وبغضّ النظر عمّا قيل، فهناك قضيّة مسلّم بها، وهي أنّ الطفل الذي جاء به إبراهيم مع اُمّه إلى مكّة المكرّمة بأمر من الله ثمّ تركهما هناك، وساعده من بعد في بناء الكعبة المشرفة، وأدّى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل، وهذا يدلّ على أنّ الذبيح هو إسماعيل، لأنّ عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.

ممّا يذكر أنّ كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكّد على أنّ الذبيح كان إسحاق.


1 ـ تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.
2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 421.
3 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 422.

[ 371 ]

هنا يستشف أنّ بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكّد على أنّ إسحاق هو (ذبيح الله) متأثّرة ببعض الروايات الإسرائيلية، ويحتمل أنّ اليهود وضعوها، وذلك لأنّهم من ذريّة (إسحاق)، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم، حتّى ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيّهم نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.

على أيّة حال، فإنّ ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا، إذ توضّح بصورة كافية، أنّ الذبيح هو إسماعيل، رغم أنّه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فالإثنان هما أبناء إبراهيم (عليه السلام)، وكلاهما من أنبياء الله العظام، ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.

 

2 ـ هل أنّ إبراهيم كان مكلّفاً بذبح إبنه؟

من الأسئلة المهمّة الاُخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث، والتي تثير التساؤل في أوساط المفسّرين، هي: هل أنّ إبراهيم كان حقّاً مكلّفاً بذبح إبنه أم أنّه كان مكلّفاً بتنفيذ مقدّمات الذبح؟

فإن كان مكلّفاً بالذبح، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عمليّة الذبح، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز، وهذا المعنى ثابت في علم (اُصول الفقه).

وإن كان مكلّفاً بتنفيذ مقدّمات عملية الذبح، فهذا لا يعتبر فخراً له. وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدّماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الإمتحان الكبير له ـ فهو كلام غير جدير بالردّ.

بإعتقادنا، أنّ التقولاّت هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الإمتحانية وغير الإمتحانية، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر إمتحاني، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الإمتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل، وإنّما الهدف

[ 372 ]

منها توضيح مقدار الإستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له إطلاع بخفايا الاُمور. وبهذا الشكل فإنّ عملية النسخ لم تحصل هنا حتّى تناقش قضيّة صحّتها ووقوعها قبل العمل.

مخاطبة الباري عزّوجلّ عبده إبراهيم بعد الحادثة (قد صدّقت الرؤيا) إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح إبنه العزيز، وإستعداده روحيّاً لتنفيذ هذا الأمر، ونجاحه في هذا الإمتحان.

 

3 ـ كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجّة؟

بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد الآية الرابعة.

لابدّ هنا من الإلتفات إلى أمر وهو: كيف إعتبر إبراهيم منامه حجّة، وإتّخذه معياراً لعمله؟

في الجواب على هذا السؤال، يقال: إنّ رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا شيطانية، وإنّها ليست ناشئة عن فعّالية قوّة وهمية، وإنّما هي جانب من نظام النبوّة والوحي.

وبتعبير آخر: إنّ إرتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحياناً بشكل إلقاء في القلب.

وأحياناً عن طريق مشاهدة الوحي.

وأحياناً عن طريق سماع أمواج صوتية، بعثت بأمر من الله.

وأحياناً عن طريق المنام.

وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو إشتباه في رؤيتهم، والذي يشاهدونه في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.

وقيل: إنّ إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفّذ ما يراه بشأن الذبح في المنام.

[ 373 ]

وقيل أيضاً: إنّ القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام، ومنها تكراره ثلاث ليال متتالية، أوجد عنده علماً ويقيناً بأنّ ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي وليس أمراً آخر.

على أيّة حال، يمكن أن تكون كلّ هذه التفاسير صحيحة، ولا يوجد تناقض بينها، كما أنّها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.

 

4 ـ عدم تأثّر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان:

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الإمتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير الله، وجعله متنوّراً ـ فقط ـ بعشق وحبّ الله، فقد عمد الشيطان ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصراً من الإمتحان.

فأحياناً كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها: أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر: إذهب ولا تتحدّث بأمر محال، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه، ويقول: إنّه يزعم بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر: إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله، وليس هناك طريق آخر سوى الرضى والتسليم لأمر الله.

وأحياناً كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه، لكنّه فشل أيضاً إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى والتسليم لذلك الأمر.

وأخيراً اتّجه نحو الأب، وقال له: ياإبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

[ 374 ]

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوّة، وصاح به: إبتعد من هنا ياعدوّ الله(1).

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح إبنه هناك، ولكن الشيطان تبعه، فترك المحلّ وذهب إلى مكان (الجمرة الاُولى) فتبعه الشيطان أيضاً، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضاً فرماه بسبع قطع اُخرى من الحجارة، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع اُخرى، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد(2).

من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الإمتحان الكبير يتعدّد أشكالها، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات وتتلوّن بعدّة ألوان، فلذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة مهما كان متستّراً بشكل من الأشكال، وإغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه ورميه بالحجارة، فما أعظم هذا الدرس!!

 

5 ـ فلسفة التكبيرات في (مِنى):

وكما هو معروف فإنّ من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصلاة، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر انّ الحجّاج في منى يكبّرون بعده صلاة أوّلها بعد صلاة الظهر من يوم العيد، وفي المناطق الاُخرى يكبّر المسلمون هذه التكبيرات بعد 10 صلوات).


1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلّد 9، الصفحة 326، في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.
2 ـ تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلّد (9) الصفحة (326) في ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

[ 375 ]

وكيفيّة هذه التكبيرات هي: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا). فعندما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقاً، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم، وشيء أُضيف إليه.

وبعبارة اُخرى فإنّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة إنتصار إبراهيم وإبنه إسماعيل في الإمتحان الكبير، وتعطي العبر لكلّ المسلمين، سواء كانوا في منى أو في غيرها.

وقد اتّضح من الروايات الإسلامية أنّ سبب تسمية أرض (منى) بهذا الإسم، إنّما يعود إلى أنّ إبراهيم عندما وصل إلى هذه الأرض، بعدما إجتاز ـ بنجاح ـ الإمتحان الصعب، نزل عليه جبرئيل وقال له: اطلب ما شئت من ربّ العالمين، فتمنّى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن إبنه إسماعيل، وقد تحقّقت اُمنيته هذه(1).

 

6 ـ الحجّ عبادة مهمّة تبني الإنسان:

السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم، إذ أنّه سفر إلهي، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.

مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وإبنه إسماعيل وزوجته هاجر، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الاُمور الخاصّة بأسرار الحجّ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الإمتزاج العميق.

فعندما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أن يكون حلقة من مجموعة حلقات


1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 420، الحديث 68.

[ 376 ]

العبادة؟

إلاّ أنّنا عندما نتذكّر إيثار إبراهيم (عليه السلام) الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى، ندرك فلسفة هذا العمل.

فالذبح إشارة إلى إجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله، ويمكن إستمداد التربية الكافية من هذه المناسك، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل، ومعنويات الأب وإبنه إسماعيل أثناء عملية الذبح، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها(1).

أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟

إلاّ أنّنا عندما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر، وكلّما ظهر له رماه بالحجر، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.

فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبداً.

وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته، كما شمل إبراهيم بذلك


1 ـ ممّا يؤسف له أنّ مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتمّ بالشكل المطلوب، ولذا على علماء الإسلام أن يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحجّ أوردنا بحوثاً مفصّلة في ذيل الآية (38) من سورة الحجّ.

[ 377 ]

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين، عليكم أن تسيروا على خطاه.

وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجاً أفواجاً من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر، وتعود مرّة اُخرى من هنا إلى هناك، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء، وأحياناً تهرول وأحياناً اُخرى تمشي، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب، فماذا يفعل هؤلاء هنا، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟

إلاّ أنّنا لو رجعنا إلى الوراء، وإستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة إبنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها، عندما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء، ويكشف لنا عن الحجب، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجر (عليها السلام)، فنشترك معها في السعي والجهد، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله، لا يصل إلى نتيجة.

وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وإبنه وزوجته خطوة خطوة، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر.

 

* * *

[ 378 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَـهُ بِإِسْحَـقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّــلِحِينَ(112) وَبَـرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

 

التّفسير

إبراهيم ذلك العبد المؤمن:

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وإبنه وتكملها، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم (إنّه من عبادنا المؤمنين).

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى إبنه العزيز البارّ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان، وتجلّياته، وما أعجب هذه الثمار

[ 379 ]

والتجلّيات!!

هذا التعبير يعطي أبعاداً أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وإبنه، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اُخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).

فبالإنتباه إلى الآية (فبشّرناه بغلام حليم) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق)، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت، وهو أنّ الآية الاُولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّاً، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّاً وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.

مرّة اُخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّاً وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق (وباركنا عليه وعلى إسحاق).

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح، وكما هو معلوم فإنّ

[ 380 ]

الفعل عندما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط، فإنّه يعطي معنىً عاماً، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء، في الحياة، في الأجيال القادمة، في التأريخ، والرسالة، وفي كلّ شيء.

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).

وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها (ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين).

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وإرتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس، الظلم الواضح والمكشوف.

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء، وتقول لهم: إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار، إن لم ترافقها

[ 381 ]

صلة في الفكر والإلتزام بالرسالة.

وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه بني هاشم «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» أي أنّهم مرتبطون بي رسالياً وأنتم مرتبطون بي جسدياً(1).

 

* * *


1 ـ روح البيان، المجلّد 7، الصفحة 479.

[ 382 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـرُونَ (114) وَنَجَّيْنَـهُمَا وَقَوْمُهمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَـهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَـلِبِينَ (116)وَءَاتَيْنَـهُمَا الْكِتَـبَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَـهُمَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاَْخِرِينَ (119) سَلَـمٌ عَلَى مُوسَى وَهَـرُونَ(120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمنِينَ(122)

 

التّفسير

النعم التي منّ بها الله على موسى وهارون:

الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهيّة التي أغدقها الله جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون، والبحث هنا ليتناغم ويتواءم مع البحوث السابقة بشأن نوح وإبراهيم في الآيات السابقة، فمحتوى الآيات يشابه بعضه البعض، ونفس الألفاظ تتكرّر في بعض الجوانب، وذلك لتوجد نظاماً تربوياً منسجماً للمؤمنين.

[ 383 ]

مرّة اُخرى إستخدم في هذه الآيات اُسلوب (الإجمال والتفصيل) الاُسلوب الذي استخدمه القرآن في نقل العديد من الحوادث.

الآية الاُولى تشير إلى قوله تعالى: (ولقد مننا على موسى وهارون).

«المنّة» في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن، ثمّ أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة، ولو إقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة، والغالب إنّها تستعمل في المحاورات العرفية بالمعنى الثاني، وهذا هو السبب في تداعي المفهوم السلبي من هذه الآيات الكريمة، ولكن لابدّ من القول انّ هذه المفردة وردت في اللغة والآيات الكريمة بمعناها الواسع الذي يشمل المفهوم الأوّل منها. (أي منع النعم والمواهب الكبيرة).

وعلى كلّ حال فانّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة.

أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم، وكلّ واحدة منها أفضل من اُختها.

ففي المرحلة الاُولى، يقول سبحانه وتعالى: (ونجّيناهما وقومهما من الكرب العظيم).

فهل هناك قلق أكثر من هذا، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة.

أليس فقدان الحرية والإبتلاء بسلطان جائر لا يرحم الكبير ولا الصغير، حتّى يبلغ به طغيانه إلى أن يتلاعب بنواميس الناس وشرفهم، أليس هذا كرباً عظيماً، وألماً شديداً، إذن فإنقاذهم من قبضة فراعنة مصر المتجبّرين، كانت أوّل نعمة يغدقها الباري عزّوجلّ على بني إسرائيل.

[ 384 ]

وفي المرحلة الثانية، قال الباري عزّوجلّ: (ونصرناهم فكانوا هم الغالبين).

ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضاً، إلاّ أنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم بعنايته، جاء في محكم كتابه العزيز (وآتيناهما الكتاب المستبين).

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة، ويجيبهم على كلّ ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم، كما أكّدت الآية (44) في سورة المائدة ذلك (إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور).

وفي المرحلة الرابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اُخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم، (وهديناهما الصراط المستقيم).

الطريق الصحيح الخالي من كلّ إعوجاج، ألا وهو طريق الأنبياء والأولياء، والذي لا يوجد فيه أي خطر من قبيل الإنحراف والضلال والسقوط.

وعندما نقرأ سورة الحمد في كلّ الصلوات ونطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، نقول: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين). أي إنّنا نطلب منه أن يهدينا إلى طريق الأنبياء والأولياء.

أمّا المرحلة الخامسة فإنّها أكّدت على إستمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما، إذ تقول الآية: (وتركنا عليهما في الآخرين).

وهذه العبارة نفسها وردت في الآيات السابقة بشأن إبراهيم ونوح، لأنّ كلّ الدعاة إلى الله السالكين لطريق الحقّ، يبقى إسمهم وتاريخهم خالداً على مرّ

[ 385 ]

الزمن، ويجب أن يبقى خالداً، لأنّهم لا يخصّون قوماً أو شعباً معيّن، وإنّما كلّ الإنسانية.

والمرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كلّ من موسى وهارون من عند الله (سلام على موسى وهارون).

سلام من عند الله العظيم والرحيم، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والإعتقاد والمذهب، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة ـ الأخيرة ـ نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباري عزّوجلّ إليهما (إنّا كذلك نجزي المحسنين).

نعم إنّ حصولهما على كلّ هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

والملفت للنظر أنّ هذه الآية (إنّا كذلك نجزي المحسنين) تكرّرت في هذه السورة عدّة مرّات، إذ جاءت بحقّ نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس، وعبارة مشابهة لها بشأن يوسف وردت في سورة يوسف الآية (22) كما وردت في الآية (84) في سورة الأنعام عن أنبياء آخرين كان ثوابهم نفس الثواب، وكلّهم يُقرّون بأنّ كلّ من يريد أن تشمله العناية الإلهيّة عليه أوّلا أن ينضمّ إلى زمرة المحسنين كي تغدق عليه البركات الإلهيّة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصّة نوح وإبراهيم من قبل (إنّهما من عبادنا المؤمنين).

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير، الإحسان الذي يفتح أبواب الرحمة الإلهيّة على الإنسان، فتنزل عليه مختلف أشكال النعم.

* * *

[ 386 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ (124)أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـلِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَُمحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ (129) سَلَـمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

 

التّفسير

النّبي إلياس ومواجهته للمشركين:

القصّة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله (إلياس)، يقول تعالى: (وإنّ إلياس لمن المرسلين).

الحديث حول «إلياس» وخصوصياته ونسبه وحياته سيأتي لاحقاً في آخر هذه الآيات ـ إن شاء الله.

ثمّ تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه (إذ قال

[ 387 ]

لقومه ألا تتّقون).

أي اتّقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم، وكلّ ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين).

ومن هنا يتّضح أنّ قومه كانوا يعبدون صنماً إسمه (بعل) ويسجدون له، وأنّ هذا النّبي كان يدعوهم إلى ترك هذا العمل القبيح، والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم وتوحيده وعبادته.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ إلياس كان مبعوثاً إلى مدينة «بعلبك» إحدى مدن بلاد الشام(1) لأنّ (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل: إنّ الصنم (بعل) كان مصنوعاً من الذهب وطوله حوالي (20) ذراعاً وله أربعة أوجه، وخدمته كانوا (400) شخصاً(2).

ولكن البعض ذهبوا إلى أنّ (بعل) ليس إسماً لصنم معيّن، بل يطلق بصورة عامّة على الأصنام، فيما قال البعض الآخر: إنّها تعني (الربّ والمعبود). وقال (الراغب) في مفرداته: إنّ كلمة «بعل» تعني (الزوج) أمّا العرب فتطلقها على الأصنام التي تعبدها والتي بواسطتها يقربون إلى الله سبحانه وتعالى على حدّ زعمهم.

وعبارة (أحسن الخالقين) رغم أنّها تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ولا يوجد خالق سواه، فهي تشير أيضاً حسب الظاهر إلى الأشياء المصنوعة، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغيّر شكل المواد الطبيعية، ومن هنا سمّي بالخالق، رغم أنّه تعبير مجازي.


1 ـ بعلبك اليوم جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية.
2 ـ «روح المعاني» ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

[ 388 ]

على أيّة حال، فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة، وقال لهم: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

إذ أنّ الله مالككم ومربّيكم، وكلّ نعمة عندكم فهي منه، وأي مشكلة عندكم تتيسر بقدرته، فغيره، لا يعدّ مصدراً للخير والبركة، ولا يمكنه دفع الشرّ والبلاء عنكم.

الظاهر هنا أنّ المشركين في زمان إلياس، قالوا ـ كما قال المشركون في زمان نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إنّنا نتّبع سنن أجدادنا الأوّلين، فأجابهم إلياس (عليه السلام) بقوله: (الله ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين).

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والتفكير، لأنّ أهمّ قضيّة في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلاّ أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اُذناً صاغية لنصائحه ومواعظه، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنّما كذّبوه (فكذّبوه).

ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها: إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنّم (فإنّهم لمحضرون) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حقّ هؤلاء، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية (إلاّ عباد الله المخلصين)(1).

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اُخرى.


1 ـ وفقاً لما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا الإستثناء هو استثناء متّصل من (الواو) في «كذّبوه»، وتعني أنّ كلّ قومه كذّبوه وابتلوا بالعذاب الإلهي، عدا عباد الله المخلصين.

[ 389 ]

قوله تعالى: (وتركنا عليهما في الآخرين) أي إنّ الاُمم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد، وسقاية شجرة الإيمان، وما دامت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإنّ رسالتهم ستبقى حيّة وخالدة.

وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين، قال تعالى: (سلام على إل ياسين).

إستخدام عبارة (الياسين) بدلا عن (الياس) إمّا لكونها من الناحية اللغوية لفظاً لـ (إلياس) واللتين لهما نفس المعنى، أو أنّها إشارة إلى (إلياس) وأتباعه المؤمنين، فوردت بصورة الجمع(1).

وفي المرحلة الثالثة، قال تعالى: (إنّا كذلك نجزي المحسنين).

«الإحسان» هنا شمل، معنىً واسعاً وهو العمل بكلّ السنن والأوامر، ومن ثمّ الجهاد ضدّ كافّة أشكال الشرك والإنحراف والذنوب والفساد.

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: (إنّه من عبادنا المؤمنين).

«الإيمان» و «العبودية» لله هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.