![]() |
![]() |
![]() |
2 ـ أحداث غزوة بني قريظة
قلنا: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد اُمر بعد إنتهاء معركة الأحزاب مباشرةً أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم، ويقال: إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد، فقد أمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن تحاصر حصونهم، ودام الحصار خمسة وعشرين يوماً، وقد ألقى الله عزّوجلّ الرعب الشديد في قلوب اليهود، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.
فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّداً لن يتركنا حتّى يقاتلنا، وأنا أقترح عليكم ثلاثة اُمور إختاروا أحدها:
إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم، وعند ذلك ستُصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، فقالوا: لا نرجع عن حكم التوراة أبداً، ولا نقبل بدلها شيئاً.
قال: فإذا رفضتم ذلك، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّداً وأصحابه ونرى ما يريده الله، فإن قُتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا، وإن إنتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا: أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.
قال كعب بن أسد: فإن أبيتم هذا أيضاً فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّ محمّداً
وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا: ولا نفعل ذلك، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبداً.
فقال كعب: ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته اُمّه.
بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه، فقال الرجال: أترى لنا أن نخضع لحكم محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال أبو لبابة: نعم، وأشار إلى نحره، أي إنّه سيقتلكم جميعاً!
يقول أبو لبابة: ما إن تركتهم حتّى إنتبهت لخيانتي، فلم آت النّبي (صلى الله عليه وآله) مباشرةً، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت: لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل (وآخرون اعترفوا بذنوبهم).(1)
وأخيراً اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا: بلى، فقال سعد: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّداً بأنّهم يقبلون بما يحكم، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبي (صلى الله عليه وآله) واقفاً فقال: حكمي فيهم نافذ؟ قال: نعم، فقال: انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم.
وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(2).
3 ـ نتائج غزوة بني قريظة
إنّ الإنتصار على اُولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:
أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، وإطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.
ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.
ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.
د ـ فتح آفاق جديدة للأنتصارات المستقبلية، وخاصة فتح «خيبر».
هـ ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.
4 ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!
إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب: (فريقاً تقتلون) أي أنّها قدّمت (فريقاً) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقاً) عن الفعل «تأسرون»!
وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك: إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا اُناساً معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر، مراعاة للإنسجام بين الأمرين أكثر.
وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة: (وقذف في قلوبهم الرعب) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك، أي أنّ الخطوة الاُولى هي إيجاد الرعب، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين، والمفرّح لهم، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّاً.
والتعبير بـ (أورثكم أرضهم وديارهم) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.
وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة الله عزّوجلّ في آخر آية: (وكان الله على كلّ شيء قديراً) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.
* * *
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا(28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً(29) يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَـعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30)وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـلِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً(31)
ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه، وهي لا تختلف عن بعضها كثيراً من جهة النتيجة.
ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة، أو لوازم الحياة المختلفة، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.
وطبقاً لنقل بعض التفاسير فإنّ «اُمّ سلمة» طلبت من النّبي (صلى الله عليه وآله) خادماً لها، وطلبت «ميمونة» حلّة، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشاً يمنياً خاصّاً، و «حفصة» لباساً مصرياً، و «جويرية» لباساً خاصّاً، و «سودة» بساطاً خيبرياً! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئاً. فامتنع النّبي (صلى الله عليه وآله) عن تلبية طلباتهنّ، وهو يعلم أنّ الإستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة، وإعتزلهنّ شهراً، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الإنفصال عن النّبي (صلى الله عليه وآله) والذهاب إلى حيث تردن، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر، وإقتنعتنّ بحياة النّبي (صلى الله عليه وآله) البسيطة والباعثة على الفخر، فابقين معه، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.
بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقعنّ رفاهية العيش، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبي (صلى الله عليه وآله) و «مفارقته».
* * *
أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!
لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاُولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (اُمّهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟
وهكذا ظَنَنَّ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين، ويعطى لهنّ ما ناله
المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف.
وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة، فليس النّبي (صلى الله عليه وآله) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء، ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.
وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصُفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبي (صلى الله عليه وآله) لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاُخرى.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف، حتّى أنّهنّ قلن: لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجاً من قومنا غيرك(1). هنا اُمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي، فخاطبت الآية الاُولى من الآيات أعلاه النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين اُمتّعكن واُسرحكنّ سراحاً جميلا).
«اُمتّعكنّ» من مادّة متعة، وكما قلنا في الآية (236) من سورة البقرة، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر، وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هاديء مفعم بالحبّ.
«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر، و
«سرّحت الإبل»، أي: أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص، وتأتي أحياناً كناية عن الطلاق، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله، وفيه معنى الإطلاق أيضاً. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.
وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقاً بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين، فإن أردن الفراق أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) صيغة الطلاق، وإلاّ يبقين على حالهنّ؟
ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّه لا يجري في سائر الناس، لا يبدو صحيحاً، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.
وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة، إلاّ أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات، إضافةً إلى أنّ لتعبير (اُسرحكنّ) ظهوراً في أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يقدّم على تسريحهنّ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية 229)(1).
وتضيف الآية التالية: (وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً).
لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.
وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الإهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، وإهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه.
ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.
ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: (يانساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً).
فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لإرتباطكنّ المستمر بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ولقائه، إضافةً إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجاً وقدوة لهم. بناءً على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة، فإنّ لكُنَّ حظّاً أعظم من العلم، ولكُنّ موقع
حسّاس له تأثيره في المجتمع.
ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، ومن جهة اُخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنباً آخر، ويستوجب عذاباً آخر.
والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها اُناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.
ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.
أمّا قوله عزّوجلّ: (وكان ذلك على الله يسيراً) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى، وأنّ علاقتكنّ بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ستكون مانعة منه، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء، أو يعيرونها أهميّة قليلة .. كلاّ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.
أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: (ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين واعتدنا لها رزقاً كريماً).
«يقنت» من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(1)، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.
ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اُخرى، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده، بل يجب أن تُلمس آثاره بمقتضى (وتعمل صالحاً).
«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعاً لكلّ هذه المواهب.
* * *
لماذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟
قلنا: إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف، وإن ارتكبن ذنباً مبيّناً فلهنّ عذاب الضعف بما إكتسبن، إلاّ أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان إمتلاك المقام والمكانة المرموقة، والشخصية الإجتماعية البارزة، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز إجتماعي مهمّ.
إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة، بل إنّ لوجودهم بعدين: بعد يتعلّق بهم، وبعد يرتبط بالمجتمع، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سبباً لهداية جماعة من الناس، أو ضلال اُخرى.
بناءً على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين: أحدهما فردي، والآخر إجتماعي، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّه قال: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(1)!
ومضافاً إلى ذلك، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة، حيث نقرأ: «إنّ الثواب على قدر العقل»(2).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(3).
بل ورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): إذا بلغت النفس ههنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، ثمّ قرأ: (إنّما التوبة للذين يعملون السوء
بجهالة)(1).
ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة، فقد تكون ضعفين حيناً، وتكون أضعافاً مضاعفة حيناً آخر، تماماً كما في الأعداد التي لها صفة التكثير، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف: ضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعداً ـ تأمّلوا بدقّة ـ
والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفاً شاهد آخر على هذا الإدّعاء.
إنّ تعدّد مراتب الأشخاص وإختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة إختلاف مكاناتهم الإجتماعية، وكونهم اُسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.
وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وذلك أنّ رجلا قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب الإمام وقال: «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من أن نكون كما تقول، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، ثمّ قرأ الآيتين»(2).
* * *
يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفاً (32)وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرَّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً(34)
هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!
كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسؤولياتهنّ الخطيرة، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، وتأمر الآيات نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) بسبعة أوامر مهمّة.
فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: (يانساء النّبي لستنّ كأحد من النساء إن
اتقيتنّ) فإنّ إنتسابكنّ إلى النّبي من جانب، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعاً خاصّاً بحيث تقدرن على أن تكن نموذجاً وقدوة لكلّ النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية، وبناءً على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ، ولا تنسين مسؤولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.
وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاُخرى في هذا المجال تلقائياً، فيقول:
(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وباُسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وإرتكاب المعاصي.
إنّ التعبير بـ (الذي في قلبه مرض) تعبير بليغ جدّاً، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الإعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أمّا عندما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضاً قد يصل إلى حدّ الجنون، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعاً وأقساماً من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.
ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقول عزّوجلّ: يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله، ومقترناً مع الحقّ والعدل: (وقلن قولا معروفاً).
إنّ جملة (لا تخضعن بالقول) إشارة إلى طريقة التحدّث، وجملة: (وقلن قولا
معروفاً) إشارة إلى محتوى الحديث.
«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل، إضافةً إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.
ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحاً للجملة الاُولى لئلاّ يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذياً وبعيداً عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ، وفي الوقت نفسه يكون خالياً من كلّ صفة مهيّجة.
ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاُولى).
«قرن» من مادّة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن إلتزام البيوت. وإحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيراً(1).
و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.
لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟
الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.
ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح
للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.
إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اُخرى ستأتي كالجاهلية الاُولى التي ذكرها القرآن، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلاّ أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاُولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح»، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!
ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاُولى هي الجاهلية قبل الإسلام، والتي اُشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (143) من سورة آل عمران، والآية (50) من سورة المائدة، والآية (26) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.
وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس، فيقول سبحانه: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله).
إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الإتّصال والإرتباط بالخالق عزّوجلّ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة: (أطعن الله ورسوله) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.
إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهنّ.
ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).
إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادةً ـ دليل على أنّ هذه المنقبة
خاصّة بأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله). وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلاّ فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله)، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.
من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبراً، إلاّ أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية إكتسابية عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا اُسوة للناس.
وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع إمتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها، تماماً كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الإمتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والإطلاع، والمبادىء الفطرية والطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.
ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها(1). وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الإعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.
و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس
ونفي السيّئات، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيداً آخر على هذا المعنى.
وأمّا تعبير (أهل البيت) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين، وهو الشيء الذي يُفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلاّ أنّ المراد منه بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(1).
إلاّ أنّ هناك إختلافاً في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟
إعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختّص بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.
غير أنّ الإنتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الإدّعاء، وهي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع وإعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) رجالا ونساءً.
ومن جهة اُخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي إختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.
والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟
وقد أجاب المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاُولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.
وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جواباً آخر ملخّصه: لا دليل لدينا على أنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...) قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّداً من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله) أو بعده.
والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسؤوليات ثقيلة، وينتظر منه الله وعباده إنتظارات كثيرة.
![]() |
![]() |
![]() |