1 ـ تفسير الصافي، مجلّد 4، صفحة 258
2 ـ «طمسنا» من طمس ـ على وزن شمس ـ بمعنى إزالة الأثر بالمحو، هذه الإشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.
3 ـ «مكانتهم» بمعنى محل التوقّف، وهي إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن اْنسانيتهم في محل توقّفهم، يغيّر أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماماً كالتمثال الخالي من الروح.
4 ـ لسان العرب ـ قطر المحيط ـ المنجد «مادّة سبق».

[ 224 ]

سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا، ولكن للطفه ورحمته فإنّه يمتنع عن ذلك، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيّهم إلى طريق الحقّ.

ولكن يوجد إحتمال آخر أيضاً، وهو أنّ الآيات تشير إلى العقوبات الإلهيّة في يوم القيامة لا في الدنيا، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى «الختم على أفواههم» في الآية السابقة، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء لأجراها عليهم:

الأوّل: الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية «الصراط» أي طريق الجنّة.

الثاني: أنّ هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنّهم يتحوّلون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم ويظلّون حيارى في مشهد المحشر، وليس لهم طريق للتقدّم أو للتراجع، إنّ تناسب الآيات ـ طبعاً ـ يؤيّد هذا التّفسير الأخير، وإن كان أكثر المفسّرين قد اتّفقوا على قبول التّفسير السابق(1).

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذاراً لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلا، ولتكون جواباً على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم، وكذلك لتكون دليلا على قدرة الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير .. قادر على مسألة المعاد بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول الآية الكريمة: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون).

«ننكّسه» من مادّة «تنكيس» وهو قلب الشيء على رأسه. وهي هنا كناية عن


1 ـ ذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» هذا التّفسير على انّه الوحيد، في حين انّ التّفسير السابق إختاره كلّ من تفسير: مجمع البيان ـ التبيان ـ الميزان ـ الصافي ـ روح المعاني ـ روح البيان ـ القرطبي ـ التّفسير الكبير.

[ 225 ]

الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة. فالإنسان منذ بدء خلقته ضعيف، ويتكامل تدريجيّاً ويرشد، وفي أطواره الجنينية يشهد في كلّ يوم طوراً جديداً ورشداً جديداً، وبعد الولادة ـ أيضاً ـ يستمرّ في مسيره التكاملي جسمياً وروحياً وبسرعة، وتبدأ القوى والإستعدادات التي أخفاها الله في أعماق وجوده بالظهور تدريجيّاً الواحدة تلو الاُخرى، في طور الشباب، ثمّ طور النضج، ليبلغ الإنسان أوج تكامله الجسمي والروحي.

وهنا تنفصل الروح عن الجسد في تكاملها ونموّها، فتستمر في تكاملها في حال أنّ الجسد يشرع بالنكوص، ولكن العقل في النهاية يبدأ هو الآخر بالتراجع أيضاً، فيعود تدريجيّاً ـ وأحياناً بسرعة ـ إلى مراحل الطفولة، ويتساوق ذلك مع الضعف البدني أيضاً، مع الفارق طبعاً، فالآثار التي تتركها حركات وروحيات الأطفال على النفس هي الراحة والجمال والأمل ولهذا فهي مقبولة منهم، ولكنّها من أهل الشيخوخة، قبيحة ومنفّرة، وفي بعض الأحيان قد تثير الشفقة والترحّم، فالشيخوخة أيّام عصيبة حقّاً، يصعب تصوّر عمق آلامها.

في الآية (5) سورة الحجّ أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى، قائلا: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً). لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّاً فهو «أسير الله في الأرض»(1).

وعلى كلّ حال فإنّ جملة (أفلا يعقلون) تشعّ تنبيهاً عجيباً بهذا الخصوص، وتقول للبشر: إنّ هذه القدرة والقوّة التي عندكم لو لم تكن على سبيل «العارية» لما أخذت منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم يد قدرة اُخرى قادرة على كلّ شيء، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلّصوا أنفسكم، وقبل أن يتبدّل هذا النشاط


1 ـ ورد هذا الحديث في سفينة البحار مادّة (عمر).

