مثالنا على ذلك ما ذكره «البيهقي» من محدّثي العامّة، قال: في زمن الخليفة الثّاني مرّ في الناس قحط وجدب، ممّا حدا ببلال وعدد من الصحابة إلى الذهاب لقبر رسول الله وقالوا عنده: «يارسول الله، استق لاُمّتك ... فإنّهم قد هلكوا»(1).

كما نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) الكثير من الأحاديث في هذا الصدد، وبعد المناقشة لهذه الأحاديث يخرج بالقول: إنّني لا أرى مانعاً من التضرّع لله



1 ـ من كتاب (التوصّل إلى حقيقة التوسّل).

[485]

جلّوعلا بمقام الرّسول الأكرم في حياته أو بعد مماته ... ثمّ انّ الآخرين الذين يمتلكون مقاماً وقرباً من الخالق الكريم يجوز التوسّل بالله سبحانه بواسطتهم(1).

ولمزيد من الإطلاع راجع تفسيرنا هذا، ذيل الآية 35 من سورة المائدة.

 

2 ـ جانب من الروايات الإسلامية في التفكّر والتأمّل:

إهتّمت الرواية الإسلامية ـ وعلى خطى القرآن الكريم ـ بمسألة التفكّر إلى حدّ أن جعلتها في المقام الأوّل من الأهميّة، ويلاحظ المطالع للروايات تعبيرات جميلة ومعبّرة أوردنا نماذج منها هنا:

ألف ـ التفكّر أعظم عبادة: نقرأ عن الإمام الرضا (عليه السلام) «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّوجلّ»(2).

ونقرأ في رواية اُخرى: «كان أكثر عبادة أبي ذكر التفكّر»(3).

ب ـ ساعة تفكّر أفضل من ليلة من العبادة: عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبدالله الصادق (عليه السلام): عمّا يروي الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال: «يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك وأين بانوك، ما لك لا تتكلّمين؟»(4).

ج ـ التفكّر مصدر العمل: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به»(5).

 

* * *



1 ـ روح المعاني.

2 ـ اُصول الكافي، المجلّد 2، كتاب الكفر والإيمان ـ باب التفكّر ـ صفحة 55 حديث 4.

3 ـ سفينة البحار، المجلّد الثّاني، صفحة 382.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ المصدر السابق.

[486]

 

 

الآيات

 

قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(47) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَـطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبَِما يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(50)

 

التّفسير

وما يبديء الباطل وما يعيد:

قلنا أنّ الله تعالى أمر رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) في هذه السلسلة من الآيات الكريمة خمس مرّات بأن يخاطب هؤلاء الضالّين ويقطع عليهم طريق الإعتذار من كلّ جانب.

فالآية السابقة كانت دعوة للتفكّر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وفي مطلع هذه الآيات، يتحدّث القرآن في عدم مطالبة الرّسول (صلى الله عليه وآله) بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاُولى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن

[487]

أجري إلاّ على الله).

وذلك إشارة إلى أنّ العاقل حينما يتصرّف أي تصرّف يجب أن يكون لتصرفه باعث، فحينما يثبت لكم بأنّ لدي عقل كامل، وترون بأن ليس لي هدف مادّي، فيجب أن تعلموا بأنّ هناك دافعاً ومحرّكاً إلهياً ومعنوياً هو الذي دفعني إلى ذلك التصرّف أو العمل.

بتعبير آخر: أنا دعوتكم للتفكّر، والآن تأمّلوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل؟، وأي فائدة مادية لي فيه؟. إضافةً إلى ذلك فإن كانت حجّتكم في هذا الإعراض ومخالفة الحقّ، هو أنّكم ستدفعون لي أجراً عليه، فسيضيع جزافاً، لأنّي أساساً لم اُطالبكم بأي أجر أو جزاء.

كذلك فقد ورد هذا المعنى بصراحة أيضاً في الآية (46) من سورة القلم (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).

أمّا ما هو تفسير جملة (فهو لكم)؟ فهناك تفسيران:

الأوّل: أنّ الجملة كناية عن عدم المطالبة بأي أجر كما لو قلت «كلّ ما أردته منك فهو لك» كناية عن أنّك لا تريد شيئاً مطلقاً. والدليل على ذلك هو الجملة التالية والتي تقول: (إن أجري إلاّ على الله).

الثاني: أنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى، قلت لكم: (لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(1)، فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) و «إستمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

الدليل على هذا القول هو ما ورد في أسباب النّزول الذي نقله بعضهم هنا، ففي



1 ـ الشورى، 23.

[488]

تفسير روح البيان، ورد أنّه عند نزول الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمشركي مكّة: «لا تؤذوا ذوي قرباي» وهم قبلوا بهذا الطلب، ولكن عندما نال الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أصنامهم، قالوا: إنّ محمّداً لم ينصفنا، فهو من جانب يدعونا لعدم التعرّض لذوي قرباه بالأذى، ولكنّه من جانب آخر يمسّ أربابنا بالأذى، وهنا نزلت الآية موضوع بحثنا (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم). فما أردته منكم بهذا الخصوص هو بنفعكم، سواء آذيتموهم أو لم تؤذوهم.

ثمّ تختم الآية بالقول: (وهو على كلّ شيء شهيد). فإن كنت اُريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكلّ أعمالي ومطّلع على نواياي. علاوةً على أنّه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقّانية دعوتي، لأنّه هو سبحانه سخّر لي كلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات، والحقّ أنّه سبحانه وتعالى نعم الشاهد، فهو الذي قد أحاط بكلّ شيء علماً وهو أفضل من يستطيع الأداء، ولا يصدر عنه إلاّ الحقّ وهو خير الشاهدين. وهو الله سبحانه وتعالى.

بالإلتفات إلى ما قيل حول حقّانية دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من الله سبحانه وتعالى على قلب الرّسول (صلى الله عليه وآله): (قل إنّ ربّي يقذف بالحقّ علاّم الغيوب).

كلمة «يقذف» من مادّة (قذف) وهو الرمي البعيد، وثمّة تفسيرات متعدّدة لهذه الآية، يمكن جمعها مع بعضها البعض.

أوّلا: المقصود بـ «يقذف بالحقّ» هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علاّم الغيوب، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتّى ينفذ إلى أعماقها.

وعلى ذلك فالمعنى شبيه بما ورد في الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

[489]

والتعبير بـ «علاّم الغيوب» يؤيّد هذا المعنى.

الآخر: إنّ المقصود من «قذف الحقّ على الباطل وزهوق الباطل»، يعني أنّ للحقّ قوّة تجعله قادراً على تجاوز أي عائق في طريقه، وليس لأحد طاقة على الوقوف بوجهه، وبهذا تكون الآية تهديداً للمخالفين لكي لا يقفوا بوجه القرآن، وأن يعلموا أنّ حقّانية القرآن ستسحقهم.

وبذا تكون الآية تعبيراً مشابهاً لما ورد في الآية (18) من سورة الأنبياء (بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).

ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضيء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: (قل جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد)(1). وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحقّ، لا خطّة اُولى جديدة، ولا خطّة معادة، إذ أنّ خطط الباطل نقش على الماء، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحقّ ومحو أثره من القلوب.

مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق «الحقّ» و «الباطل» في هذه الآية في حدود معيّنة، لكن الواضح أنّ مفهوم الإثنين واسع وشامل جدّاً، القرآن، الوحي الإلهيى، تعليمات الإسلام، جميعها مصاديق لمفهوم «الحقّ». والشرك والكفر، والضلال، والظلم والذنوب، ووساوس الشيطان، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج تحت معنى «الباطل»، وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية شبيهة بالآية (81) من سورة الإسراء، (وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً).

وقد ورد أنّ ابن مسعود قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة وحول البيت ثلاثمائة



1 ـ (يبدىء) من مادّة «بدء» بمعنى الإيجاد الإبتدائي، و (يعيد): من مادّة (عود) بمعنى التكرار، الباطل: فاعل، والمفعول محذوف، والتقدير «ما يبدىء الباطل شيئاً وما يعيد شيئاً».

[490]

وستّون صنماً فجعل يطعنها بعود في يديه ويقول: «جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً ـ جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد»(1).

 

سؤال:

يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول: إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة؟

وللإجابة على هذا السؤال، يجب الإلتفات إلى ما يلي:

أوّلا: إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل ـ والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها ـ يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.

ثانياً: لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده، هناك شرائط اُخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم، والتي أهمّها «القيام بترتيب المقدّمات للإستفادة من تلك الإمكانات الإلهية». وبتعبير آخر، فإنّ إنتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، «فاعلية الفاعل» و «قابلية القابل» وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم إنتصاره.

ولنضرب لذلك مثلا قرآنياً، فالآية الكريمة تقول: (ادعوني أستجب)(2)، ولكن المعلوم لدينا بأنّ إستجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط، فإن تحقّقت شرائط



1 ـ مجمع البيان، مجلّد 8، صفحة 397.

2 ـ المؤمن، 60.

[491]

الدعاء فهو مستجاب قطعاً، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم إنتظار الإستجابة، (شرح هذا المعنى جاء في تفسير الآية 186 ـ من سورة البقرة).

وذلك بالضبط كما لو أنّنا أتينا بطبيب حاذق لمريض ممدّد على فراشه، وعندها نقول له: زادت فرصة النجاة لك، وفي أي وقت أحضرنا له دواء نذكره بأنّنا قد حللنا له مشكلا آخر، في حين أنّ كلّ هذه الاُمور هي من مقتضيات الشفاء وليست (علّة عامّة)، فيجب أن يكون الدواء مؤثّراً في المريض، وأن تراعى توصيات الطبيب، كما أنّه يجب أن لا ننسى الحمية وأثرها، لكي يتحقّق الشفاء العيني والواقعي (تأمّل).

ثمّ يضيف تعالى: لأجل إيضاح أنّ ما يقوله (صلى الله عليه وآله) هو من الله، وأنّ كلّ هداية منه، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي، (قل إن ضللت إنّما أضلّ على نفسي وإن إهتديت فبما يوحي إليّ ربّي)(1).

أي إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحقّ من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد الله، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.

صحيح أنّ العقل هو مصباح مضيء، غير أنّ الإنسان ليس معصوماً، وشعاع هذا المصباح لا يمكنه كشف جميع حجب الظلام، إذاً تعالوا وتعلّقوا بنور الوحي الإلهي هذا حتّى تخرجوا من الظلمات، وتضعوا أقدامكم على أرض النور.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: (إنّه سميع قريب).

فلعلّكم تعتقدون أنّه تعالى لا يسمع ما نقول وما تقولون، أو أنّه يسمع ذلك ولكنّه بعيد، كلاّ، فهو (سميع) و (قريب)، فلا تعزب عنه ذرّة ممّا نقول أن ندعو.

* * *



1 ـ فيما يخصّ لماذا أورد في الجملة الاُولى (على نفسي) وفي الجملة الثّانية (فيما يوحي إليّ ربّي) قال بعض المفسّرين: كلّ واحدة من هاتين الجملتين تحتوي على محذوف مقدّر، والتقدير كاملا «إن ضللت فإنّما أضلّ نفسي وإن إهتديت فإنّما أهتدي لنفسي بما يوحي إليّ ربّي» (تأمّل!!) ـ تفسير روح المعاني ـ تفسير الآية مورد بحثنا.

[492]

 

 

الآيات

 

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَان قَرِيب (51)وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيد(52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَان بَعِيد(53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُّرِيب(54)

 

التّفسير

ليس للكافرين مفرّ:

الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي، كيف تفكّر في الإيمان، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة.

يقول تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت واُخذوا من مكان قريب).

ثمّة آراء بين المفسّرين في: متى يكون ذلك الصراخ والفزع والإضطراب؟ فبعضهم يرى أنّه عذاب الدنيا أو عذاب الموت، وبعضهم يرى أنّه يخصّ عقاب يوم

[493]

القيامة، غير أنّ آخر هذه الآية، يشير إلى أنّ هذه الآيات جميعها تتحدّث عن الدنيا وعذاب الإستئصال، أو لحظة تسليم الروح، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل) وهذا التعبير لا ينسجم مع يوم القيامة. لأنّ الجميع يجمعون في ذلك اليوم للحساب، كما تشير إلى ذلك الآية (102) من سورة هود (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).

وفي الآيتين 49 ـ 50 من سورة الواقعة أيضاً نقرأ (قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم).

وعليه فإنّ المقصود من جملة (اُخذوا من مكان قريب) هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهيّة فحسب، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً.

ألم يدفن الفراعنة في أمواج النيل الذي كان المصدر الأساس لفخرهم، ألم تنخسف الأرض بقارون وكنوزه، و «قوم سبأ» الذين مرّت بنا قصّتهم في هذه السورة ألم يحيق بهم الهلاك أقرب الأمكنة لهم، وهو ذلك السدّ العظيم الذي كان سبب عمران بلادهم وسبب حياتهم وحركتهم؟ لذا فإنّه الله يأخذ بالعذاب من أقرب الأماكن حتّى يُعلم مدى قدرته وسطوته.

فأكثر السلاطين الظلمة قتلوا على أيدي أقرب أفراد حواشيهم، وأغلب المتسلّطين الجبابرة تلقّوا الضربة الأخيرة من داخل قصورهم.

ولو لاحظنا ما ورد في الكثير من الروايات من طرق السنّة والشيعة، لرأينا أنّ لهذه الآية مصداقاً في أحاديث «السفياني» (مجموعة على خطّ أبي سفيان وعصارة عصر الجاهلية يخرجون على أتباع الحقّ في عصر ظهور المهدي (عليه السلام)). حيث أنّ السفياني وجيشه تخسف بهم الصحراء وسط الطريق إلى مكّة، وذلك في الحقيقة واحد من مصاديق الآية (واُخذوا من مكان قريب). حيث أنّهم وقعوا في

[494]

العذاب الإلهي من أقرب النقاط لهم، وهي الأرض التي تحت أقدامهم. وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون عن ابن عبّاس وابن مسعود وأبي هريرة وحذيفة واُمّ سلمة وعائشة، كما يلاحظ في كتب السنّة، وكلّهم ينقلون عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)(1).

وقد أوردت تلك الأحاديث في تفسير هذه الآية في الكثير من كتب التّفسير الشيعية من أمثال تفسير القمّي، ومجمع البيان، ونور الثقلين، والصافي، والكثير من كتب التّفسير السنّية كتفسير روح المعاني، وروح البيان، والقرطبي.

كذلك فإنّ العلاّمة المجلسي ـ أعلى الله مقامه ـ أورد العديد من الروايات عن الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا الخصوص، والتي تشير إلى كونها أحد مصاديق هذه الآيات، بإعتبار أنّ الخسف الذي يحلّ بالسفياني وجيشه هو مصداق للأخذ من مكان قريب(2).

وكما أشرنا مراراً فإنّ الرّوايات التي يوردها المفسّرون للتدليل على معنى الآية، إنّما هي المصاديق الأوضح، وليس معناها تحديد معنى الآية في ذلك.

الآية التي بعدها، تعرض وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة (وقالوا آمنا به)(3) ولكن (أنّى لهم التناوش من مكان بعيد).

نعم فبحلول الموت وعذاب الإستئصال اُغلقت أبواب العودة كليّاً، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين، كأنّه كائن من مكان بعيد، وهو إيمان إضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك، مثل ذلك الإيمان أصلا لا قيمة له، لذا فإنّ الآية



1 ـ تفسير الميزان، المجلّد 16، صفحة 419.

2 ـ بحار الأنوار، مجلّد 52، صفحة 185 فيما بعد.

3 ـ الضمير في كلمة «به» يعود على «الحقّ» على إعتبار أنّه أقرب مرجع له، ونعلم بأنّ الحقّ الآيات السابقة يشير إلى «القرآن ومحتواه والمبدأ والمعاد ورسول الإسلام».

[495]

(28) من سورة الأنعام تعبّر عنهم قائلة: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون).

«التناوش» من مادّة «نوش» ـ على زنة خوف ـ بمعنى التناول، وبعضهم إعتبروا أنّها بمعنى «التناول بسهولة» أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب؟

كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كلّ شيء، أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا، في حين أنّهم قبل هذا كفروا مع أنّهم كانوا يتمتّعون بالإختيار والإرادة: (وقد كفروا به من قبل).

ولم يكتفوا بالكفر فقط، بل إنّهم ألصقوا بالرّسول (صلى الله عليه وآله) وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم، وحكموا أحكاماً خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب ـ والقيامة ـ والنبوّة): (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد).

«القذف» ـ كما قلنا ـ الرمي من بعيد، و «الغيب» هو عالم ما وراء الحسّ، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة، كمن يرمي شيئاً من نقطة بعيدة، فقلّما يصيب الهدف، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضاً. فقد عدّوا الرّسول (صلى الله عليه وآله) (ساحراً) حيناً، وحيناً (مجنوناً) وآخر (كذّاباً)، وحيناً اعتبروا القرآن «نتاجاً فكرياً بشرياً». ومرّة أنكروا الجنّة والنار والقيامة بشكل كلّي، كلّ هذه أنواع «للرجم بالغيب» أو «إصطياد الطيور في ظلام الليل» أو بعبارة اُخرى «القذف من مكان بعيد».

ثمّ يضيف تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل)ففي لحظة مؤلمة، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم، وقصورهم ومقاماتهم، وأمانيهم، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية .. كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعاً

[496]

أخيراً، ثمّ يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش.

جملة (حيل بينهم وبين ما يشتهون)، فُسّرت بتفسيرين:

الأوّل: هو ما عرضناه سابقاً.

الثاني: أنّه حيل بينهم وبين رغبتهم في الإيمان وجبران ما فاتهم .. غير أنّ التّفسير الأوّل ينسجم أكثر مع جملة (ما يشتهون).

فضلا عن أنّ جملة (أنّى لهم التناوش من مكان بعيد) قد تعرّضت إلى قضيّة عدم تمكّنهم من الإيمان عند الموت وعذاب الإستئصال كما ذكرنا، فلا يبدو أنّ هناك داعياً للتكرار.

من الجدير بالذكر أيضاً أنّ كثيراً من مفسّري هذه الآية اعتبروا هذه الآيات ممّا يخصّ الحديث في عقوبات الآخرة وندامة المسيئين في المحشر، ولكن الآية الأخيرة وبالأخصّ جملة (كما فعل بأشياعهم من قبل) لا تنسجم مع هذا المعنى، بل إنّ المقصود هو لحظة الموت ومشاهدة عذاب الفناء.

وما أجمل ما يقول أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما يصوغ بكلماته النورانية وصفاً للحظات فراق الروح لعالم الدنيا، ومفارقة نعمها:

«إجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم!

ثمّ زاد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله، ينظر ببصره ويسمع باُذنه ...

يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشبهاتها!...

فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها

[497]

دونه»!(1).

اللهمّ إجعلنا من الذين ينتبهون قبل فوات الفرص، ويجبرون ما فاتهم.

شِباك الدنيا ومغرياتها مشرعة لنا، والعدوّ شديد المراس، ولولا لطفك، فإنّ أعمالنا تافهة حقيرة ..

اللهمّ! اجعلنا من الذين يشكرون النعم حين حلولها، وأعذنا من الغفلة والغرور، واجعلنا من الذين لا يجزعون حين المصائب والشدائد ..

 

... إنّك عليٌّ سميع

نهاية تفسير سورة سبأ

نهاية المجلّد الثالث عشر

* * *



1 ـ نهج البلاغة، خطبة 109.