وتقول في آخر جملة تأكيداً لكلّ الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: (كان ذلك في الكتاب مسطوراً) ـ في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم ـ .

كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية:

1 ـ ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟

لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين بصورة مطلقة، ومعنى ذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة «تدبير الاُمور الإجتماعية»، أو «الأولوية في مسألة القضاء»، أو «طاعة الأمر»، إلاّ أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على إنحصار الآية في أحد هذه الاُمور الثلاث.

وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ «الحكومة»، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية(1).

لذلك يجب أن يقال: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الإجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.

ولا ينبغي العجب من هذه المسألة، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) معصوم ووكيل لله سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلاّ في صالح المجتمع والفرد، ولا يتّبع الهوى أبداً، ولا يعتبر



1 ـ وردت هذه الروايات في اُصول الكافي، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 238 ـ 239.

[168]

مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها، بل على العكس من ذلك، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين.

إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه. إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلاّ عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه، ولذلك نقرأ في حديث: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به»(1).

وجاء في حديث آخر: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»(2).

وكذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله): «ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة»(3).

ويقول القرآن الكريم في الآية (36) من سورة الأحزاب هذه: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

ونؤكّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما، بل من جهة أنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) مقام العصمة، وبمصداق: (لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الاُمّة.

إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.

ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي (صلى الله عليه وآله) مسؤوليات ثقيلة ضخمة، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة،



1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب، ومسند أحمد، الجزء 2، صفحة 334.

[169]

أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ»(1).

ينبغي الإلتفات إلى أنّ «الضياع» هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل، والتعبير بـ «الدَّين» قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى، لأنّ المراد بقاء الدَّين بدون مال يسدّد به.

2 ـ الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يُعتبرن كاُمّهات لكلّ المؤمنين، وهي طبعاً اُمومة معنوية وروحية، كما أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أب روحي ومعنوي للاُمّة.

إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ إحترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله) في آيات هذه السورة، وإلاّ فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من إبنة اُمّه. وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلاّ للمحارم.

في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ امرأة قالت لعائشة: يااُمّه! فقالت: لست لك باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالكم»(2) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج، وهذا صادق في رجال الاُمّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة، وهي إحترامهنّ وتعظيمهنّ ـ كما قلنا ـ إضافةً إلى قضيّة عدم الزواج، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي



1 ـ نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في وسائل الشيعة، الجزء 7، صفحة 551، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث، وورد أيضاً في صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب.

2 ـ مجمع البيان، وروح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

[170]

بالاُمّ بعنوان إحترامهنّ.

والشاهد لهذا القول، أنّ القرآن الكريم يقول: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن «اُمّ سلمة» ـ وهي من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منكم والنساء(1).

وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ تعبير (وأزواجه اُمّهاتهم) يتناقض مع ما ورد في الآية (2) من سورة المجادلة: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً)فكيف تعتبر نساء النّبي ـ والحال هذه ـ اُمّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟

وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالاُمّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية ..

فأمّا من الناحية الجسمية: فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولوداً منها فقط، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الاُمّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.

وأمّا الأب أو الاُمّ الروحيين، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي (صلى الله عليه وآله)الذي يعتبر الأب الروحي للاُمّة، ولأجله إكتسبت أزواجه منزلة وإحترام الاُمّ.

والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد «الظهار» أنّهم عندما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الاُمّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الاُمّ المعنوية، بل المقصود أنّهنّ كالاُمّ الجسمية، ولذلك كانوا يعدّونه نوعاً من الطلاق، ونعلم أنّ الاُمّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية، وبناءً على هذا فإنّ كلامهم كان منكراً وزوراً.



1 ـ روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

[171]

أمّا في مورد أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)، فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمياً، إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحيات إكتساباً من مقام وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) ولهنّ وجوب الإحترام كاُمّهات. وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) في الآيات القادمة، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون إحترامهنّ وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناك نوع ثالث من الاُمّهات في الإسلام وهي الاُمّ المرضعة، والتي اُشير إليها في الآية (23) من سورة النساء: (واُمّهاتكم اللاتي أرضعنكم) إلاّ أنّها في الحقيقة فرع من فروع الاُمّ الجسمية.

3 ـ الحكم الثالث: مسألة أولوية اُولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام ـ حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للإستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم ـ (وينبغي الإلتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة، وهي سنة «حرب الأحزاب») لذلك ثبّتت أولوية اُولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.

وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الإستحبابية، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية، والتي تثبت هذا الموضوع.

ويجب هنا الإلتفات إلى هذه المسألة بدقّة، وهي: أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اُولي الأرحام في مقابل الأجانب، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض، وبتعبير آخر، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن: (من المؤمنين والمهاجرين).

[172]

بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح: إنّ اُولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء(1).

4 ـ الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كإستثناء، هو إستفادة وإنتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى، والذي بُيّن بجملة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء، أو يوصي به لمن يشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماماً، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفية، إلاّ أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقاً لقانون الإرث، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة(2).

* * *



1 ـ بناءً على هذا، فإنّ إستدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحاً، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الإشتباه، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحاً أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين.
نعم .. إنّ تعبير (اُولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وإرتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلك ـ .
2 ـ يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الإستثناء في جملة (إلاّ أن تفعلوا ..) إستثناء منقطع، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الإستثناء هنا متّصلا، لأنّ جملة (واُولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت، إلاّ أن يكون قد أوصى، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث، وهذا في الحقيقة شبيه بالإستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).

[173]

ملاحظة

وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق باُولي الأرحام، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة «إرث الأموال»، كما هو المعروف بين المفسّرين، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة «إرث الخلافة والحكومة» في آل النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن تفسير هذه الآية، أنّه قال: «نزلت في ولد الحسين (عليه السلام)» .. قيل: في المواريث؟ قال: «لا، نزلت في الإمرة»(1).

من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال، بل المراد لفت الإنتباه إلى أنّ للإرث معنىً واسعاً يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.

وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية، ويشبه تماماً ما يريده إبراهيم (عليه السلام) من الله سبحانه لذريّته، فيقول الله له: إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين، بل هي خاصّة بالطاهرين (لا ينال عهدي الظالمين).

ويشبه أيضاً ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين (عليه السلام): السلام عليك ياوارث آدم، ووارث نوح، ووارث إبراهيم، ووارث موسى وعيسى ومحمّد .. فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.

* * *



1 ـ أخرج هذه الأحاديث العلاّمة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان، المجلّد 3، صفحة 292 ـ 293، ومن جملتها الحديث أعلاه، والحديث (16) من سلسلة الأحاديث هذه.

[174]

 

 

الآيتان

 

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنّ مِيثَـقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح وَإِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً (7)لِّيَسْئَلَ الصَّـدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً(8)

 

التّفسير

ميثاق الله الغليظ:

لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات، وحيثما وجد «حقّ» كان إلى جانبه «تكليف» ومسؤولية، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبداً. بناءً على هذا فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) إن كان له حقّ وصلاحية واسعة، فإنّ عليه في المقابل مسؤوليات ضخمة.

تقول الآية الاُولى: (وإذا أخذنا من النّبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اُولو

[175]

العزم، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) لعظمته وجلالته وشرفه، وبعده الأنبياء الأربعة من اُولي العزم حسب ترتيب ظهورهم، وهم: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» (عليهم السلام).

وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقاً عامّاً أُخذ من جميع الأنبياء، وإن كان اُولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسؤولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بُيّن بتأكيد شديد جدّاً بجملة: (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)(1).

المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعاً فروع مختلفة لأصل واحد، وهو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعاً بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء، وكانوا مكلّفين أيضاً بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين. والخلاصة: أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة، ويوحّدوا الاُمم تحت راية واحدة.

ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضاً، فنقرأ في الآية (81) من سورة آل عمران: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

وورد نظير هذا المعنى في الآية (187) من سورة آل عمران، حيث تقول بصراحة: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين اُوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية، وكذلك أخذه من علماء أهل



1 ـ الميثاق ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو العقد المؤكّد بيمين وعهد، وبناءً على هذا فإن ذكر (غليظاً) في الآية تأكيد يضاف على هذا المعنى.

[176]

الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم، وأن لا يكتموا ذلك أبداً.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي اُخذ منهم، فتقول: (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعدّ للكافرين عذاباً أليماً).

للمفسّرين تفسيرات كثيرة لكلمة «الصادقين»، ومن هم المقصودون بها؟ وأيّ سؤال هذا السؤال؟ إلاّ أنّ الذي يبدو منسجماً مع آيات هذه السورة وآيات القرآن الاُخرى، هو: أنّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّاً، وبتعبير آخر: فإنّهم خرجوا من ساحة الإختبار والإمتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.

والشاهد لهذا القول:

أوّلا: إنّ «الصادقين» هنا وُضعوا في مقابل الكافرين، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.

ثانياً: نقرأ في الآية (23) من هذه السورة: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثمّ تقول الآية (24) مباشرةً: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم).

ثالثاً: عرّفت الآية (15) من سورة الحجرات، والآية (8) من سورة الحشر (الصادقين) جيّداً، ففي آية الحجرات نقرأ: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله اُولئك هم الصادقون).

وتقول آية الحشر: (للفقراء المهاجرين الذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اُولئك هم الصادقون).

وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح

[177]

والأموال(1).

أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً أنّ المراد هو: هل يُثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في إدّعائهم .. في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب، أم لا؟

وأين سأل هذا السؤال؟ ظاهر الآية أنّه في القيامة، في محكمة العدل الإلهيّة، وآيات القرآن العديدة أيضاً تخبر عن وقوع مثل هذا السؤال في القيامة بصورة عامّة.

إلاّ أنّه يحتمل أيضاً أن يكون لهذا السؤال جانب عملي ويقع في الدنيا، حيث يخضع كلّ من يدّعي الإيمان للسؤال عن بعثة الأنبياء، وعمله هو الجواب على هذا السؤال، لأنّه سيقرّر فيما إذا كان صادقاً في إدّعائه.

 

* * *



1 ـ احتمل جمع من المفسّرين إحتمالا آخر في معنى هذه الآية، وهو أنّ المراد من «الصادقين» هنا هم الأنبياء، حيث يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفائهم بعهدهم وميثاقهم؟ إلاّ أنّ الشواهد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه تنفي هذا التّفسير.
واحتمل أيضاً أن يكون المراد أعمّ من الأنبياء والمؤمنين، إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكر أعلاه أكثر إنسجاماً مع آيات هذه السورة وسائر آيات القرآن.

[178]

 

 

الآيات

 

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاَْبْصَـرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً (11)

 

التّفسير

الإمتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب:

تتحدّث هذه الآيات والآيات الاُخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الإمتحانات والإختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، وإختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام، أي عن «معركة الأحزاب»، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة إنعطاف في تأريخ الإسلام، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين، وكان ذلك النصر مفتاحاً للإنتصارات المستقبلية العظيمة، فقد إنقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة،

[179]

ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.

إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها إسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وإنتشار هذا الدين.

لقد اُشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبي (صلى الله عليه وآله)، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم»، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد، ويقتلوا النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويقضوا على المسلمين، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.

أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار، فإنّهم إجتمعوا للتشاور بأمر النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان المنافقون من جهة اُخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين.

إلاّ أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين، ويفضح المتآمرين، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع

[180]

الإختبار العسير.

وأخيراً إنتهت هذه الغزوة بإنتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هوجاًء إقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد اُضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أمام عمرو بن عبد ودّ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة، وإستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

كان هذا عرضاً لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة(1)، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاُخرى، فيقول: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود (كثيرة جدّاً) فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة:

1 ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد إنتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.



1 ـ ما ذكرناه أعلاه كان إختصاراً لبحث مفصّل أورده المؤرخّون، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل.

[181]

2 ـ إنّ التعبير بـ «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.

3 ـ إنّ المراد من (جنوداً لم تروها) والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة، ولكن كما بيّنا في ذيل الآية (9) من سورة الأنفال، فإنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم(1).

وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا).

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان، و (أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها.

إذا لاحظنا أنّ «مكّة» تقع في جنوب المدينة تماماً، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب. وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام.

إنّ جملة (زاغت الأبصار) ـ بملاحظة أن «زاغت» من مادّة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد ـ إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة،



1 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الباب راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (9) من سورة الأنفال.

[182]

ويبقى متحيّراً حينذاك.

وجملة (بلغت القلوب الحناجر) كناية جميلة عن حالة القلق والإضطراب، وإلاّ فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقاً، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة.

وجملة (وتظنّون بالله الظنونا) إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية: إنّهم زلزلوا زلزالا شديداً.

ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة، وقد حانت نهاية عمر الإسلام، وأنّ وعود النّبي (صلى الله عليه وآله)بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقاً.

من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة اُحد، حيث يقول: (وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية).(1)

ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون، وجملة (ياأيّها الذين آمنوا) التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّاً، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان، والحديثي العهد بالإسلام(2).

هنا كان الإمتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية: (هنالك ابتلي



1 ـ آل عمران، الآية 154.

2 ـ فسّر جمع من المفسّرين (الظنون) هنا بالمعنى الأعمّ من الظنّ السيء والحسن، إلاّ أنّ القرائن الموجودة في هذه الآية والآية التالية تبيّن أنّ المراد من الظنون هنا السيّئة منها.

[183]

المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً).

من الطبيعي أنّ الإنسان إذا اُحيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب والتزلزل، وكثيراً ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكرياً لا يستطيعون الإستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح إضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يداً بيد.

وأحد شواهد هذا القلق والإضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين ـ وكان على رأسهم «عمرو بن عبد ودّ» ـ نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة وإعتداد بالنفس كبير، فقالوا: هل من مبارز؟ سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزىء بالجنّة والآخرة، وكان يقول: أيّها المسلمون ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟ إلاّ أنّ السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته وإستهزائه ودعوته للبراز، ولم يجرؤ أحد على مناجزته، إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هبّ لمبارزته، وحقّق نصراً كبيراً للمسلمين، وسيأتي ذلك مفصّلا في البحوث.

نعم .. إنّ الحديد يزداد صلابة وجودة إذا عرض على النار، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة.

 

* * *

[184]

 

الآيات

 

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُم يَـأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً(13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً(14) وَلَقَدْ كَانُوا عَـهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَرَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولا(15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا(16) قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّن اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً  وَلاَ نَصِيراً(17)