![]() |
![]() |
![]() |
وهنا يطرح سؤال هو: هل أنّ هناك من يحمل تلك الفاكهة، والأشربة ويقدّمها لأهل الجنّة، أم أنّها تأتيهم من دون أن يحملها أحد إليهم؟
كلا الإحتمالين واردان.
والتأكيد على «الفاكهة» و «الشراب» لعلّه إشارة إلى أنّ الفاكهة هي أكثر غذاء أهل الجنّة رغم وجود أنواع اُخرى من الغذاء ذكر في بعض آيات القرأن المجيد، كما هو الحال في عالم الدنيا إذ أنّ الفاكهة تشكّل أفضل وأسلم غذاء للإنسان.
صفة (كثيرة) تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الفاكهة، وأنواع متعدّدة أيضاً من الشراب الطاهر الذي يتوفّر في الجنّة، وذلك ما أشارت إليه أيضاً آيات مختلفة في القرآن المجيد.
بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنّة، إذ تقول: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب).
«الطرف» جفن العين، وأحياناً يأتي بمعنى النظر، ووصف آخر نساء الجنّة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى إقتصار نظرهنّ على أزواجهنّ فقط، وحبّهن وعشقهنّ لهم وعدم تفكيرهم بسواهم، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.
وقال مفسّرون آخرون: إنّها تعني التغطية بالخمار الذي يضفي على العين جمالا.
ولا يوجد مانع يحول بين جمع المعنيين.
كلمة (أتراب) تعني (الأقران)، وهو وصف لنساء الجنّة، فاقتران عمر الزوج والزوجة ـ أي تساويهما ـ يضاعف من المحبّة بين الزوجين، أو أنّه صفة لنساء أهل الجنّة، وإنّهنّ جميعاً شابات وفي عمر واحد(1).
الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها الباريء عزّوجلّ على أهل الجنّة، والتي وردت في الآيات السابقة، قال تعالى: (هذا ما توعدون ليوم الحساب).
وعدٌ لا يُخلَف، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد، نعم إنّه وعد من الله العظيم.
وللتأكيد على خلود هذه النعم، جاء في قوله تعالى: (إنّ هذا لرزقنا ما له من نفاد)(1).
أي أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا، وأنّها تزداد دائماً من خزائن الله المملوءة وغير المحدودة، ولا يظهر عليها أي نقص، لأنّ الله أراد ذلك.
* * *
هَـذَا وَإِنَّ للطَّـغِينَ لَشَرَّ مئَاب (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56) هَـذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَجٌ(58) هَـذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَبَاً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَبَاً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ (61)
الآيات السابقة إستعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها الباريء عزّوجلّ على عباده المتّقين، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم اُسلوب المقارنة الذي كثيراً ما إستخدمه القرآن الكريم، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين، قال تعالى: (هذا وإنّ للطاغين لشرّ مآب)(1).
فالمتّقون لهم (حسن مآب)، ولهؤلاء العاصين الطغاة (شرّ مآب).
ثمّ تعمد آيات القرآن المجيد إلى الإستفادة من اُسلوب الإيجاز والتفصيل، إذ تقول: (جهنّم يصلونها فبئس المهاد)(1). أي إنّ جهنّم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه، وإنّهم سيحترقون بنيرانها، فيا لها من فراش سيء.
والظاهر أنّ عبارة (يصلونها) (أي يدخلون في جهنّم ويحترقون بنيرانها) يراد منها بيان أن لا يتصوّر أحدهم أنّه سيرى جهنّم من مسافة بعيدة، أو أنّه سيستقرّ بالقرب منها، كلاّ، بل إنّه سيرد إلى داخلها، ولا يتصوّر أحدهم أنّه سيعتاد على نار جهنّم ومن ثم يستأنس بها، كلاّ، فإنّه يحترق فيها على الدوام.
«مهاد» كما قلنا من قبل، تعني الفراش المهيّأ للنوم والإستراحة، كما تطلق على سرير الطفل.
وبالطبع فإنّ الفراش هو مكان إستراحة، ويجب أن يكون مناسباً ـ في كلّ الأحوال ـ لوضع الشخص وملائماً لرغبته، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنّم فراشاً؟!
ثمّ تتطرّق الآيات إلى أنواع اُخرى من العذاب الإلهي، إذ تقول: (هذا فليذوقوه حميم وغسّاق)(2). أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.
«الحميم» هو الماء الحارّ الشديد الحرارة، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنّم، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصّص لأهل الجنّة.
وكلمة (غسّاق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل. أمّا ابن عبّاس فقد فسّرها بأنّها شراب بارد جدّاً (بحيث إنّ برودته تحرق وتجرح أحشاء
الإنسان) ولكن ليس هناك في مفهوم هذه الكلمة ما يدلّ على هذا المعنى، غير مقارنتها بالحميم وهو الماء الحارّ الشديد الحرارة، وهذه المقارنة قد تكون منشأ هذا الإستنباط.
وقال الراغب في مفرداته: إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنّم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.
ولابدّ أن يكون لونه الغامق هو السبب في إطلاق هذه الكلمة عليه، لأنّ الذي يحترق في نار جهنّم لا يبقى منه سوى هيكل محروق وقيح أسود اللون.
على أيّة حال، فإنّ ما يستشفّ من بعض الكلمات هو أنّ (غسّاق) تعني الرائحة الكريهة النتنة التي تزعج الآخرين.
وفسّره البعض الآخر بأنّه أحد أنواع العذاب الذي لم يطلع عليه أحد سوى الله، وذلك لأنّهم إرتكبوا ذنوباً ومظالم شديدة لم يطلع عليها أحد سوى الله، فلذلك جعل عقوبتهم سريّة وغير معروفة، مثلما وعد الباريء عزّوجلّ المتّقين بنعم لم يكشف عنها وأخفاها عنهم، لإخفائهم أعمالا صالحة كانوا يقومون بها في الحياة الدنيا، وذلك ما ورد في الآية (17) من سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين).
آيات بحثنا تشير مرّة اُخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم (وآخر من شكله أزواج)(1). أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.
«أزواج» تعني الأنواع والأقسام، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اُخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.
وفي الحقيقة فإنّ هذه تقابل عبارة (فاكهة كثيرة) الواردة في الآيات السابقة،
التي تشير إلى أنواع مختلفة من النعم وفواكه الجنّة. ويمكن أن يكون هذا التشابه في الشدّة والألم، أو من جميع الجهات.
وآخر عذاب لهم أنّ جلساءهم في جهنّم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلاّ بالقبيح من الكلام، فعندما يرد رؤساء الضلال النار، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو جهنّم يخاطب بعضهم البعض ويقول له: (هذا فوج مقتحم معكم)(1).
فيجيبونهم (لا مرحباً بهم).
ثمّ يضيفون (إنّهم صالوا النار).
وعبارة (هذا فوج مقتحم معكم) مقترنة بالآيات التالية، وتنقل أحاديث أئمّة الضلال، إذ يخاطب بعضهم البعض فور ما يرون أتباعهم يساقون إلى جهنّم، بالقول: اُولئك سيحشرون معكم.
بعض المفسّرين قال: إنّه خطاب توجّهه الملائكة إلى أئمّة الكفر والضلال.
إلاّ أنّ المعنى الأوّل يعدّ أكثر تناسباً.
«مرحباً» كلمة ترحيب للضيف، وضدها «لا مرحباً» ومصدر هذه الكلمة «رحب» ـ على وزن محو ـ بمعنى المكان الواسع، والمراد هو: اُدخل فالمكان وسيع ومناسب.
«مقتحم» من (إقتحام) وتعني الدخول في شيء بمشقّة وبصعوبة وخوف، وغالباً ما تعطي معنى الدخول في شيء من دون أي إطلاع وعلم مسبق.
وتوضّح هذه العبارة أنّ متّبعي سبيل الضلال يردون نار جهنّم الرهيبة نتيجة تركهم البحث والتفكير، واتّباعهم لأهوائهم، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم الأوّلين.
وعلى أيّة حال، فإنّ الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام أئمّة الضلال، ويلتفتون إليهم قائلين: (قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدّمتموه لنا
فبئس القرار).
الجملة الأخيرة (بئس القرار) تقابل (جنّات عدن) الواردة بحقّ المتّقين، وهي إشارة إلى المصاب العظيم الذي حلّ بهم، وهو أنّ جهنّم ليست بمكان مؤقت لهم، وإنّما هي مقرّ دائم. وأراد الأتباع من جوابهم القول: بأنّ من حسن الحظّ أنّكم (أي أئمّة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل قلوبنا (وكأنّهم شامتون بأئمّتهم) أو هي إشارة إلى أنّ جريمتكم بحقّنا جريمة عظيمة، لأنّ جهنّم ستكون مقرّاً دائماً لنا وليست مكاناً مؤقتاً.
لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام، لأنّ أئمّة الضلال هم الذين كانوا السبب المباشر لإرتكابهم الذنوب، ولذا فإنّهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة الحقيقيين، وهنا يلتفتون إلى الباريء عزّوجلّ قائلين: (قالوا ربّنا من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار).
العذاب الأوّل لأنّهم أضلّوا أنفسهم، والثاني لأنّهم أضلّونا.
ما ورد في هذه الآية مشابه لما ورد في الآية (38) من سورة الأعراف التي تقول: (ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) رغم أنّ تتمّة هذه الآية أي الآية (38) من سورة الأعراف تقول: إنّ لكليهما عذاباً مضاعفاً (لأنّ الأتباع هم الأداة التنفيذية لأئمّة الضلال، وهم الذين هيّأوا الأرضية لنشر الفساد والضلال).
على أيّة حال، لا يوجد شكّ في أنّ عذاب أئمّة الضلال أكبر بكثير من عذاب الآخرين، رغم أنّ للجميع عذاباً مضاعفاً.
نعم، هذه هي نهاية كلّ من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في طرق الضلال والإنحراف، فانّهم عندما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم بعضاً ويتخاصمون فيما بينهم.
والملفت للنظر هنا أنّ الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها الباريء عزّوجلّ
على المتّقين كانت أكثر تنوّعاً من الآيات التي إستعرضت عذاب الطغاة المتجبّرين. ]إذ أشارت آيات القسم الأوّل إلى سبع نعم، بينما أشارت آيات القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة الله لغضبه[ «يامن سبقت رحمته غضبه».
* * *
وَقَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاَْشْرَارِ (62)أَتَّخَذْنَـهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الاَْبْصَـرُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
آيات بحثنا تواصل إستعراض الجدال الدائر بين أهل جهنّم، الذي كان بعضه قد ورد في الآيات السابقة، وتتحدّث عن مجادلات اُخرى فيما بينهم ينكشف من خلالها أسفهم العميق وتألّمهم الشديد وحسرتهم.
تقول اُولى تلك الآيات: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم من الأشرار).
نعم، فعندما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال، أمثال أبي جهل وأبي لهب، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال، في نار جهنّم يرجعون إلى ذاتهم متسائلين، ويستفسرون من الآخرين: أين اُولئك الأشخاص؟ إذ كنّا نعتبرهم مجموعة من الفوضويين والأشرار والمفسدين في الأرض، يسعون إلى الإخلال بأمن وهدوء المجتمع والقضاء على مفاخر الأوّلين، يبدو أنّ إتّهامنا
إيّاهم كان باطلا.
وتضيف الآيات نقلا عن أهل جهنّم: (إتّخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار).
نعم، إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، ونصفهم بالأشرار، وأحياناً نصفهم بأوصاف أدنى من ذلك، ونعتبرهم اُناساً حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا، فهؤلاء كانوا من المقربين لله ومكانهم الآن في الجنّة.
مجموعة من المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، إذ قالوا: إنّ مسألة سخريتهم إشارة إلى أحوالهم في عالم الدنيا، وجملة (أم زاغت عنهم الأبصار)إشارة إلى أحوالهم في جهنّم، وتعني هنا أنّ أبصارنا في هذا المكان وبين هذه النيران والدخان لا يمكنها رؤيتهم. ولكن المعنى الأوّل أصحّ.
ومن الضروري الإلتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ إضافة إلى الإستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.
ثمّ تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنّم، وتؤكّد على ما مضى بالقول: (إنّ ذلك لحقّ تخاصم أهل النار)(1).
فأهل جهنّم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم، وفي كلّ يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.
وفي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنّم، فأصدقاء الأمس أعداء اليوم، والتابعون في الأمس صاروا معارضين اليوم، ويبقى ـ فقط ـ خطّ التوحيد والإيمان، خطّ
الوحدة والصفاء في هذا العالم وذاك.
الجدير بالذكر أنّ أهل الجنّة متكئون على الأسرّة، ويتحدّثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبّة والصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، وهذا عذاب أليم!
* * *
ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأبي بصير «ياأبا محمّد، لقد ذكركم الله إذ حكى عن عدوّكم في النار بقوله: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم من الأشرار. اتّخذناهم سخريّاً أم زاغت عنهم الأبصار). والله ما عنى ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس، وأنتم والله في الجنّة تحبرون وفي النار تطلبون»(1).
* * *
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـه إِلاَّ اللهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّـرُ (66) قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ(67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْم بِالْمَلإ الاَْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ(70)
البحوث السابقة التي تناولت موضوع العقاب الأليم الذي سينال أهل جهنّم، والاُخرى التي إستعرضت العذاب والعقاب الدنيوي الذي نزل بالاُمم الظالمة البائدة، كلّها كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين.
أمّا آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث، إذ جاء في اُولى آياتها (قل إنّما أنا منذر).
صحيح أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مبشّر أيضاً، وأنّ القرآن الكريم يحوي كلا الأمرين، أي الإنذار والبشرى، ولكن بما أنّ البشرى تخصّ المؤمنين فإنّ الإنذار يخصّ المشركين والمفسدين، والحديث هنا يخصّ المجموعة الأخيرة، وإعتمد فيه على
الإنذار.
ثمّ يضيف (وما من إله إلاّ الله الواحد القهّار).
كلمة (القهّار) وردت في هذه العبارة، كي لا يغترّ أحد بلطف الله، ويظنّ أنّه يعيش في مأمن من قهر الله، ولكي لا يغرق في مستنقع الكفر وإرتكاب الذنب.
وتطرح دلائل توحيد الخالق جلّ وعلا في الاُلوهيّة والعبوديّة بشكل مباشر، وتضيف (ربّ السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفّار).
في الواقع هناك ثلاث صفات من صفات الباريء عزّوجلّ ذكرت في هذه الآية، وكلّ واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الاُولى «ربوبيته» لعالم الوجود، ومالكيته لكلّ هذا العالم، المالك المدبّر لشؤون عالم الوجود، فهو الوحيد الذي يستحقّ العبادة والأصنام لا تملك من اُمورها شيئاً ولو بمقدار ذرّة.
والصفة الثانية (عزّته) وكما هو معروف فإنّ كلمة (العزيز) تطلق في اللغة على من لا يغلب، وعلى من بإمكانه فعل ما يشاء، وبعبارة اُخرى: هو الغالب الذي لا يمكن لأحد التغلّب عليه.
فمن يمتلك مثل هذه القدرة كيف يمكن الفرار من قبضة قدرته؟! وكيف يمكن النجاة من عذابه؟!
الصفة الثالثة هي (غفّار) وكثير الرحمة، بحيث أنّ أبواب رحمته مفتوحة أمام المذنبين، كي لا يتصوّروا أنّ كلمتي (القهّار والعزيز) تعطيان مفهوم غلق أبواب الرحمة والتوبة أمام عباده. إذ أنّ إحداهما جاءت لبيان (الخوف) والثانية لبيان (الرجاء)، وإنعدام حالة التوازن بين الحالتين السابقتين (أي الخوف والرجاء) يؤدّي إلى عدم تكامل الإنسان، وإبتلائه بالغرور والغفلة والغرق في دوّامة اليأس وفقدان الأمل.
وبعبارة اُخرى فإنّ وصف الباري عزّوجلّ بـ (العزيز) و (الغفّار) دليل آخر على توحّده تعالى في الاُلوهية، لأنّه الوحيد الذي يستحقّ العبادة والطاعة،
وإضافة إلى ربوبيته فإنّه يمتلك القدرة على المعاقبة، وإضافةً إلى إمتلاكه للقدرة على المعاقبة، فإنّ أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.
ثمّ يخاطب الباريء عزّوجلّ نبيّه الأكرم في عبارة قصيرة وقويّة (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون).
فما هو هذا النبأ الذي أشارت إليه الآية ووصفته بأنّه عظيم؟
هل هو القرآن المجيد؟
أم أنّه رسالة النبيّ؟
أم هو يوم القيامة ومصير المؤمنين والكافرين؟
أم هو توحيد الله؟
أم كلّ هذه الاُمور؟
ولكون القرآن مشتملا على كلّ تلك الاُمور، وهو الجامع بينها، وأنّ المشركين أعرضوا عنه، لذا فإنّ المعنى الأوّل أنسب.
نعم، فهذا الكتاب السماوي العظيم هو نبأ عظيم، وعظمته كعظمة الكون، وهو نازل من قبل خالق هذا الكون، أي من الله الخالق العزيز الغفّار والواحد القهّار.
النبأ الذي لم يتقبّل عظمته الكثير من الناس حين نزوله، فمجموعة سخرت منه وإستهزأت به، واُخرى إعتبرته سحراً، ومجموعة ثالثة إعتبرته شعراً، ولكن لم يمض بعض الوقت حتّى كشف هذا النبأ العظيم عن أسراره، ليغيّر مسيرة التأريخ البشري، ويظلّ العالم بظلّه، وليوجد حضارة عظيمة ومضيئة في كلّ المجالات، وممّا يسترعي الإنتباه أنّ الإعلان عن «النبأ العظيم» تمّ في هذه السورة المكيّة في وقت كان فيه المسلمون ـ على ما يبدو ـ في أشدّ حالات الضعف والعجز، وكأنّ أبواب النصر والنجاة مغلقة أمامهم.
وممّا ينبغي ذكره أنّ عظمة هذا النبأ العظيم ليست واضحة حتّى يومنا هذا للعالم بصورة عامّة، وللمسلمين بصورة خاصّة، والمستقبل سيوضّح تلك العظمة.
وقوله تعالى: (أنتم عنه معرضون) ما زال صادقاً حتّى يومنا الحاضر، فإعراض المسلمين عنه تسبّب في عدم ارتوائهم من هذا المنبع العذب الذي يطفح بالفيض الإلهي الكامل، وإلى عدم التقدّم على الآخرين بالإستفادة من أنواره المشعّة، وإلى عدم الرقي إلى قمم الفخر والشرف.
ثمّ تقول الآية، مقدّمةً لسرد قصّة خلق آدم، والمكانة الرفيعة التي يحتّلها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون).
أي لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان، حيث أنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي، والشيء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين (إن يوحى إليّ إلاّ أنّما أنا نذير مبين).
ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل الباريء عزّوجلّ، ولكنّ ذلك المقدار من الكلام الذي قالوه عندما أخبرهم الباريّ عزّوجلّ بأنّه سيجعل في الأرض خليفة، فقالوا: أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم قائلا: إنّي أعلم ما لا تعلمون: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون)،(1) مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية، وقد كانت هذه مقدّمة للآيات التالية التي تتحدّث عن خلق آدم.
وثمّة إحتمال وارد أيضاً هو أنّ عبارة (الملأ الأعلى) لها مفهوم أوسع يشمل حتّى الشيطان، لأنّ الشيطان كان حينئذ في زمرة الملائكة، ونتيجة تخاصمه مع الباريء عزّوجلّ وإعتراضه على إرادة الله طرد إلى الأبد من رحمة الله.
وقد وردت روايات متعدّدة في كتب الشيعة والسنّة بهذا الخصوص; جاء في إحداها أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل أحد أصحابه: «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟
فقال: كلاّ، فأجاب رسول الله «اختصموا في الكفّارات والدرجات، فأمّا الكفّارات فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وإنتظار الصلاة بعد الصلاة، وأمّا الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة في الليل والناس نيام»(1).
وبالطبع فإنّ هذا الحديث لم يذكر أنّه ناظر إلى تفسير الآية المذكورة أعلاه، رغم تشابه بعض عباراته مع عبارات الآية، وعلى أيّة حال، يستفاد من الحديث أنّ المراد من (اختصموا) هو أنّهم تباحثوا وتناقشوا، ولا يعني الجدال في الحديث .. فهم تباحثوا وتناقشوا بشأن أعمال الإنسان والأعمال التي تكون كفّارة لذنوبهم وتزيد من درجات الإنسان وترفع من شأنه، ويمكن أن يكون بحثهم حول عدد من الأعمال التي تعدّ مصدراً لتلك الفضائل، أو بشأن تعيين حدّ وميزان للدرجات الناتجة عن تطبيق الإنسان لتلك الأعمال، وبهذا الشكل يكون الحديث تفسيراً ثالثاً للآية، وهو مناسب من عدّة جوانب، ولكنّه لا يتناسب مع الآيات التالية، إذ ربّما كان المقصود هو بحث ومناقشات الملائكة في موارد اُخرى، وليس ذلك المتعلّق بالآية.
والجدير بالذكر أنّ معنى عدم علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنّي لم أكن أعلم ذلك من نفسي، لأنّ علمي ليس من قبل نفسي وإنّما ينزل عليّ عن طريق الوحي.
* * *
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى خَـلِقُ بَشَراً مِّن طِين (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَـجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـفِرِينَ (74) قَالَ يَـإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُـخْلَصِينَ(83)
هذه الآيات ـ كما قلنا ـ توضيح لإختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث
حول مسألة خلق آدم (عليه السلام)، وبصورة عامّة فإنّ الهدف من توضيح هاتين المسألتين:
أوّلا: تذكير الإنسان بقيمة وجوده، وسجود كلّ الملائكة لجدّه آدم، فكيف بالإنسان الذي كرّمه الباريء عزّوجلّ كلّ هذا التكريم يقع أسيراً في حبائل الشيطان وهوى النفس؟ وكيف ينسى قيمة وجوده، أو يسجد لأصنام صنعها من الحجر والخشب؟!
من المعروف أنّ أحد الأساليب المؤثّرة في التربية، هو إعطاء شخصية للأفراد الذين يتلقّون التربية. وبعبارة أصحّ: تذكيرهم بشخصيتهم الرفيعة وقيمة وجودهم، فإن تذكّروا هذا الأمر، أحسّوا بأنّ الذلّة والحقارة لا تليقان بهم، فيتجنبوهما تلقائياً.
ثانياً: إنّ عناد الشيطان وغروره وتكبّره وحسده تسبّبت في سقوطه من مقامه الشامخ الرفيع إلى الحضيض، وغرقه بوحل اللعنة وإلى الأبد، ويمكن أن يكون هذا المثال عبرة لكلّ لجوج ومغرور ليعتبر ويترك ممارسات الشيطان.
ثالثاً: تعريف بني آدم بعدوّهم الكبير الذي أقسم الشيطان على إغوائهم، كي يكونوا جميعاً على حذر منه ويجتنبوا السقوط في حبائل أسره.
كلّ هذه الاُمور، هي تكملة للأبحاث السابقة، وعلى أيّة حال فإنّ الآية الاُولى تذكر بإخبار الله عزّوجلّ ملائكته بأنّه سيخلق بشراً من الطين: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين).
ولكي لا يتصوّر البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب أضافت الآية التالية: (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).
وبهذا الشكل إنتهت عملية خلق الإنسان، وذلك بعد إمتزاج روح الباريء عزّوجلّ الطاهرة مع التراب. فخُلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل، ولم توضع لرقيّه وإنحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده الباريء عزّوجلّ بإستعدادات
خارقة تجعله لائقاً لخلافة الله، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور إكتمال عملية خلقه (فسجد الملائكة كلّهم أجمعون).
إلاّ أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرّده وطغيانه، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين: (إلاّ إبليس إستكبر وكان من الكافرين).
نعم، فالتكبّر والغرور من أقبح الاُمور التي يبتلى بها الإنسان، إذ أنّهما يسدلان الستار على عينه وبصيرته، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها، ويؤدّيان به إلى التمرّد والعصيان، ويخرجانه أيضاً من صفوف المؤمنين المطيعين لله إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدّمته.
وهنا إستجوب الباريء عزّوجلّ إبليس: (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) من البديهي أنّ عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقيّة المحسوسة، لأنّ الباريء عزّوجلّ منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم، وإنّما «اليد» هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل، وكثيراً ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية، إذ يقال: إنّ البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية، أو إنّ المسجد الفلاني بني على يد الشخص الفلاني، وأحياناً يقال: إنّ يدي قصيرة، أو إنّ يدك مملوءة، اليد في كلّ تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم، بل كناية عن القدرة والسلطة والتمكّن.
![]() |
![]() |
![]() |