قلنا تكراراً بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضاً إلى الخشية، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمناً بأنّ العلماء الحقيقيين هم اُولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم، وبتعبير آخر: أهل عمل لا كلام، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)حيث يقول: «وما العلم بالله والعمل إلاّ إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(2).

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(3).

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا اُولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم، أو الذين سكنوا المدارس


1 ـ روضة الكافي، طبقاً لنقل نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 359.
2 ـ مجمع البيان، تفسير الآيات مورد البحث.
3 ـ

[ 77 ]

والجامعات والمكاتب، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى، والذين هم أشدّ الناس إرتباطاً بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضاً أنّه حينما اغترّ «قارون» وإستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم، قام يعرض ثروته أمام الناس، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم: إنّ ثواب الله خيرٌ وأبقى لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يفوز بذلك إلاّ الصابرون المستقيمون: (وقال الذين اُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلاّ الصابرون).(1)

وفي ختام الآية يقول تعالى، كدليل موجز على ما مرّ: (إنّ الله عزيز غفور).

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء، و (غفرانه)، سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإنّ هذين الإسمين المقدّسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الإتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافيء.

 

* * *


1 ـ القصص ـ 80.

[ 78 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـبَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـرَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

 

التّفسير

التجارة المربحة مع الله:

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضاً، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة، ويطوي سبيل تكامله، يقول تعالى أوّلا: (إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور)(1).

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح، الذي يربط الإنسان بالله من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه


1 ـ يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

[ 79 ]

بخلق الله من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان، من علمه، من ماله وثروته ونفوذه، من فكره الخلاّق، من أخلاقه وتجاربه، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً)، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر الله ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الإلتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّاً هم الذين يتّصفون بالصفات التالية:

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيراً ومن حيث الأهداف، فإنّ اُفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة، ويتأمّلون ربحاً من تجارتهم الوافرة .. الربح مع الله وحده، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبداً.

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عُبّر بالبوار عن الهلاك، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: «ألك مال» قال: نعم. قال: «فقدّمه» قال: لا أستطيع. قال: «فإنّ قلب الرجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(1).

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه، لأنّ الآية تقول إنّ الذين


1 ـ مجمع البيان، ج4، ص407.

[ 80 ]

يقيمون الصلاة، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول: انّهم يعملون الخيرات والصالحات (ليوفّيهم اُجورهم ويزيدهم من فضله إنّه غفور شكور)(1).

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم، لأنّهم لا ينظرون إلاّ إلى الأجر الإلهي، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «اُجور» في الحقيقة لطف من الله، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجراً!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضاً هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله (ويزيدهم من فضله) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادةً على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل، فإنّه يزيدهم من فضله، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في قوله: (ويزيدهم من فضله): هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفاً في الدنيا(2).

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة، بل إنّهم يكونون سبباً في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.


1 ـ جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».
2 ـ مجمع البيان، ج4، ص407.

[ 81 ]

وقال بعض المفسّرين بأنّ جملة: (ويزيدهم من فضله) إشارة إلى مقام «الشهود» الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكّنهم الله من النظر إلى جماله وجلاله والإلتذاذ من ذلك بأعظم اللذّات. ولكن يظهر أنّ الجملة المذكورة لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب اُخرى غير معروفة أيضاً.

جملة (إنّه غفور شكور) تدلّل على أنّ أوّل لطف الله معهم، هو «العفو» عن ذنوبهم وزلاّتهم التي تبدر منهم أحياناً، لأنّ أشدّ قلق المؤمن يكون من هذا الجانب.

وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة، فانّه تعالى يشملهم بـ «الشكر» أي انّه يشكر لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب.

نقل تفسير «مجمع البيان» مثلا تضربه العرب وهو «أشكر من بروقة» وتزعم العرب أنّها ـ أي بروقة ـ شجرة عارية من الورق، تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر(1). وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر، ففي قبال أقل الخدمات، يُقدّم أعظم الثواب. بديهي أنّ خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها وأرحم.

* * *

 

تعليقة

شروط تلك التجارة العجيبة:

الملفت للنظر أنّ كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة تشبّه هذا العالم بالمتجر الذي تُجّاره الناس، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وبضاعته العمل الصالح،


1 ـ مجمع البيان، ج 4، ص 407.

[ 82 ]

والقيمة أو الأجر: الجنّة والرحمة والرضا منه تعالى(1).

ولو تأمّلنا بشكل جيّد فسوف نرى أنّ هذه التجارة العجيبة مع الله الكريم ليس لها نظير، لأنّها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أيّة تجارة اُخرى:

1 ـ إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله، ثمّ كان له مشترياً!.

2 ـ إنّ الله تعالى مشتر في حال أنّه غير محتاج ـ إلى شيء تماماً ـ فلديه خزائن كلّ شيء.

3 ـ إنّه تعالى يشتري «المتاع القليل» بالسعر «الباهض» «يامن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير»، «يامن يعطي الكثير بالقليل».

4 ـ هو تعالى يشتري حتّى البضاعة التافهة (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره).

5 ـ أحياناً يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر «البقرة ـ 261».

6 ـ علاوة على دفع الثمن العظيم فإنّه أيضاً يضيف إليه من فضله ورحمته (ويزيدهم من فضله) (الآية موضوع البحث).

ويا له من أسف أنّ الإنسان العاقل الحرّ، يغلق عينيه عن تجارة كهذه، ويشرع بغيرها، وأسوأ من ذلك أن يبيع بضاعته مقابل لا شيء.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول: «ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها، إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها»(2).

 

* * *


1 ـ سورة الصف: آية 1 والتوبة ـ آية 111 والبقرة 207 والنساء ـ 74.
2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، جملة 456، صفحة 556.

[ 83 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

 

التّفسير

الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء:

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة.

تقول الآية الكريمة: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ).

مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى، لأنّنا

[ 84 ]

كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر إنسجاماً مع الواقع.

فليس فيه تناقض، أو كذب أو خرافة، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات، وقوانينه تتساوق مع إحتياجات البشر، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.

هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم، تمّت الإستفادة هنا من كلمة «الحقّ»، في حال أنّه في آيات اُخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ «النور» و «البرهان» و «الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى»، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات.

يقول الراغب في (مفرداته): أصل الحقّ المطابقة والموافقة، والحقّ يقال على أوجه:

الأوّل: يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله: (فذلكم الله ربّكم الحقّ).(1)

الثّاني: يقال للشيء الذي وُجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال فِعلُ الله تعالى كلّه حقّ، قال تعالى: (ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ)،(2) أي الشمس والقمر وغير ذلك.

الثّالث: في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لمّا اختلفوا فيه من الحقّ).(3)

والرّابع: يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقاً لما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت المقرّر، كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ(4).


1 ـ يونس، 32.
2 ـ يونس ـ 5.
3 ـ البقرة ـ 213.
4 ـ مفردات الراغب ـ مادّة حقّ. «مع تلخيص وإختصار».

[ 85 ]

وبناءً عليه، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ.

جملة (مصدّقاً لما بين يديه) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حامله (صلى الله عليه وآله وسلم).

جملة (إنّ الله بعباده لخبير بصير) توضّح علّة حقّانية القرآن وإنسجامه مع الواقع والحاجات البشرية، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم.

لكن ما هو الفرق بين «الخبير» و «البصير»؟

قال البعض: «الخبير» العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبُعد الروحي في الإنسان، و«البصير» العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

وقال آخرون: «الخبير» إشارة إلى أصل خلق الإنسان، و«البصير» إشارة إلى أعماله وأفعاله.

وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعداً.

الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم، اُولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور، وهم يحفظونه ويحرسونه، فتقول: (ثمّ أورثنا للكتاب الذين اصطفينا من عباده).

واضح أنّ المقصود من «الكتاب» هنا، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو

[ 86 ]

«القرآن الكريم» والألف واللام فيه «للعهد». والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية، وأنّ اللام هنا «للجنس» يبدو بعيد الإحتمال، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة.

التعبير بـ «الإرث» هنا وفي موارد اُخرى مشابهة في القرآن الكريم، لأجل أنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد.

لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير عبارة (الذين اصطفينا) بالأئمّة المعصومين (عليهم السلام)(1).

هذه الروايات ـ كما ذكرنا مراراً ـ ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاُولى. ولكن لا مانع من إعتبار العلماء والمفكّرين في الاُمّة، والصلحاء والشهداء، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه، تحت عنوان (الذين اصطفينا من عبادنا).

ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص، فتقول: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير).

ظاهر الآية هو أنّ هذه المجاميع الثلاثة هي من بين (الذين اصطفينا) أي: ورثة وحملة الكتاب السماوي.

وبتعبير أوضح، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي، بعد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الاُمّة، الاُمّة التي إصطفاها الله سبحانه، غير أنّ في تلك الاُمّة مجاميع مختلفة: بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم مصداق (ظالم لنفسه).

ومجموعة اُخرى، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير، وإن


1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 361.

[ 87 ]

كان عملها لا يخلو من بعض الزلاّت والتقصيرات أيضاً، وهؤلاء مصداق «مقتصد».

وأخيراً مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق، والذين أشارت إليهم الآية بقولها: (سابق بالخيرات بإذن الله).

وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة «الظالمة» ينافي أنّ هؤلاء جميعاً مشمولون بقوله «اصطفينا»؟

وفي الجواب نقول: إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (53) من سورة المؤمن: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب)، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لم يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم.

أو نظير ما ورد في الآية (110) من سورة آل عمران: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس).

أو ما ورد في الآية (16) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضاً (وفضّلناهم على العالمين).

وكذلك في الآية (26) من سورة الحديد نقرأ: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون).

وخلاصة القول: إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للاُمّة بأجمعها فرداً فرداً، بل إلى مجموع الاُمّة، وإن احتوت على طبقات، ومجموعات مختلفة(1).


1 ـ أمّا ما احتمله البعض من أنّ التقسيم الوارد في الآية يعود على «عبادنا» وليس على «الذين اصطفينا»، بحيث أنّ هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب، بل ضمن مفهوم «عبادنا» و «الذين اصطفينا» فقط المجموعة الثالثة أي «السابقين بالخيرات»، فيبدو بعيداً، لأنّ الظاهر هو أنّ هذه المجموعات ممّن ذكرتهم الآية، ونعلم أنّ الحديث في الآية لم يكن عن كلّ العباد، بل عن (الذين اصطفينا)، ناهيك عن إضافة «نا» إلى «عباد» وهو نوع من التمجيد والمدح، ممّا يجعل ذلك غير منسجم مع التّفسير المذكور.

[ 88 ]

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في تفسير «سابق بالخيرات» بالمعصوم (عليه السلام)، و «ظالم لنفسه» بمن لا يعرف الإمام، و «المقتصد» العارف بالإمام(1).

هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما إخترناه لتفسير الآية، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي.

ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية، وهم الأئمّة المعصومون، إذ هم الصفّ الأوّل، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اُخرى.

كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد، هو أيضاً من قبيل بيان المصاديق، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف.

ومن الجدير بالذكر أنّ جمعاً من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الإحتمالات في تفسير هذه المجاميع، والتي هي في الحقيقة جميعاً من قبيل بيان المصاديق(2).


1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 361، كذلك الكافي، المجلّد 1، باب من إصطفاه الله من عباده.
2 ـ ذهب بعض بأنّ السابق بالخيرات هم أعوان الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقتصد طبقة التابعين، والظالم لنفسه أفراداً آخرون.
والبعض الآخر فسّروا «سابق بالخيرات» بالذين يفضّل باطنهم على ظاهرهم و «المقتصد» بالذين يتساوى ظاهرهم وباطنهم، و «الظالم لنفسه» بالذين يفضّل ظاهرهم على باطنهم.
والبعض الآخر قالوا إنّ «السابقين» هم الصحابة، و «المقتصدين» هم تابعيهم، و «الظالمين» هم المنافقون.
وقال آخرون بأنّ الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة ـ الآيات 7 إلى 11. (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون).
وفي حديث أنّ «السابق بالخيرات» هم الأئمّة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمّد عليهم الصلاة والسلام، والمقتصد المتديّنون المجاهدون، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحاً وآخر غير صالح.
وكلّ هذه التّفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق، وكلّها قابلة للتعقّل، عدا التّفسير الأوّل الذي لا يحتوي على مفهوم صحيح.

[ 89 ]

وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اُولى، ثمّ المقتصد، ثمّ السابقين بالخيرات، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟

بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال: إنّ الهدف هو بيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة، وبعدها مقام التوبة والإنابة، وأخيراً التوجّه والإقتراب من الله سبحانه وتعالى، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو «ظالم لنفسه»، وحين يلج مقام التوبة فهو «مقتصد»، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام «السابقين بالخيرات»(1).

وقال آخر: بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار، فالظالمون يشكّلون الأكثرية، والمقتصدون في المرتبة التالية، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة.

الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (ما مؤدّاه): «قُدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله، وأخّر السابقون بالخيرات لكي  لا يأخذهم الغرور بعملهم»(2).

ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصوداً.

وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة (ذلك هو الفضل الكبير)؟

قال البعض، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله، لكن يبدو أنّ


1 ـ مجمع البيان، تفسير الآية مورد البحث.
2 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلّد 9 تفسير الآيات مورد البحث.

[ 90 ]

المعنى الأوّل أنسب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية.

* * *

 

ملاحظة

من هم حرّاس الكتاب الإلهي؟

على ما ذكر القرآن الكريم فإنّ الله سبحانه وتعالى يشمل الاُمّة الإسلامية بمواهب عظيمة، من أهمّها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو «القرآن».

وقد اُصطفيت الاُمّة الإسلامية من باقي الاُمم، وتلك نعمة اُعطيت لها، ومسؤولية ثقيلة اُسندت إليها بنفس النسبة التي فضّلت بها وأصبحت بسببها مشمولة باللطف الإلهي، وستكون هذه الاُمّة في صف «السابقين بالخيرات» ما أدّت حقّ حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الاُمم في الخيرات، في تطوير العلوم، في التقوى والزهد، في العبادة وخدمة البشرية، في الجهاد والإجتهاد، في التنظيم والإدارة، في الفداء والإيثار والتضحية، فتتقدّم وتسبق في كلّ هذه الاُمور، وإلاّ فإنّها لا تكون قد أدّت حقّ حفظ ذلك الميراث العظيم. خاصّة إذا علمنا أنّ تعبير «السابقين بالخيرات» مفهوم واسع إلى درجة أنّه يشمل التقدّم في جميع الاُمور ذات المنحى الإيجابي من اُمور الحياة.

نعم، فحملة مثل هذا الميراث هم ـ فقط ـ اُولئك الذين يتّصفون بتلك الصفات، بحيث أنّهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها، فسيكونون مصداقاً لـ «ظالم لنفسه»، إذ أنّ محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى نجاتهم وتوفيقهم وإنتصارهم، فإنّ من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي كتبها له الطبيب، فإنّه يساعد على إستمرار الألم والعذاب لنفسه. وإنّ من يحطّم مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم، إنّما يسوق نفسه إلى التيه والضياع، لأنّ الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع.

[ 91 ]

وعلى المذنبين أيضاً أن لا ينسوا حقيقة أنّهم كانوا مشمولين بمضمون الآية الكريمة في زمرة (الذين إصطفينا) وإنّ لهم ذلك الإستعداد بالقوّة، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة «الظالم لنفسه» وينتقلوا إلى مرحلة «المقتصد» وليرتقوا من هناك حتّى ينالوا فخر «السابقين بالخيرات»، حيث أنّهم من جهة الفطرة والبناء الروحي من الذين إصطفاهم الحقّ.

 

* * *

[ 92 ]

 

 

 

 

 

 

الآيات

 

جَنَّـتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

 

التّفسير

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن:

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية، يقول تعالى: (جنّات عدن يدخلونها)(1).

«جنّات» جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.


1 ـ «جنّات عدن»: يمكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره «جزائهم» أو «اُولئك لهم جنّات عدن»، نظير الآية (31 ـ سورة الكهف) بعضهم أيضاً قال: إنّها (بدل) عن «الفضل الكبير»، ولكن باعتبار أنّ «الفضل الكبير» إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي، فلا يمكن أن تكون «جنّات» بدلا عنها، إلاّ إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب.

[ 93 ]

و «عدن» بمعنى الإستقرار والثبات، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والإستقرار».

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم.

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات، فتقول الآية: (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير).