وبعد هذه الأوامر العمليّة المهمّة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والإستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: (واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الاُمور).

من المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الإجتماعية، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم أيضاً أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء وإتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الإنتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والإستقامة أبداً.

«العزم» بمعنى الإرادة المحكمة القويّة، والتعبير بـ (عزم الاُمور) هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمراً مؤكّداً، أو الاُمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميماً راسخاً، وأيّاً من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهميّة تلك الأعمال.

والتعبير بـ «ذلك» إشارة إلى الصبر والتحمّل، ويحتمل أيضاً أن يعود إلى كلّ الاُمور والمسائل التي ذكرت في الآية أعلاه، ومن جملتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلاّ أنّ هذا التعبير قد ورد بعد مسألة الصبر في بعض الآيات القرآنية الاُخرى، وهذا يدعم ويقوّي الإحتمال الأوّل.

ثمّ إنتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أوّلا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبّر، فيقول: (ولا تصعّر خدّك للناس) أي لا تعرض بوجهك عن الناس (ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور).

[47]

«تُصَعّر»: من مادّة (صعّر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته.

و «المرح»: يعني الغرور والبطر الناشيء من النعمة.

و «المختال»: من مادّة (الخيال) و (الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام.

و «الفخور»: من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.

والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أنّ الاُولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي.

وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الإجتماعية الصميميّة: إحداهما التكبّر وعدم الإهتمام بالآخرين، والاُخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ «صعّر» سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الإنحراف في التشخيص والتفكير، وإلاّ فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقاً بمثل هذه الظنون والتخيّلات.

ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس، أو المشي بغرور وحسب، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة.

ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الإعتدال في مشيك: (واقصد في مشيك) وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً (واغضض من

[48]

صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير)(1).

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين:

فالنهي عن «التكبّر» و «العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين.

وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالباً، ولهما أصل مشترك، إلاّ أنّهما قد تفترقان أحياناً.

أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة.

والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتاً أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط، إلاّ أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة، إضافةً إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان، وبه شُبّهت صرخات ونعرات المغرورين البله.

وليس القبح من جهة إرتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً، لأنّ بعض المفسّرين يقولون: إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالباً عن حاجة، إلاّ أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داع، وبدون أيّ



1 ـ «أنكر» أفعل التفضيل، ومع أنّه لا يأتي عادةً في مورد المفعول، إلاّ أنّ هذه الصيغة وردت بصورة نادرة في باب العيوب.

[49]

حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطاناً، لهذا السبب.

وقال البعض: إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمار!

وعلى كلّ حال، فإنّنا إذا تجاوزنا كلّ ذلك، فإنّ كون هذا الصوت قبيحاً من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث، وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(1).

* * *

 

تعليقات

1 ـ آداب المشي

صحيح أنّ المشي مسألة سهلة وبسيطة، إلاّ أنّ نفس هذه المسألة السهلة يمكن أن تعكس أحوال وأوضاع الإنسان الداخلية والأخلاقية، وقد تحدّد ملامح شخصيته، لأنّ روحيّة الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيّات كلّ أعماله، كما قلنا سابقاً، وقد يكون العمل الصغير حاكياً عن روحية متأصّلة أحياناً. ولمّا كان الإسلام قد اهتمّ بكلّ أبعاد الحياة، فإنّه لم يهمل شيئاً في هذا الباب أيضاً.

ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من مشى على الأرض إختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها»(2).

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، وقال: «من لبس ثوباً فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم، وكان قرين قارون



1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ ثواب الأعمال وأمالي الصدوق، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 207.

[50]

لأنّه أوّل من اختال!»(1).

وكذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ـ إلى أن قال ـ وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عزّوجلّ، فقال تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً) وقال: (واقصد في مشيك(2).

وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيز (صلى الله عليه وآله)، وذلك أنّه كان قد مرّ من طريق، فرأى مجنوناً قد إجتمع الناس حوله ينظرون إليه، فقال: «علام إجتمع هؤلاء؟» فقالوا: على مجنون يصرع، فنظر إليهم النّبي (صلى الله عليه وآله) وقال: «ما هذا بمجنون! ألا اُخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟» قالوا: بلى يارسول الله، فقال: «إنّ المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه، فذلك المجنون وهذا المبتلى»(3).

 

2 ـ آداب الحديث

لقد وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها:

ـ طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلّم، فإنّ السكوت خير منه، كما نرى ذلك في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «السكوت راحة للعقل»(4).

ـ وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): «من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة»(5).

ـ وقد ورد التأكيد في روايات اُخرى على أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في



1 ـ المصدر السابق.

2 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني، صفحة 28 باب (أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها).

3 ـ بحار الأنوار، ج76، صفحة 57.

4 ـ الوسائل، الجزء صفحة 532.

5 ـ المصدر السابق.

[51]

المواضع التي يلزم فيها الكلام، وأنّ الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت، وأنّ وسيلة الوصول إلى الجنّة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب(1).

 

3 ـ آداب العشرة

لقد اهتّمت الروايات الإسلامية الواردة عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)بمسألة التواضع وحسن الخُلُق والملاطفة في المعاملة، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة، إهتماماً قلّ نظيره في الموارد الاُخرى، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها، ونذكر منها هنا نماذج:

ـ جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يارسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: «الق أخاك بوجه منبسط»(2).

وفي حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «ما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق»(3).

ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «البرّ وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار»(4).

ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أكثر ما تلج به اُمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق»(5).

وعن علي (عليه السلام) في شأن التواضع: «زينة الشريف التواضع»(6).

ـ وأخيراً نطالع في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «التواضع أصل كلّ خير



1 ـ المصدر السابق.

2 ـ بحار الأنوار، الجزء 74، صفحة 171.

3 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، باب حسن الخُلُق وما بعده صفحة 81، 82.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ المصدر السابق.

6 ـ بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 120.

[52]

نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب .. ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده .. وليس لله عزّوجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلاّ وبابها التواضع»(1).

 

* * *



1 ـ بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 121.

[53]

 

 

الآيات

 

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَـب مُّنِير(20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـنُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ(22) وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَاب غَلِيظ(24)

 

التّفسير

بعد إنتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة، وخطط وبرامج القرآن الأخلاقية والإجتماعية، ولأجل إكمال البحث، تتّجه الآيات إلى بيان نعم الله تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر .. الشكر الذي يكون منبعاً لمعرفة

[54]

الله وطاعة أوامره(1)، فيوجّه الخطاب لكلّ البشر، فيقول: (ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض).

إنّ لتسخير الموجودات السماوية والأرضيّة للإنسان معنى واسعاً يشمل الاُمور التي في قبضته وإختياره، ويستخدمها برغبته وإرادته في طريق تحصيل منافعه ككثير من الموجودات الأرضيّة، كما تشمل الاُمور التي ليست تحت تصرّفه وإختياره، لكنّها تخدم الإنسان بأمر الله جلّ وعلا كالشمس والقمر. وبناءً على هذا فإنّ كلّ الموجودات مسخّرة بإذن الله لنفع البشر، سواءً كانت مسخّرة بأمر الإنسان أم لا، وعلى هذا فإنّ اللام في (لكم) لام المنفعة(2).

ثمّ تضيف الآية: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).

«أسبغ» من مادّة (سَبغ) وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثمّ اُطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضاً.

هناك إختلاف بين المفسّرين في المراد من النعم الظاهرة والباطنة في هذه الآية ..

فالبعض إعتقد أنّ النعمة الظاهرة هي الشيء الذي لا يمكن لأيّ أحد إنكاره كالخلق والحياة وأنواع الأرزاق، والنعم الباطنة إشارة إلى الاُمور التي لا يمكن إدراكها من دون دقّة ومطالعة ككثير من القوى الروحية والغرائز المهمّة.

والبعض عدّ الأعضاء الظاهرة هي النعم الظاهرة، والقلب هو النعمة الباطنة.

والبعض الآخر إعتبر حسن الصورة والوجه والقامة المستقيمة وسلامة الأعضاء النعمة الظاهرة، ومعرفة الله هي النعمة الباطنة.



1 ـ إعتقد بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، بأنّ هذه الآيات مرتبطة بالآيات التي سبقت مواعظ لقمان، حيث تخاطب المشركين: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وتقول في الآيات مورد البحث: (ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض). إلاّ أنّ آخر هذه الآية والآيات التي بعدها، والروايات الواردة في تفسيرها تتناسب مع عموميّة الآية.

2 ـ كانت لنا بحوث اُخرى حول تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد.

