ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاُخرى، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة «يلقونه» جاء بصيغة المفرد، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع، وجاءت كلمة «الملائكة» بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضاً (إلاّ اللهمّ أن تقدّر كلمة ما).

 

3 ـ اُجور المؤمنين معدّة منذ الآن!

إنّ جملة (أعدّ لهم أجراً كريماً) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت، وهي بإنتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان: إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد، إلاّ أنّ مثل هذه الحاجة إلى الإستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه، إذ أنّ قدرته لا تحدّ، وإذا أراد شيئاً في أيّة لحظة فإنّه يقول له: كن فيكون، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاُخرى؟!

وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعاً من كون القدرة محدودة دائماً، بل قد يكون أحياناً من أجل تهدئة الخاطر وإطمئنان



1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآية مورد البحث.

[295]

النفس أكثر، وقد يكون أحياناً من أجل زيادة الإحترام والإكرام، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفاً، وبدأنا بتهيئة وسائل إستقباله وضيافته، فسنكون قد إهتممنا به وإحترمناه أكثر، على عكس ما إذا قمنا بهذا الإستعداد لإستقباله يوم مجيئه، وفي ساعة وصوله، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم إهتمامنا وقلّة إحترامنا لهذا الضيف.

وفي الوقت نفسه، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل، وأنّ المؤمنين كلّما إجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها، فإنّ الاُجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها.

 

* * *

[296]

 

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـكَ شَـهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً(46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلا كَبِيراً(47) وَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَالْمُنَـفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(48)

 

التّفسير

السّراج المنير!

الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبي(صلى الله عليه وآله) وجاء في الآيتين الاُخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض، وتكمل إحداها الاُخرى.

تقول الآية أوّلا: (إنّا أرسلناك شاهداً) فهو من جانب شاهد على أعمال اُمّته، لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم

[297]

ورسوله والمؤمنون).(1) وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الاُمّة على النّبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة (105 من سورة التوبة).

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهوداً على اُممهم: (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).(2)

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة، إضافةً إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة، شاهد على أحقّية دينك، وشاهد على عظمة الله وقدرته.

ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت: (ومبشّراً ونذيراً) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي .. بالسلامة والسعادة الخالدة .. بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والإعتزاز .. ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم .. من خسران كلّ رأسمال الوجود، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان، وأن يكون أحدهما معادل للآخر، لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة، ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه، فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل، والإنذار على النصف الثاني، فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان، ولم تدرك دوافعه وميوله(3).

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة، فقالت: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).

* * *



1 ـ التوبة، 105.

2 ـ النساء، 41.

3 ـ لقد أوردنا بحثاً مفصّلا في هذا الباب تحت عنوان أصلان تربويان مهمّان، في ذيل الآية (119) من سورة البقرة.

[298]

ملاحظات

وهنا ينبغي الإنتباه إلى عدّة ملاحظات:

1 ـ لقد ذكر مقام «الشهادة»، وكون النّبي (صلى الله عليه وآله) شاهداً قبل جميع صفاته الاُخرى، وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته، فعندما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهداً من جميع الجهات التي ذكرناها سابقاً، غير أنّ مقام «البشارة» و «الإنذار» أمر يتحقّق بعد ذلك.

2 ـ إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار، لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ، فعندما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب، تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه، وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط.

3 ـ مع أنّ كلّ أعمال النّبي (صلى الله عليه وآله) بإذن الله وأمره، إلاّ أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا، وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه، حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم، فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها، ومن هنا يتّضح أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لا يملك شيئاً من عند نفسه، بل كلّ ما يقوله بإذن الله(1).

4 ـ إنّ كون النّبي (صلى الله عليه وآله) (سراجاً منيراً) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول، وعلامة صدقها، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه، يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه، فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس، فكذلك وجوده (صلى الله عليه وآله) دليل على كونه حقّاً، ودليل على أحقّيته.

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ لفظة «السراج» قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات، ثلاث منها في شأن الشمس، ومن جملتها ما ورد في الآية (16) من سورة



1 ـ يحتمل أيضاً أنّ قيد (بإذنه) يعود إلى جميع الأوصاف السابقة، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ الضمير يعود إلى مسألة الدعوة إلى الله.

[299]

نوح حيث تقول: (وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشمس سراجاً).

«السراج» في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقاً بواسطة الفتيلة والزيت، وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر، فينبعث ضياؤه ونوره، إلاّ أنّه اُطلق ـ على قول الراغب في مفرداته ـ على كلّ مصدر للنور فيما بعد، وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها، ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر.

إنّ وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر، لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس، وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور، فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقاً، وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته.

إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائماً، والنور يبعث الإطمئنان والراحة، فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه، والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالباً.

الظلام يسبّب الفرقة، والنور يسبّب الإجتماع، ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجاً في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة.

إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار، ونضج الفواكه والأثمار، والخلاصة: كلّ نشاطات الحياة، وتشبيه وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن.

إنّ وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) أساس الهدوء والإطمئنان، وفرار لصوص الدين والإيمان، وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها، ويوجب هدوء الخاطر، ونمو روح الإيمان والأخلاق، والخلاصة: أساس الحياة والحركة، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

[300]

وفي الآيتين الاُخريين من الآيات مورد البحث بياناً لخمسة واجبات من واجبات النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المهمّة بعد بيان صفاته الخمس، فتقول أوّلا: (وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلا كبيراً) وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النّبي (صلى الله عليه وآله) لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة، بل إنّ الله سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماماً كما تشهد بذلك الآيات القرآنية.

فتقول في موضع: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).(1)

وتقول في موضع آخر: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء).(2)

وقد تذهب أبعد من ذلك فتقول: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين).(3)

وبهذا فإنّ أبعاد الفضل الإلهي الكبير أوسع وأسمى ممّا يخطر في التصوّر والأوهام.

ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث، فقالت: (ولا تطع الكافرين والمنافقين).

لا شكّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً، إلاّ أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبي (صلى الله عليه وآله) والتحذير والقدوة للآخرين، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارةً، وعن طريق منح الإمتيازات تارةً اُخرى، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحياناً فيظنّ أنّ الخضوع والإمتثال لمثل هذه المساومة والإستسلام هو طريق الوصول



1 ـ الأنعام، 160.

2 ـ البقرة، 261.

3 ـ الم السجدة، 17.

[301]

إلى الهدف. في حين أنّ نتيجة هذا الإستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي، وإحباط كلّ جهاد وكفاح.

إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مراراً إلى جرّ النّبي (صلى الله عليه وآله)إلى هذا الموضع، فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها، وقالوا مرّة اُخرى: ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة، واعبد آلهتنا سنة، وكانوا يقولون أحياناً: امهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك. واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنا ـ نحن الأثرياء ذوي المكانة ـ إليك. وكانوا يعلنون أحياناً إستعدادهم لبذل الإمتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس، والنساء الجميلات وأمثال ذلك.

من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق إنتشار الإسلام السريع، وإقتلاع جذور الكفر والنفاق، ولو كان النّبي (صلى الله عليه وآله) قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الإقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار، ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقاً.

ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس: (ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا).

إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبي (صلى الله عليه وآله) تحت ضغط شديد لحمله على الإستسلام، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة، أم عن طريق الأذى الجسمي، أو عن طريق الحصار الإقتصادي. وكان لهذا الأذى صورة واُسلوباً في مكّة، واُسلوباً آخر في المدينة، لأنّ «الأذى» جاء مطلقاً في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى.

ويرى «الراغب» في المفردات أنّ «الأذى» هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي، سواء في روحه، أو جسمه، أو يصيب من يرتبط به، سواء في الدنيا أم الآخرة.

[302]

وقد إستعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في «الأذى اللساني» تارةً كالآية (61) من سورة التوبة، حيث تقول: (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن).

وإستعملت أيضاً بمعنى «الأذى البدني» في آيات اُخرى، كالآية (16) من سورة النساء: (والّذان يأتيانها منكم فآذوهما) أي يرتكبان الفاحشة، فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي.

يقول التاريخ: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى، ولم يقبلوا عار الإستسلام والهزيمة قطّ، وأخيراً إنتصروا في حركتهم.

وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو «التوكيل على الله» والإعتماد على ذاته المقدّسة .. الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته .. أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل.

وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهاد ـ كما يظنّ ذلك بعض المفسّرين ـ بل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد، وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب.

إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون، بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الإهتمام بإيذاء مخالفيهم، فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال، يكون عدوّهم قد حقّق هدفه، لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله، ويهدر طاقاته عن هذا الطريق .. هنا يكون أمر (دع أذاهم) هو الحلّ الوحيد.

وهنا أمر يستحقّ الإنتباه أيضاً، وهو: أنّ الأوامر الخمسة المذكورة، التي وردت في الآيتين الأخيرتين، يكمل بعضها بعضاً، ويرتبط بعضها ببعض، فإنّ

[303]

تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة، وعدم الإستسلام للكفّار والمنافقين، وعدم الإهتمام بأذاهم، والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مباديء تؤدّي إلى الهدف، ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ.

 

* * *

[304]

 

 

الآية

 

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا(49)

 

التّفسير

جانب من أحكام الطلاق:

إنّ آيات هذه السورة ـ الأحزاب ـ جاءت على شكل مجموعات مختلفة، والخطاب في بعضها موجّه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وفي بعضها الآخر إلى كلّ المؤمنين، ولذلك تقول أحياناً: (ياأيّها النّبي)، وأحياناً اُخرى: (ياأيّها الذين آمنوا) قد وردت فيها الأوامر اللازمة يوازي بعضها بعضاً، وهذا يعني أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان مراداً بهذه التعليمات، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضاً.

والآية التي نبحثها من الآيات التي توجّه خطابها إلى كلّ المؤمنين، في حين أنّ الآيات السابقة خاطبت شخص النّبي (صلى الله عليه وآله) ظاهراً، ويتوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)في الآيات القادمة مرّة اُخرى، وبهذا فإنّ قسماً من هذه السورة يتّبع اُسلوب «اللفّ والنشر المرتّب».

[305]

تقول الآية: (ياأيّها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها).

لقد بيّن الله سبحانه هنا حكماً إستثنائياً من حكم عدّة النساء المطلّقات، وهو أنّ الطلاق، إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدّة كان قد بُيّن قبل هذه الآية.

إنّ التعبير بـ «المؤمنات» لا يدلّ على أنّ الزواج من غير المسلمات ممنوع تماماً، بل من الممكن أن يكون إشارة إلى أولوية المؤمنات، وبناءً على هذا فإنّه لا ينافي الروايات ومشهور فتاوى الفقهاء بجواز الزواج المؤقّت من الكتابيات.

ثمّ إنّه يستفاد من تعبير (لكم) وكذلك جملة (تعتدونها) أنّ إنتظار عدّة المرأة يعتبر حقّاً للرجل، ويجب أن يكون هكذا، لأنّ من الممكن أن تكون المرأة حاملا في الواقع، وتركها العدّة وزواجها برجل آخر يجعل حال الولد غير معلوم، ويؤدّي إلى ضياع حقّ الرجل إضافةً إلى أنّ إنتظار العدّة يمنح الرجل والمرأة فرصة لتجديد النظر والرجوع إلى بعضهما، فقد يقع الطلاق نتيجة إنفعالات شديدة، ومثل هذه الفرصة والتفكير حقّ للرجل والمرأة معاً.

وأمّا ما أورده البعض على هذا الحكم، بأنّ العدّة إن كانت حقّاً للرجل، فبإمكانه أن يسقط حقّه، فلا يصحّ، لأنّ في الفقه حقوقاً كثيرة لا يمكن إسقاطها، كالحقّ الذي لورثة الميّت في أمواله، أو الحقّ الذي للفقراء في الزكاة، إذ لا يقدر أي أحد على إسقاط هذا الحقّ الشرعي.

ثمّ تتطرّق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلقن قبل المباشرة الجنسية ـ والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضاً ـ فتقول: (فمتّعوهنّ)أي اعطوهنّ هدية مناسبة.

ولا شكّ أنّ تقديم هديّة مناسبة إلى المرأة يكون واجباً في حالة عدم تعيين المهر من قبل، كما جاء في الآية (236) من سورة البقرة (لا جناح عليكم إن طلّقتم

[306]

النساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتّعوهنّ).

بناءً على هذا، فإنّ الآية مورد البحث وإن كانت مطلّقة، وتشمل الموارد التي عين فيها المهر، والتي لم يعيّن فيها، إلاّ أنّنا نحدّدها بالمورد الذي لم يعيّن فيه المهر بقرينة آية سورة البقرة، لأنّه في حالة تعيين المهر وعدم الدخول يجب دفع نصف المهر، كما جاء ذلك في الآية (237) من سورة البقرة.

واحتمل بعض المفسّرين والفقهاء أنّ حكم تقديم هديّة مناسبة عام في الآية مورد البحث، ويشمل حتّى الموارد التي عيّن فيها المهر، غاية ما هناك أنّ له صفة الإستحباب في هذه الموارد، وله صفة الوجوب في الموارد التي لم يعيّن فيها المهر. وتلاحظ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى هذا المعنى أيضاً(1).

أمّا كم هو مقدار هذه الهدية؟ فقد بيّنه القرآن المجيد في سورة البقرة إجمالا بقوله: (متاعاً بالمعروف).(2) وكذلك قال في نفس تلك الآية: (على الموسّع قدره وعلى المقتر قدره).

بناءً على هذا، فإن ذكرت في الروايات الإسلامية موارد من قبيل البيت والخادم واللباس وأمثال ذلك، فإنّها من قبيل المصاديق لهذا الكلّي وهي تتفاوت بحسب إمكانيات الزوج وشؤون المرأة.

وآخر حكم في الآية مورد البحث هو: (وسرحوهنّ سراحاً جميلا).

«السراح الجميل» هو الطلاق المقترن بالمحبّة والإحترام، وترك كلّ خشونة وظلم وجور وإحتقار، والخلاصة هو ما ورد في الآية (29) من سورة البقرة: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإنّ الإستمرار في الحياة الزوجية يجب أن يكون قائماً على أساس المعايير الإنسانية، والطلاق كذلك، فلا يجوز للرجل ـ إذا



1 ـ كالآية (241) من سورة البقرة، ووردت روايات متعدّدة في هذا الباب ذكرت في وسائل الشيعة، الجزء 15، ص59 الباب 50 من أبواب المهور من كتاب النكاح، ومن جملتها ما ورد عن علي (عليه السلام) «لكلّ مطلّقة متعة إلاّ المختلعة».

2 ـ البقرة، 236.

[307]

صمّم على طلاق زوجته ـ هضم حقّ الزوجة ومهرها، وبذاءة الكلام والخشونة معها، فإنّ هذا السلوك غير إسلامي قطعاً، ولا يمتّ إلى الإسلام بصلة.

واعتبر بعض المفسّرين «السراح الجميل» بمعنى إجراء الطلاق طبقاً للسنّة الإسلامية، وجاء هذا المعنى في الرّواية الواردة في تفسير علي بن إبراهيم وعيون الأخبار. إلاّ أنّ من المسلّم أنّ «السراح الجميل» لا يتحدّد بهذا المعنى، بالرغم من أنّه أحد مصاديقه.

واعتقد بعض آخر من المفسّرين أنّ السراح الجميل هنا يعني إذن الخروج من المنزل، لأنّ المرأة ليست مكلّفة هنا بالعدّة، وبناءً على هذا فيجب إطلاق سراحها لتذهب حيث شاءت.

إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً بملاحظة أنّ تعبير السراح الجميل، أو أمثاله في الآيات القرآنية الاُخرى قد ورد حتّى في شأن النساء اللاتي يجب أن يعتددن.

وقد كان لنا بحث مفصّل حول المعنى الأصلي للسراح، وأصله اللغوي، ولماذا يستعمل في الإطلاقات المتعارفة بمعنى الطلاق والإطلاق في ذيل الآية (28) من سورة الأحزاب هذه.

 

* * *

[308]

 

 

الآية

 

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَجَكَ الَّتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـلَـتِكَ الَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنِكحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(50)

 

التّفسير

يمكنك الزواج من هذه النّسوة:

قلنا: إنّ بعض مقاطع هذه السورة تبحث واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين على طريقة اللفّ والنشر المرتّب، ولذلك فبعد ذكر جانب من الأحكام المتعلّقة بطلاق النساء، وجّهت الخطاب هنا إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة:

[309]

1 ـ فقالت أوّلا: (ياأيّها النّبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت اُجورهنّ). والمراد من هؤلاء النساء ـ بقرينة الجمل التالية ـ النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنّبي (صلى الله عليه وآله) برابطة قرابة وقد تزوّجنه، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقداً عند زواجهم من الأجنبيات، إضافةً إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع، وخاصّة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه. إلاّ أنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال، إذ يمكن أن يبقى المهر ديناً في ذمّة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.

2 ـ (وما ملكت يمينك ممّا أفاء الله عليك).

(أفاء الله) من مادّة (الفيء)، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقّة، ولذلك يطلق (الفيء) على الغنائم الحربية، وكذلك الأنفال، وهي الثروات الطبيعية التي تعود إلى الحكومة الإسلامية ولا يملكها مالك بالخصوص.

يقول الراغب في مفرداته: الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة، ومنه فاء الظلّ. (لحالة رجوع الظلّ) ثمّ قال: وقيل للغنيمة من دون مشقّة فيء. قال بعضهم: سمّي ذلك بالفيء تنبيهاً على أنّ أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظلّ زائل.

صحيح أنّ الغنائم الحربية لا تنال في بعض الأحيان إلاّ بشقّ الأنفس وبذل الجهد المضني، إلاّ أنّ مشقّتها أقلّ من مشقّة تحصيل الأموال الاُخرى. وقد يطلق «الفيء» أحياناً على الأموال الطائلة التي يُحصل عليها من خلال هجوم واحد.

لكن مَن مِن نساء النّبي يصدق عليها هذا الحكم؟

قال بعض المفسّرين: إنّ إحدى نساء النّبي وهي «مارية القبطية» ـ كانت من الغنائم، وكانت زوجتان اُخريان ـ وهما «صفيّة» و «جويرية» ـ من الأنفال أعتقهما النّبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ تزوّجهما، وكان هذا الفعل بنفسه جزءاً من خطّة الإسلام العامّة في تحرير العبيد التدريجي، وإرجاع الشخصية الإنسانية لهم.

3 ـ (وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاّتي هاجرن

[310]

معك) وبهذا فإنّ اللاّتي يحلّ للنّبي الزواج منهنّ من بين جميع الأقارب: بنات العمّ والعمّة، وبنات الخال والخالة، وبشرط أن يكنّ قد هاجرن مع النّبي (صلى الله عليه وآله).

إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح، إلاّ أنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلا على الإيمان في ذلك اليوم، وعدم الهجرة دليل على الكفر، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ إمتيازاً أكبر وفخراً أعظيم، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنّبي (صلى الله عليه وآله).

وهل لهذه الفئات الأربع التي ذكرت كحكم كلّي في الآية، مصداق خارجي من بين نساء النّبي أم لا؟ إنّ المورد الوحيد الذي يمكن ذكره كمصداق هو زواجه (صلى الله عليه وآله)بزينب بنت جحش، الذي مرّت قصّته المثيرة في طيّات هذه السورة، لأنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي وكان «جحش» زوج عمّته(1).

4 ـ (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي (من دون مهر) إن أراد النّبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين) أي أنّ هذا الحكم خاص للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا يشمل سائر المؤمنين (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم)وبناءً على هذا فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلّق بالزواج من هؤلاء النسوة، فقد كان ذلك إستناداً إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن، ولم يكن أيٍّ من هذه الأحكام والمقرّرات إعتباطياً وبدون حساب.

ثمّ تضيف الآية (لئلاّ يكون عليك حرج) وبالتالي ستكون قادراً على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب (وكان الله غفوراً رحيم).

وفي مورد القسم الأخير ـ أي النساء اللاّتي لا مهر لهنّ ـ ينبغي الإلتفات إلى



1 ـ ذكر بعض المفسّرين وجوهاً أوردها «الفاضل المقداد» في كنز العرفان، في أنّه لماذا ورد العمّ بصيغة المفرد والعمّات بصيغة الجمع، وكذلك الخال بصيغة المفرد والخالات بصيغة الجمع، إلاّ أنّ أفضلها هو أنّ العمّ والخال يستعملان كاسم للجنس في لغة العرب، وليس كذلك العمّات والخالات، وقد ذكر ابن العربي عرف أهل اللغة هذا (كنز العرفان، المجلّد 2، ص241).


وقد رجّح الآلوسي هذا الإحتمال في روح المعاني على كلّ الوجوه الاُخرى.

[311]

النقاط أدناه:

1 ـ لا شكّ أنّ جواز إتّخاذ زوجة من دون مهر كان من مختّصات النّبي (صلى الله عليه وآله)والآية صريحة في هذه المسألة، ولذلك فهي من مسلّمات الفقه الإسلامي، وبناءً على هذا فلا يحقّ لأيّ امرىء أن يتزوّج امرأة بدون مهر، قلّ أم كثر، وحتّى إذا لم يرد ذكر المهر أثناء إجراء صيغة العقد، ولم تكن هناك قرينة تعيّنه، فيجب أن يدفع مهر المثل، والمراد من مهر المثل: المهر الذي تجعله النساء اللاتي تشابهها في الأوصاف والخصوصيات لأنفسهنّ عادةً.

2 ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل لهذا الحكم الكلّي مصداق في مورد زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله) أم لا؟

يعتقد البعض ـ كإبن عبّاس وبعض آخر من المفسّرين ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يتزوّج بأيّة امرأة على هذه الحال، وبناءً على هذا فإنّ الحكم أعلاه كان إذناً عاماً للنّبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه لم يطبّق عملياً مطلقاً.

في حين أنّ آخرين ذكروا أسماء ثلاث أو أربع نسوة من زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله)اللاّتي تزوجهنّ بدون مهر، وهنّ: «ميمونة» بنت الحارث، و «زينب» بنت خزيمة، وكانتا من الأنصار، وامرأة من بني أسد، واسمها «اُمّ شريك» بنت جابر، و «خولة» بنت حكيم.

ومن جملة ما ورد في الروايات أنّ «خولة» عندما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله)إعترضت عائشة، فقالت: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية أعلاه، غير أنّ عائشة إلتفتت إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: أرى الله يسارع في هواك ـ وكان هذا نوع من التعريض بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ـ فقال لها النّبي (صلى الله عليه وآله): «وإنّك إن أطعت الله سارع في هواك»(1).



1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وفي تفسير القرطبي جملة: (والله ما أرى بك إلاّ يسارع في هواك). وأوردها الآلوسي في روح المعاني أيضاً في ذيل الآية مورد البحث. إنّ قبح هذا التعبير، والمعنى الذي اُخفي فيه لا يخفى على أحد، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يمرّ عليه ويتجاوزه بشكل رائع.

[312]

لا شكّ أنّ أمثال هؤلاء النسوة كنّ لا يطمعن إلاّ في الفخر المعنوي عن طريق الإقتران بالنّبي (صلى الله عليه وآله)، ولذلك كنّ على إستعداد للزواج منه بدون أيّ مهر، إلاّ أنّ وجود مثل هذا المصداق للحكم أعلاه غير مسلّم من الناحية التأريخية كما قلنا، بل المسلّم أنّ الله سبحانه كان قد أذن لنبيّه بذلك للغاية التي سنشير إليها فيما بعد.

3 ـ يستفاد من هذه الآية جيّداً أنّ إجراء صيغة عقد الزواج بلفظ «الهبة» كان مختّصاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) فقط، ولا يستطيع أيّ فرد آخر أن يجري عقد الزواج بهذا اللفظ، ويجوز إجراء العقد بلفظ الزواج أو النكاح، حتّى وإن لم يجر للمهر ذكر فيه، حيث يجب دفع مهر المثل عند عدم ذكر المهر كما قلنا آنفاً، فكأنّه في الحقيقة قد صرّح بمهر المثل.

* * *

 

بحث

جانب من حكمة تعدّد زوجات النّبي:

إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصّة بنبيّنا الأكرم، حيث تقول: إنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) ظروفاً لا يعيشها الآخرون، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سبباً للتفاوت في الأحكام.

وبتعبير أوضح، إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النّبي (صلى الله عليه وآله). وهذا تعبير لطيف يبيّن أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من عدّة نساء كان لحلّ سلسلة من المشاكل الإجتماعية والسياسية في حياته، لأنّا نعلم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)كان وحيداً حينما صدع بنداء الإسلام ورفع شعاره، ولم يؤمن به بعد مدّة طويلة سوى عدّة معدودة، فإنّه ثار ضدّ كلّ معتقدات عصره وبيئته الخرافية، وأعلن الحرب ضدّ

[313]

الجميع، فمن البديهي أن تتّحد كلّ الأقوام والقبائل ضدّه.

في هذا الوضع كان لابدّ من أن يستعين بكلّ الوسائل ويستغلّها لكسر إتّحاد الأعداء اللامشروع، وكانت إحدى هذه الوسائل هو الزواج من القبائل المختلفة لإيجاده علاقة قرابة ونسب، لأنّ رابطة القرابة كانت تعدّ أقوى الروابط بين عرب الجاهلية، وكانوا يعتبرون الصهر من نفس القبيلة، والدفاع عنه واجباً، وتركه وحيداً جريمة وذنباً.