![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ المصير المذهل لقوم سبأ!!
يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم والروايات، وكذلك كتب التاريخ، بأنّ «قوم سبأ» كانوا يقطنون جنوب الجزيرة، وكانت لهم حكومة راقية، وحضارة خلاّبة.
ورغم أنّ أرض (اليمن) كانت واسعة وصالحة للزراعة، إلاّ أنّه من إستغلالها لعدم وجود نهر مهمّ في تلك المنطقة، كما أنّ مياه الأمطار ـ التي كانت تهطل بغزارة على قمم الجبال كانت تذهب هدراً في هضاب وصحاري تلك المنطقة. ولكن أهل تلك المنطقة الأذكياء فكّروا في كيفية الإستفادة من تلك المياه المهدورة، فبنوا لهذا الغرض عدداً من السدود في النقاط الحسّاسة كان أهمّها وأكثرها مخزوناً «سدّ مأرب».
«مأرب» بلدة صغيرة تقع عند إنتهاء إحدى ممرّات السيول تلك، وكانت تمرّ سيول جبال «صراة» العظيمة من جنبها، وفي فم هذا المضيق وبين جبلي «بلق» بنوا سدّاً عظيماً قوياً، وأوجدوا فيه منافذ كثيرة للماء، وقد إستطاع هذا السدّ خزن كميّات هائلة من الماء خلفه إلى درجة أنّهم إستطاعوا ـ بالإستفادة من ذخيرته ـ إحداث جنّات جميلة جدّاً، وبساتين مملوءة بالبركة على طرفي النهر الوارد إبتداءً من مصبّ السدّ.
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ القرى المأهولة في تلك الأرض كانت شبه متّصلة ببعضها، بحيث أنّ ظلال الأشجار كانت تتواصل مع بعضها البعض، وكانت الأشجار محمّلة بكميّات كبيرة من الثمار حتّى أنّ من يمرّ تحتها بسلّته الخالية يخرج بعد مدّة قصيرة بسلّة ممتلئة تلقائياً، وفور النعمة ـ ممزوجاً بالأمان ـ هيّأ محيطاً مرفّهاً لحياة طاهرة، محيطاً نموذجياً لطاعة الله، والتكامل المعنوي، ولكنّهم لم يقدّروا النعمة حقّ قدرها، فنسوا الله، وجحدوا النعمة، وانشغلوا بالتفاخر والعناوين والمستوى الإجتماعي.
ورد في بعض كتب التاريخ بأنّ الجرذان الصحراوية، بعيداً عن مرأى هؤلاء المغرورين السكارى، كانت تتّخذ لها جحوراً في ذلك السدّ الترابي، وتنخره من الداخل، وفجأةً هطلت أمطار غزيرة وتجمّعت لتشكّل سيولا عظيمة، تراكمت خلف ذلك السدّ الذي لم يعدّ حينها مؤهّلا لتحمّل الضغط الشديد من تلك الكمّيات
الهائلة، وما هي إلاّ لحظة حتّى إنهار هذا السدّ ليضع النهاية لتلك الحياة الزاهية، ودمّر القرى المعمورة، الجنان، المزارع، المحاصيل، قضى على الحيوانات، هدّم القصور والبيوت الجميلة الجذّابة، وتحوّلت تلك الأرض الحيّة إلى صحراء جافّة لا ماء فيها ولا كلأ، ولم يبق من تلك الجنان والأشجار المثمرة إلاّ شجر (الأراك) المرّ، و (شجر المنّ) وقليل من (السدر)، وهاجرت الطيور المغردة ليحلّ محلّها البوم والغربان ...(1).
نعم، حينما يريد الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته، فإنّه يدمّر مدينة راقية بعدد من الفئران حتّى يتّضح للعباد مدى ضعفهم ولا يغترّوا بقدرتهم مهما بلغت.
2 ـ الإعجاز القرآني التأريخي
أورد القرآن الكريم قصّة «قوم سبأ» في الوقت الذي كان المؤرخّون لا يعلمون شيئاً عن وجود هؤلاء القوم، وعن مثل تلك المدنيّة. والملفت للنظر أنّ المؤرخّين قبل الإكتشافات الحديثة، لم يذكروا شيئاً حول سلسلة ملوك سبأ والمدنية العظيمة لهم، وإعتقدوا فقط بأنّ (سبأ) هو شخص إفتراضي، عرف كأب مؤسّس لدولة «حمير»، في حين أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم هؤلاء القوم وأشار إلى أحد مظاهر مدينتهم وهو بناؤهم (لسدّ مأرب) التأريخي.
ولكن بعد الكشوف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم في اليمن، تغيّرت أفكار علماء التأريخ. والسبب في تأخّر الكشف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم يعود إلى:
1 ـ صعوبة الطريق المؤدّية إلى مناطق التنقيب وشدّة حرارة الجو هناك.
2 ـ تنفّر سكنة المنطقة حالياً من الأجانب، ممّا جعل الأوربيين غير المطّلعين
وغير العارفين يطلقون صفة «التوحّش» على هذه الأحاسيس الصادرة من أهل المنطقة، حتّى إستطاع عدّة معدودة من علماء الآثار يدفعهم التعلّق الشديد بكشف الأسرار الأثرية النفوذ إلى قلب مدينة «مأرب» وما حولها. وإكتشفوا مجموعة من الأحجار الحاوية للخطوط والنقوش الكثيرة، وبعد ذلك تعاقبت مجاميع المنقّبين في القرن التاسع عشر الميلادي ناقلين معهم في كلّ مرّة مجموعة من النقوش والخطوط والآثار، وبالإستفادة من تلك الآثار، التي ناهزت الألف أثر، أطلع العلماء على جزئيات وخصوصيات حضارة هؤلاء القوم، وعلى تأريخ بناء «سدّ مأرب» وخصوصيات اُخرى، وثبت للغربيين بأنّ ما ذكره القرآن الكريم بهذا الخصوص لم يكن اُسطورة، بل واقع تاريخي لم يكونوا قد اطّلعوا عليه، وبعد ذلك إستطاعوا رسم مخطّط كامل لذلك السدّ العظيم وتشخيص منافذ عبور المياه فيه، والجداول الخاصّة بالبساتين والمزارع يميناً وشمالا وسائر خصوصيات المنطقة الاُخرى.
3 ـ لفتات هامّة للعبرة في قصّة قصيرة
إنّ التعرّض لسرد قصّة قوم سبأ بعد قصّة سليمان (عليه السلام) له مفهوم خاصّ:
1 ـ إنّ داود وسليمان (عليهما السلام) كانا نبيّين عظيمين إستطاعا تشكيل حكومة قويّة، وإيجاد حضارة مشرقة تلاشت بوفاتهم، وكذلك الحضارة الكبرى التي أقامها قوم سبأ تلاشت بإنهيار سدّ مأرب!!
والجدير بالملاحظة أنّ الروايات تشير إلى أن عصا سليمان (عليه السلام) أكلتها حشرة «الأُرضة»، كما أنّ سدّ مأرب نخرته الجرذان الصحراوية، كي يعلم هذا الإنسان المغرور بأنّ النعم المادية مهما كانت عظيمة ومصدراً للخير، فإنّها أحياناً تتلاشى بواسطة حشرة أو حيوان ضعيف يقلب عاليها أسفلها. وبالنتيجة ينتبه المؤمنون
والعارفون ولا يقعوا أسرى في شراك هذه النعم، ويفيق المغرورون من سُكر غفلتهم ولا يسلكوا طريق الظلم والعدوان.
2 ـ نلاحظ هنا حضارتين عظيمتين، إحداهما رحمانية، والاُخرى شيطانية المصير، لكنّهما واجهتا الفناء ولم تخلدا.
3 ـ وممّا يستحقّ الإنتباه، هو أنّ المغرورين من قوم سبأ الذين لم يستطيعوا تحمّل وجود المستضعفين بينهم، وتمنّوا حاجزاً منيعاً بين الأقليّة الأشراف والأكثرية الفقراء يحول دون إختلاطهم، ودعوا الله أن يباعد بين قراهم حتّى يشقّ السفر على الفقراء، وقد إستجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم وفرّق جمعهم، ومزّقهم أيادي سبأ، حتّى أنّهم لو أرادوا الإلتقاء لتطلّب منهم ذلك أن يصرفوا عمراً كاملا في السفر.
4 ـ حينما يدقّق المتأمّل في وضع تلك الأرض قبل هجوم «سيل العرم» وبعده، لا يمكنه أن يصدّق بسهولة أنّ هذه الأرض بعد السيل هي تلك الأرض الخضراء المليئة بالأشجار المورقة المثمرة، وكيف أضحت الآن صحراء موحشة ليس فيها إلاّ بضعة أشجار مبعثرة من الشجر المرّ والأراك وقليل من شجر السدر تتراءى من بعيد كمسافرين أضاعوا طريقهم وتبعثروا هنا وهناك.
وهذا يجسّد بلسان الحال: أنّ «كيان الإنسان» كهذه الأرض، فإذا إستطاع السيطرة على قواه الخلاّقة وإستخدمها بالشكل الصحيح، فإنّه ينبت بساتين مليئة بالطراوة من العلم والعمل والفضائل الأخلاقية، ولكن إذا كُسر سدّ التقوى، وإنهالت الغرائز كالسيل المدمّر، وغطّت أرض حياة الإنسان، فلن يبقى غير الخراب، وأحياناً فإنّ أعمالا ظاهرها أنّها بسيطة تبدأ بالتأثير تدريجياً على الاُسس، حتّى ينهار كلّ شيء، لذا يجب الخوف والحذر حتّى من هذه الاُمور الصغيرة التافهة ظاهراً.
5 ـ آخر ما نروم الإشارة إليه، هو أنّ ذلك المصير العجيب يثبت مرّة اُخرى حقيقة أنّ (الموت) مخفي في جوهر حياة الإنسان، ونفس الشيء الذي يكون سبباً لحياة الإنسان وعمرانها يوماً، يكون عامل موته وهلاكه في يوم آخر.
* * *
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ(20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـن إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاْخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ(21)
لا أحد مجبر على اتّباع الشّيطان:
هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصّة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة، ورأينا كيف أنّهم بإستسلامهم لهوى النفس ووسوسة الشيطان، أصبحوا معرضاً لكلّ تلك الخيبة وسوء التوفيق.
يقول تعالى في الآية الاُولى من هذه الآيات: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين).
بتعبير آخر، فإنّ إبليس بعد إمتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي، توقّع وقال: (فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين)(1) وإنّ هذا التوقّع قد صحّ بالنسبة لهؤلاء القوم. فمع أنّه (لعنه الله) قد قالحديثه هذا تخميناً وتوقّعاً، ولكن هذا التخمين أصبح واقعاً في النتيجة. واتّبعه ضعفاء الإيمان والإرادة وسقطوا في فخاخه زرافات ووحداناً، إلاّ مجموعة صغيرة من المؤمنين إستطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية، وتفادت الوقوع في مصيدته، جاءوا أحراراً وعاشوا أحراراً ورحلوا أحراراً، ومع أنّهم كانوا قلّة من حيث العدد، إلاّ أنّ كلّ واحد منهم كان يعدل دنيا بأسرها من حيث القيمة المعنوية «اُولئك هم الأقلّون عدداً والأكثرون عند الله قدراً»(1).
وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان، فتقول الآية المباركة: (وما كان له عليهم من سلطان).
إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا. وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)(2)، ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان، وعبيد الهوى، لا يهدأ له بال، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.
لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ: (إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكّ)(3).
بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماماً على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد، وعليه فإنّ جملة «لنعلم» ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول: «بأنّنا لم نكن
نعلم بالمؤمنين بالآخرة من الذين هم في شكّ منها، ويجب أن تكون هناك للشيطان وسوسة حتّى نعلم ذلك» كلاّ، بل المقصود من هذه الجملة هو التحقّق العيني لعلم الله، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله ـ بكامل الإرادة والإختيار ـ إلى الواقع الفعلي، ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عيناً، لأنّه لولا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الإستحقاق للثواب والعقاب.
وبتعبير آخر: فإنّ الثواب والعقاب لا يقع على حسن الباطن أو سوئه، فلابدّ لما هو موجود بالقوّة أن يتحقّق بالفعل.
ثمّ تختتم الآية بتنبيه للعباد (وربّك على كلّ شيء حفيظ). حتّى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا، أو أنّ الله ينسى، كلاّ، بل إنّ الله يحتفظ بكلّ ذلك إلى يوم الجزاء.
* * *
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْك وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير(22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَـعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قَلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِى ضَلَـل مُّبِين(24) قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26) قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)
نبئوني لماذا؟
قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدّث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة.
في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة، وبالضربات الماحقة للأسئلة المنطقية، يحشرهم في زاوية ضيّقة، ثمّ يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.
في هذه المجموعة من الآيات، خوطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) خمس مرّات، وقيل له: (قل) لهم ... وفي كلّ مرّة تعرض الآيات مطلباً جديداً يتعلّق بمصير الأصنام وعبّادها، بشكل يُشعر معه بأن ليس هناك عقيدة أفرغ ولا أجوف من عبادة الأصنام، بل لا يمكن أساساً تسمية هذه العبادة (عقيدة) أو (مذهباً).
في الآية الاُولى يقول تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)(1) ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً، ولا يحلّون لكم مشكلة، ثمّ تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول، فيقول تعالى: لأنّهم (لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير).
فلو كانوا يستطيعون شيئاً لكان لهم أحد هذه الأوصاف الثلاثة: إمّا مالكية مستقلّة لشيء في السماء أو الأرض، أو على الأقل مشاركة مع الله في أمر الخلق، أو معاونة الخالق في شيء من هذه الاُمور.
في حال أنّ الواضح هو أنّ «واجب الوجود» واحد لا غير، والباقون جميعهم «ممكن الوجود» مرتبطون به. ولو قطع الله تعالى نظر لطفه عنهم لحظة لأحلّهم دار البوار والعدم.
واللطيف هو قوله تعالى: (مثقال ذرّة في السموات والأرض)، فموجودات لا تملك في هذه السماء اللامحدودة، وهذه الأرض المترامية الأطراف ما يعادل «مثقال ذرّة»، فأي مشكلة يمكنها حلّها لنفسها، ناهيك عن سواها!!
هنا يتبادر إلى الذهن فوراً السؤال التالي: إذا كانت الأمر كذلك، فماذا تكون قضيّة شفاعة الشفعاء؟
وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها: لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فانّهم لا يشفعون إلاّ بإذنه وأمره (ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له).
وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(1)، ينتهي بهذا الجواب، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى، لم يجز شفاعتها أبداً.
أمّا جملة (إلاّ لمن أذن له) فهي إشارة إلى الشافعين أو إلى المشفوع لهم. إحتمل المفسّرون الإحتمالين، وإن كان يناسب ما ورد في الآية السابقة من الحديث حول الأصنام واُولئك الذين توهّموا أنّها شفعاؤهم، أن تكون الإشارة إلى «الشافعين».
ثمّ هل أنّ المقصود من «الشفاعة» هنا شفاعة الدنيا، أم الآخرة؟ كلاّ الإحتمالين واردان، ولكن الجملة التي تلي ذلك تدلّل على أنّ المقصود هو شفاعة الآخرة.
لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بإنتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب، حتّى حين .. فيزول ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي. (حتّى إذا فزّع عن قلوبهم)(2).
على كلّ حال فذلك يوم الفزع، وعيون الذين يطمعون بالشفاعة تعلّقت بالشفعاء، ملتمسة منهم الشفاعة بلسان الحال أو بالقول. ولكن الشفعاء أيضاً ينتظرون أمر الله، كيف؟ ولمن سيجيز الشفاعة؟ ويبقى ذلك الفزع وذلك
الإضطراب عاماً، إلى أن يصدر عن الحكيم المتعالي أمره بخصوص المتأهّلين للشفاعة.
هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين) (قالوا: ماذا قال ربّكم) فيجيبونهم: (قالوا: الحقّ)، وما الحقّ إلاّ جواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع الله، لا للذين قطعوا كلّ حلقات الإرتباط، وأضحوا غرباء عن ورسوله وأحبّائه.
وتضيف الآية في الختام (وهو العلي الكبير) وهذه العبارة متمّمة لما قاله «الشفعاء»، حيث يقولون: لأنّ الله عليٌّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحقّ، وكلّ حقّ ينطبق مع أوامره.
ما عرضناه هو أقرب تفسير يتساوق وينسجم مع تعابير الآية، وللمفسّرين بهذا الخصوص تفسيرات اُخرى، والعجيب أنّ بعضها لم يأخذ بنظر الإعتبار الترابط بين صدر الآية وذيلها وما قبلها وما بعدها.
في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر لإبطال عقائد المشركين، ويجعل مسألة «الرازقية» عنواناً بعد طرحه لمسألة «الخالقية» التي مرّت معنا في الآيات السابقة. وهذا الدليل ـ أيضاً ـ يطرحه القرآن بصيغة السؤال والجواب من أجل إيقاظ وجدان هؤلاء والفاتهم إلى إشتباههم من خلال تثوير الجواب في ذواتهم.
يقول تعالى: (قل من يرزقكم من السموات والأرض).
بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء، أو تنبت النباتات في الأرض، أو تسخّر المنابع الأرضية والسماوية لنا.
الجميل أنّه ـ بدون إنتظار الجواب منهم ـ يردف تعالى قائلا: (قل الله).
قل الله الذي هو منبع كلّ هذه البركات، أي أنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج
إلى جواب من طرف آخر، بل إنّ للسائل والمجيب رأياً واحداً، لأنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله هو الخالق والرازق، والأصنام لها مقام الشفاعة فقط.
من الجدير بالملاحظة ـ أيضاً ـ أنّ الأرزاق التي تصل إلى الناس من السماء ليست محصورة بالغيث، بل إنّ النور والحرارة الصادرة عن الشمس، والهواء الموجود في جوّ الأرض، هي الاُخرى لا تقلّ أهميّة عن قطرات المطر.
كما أنّ بركات الأرض كذلك، ليست محصورة في النباتات، بل إنّ المنابع المائية تحت سطح الأرض، والمعادن المختلفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت والتي عرفت بعد مرور الزمان تندرج تحت هذا العنوان أيضاً.
آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه، وتدفعه إلى التفكّر والتأمّل، يقول تعالى: (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين)(1).
وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان، وعليه ـ بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين ـ فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ، لذا فمن المحتّم أن يكون أحد الفريقين أهل هدى، والثّاني أسير الضلال.
والآن عليكم أن تفكّروا في أيّ الفئتين على هدىً، وأيّهما على ضلال؟ .. انظروا إلى علامات وخصائص كلّ منهما، ومدى تطابقها مع علامات الهدى والضلال.
وهذا أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر والتفاعل، وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة فهو منتهى الإشتباه.
الملفت للنظر هو ذكر «على» من «الهدى» و «في» مع «الضلال»، إشارة إلى أنّ
المهتدين كأنّهم يركبون مركباً سريعاً، أو يستعلون مناراً عالياً ويتسلّطون على كلّ شيء، في حال كون الضالّين مغمورين في ظلمة جهلهم.
ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن «الهدى» أوّلا ثمّ «الضلال»، وذلك أنّه قال: «إنّا» في بداية الجملة أوّلا، ثمّ قال «إيّاكم»، لتكون تلميحاً إلى هدى الفريق الأوّل، وضلالة الفريق الثاني.
ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف «المبين» يرتبط فقط (بالضلال)، بلحاظ أنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها. ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء، لأنّ «الصفة» في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة، وعليه فيكون (الهدى) مبنياً و (الضلال) مبنياً، كما ورد في كثير من آيات القرآن(1).
وتستمرّ الآية التي بعدها بالإستدلال بشكل آخر ـ ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى: (قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عمّا تعملون).
والعجيب هنا أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) مأمور بإستعمال تعبير «جرم» فيما يخصّه، وتعبير «أعمال» فيما يخصّ الطرف الآخر، وبذا تتّضح حقيقة أنّ كلّ شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه، حسنها وقبيحها، وفي الضمن إشارة لطيفة إلى إنّنا إنّما نصرّ على إرشادكم وهدايتكم، لا لأنّ ذنوبكم تقيّد في حسابنا، ولا لأنّ شرّكم يضرّ بنا، نحن نصرّ على ذلك بدافع الغيرة عليكم وطلباً للحقّ.
الآية التالية ـ في الحقيقة ـ توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحقّ والآخر على الباطل، وإلى أنّ كلاًّ منهما مسؤول عن
أعماله، إنتقل إلى توضيح كيفية التحقّق من وضع الجميع، والتفريق بين الحقّ والباطل ومجازاة كلّ فريق طبق مسؤوليته، فيقول تعالى، قل لهم بأنّ الله سوف يجمعنا في يوم البعث، ويحكم بيننا بالحقّ، ويفصل بعضنا عن بعض، حتّى يعرف المهتدون من الضالّين، ويبلغ كلّ فريق بنتائج أعماله. (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).
وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض، وكلاًّ يدّعي بأنّه على الحقّ وبأنّه من أهل النجاة، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف. فربوبية الله إقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحقّ» عن «الباطل» في النهاية. ويستقرّ كلّ منهما في مكانه اللائق.
فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم؟ وفي أي صفّ ستقفون؟ وهل أحضرتم إجابة لمساءلة الله في ذلك اليوم؟.
وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول: (وهو الفتّاح العليم). هذان الإسمان ـ وهما من أسماء الله الحسنى ـ أحدهما يشير إلى قدرة الله تعالى على عملية فصل الصفوف، والآخر إلى علمه اللا متناهي. إذ أنّ عملية تفريق صفوف الحقّ عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين. وإستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وفي الحقيقة هي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد».
لفظة «فتح»، كما يشير الراغب في مفرداته «الفتح إزالة الإغلاق والإشكال، وذلك ضربان: أحدهما يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه، وكفتح القفل، والغلق والمتاع. والثّاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ، وذلك ضروب: أحدها: في الاُمور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، والثاني: فتح
المستغلق من العلوم، ... إلى أن يقول: و «فتح القضيّة فتاحاً» فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها». وعليه فإنّ إستخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك، فضلا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة «فتح» ـ ومجازاة كلّ بما يستحق.
الجدير بالملاحظة، هو أنّ بعض الرّوايات أشارت إلى ذكر «يافتّاح» في الأدعية لحلّ بعض المعضلات، لأنّ هذا الإسم الإلهي العظيم وهو بصيغة المبالغة من الفتح ـ يدلّل على قدرة الله على حلّ أي مشاكل ورفع أي حسرة وغمّ، وتهيئة أسباب أي فتح ونصر، وفي الواقع فإنّه هو وحده (الفتّاح)، ومفتاح كلّ الأبواب المغلقة في يد قدرته تعالى.
في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول (صلى الله عليه وآله) يعود القرآن إلى الحديث مرّة اُخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها، يقول تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء).
فما هي قيمة هؤلاء وقابلياتهم؟ فإن كان مقصودكم حفنة الحجر والخشب الجامدة الميتة. فإنّ ذلك لممّا يدعو إلى الخجل ويدلّل على سوء التوفيق أن تتوهّموا تشابه أحقر الموجودات ـ وهي الجمادات ممّا صنعت أيديكم ـ مع الله تعالى. وإن إعتقدتم بأنّها تمثّل الأرواح والملائكة فالمصيبة أعظم، لأنّ هؤلاء أيضاً مخلوقات له سبحانه وتعالى، ومنفذة لأوامره.
لذا فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: (كلاّ) فهذه الأشياء لا تستحقّ أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية، فإلى متى تسلكون هذه الطريقة الخاطئة.
وكلمة «كلاّ» مع صغرها استبطنت كلّ هذه المعاني.
ثمّ لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث (بل هو الله العزيز الحكيم). فعزّته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته
تقتضي توجيه هذه القدرة في محلّها.
نعم، فإنّ إمتلاك هذه الصفات علامة كونه واجب الوجود، وواجب الوجود وجود لا نهاية له ولا حدّ، وغير قابل للتعدّد، ولا شريك له ولا شبيه، لأنّ أي تعدّد له يعني حدّه وإمكانيته، بينما «الوجود اللا متناهي» دائماً وأبداً واحد لا غير «تأمّل».
* * *
طريق تسخير القلوب:
كثيراً ما يلاحظ أفراد فضلاء وعلى مستوى من العلم والمعرفة، لا يمكنهم النفوذ في أفكار الآخرين، لعدم إطّلاعهم على الفنون الخاصّة بالبحث والإستدلال، وعدم رعايتهم للجوانب النفسية، على عكس البعض الآخر الذين ليسوا على وفرة من العلم، إلاّ أنّهم موفّقين من ناحية جذب القلوب وتسخيرها والنفوذ في أفكار الآخرين.
والعلّة الأساسية لذلك هي أنّ طريقة البحث، واُسلوب التعامل مع الطرف المقابل يجب أن تكون مقرونة باُصول وقواعد تتّسق مع الخُلُق والروح، فلا تستثار الجوانب السلبية في الطرف المقابل، كي لا يندفع إلى العناد والإصرار، إذ أنّ مراعاة الجانب النفسي ستؤدّي إلى إيقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقيقة وإحيائها فيه.
والمهمّ هنا أن نعلم أنّ الإنسان ليس فكراً وعقلا صرفاً كي يستسلم أمام قدرة الإستدلال، بل علاوةً على ذلك فإنّ مجموعة من العواطف والأحاسيس التي تشكّل جانباً مهمّاً من روحه مطوية في وجوده، والتي يجب إشباعها بشكل صحيح ومعقول.
والقرآن الكريم علّمنا كيفية مزج البحوث المنطقية بالاُصول الأخلاقية في المحاورة، حتّى تنفذ في أرواح الآخرين.
شرط التأثير والنفوذ في روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث يتحلّى بالصفات التالية:
1 ـ مؤمن بما يقول، وما يقوله صادر من أعماقه.
2 ـ هدفه من البحث طلب الحقّ، وليس التفوّق والتعالي.
3 ـ لا يقصد تحقير الطرف المقابل، وإعلاء شأن نفسه.
4 ـ ليس له مصلحة شخصية فيما يقول، بل إنّ ما يقوله نابع من الإخلاص.
5 ـ يكنّ الإحترام للطرف المقابل، لذا فهو يستخدم الأدب والرقّة في تعبيراته.
6 ـ لا يريد إثارة العناد لدى الطرف المقابل، ويكتفي من البحث في موضوع بالمقدار الكافي، دون الإصرار على إثبات أنّ الحقّ إلى جانبه. ليعرض حديثه.
7 ـ منصف، لا يفرط بالإنصاف أبداً، حتّى وإن لم يراع الطرف المقابل هذه الاُصول.
8 ـ لا يقصد تحميل الآخرين أفكاره، بل يرغب في إيجاد الدافع لدى الآخرين حتّى يوصلهم إلى الحقيقة بمنتهى الحرية.
الدقّة المتناهية في هذه الايات، واُسلوب تعامل الرّسول (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر الله ـ مع المخالفين، المقترن بكثير من اللفتات الجميلة، تعتبر دليلا حيّاً على ما ذكرناه. فهو أحياناً يصل إلى حدّ لا يشير بدقّة إلى المهتدي أو المضلّ في أحد الفريقين، بل يقول: (وإنّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) حتّى يثير في الذهن التساؤل عن علامات الهدى أو الضلال في أي الفريقين.
أو يقول: (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).
طبعاً لا يمكن إنكار أنّ كلّ ذلك بالنسبة إلى الأشخاص المؤمّل إهتداؤهم، وإلاّ فإنّ القرآن يتعامل مع الأعداء المعاندين والظلمة القساة الذين لا يؤمّل منهم القبول بذلك بطريقة اُخرى. اُسلوب محاورات الرّسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) مع
مخالفيهم يمثّل نموذجاً حيّاً في هذا المجال، وكمثال على ذلك لاحظوا ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الخصوص في كتب الحديث:
ففي أوائل كتاب توحيد المفضّل نقرأ «روى محمّد بن سنان قال: حدّثني المفضّل بن عمر قال: كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وأنا مفكّر فيما خصّ الله تعالى به سيّدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله)، من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه، ممّا لا يعرفه الجمهور من الاُمّة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته، وخطير مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل «ابن أبي العوجاء، «رجل ملحد معروف». إلى أن يذكر أحاديث هذا الرجل التي سمعها المفضّل ... إلى أن (قال المفضّل): فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: ياعدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث إنتهيت. فلو تفكّرت في نفسك وصدقك ولطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة، فقال: ياهذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرّف حجّتنا، حتّى إذا إستفرغنا ما عندنا، وظننا أنّا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه»(1).
![]() |
![]() |
![]() |