![]() |
![]() |
![]() |
ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة، يتّضح الجواب على هذا السؤال، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك
العمل، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع، فمن المسلّم أنّه يُحسب من عمله ويكون شريكاً ومساهماً في ذلك العمل.
وأخيراً، في الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: (إنّما تنذر الذين يخشون ربّهم بالغيب وأقاموا الصلاة).
فإن لم يكن خوف الله متمكّناً من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس ... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.
وحين لا يكون الإنسان قد إعتنق عقيدة ما ولم يؤمن، فلو لم تكن لديه روح البحث عن الحقّ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة، فلن يصغي لدعوة الأنبياء، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا.
وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اُخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف: (ومن تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه).
وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهميّة ما دام المصير إلى الله (وإلى الله المصير) وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم.
* * *
وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلاَ الظُّلُمَـتُ وَلاَ النُّورُ(20) وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِى الاَْحْيَاءُ وَلاَ الاَْمْوَتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِى الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
تذكر الآيات مورد البحث ـ بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة ـ أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.
في المثال الأوّل: شبّه «الكافر والمؤمن» بـ «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة: (وما يستوي الأعمى والبصير).
الإيمان نور وإشراق، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم، وفي الإعتقاد، والعمل وفي كلّ الحياة، أمّا الكفر فظلمة كالحة، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم، ولا عمل صالح.
تشير الآية (257) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضاً لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية: (ولا الظلمات ولا النور).
لأنّ الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.
ثمّ تضيف الآية (ولا الظلّ ولا الحرور) فالمؤمن يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان، أمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.
يقول «الراغب» في مفرداته: الحرور: (على وزن قبول) الريح الحارّة. وإعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».
ويقول «الزمخشري» في الكشّاف: «السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، وقيل بالليل خاصّة»(1)، على أيّة حال، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الإرتياح في روح وجسم الإنسان.
ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات). المؤمنون حيويون، سعاة متحرّكون، لهم رشد ونمو، لهم فروع وأوراق وورود وثمر، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها، ولا تصلح إلاّ حطباً للنار.
في الآية (122) من سورة الأنعام نقرأ: (أو من كان ميّتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
وفي ختام الآية يضيف تعالى: (إنّ الله يُسمع من يشاء) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء (وما أنت بمسمع من في القبور).
فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريباً من القلب، ومهما كان بيانك معبّراً، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أنّ ليس لديه الإستعداد لقبول دعوتك.
وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم، ولا تجزع، فليس عليك من وظيفة إلاّ الإبلاغ والإنذار (إن أنت إلاّ نذير).
* * *
نعلم أنّ القرآن لا يعير إهتماماً للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين ]الإيمان والكفر[، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».
ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور»، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(1).
فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة
مع عقيدة قلبية وحركة، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعاً لكلّ الفعّاليات البنّاءة.
أمّا الكفر، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.
كذلك نعلم أيضاً بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال إستمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارةً و «بالحياة والموت» تارةً اُخرى، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم)، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.
ولا نبتعد كثيراً، فعندما نجالس (مؤمناً) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده، أفكاره تنير لمن حوله، وحديثه مليء بالإشراق، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.
أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة، لا يفكّر إلاّ بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية، غارق في الشهوات، لا يدفع روح وقلب جليسه إلاّ إلى أمواج الظلمات.
وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.
من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه، يطرح هنا سؤالان:
الأوّل: كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطباً الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وما أنت بمسمع من في القبور)؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبّث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا: ما نراه ينطلق إلاّ لبعض حاجته، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يافلان بن فلان ويافلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً؟ قال: فقال عمر: يارسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(1).
أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.
فكيف يمكن التوفيق بين هذه الاُمور والآيات مورد البحث أعلاه.
يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي: إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والإعتيادي، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.
وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع إرتباطه مع عالم الدنيا، إلاّ في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الإرتباط، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادةً الإتّصال بالموتى في الظروف العادية.
السؤال الآخر: هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّة (عليهم السلام) والتوسّل بهم، وزيارة قبورهم، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟
وقد إستندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية، دون الإهتمام بمحتواها العميق، أو الإلتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.
الجواب على هذا السؤال أيضاً يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل، من أنّ التعامل مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتّلون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون، وهم مصداق لقوله: (أحياءٌ عند ربّهم يرزقون)، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بإرتباطهم بهذا العالم، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ .
إستناداً إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريباً أو بعيداً، بل إنّ أعمال الاُمّة تعرض عليهم(1).
الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهّد الأخير للصلوات اليومية، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟
كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ الله»(2).
كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الإرتباط مع أرواح الموتى، فعندما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعاً من صفّين أشرف
على القبور بظاهر الكوفة: «ياأهل الديار الموحشة ... إلى أن قال: أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(1).
لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه، تعبيرات متفاوتة تماماً مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد.. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).
ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.
وأخيراً، فإنّ جملة (ما يستوي) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير، ولا أثر لها في التشبيهات الاُخرى.
بعض المفسّرين علّلوا هذه الإختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالإهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.
وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلاّ. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.
كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.
وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاُخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.
وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحاً خاصّة، ممّا يجعل ذلك مؤثّراً وجميلا وجذّاباً، في حال أنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلاّ في موارد إستثنائية ـ وبناءً على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائماً إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.
وعليه، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اُخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.
* * *
إِنَّآ أَرْسَلْنَـكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّة إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكَتَـبِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفراداً كالأموات والُعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيراً.
أوّلا تقول الآية الكريمة: (إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير). فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها، أوصل نداءك إلى مسامعهم، بشّرهم بثواب الله، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.
الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطباً الرّسول الأكرم (إن أنت إلاّ نذير)، ولكنّه في الآية الاُولى من هذه الآيات يقول: (إنّا
أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً) إشارة إلى أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.
وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار»، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.
«خلا»: من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما، والخُلُوُّ يستعمل في الزمان والمكان، ولأنّ الزمان في مرور، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها، وقد خلت الدنيا منها.
وعليه فإنّ جملة (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير) بمعنى أنّ كلّ اُمّة من الاُمم السالفة كان لها نذير.
والجدير بالملاحظة، طبقاً للآية أعلاه، أنّ كلّ الاُمم كان فيها نذير إلهي، أي كان فيها نبي، مع أنّ البعض تلقّى ذلك بمعنى أوسع، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضاً، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.
على كلّ حال، فليس معنى هذا الكلام أن يُبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة، إذ أنّ القرآن يقول: (خلا فيها نذير) ولم يقل «خلا منها نذير».
وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الاُمم، مع الآية (44) من سورة سبأ والتي تقول: (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.
ويضيف تعالى في الآية التالية: (وإن يكذّبوك) فلا عجب من ذلك، ولا تحزن بسبب ذلك، لأنّه (فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبيّنات وبالزبر
وبالكتاب المنير).
فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضاً، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.
أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة، أوضحها تفسيران:
1 ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن إستحكام مطالبها(1). وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسى (عليه السلام). في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسى (عليه السلام) والكتب السماوية الاُخرى التي نزلت بعده، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات 44 و46 إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور) وفي نفس السورة ـ الآية 15 عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضاً).
2 ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود)، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الإجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.
تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول: (ثمّ أخذت الذين كفروا)(2) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي، وإن
استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.
فبعض عاقبناهم بالطوفان، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.
أخيراً لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول: (فكيف كان نكير) ذلك تماماً مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين: كيف كان عملي؟ على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة، من كلّ اُمّة وفي أي عصر وزمان، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم إستنكار المخالفين، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائماً معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضاً.
ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.
* * *
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَت مُّخْتَلِفاً أَلْوَنُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالاَْنْعَـمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
مرّة اُخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.
لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.
فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي
تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.
أوّلا تقول الآية الكريمة: (ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها).
شروع هذه الجملة بالإستفهام التقريري، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر، إشارةً إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر، نعم، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.
«ألوان»: قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من 50 نوعاً، والتمر أكثر من سبعين نوعاً.
والملفت للنظر هو إستخدام صيغة الغائب في الحديث عنه عزّوجلّ، ثمّ الإنتقال إلى صيغة المتكلّم، وهذا النوع من التعابير، غير منحصر في هذه الآية فقط، بل يلاحظ في مواضع اُخرى من القرآن المجيد أيضاً، وكأنّ الجملة الاُولى تعطي للمخاطب إدراكاً ومعرفة جديدة، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباري عزّوجلّ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرةً.
ثمّ تُشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاُخرى. فتقول: (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود)(1).
هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّاً من جهة، ومن جهة
اُخرى، يكون سبباً لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالإلتواءات والإنحدارات، وأخيراً فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.
«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.
«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.
«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضاً جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(1).
وإحتمل أيضاً أن يكون التّفسير: ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضاً وحمراً وسوداً مختلفاً ألوانها خطّت على سطح الأرض، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة، فانّها تُرى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(2).
على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة اُخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.
وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاُخرى، فيقول تعالى: (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه).
أجل، فالبشر مع كونهم جميعاً لأب واُمّ واحدين، إلاّ أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماماً، فالبعض أبيض البشرة كالوفر، والبعض الآخر أسود كالحبر، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضاً، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معاً، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء، إذا دقّقنا
النظر نجدهما ليسا من لون واحد، مع أنّهما من نفس الأبوين، وتمّ إنعقاد نطفتيهما في وقت واحد، وتغذّيا من غذاء واحد.
ناهيك عن التفاوت والإختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم وإستعداداتهم وذوقهم، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ إحتياجاته الخاصّة.
في عالم الكائنات الحيّة أيضاً يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات، الطيور، الزواحف، الحيوانات البحرية، الوحوش الصحراوية، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.
حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلاّب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلاّ جزءً من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.
وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعاً: نعم إنّ الأمر كذلك (كذلك)(1).
ولأنّ إمكانية الإنتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء).
نعم فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه»، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.
الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها».
![]() |
![]() |
![]() |