[ 226 ]

والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد، لأنّه لم يمكنكم أداء أي عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف والمرض. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا ذرّ أنّه قال: «اغتنم خمساً: قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).

 

* * *


1 ـ بحار الأنوار، مجلّد 77، صفحة 75، حديث ـ 3.

[ 227 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

وَمَا عَلَّمْنَـهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ(69) لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـفِرِينَ (70)

 

التّفسير

انّه ليس بشاعر .. بل نذير!!

قلنا أنّ في هذه السورة بحوثاً حيّة وجامعة حول اُصول الإعتقادات: التوحيد، والمعاد، والنبوّة، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من الآيات.

طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد، وتعود هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوّة، وقد أشارتا إلى أكثر الإتّهامات رواجاً والتي اُثيرت بوجه الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وردّت عليهم ردّاً قويّاً، منها اتّهام الرّسول بكونه شاعراً، فقالت: (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له).

لماذا اتّهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإتّهام مع أنّه لم يقل الشعر أبداً؟

كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر الذي كان محسوساً للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه

[ 228 ]

ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتّى في نفوس الكفّار الذين كانوا أحياناً يأتون إلى جوار منزل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بشكل خفي ليلا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.

وكم من الأشخاص الذين تولّعوا وعشقوا الإسلام لمجرّد سماعهم القرآن الكريم وأعلنوا إسلامهم في نفس المجلس الذي استمعوا فيه إلى بعض آياته.

وهنا حاول الكفّار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض إستغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحياً إلهيّاً، فأشاعوا تهمة الشعر في كلّ مكان، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل إعترافاً ضمنياً بتميّز كلام القرآن الكريم.

وأمّا لماذا لا يليق بالرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون شاعراً، فلأنّ طبيعة الشعر تختلف تماماً عن الوحي الإلهي، للأسباب التالية:

1 ـ إنّ أساس الشعر ـ عادةً ـ هو الخيال والوهم، فالشاعر غالباً ما يحلّق بأجنحة الخيال، والحال أنّ الوحي يُستمدّ وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول محور الحقيقة.

2 ـ الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيّرة، وهي في حال تغيّر وتبدّل مستمرين، أمّا الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.

3 ـ لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة، إلى درجة أن قيل «أحسن الشعر أكذبه»، أمّا الوحي فليس إلاّ الصدق.

4 ـ الشاعر في أغلب الموارد وجرياً وراء التزويق اللفظي يكون مجبراً على السعي وراء الألفاظ، ممّا يضيع الكثير من الحقائق في الأثناء.

5 ـ وأخيراً يقول أحد المفسّرين: إنّ الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلّق منطلقة من الأرض باتّجاه السماء، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى الأرض، وهذان الإتّجاهان واضح تفاوتهما.

وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام اُولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق

[ 229 ]

باتّجاه أهداف مقدّسة، ويصونون أشعارهم من كلّ ما لا يرضي الله، وعلى كلّ حال فإنّ طبيعة أغلب الشعراء كما أوردناه أعلاه.

لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر سورة الشعراء: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون وأنّهم يقولون ما لا يفعلون).(1)

طبعاً فإنّ نفس هذه الآيات تشير في آخرها إلى الشعراء المؤمنين الذين يسخّرون فنّهم في سبيل أهدافهم السامية، وهم مستثنون من ذلك التعميم ولهم حساب آخر.

ولكن على أيّة حال فإنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يكون شاعراً، وعندما يقول تعالى: (وما علّمناه الشعر) فمفهومه أنّه مجانب للشعر لأنّ جميع التعاليم النازلة إليه هي من الله تعالى.

والملفت للنظر أنّ التأريخ والروايات تنقل كثيراً من الأخبار التي تشير إلى أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يريد الإستشهاد ببيت من الشعر، فإنّه غالباً ما يقوله بطريقة منثورة.

فعن عائشة أنّها قالت: كان رسول الله يتمثّل ببيت أخي بني قيس فيقول:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار

فيقول أبو بكر: ليس هكذا يارسول الله فيقول: إنّي لست بشاعر وما ينبغي لي(2).

ثمّ يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين).

والهدف هو الإنذار وإتمام الحجّة: (لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على


1 ـ الشعراء، 224 ـ 226.
2 ـ مجمع البيان، ج4، ص433.

[ 230 ]

الكافرين)(1).

نعم، هذه الآيات «ذكر» ووسيلة تنبيه، هذه الآيات «قرآن مبين» يوضّح الحقّ بلا أدنى تغطية أو غمط، بل بقاطعية وصراحة، ولذا فهو عامل إنتباه وحياة وبقاء.

مرّة اُخرى نرى القرآن الكريم يجعل (الإيمان) هو (الحياة) و (المؤمنين) هم (الأحياء) و (الكفّار) هم «الموتى»، ففي جانب يذكر عنوان «حيّاً» وفي الطرف المقابل عنوان «الكافرون»، فهذه هي الحياة والموت المعنوي اللذان هما أعلى بمراتب من الموت والحياة الظاهريين. وآثارهما أوسع وأشمل، فإذا كانت الحياة والمعيشة بمعنى «التنفّس» و «أكل الطعام» و «الحركة»، فإنّ هذه الأعمال كلّها تقوم بها الحيوانات، فهذه ليست حياةً إنسانية، الحياة الإنسانية هي تفتّح أزهار العقل والفهم والملكات الرقيقة في روح الإنسان، وكذلك التقوى والإيثار والتضحية والتحكّم بالنفس، والتحلّي بالفضيلة والأخلاق، والقرآن ينمي هذه الحياة في وجود الإنسان.

والخلاصة: أنّ الناس ينقسمون حيال دعوة القرآن الكريم إلى مجموعتين: مجموعة حيّة يقظة تلبّي تلك الدعوة، وتلتفت إلى إنذاراتها، ومجموعة من الكفّار ذوي القلوب الميتة، الذين لا تؤمل منهم أيّة إستجابة أبداً، ولكن هذه الإنذارات سبب في إتمام الحجّة عليهم، وتحقّق أمر العذاب بحقّهم.

 

 

* * *

 


1 ـ جملة «لينذر ...» متعلّقة بـ «ذكر» الواردة في الآية السابقة، والبعض اعتبرها متعلّقة بـ «علمنا» أو «نزّلنا» تقديراً، ولكن الإحتمال الأوّل هو الأنسب على ما يبدو.

[ 231 ]

بحث

حياة وموت القلوب:

في الإنسان أنواع من الحياة والموت:

الأوّل: الحياة والموت النباتي الذي مظهره النمو والرشد والتغذية والتوالد، وهو في هذا الشأن يشابه جميع النباتات.

الثاني: الحياة والموت الحيواني. وأبرز مظاهرها «الإحساس» و «الحركة»، وهو مشترك في هاتين الصفتين مع جميع الحيوانات.

أمّا النوع الثالث من الحياة الخاصّ بالإنسان فقط، فهو (الحياة الإنسانية والروحية). وهو ما قصدته الروايات بقولها «حياة القلوب». حيث أنّ المقصود بالقلب هنا «الروح والعقل والعواطف» الإنسانية.

ففي حديث أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حول القرآن يقول: «وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب»(1).

وفي حديث آخر له عليه أفضل الصلاة والسلام يقول عن الحكمة والتعلّم: «واعلموا أنّه ليس من شيء إلاّ ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلاّ الحياة، فإنّه لا يجد في الموت راحة، وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميّت وبصر للعين العمياء»(2).

وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنّ من البلاء الفاقة، وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب، ألا وإنّ من صحّة البدن تقوى القلوب»(3).

ويقول عليه الصلاة والسلام: «ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلّ


1 ـ نهج البلاغة، خطبة 110، 133 وكلمات قصار 388.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.

[ 232 ]

حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه»(1).

ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم يشخّص للإنسان نوعاً خاصّاً من الإبصار والسماع والإدراك والشعور، غير النظر والسماع والشعور الظاهري، ففي الآية (171) من سورة البقرة نقرأ: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون).

وفي موضع آخر يقول تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(2)

كذلك يقول سبحانه: (ثمّ قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة).(3)

وحول مجموعة من الكافرين يعبّر تعبيراً خاصاً فيقول تعالى: (اُولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم).(4)

وفي موضع أخر يقول تعالى: (إنّما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثمّ إليه ترجعون).(5)

من مجموع هذه التعبيرات وتعبيرات كثيرة اُخرى شبيهة لها يظهر بوضوح أنّ القرآن يعدّ محور الحياة والموت، هو ذلك المحور الإنساني والعقلاني، إذ أنّ قيمة الإنسان تكمن في هذا المحور.

وفي الحقيقة فإنّ الحياة والإدراك والإبصار والسماع وأمثالها، تتلخّص في هذا القسم من وجود الإنسان، وإن اعتبر بعض المفسّرين هذه التعبيرات مجازية، إذ أنّ ذلك لا ينسجم مع روح القرآن هنا، لأنّ الحقيقة في نظر القرآن هي هذه التي يذكرها، والحياة والموت الحيوانيان هما المجازيان لا غير.

إنّ أسباب الموت والحياة الروحية كثيرة جدّاً، ولكن القدر المسلّم به هو أنّ النفاق والكبر والغرور والعصبية والجهل والكبائر، كلّها تميت القلب، ففي مناجاة


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار كلمة 345.
2 ـ البقرة ـ 10.
3 ـ البقرة، 74.
4 ـ المائدة، 41.
5 ـ الأنعام، 36.

[ 233 ]

التائبين التي تروى عن الإمام السجّاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية ورد «وأمات قلبي عظيم جنايتي».

والآيات مورد البحث تأكيد على هذه الحقيقة.

فهل أنّ من يرضى من حياته فقط بأن يعيش غير عالم بشيء في هذه الدنيا، ويجري دائماً مدار العيش الرغيد الرتيب، لا يعبأ بظلامة المظلوم، ولا يلبّي نداء الحقّ، يفكّر في نفسه فقط، ويعتبر نفسه غريباً حتّى عن أقرب الأقرباء، هل يعتبر مثل هذا إنساناً حيّاً؟

وهل هي حياة تلك التي تكون حصيلتها كميّة من الغذاء المصروف، وإبلاء بعض الألبسة، والنوم والإستيقاظ المكرور؟ وإذا كانت تلك هي الحياة فما هو فرقها عن حياة الحيوان؟

إذاً يجب أن نقرّ ونعترف بأنّ وراء هذه الحياة الظاهرية يكمن عقل وحقيقة أكّد عليها القرآن وتحدّث عنها.

الجميل أنّ القرآن يعتبر الموتى الذين كان لموتهم آثار الحياة الإنسانية أحياءاً، ولكن الأحياء الذين ليس فيهم أي من آثار الحياة الإنسانية فانّهم في منطق القرآن الكريم أموات أذلاّء.

 

* * *

[ 234 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـماً فَهُمْ لَهَا مَـلِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَـهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)

 

التّفسير

فوائد الأنعام للإنسان!!

يعود القرآن الكريم مرّة اُخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك، ويشير ـ ضمن تعداد قسم من آثار عظمة الله في حياة البشر، وحلّ مشكلاتهم ورفع حاجاتهم ـ إلى ضعف وعجز الأصنام، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك ويثبت بطلانه، وفي نفس الوقت يثبت حقّانية خطّ التوحيد.

تقول الآية الكريمة الاُولى: (أو لم يروا أنّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنعاماً فهم

[ 235 ]

لها مالكون)(1).

ولكي يستفيدوا بشكل جيّد من هذه الحيوانات: (وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون).

ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحدّ، بل (ولهم فيها منافع ومشارب) وعليه (أفلا يشكرون) الشكر الذي هو وسيلة معرفة الله وتشخيص وليّ النعمة.