[55]

وفي حديث عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنّ ابن عبّاس سأله عن النعم الظاهرة والباطنة فقال (صلى الله عليه وآله): «يابن عبّاس، أمّا ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأمّا ما بطن فستر مساويء عملك ولم يفضحك به»(1).

وفي حديث آخر عن الباقر (عليه السلام): «النعمة الظاهرة: النّبي (صلى الله عليه وآله) وما جاء به النّبي من معرفة الله، وأمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا»(2).

إلاّ أنّه لا توجد أيّة منافاة بين هذه التفاسير في الحقيقة، وكلّ منها يبيّن مصداقاً بارزاً للنعمة الظاهرة والنعمة الباطنة دون أن يحدّد معناها الواسع.

وتتحدّث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة، والتي تحيط الإنسان من كلّ جانب، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحقّ، فتقول: (من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير) وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كلّ هذه النعم الظاهرة والباطنة، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.

ولكن ما هو الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

لعلّ أفضل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أنّ «العلم»: إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله، و «الهدى»: إشارة إلى المعلّمين والقادة الربّانيين والسماويين، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف، والمراد من «الكتاب المنير»: الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نوراً عن طريق الوحي.

إنّ هذه الجماعة العنيدة في الحقيقة لا يمتلكون علماً، ولا يتّبعون مرشداً وهادياً، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي، ولمّا كانت طرق الهداية منحصرة بهذه



1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ المصدر السابق.

[56]

الاُمور الثلاثة فإنّ هؤلاء لمّا تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.

وتشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة، فتقول: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا) ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءاً من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني، وقال: (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير)(1).

إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يزيح هنا الغطاء عن اتّباع سنّة الآباء والأجداد الزائفة، ويبيّن الوجه الحقيقي لعمل هؤلاء والذي هو في حقيقته اتّباع الشيطان في مسير جهنّم.

أجل، إنّ قيادة الشيطان بذاتها تستوجب أن يخالفها الإنسان وإن كانت مبطّنة بالدعوة إلى الحقّ، فمن المسلّم أنّه غطاء وخدعة، والدعوة إلى النار كافية لوحدها أيضاً للمخالفة بالرغم من أنّ الداعي مجهول الحال، فإذا كان الداعي الشيطان، ودعوته إلى نار جهنّم المستعرة، فالأمر واضح.

هل يوجد عاقل يترك دعوة أنبياء الله إلى الجنّة، ويلهث وراء دعوة الشيطان إلى جهنّم؟!

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال مجموعتين: المؤمنين الخلّص، والكفّار الملّوثين، وتجعلهم مورد إهتمامها في المقارنة بينهم، فقالت: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد إستمسك بالعروة الوثقى).

والمراد من تسليم الوجه إلى الله سبحانه، هو التوجّه الكامل وبكلّ الوجود إلى ذات الله المقدّسة، لأنّ الوجه لمّا كان أشرف عضو في البدن، ومركزاً لأهمّ



1 ـ إعتبر المفسّرون (لو) هنا شرطية كالمعتاد، وجزاؤها محذوف، والتقدير: لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير أيتبعونه.

[57]

الحواسّ الإنسانية، فإنّه يستعمل كناية عن ذاته.

والتعبير بـ (وهو محسن) من قبيل ذكر العمل الصالح بعد الإيمان.

والإستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر الماديّة والإرتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرّة ثابتة، وليست هذه الوسيلة إلاّ الإيمان والعمل الصالح، وكلّ سبيل ومتّكأ غيرهما متهرّيء متخرّق هاو وسبب للسقوط والموت، إضافة إلى أنّ ما يبقى هو هذه الوسيلة، وكلّ ما عداها فان، ولذلك فإنّ الآية تقول في النهاية: (وإلى الله عاقبة الاُمور).

جاء في حديث نقل في تفسير البرهان عن طرق العامّة عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «وسيكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسّك بالعروة الوثقى، فقيل: يارسول الله، وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيّد الوصيّين، قيل: يارسول الله، ومن سيّد الوصيّين؟ قال: أمير المؤمنين، قيل: يارسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي، قيل: يارسول الله، ومن مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب»(1).

وقد رويت روايات اُخرى في هذا الباب تؤيّد أنّ المراد من العروة الوثقى مودّة أهل البيت (عليهم السلام)، أو حبّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة من ولد الحسين (عليهم السلام)(2).

