![]() |
![]() |
![]() |
والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم، إذ قطع عليه الطريق المؤدّي إليهم منذ اليوم الأوّل، وإعترف هو بعجزه هذا.
كذلك فإنّ فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين، إضافة إلى وجود المتّبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأوّلين، والثقافة الخاطئة والطاغوتية، لا تؤثّر أبداً على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.
حقيقة الأمر، أنّ هذه الآية هي خطاب إطمئنان لمؤمني مكّة المقاومين والصامدين في ذلك الوقت، وإنّها دعوة لمسلمي عالم اليوم المليء بالفتن، تدعوهم إلى الإنفصال عن صفوف أعداء الله والإنضمام إلى عباد الله المخلصين.
* * *
وَلَقَدْ نَادَيـنَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الُْمجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخرِِينَ (78) سَلَـمٌ عَلَى نُوح فِى الْعَـلَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(82)
من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اُولي العزم من الرسل.
بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)(1).
هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح (وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً).(1)
أو إشارة إلى الدعاء الذي دعا به الله أثناء صعوده السفينة (ربّ أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين).(2)
أو أنّه إشارة إلى الدعاء الذي جاء في الآية 10 من سورة القمر: (فدعا ربّه انّي مغلوب فانتصر).
وبالطبع فإنّه ليس هناك أي مانع من أن تكون الآية تشير إلى كلّ هذه الأدعية، وإنّ الله سبحانه وتعالى إستجابها بأحسن وجه.
ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول: (ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم)(3).
فما هو هذا الغمّ الذي وصفته الآية المباركة بأنّه غمّ كبير آلم نوحاً بشدّة؟
يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة إستهزاء قومه الكافرين المغرورين به، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه، إذ كانوا يقولون له أحياناً: (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا).(4)
وأحياناً اُخرى يقولون له: (يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).(5)
أو يسخرون منه (ويضع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه).(1)
وقد وصل إزعاجهم لنبي الله نوح ـ المعروف بصبره الكبير ـ وإساءتهم الأدب إتّجاهه وإتّهامه بالجنون إلى درجة لا تطاق، بحيث دعا نوح ربّه بالقول: (ربّ انصرني بما كذّبون).(2)
وعلى أيّة حال، فإنّ مجموع هذه الحوادث السيّئة وأذاهم له كان يحزّ في قلبه الطاهر بشدّة حتّى لحظة وقوع الطوفان، إذ أنقذه الله سبحانه وتعالى من قبضة قومه الطغاة، وأزال عنه الكرب العظيم والغمّ الشديد.
واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من (الكرب العظيم) هو الطوفان الذي لم ينج منه سوى نوح وأتباعه المؤمنين، ولكن هذا المعنى مستبعد.
ويضيف القرآن الكريم (وجعلنا ذرّيته هم الباقين).
أحقّاً أنّ كلّ بني الإنسان الذين يعيشون اليوم على ظهر الكرة الأرضية هم من ذريّة نوح؟ الآية المذكورة أعلاه تصرّح بذلك ..
أم المقصود هو أنّ مجموعة كبيرة من الأنبياء والأولياء والصالحين هم من ذريته، وليس كلّ الناس؟ بهذا الشأن لدينا بحث، سنتطرّق إليه بعون الله.
وإضافةً إلى ذلك يقول القرآن: أنّنا جعلنا لنوح ثناءً وذكراً جميلا في الأجيال والاُمم اللاحقة: (وتركنا عليه في الآخرين).
فقد وصفه القرآن المجيد بالنّبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء. وتاريخه اُسطورة للمقاومة والثبات، كما يمكن أن يستلهم سالكو طريق الحقّ من برامجه عبراً ودروساً تمكّنهم من إجتياز العراقيل التي يضعها الأعداء والجهلة أمامهم.
فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام، منحه الله سبحانه وتعالى وساماً خالداً
يفتخر به في العالمين (سلام على نوح في العالمين).
نعم، فهل هناك فخر أكبر من هذا، وهو أنّ الله يبعث بالسلام والتحيّات لنبيّه نوح، السلام الذي سيبقى يُهدى إليه من قبل الاُمم الإنسانية لحين قيام الساعة، والملفت للنظر أنّه من النادر أن يوجد في القرآن سلام بهذه السعة على أحد، خاصّة وأنّ المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعاً محلّى بالألف واللام (مفيداً للعموم) فيتّسع المعنى ليشمل عوالم البشر واُممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة ويتعدّاهم إلى عوالم الملائكة والملكوتين.
ولكي تكون خصوصيات نوح (عليه السلام) مصدر إشعاع للآخرين، أضاف القرآن الكريم (إنّا كذلك نجزي المحسنين). و (إنّه من عبادنا المؤمنين).
في الحقيقة، إنّ درجة عبودية نوح لله وإيمانه به ـ إضافةً إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان ـ كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحاً وأنقذه من الغمّ الكبير، وبعث إليه بالسلام، السلام الذي يمكن أن يشمل كلّ من عمل بما عمل به نوح، لأنّ معايير الألطاف الإلهيّة لا تتخلّف، ولا تختّص بشخص دون آخر.
أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة قصيرة شديدة اللهجة مصير تلك الاُمّة الظالمة الشريرة الحاقدة (ثمّ أغرقنا الآخرين).
إذ إنهمر المطر سيلا من السماء، وتفجّرت الأرض عيوناً، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها، لافظاً إيّاهم بعدئذ أجساداً هامدة لا حياة فيها ولا روح.
والذي يلفت النظر أنّ الله سبحانه وتعالى إستعرض ألطافه على نوح في عدّة آيات، فيما بيّن عذابه لقوم نوح العاصين في عبارة واحدة قصيرة يرافقها التحقير وعدم الإهتمام بهم، لأنّ حالة نصر المؤمنين وعزّتهم وتأييد الباري سبحانه لهم جديرة بالتوضيح، وبيان حال المعاندين والعاصين لا يجدر بالإهتمام والإعتناء.
* * *
فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية (وجعلنا ذرّيته هم الباقين) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.
وقد نقل الكثير من المؤرخّين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.
وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اُخرى بأنّهم من أولاد «يافث»، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضاً.
البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد إختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين، ولكن المتوخّى من البحث هو: هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو: ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعاً ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟
هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.
على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام واُمم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.
منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر (عليه السلام) في توضيح الآية المذكورة أعلاه: «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه، وليس كلّ من في
الأرض من بني آدم من ولد نوح (عليه السلام) قال الله عزّوجلّ في كتابه: (احمل فيها من كلّ زوجين إثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه إلاّ قليل)، وقال الله عزّوجلّ أيضاً: (ذريّة من حملنا مع نوح)»(1).
وعلى هذا فإنّ إنتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.
* * *
وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم (84) إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ(86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ(88) فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ (92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالَْيمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيم (عليه السلام)محطّم الأصنام بعد آيات إستعرضت جوانب من تاريخ نوح (عليه السلام) المليء بالحوادث.
ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد
الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح إبنه إسماعيل، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذُكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.
الآية الاُولى، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة (وإنّ من شيعته لإبراهيم).
أي إنّ إبراهيم كان سائراً على خطى نوح (عليه السلام) في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص، حيث أنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.
كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيراً (قال بعض المفسّرين: إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ 2600 سنة)، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير(1).
بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل، قال تعالى: (إذ جاء ربّه بقلب سليم).
حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.
القلب الطاهر من الشرك.
أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.
أو القلب الخالي من حبّ الدنيا، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.
وأخيراً هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.
في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة)، وعندما تطرح السلامة. بصورة مطلقة، فإنّها تشمل أيضاً السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.
فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)،(1) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضاً اُخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وإرتكابهم المزيد من الذنوب.
وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!»(2). حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقاً.
وقد جاء في رواية اُخرى للإمام الصادق (عليه السلام) «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الاُمور كلّها»(3).
واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات 88 و89 على لسان النّبي الكبير إبراهيم(عليه السلام)قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(4).
نعم، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام، وبدأ بأبيه
وعشيرته (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟
أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟
ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: (أإفكاً آلهة دون الله تريدون)(1).
إستخدام كلمة (إفك) في هذه الآية، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح، توضّح حزم وقاطعية إبراهيم (عليه السلام) بشأن الأصنام.
واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة (فما ظنّكم بربّ العالمين) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّاً، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!
عبارة (ربّ العالمين) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.
وجاء في كتب التأريخ والتّفسير، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنوياً، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه، ثمّ يخرجون جميعاً إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.
وبذلك خلت المدينة من سكّانها، فاستغلّ إبراهيم (عليه السلام) هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم (عليه السلام) ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغباً في إضاعتها.
وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم (فنظر نظرةً في
النجوم).
(فقال إنّي سقيم).
وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.
بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم (فتولّوا عنه مدبرين).
وهنا يطرح سؤالان.
الأوّل: لماذا نظر إبراهيم (عليه السلام) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟
والثاني: هل أنّه كان مريضاً حقّاً حينما قال: إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟
جواب السؤال الأوّل، مع أخذ إعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الإحترام لكونها تمثّل النجوم.
وبالطبع فإلى جانب إستقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.
ولكي يوهمهم إبراهيم (عليه السلام) بأنّه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إنّي سقيم، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.
أمّا بعض كبار المفسّرين، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه، لأنّه كان مصاباً بحمى تعتريه في أوقات معيّنة، ولكن الإحتمال الأوّل يعدّ مناسباً أكثر، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.
فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظره إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة
النجوم توقّع الحوادث القادمة.
أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة:
منها: أنّه كان مريضاً حقّاً، وحتّى إن لم يكن مريضاً فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم، فمرضه كان عذراً جيّداً لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه إستخدم التورية، كما أنّ إستخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.
وقال البعض الآخر: إنّ إبراهيم لم يكن مصاباً بمرض جسدي، وإنّما روحه متعبة، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، فبهذا أوضح لهم الحقيقة، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.
وإحتمل البعض أنّه إستخدم التورية في كلامه معهم، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت، ويستفسر: هل فلان موجود في البيت، فيأتيه الجواب: إنّه ليس هنا، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجوداً في البيت، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوماً آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيم (عليه السلام) انّني يمكن أنّ أمرض في المستقبل، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيداً.
ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.
وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (عليه السلام) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متّوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.
فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم
عبدتكم، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع، ما لكم لا تأكلون؟ (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)(1).
ثمّ أضاف، لِمَ لا تتكلّمون؟ لِمَ تعجز ألسنتكم عن النطق؟ (ما لكم لا تنطقون).
وبهذا استهزء إبراهيم (عليه السلام) بكلّ معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.
بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة (فراغ عليهم ضرباً باليمين).
والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.
على أيّة حال، فإنّ إنقضاض إبراهيم (عليه السلام) على الأصنام، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الاُولى، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّراً ومؤسفاً ومؤلماً في نفس الوقت.
وبعد إنتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء وإطمئنان ـ معبد الأصنام عائداً إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة إنفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (عليه السلام) وحيداً في وسطها. إلاّ أنّ له ربّاً يحميه، وهذا يكفيه.
وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً، ومن شدّه رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا
وهناك، تلك الأصنام التي خالوها ملجأً وملاذاً لهم يوم لا ملجأ لهم، أصبحت بلا ناصر ولا معين.
ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟
ولم يمرّ وقت طويلا، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم إسمه إبراهيم، كان يستهزىء بأصنامهم، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطاً خطيراً لأصنامهم.
من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل، فأقبلوا عليه جميعاً غاضبين (فأقبلوا إليه يزفّون).
«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.
على أيّة حال، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.
* * *
«التورية» ـ ويعبّر عنها أحياناً بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر: متى رجعت من السفر؟ فيجيبه: قبل غروب الشمس، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضاً قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر: هل تناولت الطعام، فيجيبه: نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول
الطعام اليوم، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.
مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذباً، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذباً، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب، إذ قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقال (عليه السلام): لا بأس ليس بكذب»(1).
والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل، ولابدّ من وضع ضابطة كليّة: فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان، والمخاطب تصوّر معنىً خاصّاً من تلك الكلمة، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنىً آخر، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئاً، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنىً آخر.
وعلى سبيل المثال، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير»، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول: ما هو تقييمك لي، فأجابه سعيد: إنّك (عادل)، ففرح جلاوزة الحجّاج، في حين قال الحجّاج: إنّه بكلامه هذا كفّرني، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.
أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.
ولكن، يجب الإنتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقاً للكذب، تكون للتورية أحياناً مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة، ولكن إن
لم تكن قد إشتملت على مفسدة، ولم تكن مصداقاً للكذب، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادق (عليه السلام) هي من هذا القبيل.
بناءً على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافياً، بل يجب أيضاً أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اُخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذباً، فمن المسلّم به جواز إستعمال التورية ما دام هناك مجال لإستخدامها، لكي لا يكون كلامه مصداقاً للكذب.
لكن هل أنّ التورية جائزة أيضاً للأنبياء، أم لا؟
يجب القول: إنّه طالما كانت سبباً في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيم (عليه السلام) ونظره في النجوم، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ، فلا تنطوي على أي إشكال.
كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الإصطلاح القرآني الروح والعقل، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.
والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية) (فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكروا به ...).(1)
وأحياناً وصفها بأنّها غير طاهرة، كما ورد في (سورة المائدة ـ 41).
واُخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ 6).
ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ 87).
وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(1).
وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى، إذ ورد في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(2).
![]() |
![]() |
![]() |