![]() |
![]() |
![]() |
إنّ لدينا قرائن كثيرة تبيّن أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) المتعدّد كان له صبغة سياسيّة في كثير من الموارد على أقلّ تقدير. وأحدها ـ كزواجه بزينب ـ كان لكسر سنّة جاهلية، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآية (37) من هذه السورة. وبعضه لتقليل العداوة، أو لجلب محبّة أشخاص أو أقوام متعصّبين عنودين.
من الواضح أنّ شخصاً يتزوّج وهو في سنّ الخامسة والعشرين، حيث كان في عنفوان شبابه، بامرأة أيم لها أربعون سنة، ويكتفي بها حتّى الثالثة والخمسين من عمره، وبهذا يكون قد قضى مرحلة الشباب وبلغ سنّ الكهولة، ثمّ يقدم على الزواج المتعدّد، لابدّ أن يكون له سبب وفلسفة، ولا يمكن أن يفسّر بأيّ وجه من الوجوه بأسباب العلاقة والرغبة الجنسية، لأنّه لم يكن هناك مانع إجتماعي، أو ظروف مالية صعبة، أو أدنى نقص يمنع النّبي (صلى الله عليه وآله) من الزواج المتعدّد في سنّي شبابه، خاصّة وأنّ تعدّد الزوجات كان أمراً طبيعياً بين العرب آنذاك، بل ربّما كانت الزوجة الاُولى تذهب لخطبة الزوجة الثّانية، ولم يكونوا يعترفون بأيّ حدّ في إتّخاذ الزوجات.
والطريف أنّه قد ورد في التواريخ أنّ النّبي لم يتزوّج إلاّ بكراً واحدة، وهي عائشة، وباقي نسائه كنّ أيامى جميعاً ومن الطبيعي أن لا يتمتعنّ بإثارة جنسية
ملحوظة(1).
بل نقرأ في بعض التواريخ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) تزوّج بعدّة زوجات، ولم يجر إلاّ مراسم العقد، ولم يباشرهنّ أبداً، بل إنّه اكتفى في بعض الموارد بخطبة بعض نساء القبائل فقط(2).
وقد كان هؤلاء يفرحون ويسرّون ويفتخرون بأنّ امرأةً من قبيلتهم قد سمّيت بزوجة النّبي (صلى الله عليه وآله) فحصل لهم هذا الفخر، وبذلك فإنّ علاقتهم الإجتماعية بالنّبي كانت تشتدّ وتقوى، ويصبحون أكثر تصميماً على الدفاع عنه.
ومن جانب آخر، فمع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن رجلا عقيماً، إلاّ أنّه لم يكن له من الأولاد إلاّ القليل، في حين أنّ هذا الزواج المتعدّد لو كان بسبب جاذبية هذه النسوة، وإثارتهنّ الجنسية، فينبغي أن يكون له من الأولاد الكثير.
وكذلك ينبغي الإلتفات إلى أنّ بعض هذه النساء ـ كعائشة ـ كانت صغيرة جدّاً عندما أصبحت زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد مرّت سنين حتّى إستطاعت أن تكون زوجة حقيقية له، وهذا يوحي بأنّ الإقتران بمثل هذه البنت الصغيرة كانت له أهداف اُخرى، وكان الهدف الأصلي هو ما أشرنا إليه قبل قليل.
وبالرغم من أنّ أعداء الإسلام أرادوا أن يتّخذوا من تعدّد زواج النّبي (صلى الله عليه وآله)حربة لأشدّ هجماتهم المغرضة، ويحوكون منها أساطير أوهى من خيط العنكبوت للطعن في نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ سنّ النّبي المتقدّمة عند إقدامه على تكرار الزواج من جهة، والظروف الخاصّة المتعلّقة بالنساء من ناحية العمر والقبيلة من جانب آخر، والقرائن المختلفة التي أشرنا إلى قسم منها آنفاً من جهة ثالثة تجعل الحقيقة واضحة كالشمس، وتحبط مؤامرات المغرضين وتفضحها.
* * *
تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَاءَ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً(51)
قلنا في تفسير الآيتين 28 و29 من هذه السورة وبيان سبب النّزول: إنّ جمعاً من نساء النّبي ـ بناءً على ما نقله المفسّرون ـ قلن للنبيّ (صلى الله عليه وآله): زد في نفقتنا واُمور معاشنا ـ طمعاً في الغنائم الحربية، فكنّ يحسبن أنّ قسماً كبيراً منها من نصيبهنّ فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهنّ بصراحة بأنهنّ إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النّبي إلى الأبد، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة.
إضافةً إلى أنّه كانت بينهنّ منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)بينهنّ، وكنّ يحرجن النّبي ويضايقنه مع كلّ المشاكل والمشاغل التي كانت لديه، ومع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يراعي العدالة بينهنّ ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماماً، فقد
كان لغطهنّ وجدالهنّ مستمرّاً، فنزلت هذه الآية وجعلت النّبي (صلى الله عليه وآله) حرّاً في تقسيم أوقاته، ثمّ أعلنت الآية لهنّ أنّ هذا حكم إلهي لئلاّ يتولّد في أنفسهن أي قلق وسوء ظنّ(1).
حلّ مشكلة اُخرى في حياة النّبي:
إنّ قائداً ربّانياً عظيماً كالنّبي (صلى الله عليه وآله) خاصّة وأنّه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرّة، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخلياً وخارجياً، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصّة كثيراً، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرّغ لحلّ سيل المشاكل التي أحاطت به من كلّ جانب.
إنّ اضطراب الحياة الشخصية، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحسّاسة كان أمراً خطيراً للغاية.
ومع أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) المتعدّد ـ وطبقاً للبحوث السابقة، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة ـ كانت له أبعاد سياسية وإجتماعية وعاطفية غالباً، وكان في الحقيقة جزءاً من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه، إلاّ أنّ الإختلاف بين زوجات النّبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهنّ، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الإضطراب داخل بيت النّبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.
هنا منح الله سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاُخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النّبي (صلى الله عليه وآله) من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك
من تشاء).
«ترجي» من (الإرجاء)، أي: التأخير، و «تؤوي»، من (الإيواء) ويعني إستضافة شخص في بيتك.
ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعدّدة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهنّ بصورة عادلة، فإن بات ليلة عند واحدة، فيجب أن يبيت الليلة الاُخرى عند غيرها، إذ لا فرق ولا إختلاف بين النساء من هذه الجهة، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهيّة الإسلامية بـ «حقّ القَسَم».
فكانت إحدى مختّصات النّبي (صلى الله عليه وآله) هي سقوط رعاية حقّ القسم منه بحكم الآية أعلاه، وذلك نتيجة للظروف الخاصّة التي كان يعيشها، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كلّ جانب، وخاصّة أنّ الحرب كانت تُفرض عليه كلّ شهر تقريباً، وكان له في نفس الوقت زوجات متعدّدة، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادراً على أن يقسم أوقاته كيف يشاء، غير أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحاً.
إلاّ أنّ وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النّبي الراحة والإطمئنان، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة.
ثمّ تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثمّ ترغب فيها فلا تثريب عليك: (ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك).
وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنّه بيدك حتّى في الأثناء أيضاً، وهو في الإصطلاح «تخيير إستمراري» لا إبتدائي، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كلّ الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلّق بأزواجك، وتستطيع أن تسخّر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة.
ومن أجل أن تعلم نساء النّبي بأنهنّ إن أذعنّ لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النّبي (صلى الله عليه وآله) فإنّه يعتبر وسام فخر لهنّ يضاف إلى الفخر بكونهنّ أزواج النّبي
(صلى الله عليه وآله)، إذ أنّ هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار، وليس فيه أيّ عيب وإنتقاص، ولذلك يضيف سبحانه: (ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلّهن).
وذلك أوّلا: لأنّ هذا الحكم عامّ يشملهنّ جميعاً ولا يتفاوتن فيه، وثانياً: إنّ الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنّما يشرع لمصلحة مهمّة، وبناءً على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا، فينبغي مضافاً إلى عدم القلق والتأثّر أن يفرحن لذلك.
لكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ وكما أشرنا إلى ذلك ـ كان يراعي تقسيم أوقاته بينهنّ بعدالة قدر المستطاع، إلاّ في الظروف الخاصّة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتّمه، وكان هذا بحدّ ذاته مطلباً آخر يبعث على ارتياحهنّ، لأنّهنّ كنّ يرين أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)يسعى للتسوية بينهنّ مع كونه مخيّراً.
وأخيراً ينهي المطلب بهذه الجملة: (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً) لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.
أجل .. إنّ الله يعلم بأيّ حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا.
وهو سبحانه يعلم إلى مَن أكثر من أزواجكم، ومن منهنّ تحظى بإهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الإختلاف في الميول والرغبات.
وكذلك يعلم سبحانه مَن هم الذين يجلسون جانباً، ويعترضون على أحكام الله في شأن النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويعارضونها بقلوبهم، ويعلم مَن هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبّلها بدون إعتراض.
بناءً على هذا فإنّ تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النّبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه، ويشمل كلّ المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام، أو الذين يعترضون عليها وينكرونها وإن لم يبدوا هذا الإعتراض والإنكار.
* * *
هل كان هذا الحكم في حقّ كلّ نساء النّبي:
لقد كانت هذه المسألة موضع بحث في الفقه الإسلامي في باب خصائص النّبي(صلى الله عليه وآله) بأنّ تقسيم الأوقات بين الزوجات المتعدّدة بالتساوي هل يجب على النّبي(صلى الله عليه وآله) كما يجب على عامّة المسلمين، أم أنّ النّبي كان له حكم التخيير الإستثنائي؟
المعروف والمشهور بين فقهائنا وعند جمع من فقهاء العامّة أنّه (صلى الله عليه وآله) كان مستثنى من هذا الحكم، ويعدّون الآية المذكورة أعلاه دليلا على ذلك، فهي تقول: (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء) لأنّ جعل هذه الجملة بعد البحث حول كلّ نساء النّبي يوجب أن يعود ضمير (هنّ) عليهنّ جميعاً، وهذا مطلب مقبول من جانب الفقهاء وكثير من المفسّرين.
إلاّ أنّ البعض يرى أنّ الضمير أعلاه يتعلّق بالنساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر. في حين أنّه لم يثبت تاريخياً أنّ هذا الحكم قد تحقّق في الخارج، وأنّ له موضوعاً ومصداقاً أم لا. والبعض يرى أنّ النّبي لم يتزوّج على هذه الشاكلة إلاّ امرأة واحدة. وعلى كلّ حال، فإنّ أصل المسألة لم يثبت من الناحية التاريخية هذا أوّلا.
ثانياً: إنّ هذا التّفسير خلاف الظاهر، ولا يتناسب مع سبب النّزول الذي ذكروه لهذه الآية، وبناءً على هذا فيجب قبول الحكم المذكور عاماً.
* * *
لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَج وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء رَّقِيباً(52)
حكم مهمّ آخر فيما يتعلّق بأزواج النّبي:
لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية حكماً آخر من الأحكام المتعلّقة بزوجات النّبي، فقال عزّوجلّ: (لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ إلاّ ما ملكت يمينك) فالآية منعت الرّسول من الزواج الجديد إلاّ الاماء والجواري (وكان الله على كلّ شيء رقيباً).
للمفسّرين وفقهاء الإسلام بحوث كثيرة في هذه الآية، ووردت في المصادر الإسلامية روايات مختلفة في هذا الباب، ونحن نذكر أوّلا ما يبدو من ظاهر الآية أنّه مرتبط بالآيات السابقة واللاحقة ـ بغضّ النظر عن أقوال المفسّرين ـ ثمّ نتناول المطالب الاُخرى.
الظاهر من تعبير (من بعد) أنّ الزواج محرّم عليك بعد هذا، وبناءً على هذا فإنّ
(بعد) إمّا أن تعني (بعد) الزمانية، أي لا تتّخذ زوجة بعد هذا الزمان، أو أنّ المراد أنّك بعد أن خيّرت أزواجك بين البقاء معك والحياة حياة بسيطة في بيتك، وبين فراقهنّ، وقد رجّحن البقاء معك عن رغبة منهنّ، فلا ينبغي أن تتزوّج بعدهنّ بامرأة اُخرى.
وكذلك لا يمكنك أن تطلّق بعضهنّ وتختار مكانهنّ زوجات اُخر. وبتعبير آخر: لا تزد في عددهنّ، ولا تبدّل الموجود منهنّ.
* * *
1 ـ فلسفة هذا الحكم:
إنّ هذا التحديد للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يعتبر نقصاً، بل هو حكم له فلسفة دقيقة جدّاً، فطبقاً للشواهد التي تستفاد من التأريخ، أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان تحت ضغط شديد من قبل مختلف الأفراد والقبائل بأن يتزوّج بنساء اُخر منهم، وكلّ واحدة من القبائل المسلمة كانت تفتخر على قبائل العرب بأنّ النّبي قد صاهرهم وحتّى أنّ بعض النساء كنّ على إستعداد أن يهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر ـ كما مرّ ذلك ـ ويتزوّجنه بدون أيّ قيد أو شرط.
كانت هذه العلاقة الزوجية مع تلك القبائل والأقوام حلاًّ لمشاكل النّبي (صلى الله عليه وآله)ومحقّقة لأهدافه الإجتماعية والسياسية، غير أنّها إذا تجاوزت الحدّ، فمن الطبيعي أن تخلق له المشاكل بنفسها، وبما أنّ كلّ قبيلة كانت تأمل أن يتزوّج النّبي منها، فلو أراد النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يحقّق آمال الجميع، ويختار منهم أزواجاً، حتّى وإن كانت بمجرّد العقد ولا يدخل بها، فإنّ ذلك سيوجد له مصاعب جمّة. ولذلك فإنّ الله الحكيم قد منع هذا الأمر ووقف دونه بإصدار قانون محكم، فنهاه عن الزواج الجديد، وعن تبديل أزواجه.
لقد كان هناك أفراد في هذا الوسط يتوسّلون للوصول إلى هدفهم بحجّة أنّ أغلب أزواجك أيامى، ومن بينهنّ من لاحظ لها من الجمال، فاللائق بك أن تتزوّج بامرأة ذات جمال، ولذلك فإنّ القرآن أكّد على هذه المسألة بأنّه لا يحقّ لك أن تتزوّج النساء فيما بعد وإن أعجبك حسنهنّ وكنّ ذوات جمال.
إضافةً إلى أنّ أداء الجميل ورعايته كان يوجب أن يسنّ الله تعالى مثل هذا القانون، ويأمر به نبيّه لحفظ مقام أزواجه بعد أن أبدين وفاءهن، ورجّحن الحياة البسيطة المعنوية مع النّبي (صلى الله عليه وآله) على أي شيء آخر.
وأمّا فيما يتعلّق بالجواري والمملوكات باليمين حيث اُبيح الزواح منهنّ، فإنّما هو من أجل أنّ مشكلة النّبي كانت من ناحية الحرائر، ولذلك لم تكن هناك ضرورة تدعو إلى تحديد هذا الحكم في طرف الجواري، مع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يستفد من هذا الإستثناء طبق الشواهد التأريخية.
هذا هو الشيء الذي يبدو من ظاهر الآية.
2 ـ الروايات المخالفة:
إعتبرت جملة: (لا يحلّ لك النساء من بعد) في روايات عديدة ـ بعضها ضعيفة من ناحية السند، وبعضها يستحقّ الملاحظة ـ إشارةً إلى النساء اللواتي بُيّن تحريمهم في الآيتين (23 و24) من سورة النساء ـ وهنّ الاُمّ والبنت والاُخت والعمّة والخالة و.. ، وصرّح في ذيل بعض هذه الأخبار بأنّه: كيف يمكن أن تكون النساء حلال على الآخرين وحرام على النّبي؟ فلم تكن أيّة امرأة محرّمة عليه سوى ما حرّم على الجميع(1).
طبعاً، يبدو بعيداً جدّاً أن تكون الآية تشير إلى الآيات الواردة في سورة
النساء، إلاّ أنّ المشكلة هنا أنّ بعض الروايات قد صرّحت بأنّ المراد من (من بعد): بعد المحرّمات في آية سورة النساء.
بناءً على هذا، فإنّ الأفضل هو أن نغضّ النظر عن تفسير روايات الآحاد هذه، أو كما يقال: ندع علم ذلك إلى أهله، أي المعصومون (عليهم السلام)، لأنّها لا تنسجم مع ظاهر الآية، ونحن مكلّفون بظاهر الآية، والأخبار المذكورة أخبار ظنيّة.
والمطلب الآخر هو أنّ جماعة كثيرة تعتقد بأنّ الآية مورد البحث قد حرّمت كلّ زواج جديد على النّبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ هذا الحكم قد نسخ فيما بعد، واُذن له بالزواج، وإن كان النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يتزوّج بعد ذلك. حتّى الآية (إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت اُجورهنّ ..) والتي نزلت قبل الآية مورد البحث، فإنّهم يعتبرونها ناسخة لهذه الآية. ويعتقدون بأنّ هذه الآية وإن كانت قد كتبت في القرآن بعد آية (إنّا أحللنا ..) إلاّ أنّ الأخيرة قد نزلت قبلها! بل وينقل «الفاضل المقداد» في كنز العرفان بأنّ هذه هي الفتوى المشهورة بين الأصحاب(1).
وهذا الرأي يتعارض مع الروايات أعلاه بوضوح، وكذلك لا ينسجم مع ظاهر الآيات أيضاً، لأنّ ظاهر الآيات يوحي بأنّ آية (إنّا أحللنا لك أزواجك) قد نزلت قبل الآية مورد البحث، ومسألة النسخ تحتاج إلى دليل قطعي.
وعلى كلّ حال، فليس لدينا شيء أكثر إطمئناناً ووضوحاً من ظاهر الآية نفسها، وطبقاً لذلك فإنّ كلّ زواج جديد، أو تبديل زوجات قد حُرّم على النّبي (صلى الله عليه وآله)بعد نزول هذه الآية، وكان لهذا الحكم مصالح ومنافع هامّة أشرنا إليها فيما سبق.
3 ـ هل يمكن النظر إلى زوجة المستقبل قبل الزواج؟
اعتبر جمع من المفسّرين جملة (ولو أعجبك حسنهنّ) دليلا على حكم معروف اُشير إليه في الروايات الإسلامية أيضاً، وهو: أنّ من أراد من أن يتزوّج
بامرأة يستطيع النظر إليها من قبل نظرة تبيّن له هيكلها وأوصافها.
وحكمة هذا الحكم أن يختار الإنسان زوجته عن بصيرة تامّة ولا يندم ويأسف في المستقبل وهو ما يهدّد العلاقة الزوجية والكيان العائلي بالخطر، كما ورد ذلك في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأحد أصحابه حينما أراد أن يتزوّج: «انظر إليها، فإنّه أجدر أن يدوم بينكما»(1).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال في جواب هذا السؤال: هل يستطيع الرجل أن يدقّق النظر إلى المرأة إذا أراد الزواج منها وينظر إلى وجهها وخلفها: «نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها، ينظر إلى وجهها وخلفها»(2).
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة، وقد صرّح بعضها بأنّ هذه النظرة يجب أن لا تكون بدافع الشهوة وطلب اللذّة.
وواضح أيضاً أنّ هذا الحكم خاصّ بالموارد التي يريد فيها الإنسان أن يتحقّق فعلا من المرأة التي يريد الزواج منها، بحيث لو كانت الشروط مجتمعة فيها لتزوّجها، أمّا الذي لم يصمّم على الزواج بعد، بل يحتمله، أو أنّه يريد مجرّد البحث، فلا يجوز له النظر إلى النساء.
واحتمل البعض في هذه الآية أنّها إشارة إلى النظر للنساء صدفة ولا إرادياً، وعلى هذا فإنّ الآية لا تدلّ في هذه الحالة على الحكم المذكور آنفاً، وستكون الروايات هي الدليل الوحيد عليه. إلاّ أنّ جملة: (ولو أعجبك حسنهنّ) لا تنسجم مع نظرة الصدفة السريعة، وبناءً على هذا فإنّ دلالتها على الحكم المذكور تبدو بعيدة.
* * *
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَام غَيْرَ نَـظِرِينَ إِنَيـهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيث إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْى مِنكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْى مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنَّ مَتَعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً(53) إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شِىْء عَلِيماً(54)
ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لمّا تزوّج «زينب بنت جحش» أولم للناس وليمة فخمة تقريباً. وقلنا سابقاً: إنّ هذه الأحكام ربّما كانت من أجل تحطيم سنّة جاهلية في مجال تحريم مطلّقات الأدعياء بحزم تامّ، وليكون لهذا التحطيم شعاع أوسع، ولتمحى هذه السنّة الجاهلية التي كانت تعتبر
الزواج بأيامى العبيد المحرّرين عيباً وعاراً.
يقول «أنس»، وكان خادماً خاصّاً للنبي: أمرني النّبي أن أدعو أصحابه للغداء فدعوتهم، فكانوا يأتون جماعة يأكلون ويخرجون، حتّى قلت: يارسول الله، لم يبق أحد لم أدعه، فأمر برفع السماط، فرفعوا السماط وتفرّق القوم، إلاّ ثلاثة نفر بقوا في بيت النّبي وكانوا مشغولين بالحديث.
فلمّا رأى النّبي (صلى الله عليه وآله) حديثهم قد طال، نهض ونهضت معه لعلّ القوم يلتفتون ويذهبون إلى أعمالهم، فخرج النّبي حتّى أتى حجرة عائشة، ثمّ رجع مرّة اُخرى وكنت معه، فرأيت القوم على جلستهم وحالهم، فنزلت الآية أعلاه وأفهمتهم كيفية التعامل مع هذه المسائل(1).
ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ الجيران وسائر الناس كانوا يأتون إلى بعض نساء النّبي ويستعيرون أشياء حسب المتعارف والمعتاد، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا يرتكبون معصية وذنباً طبقاً لبساطة الحياة آنذاك، إلاّ أنّ الآية أعلاه نزلت لحفظ حيثيّة زوجات النّبي وأمرت المؤمنين أنّهم إن أرادوا أن يأخذوا من نساء النّبي شيئاً فليأخذوه من وراء حجاب.
وجاء في رواية اُخرى أنّ بعض مخالفي النّبي قالوا: كيف تزوّج النّبي بعض نسائنا، أما والله لئن مات لنتزوجنّ نساءه، فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النّبي من بعده مطلقاً، وأنهت هذه المؤامرة(2).
* * *
مرّة اُخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين، لتبيّن الآية جانباً آخر من أحكام
الإسلام ضمن جمل قصيرة بليغة وصريحة، وخاصّة ما كان مرتبطاً بآداب معاشرة النّبي (صلى الله عليه وآله) وبيت النبوّة، فتقول أوّلا: لا ينبغي لكم دخول بيوت النّبي إلاّ إذا دعيتم إلى طعام واُذِن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرّر، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في إنتظار وقت الغذاء (ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه)(1).
بهذا تبيّن الآية أحد آداب المعاشرة المهمّة، والتي كانت قلّما تراعى في تلك البيئة، ومع أنّ الكلام يدور حول بيت النّبي إلاّ أنّ من المسلّم أنّ هذا الحكم لا يختصّ به، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه (كما جاء ذلك في الآية 27 من سورة النور) بل نقرأ في أحوال النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه عندما كان يريد دخول بيت إبنته فاطمة (سلام الله عليها)، كان يقف خارجاً ويستأذن. وكان معه «جابر بن عبدالله» يوماً، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه(2).
إضافةً إلى أنّهم إذا دُعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت، لئلاّ يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.
ثمّ تناولت الحكم الثّاني فقالت: (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا).
وهذا الحكم مكمّل ومؤكّد للحكم السابق في الواقع، فلا تدخلوا البيت الذي دعيتم إليه في غير زمان الدعوة، وفي وقت غير مناسب، ولا تهملوا إجابة الدعوة أو أن لا تعبؤوا بها، ولا تتأخّروا بعد تناول الطعام مدّة طويلة.
من البديهي أنّ مخالفة هذه الاُمور وعدم اتّباعها سيؤدّي إلى أذىً وإشمئزاز المضيف، وهي لا تلائم الاُصول الأخلاقية.
وتقول في الحكم الثالث: (ولا مستأنسين لحديث) فلا تجلسوا حلقاً تتحدّثون
بعد تناول الطعام، سواء كان ذلك في بيت النّبي، أم في بيت أي صاحب دعوة.
طبعاً، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس، فهذه الحالة مستثناة، إنّما الكلام في ما لو كانت الدعوة لتناول الطعام فقط، لا لتشكيل مجالس الاُنس، حيث تجب مغادرته بعد تناول الطعام، خاصّة إذا كان البيت كبيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مقرّ أداء أكبر رسالات الله وأعظمها، فيجب أن لا يهدر وقته باُمور جانبية تعوقه مدّة عن تأدية رسالته.
ثمّ تبيّن الآية علّة هذا الحكم فتقول: (إنّ ذلكم كان يؤذي النّبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ).
من المسلّم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يتردّد لحظة، ولا يخشى شيئاً، أو يستحيي من شيء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ، إلاّ أنّ بيان الحقّ إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن، ومورد الآية من هذا القبيل أيضاً، فإنّ اُصول الأخلاق والأدب كانت توجب على النّبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يدافع عن نفسه، بل يدافع الله سبحانه عنه.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب، فتقول: (وإذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب).
قلنا: إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفاً بين العرب وكثير من الناس أنّهم إذا احتاجوا شيئاً من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم يستعيرونها من جيرانهم مؤقتاً، ولم يكن بيت النّبي مستثنى من هذا القانون، بل كانوا يأتون إليه سواء كان الوقت مناسباً أم غير مناسب، ويستعيرون من نساء النّبي شيئاً، ومن الواضح أن جعل نساء النّبي عرضة لأنظار الناس ـ وإن كن يرتدين الحجاب الإسلامي ـ لم يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى الناس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.
والمسألة التي ينبغي الإنتباه إليها هنا هي أنّه ليس المراد من الحجاب في هذه الآية لباس النساء، بل هو حكم يضاف إلى ما كان خاصّاً بنساء النّبي، وهو: أنّ الناس مكلّفون إذا أرادوا شيئاً من نساء النّبي أن يأخذوه من وراء حجاب لظروف نساء النّبي الخاصّة، ويجب عليهنّ أن لا يخرجن إلى الناس ويظهرن لهم في مثل هذه الموارد حتّى وإن كن محجّبات، وهذا الحكم لم يرد طبعاً في شأن النساء الاُخريات، بل يكفيهنّ أن يراعين الحجاب الإسلامي.
