الذين هلكوا من قبلهم (يمشون في مساكنهم)(1).

تقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مئة لسان، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، لكنّهم لم يعبؤوا بها ويلتفتوا إليها، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً، ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون).

وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).

«الجُرُز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى «القطع»، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.

والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.



1 ـ ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جملة (يمشون) بياناً لحال المهلكين، أي أنّ اُولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها، إذ أتاهم عذاب الله بغتةً وأهلكهم. إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.

[146]

نعم، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.

والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.

«زرعاً» له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر.

ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.

أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.

والطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون).

وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.

ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة

[147]

المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!

ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غروراً وإستكباراً وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين).

فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.

وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال»، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، لا من عذاب الآخرة، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.

والشاهد على هذا القول اُمور:

أ : إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة، أو الإنتصارات الشبيهة بإنتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة: (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) لا تصحّ حينئذ، لأنّ الإيمان كان مفيداً حينذاك، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر، وفي يوم فتح مكّة.

[148]

ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما إرتضى ذلك بعض  المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة: (ولا هم ينظرون) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا، إضافةً إلى أنّ «يوم الفتح» لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.

ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الإستئصال يلاحظ مراراً في القرآن، مثل الآية (118) من سورة الشعراء، حيث يقول نوح: (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.

وورد نظير هذا المعنى في الآية (77) من سورة المؤمنون أيضاً.

إلاّ أنّ المراد إذا كان عذاب الإستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه، وينسجم مع كلّ القرائن، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الإستئصال على الكافرين، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.

وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيراً مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمردّين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.

وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: (فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون).

الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، ولا هم أهل منطق وإستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه،

[149]

وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.

اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.

اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.

اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والإستكبار والإستعمار.

 

نهاية سورة السجدة

* * *

[151]

 

سورة الأَحزَاب

مَدنيّة وعددُ آياتِها ثلاث وسَبعُونَ آية

 

[153]

 

 

 

«سورة الأحزاب»

سبب التسمية وفضلها:

هذه السورة نزلت في المدينة باتّفاق علماء الإسلام، ومجموع آياتها (73) آية، ولمّا كان جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.

ويكفي في فضل هذه السورة أن نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله ... اُعطي الأمان من عذاب القبر»(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد (صلى الله عليه وآله) وأزواجه»(2).

وقد قلنا مراراً: إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح، والعارية من كلّ أنواع الفكر والعمل، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكّر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

 

محتوى سورة الأحزاب:

إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً، وتتابع وتبحث



1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 334. بداية سورة الأحزاب.

2 ـ المصدر السابق.

[154]

مسائل متنوّعة وكثيرة جدّاً في باب اُصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام:

الأوّل: بداية السورة التي تدعو الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين، وتبشّره بأنّ الله سبحانه سيدعمه وينصره في مقابل إستنكار هؤلاء.

الثّاني: أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية، كالظهار، حيث كانوا يعتبرونه سبباً للطلاق وإفتراق الرجل عن امرأته، وكذلك مسألة التبنّي، وأكّدت على بطلانها، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

الثّالث: وهو أهمّ أقسام هذه السورة، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفّار، وإعاقات وتخرّصات وتعذّر المنافقين، ونقضهم لعهودهم، وقد بيّنت في هذا المجال قوانين رائعة وجامعة.

الرّابع: يرتبط بزوجات النّبي، حيث يجب أن يكنّ اُسوة واُنموذجاً أسمى لكلّ نساء المسلمين، ويصدر لهنّ في هذا الباب أوامر مهمّة.

الخامس: يتطرّق إلى قصّة «زينب بنت جحش» التي كانت يوماً زوجة لزيد، وهو ابن النّبي بالتبنّي، وإفترقت عنه، فتزوّجها النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه، فأصبح هذا الزواج حربة بيد المنافقين، فأجابهم القرآن الجواب الكافي الشافي.

السّادس: يتحدّث عن مسألة الحجاب، والتي ترتبط بالبحوث السابقة، ويوصي كلّ النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

السّابع: الذي يشكّل الجزء الأخير، ويشير إلى مسألة المعاد المهمّة، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم، وكذلك يشرح ويبيّن مسألة أمانة الإنسان العظمى، أي مسألة التعهّد والتكليف والمسؤولية.