هنا يجب الإلتفات إلى بعض الاُمور:

1 ـ من بين النعم المختلفة التي تغمر الإنسان، أشارت الآية إلى نعمة وجود الأنعام، لأنّها تشكّل حضوراً دائماً في حياة الإنسان اليومية، إلى حدّ أنّ حياة الإنسان إقترنت بها، بحيث لو أنّها حذفت من صفحة حياة الإنسان فإنّ ذلك سيشكّل عقدة ومشكلة بالنسبة إلى معيشته وأعماله، غير أنّ الإنسان لا يلتفت إلى أهمّيتها لأنّه تعوّد رؤيتها يومياً.

2 ـ جملة (عملت أيدينا) كناية عن إعمال القدرة الإلهيّة بشكل مباشر، إذ أنّ أهمّ الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبّر عنها هي يداه، لهذا السبب كانت «اليد» كناية عن القدرة، كأن يقول أحدهم: «إنّ المنطقة الفلانية في يدي» كناية عن أنّها تحت سيطرته ونفوذه، ويقول القرآن في هذا الصدد (يد الله فوق أيديهم).(2)

وذكر «الأيدي» هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوّعة لقدرة الباري عزّوجلّ.

3 ـ جملة (فهم لها مالكون) المبتدأة بفاء التفريع، إشارة إلى أنّ الخلق مرتبط بقدرتنا، وأمّا المالكية فقد فوّضناها إلى الإنسان، وذلك منتهى اللطف الإلهي،


1 ـ جملة «أو لم يروا ...» جملة معطوفة على سابقتها بواو العطف، ولكن حين دخول الهمزة الإستفهامية على الجملة فإنّها تتصدّرها، (والرؤية) هنا بمعنى المعرفة، أو الإبصار.
2 ـ الفتح، 10.

[ 236 ]

وعليه فلا محلّ للإشكال الذي ظهر لبعض المفسّرين نتيجة وجود «فاء التفريع»، فالمعنى تماماً كما نقول لشخص: هذا البستان زرعناه وأعمرناه، استفد منه أنت، وهذا منتهى إظهار المحبّة والإيثار.

4 ـ جملة (وذلّلناها لهم) إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تذليل هذه الحيوانات للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك التذليل الإلهي، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أنّ عشرات الأشخاص لا يمكنهم الوقوف أمامها. وفي حالاتها الإعتيادية فإنّ قافلة كاملة من الجمال يقودها تارةً صبي لم يبلغ الحلم، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه!

إنّه لأمر عجيب حقّاً، فإنّ الإنسان غير قادر على خلق ذبابة، ولا حتّى ترويضها وتذليلها لخدمته، أمّا الله القادر المنّان فإنّه خلق ملايين الملايين من الحيوانات المختلفة، وذلّلها للإنسان لتكون في خدمته دوماً.

5 ـ جملة (فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) ـ مع الإلتفات إلى أنّ (ركوبهم) صفة مشبّهة بمعنى (مركوبهم) ـ إشارة إلى أنّ الإنسان ينتخب قسماً منها للركوب وقسماً آخر للتغذّي. وإن كان لحم أغلب الحيوانات المشهورة حلال بنظر الإسلام، إلاّ أنّ الإنسان إستفاد عمليّاً من بعضها فقط للتغذية، فمثلا لحم الحمير لا يستفاد منه إلاّ في الضرورة القصوى.

ومن الواضح انّ ذلك إذا اعتبرنا «منها» في كلا الجملتين «للتبعيض الإفرادي»، أمّا لو اعتبرنا الاُولى «للتبعيض الافرادي» والثانية «للتبعيض الأجزائي» يكون معنى الآية (بعض الحيوانات تنتخب للركوب وينتخب جزء من أجسامها للتغذية (إذ أنّ العظام وأمثالها غير قابلة للأكل).

6 ـ (لهم فيها منافع) إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الاُخرى التي تتحقّق للإنسان، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف الملابس والخيم والفرش، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية ووسائل اُخرى

[ 237 ]

مختلفة، وحتّى في عصرنا الحاضر الذي تميّزت فيه الصناعات التقليدية من منتجات الطبيعة لا زال الإنسان في مسيس الحاجة إلى الحيوانات من حيث التغذية ومن حيث الفوائد الاُخرى كالألبسة ووسائل الحياة الاُخرى. وحتّى بعض أنواع الأمصال واللقاحات ضدّ الأمراض التي يستفاد فيها من دماء بعض الحيوانات، بل حتّى أنّ أتفه الأشياء الحيوانية وهي روثها أصبح ومنذ وقت طويل مورد إستفادة الإنسان لتسميد المزارع وتغذية النباتات المثمرة.

7 ـ (مشارب) إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمّن مع منتجاته قسماً مهمّاً من المواد الغذائية للإنسان، بشكل أضحت فيه صناعة الحليب ومنتجاته تشكّل اليوم رقماً مهمّاً في صادرات وواردات الكثير من الدول، ذلك الحليب الذي يشكّل غذاء للإنسان، ويخرج من بين دم وفرث لبناً سائغاً يلتذّ به الشاربون، ويكون عاملا لتقوية الضعفاء.

8 ـ جملة (أفلا يشكرون) جاءت بصيغة الإستفهام الإستنكاري، وتهدف إلى تحريك الفطرة والعواطف الإنسانية لشكر هذه النعم التي لا تحصى، والتي ورد جانب منها في الآيات أعلاه، وكما نعلم فإنّ «لزوم شكر المنعم» أساس لمعرفة الله، إذ أنّ الشكر لا يمكن أن يكون إلاّ بمعرفة المنعم، إضافةً إلى أنّ التأمّل في هذه النعم وإدراك أنّ الأصنام ليس لها أدنى تأثير أو دخل فيها، سيؤدّي إلى إبطال الشرك.

لذا فإنّ الآية التالية، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول: (واتّخذوا من دون الله آلهة لعلّهم ينصرون).

فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة التافهة التي لا تملك لنفسها ـ ناهيك عن الآخرين ـ ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونها إلى جانب الله سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى، ويلجأون إليها لحلّ مشاكل حياتهم؟ نعم، فهم يلجأون إليها لتكون عزّاً لهم: (واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم

[ 238 ]

عزّاً).(1)

ويتوهّمون أنّها تشفع لهم عند الله (ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

على كلّ حال، فإنّ جميع هذه الأوهام نقش على الماء، وكما يقول القرآن الكريم في الآية (192) من سورة الأعراف: (ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون).

وعليه تضيف الآية التالية: إنّ المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين، وسيكون هؤلاء المشركون جنوداً مجنّدة يتقدّمونها إلى جهنّم: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون).

ويا له من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدّمها تلك الأصنام ليدخلوا جهنّم زمراً في ذلك اليوم العظيم، دون أن يستطيعوا حلّ عقدة مشكلة واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.

التعبير بـ (محضرون) يكون عادةً للتحقير، لأنّ إحضار الأفراد دون أن يكون لموافقتهم أو عدمها أثر إنّما يدلّل على حقارتهم، وبناءً على هذا التّفسير فإنّ الضمير الأوّل «هم» في جملة (وهم لهم جند محضرون) يعود على «المشركين»، والضمير الثاني يعود على «الأصنام»، في حال أنّ بعض المفسّرين احتملوا العكس بحيث تكون الأصنام والأوثان هي التابعة للمشركين في يوم القيامة. وفي نفس الوقت فإنّهم ـ المشركين ـ ليس لهم في الأوثان أدنى أمل، والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه التعابير تصدق ـ فقط ـ على المعبودات الحيّة ذات الشعور كالشياطين والعصاة من الجنّ والإنس، ولكن يحتمل أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يبعث الروح في تلك الأصنام والأوثان ويعطيها العقل والشعور لكي توبّخ


1 ـ مريم، 81.

[ 239 ]

هي اُولئك الذين عبدوها في الدنيا، وضمناً نقول إنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ستكون هي الحطب الذي يؤجّج على اُولئك المشركين نار جهنّم (إنّكم وما تعبدون من دون الله حَصَب جهنّم أنتم لها واردون).(1)

أخيراً ـ وفي آخر آية من هذه الآيات، ولمواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)وتثبيت فؤاده إزاء مكر المشركين، والفتن والأعمال الخرافية ـ تقول الآية الكريمة:

 (فلا  يحزنك قولهم) تارةً يقولون شاعر، واُخرى ساحر وأمثال ذلك من التهم (إنّا نعلم ما يسّرون وما يعلنون).

فلا تخفى علينا نواياهم، ولا مؤامراتهم في الخفاء، ولا جحودهم وتكذيبهم لآياتنا في العلن، نعلم بكلّ ذلك، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب، وستكون أنت أيضاً في أمان من شرّهم في هذه الدنيا.

وبهذا الحديث الإلهي المواسي يمكن لكلّ مؤمن أيضاً ـ مضافاً إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أن يكون مطمئن القلب بأنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بعين الله، وسوف لن يصيبه شيء من مكائد الأعداء، فهو تعالى لا يترك عباده المخلصين في اللحظات والمواقف العصيبة، وهو دوماً حام لهم وحافظ.

* * *

 

بحث

الثقافة التوحيدية تمنح عباد الله المؤمنين طريقة خاصّة في الحياة، تبعدهم عن السُبل الملوثة بالشرك القائمة على أساس عبادة الأوثان، أو اللجوء إلى بعض البشر الضعاف.

وبصراحة ووضوح أكثر نقول: في عالمنا اليوم وحيث تتحكّم في البشرية قدرتان من الشرق والغرب، فإنّ الدول الصغيرة ـ عادةً ـ وكلّ ما عدا تلكم


1 ـ الأنبياء، 98.

[ 240 ]

القدرتين ستفكّر لأجل حفظ نفسها والبقاء بالإتّكاء على إحدى تلك القدرتين الصنمين، وتطلب حمايتها والإفادة من قدرتها، في حال أنّ التجارب أثبتت أنّ هاتين القدرتين عند بروز المشاكل والحوادث المستعصية والإضطرابات لا تستطيع حلّ مشكلاتها ولا مشكلات من يدور في فلكها.

وما أجمل ما يقوله القرآن واصفاً هذه الحالة: (لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون)، وهذا تحذير لجميع المسلمين وسالكي طريق التوحيد الخالص، بأن يبتعدوا عن تلك الأصنام، ويلجأوا إلى ظلّ اللطف الإلهي، وأن يعتمدوا على أنفسهم، وعلى طاقة الإيمان، وأن لا يدعوا طريقاً لهذه الأفكار الإشراكية الملوّثة تصل إلى فكرهم بحيث يلجأون إلى تلك القدرات ويستنجدونها في الملمّات، وأن يطهّروا الثقافة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية من هذه الأفكار، وأن يعلموا بأنّهم قد نالوا ضربات عديدة حتّى الآن نتيجة هذا المنطق ـ سواء أمام إسرائيل الغاصبة أو الأعداء الآخرين ـ في حال أنّه لو كان هذا الأصل القرآني الأصيل يحكم فيهم فإنّ حالهم لم تكن لتبلغ هذا المستوى من الهزيمة والإنكسار، آملين أن نصل إلى اليوم الذي نعيد فيه بناء أفكارنا حسب المفاهيم والمبادىء القرآنية، وأن نعتمد على أنفسنا، ونلجأ إلى ظلّ اللطف الإلهي فنعيش أعزّاء مرفوعي الرؤوس أحراراً إن شاء الله.

 

* * *

[ 241 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَنُ أَنَّا خَلَقْنَهُ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـمَ وَهِىَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ (79)

 

سبب النّزول

نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «جاء أُبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظماً بالياً من حائط ففتّه ثمّ قال: إذا كنّا عظاماً ورفاتاً إنّا لمبعوثون خلقاً؟» فأنزل الله: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم).