لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذُكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديماً، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافياً في الحال الحاضر، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآيتة إن شاء الله، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.


1 ـ يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم، والبعض يقول: إنّها بدل عن «مثلا»، ولكن الظاهر رجاحة الإحتمال الأوّل.

[ 150 ]

بعد ذلك العرض الإجمالي العام، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول: (إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنّا إليكم مرسلون)(1).

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين، بعضهم قال: إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس»، وبعضهم ذكر أسماء اُخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى، أم أنّهم رسل المسيح (عليه السلام) (ولا منافاة مع قوله تعالى: (إذ أرسلنا) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضاً)، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل، القرآن الكريم يقول: إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفّار دائماً في مواجهة الأنبياء (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلاّ تكذّبون).

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم، من جملتهم إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي عرف برسالته، ومن المسلّم أنّه كان إنساناً، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضاً على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم، إذ أنّ


1 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية»، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

[ 151 ]

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لابدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يُحتمل أيضاً أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا، وفي جوابهم (قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون) ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

(وما علينا إلاّ البلاغ المبين).

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الإدّعاء، أو القسم بأنّهم من قبل الله، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم، وإلاّ فلا مصداقية (للبلاغ المبين)، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحقّقه إلاّ من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسى (عليه السلام).

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد (قالوا إنّا تطيّرنا بكم)(1).

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم، أو كإنذارات إلهية لهم،


1 ـ تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف، الآية 131، وذيل الآية 47 من سورة النمل.

[ 152 ]

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لمدّة(1)، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني، وقالوا: (لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم وليمسنّكم منّا عذاب أليم).

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد إحتمالان، ولكن يبدو أنّ الإحتمال الثاني هو الأقرب، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحياناً بالموت، ومن الممكن أن ذكر (العذاب الأليم) إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعاً اُخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديماً كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضاً أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(2). ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقاً يمكنهم من المنازلة في الحوار، فإنّهم يستندون دائماً إلى التهديد والضغط والعنف، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات، بل سيزيدون من إستقامتهم على الطريق، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: (قالوا طائركم معكم أئن ذكّرتم).


1 ـ تفسير القرطبي، ذيل الآيات محلّ البحث.
2 ـ وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والإتّهام والقذف.

[ 153 ]

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات الله عنكم، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة، وليس في دعوتنا، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة (أئن ذكّرتم) جملة مستقلّة وقالوا: إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤماً عليكم؟ وما جلبوا لكم إلاّ النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(1).

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء (بل أنتم قوم مسرفون).

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات، وأخيراً ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت، وهذا أيضاً بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة اُولئك القوم، وما جرى لهؤلاء الرسل، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *


1 ـ التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الاُمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

[ 154 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَـقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَـعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَـل مُّبِين (24) إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَـلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُند مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَـمِدُونَ (29)يَـحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30)

 

[ 155 ]

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة .. وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتّبعوا المرسلين).

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، وسلك طريقه فرداً وحيداً. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلاّ أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

[ 156 ]

الحقّ والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «ياقوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة (اتّبعوا من لا يسألكم أجراً). فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات (وما أسألكم عليه من أجر)(1).

ثمّ يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: (وهم مهتدون) إشارة إلى أنّ عدم الإستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين: إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطىء عن الإستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني).

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لا


1 ـ الآيات: 109 ـ 127 ـ 145 ـ 164 ـ 180.

[ 157 ]

تُضرّ ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً وهو: إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي اُلاحظ بوضوح أنّ هناك صوتاً يدعوني إلى عبادة خالقي، دعوة تنسجم مع العقل، فكيف أغضّ الطرف إذاً عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيراً في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول: (وإليه ترجعون).

أي: لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث إستدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلا: (أأتّخذ من دونه آلهةً إن يُردن الرحمن بضرٍّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون).

هنا أيضاً يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله، فكأنّه يقول: أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم، فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريد أحداً بضرٍّ، إلاّ إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

[ 158 ]

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد: (إنّي إذاً لفي ضلال مبين)فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الإستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين (إنّي آمنت بربّكم فاسمعون).

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة (فاسمعون) والجملة السابقة لها (إنّي آمنت بربّكم)؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضاً، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الإستدلالات التوحيدية(1).

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال: (ياقوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد) غافر ـ 38.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم اُولئك الرسل، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.


1 ـ راجع الآيات 3 و32 يونس ـ 3 و52 هود ـ 24 النمل 29 ـ الكهف وغيرها.

[ 159 ]

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالإستدلالات القوّية الدامغة، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهمّ اهدِ قومي، حتّى قتلوه(1).

وفي رواية اُخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(2).

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي (قيل ادخل الجنّة) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات اُخرى من القرآن الكريم (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون).(3)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترناً باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم اُخريين في عالم البرزخ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: «والقبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النار»(4).


1 ـ تفسير القرطبي، ج15، ص 18 و19.
2 ـ تفسير التبيان، ج8، ص414.
3 ـ آل عمران، 169.
4 ـ بحار الأنوار، ج6، ص218.

[ 160 ]

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى اُمنية واحدة (قال ياليت قومي يعلمون).

ياليت قومي يعلمون بأي شيء (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين)(1).

أي: ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل الله، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ ..

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون، ولكن ياحسرةً!!

في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(2).

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي، ثمّ عن الإكرام، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والإحترام والتجليل، وإن كان من نصيب الكثير من العباد، واُصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنباً إلى جنب، (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).(3) ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصاً لمجموعتين:


1 ـ بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة إحتمالات: إمّا مصدرية، أو موصولة، أو إستفهامية، ولكن يبدو أنّ إحتمال كونها إستفهامية بعيد، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيراً حينما تكون مصدرية.
2 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8،ـ صفحة 20.
3 ـ الحجرات، 13.

[ 161 ]

الاُولى: «الملائكة المقرّبون» (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون).(1)

والثانية: الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن «المخلَصين» فيقول عنهم: (اُولئك في جنّات مكرمون)(2)(3).

وعلى كلّ حال، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين، وارتشف في النهاية كأس الشهادة، وقَفل راجعاً إلى جوار رحمة ربّه الكريم.

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئاً في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم، لكن جمعاً من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضاً إضافةً إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات، والإنتقال إلى مكان أكثر أمناً، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل، وإن كان التعبير «من بعده» (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل ـ في خصوص نزول العذاب الإلهي ـ على أنّ القول الثاني أصحّ «تأمّل بدقّة!!».

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنّا منزلين).


1 ـ الأنبياء، 27.
2 ـ المعارج، 35.
3 ـ الميزان، المجلّد 17، صفحة 82.

[ 162 ]

 

[ 163 ]

 

 

 

 

 

 

بدايَة الجزء الثالث و العشرون مِنَ القُرآن الكريم

 

 

 

 

 

[ 164 ]

 

[ 165 ]

فلسنا بحاجة إلى تلك الاُمور، وأساساً فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعاً وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثمّ يضيف تعالى (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون).

هل أنّ تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزّت كلّ شيء، ودمّرت كلّ العمران الموجود، وجعلت القوم من شدّة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟

أو أنّها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجّت في الفضاء بحيث أنّ موج إنفجارها أهلك الجميع.

أيّاً كانت فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزّة أوقفت كلّ شيء عن التحرّك، وهكذا هي قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالّين لا نفع فيهم.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردّي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون).

وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!!، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير، وصاروا إلى

[ 166 ]

نفس المصير.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا ـ بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات ـ لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضاً لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا: لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟

التعبير بـ «عباد» إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات.

* * *

 

بحوث

1 ـ قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت ـ على قول البعض ـ بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب، وستّين كيلومتراً عن الإسكندرية.

فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم.

احتّلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاُولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفاً على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم.

[ 167 ]

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (عليه السلام) منها دعوته، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيح (عليه السلام) ـ بولس وبرنابا ـ(1) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية، وبذا إنتشرت المسيحية هناك، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(2).

«الطبرسي» ـ أعلى الله مقامه ـ في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.

فقال: أمعكما آية؟

قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ: إنّ لي إبناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين.

قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله، فذهب بهما فمسحا إبنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟


1 ـ «بولس» من المبلّغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيراً في نشر الديانة المسيحية. «برنابا» ـ بفتح الباء ـ إسمه الأصلي «يوسف» كان من أصدقاء بولس ومرقس، له انجيل معروف ذكر فيه كثيراً البشارة بظهور نبي الإسلام، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحّته ويقولون انّ هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.
2 ـ تفسير «أبو الفتوح الرازي» وهامش العالم المرحوم «الشعراني».

[ 168 ]

قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك.

قال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي أنّ عيسى (عليه السلام) بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فلمّا كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكّراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا.

قالا: الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له.

قال: وما آيتكما.

قالا: ما تتمنّاه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارتا مقلتين يُبصر بهما، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً؟

فقال الملك: ليس لي عنك سرّ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

قالا: إلهنا قادر على كلّ شيء.

[ 169 ]

فقال الملك: إنّ هاهنا ميّتاً مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه ـ وكان غائباً ـ فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربّهما علانيةً، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّاً، فقام الميّت وقال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا اُحذّركم ممّا أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجّب الملك.

فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل «العياشي» في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)مع بعض التفاوت(1).