* * *

[155]

 

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَالْمُنَـفِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا (3)

 

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة، تبحث كلّها تقريباً موضوعاً واحداً.

ومن جملتها: إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد معركة أُحد ودخلوا المدينة، وأتوا مع عبدالله بن أُبي وجماعة من أصحابه، إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقالوا: يامحمّد، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا ـ يارسول الله ـ في قتلهم، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «إنّي أعطيتهم الأمان» وأمر فأُخرجوا من المدينة ونزلت الآية: (ولا تطع الكافرين) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه

[156]

الإقتراحات(1).

 

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط:

إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة إقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.

لقد بذل مشركو «مكّة» ومنافقو «المدينة» كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول، إلاّ أنّ أُولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النّبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإستمرار في اُسلوبه الحاسم في خطّ «التوحيد» بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) بأربعة أوامر مهمّة:

الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر، فتقول: (ياأيّها النّبي اتّق الله).

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والإنتفاع بآيات الله، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).

صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله



1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفاسير اُخرى.

[157]

سبحانه، إلاّ أنّ مرحلتها الإبتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخلياً، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها، ولا يصغي إليها، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.

الثّاني: نفي ورفض طاعة الكافرين: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: (إنّ الله كان عليماً حكيماً) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اُخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.

وعلى كلّ حال، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية، هي غسل القلب وتصفيته من الغير، وإقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.

الثّالث: نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي، فيقول: (واتّبع ما يوحى إليك من ربّك) واحذر فـ (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) وبناءً على هذا فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة، وأن تقلع الأشواك لتبذر محلّها الورود، ويجب أن تطهّر الأرض من الطواغيت لتخلّفهم حكومة الله ونظامه المقدّس.

ولمّا كانت هناك مشاكل كثيرة، وتهديدات ومؤامرات، ومعوّقات في الإستمرار في سلوك هذا الطريق، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن (وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا) فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه خطاب لكلّ المؤمنين، ولعامّة المسلمين، وهو وصفة طبية تمنح الحياة، ودواء لبث النشاط والحيوية في كلّ عصر وزمان.

[158]

وقال بعض المفسّرين: إنّ الخطاب بـ (ياأيّها) خاصّ بالموارد التي يراد منها جلب إنتباه العموم لمطلب ما، وإن كان المخاطب واحداً، بخلاف الخطاب بـ (يا) والذي يستعمل في الموارد التي يراد منها شخص المخاطب(1). ولمّا كانت هذه الآيات قد بدأت بـ (ياأيّها) فإنّها تؤكّد كون الهدف من هذه الآيات هو العموم.

والشاهد الآخر للتعميم، هو أنّ جملة: (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) قد وردت بصيغة الجمع، وإذا كان المخاطب هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، فينبغي أن تقول الآية: إنّ الله كان بما تعمل خبيراً ـ .

ولا يخفى أنّ هذه الأوامر الموجّهة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) لا تعني أنّه كان مقصّراً في التقوى أو أنّه يتّبع الكافرين والمنافقين، بل إنّ لهذه الأوامر صفة التأكيد على واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، وهي درس وعبرة لكلّ المؤمنين من جهة اُخرى.

 

* * *



1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 15، صفحة 190 ذيل الآيات مورد البحث.

[159]

 

 

 

الآيات

 

مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّئى تُظَهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ (4)ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيَما أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5)النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَّتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَبِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَـبِ مَسْطُوراً(6)

 

 

[160]

التّفسير

إدّعاءات جوفاء:

تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلا: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية: أنّ رجلا في الجاهلية يدعى «جميل بن معمّر» كان عجيب الحفظ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه: ذا القلبين!

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون، وفيهم جميل بن معمّر، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه، والاُخرى في رجله، فقال له: ياأبا معمّر، ما حال الناس؟ قال: إنهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والاُخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلك، وكنت أظنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلاّ قلب واحد لما نسي نعله في يده(1). بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.

والمراد من «القلب» في مثل هذه الموارد «العقل».

وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ للجملة معنى أعمق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلاّ قلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلاّ عشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ



1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفسير القرطبي.

[161]

اُولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة، وخطّه الفكري واحد، ويجب أن يكون واحداً في وحدته وإختلاطه بالمجتمع، في الظاهر والباطن، في الداخل والخارج، وفي الفكر والعمل، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز إزدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.

إنّ الإنسان بحكم إمتلاكه قلباً واحداً يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد، وأن يخضع لقانون واحد ..

ولا يدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد ..

ويسلك طريقاً معيّناً في حياته، بأن يتآلف مع فريق واحد، ومجتمع واحد، وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والإنحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه»(1).

وبناءً على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة، ويقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسياً، وبذلك العمل دينياً، والآخر إجتماعياً، ويوجّهون بذلك



1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 234.

[162]

أفعالهم المتناقضة، فهو ناشيء من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.

صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد، وتسير ضمن منهاج واحد.

ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة «الظهار»، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم إرتياحهم، قالوا للزوجة: أنت عليّ كظهر اُمّي فيعتبرها بمثابة اُمّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!

يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ اُمّهاتكم) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي، ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق(1).

أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن يقول لها: أنت عليّ كظهر اُمّي؟! إنّ إرتباط وعلاقة الاُمّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقاً، ولذلك تقول الآية 2 ـ سورة المجادلة بصراحة: (إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً).

وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والإنفصال عن المرأة ـ (وهكذا كان في عصر الجاهلية، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الإنفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا



1 ـ سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.

[163]

يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟

وقال بعض المفسّرين: إنّ «الظهار» في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى إنفصال الرجل عن المرأة، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها، وإذا كانت المسألة كذلك، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة(1).

ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).

وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الإبن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي، بل ـ وكما سنرى ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّى «زيد بن حارثة» بعد أن طلّقها زيد، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع، لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والإتّفاقيات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فيما بعد: أنّ زواج النّبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء، إلاّ أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: (ذلكم قولكم بأفواهكم).



1 ـ تفسير في ظلال القرآن، المجلّد 6، صفحة 534، ذيل الآية مورد البحث.

[164]

إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلاّ (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل).

إنّ «قول الحقّ» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الاُمور الإعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية، أو «التبنّي» الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير ـ لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الإعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل، بل ـ وكما قلنا سابقاً مراراً ـ إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما، فمثلا نقول: من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن، إلاّ أنّ الإحتياط أفضل منه، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

(الموالي) جمع «مولى»، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيداً يُشترون ثمّ يتحرّرون، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا

[165]

بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اُولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ «زيد بن حارثة» بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه، فمن ذلك الحين قال له النّبي (صلى الله عليه وآله): «أنت زيد بن حارثة»، وكان الناس يدعونه بعد ذلك: مولى رسول الله(1).

وقالوا أيضاً: كان لأبي حذيفة غلام يدعى «سالماً» فأعتقه وادّعاه، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه: سالماً مولى أبي حذيفة(2).

ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لإعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لإشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم(3) وكان الله غفوراً رحيماً).

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزّوجلّ سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد، فتدعون أفراداً بغير أسماء آبائهم، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.

وقال بعض المفسّرين: إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها



1 ـ روح المعاني، المجلّد 21، صفحة 131 ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ روح البيان، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ قال المفسّرون: إنّ كلمة (ما) هنا موصولة، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ، وخبرها محذوف، وتقدير الجملة: لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.

[166]

الإنسان لآخر تحبّباً: ولدي، أو يابنيّ، أو يقول فيها لآخر إحتراماً: ياأبت!

وهذا الكلام صحيح ـ طبعاً ـ وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنباً، لكن لا لأجل عنوان الخطأ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز، وقرينتها معها عادة، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب، لا المجازية.

ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اُخرى، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماماً، فقد أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار»، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلاّ أنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة إستثنائية جدّاً، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّاً لم تكن هناك ضرورة لإستمرار هذا الحكم، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً بأُولي الأرحام الحقيقيين.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاماً إسلامياً ـ على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاماً جاهلياً ـ ولكن كان من الواجب أن يُلغى بعد إرتفاع الحالة الموجبة له، وهكذا حصل، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين ـ أي كون النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) كاُمّهاتهم ـ كمقدّمة، فقالت: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم).

ومع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنين إلاّ أنّهم لا يرثون منهم مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!

ثمّ تضيف الآية: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين

[167]

والمهاجرين) ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم ـ وإن كان بأن يوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآية تضيف في النهاية: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً).