![]() |
![]() |
![]() |
ثانياً: لو كانت هذه المسألة جائزة، فإنّ جماعة كانوا سيتّخذون زوجان النّبي أزواجاً لهم من بعده، وكان من الممكن أن يستغلّوا هذا الزواج لتحقيق مآربهم والوصول إلى مكانة إجتماعية مرموقة. أو أنّهم يبدؤون بتحريف الإسلام على أساس أنّهم يمتلكون معلومات خاصّة صادرة من داخل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، وأهل البيت أدرى بالذي فيه، أو أن يبثّ المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوّة ـ تأمّلوا ذلك ـ .
ونلمس ذلك بصورة أوضح عندما نعلم أنّ جماعة هيؤوا أنفسهم للقيام بهذا العمل، وصرّح بذلك بعضهم، وكتمه البعض الآخر في قلبه. وكان من جملة من
ذكره بعض مفسّري العامّة هنا هو «طلحة»(1).
إنّ الله المطّلع على الأسرار الخفيّة والمعلنة، والخبير بها، قد أصدر حكماً قاطعاً لإحباط هذه الخطّة الخبيثة، وليمنع من وقوع هذه الاُمور، ولتحكيم دعائم هذا الحكم فقد أطلق لقب (اُمّهات المؤمنين) على أزواج النّبي ليعلم اُولئك بأنّ الزواج منهنّ كالزواج من اُمّهاتهم! وبملاحظة ما قيل يتّضح لماذا وجب على نساء النّبي أن يتقبّلن هذا الحرمان بكلّ رحابة صدر؟
قد تطرح أحياناً مسائل مهمّة على مدى حياة الإنسان، يجب أن يظهر تجاهها التضحية والإيثار، وأن يغضّ النظر عن بعض الحقوق التي ثبتت له، خاصّة وأنّ الإفتخارات العظيمة تصاحبها مسؤوليات خطيرة، ولا شكّ أنّ أزواج النّبي قد إكتسبن فخراً لا يضاهى وعزّاً لا يسامى بزواجهنّ من النّبي (صلى الله عليه وآله)، وإكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.
لهذا السبب كانت نساء النّبي يعشن من بعده بكلّ إحترام وتقدير بين الاُمّة الإسلامية، وكن راضيات جدّاً عن حالهنّ، ويعتبرن ذلك الحرمان مقابل هذه الإفتخارات أمراً تافهاً.
وحذّرت الآية الثّانية الناس بشدّة، فقالت: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكلّ شيء عليماً) فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل إيذاء النّبي (صلى الله عليه وآله) سواء ما ذكرتموه، أو الذي أضمرتموه، فإنّه تعالى يعلم كلّ ذلك جيداً، ويعامل كلّ إنسان بما يناسب عمله.
* * *
مناسبة للبحث الذي ورد في الآيات المذكورة في شأن واجبات المسلمين عندما يدعون إلى ضيافة النّبي (صلى الله عليه وآله)، نورد جانباً من تعليمات الإسلام فيما يتعلّق بأصل مسألة «الضيافة»، وحقّ الضيف، وواجبات المضيف:
1 ـ الضيافة:
لقد أولى الإسلام مسألة الضيافة أهميّة خاصّة، حتّى أنّه ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله): «الضيف دليل الجنّة»(1).
إنّ أهميّة الضيف ووجوب إحترامه وتقديره، بلغ حدّاً إعتبر فيه هدية سماوية، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إذا أراد الله بقوم خيراً أهدى إليهم هدية، قالوا: وما تلك الهدية؟ قال: الضيف ينزل برزقه، ويرتحل بذنوب أهل البيت»(2).
والطريف أنّ رجلا حضر عند النّبي (صلى الله عليه وآله) فقال: فداك أبي واُمّي، إنّي اُسبغ الوضوء، واُقيم الصلاة، واُؤتي الزكاة في حينها، واُرحّب بالضيف واُقريه في الله، فقال (صلى الله عليه وآله): «بخ بخ بخ! ما لجهنّم عليك سبيل! إنّ الله قد برأك من الشحّ إن كنت كذلك».
الكلام في هذا الباب كثير، ونكتفي بهذا القدر رعاية للإختصار.