والشاهد على ذلك أنّ كلمة «الحجاب»، وإن كانت تستعمل في المحادثات اليومية بمعنى حجاب المرأة، إلاّ أنّها ليس لها مثل هذا المعنى لا في كتب اللغة، ولا في تعبيرات فقهائنا.
«الحجاب» في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين(1)، ولذلك اُطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم «الحجاب الحاجز».
وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدّة مواضع، كالآية (45) من سورة الإسراء حيث تقول: (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً).
ونقرأ في الآية (32) من سورة ص: (حتّى توارت بالحجاب).
وجاء في الآية (51) من سورة الشورى: (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب).
أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة «الستر» فيما يتعلّق بلباس النساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا، وورد أيضاً في الرّوايات الإسلامية هذا التعبير أو ما يشبهه، وإستعمال كلمة «الحجاب» في شأن لباس المرأة إصطلاح ظهر في عصرنا على الأكثر، وإذا وجد في التواريخ والرّوايات فقليل جدّاً.
والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن «أنس بن مالك» خادم النّبي الخاص، حيث يقول: أنا أعلم الناس بهذه الآية ـ آية الحجاب ـ لمّا اُهديت زينب إلى رّسول اللّه كانت معه في البيت ـ صنع طعاماً، ودعا القوم فقعدوا يتحدّثون، فجعل النّبي يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدّثون، فأنزل الله: (ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي) ـ إلى قوله ـ (من وراء حجاب) فضرب الحجاب وقام القوم(1).
وفي رواية اُخرى عن «أنس» أنّه قال: أرخى الستر بيني وبينه، فلمّا رأى القوم ذلك تفرّقوا(2).
بناءً على هذا فإنّ الإسلام لم يأمر النساء المسلمات بأن يجلسن خلف الستور، ولا يبرحن دورهن، وليس لكلمة «المستورات» أو «المحجّبات» وأمثال ذلك من التعبيرات صفة إسلامية أو بعد إسلامي بالنسبة للنساء، بل إنّ ما يلزم المرأة المسلمة هو محافظتها على الحجاب الإسلامي، إلاّ أنّ نساء النّبي قد أمرن بهذا الأمر الخاص بسبب وجود أعداء كثيرين، ومتتبعين للعيوب والمغرضين، وكان من الممكن أن يصبحن عرضة للتهم، وحربة تقع بيد الإنتهازيين.
وبتعبير آخر: إنّ الناس قد اُموروا أن يسألوا نساء النّبي ما يبتغونه من وراء حجاب. خاصّة وأنّ التعبير بـ «وراء» يشهد لهذا المعنى.
ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ).
وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا ينافي الحكم الإستحبابي، إلاّ أنّ ظهور الأمر في جملة (فاسألوهنّ) لا يتزلزل في دلالته على الوجوب، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحياناً في موارد أحكام واجبة اُخرى.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)فبالرغم
من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية، وهو الذهاب إلى بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)في وقت غير مناسب، والجلوس بعد تناول الطعام، فقد ورد في روايات سبب النّزول أنّ بعض المنافقين كانوا قد أقسموا على أن يتزوّجوا نساء النّبي من بعده، وقد آلم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولكن معنى الآية عام على كلّ حال، فهو يشمل كلّ نوع من الأذى.
وأخيراً تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النّبي من بعده، فقالت: (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم كان عند الله عظيماً).
وهنا يأتي سؤال، وهو: كيف حرّم الله نساء النّبي من اتّخاذ زوج لهنّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقد كان بعضهنّ شابات تقريباً؟
وجواب هذا السؤال يتّضح بملاحظة الغاية من هذا التحريم، وذلك لأنّه:
أوّلا: كما علمنا من سبب النّزول، فإنّ البعض صمّم على هذا العمل كإنتقام من النّبي (صلى الله عليه وآله) وإهانة لقدسيته، وكانوا يريدون أن ينزلوا ضربة بكيانه (صلى الله عليه وآله) عن هذا الطريق.
![]() |
![]() |
![]() |