«أيمان» جمع «يمين» بمعنى القسم، وفي الأصل فإنّ معنى اليمين هو اليد اليمنى، واليمين في الحلف مستعار منها إعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره من المصافحة باليمين عندها.

«جهد»: من «الجهاد» بمعنى السعي والمشقّة، وبذا يكون معنى (جهد أيمانهم)حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

نعم، فعندما طالعوا صفحات التأريخ، واطّلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصاً اليهود، تعجّبوا كثيراً وادّعوا لأنفسهم الإدّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.


1 ـ أغلب التفاسير.
2 ـ لأن «إحدى» جاءت بصيغة المفرد، فمعنى الآية «أنّهم سيكونون أكثر اهتداءاً من واحدة من الاُمم» وقد تكون الإشارة إلى اليهود (لأنّ صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الاُولى، ولكن كما أشار بعض المفسّرين فإنّ قرائن الحال تشير إلى أنّ المقصود من الآية العموم، لأنّ الحديث في مقام المبالغة والتأكيد، وتشير إلى إدّعائهم بأنّه في حال بعثة رسول إليهم فانّهم سيكونون أهدى من جميع الاُمم السابقة.

[ 113 ]

ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة، ودخلوا كورة الإمتحان المشتعلة، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاُولى من الآية بالقول: (فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً).

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وعلى خلاف ما يدّعون ـ بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلاّ أنّهم لم يكونوا يحترمونها، كذلك لم يكن لديهم أي إعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ، لكنّهم إزدادوا بعداً عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الإستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (استكباراً في الأرض)(1) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (ومكر السيىء)(2).

ولكن (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله).

جملة «لا يحيق»: الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط» إشارة إلى أنّ الإحتيال قد يؤدّي ـ مؤقتاً ـ


1 ـ أغلب المفسّرين قالوا بأنّ «استكباراً» هو «مفعول لأجله» من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة «النفور» وإبتعادهم عن الحقّ، و «مكر السيء» عطف على «إستكباراً» في حين أنّ البعض الآخر قال: إنّها عطف على «نفوراً».
2 ـ «مكر السييء» إضافة (للجنس) إلى (النوع)، كما هو نقول: «علم الفقه» لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيراً أو شرّاً، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه (ومكروا ومكر الله) آل عمران ـ 54، ولكن «السيء» تحصر المكر في نوع خاصّ منه، وهو الإحتيال.

[ 114 ]

إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله، وسيندمون حتماً أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة.

هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم وإستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين)(1).

هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم، والقرآن الكريم أشار مراراً إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا). فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوماً على أعمال معيّنة، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم، وكلّ ما يفعله بناءً على حكمة وعدل تاميين؟!

فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك إطّلاعاً أو معرفة محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة، أو يكون الإنسان عالماً، إلاّ أنّه لا يتصرّف طبقاً للحكمة والعدالة، بل طبقاً لميول خاصّة في نفسه، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الاُمور، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبداً.


1 ـ «نظر» و «إنتظار» تأتي أحياناً لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.

[ 115 ]

وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (62) من سورة الأحزاب، وبالجملة فإنّ في هذا العالم ـ عالم التكوين التشريع ـ ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر، عبّر عنها القرآن الكريم «السنن الإلهيّة» والتي لا سبيل إلى تغيّرها.

هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغداً. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن، ومنها أيضاً نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغداً(1).

الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن «عدم تبديل» السنن الإلهيّة، الأحزاب ـ 62، وفي البعض الآخر الحديث عن «عدم تحويل» السنن الإلهية، سورة الإسراء ـ 77، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معاً.

فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد، بحيث أنّهما ذكرتا معاً للتأكيد، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟

بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل) الشيء، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني، ولكن (تحويل) الشيء، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.

وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الإستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اُخرى. ولا أن يوقع عقاباً أقلّ شدّة على مجموعة دون اُخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل


1 ـ لنا شرحاً مفصّل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.

[ 116 ]

ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل(1).

آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف «سنّة» إلى لفظ الجلالة «الله» وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف «سنّة» إلى «الأوّلين» ويظهر في باديء الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّه في الحالة الاُولى اُضيفت «سنّة» إلى «الفاعل»، وفي الحالة الثانية اُضيفت «سنّة» إلى «المفعول به». ففي الحالة الاُولى تعبير عن مجري السنّة، وفي الثانية عمّن اُجريت عليه السنّة.

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتّى يروا بأُمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).

فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من اُولئك فهم على إشتباه عظيم تلك، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: (وكانوا أشدّ منهم قوّةً).

فالفراعنة الذين حكموا مصر، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اُخرى بمنتهى القدرة، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.

إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله، لماذا؟ لأنّه (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض)(2) فهو العليم القدير، لا يخفى عليه شيء، ولا يستعصي على قدرته شيء، ولا يغلبه أحد، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون


1 ـ جمع من المفسّرين فسّروا «تحويل» هنا بمعنى «نقل مكان العذاب» بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أنّ هذا التّفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه، فالحديث ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل، فكأنّ هؤلاء المفسّرين خلطوا بين كلمتي «تحوّل» و «تحويل»، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين «التحويل: تصيير الشيء على خلاف ما كان. والتحوّل: التنقّل من موضع إلى موضع».
2 ـ جملة «ليعجزه» كما ذكرنا سابقاً من مادّة «عجز» وهي هنا بمعنى: يجعله عاجزاً، لذا ففي كثير من المواضع جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله، أو بمعنى عدم التمكّن من شخص.

[ 117 ]

الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الإشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.

يمرّ بنا مراراً التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى «السير في الأرض» ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.

ورد في الآية (9) من سورة الروم (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمّروها أكثر ممّا عمّروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف ـ 109، والحجّ ـ 46، وغافر 21 و82، والأنعام ـ 11 إلى غير ذلك.

هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة، وقبور القياصرة الموحشة، وعظام نمرود المتفسّخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا باُمّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.

 

* * *

[ 118 ]

 

 

 

 

 

الآية

 

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة وَلَكنِ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)

 

التّفسير

لولا لطف الله ورحمته!

الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهيّة بالبشر، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإنّ البدء والختام متّفقان ومنسجمان في توضيح رحمة الله.

زيادة على ذلك، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين الكفّار بمصير الأقوام الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكّة؟! وتجيب على السؤال قائلة: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في

[ 119 ]

مصيرهم وتهذيب أخلاقهم (ما ترك على ظهرها من دابّة).

نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق، وزلازل، وطوفانات، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. (ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصّة، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم (فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(1) فانّه تعالى يرى أعمالهم ومطّلع على نيّاتهم.

هنا يطرح سؤالان، جوابهما يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه:

الأوّل: هل أنّ هذا الحكم العام (ما ترك على ظهرها من دابة) يشمل حتّى الأنبياء والأولياء والصالحين أيضاً؟

الجواب واضح، لأنّ المعنيّ بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم، والرسل والأئمّة والصلحاء الذين هم أقلّية خارجون عن ذلك الحكم، والخلاصة أنّ كلّ حكم له إستثناءات، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماماً مثلما نقول: إنّ أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون، والمقصود الأكثرية منهم، في الآية (41) من سورة الروم نقرأ (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). فبديهي أنّ الفساد ليس نتيجة لأعمال جميع البشر، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم.

وكذلك فإنّ الآية (32) من نفس هذه السورة، التي قسّمت الناس إلى ثلاث مجموعات «ظالم» و «مقتصد» و «سابق بالخيرات» شاهد آخر على هذا المعنى.


1 ـ جملة (إذا جاء أجلهم) جملة شرطية، وجزاؤها يقع في تقدير جواب الشرط هكذا «فإذا جاء أجلهم يجازى كلّ واحد بما عمل»، وعليه فإنّ جملة «فإنّ الله» من قبيل «علّة الجزاء» وهي تقوم مقام المعلول المحذوف. ويحتمل كذلك أنّ الجزاء هو (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) كما ورد في آيات اُخرى من القرآن الكريم كالآية 61 من سورة النحل، وعليه فإنّ جملة «إنّ الله كان بعباده بصيراً» إشارة إلى أنّ الله يعرفهم جميعاً، ويعلم أيّاً منهم أبلغ أجله لكي يأخذه بقدرته تعالى.

[ 120 ]

وعليه فإنّ الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقاً.

الثاني: هل أنّ التعبير بـ «دابّة» في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر، أي أنّ تلك الدواب أيضاً سوف تتعرّض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟!

الجواب على هذا السؤال يتّضح إذا علمنا أنّ أصل فلسفة وجود الدواب هو تسخيرها لمنفعة الإنسان، فإذا إنعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من داع لوجود تلك الدواب(1).

وأخيراً نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول: «سبق العلم، وجفّ القلم، ومضى القضاء، وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى، وبالشقاء لمن كذّب وكفر، وبالولاية من الله عزّوجلّ للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين» ثمّْ قال: «إنّ الله عزّوجلّ يقول: ياابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي، وأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بذنبك منّي، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به، والشرّ منك إليك بما جنيت جزاء، وبكثير من تسلّطي لك إنطويت على طاعتي، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي، تلي الحمد والحجّة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرّتك، وهو قوله عزّوجلّ: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة) لم اُكلّفك فوق طاقتك، ولم اُحمّلك من الأمانة إلاّ ما قرّرت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي، ثمّ قال عزّوجلّ: (ولكن يؤخّرهم


1 ـ «دابّة» من مادّة «دبّ» والدبّ والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر، ويستعمل في كلّ حيوان وإن اختّصت في التعارف بالخيل. وكذلك تطلق كلمة «الدواب» خاصّة على الحيوانات التي تستعمل للركوب.