2 ـ مراعاة البساطة في الضيافة:
مع كلّ الأهمية التي يتمتّع بها الضيف، فإنّ الضيافة إذا اتّسمت بالتكلّف فإنّها غير راجحة من وجهة نظر الإسلام، بل ونهى عنها، فإنّ الإسلام يوصي بأن تكون الضيافة بسيطة، وجعل معياراً عادلا بين الضيف والمضيف، وهو: أن لا يبخل
المضيف بما عنده ويحضره، وأن لا يتوقّع الضيف أكثر من ذلك!
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «المؤمن لا يحتشم من أخيه، وما أدري أيّهما أعجب؟! الذي يكلّف أخاه إذا دخل عليه أن يتكلّف له، أو المتكلّف لأخيه؟»(1).
ويروي سلمان الفارسي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أن لا نتكلّف للضيف ما ليس عندنا، وأن نقدّم إليه ما حضرنا»(2).
3 ـ حقّ الضيف:
قلنا: إنّ الضيف كالهدية السماوية من وجهة نظر الإسلام، ويجب أن يرحّب به ويكرم غاية الإكرام، ويحترم أقصى ما يمكن، حتّى أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)يروي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من حقّ الضيف أن تمشي معه فتخرجه من حريمك إلى البر»(3).
ويجب تهيئة مستلزمات راحته إلى الحدّ الذي لا يبلغ التكلّف، حتّى أنّه ورد في حديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ من حقّ الضيف أن يعد له الخلال»(4).
وقد يكون الضيوف خجولين أحياناً، ولذلك فقد صدر أمر بعدم سؤالهم عمّا إذا كانوا قد تناولوا الطعام أم لا، بل يمدّ لهم السماط فإن شاءوا وأكلوا، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «لا تقل لأخيك إذا دخل عليك أكلت اليوم شيئاً؟ ولكن قرّب إليه ما عندك، فإنّ الجواد كلّ الجواد من بذل ما عنده»(5).
ومن جملة واجبات المضيف أمام الله سبحانه أن لا يحقّر الطعام الذي أعدّه، لأنّ نعمة الله سبحانه عزيزة ومحترمة مهما كانت، إلاّ أنّ المتعارف بين المترفين
وأهل التكلّف أنّهم مهما نوّعوا السماط وملؤوه بأنواع الأطعمة فإنّهم يقولون: هذا شيء بسيط لا يليق بمقامكم!
وفي المقابل يجب أن لا يحتقر الضيف ما قدّم إليه، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هلك امرؤ احتقر لأخيه ما يحضره، وهلك امرؤ احتقر من أخيه ما قدّم إليه»(1).
إنّ الإسلام دقيق النظرة في إكرام الضيف، فهو يقول: استقبل الضيف وأعنه عندما يدخل إلى بيتك، أمّا إذا أراد الخروج فلا تعنه لئلاّ يتصوّر بأنّك راغب في خروجه(2).
4 ـ واجبات الضيف:
إنّ المسؤوليات تكون متقابلة دائماً، فكما أنّ على المضيف واجبات تجاه الضيف، فكذلك توجد على الضيف واجبات ينبغي أن يراعيها.
فعلاوة على ما ذكر في الأحاديث السابقة، فإنّ على الضيف أن ينفّذ ما يطلبه منه صاحب البيت ويقترحه عليه في شأن منزله، فإذا طلب منه أن يجلس في مكان ما مثلا فليفعل، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إذا دخل أحدكم على أخيه في رحله فليقعد حيث يأمر صاحب الرحل، فإنّ صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه»(3).
وملخّص الكلام أنّ مسألة الضيافة وآدابها قد خصّص لها بحث واسع في آداب المعاشرة الإسلامية، وليراجع لمزيد الإيضاح في هذا الباب «بحار الأنوار»، الأبواب 88 ـ 94 من أبواب العشرة، المجلّد 17 و «المحجّة البيضاء»، المجلّد 3
الباب الرابع فضيلة الضيافة.
إلاّ أنّ هذه السنّة الإنسانية القديمة قد تقلّصت وللأسف الشديد في عصرنا الحاضر .. عصر غلبة المادية وطغيانها في العالم، وهيمنتها عليه، بل إنّها قد اجتّثت تقريباً في بعض المجتمعات الغربية، وقد سمعنا أنّ بعض اُولئك عندما يأتون إلى البلاد الإسلامية ويرون إنتشار مسألة الضيافة التي لا زالت قائمة في البيوتات الأصيلة، ومدى العواطف التي تكتنفها، فإنّهم يتعجّبون كيف يمكن أن يقدّم الناس أفضل الوسائل الموجودة في البيت، وأنفس الأطعمة وألذّها للضيوف الذين ربّما تربطهم بهم رابطة ضعيفة أحياناً، وربّما كانوا قد تعارفوا في سفرة قصيرة؟!
إلاّ أنّ ملاحظة الأحاديث الإسلامية ـ التي ورد قسم منها قبل قليل ـ تبيّن سبب هذه التضحية والإيثار، وتوضّح الحسابات المعنوية في هذا المجال .. تلك الحسابات التي لا تعني شيئاً لدى عبّاد المادّة والغارقين في بحرها.
* * *
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهيداً(55)
يروي بعض المفسّرين أنّ آباء نساء النّبي وأبناءهنّ وعوائلهنّ سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول آية الحجاب ـ الآية السابقة ـ : يارسول الله، ونحن أيضاً نحدّثهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية بأنّها لا تشملكم.
الموارد المستثناة من قانون الحجاب:
لمّا كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النّبي مطلقاً، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلّفون بتنفيذه أيضاً، وأن يحدّثوهنّ من وراء حجاب كالأجانب، فقد نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه المسألة.
تقول الآية: (لا جناح عليهنّ في آبائهنّ ولا أبنائهنّ ولا إخوانهنّ ولا أبناء
إخوانهنّ ولا أبناء أخواتهنّ ولا نسائهنّ ولا ما ملكت أيمانهنّ). وبتعبير آخر: فإنّ محارمهنّ الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط، وإذا قيل: إنّ هناك أفراداً من المحارم أيضاً لم يجر لهم ذكر في الآية كالأعمام والأخوال، فيجاب على هذا السؤال بأنّه:
لمّا كان القرآن يراعي الفصاحة والبلاغة في أجلى صورها وأسماها، وأحد اُصول الفصاحة هو أن لا تكون في الكلام أي كلمة زائدة، فقد إمتنع عن ذكر الأعمام والأخوال هنا، وذلك لأنّه حينما ذكر أولاد الأخ وأولاد الاُخت، فسوف يتّضح حكم الأعمام والأخوال من المحارم، لأنّ لهذه المحرمية جانبان، فكما أنّ ابن الأخ محرم بالنسبة إلى المرأة، فإنّها ستكون محرماً أيضاً بالنسبة إلى ابن أخيها ـ ونحن نعلم أنّ مثل هذه المرأة تعتبر «عمّة» ـ ولأنّ ابن الاُخت كما هو محرم عليها فإنّها ستكون محرماً بالنسبة إلى ابن الاُخت، ونعلم أنّ مثل هذه المرأة هي «الخالة».
وعندما تكون العمّة والخالة محرماً بالنسبة إلى ابن الأخ وابن الاُخت، فإنّ العمّ والخال سيكونان أيضاً محرماً بالنسبة إلى ابنة الأخ وابنة الاُخت، حيث لا فرق بين العمّ والعمّة، والخال والخالة، وهذه إحدى دقائق القرآن الكريم. (تدبّر ذلك).
وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: إنّ أبا الزوج وابن الزوج بعض محارم المرأة، فلماذا لم يذكرا هنا؟ في حين أنّهما ذكرا من جملة المحارم في الآية (31) من سورة النور.
والإجابة عن هذا السؤال واضحة، لأنّ الكلام في هذه الآية منحصر في حكم نساء النّبي (صلى الله عليه وآله)، ونحن نعلم أنّ أبا النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن موجوداً حال حياته، ولا اُمّه، ولم يكن له ابن(1). «فتأمّل».
إنّ عدم ذكر الإخوة والأخوات من الرضاعة، وأمثالهم بسبب أنّ هؤلاء في حكم الأخ والاُخت وسائر المحارم، ولا يحتاجون إلى ذكر مستقل.
