![]() |
![]() |
![]() |
أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.
وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة).
وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّاً، وعندما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه، فإنّها تعطي معنى إستخراج الماء من البئر تدريجيّاً حتّى ينضب، ويقال «نزيف الدم» وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّاً حتّى ينتهي تماماً.
على أيّة حال، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.
هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد ـ بصورة ضمنية ودقيقة ـ إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى
الدمار فحسب، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، إلى القلب وحتّى الشرايين، وإلى المعدة والكلية والكبد، وأحياناً تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّاً حتّى يجفّ.
ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات(1).
أمّا القسم السادس، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم (وعندهم قاصرات الطرف عين)، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.
(طرف) في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شيء ما، إذن فإنّ عبارة (قاصرات الطرف) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي:
الأوّل: هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم.
والثاني: هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلاّ أزواجهنّ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم، ولا توجد محبّة اُخرى في قلوبهنّ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به.
والتّفسير الثالث: هو أنّ لهنّ أعين سكرى، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم(2).
وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني.
كلمة (عِين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.
وأخيراً، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنّة، إذ توضّح طهارتهنّ وقداستهن من خلال هذه العبارة (كأنّهنّ بيض مكنون) أي إنّهن نظيفات وظريفات، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار.
(بيض) جمع بيضة.
(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالإدّخار.
هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة، ولم تمسّها بعد يد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.
وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد اُزيلت قشرتها الخارجية لتوّها، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.
الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق، عميقة ومفعمة بالمعاني، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وباُسلوب لطيف.
* * *
الهبات التي منّ الله تعالى بها على أهل الجنّة ـ المذكورة في الآيات السابقة ـ هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية، ونستشف من عبارة (اُولئك لهم رزق
معلوم) أنّ أوّل هبة هي تلك المتعلّقة بالهبات المعنوية والروحية التي يعجز اللسان عن وصفها.
أمّا الأقسام الستّة الاُخرى وهي الفواكه، والشراب الطاهر، والزوجات الصالحات، والإحترام الكامل، والمسكن الحسن، والأصدقاء الجيدون في الجنّة، فقد أعطت أبعاداً مختلفة لنعم الجنّة، والتي غالباً ما تمزج بالعطايا والمنح المادية والمعنوية.
لكن كلّ ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبداً أن تعكس كلّ جوانب النعم في الجنّة، ومن الطبيعي فإنّنا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك اُخرى، إضافةً إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر، كي نتمكّن من شرح هذه الاُمور.
وبعبارة اُخرى، فإنّ حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنّة خفيّة عن أهل الدنيا، إلاّ إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.
على أيّة حال، فإنّ (عباد الله المخلصين) والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم إلى مرحلة الكمال، أعزّاء عند الله، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة، ومهما تصوّرنا علو مقامهم، فإنّهم أفضل وأعلى من ذلك.
* * *
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54)فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ(56) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الُْمحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـمِلُونَ (61)
عباد الله المخلصون الذين إستعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم، كالفاكهة، والحور، وكأس المعين الذي يطاف به عليهم، والسرر المتقابلة التي يجلسون عليها، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدّثون معهم، وفجأة ـ خلال جلسات سمرهم في الجنّة ـ يتذكّرون أصدقائهم
في الدنيا، أصدقائهم الذين إنفصلوا عنهم في الطريق، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنّة، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.
نعم، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض، (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).
فجأةً خطر في ذهن أحدهم أمر، فالتفت إلى أصحابه قائلا: لقد كان لي صديق في الدنيا (قال قائل منهم إنّي كان لي قرين).
ومع الأسف، فإنّه إنحرف عن الطريق الصحيح، وصار منكراً ليوم البعث، وكان دائماً يقول لي: هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟ (يقول أإنّك لمن المصدّقين).
هل أنّنا إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً نحيا مرّة اُخرى، لنساق إلى الحساب، والجزاء على ما اقترفناه من أعمال؟ إنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدق: (أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمدينون)(1).
وهنا يخاطب من كان يتحدّث معهم من أهل الجنّة، بالقول: ليتني أعرف أين هو الآن؟ وفي أيّة ظروف يعيش؟ فمكانه خال بيننا ..
ويضيف: أيّها الأصدقاء، هل تستطيعون البحث عنه، ومعرفة حاله، (قال هل أنتم مطّلعون)(2).
وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنّم، ويرى فجأةً صديقه وسط جهنّم (فاطّلع فرآه في سواء الجحيم)(3).
فيخاطبه قائلا: أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه (قال تالله إن كدت لتردين)(4).
لقد أوشكت أن تؤثّر على صفاء قلبي بوساوسك، وأن تزجّ بي في الخطّ المنحرف الذي كنت فيه، فلولا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنّم (ولولا نعمة ربّي لكنت من المحضرين).
فالتوفيق الإلهي كان رفيق دربي، ولطف هدايته كان الموجّه لي.
وهنا يلقي نظرة اُخرى إلى صديقه في جهنّم، ويقول له موبّخاً إيّاه: ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت (أفما نحن بميّتين) سوى مرّة واحدة في الدنيا، وبعدها لا حياة اُخرى ولا عذاب (إلاّ موتتنا الاُولى وما نحن بمعذّبين).
الآن انظر ولاحظ الخطأ الكبير الذي وقعت فيه! فبعد الموت كانت هذه الحياة وهكذا ثواب وعقاب، والآن توضّحت لك كافة الحقائق، ولكن ما الفائدة فليس هناك طريق للعودة.
طبقاً لتفسير الآيتين الأخيرتين، فإنّ حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم، كان مركزاً على تذكيره بإنكاره للمعاد في الحياة الدنيا.
لكن بعض المفسّرين يحتملون وجود تفسير آخر للآيتين المذكورتين، وهو أنّه بعد إنتهاء حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم، يعود إلى أصحابه في الجنّة للتسامر فيما بينهم، فيقول أحدهم من شدّة الفرح: أحقّاً أنّنا لن نموت مرّة اُخرى؟ وأنّنا سنعيش هنا خالدين؟ وهل أنّه بعد الموت الأوّل لا يوجد موت آخر، وتبقى هذه النعم الإلهيّة معنا، وما نحن بمعذّبين؟
بالطبع هذا الكلام ليس مصدره الشكّ والتردّد، إنّما هو نتيجة شدّة الفرح والسرور، فمثلهم كمثل الإنسان الذي يحصل بعد مدّة من الأمل والإنتظار على بيت واسع وفخم، فيقول وهو متعجّب: كلّ هذا لي؟ ياربّي! ما هذه النعمة! وهل ستبقى عندي؟
على كلّ حال، هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني وحسّاسة ومؤثّرة جدّاً،
ومؤكّدة بأنواع التأكيدات (إنّ هذا لهو الفوز العظيم).
ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية، وتشمله الألطاف الإلهية؟ وماذا يتصوّر أفضل وأعظم من ذلك؟
ثمّ يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة واحدة قصيرة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق، (لمثل هذا فليعمل العاملون) أي لمثل هذا فليعمل الناس، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.
بعض المفسّرون يحتملون في كون الآية الأخيرة أنّها من كلام أصحاب الجنّة، وهذا الإحتمال مستبعد جدّاً، لأنّ الإنسان في ذلك اليوم غير مكلّف، وبعبارة اُخرى لا يوجد أي تكليف في ذلك اليوم حتّى يستنتج من الكلام أنّه تشجيع للآخرين، في الوقت الذي يوضّح فيه ظاهر الآية إنّها إستنتاج للآيات السابقة، وأنّها تدفع الناس إلى الإيمان والتوجّه إلى العمل، لذا كان من المناسب أن يورد الباري عزّوجلّ هذا الحديث في نهاية هذا البحث.
* * *
يستشف من الآيات المذكورة أعلاه، وجود نوع من الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار، فكأنّ أهل الجنّة ـ الذين هم في مرتبة عُليا ـ يرون أهل النار ـ الذين هم في الأسفل ـ ]وقد استفيد هنا من عبارة (فاطّلع) والتي تعني الإشراف من الأعلى على الأسفل[.
وبالطبع فإنّ هذا ليس بدليل على كون الفاصل الموجود بين الجنّة والنار قليلا، فلربّما يمنحون قوّة نظر خارقة تغدو أمامها قضيّة المكان والفاصل معدومة.
وقد جاء في كلمات بعض المفسّرين أنّ للجنّة كوة ينظر منها أهل الجنّة إلى أهل النّار.
وآيات سورة الأعراف توضّح بصورة جيّدة الرابطة الموجودة بين الفريقين (ونادى أصحاب الجنّة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً قالوا نعم فأذّن مؤذّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين)،(1) كما يمكن الإستفادة من الآية (46) في سورة الأعراف بهذا الشأن (وبينهما حجاب) أي أنّ هناك حجاب بين أهل الجنّة وأهل النار.
وكلمة (نادى) يستخدمها ـ بصورة طبيعية ـ المتكلّم عند بعد، وتوضّح في الآية مكان ومرتبة الفريقين.
على أيّة حال، وكما ذكرنا عدّة مرّات، فإنّ أوضاع وأحوال يوم القيامة تختلف كثيراً عن أوضاع عالمنا الحالي، ونحن لا نستطيع تقييم الأوضاع هناك وفق معايير عالمنا.
بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ سبب نزول الآيات المذكورة أعلاه هو ما ورد في سورة الكهف كمثال، (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ...).(2)
وقد جاء في هذه الآيات أنّ أحد الشخصين كان متكبّراً ومغروراً جدّاً، إضافةً إلى أنّه كان ينكر المعاد، والآخر كان مؤمن يعتقد بالقيامة، وفيما بعد نزل العذاب الإلهي على الشخص المغرور الكافر وهو في هذه الدنيا، إذ فقد ثروته وأحاط به
البلاء من كلّ جانب(1).
لكن سياق آيات بحثنا هذا يختلف مع ما هي عليه آيات سورة الكهف، ويبيّن وجود فارق بين الحادثتين.
ويرى البعض الآخر: إنّها تخصّ شخصين شريكين أو صديقين كانا يمتلكان ثروة كبيرة، أحدهما كان ينفق بسخاء في سبيل الله، أمّا الثاني الذي كان لا يؤمن بشيء ـ فقد إمتنع عن الإنفاق، وبعد مدّة من الزمن أُصيب المنفق بفاقة مالية، وتعرّض لإستهزاء صديقه، والذي قال له بلغة السخرية، (أإنّك لمن المصدّقين)(2).
فإن كانت أسباب النّزول تخصّ هذه الحادثة، إذاً علينا قراءة كلمة (مصدّقين) بتشديد (الصاد) والتي تعني هنا دفع الصدقة والإنفاق.
في حين أنّ المشهور بين القرّاء قراءة كلمة (مصدّقين) بدون تشديد (الصاد) وعلى هذا فإنّ سبب النّزول الآنف الذكر لا يتلاءم والقراءة المشهورة.
هل من الصحيح أن يصرف الإنسان رأس مال عمره والقابليات الاُخرى والعطايا الإلهية في موارد هي كالفقاعات التي لا تدوم سوى لحظات فوق الماء؟ متاع بخس غير دائم، متاع مليء بالآفات والمشاكل!!.
أو يستثمر هذه القوى العظيمة في مجال يؤدّي إلى حياة خالدة ونعم دائمة، ومرضاة الله سبحانه وتعالى؟
فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه، عندما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية ـ
التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كلّ أشكال الغمّ. وليس فيها همّ ولا غمّ ولا مشكلة.
نعم فمن يريد أن يكسب الجنان فعليه أن يسعى ويعمل.
* * *
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَـهَا فِتْنَةً لِّلظَّـلِمِينَ(63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيم (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَآلِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى ءَاثَـرِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)
بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنّم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة.
ففي البداية تقول: (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقّوم).
كلمة (نُزُل) تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد، والبعض الآخر قال: إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده، وهذه إشارة إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزّاء والمحترمين إلى الجنّة.
والقرآن الكريم يقول: أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا على أنّ شجرة الزقّوم شيء جيّد، والنعم التي أعدّها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة أجود، إذ أنّ مثل هذه الألفاظ تستخدم أحياناً في لغة العرب بشأن بعض الأشياء التي لا فائدة فيها أبداً، ويحتمل بأنّها نوع من الكناية، ومثلها كمثل شخص غارق بالذنوب وقد فضح أمام الناس، وهم يقولون له: هل هذه الفضيحة خير، أم الفخر والعزّة والشرف؟
وأمّا «زقّوم» فقد قال أهل اللغة: إنّه اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة(1).
فيما قال بعض المفسّرين: إنّه اسم نبات يحمل أوراقاً صغيرة مرّة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض تهامة، وكان يعرفه المشركون(2). وأضاف صاحب تفسير (روح المعاني) أنّ لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورّم(3).
وقال الراغب في (مفرداته): الزقّوم هو كلّ غذاء يثير إشمئزاز أهل جهنّم.
وقال صاحب كتاب (لسان العرب): هذا اللفظ يأتي أساساً بمعنى بلع الشيء، ويضيف: عندما نزلت هذه الآية قال أبو جهل، لا توجد مثل هذه الشجرة في أرضنا، فمن منكم يعرف معنى زقّوم؟
وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا: الزقّوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر، وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي، نادى جاريته، وقال لها باستهزاء: زقمّينا بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون: إنّ محمّد يخوّفنا من
هذا في الآخرة، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة تردّ على أبي جهل وبقيّة المشركين سنتطرّق إليها فيما بعد.
على كلّ حال فإنّ كلمة (شجرة) لا تأتي دائماً بمعناها المعروف، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).
ثمّ يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: (إنّا جعلناها فتنة للظالمين).
ولفظة (فتنة) تعني المحنّة والعذاب، كما تعني الإمتحان، وغالباً ما جاء هذا المعنى في موارد متعدّدة من سور القرآن المجيد، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والإستهزاء، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لاُولئك الطغاة.
ويضيف القرآن الحكيم (إنّها شجرة تخرج في أصل الجحيم).
ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم، ويقولون: كيف يمكن لنبات أو شجرة ينبت في قعر جهنّم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعاً لذلك فإنّ سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو إختبار دنيوي لهم، وسيكون سبباً لعذابهم ومحنتهم في الآخرة.
وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاُصول التي تحكم في ذلك العالم ـ أي الآخرة ـ تختلف كثيراً عن الاُصول الحاكمة في العالم الدنيوي، فالأشجار والنباتات التي تنبت في قعر جهنّم، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار، ليست كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم، ويحتمل عدم جهلهم بهذا الأمر، بل هدفهم الإستهزاء والسخرية فقط.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (طلعها كأنّه رؤوس الشياطين).
(الطلع) يقال لأوّل ما يبدو من حمل النخلة، وله قشر أخضر اللون، وفي داخله
فروع بيضاء اللون تتحوّل فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.
وكلمة (طلع) من مادّة (طلوع) وبهذه المناسبة أُطلق على الثمر في أوّل ظهوره.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل أنّ الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتّى يشبّه القرآن ثمار الزقّوم بها؟
المفسّرون أعطوا أجوبة متعدّدة لهذا السؤال:
فقال البعض: إنّ إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حيّة كريهة المنظر، شبّهت بها ثمار الزقّوم.
وذهب البعض الآخر إلى أنّه نوع من النبات ذو شكل قبيح، كما جاء في كتاب (منتهى الارب) أنّ (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.
إلاّ أنّ الرأي الأصحّ، هو أنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز، لأنّ الإنسان عندما يشمئز من شيء ترتسم صورة ذلك الشيء في مخيلته بشكل قبيح ورهيب، فيما ترتسم صورة الشيء المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.
لهذا فإنّ الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل، فيما يرسمون صورة الشياطين والعفاريت بأقبح صورة، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا الشياطين. كما يشاهد إستخدام هذا الأمر كثيراً في المصطلحات اليومية، عندما يقال: الشخص الفلاني كالعفريت، أو انّه يشبه الشيطان.
هذه كلّها تشبيهات مبنية على أساس الإنعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم مختلفة، وهي تشبيهات لطيفة وحيّة.
ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين، (فإنّهم لآكلون منها فمالئون منها البطون)(1).
هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث أنّ أكل هذا النبات الذي ينبت في جهنّم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله ـ وبكميّات كبيرة ـ يعدّ عذاباً أليماً.
ومن البديهي، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ، يصيبه العطش، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول: (ثمّ إنّ لهم عليها لشوباً من حميم).
«الشوب» هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر. و (حميم) هو الماء الحار البالغ في حرارته، وطبقاً لذلك فإنّ حتّى الماء الحار الذي يشربه اُولئك الظالمون غير نقي، بل ملوّث.
وهذا هو غذاء أهل جهنّم، وهذا هو شرابهم، وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول: (ثمّ إنّ مرجعهم لإلى الجحيم).
بعض المفسّرين فسّروا هذه العبارة على أنّ الماء الحار الملوّث ينبع من عين خارج جهنّم، وأنّ أهل جهنّم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصّصة لشرب الماء، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.
فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة في جهنّم، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار، ويرجعون بعد ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقاً.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب.
وكما أشرنا آنفاً، فإنّه لا يمكن تصوّر النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، كما أنّه لا يمكن تصوّر العذاب الذي ينال أهل جهنّم، بل إنّها تخيّلات ـ وحسب ـ تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهمّ أعذنا بلطفك واحفظنا من العذاب).
الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اُولئك إلى جهنّم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين بالمعاني والحقائق (إنّهم ألفوا آباءهم ضالّين).
وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة (فهو على آثارهم يهرعون).
والملاحظ هنا أنّ لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول، وهي من مادّة (هرع) أي أسرع، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار، وإشارة اُخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.
* * *
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاَْوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ(72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ (74)
بما أنّ المسائل السابقة المتعلّقة بالمجرمين والضالّين لا تختّص بزمان ومكان معينين، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل، ويهيء الأرضية في عدّة آيات قصيرة ومختصرة لشرح اُمور كثيرة عن الاُمم السابقة، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الاُمم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول: (ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأوّلين).
فمشركو مكّة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأوّلين، وإنّما إبتليت قبلهم الكثير من الاُمم السابقة بنفس المصير.
والتذكير بهذا الأمر إنّما جاء لتسلية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثلّة من أصحابه
المؤمنين الذين كانوا في مكّة ـ آنذاك ـ محاصرين من قبل العدو من كلّ الجوانب.
ثمّ يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم (ولقد أرسلنا فيهم منذرين).
إذا أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به، والظلم والإعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولإطلاعهم على مسؤولياتهم.
صحيح أنّ الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار، وفي الاُخرى رسالة البشارة، لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم، خاصّة بالنسبة لمثل تلك الاُمم الضالّة والعاصية، ولهذا أكّد عليه هنا.
ثمّ يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).
المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي شخص عاقل يقظ. وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.
أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي (إلاّ عباد الله المخلصين).
الملاحظ أنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الاُمم، وتدعو إلى التمّعن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ما عدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب(1).
وجدير بالذكر أنّ كلمة (المخلصين) ـ بفتح اللام ـ كرّرت خمس مرّات، وهذا بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم، وكما أشرنا سابقاً فإنّ عباد الله المخلصين هم الصفوة التي تسلّحت بالعلم والإيمان، وإنتصرت على النفس بعد مجاهدتها، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين، ولهذا فإنّهم يمتلكون
الحصانة الكاملة تجاه الإنحرافات والزلل.
![]() |
![]() |
![]() |