[ 121 ]

إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(1).

* * *

إلهي، إجعلنا ممّن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها، فيرجعون إلى وجهك الكريم، ونوّر ما مضى من أيّامنا بنور حسناتك ورضاك.

إلهي، إذا لم تشملنا برحمتك فإنّ جهنّم التي أشعلناها بأعمالنا السيّئة ستمتدّ بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها، وإن لم تضيء قلوبنا بنور غفرانك فإنّ قلوبنا ستصبح مرتعاً للشيطان اللعين.

إلهي، أعذنا من كلّ شرك، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في أعماق قلوبنا وزوّدنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا، إنّك مجيب الدعاء.

 

* * *


1 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 370 الحديث 122.

[ 122 ]

 

[ 123 ]

 

 

 

 

سُورَة يس

 

 

 

 

 

 

 

 

مكّية

 

وعَدَدُ آيَاتِها ثلاث و ثمانون آية

 

 

[ 124 ]

 

[ 125 ]

 

 

 

 

«سورة يس»

محتوى السورة:

هذه السورة من السور المكّية، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة:

1 ـ تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

2 ـ قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

3 ـ قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية 33 وحتّى الآية 44، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضاً تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

4 ـ قسم مهمّ آخر من هذه السورة، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثمّ الجنّة والنار، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّاً.

[ 126 ]

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة، الحياة والموت، الإنذار والبشارة، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

 

فضيلة سورة «يس»:

سورة يس ـ بشهادة الأحاديث المتعدّدة التي وردت بهذا الخصوص ـ من أهمّ السور القرآنية، إلى حدّ أنّ الأحاديث لقّبتها بـ «قلب القرآن» ففي حديث عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ «إنّ لكلّ شيء قلباً، وقلب القرآن يس»(1).

وفي حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ لكلّ شيء قلباً وقلب القرآن يس، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتّى يمسي، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة ...» الحديث(2).

كذلك نقرأ عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة! قيل: وما المعمّة؟ قال: تعمّ صاحبها خير الدنيا والآخرة» الحديث(3).

وهناك روايات اُخرى عديدة بهذا الخصوص، وردت في كتب الفريقين أعرضنا عن ذكرها حذراً من الإطالة.

لذا يجب الإقرار بأنّه ربّما لم تنل سورة من سور القرآن الاُخرى كلّ هذه الفضائل الخاصّة بسورة يس.


1 ـ مجمع البيان، مجلّد 4، صفحة 413.
2 ـ مجمع البيان، مجلّد 4، صفحة 413.
3 ـ المصدر السابق.

[ 127 ]

وكما أشرنا سابقاً فإنّ هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الألفاظ ـ فقط ـ مشيحاً عن مفاهيم السورة، بل إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها ..

محتوىً يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى، بحيث أنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكّر يلقي بظلاله على أعماله، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

فمثلا، الآية (60) من هذه السورة تتحدّث حول عهد الله في التحذير من عبادة الشيطان (ألم أعهد إليكم يابني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

ومن الواضح أنّه حينما ينشغل الإنسان بهذا العهد الإلهي ـ تماماً مثلما ورد في الأحاديث التي ذكرناها ـ سيكون في أمان من أي شيطان رجيم، ولكن لو قرئت هذه الآية بلا رويّة، وفي مقام العمل يكون من الأصدقاء المخلصين والأوفياء للشيطان، فإنّه لن ينال ذلك الفخر الذي ذكرناه، وهذا يصدق على آيات هذه السورة آية آية.

 

* * *

[ 128 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

يس (1) وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـفِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـقِهِمْ أَغْلَـلا فَهِىَ إِلَى الاَْذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَـهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10)

 

التّفسير

هذه السورة تبدأ ـ كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اُخرى ـ بحروف مقطّعة وهي (ياء) و (سين).

وقد فصّلنا الحديث فيما يخصّ الحروف المقطّعة في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف)، ولكن فيما يخصّ سورة (يس) فتوجد تفسيرات اُخرى أيضاً لهذه الحروف المقطّعة.

[ 129 ]

من جملتها أنّ هذه الكلمة (يس) تتكوّن من «ياء» حرف نداء و «سين» أي شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيكون المعنى أنّه خطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لتوضيح قضايا لاحقة.

وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هذه الكلمة تمثّل أحد أسماء الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ومنها أنّ المخاطب هنا هو الإنسان و «سين» إشارة له، ولكن هذا الإحتمال لا يحقّق الإنسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة، لأنّ هذه الآيات تتحدّث إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده.

لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «يس اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم).(2)

بعد هذه الحروف المقطّعة ـ وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى بالحروف المقطّعة ـ يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قَسَماً بالقرآن، إذ يقول: (والقرآن الحكيم). الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا بـ «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن ـ دائماً ـ فائدتين أساسيتين: الاُولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى، إذ أنّ القسم لا يكون عادةً بأشياء ليست ذات قيمة.

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم الله تعالى في مقدّمة السورة


1 ـ نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 374 و375.
2 ـ نور الثقلين، ج4، ص375.

[ 130 ]

الكريمة: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم)(1).

بعد ذلك تضيف الآية (تنزيل العزيز الرحيم)(2).

التأكيد على «العزيز» كصفة لله سبحانه وتعالى، لأجل بيان قدرته سبحانه وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا، كتاب يقف معجزة شامخة على مرّ العصور والقرون، ولن تستطيع أيّة قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة القلوب.

والتأكيد على «رحيميته» لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أنّ رحمته أوجبت أن تقيّض للبشر نعمة عظيمة كهذه.

بعض المفسّرين قالوا بأنّ هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو أنكروا وكذّبوا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يهدّدهم بعزّته، ولو دخلوا من باب التسليم والقبول، فإنّ الله يبشّرهم برحمته الخاصّة.

وعليه فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاُخرى للبشارة، وبإقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

هنا يطرح سؤال: هل يمكن إثبات حقّانية الرّسول أو الكتاب السماوي، بواسطة قَسَم أو تأكيد؟

الجواب تستبطنه الآيات المذكورة، لأنّها من جانب تصف القرآن بالحكيم، مشيرة إلى أنّ حكمته ليست مخفية عن أحد، وذلك دليل على حقّانيته.


1 ـ اختلف المفسّرون في تركيب جملة (على صراط مستقيم) بعضهم قال «إنّها جار ومجرور» متعلّقان بـ «المرسلين»، بحيث يكون المعنى «رسالتك على صراط مستقيم» وبعضهم قال: «إنّها خبر بعد خبر» والمعنى «إنّك مستقر على صراط مستقيم»، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى «إنّك من المرسلين وحالك على صراط مستقيم» (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).
2 ـ «تنزيل» مفعول منصوب لفعل مقدّر والتقدير «نزل تنزيل العزيز الرحيم»، كذلك فقد وردت إحتمالات اُخرى لإعراب هذه الجملة.

[ 131 ]

ومن جانب آخر فإنّ وصف الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه (على صراط مستقيم)، بمعنى أنّ محتوى دعوته يتّضح من سبيله القويم، وماضيه أيضاً دليل على أنّه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.

وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلّة حقّانية الرسل، إلى أنّ أحد أهمّ الطرق لإدراك حقّانية الرسل، هو التحقّق والإطلاع على محتوى دعواتهم بشكل دقيق، الأمر الذي يؤكّد دائماً أنّها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان، وقابلة للإدراك والتعقّل البشري، إضافةً إلى أنّ تأريخ حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدلّل على أنّه رجل أمانة وصدق، وليس رجل كذب وتزوير .. هذه الاُمور قرائن حيّة على كونه رسول الله، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين، وعليه فإنّ القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبداً.

ناهيك عن أنّه من حيث أدب المناظرة، فإنّه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاماً وحسماً ومصحوبة بتأكيد أقوى، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.

يبقى سؤال: وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس المشركين أو عموم الناس؟

الجواب هو التأكيد على أنّك ياأيّها النّبي على الحقّ وعلى الصراط المستقيم، سواء إستجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا، لذا فإنّ عليك الإجتهاد في تبليغ رسالتك العظيمة، ولا تُعِر المخالفين أدنى إهتمام.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي (ولتنذر قوماً ما اُنذر آباؤهم فهم غافلون)(1) أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.


1 ـ أعطى المفسّرون إحتمالات مختلفة حول كون «ما» نافية أو غير ذلك، أغلبهم قالوا بأنّها «نافية»، وقد إعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا، أوّلا: لأنّ جملة «فهم غافلون» دليل على ذلك المعنى، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.
الآية الثالثة من سورة السجدة ـ أيضاً ـ شاهد على ذلك، حيث يقول سبحانه وتعالى: (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلّهم يهتدون).
وقال بعضهم بأنّ «ما» هنا موصولة، بحيث يكون معنى الجملة «لتنذر قوماً بالذي اُنذر آباؤهم».
وبعض احتملوا أنّ «ما» مصدرية، وعليه يكون معنى الجملة «لتنذر قوماً بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم»، ولكن يبدو أنّ كلا الإحتمالين ضعيف.

[ 132 ]

من المسلّم أنّ المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكّة، وإذا قيل أنّه لم تخلُ اُمّة من منذر، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله، علاوةً على أنّه تعالى يقول في الآية (24) من سورة فاطر (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير)؟