* * *



1 ـ توحيد المفضّل ـ أوائل الكتاب.

[449]

 

 

الآيات

 

وَمَا أَرْسَلْنَـكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْم لاَّ تَسْتَئْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً  وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ(30)

 

التّفسير

الدّعوة العالمية:

الآية الاُولى من هذه الآيات، تتحدّث في نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله)، والآيات التي تليها تتحدّث حول الميعاد، ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد، نصبح أمام مجموعة كاملة من بحوث العقائد، تتناسب مع كون السورة مكية.

أشارت الآيات إبتداءً إلى شمولية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله) وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت: (وما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

«كافّة» من مادّة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ للإنسان يقبض

[450]

على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اُخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اُخرى.

وقد إحتمل المفسّرون الإحتمالين هنا، الأوّل بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلاّ لجميع الناس». أي عالمية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله). ويقوّي هذا المعنى روايات عديدة وردت في تفسير الآية من طرق الفريقين.

وعليه فمحتوى الآية شبيه بالآية (1) سورة الفرقان (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً). وكذلك الآية (19) من سورة الأنعام (واُوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).

جاء في حديث عن ابن عبّاس ينقله المفسّرون بمناسبة هذه الآية، أنّ عمومية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله) ذكرت كواحدة من مفاخره العظيمة.

فعنه (صلى الله عليه وآله) يقول: «اُعطيت خمساً ولا أقول فخراً، بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، واُحلّ لي المغنم ولا يحلّ لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر، واُعطيت الشفاعة فادّخرتها لاُمّتي يوم القيامة»(1).

وإن كان لم يرد في الحديث أعلاه تصريح بتفسير الآية، فثمّة أحاديث اُخرى بهذا الخصوص، إمّا أن تصرّح بأنّها في تفسير الآية، أو يرد فيها تعبير «للناس كافّة» الذي ورد في نفس الآية(2). وجميعها تدلّل على أنّ مقصود الآية أعلاه، هو عالمية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله).

وذُكر للآية تفسير آخر مأخوذ من المعنى الثّاني لكلمة «كفّ» وهو (المنع)، وطبقاً لهذا التّفسير تكون «كافّة» صفة للرسول (صلى الله عليه وآله)(3) ويكون المقصود أنّ الله



1 ـ تفسير مجمع التبيان، مجلّد 8، ص391.

2 ـ اُنظر تفسير نور الثقلين، مجلّد 4، ص255 و256.

3 ـ أحياناً تلحق (التاء) اسم الفاعل لتكون صيغة مبالغة لا علامة للتأنيث كما في «رواية».

[451]

سبحانه وتعالى أرسل الرّسول (صلى الله عليه وآله) كمانع ورادع وكافّ للناس عن الكفر والمعصية والذنوب، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.

على كلّ حال ـ كما أنّ لكلّ الناس غريزة جلب النفع ودفع الضرر ـ فقد كان للرسل أيضاً مقام «البشارة» و «الإنذار». لكي يوظّفوا هاتين الغريزتين ويحرّكوهما، ولكن أكثر المغفّلين الجهّال ـ بدون الإلتفات إلى مصيرهم ـ ينهضون للوقوف في وجههم ويتنكّرون تلك المواهب الإلهية العظيمة.

وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).

لقد طرح هذا السؤال من قبل منكري المعاد على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الأنبياء الآخرين مراراً، حيناً لفهم وإدراك هذا المطلب، وأغلب الأحيان للإستهزاء والسخرية من قبيل: أين هذه القيامة التي تؤكّدون على ذكرها مراراً وتكراراً، لو كانت حقّاً فقولوا متى ستأتي؟ إشارة منهم إلى أنّ الإنسان الصادق في إخباره يجب أن يعلم بجميع جزئيات الموضوع الذي يُخبر عنه.

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث، ويؤكّد أنّ هذه الاُمور هي من علم الله الخاصّ به سبحانه وتعالى، وليس لأحد غيره الإطلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها، هذا المعنى بعبارة اُخرى، يقول تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون).

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة ـ حتّى على شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ كما أسلفنا ـ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تأريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم

[452]

ذات جنبة إضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان، لذا بقي تأريخ القيامة مكتوماً، كما هو الحال بالنسبة إلى «ليلة القدر» تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر، أو تاريخ قيام المهدي (عليه السلام)، وعبّر عن ذلك المعنى بلطف ما ورد في الآية (15) من سورة طه (إنّ الساعة لآتية أكاد اُخفيها لتجزي كلّ نفس بما تسعى).

أمّا اُولئك الذين يتصوّرون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون على علم بالتأريخ الدقيق ليوم القيامة لأنّه يخبر عنها، فإنّ ذلك غاية الإشتباه، ودليل على عدم معرفتهم بوظيفة النبوّة، فالنّبي مكلّف بالإبلاغ والبشارة والإنذار، أمّا مسألة القيامة فمرتبطة بالله سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يعلم تمام تفاصيلها، وما يراه الله لازماً لأغراض تربوية، أطلع عليه الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله).

هنا يثار سؤال، وهو أنّ القرآن الكريم في مقام تهديد المخالفين يقول: (لا تستأخرون) ولكن لماذا يقول أيضاً: (لا تستقدمون)؟ فما هو تأثير ذلك في هدف القرآن.

للإجابة يجب الإلتفات إلى نكتتين:

الاُولى: أن ذكر ذينك الإثنين معاً إشارة إلى قطعية ودقّة تأريخ أي أمر، تماماً كما تقول: «فلان قطعي الموعد، وليس لديه تقديم أو تأخير».

الثّانية: أنّ جمعاً من الكفّار المعاندين يلحّون على الأنبياء دائماً، بقولهم: لماذا لا تأتي القيامة؟ وبتعبير آخر، كانوا يستعجلون ذلك الأمر سواءً كان ذلك من قبيل الإستهزاء أو غير ذلك. والقرآن يقول لهم: «لا تستعجلوا فإنّ تأريخ ذلك اليوم هو عينه الذي قرّره الله سبحانه وتعالى».

 

* * *

[453]

 

 

الآيات

 

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـذَا الْقُرْءَانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ(32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الاَْغْلَـلَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(33)

 

التّفسير

لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة، حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة أعمالهم.

[454]

أوّلا، يقول تعالى: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه). أي ولا بالكتب السماوية السابقة.

كلمة «لن» للنفي الأبدي، وعليه فهم يريدون القول لرسول الله (صلى الله عليه وآله): انّك حتّى لو بقيت تدعونا للإيمان إلى الأبد فلن نؤمن لك، وهذا دليل على عنادهم، بحيث أنّهم صمّموا على موقفهم إلى الأبد، في حين أنّ من يطلب الحقّ ويسعى له، إذا لم يقتنع بدليل ما لا يمكنه أن ينكر جميع الأدلّة الممكن ظهورها مستقبلا قبل أن يسمعها، فيقول: إنّي أردّ جميع الأدلّة الاُخرى أيضاً.

أمّا من المقصود بـ «الذين كفروا»؟ فقد أشار جمع من المفسّرين إلى أنّهم «المشركون»، وبعضهم أشار إلى أنّهم «اليهود وأهل الكتاب»، ولكن القرائن الواردة في الآيات اللاحقة، والتي تتحدّث عن الشرك، تُدلّل على أنّ المقصود هم المشركون.

والمقصود من «الذي بين يديه» هو تلك الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن على أنبياء سابقين، وقد ورد هذا التعبير في كثير من آيات القرآن مشيراً إلى هذا المعنى ـ خصوصاً بعد ذكر القرآن ـ وما احتمله البعض من أنّ المقصود منه هو «المعاد» أو «محتوى القرآن» فيبدو بعيداً جدّاً.

على كلّ حال فإنّ إنكار الإيمان بكتب الأنبياء السابقين، يحتمل أن يكون المقصود به. نفي نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله) من خلال نفي الكتب السماوية الاُخرى، بإعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل، ولهذا يقولون: نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.

ثمّ تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله) فيقول تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربّهم يرجع بعضهم

[455]

إلى بعض القول)(1).

ومرّة اُخرى يستفاد من الآية أعلاه أنّ من أهمّ مصاديق «الظلم» هو «الشرك والكفر».

التعبير «عند ربّهم» إشارة إلى أنّهم حاضرون بين يدي مالكهم وربّهم، وما أكثر وأشدّ خجلا من أن يكون الإنسان حاضراً بين يدي من كفر به، في حين أنّ كلّ وجوده غارق بنعمه.

في حين أنّ «المستضعفين» الذين اتّبعوا بجهلهم «المستكبرين» وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلّط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني، هناك: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين).

إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسؤولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء «المستكبرين»، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا، لأنّ الضعف والخور والذلّة كانت حاكمة على وجودهم، وقد فقدوا حريتهم، أمّا هناك وبعد أن تبعثرت تلك المفاهيم الطبقية التي كانت سائدة في دار الدنيا، وإنكشفت نتائج أعمال الجميع، فهم يقفون وجهاً لوجه مقابل هؤلاء ويتحدّثون بصراحة ويتلاومون معهم.

لكن «المستكبرين» لا يبقون على صمتهم بل (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذا جاءكم). كلاّ، فلسنا بمسؤولين، فمع إمتلاككم حرية الإرادة، إستسلمتم لأحاديثنا الباطلة، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية، (بل كنتم مجرمين).

صحيح أنّ المستكبرين ارتكبوا ذنباً كبيراً بوسوستهم، ولكن حديثهم الذي تذكره الآية الكريمة له حقيقة أيضاً، حيث أنّ المتملّقين لم يكن عليهم أن يصمّوا



1 ـ (يرجع): تأتي كفعل لازم وكفعل متعدّي، وقد وردت هنا بالحالة الثّانية لتعطي معنى العودة، ومجيئها بعد «بعضهم إلى بعض» معناه في النتيجة بمعنى «مفاعلة».

[456]

أسماعهم وأبصارهم ويلهثوا وراءهم، وإنّما عليهم أيضاً مسؤولية ذنوبهم.

ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب، ويعاودون القول مرّة اُخرى لإثبات جرم المستكبرين: (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا، بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً).

نعم، فأنتم الذين لم تكفوا عن بثّ السموم، ولم تفرطوا بأي فرصة من الليل أو النهار من أجل تحقيق أهدافكم المشؤومة، فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك، وبذا نكون مقصّرين وجناة، ولكن بإعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون، بل إنّكم واضعوا حجر الأساس لذلك، خاصّة وأنّكم كنتم تتحدّثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة، (التعبير بـ «تأمروننا» شاهد على هذا المعنى).

بديهي أنّ المستكبرين لا يملكون جواباً لهذا القول، ولا يمكنهم إنكار جرمهم الكبير ذاك، لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم، المستكبرون على إضلالهم للآخرين، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي .. (وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا).

فمع أنّ الكتمان لا ينفع في «يوم البروز» هناك، ومع عدم إمكانية إخفاء شيء، إلاّ أنّهم ـ جرياً على ما تعوّدوه في الدنيا من قبل ـ يتوهّمون أنّ في إستطاعتهم كتمان حالتهم، فيلجأون إلى ذلك.

نعم، فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى إشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصّة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً. ولكن ما الفائدة؟

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون ذلك الكتمان للندامة بسبب الرهبة الشديدة من مشاهدة العذاب الإلهي، وإنحباس أنفاسهم في صدورهم وإنعقاد ألسنتهم

[457]

نتيجة الأغلال التي غُلّت بها رقابهم والسلاسل التي لفّتهم. مع أنّهم يطلقون صرخاتهم في مواقف اُخرى من القيامة (ياويلنا إنّا كنّا ظالمين)(1).

وقال آخرون: إن «أسرّوا» بمعنى «أظهروا» بناءً على أنّ هذه اللفظة تستعمل لمعنيين متضادّين في اللغة العربية، ولكن من ملاحظة الموارد التي إستعملت فيها هذه اللفظة في القرآن وغير القرآن، يبدو هذا المعنى مستبعداً، بلحاظ أنّ «سرّ» عادة تستخدم للإشارة إلى ما يقابل «العلن». وقد ضعّف الراغب هذا المعنى أيضاً مع أنّ بعض علماء اللغة أشار إلى كلا المعنيين(2).

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون).

نعم، فأعمال وجنايات الكفّار والمجرمين هي التي أضحت قيوداً وسلاسل تلفّ أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، لقد كانوا في هذه الدنيا أسارى هوى النفس والطمع والظلم والرغبة في المقام، وفي يوم القيامة حيث تتجسّد الأعمال، يظهر ذلك الأسر بشكل آخر ... إذن، فالآية تشير أيضاً إلى قضيّة تجسّم الأعمال التي أشرنا إليها مراراً. لأنّها تقول: (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون) وأي تعبير أكثر وضوحاً وحيوية من ذلك التعبير عن تجسّم الأعمال.

التعبير بـ «الذين كفروا» يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكلّ الكفّار يلقون ذلك المصير، وعادةً فإنّ ذكر ذلك الوصف هو إشارة إلى أنّ علّة عقابهم إنّما هي «كفرهم».

* * *



1 ـ الأنبياء، 14.

2 ـ اُنظر لسان العرب ذيل مادّة (سرّ) فهناك بحث مفصّل بهذا الخصوص مع إختلافات أهل اللغة والأدب،  مجلّد 4، ص357.

[458]

 

 

الآيات

 

وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة مِّن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَـفِرُونَ(34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَلا وَأَوْلَـداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(35) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(36) وَمَا أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَـتِ ءَامِنُونَ(37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَـئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(38)

 

التّفسير

الأموال والأولاد ليست دليلا على القرب من الله ..

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين، فإنّ جانباً آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اُخرى، وتقدّم المواساة أيضاً للرسول (صلى الله عليه وآله) ضمن إشارتها بأن لا تعجب إذا خالفك المخالفون، فإنّ المستكبرين

[459]

المرفّهين طبعوا على مخالفة أنبياء الحقّ، فتقول الآية المباركة: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما اُرسلتم به كافرون).

«نذير» من «الإنذار» وهو الإخبار الذي فيه تخويف، وإشارة إلى أنبياء الله الذين ينذرون الناس من عذاب الله في قبال الإنحرافات والظلامات والذنوب والفساد.

«مترفوها» جمع «مترف» من مادّة «ترف» بمعنى «التوسّع في النعمة» و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش. وأترفته النعمة أي أطغته(1).

نعم، فإنّ هذه الفئة المترفة الغافلة الطاغية كانت الصف المتقدّم من مخالفي الأنبياء عادةً، لأنّهم يرون أنّ تعليمات الأنبياء تتضارب مع أمانيهم وأهوائهم من جهة، ولأنّ الأنبياء يدافعون عن حقوق المحرومين التي إغتصبها هؤلاء المترفين ونالوا هذا النعيم، من جهة ثانية، ولأنّهم دائماً يستخدمون عامل التسلّط لحماية مصالحهم وأموالهم من جهة ثالثة، والأنبياء يقفون قبالهم في كلّ هذه الحالات، لذا فإنّهم يهبّون فوراً لمخالفة الأنبياء.

العجيب أنّهم لا يشيرون إلى حكم أو فقرة خاصّة ليخالفوها، بل إنّهم فوراً ومرّة واحدة يقولون (نحن كافرون بكلّ ما بعثتم به) ولن نخطوا معكم خطوة واحدة، وهذا بعينه أحسن دليل على عنادهم وتعصّبهم إزاء الحقّ.

وقد كشف القرآن في آيات مختلفة عن مسألة مهمّة، وهو أنّ المحرومين هم أوّل من يلبّي دعوة الأنبياء، والمتنّعمين المغرورين أيضاً هم أوّل مجموعة ترفع لواء المخالفة.

ورغم أنّ منكري دعوة الأنبياء لا ينحصرون في هذه المجموعة فقط، ولكنّهم غالباً عامل الفساد الأوّل والدعاة إلى الشرك والخرافات، ويسعون دوماً إلى إكراه



1 ـ لسان العرب، مجلّد 9، ص17.

[460]

الآخرين لسلوك طريقهم. وردّ هذا المعنى أيضاً في الآيات 23 ـ الزخرف، و116 ـ هود، و33 ـ المؤمنون.

هذه المجموعة لم تقف فقط في وجه الأنبياء فحسب، بل قبال أيّة خطوة إصلاحية من قبل أي عالم أو مصلح أو مفكّر مجاهد، فقد كانوا السبّاقين للمخالفة، ولا يتورّعون في إرتكاب أيّة جريمة وتآمر ضدّ هؤلاء المصلحين.

تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسّك به هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولإستغفال العوام فتقول: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً).

إنّ الله يحبّنا، فقد أعطانا المال الوفير، والقوّة البشرية، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده، ولذلك لن نعاقب أبداً (وما نحن بمعذّبين)! فلو كنّا مطرودين من رحمته فلِمَ سخّر لنا كلّ هذه النعم؟ الخلاصة، إنّ وفرة النعيم في دنيانا دليل واضح على كونه كذلك آخرتنا!!

بعض المفسّرين إحتملوا أن يكون قولهم: (وما نحن بمعذّبين) دليلا على إنكارهم الكلّي للقيامة والعذاب. ولكن الآيات اللاحقة تدلّل على عدم قصد هذا المعنى، بل المراد هو (القرب من الله بسبب الثروة التي يملكونها).

الآية التي بعدها تردّ بأرقى اُسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس، وبطريق مخاطبة الرّسول (صلى الله عليه وآله) تقول الآية الكريمة: قل لهم: إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء، وذلك أيضاً طبق مصالح مرتبطة بإمتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند الله سبحانه وتعالى: (قل إن ربّي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

وعليه فلا يجب إعتبار سعة الرزق دليلا على السعادة، وقلّته على الشقاء. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون). طبعاً أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك، وإلاّ فإنّ هذا الأمر واضح للعارف.

ثمّ تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول: (وما أموالكم ولا أولادكم

[461]

بالتي تقربكم عندنا زلفى)(1) لقد عمّ هذا الإشتباه الخطير بعضاً من البسطاء، وتصوّروا بأنّهم ما داموا محرومين في الدنيا فهم مغضوب عليهم ومطرودون من رحمة الله، وهؤلاء المرفّهون هم المحبوبون المقبولون لديه.

ما أكثر المحرومين الذين امتحنوا بالحرمان، فنالوا أرقى الدرجات والمراتب الروحية.

وما أكثر المرفّهين الذين أصبحت أموالهم وثرواتهم وبالا عليهم ومقدّمة لعقابهم.

أليس قد ذكرت الآية (15) من سورة التغابن بصراحة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم).

ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ إمتلاك الإمكانات الإقتصادية والقوّة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.

ثمّ تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل إستثناء منفصل) فتقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً فاُولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون)(2).

وعليه فجميع المعايير تعود أصلا إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح». ويستوعب هذا المعيار جميع الأفراد وفي أي زمان أو مكان، ومن أي طبقة أو مجموعة كان. وإختلاف مراتب البشر أمام الله إنّما هو بتفاوت درجات إيمانهم ومراتب عملهم الصالح، ولا شيء سوى ذلك. حتّى طلب العلم أو



1 ـ «زلفى» و «زلفة» بمعنى المنزلة والحظوة (مفردات الراغب)، ولهذا السبب عبّر عن (منازل الليل) بـ (زلف الليل) ـ والتعبير بـ «التي» لأجل أنّه في كثير من الموارد يعود الضمير المفرد المؤنث إلى جمع التكسير، وعليه فلا حاجة إلى التقدير هنا.

2 ـ التعبير بـ «جزاء الضعف» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

[462]

الإنتساب إلى أفراد عظماء، بل حتّى للأنبياء، إذا لم يكن مقترناً بهذين الأمرين فإنّه وحده لا يضيف إلى قيمة الإنسان شيئاً.

هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كلّ الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله، وما يرفع من قيمة الإنسان، ويخلص إلى أنّ المعيار الأصيل هو في شيئين فقط، يستطيع كلّ الناس تحصيلها، وأنّ الإمكانات والمحروميات المادية لا أثر لها في ذلك.

أجل، فإنّ الأموال والأولاد أيضاً إذا وُجّهت بهذا المسير، صبغت بتلك الصبغة الإلهيّة وتقبّلت لون الإيمان والعمل الصالح، وأصبحت سبباً في القرب من الله. أمّا الأموال والأولاد التي تبعد الإنسان عن الله، وتكون له صنماً يُعبد من دون الله وسبباً للفساد والإفساد، فهي جواذب جهنّم، وكما قال القرآن الكريم: (ياأيّها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم).(1)

كلمة «ضعف» ليست بمعنى «مضاعفة الشيء مرتين» فقط، بل بمعنى «أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين». وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى. لأنّنا نعلم أنّ أي عمل حسن يحسب عند الله بعشرة أمثاله على الأقل (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).(2) وأحياناً أكثر من ذلك بكثير.

«غرفات» جمع «غرفة» بمعنى الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل. وبعيدة عن الآفات، لذا عبّر القرآن عن أفضل منازل الجنّة (بالغرف). وهذه اللفظة من مادّة «غرف»، على زنة (بحر) بمعنى رفع الشيء وتناوله.

التعبير بـ «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنّة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي، فلا خوف من هجوم عدوّ، أو مرض، أو



1 ـ التغابن، 14.

2 ـ أنعام، 160.

[463]

آفة أو ألم، ولا خوف حتّى من الخوف!، وليس أغلى من هذه النعمة بأن يكون الإنسان آمناً من كلّ جانب، فلا بلاء أشدّ من الإحساس بعدم الأمن في مختلف جوانب الحياة.

الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء، فتقول: أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا، لا يؤمنون ولا يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة (والذين يسعون في آياتنا معاجزين اُولئك في العذاب محضرون).

هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء، وعملوا على اغواء عباد الله، حتّى بلغ غرورهم درجة أن توهّموا أنّهم يفلتون من قبضة العذاب الإلهي، ولكن هيهات فانّ مصيرهم في قلب جهنّم.

وبما أنّ جملة (اُولئك في العذاب محضرون) ليس فيها ما يدلّل على الزمان الآتي ـ فقد تكون إشارة إلى كون هؤلاء مأسورين بالعذاب حتّى في الوقت الحاضر، وأي عذاب أشدّ من هذا السجن الذي صنعوه لأنفسهم من أموالهم وأولادهم.

كذلك يحتمل أن يكون التعبير للتدليل على أنّ وعد الله مسلّم به إلى درجة يمكن القول بأنّهم حالياً فيه، كما هو الحال بالنسبة إلى قوله: (فهم في الغرفات آمنون).

«معاجزين»: كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوّروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة الله تعالى وجزائه وعقابه، إلاّ أنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع(1).

* * *



1 ـ الحقيقة أن تعبير «معاجزين» الذي أوردنا تفسيره من مفردات الراغب، شبيه بتعبير (يخادعون الله ورسوله) البقرة ـ 9، لأنّ باب مفاعلة يمكن أن يأتي على هذه الصورة.

[464]

بحث

معايير التقييم:

من القضايا المهمّة في حياة الأفراد والمجتمعات هي قضيّة «معايير التقييم» و «نظام القيم» الذي يتحكّم بثقافة ذلك المجتمع. لأنّ كلّ الحركات الصادرة عن الأفراد والجماعات في حياتهم إنّما تنبع من هذا النظام وتهدف إلى خلق تلك القيم.

وإشتباه قوم من الأقوام واُمّة من الاُمم في هذه القضيّة والتعامل بقيم خيالية لا أساس لها قد يؤدّي إلى طبع تأريخهم بطابع الغرور. وإدراك القيم الواقعية والمعايير الحقيقية يشكّل أساساً متيناً لبناء سعادتهم.

عبيد الدنيا المغرورون يتصوّرون بأنّ القيم تنحصر فقط في المال والقدرة المادية والتعداد البشري، وحتّى القيمة أمام الله ينظرون إليها من داخل هذا الإطار، كما لاحظنا نموذجاً من ذلك في الآيات السابقة، وهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل تلاحظ في القرآن الكريم، منها:

1 ـ فرعون، الطاغية المتجبّر، الذي كان يقول لمن حوله بأنّه لا يصدق أنّ موسى (عليه السلام) رسول من الله، فإن كان حقّاً ما يقول فلِمَ لم يعطه الله سواراً من الذهب (فلولا اُلقي عليه أسورة من ذهب).(1)

وحتّى انّه يرى عدمها دليل هي المهانة والدونية، فيقول: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين).(2)

2 ـ مشركو عصر الرسالة المحمّدية، تعجّبوا من نزول القرآن على رجل فقير كرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).(3)



1 ـ الزخرف، 53.

2 ـ الزخرف، 25.

3 ـ الزخرف، 31.

[465]

3 ـ بنو إسرائيل اعترضوا على نبي زمانهم «أشموئيل» في قضيّة إنتخاب «طالوت» كقائد للجيش وقالوا: (نحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال).(1)

4 ـ مشركو زمان نوح (عليه السلام) الأثرياء إعترضوا عليه بأن اتّبعه أراذلهم، وهم الفقراء في نظرهم (قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون)(2)

5 ـ أثرياء مكّة أوردوا نفس هذا الإعتراض على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقولهم: لقد أحاط بك الحفاة، ونحن نشمئزّ حتّى من رائحتهم، فلا نتبعك إلاّ بإبتعادهم عنك. وقد حقّرهم القرآن الكريم في سورة الكهف بشدّة، وهدّدهم، وأمر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأن يكون مع الذين عشقوا الله، ويدعونه صباحاً ومساءً وإن كانوا فقراء (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه  ولا تعد عيناك عنهم).(3)

لهذه الأسباب، كان أوّل عمل إصلاحي يقوم به الأنبياء هو تحطيم اُطر التقييم الكاذبة تلك، وإستبدالها بالقيم الإلهية الأصيلة والقيام بـ «ثورة ثقافية» أبدلوا أساس الشخصية ومحورها من الأموال والأولاد والثروة والجاه والشهرة القبلية والعائلة إلى التقوى والإيمان والعمل الصالح.

وقد مرّ نموذج لذلك في الآيات السابقة، فبعد شجب الأموال والأولاد كوسيلة للتقرّب من الله تعالى، والآية (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)أعطت بعدها مباشرة القيم الأصيلة كبديل بالقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً).

والآية الشريفة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) والتي أضحت شعاراً إسلامياً بعد إستبعاد القيم المرتبطة بالقبيلة والعشيرة، تشير إلى هذه الثورة الفكرية والإعتبارية. فإستناداً إلى هذه الآية (الحجرات ـ 13) فليس هناك شيء غير



1 ـ البقرة، 247.

2 ـ الشعراء، 111.

3 ـ الكهف، 28.

[466]

التقوى، والإيمان المقترن بالشعور بالمسؤولية، وصلاح العمل، ليس سوى ذلك معياراً لتقييم شخصية الإنسان وقربه من الله تعالى. وكلّ من كان له نصيب أكبر من ذلك كان إلى الله أقرب وعنده أكرم.

والملفت للنظر أنّ محيط الجزيرة العربية كان قبل نزول التعاليم الإسلامية القرآنية السامية ـ بتأثير هيمنة القيم الظالمة ـ خاضعاً لأصحاب الأموال والكذبة من أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب. ولكن بعد ثورة القيم ظهر من نفس ذلك المحيط أمثال أبي ذرّ وعمّار والمقداد (رضوان الله عليهم).

الجميل أنّ القرآن المجيد في سورة «الزخرف» وبعد ذكر الآيات التي أوردناها آنفاً يقول: (ولولا أن يكون الناس اُمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين)(1).