ويتغيّر اُسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب، فتخاطب نساء النّبي وتقول: (واتّقين الله إنّ الله كان على كلّ شيء شهيداً) فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلاّ، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب، ولولاها فسوف لا تنفع كلّ هذه الوسائل.
والجدير بالذكر أنّ (نسائهنّ) إشارة إلى النساء المسلمات، وذلك لأنّ من غير اللائق بالنساء المسلمات ـ وكما قلنا في تفسير سورة النور ـ أن يكنّ بدون حجاب أمام غير المسلمات، إذ أنّ من الممكن أن تصفهنّ غير المسلمات لأزواجهنّ(1).
وأمّا جملة: (ولا ما ملكت أيمانهنّ) فلها معنى واسع ـ كما قلنا ذلك في تفسير سورة النور أيضاً ـ يشمل الجواري والغلمان، إلاّ أنّها تختّص بالجواري طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية، وبناءً على هذا فإن ذكرهنّ بعد ذكر «النساء» قد يكون من جهة شمولها للجواري غير المسلمات عموماً. (دقّقوا ذلك).
* * *
إِنَّ اللهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً(57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً(58)
الصلاة على النّبي والسلام عليه:
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النّبي (صلى الله عليه وآله)وعدم إيذائه، فإنّ هذه الآيات تتحدّث أوّلا عن محبّة الله وملائكته للنّبي (صلى الله عليه وآله)وتعظيمهم له، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك، ثمّ تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لاُولئك الذين يؤذون النّبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ تبيّن أخيراً عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين بإتّهامهم والإفتراء عليهم.
تقول أوّلا: (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبي).
إنّ مقام النّبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلته من العظمة بمكان، بحيث أنّ خالق عالم الوجود، وكلّ الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر الله سبحانه يصلّون عليه، وإذا كان الأمر كذلك فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا، فـ (ياأيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً).
إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة، وقد جُعل بينكم بلطف الله، فلا تستصغروا قدره، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند الله وملائكة السماوات .. إنّه إنسان ظهر من بينكم، لكنّه ليس إنساناً عادياً، بل هو إنسان يتلخّص عالم الوجود في وجوده.
وهنا اُمور يجب الإلتفات إليها:
1 ـ (الصلاة) وجمعها «صلوات»، كلّما نسبت إلى الله سبحانه فإنّها تعني «إرسال الرحمة»، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني «طلب الرحمة»(1).
2 ـ إنّ التعبير بـ (يصلّون) وهو فعل مضارع يدلّ على الإستمرار، يعني أنّ الله وملائكته يصلّون عليه دائماً وباستمرار صلاة دائمة خالدة.
3 ـ إختلف المفسّرون في الفرق بين (صلّوا) و (سلّموا) والذي يبدو أنسب للأصل اللغوي للكلمتين، وأوفق لظاهر الآية القرآنية، هو: أن (صلّوا) أمر بطلب الرحمة والصلاة على النّبي، أمّا (سلِّموا) فتعني التسليم لأوامر نبي الإسلام الأكرم، كما ورد في الآية (65) من سورة النساء (ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).
وكما نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أبا بصير سأله فقال: قد عرفت صلاتنا على النّبي، فكيف التسليم؟ قال: «هو التسليم له في الاُمور»(2).
أو أن يكون بمعنى «السلام» على النّبي (صلى الله عليه وآله) بـ (السلام عليك يارسول الله) وما
أشبه ذلك، والذي يعني طلب سلامة النّبي (صلى الله عليه وآله) من الله سبحانه.
يروي «أبو حمزة الثمالي» عن «كعب» ـ وهو أحد أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا: قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلّي عليك؟ فقال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد»(1). ومن هذا الحديث تتّضح كيفية الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله)وكذلك يتّضح معنى «السلام».
وبالرغم من أنّ هذين المعنيين للسلام يبدوان مختلفين تماماً، إلاّ أنّه يمكن عطفهما وإرجاعهما إلى نقطة واحدة إذا دقّقنا فيهما، وهي: التسليم القولي والفعلي للنبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّ من يسلّم عليه ويرجو من الله سلامته، يعشقه ويعرفه كنبي مفترض الطاعة.
4 ـ ممّا يلفت النظر أنّه قد ورد صريحاً في كيفية الصلاة على النّبي وفي روايات لا تحصى من طرق العامّة وأهل البيت، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّد (صلى الله عليه وآله).
فقد روي في «الدرّ المنثور» عن صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه ورواه آخرين عن كعب بن عجرة: أنّ رجلا أتى إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أمّا السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «قل اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».
وقد أورد صاحب تفسير الدرّ المنثور ثمانية عشر حديثاً آخر إضافةً إلى هذا
الحديث، صرّحت جميعاً بوجوب ذكر «آل محمّد» عند الصلوات.
وقد رويت هذه الأحاديث عن كتب أهل السنّة المعروفة المشهورة عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عبّاس، وطلحة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وبريدة، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وأمير المؤمنين علي(عليه السلام)(1).
وقد رويت في صحيح البخاري (وهو أشهر مصادر الحديث عند أهل السنّة) روايات عديدة في هذا الباب يستطيع من يريد مزيد الإيضاح أن يرجع إليه(2).
وكذلك وردت في صحيح مسلم روايتان في هذا الباب(3).
والعجيب في هذا الكتاب أنّه بالرغم من ورود (آل محمّد) عدّة مرّات في هذين الحديثين، فإنّه إختار هذا العنوان لهذا الباب: (باب الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله)) بدون ذكر «الآل»!!
وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه وهي: أنّ في بعض روايات أهل السنّة، وفي كثير من روايات أهل البيت لم ترد حتّى كلمة (على) لتفرّق بين محمّد وآل محمّد، بل كيفية الصلاة هي: اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.
وننهي هذا البحث بحديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنّ «ابن حجر» يروي في الصواعق: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون: اللهمّ صلّ على محمّد وتمسكون، بل قولوا: اللهمّ صلّ على على محمّد وآل محمّد»(4).
ولهذه الرّوايات فقد اعتبر جمع من كبار فقهاء العامّة إضافةً (آل محمّد) إلى
اسم «محمّد» في تشهد الصلاة واجباً(1).
5 ـ هل أنّ الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله) واجبة أم لا؟ وإذا كانت واجبة فأين تجب؟
يقول الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال: إنّ جميع فقهاء أهل البيت يعتبرونها واجبة في التشهّد الأوّل والثّاني من الصلاة، ومستحبة في غيرهما.
وعلاوةً على الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الباب، فإنّ الروايات الواردة في كتب أهل السنّة، والدالّة على الوجوب، ليست بالقليلة، ومن جملتها ما ورد عن عائشة أنّها قالت: سمعت رسول الله يقول: «لا يقبل صلاة إلاّ بطهور وبالصلاة عليّ».
ويعتبر «الشافعي» ـ وهو من فقهاء العامّة ـ الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله) واجبة في التشهّد الثاني، و «أحمد» في إحدى الروايتين المرويتين عنه، وجمع آخر من الفقهاء، غير أنّ «أبا حنيفة» لا يعتبرها واجبة.
والطريف أنّ «الشافعي» قد نظّم فتواه هذه شعراً وذكرها بصراحة حيث يقول:
ياأهل بيت رسول الله حبّكم فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(2)
ثمّ تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة، فتقول: (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً).
ماذا يراد من أذى الله سبحانه؟
قال البعض: إنّ المراد منه هو الكفر والإلحاد الذي يُغضِب الله عزّوجلّ، لأنّ «الأذى» لا يعني في شأن الله تعالى إلاّ إغضابه.
ويحتمل أيضاً أن يكون إيذاء النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين هو إيذاء الله تعالى، وذكر الله في الآية لأهمية المطلب وتأكيده.
وأمّا إيذاء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) فله معنى واسع، ويشمل كلّ عمل يؤذيه، سواء كان الكفر والإلحاد ومخالفة أوامر الله والإفتراءات والتّهم، أم الأذى الذي يراه حين يدعوهم إلى بيته، كما مرّ في الآية (53) من هذه السورة (إنّ ذلكم كان يؤذي النّبي).
أو الموضوع الذي ورد في الآية (61) من سورة التوبة عندما اتّهموا النّبي (صلى الله عليه وآله)بأنّه «اُذن» نتيجة إصغائه لكلام الناس ورعايته لأدب المحادثة (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن) وأمثال ذلك.
بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ إيذاء أهل بيت النّبي وخاصّة علي وفاطمة (عليهما السلام)، يدخل ضمن الآية، وقد جاء في المجلّد الخامس من صحيح البخاري، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»(1).
وورد هذا الحديث في «صحيح مسلم» بهذه العبارة: «إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها»(2).
وروي هذا المعنى في حقّ علي (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)(3).
وأمّا «اللعن» الوارد في الآية أعلاه، فإنّه بمعنى الطرد عن رحمة الله، وهو في مقابل الرحمة والصلوات التي وردت في الآية السابقة تماماً.
إنّ اللعن والطرد عن رحمة الله سبحانه .. تلك الرحمة الواسعة التي لا تعرف الحدود، يعدّ أسوأ أنواع العذاب، خاصّةً إذا كان هذا الطرد في الدنيا والآخرة كما هو في الآية مورد البحث، ولعلّ ذكر مسألة اللعن قبل العذاب المهين لهذا السبب.
والتعبير بـ (أعَدّ) دليل على تأكيد هذا العذاب وشدّته.
وتتحدّث الآية الأخيرة عن إيذاء المؤمنين، وتهتمّ به جدّاً بعد إيذاء الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) لأنّ للمؤمن علاقة بالله ورسوله عن طريق الإيمان، ولهذا جعل في مرتبة الله ورسوله هنا.
وتعبير (بغير ما اكتسبوا) إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنباً حتّى يؤذوا، ومن هنا يتّضح أنّهم إن بدر منهم ذنب يستوجب الحدّ والقصاص فلا مانع من إجرائه وتنفيذه في حقّهم، وكذلك لا يشمل هذا الكلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنّ تقديم «البهتان» على «الإثم المبين» لأهميّته، لأنّ البهتان يعتبر من أكبر الذنوب، والجراحات التي تنجم عنه أشدّ ألماً من جراحات السنان، كما قال الشاعر العربي:
جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان
وقد أولت الرّوايات الإسلامية هذه المسألة إهتماماً فائقاً، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الله عزّوجلّ يقول: «ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن»(1).
وقال بعض المفسّرين: يستفاد من اُسلوب الآية أنّ جماعة في المدينة كانوا يطلقون الشائعات ويثيرون الشبهات حول المؤمنين، ويتّهمونهم بما ليس فيهم، وحتّى نبي الله لم يكن بمنأى عن ألسن اُولئك المؤذين. وهذه الفئة ليست قليلة في المجتمعات الاُخرى، وخاصّة في مجتمعات اليوم، وليس لها عمل إلاّ التآمر ضدّ الصالحين والمحسنين، وإختلاق الأكاذيب والتّهم.
لقد هاجم القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص أشدّ هجوم، ووصفت أعمالهم بالبهتان والإثم المبين. والشاهد لهذا الكلام سيأتي في الآيات التالية.
وجاء في حديث آخر يرويه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتّى يخرج ممّا قاله فيه»(1).
* * *
يَـأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(59) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا(60) مَّلْعُونِينَ أَيْنََما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61)سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا(62)
جاء في تفسير «علي بن إبراهيم» في سبب نزول الآية الاُولى: فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ـ إلى قوله ـ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً
رحيماً)(1).
وجاء في نفس الكتاب في شأن نزول الآية الثانية، أنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خرج في بعض غزواته يقولون قتل وأسر فيغتمّ المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله في ذلك: (لئن لم ينته المنافقون ـ إلى قوله ـ ثمّ لا يجاورونك إلاّ قليلا)(2) فبذلك هدّدت مختلقي الشايعات بشدّة.
تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات!
بعد النهي عن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين: فأمرت المؤمنات أوّلا أن لا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم بتهديد قلّ نظيره في آيات القرآن.
فتقول الآية في الجزء الأوّل: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
هناك رأيان لدى المفسّرين في المراد من «المعرفة» لا يتناقضان:
الأوّل: أنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة، ولمّا لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقوهنّ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن عن الجواري، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ اُولئك الشباب.
ومن البديهي أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لاُولئك الطائشين حقّ أذى الجواري، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.
والآخر: أنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت إنتباههم.
![]() |
![]() |
![]() |