وجسميّة وما يعترض الجسم من عوارض!.

ومرّة أُخرى نودي موسى بالقول: (ياموسى إنّي أنا الله العزيز الحكيم ).

وذلك يزول عن موسى (عليه السلام)كل شك وتردّد، وليعلم أنّ الّذي يكلمه هو ربّ العالمين، لا شعلة النّار ولا الشجرة، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر،

[19]

والحكيم ذو التدبير في جميع الأُمور!.

وهذا التعبير في الحقيقة مقدّمة لبيان المعجزة التي سيأتي بيانها في الآية التالية لأنّ الإعجاز آت من هاتين الصفتين «قدرة الله» و«حكمته»، ولكن قبل أن نصل إلى الآية التالية.. ينقدح هذا السؤال وهو: من أين تيقن موسى (عليه السلام) أنّ هذا النداء هو نداء الله وليس سواه؟!

يمكن أن يجاب على هذا السؤال بأنّ هذا النداء ـ أو الصوت المقرون بمعجزة جليّة، وهي إشراق النّار من الغصن الأخضر «في الشجرة الخضراء» ـ دليل حي على أنّ هذا أمر إلهي!.

ثمّ إنّه ـ كما سنرى في الآية التالية ـ بعد هذا النداء أمر موسى (عليه السلام) بإلقاء العصا وإظهار اليد البيضاء، على نحو الإعجاز، وهما شاهدان صادقان آخران على هذه الحقيقة.

ثمّ بعد هذا كله (فعلى القاعدة) فإن نداء الله له خصوصية تميزه عن كلّ نداء آخر، وحين يسمعه الإنسان يؤثر في روحه وقلبه تأثيراً لا يخالطه الشك أو التردد بأنّ هذا النداء هو نداء الله سبحانه.

وحيث أنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم كفرعون). لابدّ له من قوّة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيته... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه: (وألق عصاك ).

فألقى موسى عصاه، فتبدلت ثعباناً عظيماً، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت الى الوراء: (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقِّب ). (1)

ويحتمل أنّ عصا موسى تبدلت بادىء الأمر إلى حيّة صغيرة، ثمّ تحولت إلى


1 ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ «الجان» مأخوذ من الجن، وهو الموجود غير المرئي، لأنّ الحيّات الصغيرة تتحرك بين العشب في الارض وتخفي نفسها..

[20]

أفعى كبيرة في المراحل الأُخر!

وهنا خوطب موسى مرّة أُخرى أن (يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون )

فهنا مقام القرب، وحرم أمن الله القادر المتعال.

وهنا لا معنى للخوف والوحشة. ومعنى الآية: أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم، والحضور عنده ملازم لأمن المطلق!.

ونقرأ نظير هذا التعبير في الآية (31) من سورة القصص: (يا موسى أقبل  ولا  تخف إنّك من الآمنين ).

إلاّ أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة، حيث ذكره القرآن فقال: (إلاّ من ظلم ثمّ بدّل حُسناً بعد سوء فإنّي غفورٌ رحيمٌ )!.

وهناك رأيان مختلفان لدى المفسّرين في علاقة الإستثناء بالجملة:

فالرأي الأوّل: أنّ هناك حذفاً ذيل الآية آنفة الذكر وتقديره: إنّك من الآمنين وغير الأنبياء ليس آمناً. ثمّ استثنى سبحانه من ذلك «بإلاّ» من ظلم ثمّ بدل حسناً، فهو من الآمنين أيضاً (لأنّ الله غفور رحيم ).

والثّاني: أنّ الإستثناء من ضمن الجملة، والظلم إشارة إلى ترك الأُولى الذي قد يقع من الأنبياء، وهو لا ينافي مقام العصمة، ومعنى الآية على هذا الرأي: أن الأنبياء في حال ترك الأولى غير آمنين أيضاً، وأنّ الله يحاسبهم حساباً عسيراً، كما جاء في آيات القرآن عن قصّة آدم وقصّة يونس(عليهما السلام)!.

إلاّ أُولئك الذين التفتوا إلى ترك الأولى، وانعطفوا نحو الله الرحيم، فبدلوا حسناً وعملا صالحاً بعد ذلك، كما جاء في شأن موسى (عليه السلام) نفسه في قصّة قتله الرجل القبطي، إذ اعترف موسى بتركه الأَولى، فقال: (ربّ إنّى ظلمت نفسي فاغفر لي )(1).


1 ـ القصص، 16.

[21]

أمّا المعجزة الثّانية التي أمر موسى أن يظهرها، فهي اليد البيضاء، إذ تقول الآية: (وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ).

والقيد (من غير سوء ) إشارة إلى أن بياض اليد ليس من برص ونحوه، بل هو بياضٌ نوراني يلفت النظر، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة:

ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر، قال لموسى بأن معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين، بل (في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنّهم كانوا قوماً فاسقين )(1).

ويستفاد من ظاهر الآية أن هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة، وقد استنتجنا ذلك من الآية (101) من سورة الإسراء، وإن المعاجز السبع الأُخر هي:

1 ـ الطوفان 2 ـ الجراد 3 ـ كثرة الضفادع 4 ـ تبدل لون نهر النيل كلون الدم 5 ـ الآفات في النباتات. وكل واحدة من هذه المعاجز الخمس تعدّ إنذاراً لفرعون وقومه، فكانوا عند البلاء يلجأون إلى موسى ليرفع عنهم ذلك.

أمّا المعجزتان الأُخريان فهما 6 ـ القحط «السنين» 7 ـ ونقص الثمرات. إذ أشارت إليهما الآية (130) من سورة الأعراف فقالت: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون )... «ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء التاسع من التّفسير الأمثل ذيل الآية (101) من سورة الإسراء».

وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق، كما يصرح القرآن بذلك في آيته التالية (فلما جاءَتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبين ).

و معلوم أنّ هذا الإتّهام «بالسحر» لم يكن خاصّاً بموسى(عليه السلام)، بل اتّخذه


1 ـ الجار والمجرور «في تسع آيات» إمّا متعلقان بجملة (إذهب ) أو بأحد أفعال العموم المقدرة.. وقد تكون (في ) بمعنى (مع ) و (إلى فرعون ) متعلق بالجملة ذاتها، أو بجملة أنت مرسل بها المفهومة من السياق تقديراً.

[22]

المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين، والإتّهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة، بحيث اتّهموه بالسحر.

مع أنّنا نعرف أن الأنبياء كانوا رجالا صالحين صادقين طلاّب حق مخلصين، أمّا السحرة فهم منحرفون ماديّون تتوفر فيهم جميع صفات المدلّسين «أصحاب التزوير».

وإضافة إلى ذلك فإن السحرة كانت لديهم قدرة محدودة على الأعمال الخارقة، إلاّ أنّ الأنبياء فقد كان محتوى دعوتهم ومنهاجهم وسلوكهم يكشف عن حقانيتهم، وكانوا يقومون بأعمال غير محدودة، بحيث كان ما يقومون به معجزاً  لا يشبه سحر السحرة أبداً.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلا: إنّ هذا الإتهام لم يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم و مترددين فعلا، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً ).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشيء!.

وبعبارة أُخرى: إنّ حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحقّ، فبناءً على ذلك إذا كان الإنسان مستيقناً بشيء ما، إلاّ أنّه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان. بل هو ذو كفر جحودي، وهذا موضوع مفصل، ونكتفي هنا بهذه الاشارة.