«وقد ذكرنا شرحاً حول المعجزة الإقتراحية في ذيل الآية 20 من سورة يونس».

* * *

[437]

 

 

 

 

الآية

يَـعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إنَّ أَرْضِى وَسِعَةٌ فَإِيَّـىَ فَاْعبُدُونَ (56)كُلُّ نَفْس ذآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَـمِلِينَ (58) الِّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِّنْ دَآبَّة لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (90)

 

سبب النّزول

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.

كما يعتقد بعض المفسّرين أيضاً أنّ الآية (وكأين من دابة لا تحمل رزقها )وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإيّاكم... ).

[438]

التّفسير

لابدّ من الهجرة:

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك، فتقول الآية الأولى: (يا عبادى الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون ).

وبديهي أنّ هذا ليس قانوناً خاصاً بمؤمني أهل مكّة، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأُخرى... فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلاّ الذل «والخسران والضرر» والإبتعاد عن أداء المناسك الإلهية، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر: إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً لله، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات... وجملة(فإيّاي فاعبدون ) إشارة إلى هذا المعنى، كما ورد هذا التعبير في الآية (56) من سورة الذاريات (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ).

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا، فلا سبيل عندئذ إلاّ الهجرة، فأرض الله واسعة، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أُخرى، ولا يكون أسيراً لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها، فإنّ احترام هذه الأُمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائماً غير مخاطر به، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطراً به فلا سبيل إلاّ الهجرة!

[439]

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك» (1).

صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك ا لأُمور، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (100) من سورة النساء.

والتعبير بـ(يا عبادي ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّاً للناس من قبل خالقهم. وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائماً «أشهد أن محمّداً عبده ورسوله».

من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله»، وهو فخر لآدم، إلاّ أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له، فكان ما كان، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ).(2)

والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان ).(3)

ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب، وجملة (الذين آمنوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(4).

وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم


1 ـ الكلمات القصار، رقم 442.

2 ـ سورة ص الآيتان 82، 83.

3 ـ سورة الحجر، الآية 42.

4 ـ جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون» .

[440]

يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأُخرى التي تهددهم... إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا: (كل نفس ذائقة الموت ثمّ إلينا ترجعون ).

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد، فبعض يمضي عاجلا، وبعض يتأخر، ولابدّ أن يذهبوا جميعاً، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لابدّ أن يقع ويتحقق، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة.. وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديارالكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الاسلام، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية، لأنّكم جميعاً (إلينا ترجعون ).. إلى الله العظيم، وإلى نعمه التي لاحدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار )(1).

فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه، طبقاً لآيات القرآن الاُخر، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبداً.. (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).

والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل»، فغرف الجنّة دائمة


1 ـ «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

[441]

(خالدين فيها ).

ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية (نعم أجر العاملين ).

وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفاً في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة، وما ورد في هذه الآية، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.

فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم، ويقال لهم على سبيل التوبيخ (ذوقوا ما كنتم تعملون ).

أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب، وبدلا من كلمات التوبيخ يُكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم، أجل يقال لهم: (نعم أجر العالمين ).

وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيم(صلى الله عليه وآله) يصف الجنّة فيقول: «إنّ في الجنّة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها و بطونها من ظهورها» فنهض بعض أصحابه فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمن هذه الغرف؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام» (1).

والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المومنون العاملون فتقول: (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون ).

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم و يصبرون، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر «جهادهم مع النفس» وجهادهم اعداءهم بشدّة، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!


1 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث، ج 7، ص 5075.

[442]

أجل، هذا الصبر وهذه الإستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.

ثمّ بعد هذا كلّه، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين: «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء».

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية، فالصبر هو عامل الإستقامة أمام العوائق والمشاكل، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي الحقيقة ينبغي الإستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(1).

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر، فالرازق هو الله، لا لكم فحسب بل (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ).

قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل، وغالباً ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا، في النقاط القريبة والبعيدة، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي


1 ـ تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (12) سورة إبراهيم، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (12) من سورة إبراهيم و الآية (24) من سورة الرعد و الآية (26) من سورة الأعراف.

[443]

الجبال والأماكن الأخرى، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية.

وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟!

ولم الركون إلى حياة الذل والإستكانة والفجور؟!

ولم تظل سادراً تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضاً من داخل هذه الدائرة المظلمة، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!.

فأنت يوم كنت جنيناً محبوساً في بطن أُمّك، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأُمك الرؤوم، لم ينسك الله الذي خلقك، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟!

وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا: (وهو السميع العليم ).

يسمع كلامكم كلّه، ويعرف لسان حالكم، ولسان حال جميع الدواب، وهو خبير بحاجات الجميع، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيءٌ أبداً.

* * *

[444]

 

 

 

 

الآيات

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوُلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قَلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَـذِهِ الحَيَوةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَاِنَّ الدَّارَ الاَْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـهُمْ إِلى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

 

التّفسير

الاقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر:

كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام، إلاّ أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم.

[445]

أمّا في هذه الآيات، فالحديث موجه للنّبي(صلى الله عليه وآله)، وفي الواقع لجميع المؤمنين، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة»، و«الربوبيّة»، و«الفطرة»، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم، لابأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية... فتقول: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله )!

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول: إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر: لا يشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق، وكانوا يقولون: إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى الله زلفى، فهم الوسطاء بيننا وبين الله، كما نقرأ في الآية (18) من سورة يونس (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عندالله ).. فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرةً، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى ).(1)

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، زد على ذلك: إذا كان الانسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرةً، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل: (فأنّى يؤفكون )أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الاحجار والاخشاب؟!


1 ـ الزمر، الآية 3.

[446]

كلمة «يؤفكون» مشتقّة من «إفك» على زنة «فكر» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة«للإتجاه» أيضاً.

والتعبير بـ «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان، ومنافعه.

ثمّ يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم، فيقول: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له )... فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّاً هم وحدهم يتوكلون عليه، فلأجل هذا المعنى، وهو أن شيء بيده وبأمره، فعلام يخشون من إظهار الإيمان، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر، إلاّ أنّه غير مطّلع على حالهم، فهذا خطأ كبير لـ(أنّ الله بكل شيء عليم ).

ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضهُ لحظة بعد أُخرى لموجوداته، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.

وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم، فيقول: (ولئن سألتهم من نزّل من ا لسماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ).

فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نبيّه (قل الحمد لله ). فالحمد والثناء لمن أنعم

[447]

جميع النعم، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحاً أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضاً.

قل الحمد لله «واشكره»، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.

وقل الحمد لله، فمنطقنا قوي متين حيٌّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد ابطاله أو تفنيده. وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أُخرى، يناقض بعضها بعضاً، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية (بل أكثرهم لا يعقلون ).

وإلاّ فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته، فتارةً يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!. فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب، ومن جهة أُخرى يظهرون الشرك في العبادة.

ومن الطريف أنّ الآية لا تقول: «أكثرهم لا عقل لهم» بل تقول: (لا يعقلون )ومعناها أنّهم لديهم العقول، إلاّ أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الأُخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ).

كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ «اللهو» معناه الإنشغال.. أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثّالث قائداً للجيش، والرابع ـ السارق أو «الحرامي»، والخامس يمثل القافلة وهكذا، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدوا

[448]

طيفاً.. أو خيالا.. فلا أثر ولا خبر.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيناً أن الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولاخوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً(1)..

وهذا التعبير (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلاّ الحياة.

وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.

وفي المرحلة الثّالثة... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثال بديع جدّاً وبليغ فيقول: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم


1 ـ أصل الكلمة مشتق من «حيي» ومصدرها «حييان» ثمّ أبدلت الياء الثّانية واواً فصارت حيوان.

[449]

إلى البرّ إذا هم يشركون ).

أجل، إنّ الشدائد والازمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الإجتماعية «الفطرة» الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً، إلاّ أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستاراً، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر، وينصهر في تنور الحوادث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: (مخلصين له الدين ).

وملخص الكلام: إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله.

إلاّ أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستاراً، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر.

وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق(عليه السلام) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمام(عليه السلام): «يا عبدالله، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال: نعم.

قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!

قال: نعم!

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من

[450]

ورطتك؟!

قال: نعم.

قال الصادق(عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث» .(1)

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: (ليكفروا بما آتيناهم فسوف يعلمون ) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟ وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟!

وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله...إلاّ أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد... وهذا تماماً ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان: افعل ما بدا لك من إجرام، إلاّ أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟

ففي مثل هذه العبارات، وإن استعملت صيغة الأمر فيها، إلاّ أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.

والطريف أن جملة (فسوف يعلمون ) جاءت بصورة مطلقة، فهي لا تقول: أي شيء يعلمون... بل تقول: سيعلمون عاجلا، هذا هو معنى (فسوف يعلمون ).

إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعاً ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله، الإفتضاح في الدارين، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.

 

* * *

 


1 ـ بحار الأنوار، ج 3، ص 41»الطبعة الجديدة.

[451]

ملاحظة

الشدائد واشراق القطرة:

سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول «فطريّة» أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها «فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة».

يقول القرآن في بعض آياته: (وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ثمّ إذا كشف الضر عنكم إذاً فريق منكم بربّهم يشركون ).(1)

ويأتي هذا المعنى في سورة يونس، ولكن بأُسلوب آخر، إذ يقول القرآن (إذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه )(2) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (32) وسورة الزمر الآية (49) وسورة الإسراء الآيات (67) ـ (69) بعبارات أُخرى وإشارات مليئة بالمعاني.

وفي الآيات ـ محل البحث ـ قرأنا أيضاً أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانباً جميع المعبودات المصنوعة، ويخلصون قلوبهم كاملا ـ لكن خلوصاً إجبارياً لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الإعتيادية، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه «الوردة».


1 ـ النحل، الآيتان 53 ـ 54»

2 ـ يونس، الآية 12.

[452]

قد يقال: إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الإجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني، ولكن مع الإلتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله، وفي المجتمعات غير المذهبية، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان، وفي داخل فطرته وجبلّته!.

* * *

 

[453]

 

 

 

 

الآيات

أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّآ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـفِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَـهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ (69)

 

سبب النّزول

نقل في تفسير «الدر المنثور» عن ابن عباس ـ ذيل الآية محل البحث ـ أن جماعة من المشركين قالو: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلاّ مخافة أن يتخطفنا الناس لِقلَّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس، فانزل الله: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً ) وكانت جواباً لهم.

 

التّفسير

أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.

[454]

وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ) أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلاّ أن هذه الأرض باقية على أمنها (ويُتخطف الناس من حولهم ).