أمّا المراد من «الجلباب» فقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة عدّة معان له:

1 ـ أنّه «الملحفة»، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر.

2 ـ أنّه المقنعة والخمار.

3 ـ أنّه القميص الفضفاض الواسع(1).

ومع أنّ هذه المعاني تختلف عن بعضها، إلاّ أنّ العامل المشترك فيها أنّها تستر البدن.

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الجلباب» يقرأ بكسر الجيم وفتحها.

إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أكبر من الخمار وأقصر من العباءة، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.

والمراد من (يُدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ.

أمّا ما إستفاده البعض من أنّ الآية تدلّ على وجوب ستر الوجه أيضاً، فلا دليل عليه، والنادر من المفسّرين من إعتبر ستر الوجه داخلا في الآية(2).

وعلى كلّ حال، فيستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة للحرائر كان



1 ـ لسان العرب، مجمع البحرين، مفردات الراغب القطر المحيط، وتاج العروس.

2 ـ كان لنا بحث حول فلسفة الحجاب وأهميّته، وكذلك حول إستثناء الوجه والكفّين في ذيل الآيتين 31 و32 من سورة النور.

[351]

قد نزل من قبل، إلاّ أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه، فنزلت الآية المذكورة للتأكيد على الدقّة في التطبيق.

ولمّا كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات ممّا كان منهن قبل ذلك، فقد أضافت الآية في نهايتها (وكان الله غفوراً رحيماً) فكلّ ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ الله سيغفره لكنّ، فتبن إلى الله وارجعن إليه، ونفذن واجب العفّة والحجاب جيداً.

بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات، تناولت هذه الآية بُعداً آخر لهذه المسألة، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء، فقالت: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلاّ قليلا)(1).

(المرجفون) من مادّة «إرجاف»، وهي إشاعة الأباطيل بقصد إيذاء الآخرين وإحزانهم، وأصل الإرجاف: الإضطراب والتزلزل، ولمّا كانت الإشاعات الباطلة تحدث إضطراباً عامّاً، فقد اُطلقت هذه الكلمة عليها.

و (نغرينّك) من مادّة «الإغراء»، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل، أو تعلّم شيء، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.

ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم، وكلّ منها كان يحقّق أهدافه باُسلوب خاصّ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي، ولم تكن له صبغة فردية:

فالفئة الاُولى: هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لإقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.

والثّانية: هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن: (الذين في قلوبهم مرض) كما



1 ـ (قليلا) هنا مستثنى من محذوف، والتقدير: لا يجاورونك زماناً إلاّ زماناً قليلا.

[352]

أنّ هذا التعبير قد ورد في الآية (32) من سورة الأحزاب في شأن من يتّبع أهواءه وشهواته (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).

والفئة الثالثة: هم الذين كانوا بيثّون الإشاعات في المدينة، وخاصّةً عندما كان النّبي (صلى الله عليه وآله) وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات، لإضعاف معنوياتهم، وكانوا ينشرون الأخبار الكاذبة عن هزيمة النّبي والمؤمنين، وهؤلاء هم «اليهود» برأي بعض المفسّرين.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم هدّد هذه الفئات الثلاثة جميعاً.

ويحتمل في تفسير الآية أيضاً، أنّ كلّ أعمال التخريب للفئات الثلاثة كانت من عمل المنافقين، وفصلها عن بعضها هو فصل الصفات لا الأشخاص.

ومهما كان، فإنّ القرآن يقول: إنّ هؤلاء إن استمروا في أعمالهم القبيحة المشينة فسنصدر أمراً بالهجوم العام عليهم، لنقتلع جذورهم من المدينة بحركة المؤمنين الشعبية، ولا يقدرون على البقاء في المدينة بعد ذلك.

وعندما يطردون من هذه المدينة، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية، فإنّهم سيكونون (ملعونين أينما ثقفوا اُخذوا وقتلوا تقتيلا).

«ثقفوا» من مادّة «ثقف» و «ثقافة»، وهي: السيطرة على الشيء بدقّة ومهارة، ولهذا يقال للعلم وتحصيله والإحاطة به «ثقافة». وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكاناً آمناً بعد هذا الهجوم، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقّة حتّى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.

وهناك إحتمالان في المراد من الآية: فامّا أنّه سيطاردون المنافقين ويتعقّبونهم خارج المدينة ويقتلونهم، أو أنّهم إذا بقوا في المدينة بعد حكم الإبعاد العام سيلاقون هذا المصير، ولا منافاة بينهما، إذ أنّ المعنى هو أنّ هؤلاء المنافقين والمخرّبين والمرجفين ومرضى القلوب سوف لا يكونون بمأمن من سطوة المسلمين الشجعان بعد أن هدرت دماؤهم، وسحبت الحماية عنهم، وصدر الحكم

[353]

بإخراجهم من المدينة، سواء بقوا فيها أم خرجوا.

ثمّ تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديداً، بل (سنّة الله في الذين خلوا من قبل) فكلّما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.

ولمّا كان هذا الحكم سنّة إلهيّة، فإنّه سوف لا يتغيّر ولا يتبدّل أبداً، حيث أنّ سنّة الله ثابتة (ولن تجد لسنّة الله تبديلا).

إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقياً وجدياً، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير حتمي، وله جذوره ونظائره في التأريخ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.

* * *

 

تعليقات

1 ـ إبدأ بنفسك!

الأمر الذي ورد في الآيات مورد البحث حول وجوب رعاية الحجاب الإسلامي بدقّة، وأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ هذا الأمر، أوّل ما بدأ بنساء النّبي، ثمّ بناته، ثمّ المؤمنات، وهو إشارة إلى أنّك يجب أن تبدأ بنفسك وأهل بيتك في أيّ برنامج إصلاحي، وهذا خطّ لكلّ مصلحي البشر.

وبدأ بالزوجات عندما دار الأمر بين الزوجات والبنات، وذلك لأنّهنّ أقرب إلى الرجل، لأنّ البنات يتزوجنّ وينتقلن إلى بيوت الأزواج.

 

2 ـ العلاج من طريقين:

لمّا كانت المفاسد الإجتماعية لا تنبعث من علّة واحدة غالباً، فلذلك يجب أن تبدأ مكافحتها من جميع الجوانب. والطريف في الأمر أنّ الآيات المذكورة، ومن

[354]

أجل الوقوف أمام مضايقات الطائشين قد أمرت المؤمنات أوّلا أن لا يتركن ذريعة بيد الطائشين، ثمّ أوقفتهم عند حدّهم بتهديدهم أشدّ تهديد.

وهذا أيضاً برنامج دائمي للجميع، بأنّ الصديق لابدّ من إصلاحه، ويوقف العدوّ عند حدّه بالقوّة.

 

3 ـ موقع المسلمين القوي:

يستفاد جيّداً من تهديدات الآيات القويّة والشديدة أنّه بعد إنتهاء حادثة «بني قريظة»، وإجتثاث جذور هذه الفئة من الأعداء الداخليين الخطرين، فإنّ موقع المسلمين قد قوي في المدينة تماماً، ولم تكن المخالفات تأتي إلاّ من جانب المنافقين المندّسين بين صفوف المسلمين، أو من جانب جماعة من الأوباش والمتهوّرين ومطلقي الإشاعات، فتعامل النّبي (صلى الله عليه وآله) معهم من موقع القوّة، وحذّرهم بشدّة بأنّهم إن لم يكفوا عن مؤامراتهم ونفثهم للسموم، فإنّه سيقوم بتصفية الحساب معهم بهجوم واحد ويقضي عليهم!

وقد أثّر هذا التعامل الحازم والدقيق أثره بوضوح تامّ.

 

4 ـ إجتثاث جذور الفساد:

هل أنّ ما ورد في الآيات أعلاه عن إقتلاع جذور المفاسد كمؤامرات المنافقين، وملاحقة أعراض المسلمين وأذاهم، وإطلاق الإشاعات يصلح علاجاً في سائر الأعصار والقرون، ولكلّ الحكومات الإسلامية؟

قليل من المفسّرين من بحث ذلك، إلاّ أنّه يبدو أنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختّص بزمان أو مكان أو أشخاص.

إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحدّ على أرض الواقع، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية، فما المانع من أن تنفذ الحكومة

[355]

الإسلامية أوامر الآيات أعلاه، والتي اُنزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله) ومنحته هذه الصلاحية، وتعبىء الناس للقضاء على جذور الفساد؟

إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأعمال وأمثالها، خاصّة وأنّها مطروحة كسنّة لا تقبل التغيير، لا يسمح بها كتصرّف شخصي، وتمسّك برأي خاصّ، بل تجوز فقط بعد إذن ولي أمر المسلمين وحكّام الشرع بها.

 

5 ـ سنن الله الثابتة:

قرأنا في الآيات السابقة أنّ القرآن ذكر أنّ إحدى سنن الله التي لا تقبل التغيير هي إقتلاع جذور التآمر بهجوم عامّ، وقد كانت هذه السنّة جارية في الاُمم السابقة.

وقد ورد نظير هذا التعبير في مواضع اُخرى من القرآن، ومن جملتها ما ورد في الآية (38) من سورة الأحزاب هذه، فبعد أن أجاز سبحانه مخالفة سنّة جاهلية خاطئة وإلغاءها في مسألة مطلقة الابن بالادّعاة، يقول: ليس للنبي أيّ ذنب إذا ما نفّذ أوامر الله مهما كانت.

ثمّ يضيف تعالى: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً).

وفي الآية (43) من سورة فاطر، وبعد أن هدّد الكافرين والمجرمين بالفناء والهلاك، يقول سبحانه: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا).

وفي الآية (85) من سورة غافر، وبعد أن صرّح بأنّ إيمان الكفّار العنودين من الأقوام الماضين عند مشاهدتهم عذاب الإستئصال لم ينفعهم شيئاً، يضيف: (سنّة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون).

وفي الآية (23) من سورة الفتح، وبعد أن ذكر إنتصار المؤمنين وهزيمة الكفّار في الحروب، وأن ليس لهم ولي ولا نصير، يضيف: (سنّة الله التي قد خلت من قبل

[356]

ولن تجد لسنّة الله تبديلا).

وكذلك في الآية (77) من سورة الإسراء عندما يبيّن مؤامرة إبعاد النّبي أو قتله، يضيف: (وإذاً لا يلبثون خلافك إلاّ قليلا سنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنّتنا تحويلا).

يستفاد من مجموع هذه الآيات جيّداً أنّ المراد من السنّة في مثل هذه الموارد: القوانين الإلهيّة الثابتة والأساسية، سواء التكوينية منها أم التشريعية، التي لا تتغيّر مطلقاً.

وبتعبير آخر: فإنّ لله سبحانه في عالم التكوين والتشريع قوانين واُصولا ثابتة، كالقوانين الأساسية والدساتير المسنونة بين شعوب العالم والتي لا تتبدّل، ولا تكون عرضةً للتغيير، وهذه القوانين الإلهية كانت حاكمة على الأقوام الماضين، وتحكّمنا اليوم، وستكون حاكمة في المستقبل على الأجيال الآتية.

إنّ نصرة النّبي، وهزيمة الكفّار، ووجوب تنفيذ أوامر الله والعمل بموجبها، حتّى وإن أدّت إلى إثارة سخط الناس وعدم رضاهم، عدم جدوى التوبة حين نزول العذاب الإلهي، وأمثال ذلك هي جزء من هذه السنن الخالدة.

إنّ هذه التعبيرات تسلّي خواطر كلّ السائرين في طريق الحقّ، وتمنحهم الهدوء والطمأنينة من جهة، وتوضّح من جهة اُخرى وحدة دعوة الأنبياء وإنسجامها، وتناسق القوانين الحاكمة على نظام الخلقة ونظام الحياة الإنسانية وإتّحادها، وهي في الحقيقة فرع من فروع التوحيد.

 

* * *

[357]

 

 

الآيات

 

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً(63) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَـفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً(64) خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً  وَلاَ نَصِيراً (65)يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَـلَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ(66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَْ(67) رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً(68)

 

التّفسير

يسألون أيّان يوم القيامة؟!

كانت الآيات السابقة تتحدّث عن مؤامرات المنافقين والأشرار، وقد اُشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اُخرى من خططهم الهدّامة، وأعمالهم المخرّبة، حيث كانوا يطرحون أحياناً هذا السؤال: متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كلّ هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاءً، أو لزرع الشكّ فيها في قلوب

[358]

البسطاء، فتقول الآية: (يسألك الناس عن الساعة).

ويحتمل أيضاً أن يكون بعض المؤمنين قد سأل النّبي (صلى الله عليه وآله) هذا السؤال بدافع من حبّ الإستطلاع، أو للحصول على معلومات أكثر حول هذا الموضوع.

غير أنّ ملاحظة الآيات التي تلي هذه الآية ترجّح التّفسير الأوّل، والشاهد الآخر لهذا الكلام ما ورد في الآيتين 17 ـ 18 / سورة الشورى في هذا الباب، حيث تقولان: (وما يدريك لعلّ الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها).

ثمّ تقول الآية ـ مورد البحث ـ في مقام جوابهم: (قل إنّما علمها عند الله) ولا يعلمها حتّى المرسلون والملائكة المقرّبون.

ثمّ تضيف بعد ذلك: (وما يدريك لعلّ الساعة تكون قريباً).

وبناءً على هذا يجب أن نكون مستعدّين دائماً لقيام القيامة، وهذه هي الحكمة من كونها خافية مجهولة لئلاّ يظنّ أحد أنّه في مأمن منها، ويتصوّر أنّ القيامة بعيدة فعلا، ويعتبر نفسه في معزل عن عذاب الله وعقابه.

ثمّ تطرّقت الآية إلى تهديد الكافرين، وتناولت جانباً من عقابهم الأليم، فقالت: (إنّ الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون وليّاً  ولا نصيراً).

الفرق بين «الولي» و «النصير» هنا هو: أنّ «الولي» من يتولّى القيام بكلّ الأعمال وتنفيذها، أمّا «النصير» فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب. إلاّ أنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير.

ثمّ بيّنت جزءاً آخر من عذابهم الأليم في القيامة فقالت: (يوم تقلّب وجوههم في النهار) وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء أحياناً، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحياناً، وأحياناً جوانب اُخرى (نعوذ بالله من ذلك).

[359]

هنا ستنطلق صرخات حسرتهم، و (يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا)فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.

(وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا)(1).

(السادة) جمع «سيّد»، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمّة أو الدول، و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ، أو العلم، أو المركز الإجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الاُمور تحت إشراف اُولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنّهم يقولون: إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الإنحرافات والتعاسة والشقاء.

من البديهي أنّ معيار السيادة وكون الشخص كبيراً بين اُولئك الأقوام هو القوّة والسيطرة، والمال والثروة الغير مشروعة، والمكر والخداع. وربّما كان إختيار هذين التعبيرين هنا من أجل أنّهم يحاولون توجيه عذرهم ويقولون: لقد كنّا تحت تأثير العظمة الظاهرية لاُولئك.

هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالّين، ويطلبون من الله سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون: (ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) ـ عذاب لضلالهم وعذاب لإضلالهم ـ .

من المسلّم أنّ هؤلاء يستحقّون العذاب واللعن، وإستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين، ودفعهم إلى طريق الإنحراف.

والطريف ما ورد في الآية 38 من سورة الأعراف، من أنّ هؤلاء المتّبعين



1 ـ إنّ الألف في «الرسولاً» و «السبيلاً» هي ألف الإطلاق، ولتناسق آخر الآيات، وإلاّ فإنّ التنوين لا يجتمع مع الألف واللام مطلقاً.

[360]

الضالّين عندما يطلبون عذاب الضعف لسادتهم وأئمّتهم، يقال: (لكلّ ضعف ولكن لا تعلمون)(1).

إنّ كون عذاب أئمّة الكفر والضلال مضاعفاً واضح، لكن لماذا يكون عذاب من اتّبعهم مضاعفاً؟

إنّ سبب ذلك هو أنّهم استحقّوا عذاباً لضلالتهم، والعذاب الآخر لمعونة الظالمين ومؤازرتهم، لأنّ الظالمين لا يقدرون على أن يستمرّوا في عمل ما لوحدهم مهما كانت لهم من قوّة، إلاّ أنّ أتباعهم هم الذين يؤجّجون نار حروبهم، ويسجرون أتون ظلمهم وكفرهم، وإن كان عذاب أئمّة الكفر ـ إذا ما قورن بعذاب المتّبعين ـ أشدّ وآلم بدون شكّ.

وقد كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في الآية (30) من هذه السورة.

* * *



1 ـ ممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد ورد «الضعفان» في الآيات مورد البحث، و «الضعف» في آية سورة الأعراف، إلاّ أنّه بالتدقيق في معنى الضعف يتّضح أنّ لكليهما معنىً واحداً.

[361]

 

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً(69) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)

 

التّفسير

بماذا رموا موسى (عليه السلام) واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب إحترام مقام النّبي (صلى الله عليه وآله)، وترك كلّ ما يؤذيه والإبتعاد عنه، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين، وقالت: (ياأيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله ممّا قالوا وكان عند الله وجيهاً).

إنّ إختيار موسى (عليه السلام) من جميع الأنبياء الذين طالما اُوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر، إضافةً إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله).

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسى (عليه السلام) هنا؟ ولماذا ذكره

[362]

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا إحتمالات عديدة في تفسير الآية، ومن جملتها:

1 ـ إنّ موسى وهارون (عليهما السلام) قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسى (عليه السلام) قد تسبّب في موته، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر، وأسقط ما في يد المرجفين.

2 ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسى (عليه السلام) بأنّه زنى بها، إلاّ أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسى (عليه السلام) وعفته، وبما أراده منها قارون.

3 ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسى (عليه السلام) بالسحر والجنون والإفتراء على الله، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

4 ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقاً، فأراد أن يغتسل يوماً بمنأى عن الناس، فوضع ثيابه على حجر هناك، فتدحرج الحجر بثيابه، فرأى بنو إسرائيل جسمه، فوجدوه مبرّأً من العيوب.

5 ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسى (عليه السلام)، فقد كانوا يطلبون تارةً أن يريهم الله عزّوجلّ «جهرةً»، واُخرى يقولون: إنّ نوعاً واحداً من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا، وثالثة يقولون: إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». إذهب أنت وربّك فقاتلا، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

إلاّ أنّ الأقرب لمعنى الآية، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى (عليه السلام) من جوانب متعدّدة .. ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّنا (صلى الله عليه وآله)) كإشاعة بعض الأكاذيب وإتّهام زوج النّبي

[363]

بتهم باطلة، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات 11 ـ 20 ـ والإعتراضات التي اعترضوا بها على النّبي (صلى الله عليه وآله) في زواجه بزينب، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته، أو مناداته باُسلوب خال من الأدب والأخلاق، وغير ذلك.

وأمّا الإتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك، أو العيوب البدنية، فإنّها وإن اتُّهم موسى بها، إلاّ أنّها لا تتناسب مع (ياأيّها الذين آمنوا) بالنسبة لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) إذ لم يتّهم المؤمنون موسى (عليه السلام) ولا نبيّنا (صلى الله عليه وآله) بالسحر والجنون. وكذلك الإتّهام بالعيوب البدنية، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسى (عليه السلام)، وأنّ الله تعالى قد برّأه، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّنا (صلى الله عليه وآله).

وعلى أيّة حال، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيهاً وذا منزلة، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل، فكن طاهراً وعفيفاً، واحفظ وجاهتك عند الله، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران اُمّ عيسى (عليه السلام)، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل، والذين كانوا يسعون لإتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصاً بالمؤمنين في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى اُولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه، وينسون مواريثه، ولذلك جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام): «ياأيّها الذين آمنوا لا

[364]

تؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(1).

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو: أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين، يجب أن  لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث: «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا، وكان عند الله وجيهاً»(2).

 

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم:

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي، تصدر الآية التالية أمراً هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الإجتماعي الخطير، فتقول: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً).

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل، والموافق للحقّ والواقع، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب، والبعض الآخر بكونه خالصاً من الكذب واللغو وخالياً منه، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما، أو الصلاح والرشاد، وأمثال ذلك، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد، فتقول: (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم).

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحقّ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب



1 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، ص308.

2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، ص309.

[365]

مغفرة الذنوب، وذلك لـ (انّ الحسنات يذهبن السيّئات).(1)

يقول علماء الأخلاق: إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة، وأكثر الوسائل تأثيراً في الطاعة والهداية والصلاح، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنباً، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(2).

وفي حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه،  ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(3).

ومن الرائع جدّاً ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّاد (عليه السلام): «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا. ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(4).

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعاً عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية، ولذلك نقرأ في حديث: «ما جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا المنبر قطّ إلاّ تلا هذه الآية: (ياأيّها الذين آمنوا



1 ـ سورة هود، الآية 114.

2 ـ عدّ الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان، وهي: 1 ـ الكذب 2 ـ الغيبة 3 ـ النميمة  4 ـ النفاق في الكلام، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين 5 ـ المدح في غير موضعه 6 ـ بذاءة الكلام 7 ـ الغناء والأشعار غير المرضية 8 ـ الإفراط في المزاح 9 ـ السخرية والإستهزاء 10 ـ إفشاء أسرار الآخرين 11 ـ الوعد الكاذب 12 ـ اللعن في غير موضعه 13 ـ التخاصم والنزاع 14 ـ الجدال والمراء 15 ـ البحث في اُمور الباطل 16 ـ الثرثرة 17 ـ البحث في الاُمور التي لا تعني الإنسان 18 ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية 19 ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها 20 ـ التصنّع والتكلّف في الكلام.
ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمّة اُخرى، وهي: 1 ـ الإتّهام 2 ـ شهادة الزور 3 ـ إشاعة الفحشاء، ونشر الإشاعات التي  لا أساس لها 4 ـ مدح الإنسان نفسه 5 ـ الإصرار في غير محلّه 6 ـ الغلظة والخشونة في الكلام 7 ـ الأذى باللسان 8 ـ ذم من لا يستحقّ الذمّ 9 ـ كفران النعمة اللسان 10 ـ الإعلام الباطل.

3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 78.

4 ـ بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 278.

[366]

اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً)(1).

ثمّ تضيف الآية في النهاية: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة، وذنوبه مغفورة، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذين رضي الله عنهم؟!

 

* * *



1 ـ الدرّ المنثور، طبقاً لنقل تفسير الميزان، الجزء 16، صفحة 376.

[367]

 

 

الآيتان

 

إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَـنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا(72) لِّيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَـفِقِينَ وَالْمُنَـفِقَـتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيَما(73)

 

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم إفتخارات البشر:

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان، والعمل الصالح، والجهاد، والإيثار، والعفّة والأدب والأخلاق، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعاً سامياً جدّاً بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم إمتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة، فتقول: (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن

[368]

منها).

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وإمتناعها عن ذلك لم يكن إستكباراً منها، كما كان ذلك من الشيطان، حيث تقول الآية (24) من سورة البقرة: (أبى واستكبر)، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلاّ أنّ الإنسان، اُعجوبة عالم الخلقة، قد تقدّم (وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا).

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيراً، وسعوا كثيراً من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة»، وأبدوا وجهات نظر مختلفة، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد:

1 ـ ما هو المراد من الأمانة؟

2 ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

3 ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

4 ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

5 ـ لماذا وكيف كان ظلوماً جهولا؟

لقد ذُكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها:

أنّ المراد من الأمانة: هي الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.