على أيّة حال، فإنّ اُولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي، وعندما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما إستغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم.

هذه كانت سنّة الله مع كلّ الاُمم السابقة، وستبقى كذلك، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر


1 ـ البعض قال: إنّ (التاء) زائدة وإعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما إعتبر البعض أنّ (لا) هنا (نافية للجنس) والبعض شبّهها بـ (ليس) وعلى أيّة حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاماً خاصّة، منها من المؤكّد أنّها تستخدم للزمان، والاُخرى أنّ إسمها أو خبرها محذوف دائماً، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفاً، وطبقاً لهذا فإنّ عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص).
2 ـ مفردات الراغب، تفسير فخر الرازي، تفسير روح المعاني، كتاب مجمع البحرين مادّة (نوص).

[ 446 ]

ولا تتبدّل.

ومن المؤسف أنّ الناس ـ على الأغلب ـ غير مستعدّين للإتّعاظ من تجارب الآخرين، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة، التجارب التي تقع أحياناً مرّة واحدة في طول عمر الإنسان، ولا تتكرّر ثانية، وبصورة أوضح: إنّها الاُولى والأخيرة.

 

* * *

[ 447 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَعَجِبُوآ أَن جَآءَهُم مُّنِذرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـفِرُونَ هَذَا سَـحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الاَْلِهَةَ إِلَـهاً وَحِداً إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ(5)وَانطَلَقَ الْمَلاَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَـذَا فِى الْمِلَّةِ الاَْخِرَةِ إِنْ هَـذَا إِلاَّ اخْتِلَـقٌ (7)

 

أسباب النّزول

سبب نزول هذه الآيات يشبه سبب نزول الآيات السابقة، وغير مستبعد أن يكون هناك سبب واحد لنزول كلّ تلك الآيات.

ولكن بما أنّ سبب النّزول المذكور لهذه الآيات يحوي مطالب جديدة، نذكره كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم، حيث جاء فيه: بعد أن أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الدعوة، إجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: ياأبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم، جمعنا له حالا حتّى يكون أغنى رجل في قريش، ونملكه علينا.

فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابه رسول الله قائلا: «لو وضعوا الشمس

[ 448 ]

في يميني والقمر في يساري ما تركته، ولكن كلمة يعطوني يملكون بها العرب وتدين بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنّة».

فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشرة كلمات بدلا من واحدة، أي كلمة تقصد أنت؟

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله».

تضايقوا كثيراً عند سماعهم هذا الجواب، وقالوا: ندع ثلاث مائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟ إنّه لأمر عجيب؟ نعبد إلهاً واحداً لا يمكن مشاهدته ورؤيته.

وهنا نزلت هذه الآيات المباركة (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذّاب ... إنّ هذا إلاّ إختلاق)(1).

هذا المعنى ورد أيضاً في تفسير مجمع البيان مع إختلاف بسيط، إذ ذكر صاحب تفسير مجمع البيان في آخر الرواية أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعبر بعد أن سمع جواب زعماء قريش وقال: «ياعمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى انفذه أو اُقتل دونه» فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبداً(2).

* * *

 

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كلّ تلك الآلهة؟

المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكلّ القيم. لذا فعندما رفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواء التوحيد في مكّة، وأعلن الإنتفاضة ضدّ الأصنام الكبيرة


1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 442 الحديث 7.
2 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، الصفحة 465.

[ 449 ]

والصغيرة في الكعبة، والبالغ عددها (360) صنماً، تعجّبوا: لماذا جاءهم النذير من بينهم؟ (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم).

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل منهم .. فلماذا لم تنزل ملائكة من السماء بالرسالة؟.. هؤلاء تصوّروا أنّ نقطة القوّة هذه نقطة ضعف، فالذي يبعث من بين قوم، هو أدرى بإحتياجات وآلام قومه، كما أنّه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات حياتهم، ويمكن أن يكون لهم اُسوة وقدوة، إلاّ أنّهم اعتبروا هذا الإمتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

وأحياناً كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة إتّهام رسول الله بالسحر والكذب (وقال الكافرون هذا ساحر كذّاب).

وقلنا عدّة مرّات: إنّ إتّهامهم الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع، وإتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه باُمور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءاً من الاُمور المسلّم بها في ذلك المجتمع، وإدّعاء الرسالة من الله.

وعندما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته لتوحيد الله، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له: تعالى واسمع العجب العجاب (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب)(1).

نعم، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع، تساهم جميعاً في تغيّر بصيرة الإنسان، وجعله متعجّباً من بعض الاُمور الواقعية والواضحة، في حين يصرّ بشدّة على التمسّك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة، وتقال لأمر عجيب مفرط في العجب.

فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنّه كلّما إزدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم


1 ـ «الجعل» بمعنى التصيير، وهو ـ كما قيل ـ تصيير بحسب القول والإعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع.

[ 450 ]

وقدرتهم، ولهذا السبب فإنّ وجود إله واحد يعدّ قليلا من وجهة نظرهم، في حين ـ كما هو معلوم ـ أنّ الأشياء المتعدّدة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائماً محدودة، والوجود اللامحدود واحد لا أكثر، ولهذا السبب فإنّ كلّ الدراسات في معرفة الله تنتهي إلى توحيده.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل، خرجوا من بيته، ثمّ إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحمّلوا المشاق لأجله، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام، وإنّه يريد أن يترأّس علينا (وإنطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد).

«إنطلق» مشتقّة من (إنطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم.

وجملة (لشيء يراد) تعني أنّ هناك أمراً يراد بنا. ولكونها جملة غامضة بعض الشيء، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة، منها: أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها، وقالت: إنّ ظاهرها يدعو إلى الله، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب، وما هذه الدعوة إلاّ ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر، أي السيادة والرئاسة، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم، وهذا الاُسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى

[ 451 ]

رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي إهتمام، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم، أي بأصنامهم.

ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح، عندما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم).(1)

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو: ياعبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم، لأنّ هذا هو المطلوب منكم.

أمّا البعض الآخر فقد قال: المقصود هو أنّ محمّداً يستهدفنا نحن، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب!

فيما إحتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّداً لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم.

وأخيراً إحتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا، وعلى أيّة حال، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا.

وبالطبع، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير.

وعلى أيّة حال، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوامّ الناس وإقناع أنفسهم، قال زعماء المشركين (ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلاّ إختلاق).


1 ـ المؤمنون، 24.

[ 452 ]

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمراً واقعيّاً لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصيّة قد أدركوا ذلك، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم، لذا فهو مجرّد حديث كاذب وليست له سابقة.

وعبارة (الملّة الآخرة) يحتمل أنّها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل بالنسبة لهم، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصّة (النصارى) الذين كانوا آخر الملل، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنّنا لم نعثر في كتب النصارى على شيء ممّا يقوله محمّد، وذلك لأنّ كتب النصارى كانت تقول بالتثليث، أمّا التوحيد الذي دعا إليه محمّد فإنّه أمر جديد.

ولكن يتّضح من آيات القرآن الكريم أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين على كتب اليهود والنصارى، وإنّما إعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع أجدادهم وآبائهم، وهذا دليل على صحّة التّفسير الأوّل.

«إختلاق» مشتقّة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة، كما تطلق هذه الكلمة على الكذب، وذلك لأنّ الكذّاب غالباً ما يطرح مواضيع لا وجود لها، ولهذا فإنّ المراد من كلمة (إختلاق) في الآية ـ مورد البحث ـ أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبيّ مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين، وهذا دليل على بطلانه.

* * *

 

ملاحظة

الخوف من الجديد!

الخوف من القضايا والاُمور المستحدثة والجديدة كانت ـ على طول التاريخ ـ أحد الأسباب المهمّة التي تقف وراء إصرار الاُمم الضالّة على إنحرافاتها، وعدم إستسلامها لدعوات أنبياء الله، إذ أنّهم يخافون من كلّ جديد، ولهذا كانوا ينظرون لشرائع الأنبياء بنظرة سيّئة جدّاً، وحتّى الآن هناك اُمم كثيرة تحمل آثاراً من هذا

[ 453 ]

التفكير الجاهلي، في الوقت الذي لم تكن فيه دعوة الرسل للتوحيد أمراً جديداً، ولا يمكن أن تكون حداثة الشيء دليلا على بطلانه، فيجب أن نتّبع المنطق، ونستسلم للحقّ أينما كان وممّن كان.

والأمر العجيب أنّ مسألة الخوف من الأمر الجديد ـ مع شديد الأسف ـ قد طالت بعض العلماء أيضاً ـ إذ يتّخذون موقفاً معارضاً للنظريات العلمية الحديثة ويقولون: (إنّ هذا إلاّ إختلاق).

وهذا الأمر شوهد بصورة خاصّة في تأريخ الكنيسة المسيحية، إذ أنّهم كانوا يتّخذون مواقف سلبية تجاه الإكتشافات العلمية لعلماء الطبيعة، وكان أحدهم «غاليلو» إذ تعرّض لأشدّ هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أنّ الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها، حيث كانوا يقولون: إنّ هذا الكلام بدعة.

وأكثر ما يثير العجب أنّ بعض العلماء الكبار، كانوا عندما يتوصّلون إلى حقائق علمية جديدة، يعمدون إلى البحث في اُمّهات الكتب لعلّهم يعثرون على علماء سابقين يوافقونهم في الرأي، وذلك خوفاً من تعرضهم لهجمات المعارضين وبهذا الاُسلوب إستطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم وكأنّها قديمة وليست بجديدة، وهذا أمر مؤلم جدّاً.

ومثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب (الأسفار) فيما ورد عن النظرية المعروفة بـ (الحركة الجوهرية) لصدر المتألهين الشيرازي.

على أيّة حال فإنّ طريقة التعامل مع القضايا الحديثة والإبتكارات الجديدة أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنساني وفي عالم العلم والمعرفة، وعلى أصحاب العلاقة أن يعملوا بجدّ لإصلاح هذا الأمر، وإزالة الرسوبات الجاهلية من أفكار الرأي العامّ.

[ 454 ]

إلاّ أنّ هذا الحديث لا يعني قبول كلّ رأي جديد لكونه جديداً، حتّى ولو كان بلا أساس، إذ يصبح حينئذ نفس التمسّك بالجديد بلاءاً عظيماً كعشق القديم، فالإعتدال الإسلامي يدعونا إلى عدم الإفراط أو التفريط في العمل.

 

* * *

[ 455 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاَْسْبَبِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاَْحْزَابِ(11)

 

التّفسير

الجيش المهزوم:

الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين. فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار (أأنزل عليه الذكر من بيننا).

ألم يجد الله شخصاً آخر لينزل عليه قرآنه، غير محمّد اليتيم والفقير ـ خاصّة

[ 456 ]

وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون.

هذا المنطق لم يكن منحصراً بذلك الزمان فقط، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان، وحتّى في زماننا، فإن تولّى شخص ما مسؤولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن: ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة فقيرة وغير معروفة؟

نعم، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين، ولكن حبّ الدنيا من جهة، وحسدهم من جهة اُخرى، تسبّبا في أن يبتعدوا عن الإسلام والقرآن، ويقولوا إلى عبدة الأصنام: إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون (ألم تر إلى الذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذي آمنوا سبيلا).(1)

من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول: إنّ مرض اُولئك شيء آخر، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله (بل هم في شكّ من ذكري).

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلاّ أعذار واهية، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية (بل لمّا يذوقوا عذاب)أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب جسروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)


1 ـ النساء، 51.

[ 457 ]

ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.

نعم، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم، لذا يجب أن يعاقب اُولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم: هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهيّة كي يهبوا أمر النبوّة لمن يرغبون فيه، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟ (أم عندهم خزائن رحمة ربّك العزيز الوهّاب).

فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه، وباريء عالم الوجود وعالم الإنسانية، ينتخب لتحمل رسالته شخصاً يستطيع قيادة الاُمّة إلى طريق التكامل والتربية. وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين، فمقام النبوّة عظيم، والله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار في منحه. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شيء يريده، ويمنح مقام النبوّة لكلّ من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ممّا يذكر أنّ كلمة (الوهّاب) جاءت بصيغة المبالغة، وتعني كثير المنح والعطايا، وهي هنا تشير إلى أنّ النبوّة ليست نعمة واحدة، وإنّما هي نعم متعدّدة، تتّحد فيما بينها لتمكّن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمّته، وهذه النعم تشمل العلم والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة.

ونقرأ في الآية (32) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام، قال تعالى: (أهم يقسّمون رحمة ربّك) أي إنّهم يُشكِلون عليك بسبب نزول القرآن عليك، فهل أنّهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة ربّ العالمين؟

هذا ويمكن الإستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية، وحقّاً هي كذلك، فلولا بعث الأنبياء لخسر الناس الدنيا والآخرة، كما خسرها اُولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء.

[ 458 ]

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع، ولكن من جانب آخر، حيث قالت: (أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب).

هذا الكلام في حقيقته يعدّ مكمّلا للبحث السابق، إذ جاء في الآية السابقة: إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم، والآن تقول الآية التالية لها: بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم، وإنّما هي تحت تصرّف البارىء عزّوجلّ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

وعلى هذا، فلا «المقتضي» تحت إختياركم، ولا القدرة على إيجاد «المانع»، فماذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذاً، موتوا بغيظكم وحسدكم، وافعلوا ما شئتم ..

وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعاً واحداً كما توهّمه مجموعة من المفسّرين، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانباً من جوانب الموضوع.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لاُولئك المغرورين السفهاء، قال تعالى: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب)(1) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين ..

«هنالك» إشارة للبعيد، وبسبب وجودها في الآية، فقد إعتبر بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشيء عن مكّة المكرّمة.

وإستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كلّ المجموعات التي وقفت ضدّ رسل الله، والذين أبادهم الباري عزّوجلّ، ومجتمع مكّة المشرك هو مجموعة صغيرة من تلك المجموعات، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على


1 ـ (ما) تعدّ زائدة في هذه العبارة، إنّما جاءت للتحقير والتقليل، و (جند) خبر لمبتدأ محذوف، و (مهزوم) خبر ثان والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و (جند) مبتدأ و (مهزوم) خبر، ولكن الرأي الأوّل أنسب.

[ 459 ]

هذا الحديث هو ما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرّق لهذه المسألة).

ولا ننسى أنّ هذه السورة من السور المكيّة، ونزلت في وقت كان فيه عدد المسلمين قليلا جدّاً، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة، قال تعالى: (تخافون أن يتخطّفكم الناس).(1)

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أيّة دلائل توضّح إمكانية إنتصار المسلمين، حيث لم تكن المعارك قد وقعت، ولا الإنتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحقّقت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء ـ الذين هم مجموعة صغيرة ـ سيهزمون في نهاية المطاف.

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كلّ الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (1400) عام، في أنّ الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب، إن تمسّك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.

 

* * *


1 ـ سورة الأنفال، 26.

[ 460 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الاَْوْتَادِ (12)وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوط وَأَصْحَـبُ لْئَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الاَْحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَـؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاق (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

 

التّفسير

تكفيهم صيحة سماوية واحدة:

تتمّة للآية الآنفة الذكر، التي بشّرت بهزيمة المشركين مستقبلا، ووصفتهم بأنّهم مجموعة صغيرة من الأحزاب، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي كذّبت رسلها، وبيّنت المصير الأليم الذي كان بإنتظارها.

إذ تقول، إنّ أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذّبت قبلهم بآيات الله ورسله (كذّبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد).

كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة ـ أي قوم شعيب ـ كانت هي الاُخرى

[ 461 ]

قد كذّبت رسلهم (وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة اُولئك الأحزاب)(1).

نعم، هذه هي ستّة مجاميع من أحزاب الجهل وعبادة الأصنام، التي عملت ضدّ أنبياء الله، ورفضت قبول ما جاؤوا به من عند الله.

فقوم نوح واجهوا هذا النّبي العظيم.

وقوم عاد واجهوا نبيّ الله «هود».

وفرعون وقف ضدّ «موسى وهارون».

وقوم ثمود وقفوا بوجه «صالح».

وقوم لوط وقفوا بوجه نبي الله «لوط».

وأصحاب الأيكة واجهوا نبي الله «شعيب».

إذ كذّبوا وآذوا أنبياء الله والمؤمنين وبذلوا في ذلك قصارى جهودهم، ولكن في نهاية الأمر نزل عليهم العذاب الإلهي وجعلهم كعصف مأكول.

فقوم نوح اُبيدوا بالطوفان وسيول الأمطار.

وقوم عاد اُبيدوا بالأعاصير الشديدة.

وفرعون وأتباعه اُغرقوا في نهر النيل.

وقوم ثمود اُهلكوا بالصيحة السماوية.

وقوم لوط بالزلزلة الرهيبة المقترنة بأمطار الحجارة السماوية.

وقوم شعيب اُبيدوا بالصاعقة المهلكة التي نزلت عليهم من السحب الكثيفة التي غطّت سماء المنطقة، وبهذا الشكل فإنّ (الماء) و (الهواء) و (التراب) و (النار) التي تشكّل اُسس حياة الإنسان، كانت السبب في موت وإبادة تلك الأقوام الطائشة والعاصية، وجعلهم في طي النسيان، حيث لم يبق لهم أيّ أثر. فعلى مشركي مكّة


1 ـ عبارة (اُولئك الأحزاب) مبتدأ وخبر، و (اُولئك) إشارة إلى الأقوام الستّة المذكورة في هاتين الآيتين، و (أحزاب) إشارة إلى الأحزاب التي وردت في الآيتين السابقتين اللتين إعتبرتا مشركي مكّة مجموعة صغيرة من تلك المجموعات.

[ 462 ]

أن يدركوا بأنّهم لا يعدّون سوى مجموعة صغيرة بالنسبة إلى تلك الأقوام، فلِمَ لا يصحون من غفلتهم.

وصف (فرعون) بـ (ذي الأوتاد) أي (صاحب الأوتاد القويّة) في الآيات المذكورة أعلاه، وفي الآية (10) من سورة الفجر، كناية عن قوّة حكم فرعون والفراعنة وثباته، وتستعمل هذه الكناية بكثرة، فيقال: الشخص الفلاني أوتاده ثابتة، أو إنّ أوتاد هذا العمل ثابتة، أو إنّها مثبتة بأربعة أوتاد، وذلك لأنّ الأوتاد دائماً تستخدم لتثبيت أركان الخيمة.

والبعض إعتبرها إشارة إلى كثرة جيوش فرعون السائرة في الأرض وكثرة أوتاد خيامهم.

والبعض الآخر قال: إنّها إشارة إلى التعذيب الوحشي الذي كان الفراعنة يعذّبون به معارضيهم، إذ كانوا يربطون الأشخاص بأربعة أوتاد على الأرض أو على الخشبة أو على الحائط، وكانوا يثبتون وتدين في الرجلين، ووتدين آخرين في اليدين ويتركون الشخص يتعذّب حتّى يموت.

وأخيراً، احتمل البعض أنّ الأوتاد تعني الأهرامات الموجودة في أرض مصر، والتي تقوم في الأرض كالأوتاد، ولأنّ الفراعنة هم الذين بنوا الأهرامات، فإنّ هذا الوصف ينحصر بهم فقط.

على أيّة حال فإنّه لا يوجد أيّ إختلاف بين تلك الإحتمالات، ومن الممكن جمعها لتعطي مفهوم هذه الكلمة.

أمّا (الأيكة) فإنّها تعني الشجرة، و (أصحاب الأيكة) هم قوم نبي الله «شعيب» الذين كانوا يعيشون في منطقة خضراء بين الحجاز والشام، وقد تمّ التطرّق إليها بصورة موسّعة في تفسير الآية (78) في سورة الحجرات.

نعم، فكلّ قوم من هذه الأقوام كذّب بما جاء به رسل الله، وأنزل العذاب الإلهي

[ 463 ]

بحقّه (إنّ كلّ إلاّ كذّب الرسل فحقّ عقاب)(1).

والتأريخ بيّن كيف أنّ كلّ قوم من تلك الأقوام اُبيد بشكل من أشكال العذاب، وكيف أنّ مدنهم تحوّلت إلى خرائب وأطلال خلال لحظات، وأصبح ساكنوها أجساد بلا أرواح!!

فهل يتوقّع مشركو مكّة أن يكون مصيرهم أفضل من مصير اُولئك من جرّاء الأعمال العدائية التي يقومون بها؟ في حين أنّ أعمالهم هي نفس أعمال اُولئك، وسنّة الله هي نفس تلك السنّة؟

لذا فإنّ الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة: ما ينتظر هؤلاء من جرّاء أعمالهم إلاّ صيحة سماوية واحدة تقضي عليهم وتهلكهم وما لهم من رجوع، (وما ينظر هؤلاء إلاّ صيحة واحدة ما لها من فواق).

يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام الماضية، كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالا عنيفاً يدمّر حياتهم وينهيها.

وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة، التي عبّر عنها القرآن الكريم بـ (النفخة الاُولى في الصور).

إعترض بعض المفسّرين على التّفسير الأوّل، وإعتبروه مخالفاً لما جاء في الآية (33) من سورة الأنفال التي تقول: (وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم).

أمّا بالنظر إلى أنّ المشركين كانوا لا يعتقدون برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يؤمنون برسالته، بالإضافة إلى كون أعمالهم تشابه أعمال الأقوام السابقة التي اُهلكت بالصيحات السماوية، لذا فعليهم أن يتوقّعوا مثل ذلك المصير وفي أيّ لحظة، لأنّ الآية تتحدّث عن (الإنتظار).

كما إعترض آخرون على التّفسير الثاني بأنّ مشركي مكّة لن يبقوا أحياء حتّى


1 ـ عبارة (فحقّ عقاب) في الأصل (فحقّ عقابي)، وقد حذفت الياء منها، طبقاً للمعمول به، وأُبقيت الكسرة لتدلّ عليها. (حقّ) فعل و (عقاب) فاعل، يعني أنّ عقابي وجب عليهم وسيتحقّق.

[ 464 ]

آخر الزمان كي تشملهم الصيحة.

ولكن هذا الإعتراض غير وارد، لنفس السبب الذي ذكرناه من قبل، وهو أنّه  لا أحد من الناس يعلم لحظة نهاية العالم وقيام الساعة، ولذا فعلى المشركين أن يترقّبوا لحظة بلحظة تلك الصيحة(1).

على أيّة حال، فكأنّ اُولئك الجهلة ينتظرون العذاب الإلهي جزاء تكذيبهم وإنكارهم لآيات الله سبحانه وتعالى، وتقوّلهم على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلام  لا يليق، وإصرارهم على عبادة الأصنام، والظلم وإشاعة الفساد، العذاب الذي سيحرق حصيلة أعمارهم، أو الصيحة التي تنهي كلّ شيء في العالم، وتؤدّي باُولئك إلى طريق لا رجعة فيه.

«فواق» على وزن (رواق) وقد ذكر أهل اللغة والتّفسير عدّة معان لها منها: أنّها الفاصل بين كلّ رضعتين، إذ بعد فترة معيّنة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود فينزل إليه اللبن من جديد.

وقال البعض: إنّها الفاصل بين فتح الأصابع عن الثدي بعد حلبه وإعادتها لحلبه مرّة اُخرى.

وبما أنّ الثدي يستريح قليلا بعد كلّ حلبة، فكلمة (فواق) يمكن أن تعطي معنى الهدوء والراحة.

وبما أنّ هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرّة اُخرى إلى الثدي فإنّ هذه الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع، كما يقال للمريض الذي تتحسّن حالته الصحيّة بأن (أفاق) وذلك لأنّه إستعاد صحّته وسلامته، كما يقال لحالة السكران الذي يصحو من سكرته وللمجنون عندما يستعيد عقله «إفاقة» عند عودتهما إلى