وقد قلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير بيان للمصاديق الواضحة، ولا تتنافى مع المصاديق الاُخرى كالتوحيد والتقوى وأمثال ذلك.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى بيان حال الفئة الثّانية، فقالت: (ومن كفر فلا يحزنك كفره) لأنّك قد أدّيت واجبك على أحسن وجه، وهو الذي قد ظلم نفسه.



1 ـ تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 279 ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 278 و279.

[58]

ومثل هذه التعبيرات التي وردت مراراً في القرآن، تبيّن أنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)كان يتألّم ويتعذّب كثيراً عندما يرى الجاهلين العنودين يتركون سبيل الله مع تلك الدلائل البيّنة والعلامات الواضحة، ويسلكون سبيل الغيّ والضلال، وكان يغتمّ إلى درجة أنّ الله تعالى كان يسلّي خاطره في عدّة مرّات، وهذا دأب وحال المرشد والقائد الحريص المخلص.

فلا تحزن أن تكفر جماعة من الناس، ويظلموا ويجوروا وهم متنعّمون بالنعم الإلهيّة ولا يعاقبون، فلا عجلة في الأمر، إذ: (إلينا مرجعهم فننبّئهم بما عملوا) فإنّنا مطّلعون على أسرارهم ونيّاتهم كإطّلاعنا على أعمالهم، فـ : (إنّ الله عليم بذات الصدور).

إنّ تعبير: إنّ الله ينّبىء الناس في القيامة بأعمالهم، أو أنّه تعالى ينبّئهم بما كانوا فيه يختلفون، قد ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد، وبملاحظة أنّ (ننبّئكم) من مادّة (نبأ) والنبأ ـ على ما أورده الراغب في مفرداته ـ يقال للخبر الذي ينطوي على محتوى وفائدة مهمّة، وهو صريح وخال من كلّ أشكال الكذب، سيتّضح أنّ هذه التعبيرات تشير إلى أنّ الله سبحانه يفشي ويفضح أعمال البشر بحيث لا يبقى لأحد أيّ إعتراض وإنكار، فهو يظهر ما عمله الناس في هذه الدنيا ونسوه أو تناسوه، ويهيّؤه للحساب والجزاء، وحتّى ما يخطر في قلب الإنسان ولم يطّلع عليه إلاّ الله تعالى، فإنّه سبحانه سيذكرهم بها.

ثمّ يضيف بأنّ تمتّع هؤلاء بالحياة لا ينبغي أن يثير عجبك، لأنّا (نمتّعهم قليلا ثمّ نضطرهم إلى عذاب غليظ) ذلك العذاب الأليم المستمر.

إنّ هذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يتصوّروا أنّهم خارجون عن قبضة قدرة الله سبحانه، بل إنّه يريد أن يمهل هؤلاء للفتنة وإتمام الحجّة والأهداف الاُخرى، وإنّ هذا المتاع القليل من جانبه أيضاً، وكم يختلف حال هؤلاء الذين

[59]

يجرّون ويُسحبون بذلّة وإكراه إلى العذاب الإلهي الغليظ، وحال اُولئك الذين وضعوا كلّ وجودهم في طريق العبودية لله سبحانه، وإستمسكوا بالعروة الوثقى، فهم يعيشون في هذه الدنيا طاهرين صالحين، وفي الآخرة يتنعّمون بجوار رحمة الله.

 

* * *

[60]

 

الآيات

 

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(25) لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ(26) وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلَـمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَحِدَة إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَل مُّسَمّىً وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(30)

 

التّفسير

عشر صفات لله سبحانه:

بيّنت الآيات الستّة أعلاه مجموعة من صفات الله سبحانه، وهي عشر صفات

[61]

رئيسيّة، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى:

الغني، الحميد، العزيز، الحكيم، السميع، البصير، الخبير، الحقّ، العليّ، والكبير.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الآية الاُولى تتحدّث عن «خالقية» الله، والآية الثّانية عن «مالكيته» المطلقة، والثالثة عن «علمه» اللامتناهي، والآية الرّابعة والخامسة عن «قدته» اللامتناهية. والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو الله تعالى، وكلّ ما دونه باطل أجوف حقير.

مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات، فتقول الآية الاُولى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله).

هذا التعبير ـ والذي يلاحظ في آيات القرآن الاُخرى، كالآية (61 ـ 63) من سورة العنكبوت، والآية (38) من الزمر، والآية (9) من الزخرف ـ يدلّ من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقاً، ولم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون الأصنام خالقة، إنّما كانوا معتقدين بالشرك في عبادة الأصنام وشفاعتها فقط. ومن جهة اُخرى يدلّ على كون التوحيد فطريّاً وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كلّ البشر.

ثمّ تقول: إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق فـ (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).

ثمّ تتطرّق إلى «مالكية» الله، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقاً لا حاجة إلى دليل على كونه مالكاً، فتقول: (لله ما في السموات والأرض). ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً، وبهذا تثبت أركان التوحيد الثلاثة، وهي: «توحيد الخالقية» و «توحيد المالكية» و «توحيد الربوبية». والذي يكون على هذا الحال فإنّه غنيّ عن كلّ شيء، وأهل لكلّ حمد وثناء، ولذلك تقول الآية في النهاية: (إنّ الله هو الغني الحميد).

[62]

إنّه غنيّ على الإطلاق، وحميد من كلّ جهة، لأنّ كلّ موهبة في هذا العالم تعود إليه، وكلّ ما يملكه الإنسان فانّه صادر منه وخزائن كلّ الخيرات بيده، وهذا دليل حيّ على غناه.

ولمّا كان «الحمد» بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء بإختياره، وكلّ حسن نراه في هذا العالم فهو من الله سبحانه، فإنّ كلّ حمد وثناء منه، فحتّى إذا مدحنا جمال الزهور، ووصفنا جاذبية العشق الملكوتي، وقدّرنا إيثار الشخص الكريم، فإنّنا في الحقيقة نحمده، لأنّ هذا الجمال والجاذبية والكرم منه أيضاً .. إذن فهو حميد على الإطلاق.

ثمّ تجسّد الآية التالية علم الله اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً، وقبل ذلك نرى لزوم ذكر هذه المسألة، وهي ـ طبقاً لما جاء في تفسير علي بن إبراهيم: إنّ قوماً من اليهود عندما سألوا النّبي (صلى الله عليه وآله) حول مسألة الروح، وأجابهم القرآن بأن (قل الروح من أمر ربّي وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا) صعب هذا الكلام عليهم، وسألوا النّبي (صلى الله عليه وآله): هل أنّ هذا في حقّنا فقط؟ فأجابهم النّبي (صلى الله عليه وآله): «بل الناس عامّة»، قالوا: فكيف يجتمع هذا يامحمّد؟! أتزعم أنّك لم تؤت من العلم إلاّ قليلا، وقد اُوتيت القرآن واُوتينا التوراة، وقد قرأت: (ومن يؤت الحكمة ـ وهي التوراة ـ فقد اُوتي خيراً كثيراً) هنا نزلت الآية (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام ...) ـ الآية مورد البحث ـ وأوضحت أنّ علم الإنسان مهما كان واسعاً فإنّه في مقابل علم الله عزّوجلّ ليس إلاّ ذرّة تافهة، والذي يعدّ كثيراً في نظركم، هو قليل جدّاً عند الله(1).

وقد بيّنا نظير هذه الرواية عن طريق آخر في ذيل الآية (109) من سورة الكهف.



1 ـ تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 279.

[63]

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول: (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم).

«يمدّه» من مادّة (المداد) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من (مدّ) بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها، وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج. وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد.

«الكلمات» جمع «كلمة»، وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان، ثمّ اُطلقت على معنى أوسع، وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته، فقد أطلق على كلّ موجود (كلمة الله)، واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم، كما نقرأ في شأن المسيح في الآية (171) من سورة النساء (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته) ثمّ إستعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.

والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحياناً قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما، بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم، إلاّ أنّ القرآن يقول: لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاماً ـ ونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة، من ساقها وأغصانها، آلاف، بل ملايين الأقلام، ومع الأخذ بنظر الإعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض، والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول، وعدد الأقلام الذي سينتج منها ..

[64]

وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة، والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريباً، بذلك العمق الساحق، تصبح حبراً، عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب، وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر! سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر اُخرى، وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض، وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد، بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لا عدّ لها، فعند ذلك ستّتضح سعة علم الله عزّوجلّ وترامي أطرافه، ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية.

هل يوجد تجسيد وتصوير للاّنهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد؟ إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة، ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال.

إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية، ويليق به أن يقول فقط: إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي، فحتّى التشبيه بالقطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحاً.