1 ـ «عرجون» كما قال أغلب المفسّرين وأهل اللغة: من الإنعراج وهو الإعوجاج والإنعطاف، وعليه فالنون زائدة وهو على وزن فعلون، ويعتقد آخرون أنّه مأخوذ من «عرجن» فالنون ليست زائدة، وبمعنى: أصل عنقود الرطب المتّصل بالنخلة، وتوضيح ذلك أنّ الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل مقوّس أصفر اللون يبقى معلّقاً في النخلة، و «قديم»: بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.

[ 188 ]

كما أنّ الليل لا يتقدّم على النهار، بحيث يدخل جزء منه في النهار، فيختلّ النظام الموجود، بل إنّهما ـ على مدى ملايين السنين ـ ثابتان على مسيرهما دون أدنى تغيير.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة بحسب حِسّنا بها، والملفت للنظر هنا، هو أنّ هذا التعبير عن حركة الشمس ظلّ يستعمل حتّى بعد أن ثبت للجميع بأنّ الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض حولها، فمثلا يقال: إنّ الشمس قد تحوّلت إلى برج الحمل، أو يقال: وصلت الشمس إلى دائرة نصف النهار، أو أنّ الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة إرتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة إنخفاض في بداية الشتاء).

هذه التعبيرات تدلّل دوماً على أنّه حتّى بعد أن تمّ الكشف عن دوران الأرض حول الشمس وثبات الأخيرة ظلّت تستخدم، لأنّ النظر الحسّي يستشعر حركة الشمس وثبات الأرض، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات، وعلى هذا أيضاً يكون قوله تعالى: (وكلّ في فلك يسبحون).

كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها، حيث أنّ الثابت علمياً حالياً أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز وإستدارة ثدي البنت، ثمّ اُطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاُخرى أيضاً، ومنه اُطلق على مسير الكواكب الدوراني.

جملة (كلّ في فلك يسبحون) في إعتقاد الكثير من المفسّرين، إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والنجوم الاُخرى التي تتّخذ لنفسها مسارات ومدارات، وإن لم يرد ذكر النجوم في الآية، ولكن بملاحظة ذكر «الليل» وإقتران ذكر النجوم مع

[ 189 ]

القمر والشمس، لا يستبعد المعنى المذكور، خاصّة وأنّ «يسبّحون» ورد بصيغة الجمع.

وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار، لأنّ كلا من الليل والنهار له مدار خاص، ويدور حول الأرض بدقّة، فالظلام يغطّي نصف الكرة الأرضية دوماً، والنور يغطّي النصف الآخر منها، وهما يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمّان دورة كاملة حول الأرض.

«يسبّحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات: المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها، وقد ثبت حالياً أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.

* * *

 

بحوث

1 ـ حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)

«الدوران» لغةً يطلق على الحركة المغزلية، في حال أنّ «الجريان» يطلق على الحركة الطولية، والملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه، نسبت الحركتين إلى الشمس، فقالت: (والشمس تجري) ... و (كلّ في فلك يسبحون).

كانت المحافل العلمية أيّام نزول الآية متمسّكة بنظرية «بطليموس» التي كانت تقول بأنّ الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية، بل إنّ باطن الأفلاك التي تتكوّن من أجسام بلّورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة وثابتة، وحركتها تتبع حركة أفلاكها، وعليه فلم يكن في تلك الأيّام معنى لا لجريان الشمس ولا غيره.

[ 190 ]

أمّا بعد أن تداعت الاُسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء الإكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة، وتحرّرت الأجرام السماوية من قيد الأفلاك البلورية، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية، وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.

هنا أيضاً لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلّق بحركة الشمس الطولية والدورانية حتّى أثبت العلم بتطوّره عدّة حركات للشمس في العقود الأخيرة. وهي:

حركة الشمس الموضعية حول نفسها.

حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتّجاه نقطة محدّدة في السماء.

وحركتها الدورانية مع المجرّة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية اُخرى للقرآن.

ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة الشمس:

للشمس حركة ظاهرية واُخرى واقعية، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية ـ اليومية ـ فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه، وتمرّ في طرف الجنوب من نصف النهار ثمّ تغرب من المغرب، وعبورها من نصف النهار يشخّص الظهر الحقيقي ـ الزوال ـ .

وللشمس أيضاً حركة ظاهرية اُخرى ـ سنوية ـ حول الأرض بحيث أنّها تقترب من المشرق درجة واحدة كلّ يوم، وفي هذه الحركة تمرّ الشمس مقابل الأبراج مرّة واحدة كلّ عام، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة «دائرة البروج» ولهذه الحركة أهميّة عظمى في علم الفلك، فظاهرة «الإعتدالين» و «الإنقلاب» و«الميل الكلّي» كلّها مرتبطة بهذا العلم، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.

علاوةً على هذه الحركات الظاهرية فإنّ للشمس حركة دورانية في المجرّة،

[ 191 ]

فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرّة فهي ليست ثابتة أيضاً، بل إنّها أيضاً تدور بسرعة تقارب إثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية المسمّاة «الجاثي على ركبتيه»(1).

وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بُعد الأجرام السماوية، والذي هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضاً.

دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة وعشرين يوماً بلياليها(2).

 

2 ـ تعبير «تدرك» و «سابق»

إنّ التعبيرات القرآنية إستعملت بدقّة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها. ففي الآيات أعلاه حينما تتحدّث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال المسيرة الشهرية والسنوية تقول: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر). إذ أنّ القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.

أمّا حينما تحدّثت عن الليل والنهار قالت: (ولا الليل سابق النهار) لعدم وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقّة.

 

3 ـ نظام النور والظلام في حياة البشر:

تعرّضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهمّ المواضيع المتعلّقة بحياة البشر.


1 ـ «الجاثي على ركبتيه»: مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه، ومنه اُخذت التسمية.
2 ـ أي أنّ الشمس في كلّ خمس وعشرين يوماً من أيّامنا تدور دورة واحدة حول نفسها، وقد شُخصت هذه المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس، فقد لوحظ أنّها تتبادل مواقعها ثمّ تعود كما كانت خلال هذه المدّة.

[ 192 ]

على أنّهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.

قلنا سابقاً أنّ النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادّي بركة. وليس لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكلّ حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس، نزول قطرات المطر، نمو النباتات، تفتّح البراعم، نضوج الثمار والفواكه، خرير الجداول، تلوين مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية، وحتّى حركة عجلة المصانع العظيمة، وتوليد الطاقة الكهربائية، وأنواع المنتجات الصناعية، كلّها تعود في أصلها إلى هذا المنبع العظيم للطاقة، أي نور الشمس.

وخلاصة القول فإنّ جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية ـ عدا الطاقة الناجمة عن تفجير الذرّة ـ جميعها تستمدّ وجودها من نور الشمس، ولولا الأخير لخيّم الصمت والموت على كلّ مكان.

ظلمة الليل مع أنّها تذكر بالموت والفناء، فإنّها تعدّ من الاُمور الحياتية الهامّة في حياة البشر، لأنّها تعدل نور الشمس وتؤثّر عميقاً في راحة جسم وروح الإنسان، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلّط أشعّة الشمس بشكل متواصل ومستمر، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لأرتفعت درجة الحرارة على سطح الأرض إلى درجة أنّ الأشياء جميعاً تأخذ بالإشتعال والإحتراق، كذلك في القمر حيث الليالي والأيّام طويلة (كلّ ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوماً بلياليها على الأرض، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهاره قاتلة، وبرودة مجمّدة.

وعليه فإنّ كلا من «النور والظلام» آية إلهية عظيمة.

ناهيك عن أنّ النظام المتناهي الدقّة الذي يحكمهما، أدّى إلى تنظيم تأريخ حياة البشر، ذلك التأريخ الذي لولا وجوده لتفتتت الروابط الإجتماعية، وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل، وبذا فإنّ كلا من «النور والظلام» آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضاً.

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم: (ولا الليل سابق النهار). وهذا

[ 193 ]

التعبير يدلّل على أنّ النهار خلق قبل الليل، والليل بعده تماماً، فلو أنّ أحداً نظر من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتّب حول الأرض، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصوّر القبل والبعد فيها. ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ الأرض التي نعيش عليها كانت يوماً ما جزءاً من الشمس، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار، ولا وجود لليل، ثمّ بعد أن انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وإبتعدت تكون لها ظلّ مخروطي الشكل من الجهة المخالفة للشمس فكأنّ الليل، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار، نعم، لو توجّهنا لكلّ ذلك لاتّضحت دقّة ولطافة هذا التعبير.

وكما قلنا سابقاً فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء المترامي، بل إنّ الليل والنهار أيضاً يسبحان حول الكرة الأرضية، وكلّ منهما له مدار ومسير دائري.

وقد ورد في روايات متعدّدة عن أهل البيت (عليهم السلام) التصريح بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال جواباً على سؤال في حديث طويل: «نعم خلق النهار قبل الليل، والشمس والقمر والأرض قبل السماء»(1).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) أي قد سبقه النهار»(2).

وورد نفس المعنى عن الإمام الباقر (عليه السلام) حين قال: «إنّ الله عزّوجلّ خلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة»(3).

* * *


1 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح55.
2 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح53.
3 ـ نور الثقلين، ج4، ص387، ح54.

[ 194 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ  وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـعاً إِلَى حِين (44)

 

التّفسير

حركة السفن في البحار آية إلهيّة:

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاُولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة، إلاّ أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة، يتّضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات، لأنّ الآيات السابقة تحدّثت عن دلالة قدرة الباري عزّوجلّ في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدّث الباري عزّوجلّ عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها.

علاوةً على أنّ حركة السفن في خضمّ المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن حركة الكواكب السماوية في خضمّ المحيط الفضائي.

[ 195 ]

لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلا: (وآية لهم أنّا حملنا ذرّيتهم في الفلك المشحون).

الضمير «لهم» لا يعود فقط على مشركي مكّة، بل على جميع العباد الذين أشارت لهم الآيات السابقة.

«ذرّية»: كما يقول الراغب في مفرداته، أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معاً عرفاً، ويستعمل للواحد والجمع.

وما تذكره الآية من حمل ذريّاتهم وليس هم ربّما لأنّ الأولاد هم أكثر حاجة لركوب مثل ذلك المركب السريع، بلحاظ أنّ الكبار أكثر إستعداداً للسير على سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!

فضلا عن أنّ هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.

«مشحون» أي مملوء، إشارة إلى أنّ السفن لا تحملهم هم فقط، بل أموالهم وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمّهم أيضاً.

وما قاله البعض من أن «الفلك» إشارة إلى سفينة نوح، و «ذريّة» بمعنى الآباء من مادّة «ذرأ» بمعنى خلق، فيبدو بعيداً، إلاّ إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.

على كلّ حال فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهمّ وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاُخرى، كلّ ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن، والطاقة التي تحرّكها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكلّ هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان، كلّ واحدة منها وكلّها معاً آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهّم أنّ المركّب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط، تضيف الآية التالية قائلة: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون).

المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمّل البشر وأثقالهم.

[ 196 ]

ومع أنّ البعض فسّر هذه الآية بخصوص «الجمل» الذي لقّب بـ «سفينة الصحراء»، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات، والبعض فسّرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير «خلقنا» يشملها بلحاظ أنّ موادّها ووسائل صنعها خلقت مسبقاً) ولكن إطلاق تعبير الآية يعطي مفهوماً واسعاً يشمل جميع ما ذكر وكثيراً غيره.

في بعض آيات القرآن الكريم ورد مراراً الإقتران بين «الأنعام» و «الفلك» مثل قوله تعالى: (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) زخرف ـ 12، وكذلك قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون) المؤمن ـ 80.

ولكن هذه الآيات أيضاً لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون).

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو نأمر دوّامة بحرية واحدة ببلعهم، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كلّ إتّجاه بأمرنا، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا خاصّية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الإضطراب صفة عامّة تؤدّي إلى تدمير كلّ شيء، ولكنّنا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

«صريخ» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح. و «ينقذون» من مادّة «نقذ» بمعنى التخليص من ورطة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: (إلاّ رحمة منّا ومتاعاً إلى حين).

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأيّة وسيلة إلاّ برحمتنا ولطفنا بهم.

«حين» بمعنى «وقت» وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان وحلول أجله، وذهب البعض إلى أنّها تعني نهاية العالم بأسره.

[ 197 ]

نعم، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيّاً كان نوعها وحجمها يدركون عمق معنى هذه الآية، فإنّ أعظم السفن في العالم تكون كالقشّة حيال الأمواج البحرية الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات، ولولا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل إلى نجاة أحد منهم إطلاقاً.

يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته العظيمة للإنسان، فلعلّ الضالّين عن سبيل الحقّ يعودون إلى الحقّ ويتوجّهون إلى الله ويسلكون هذا الطريق.

 

* * *

[ 198 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة مِّنْ ءَايَـتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـل مُّبِين (47)

 

التّفسير

الإعراض عن جميع آيات الله:

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهيّة في عالم الوجود، تنتقل هذه الآيات لتتحدّث عن ردّ فعل الكفّار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهيّة، وكذلك توضّح دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم.

يفتتح هذا المقطع بالقول: (وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلّكم ترحمون)(1).


1 ـ «وإذا قيل لهم ...» جملة شرطية، وجزاؤها محذوف يستفاد من الآية اللاحقة، والتقدير: «وإذا قيل لهم اتّقوا ... أعرضوا عنه».

[ 199 ]

للمفسّرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله: (ما بين أيديكم) و (ما خلفكم) منها: أنّ المقصود بـ «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها، والمقصود بـ «ما خلفكم» عقوبات الآخرة، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم، والمقصود بـ «التقوى» من هذه العقوبات، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدّي إلى وقوع هذه العقوبات، والدليل على ذلك أنّ التعبير بـ «اتّقوا» يرد في القرآن إمّا عند ذكر الله سبحانه وتعالى أو عند ذكر يوم القيامة والعقوبات الإلهيّة، وهذان الذكران وجهان لحقيقة واحدة، إذن أنّ الإتّقاء من الله هو اتّقاءٌ من عقوباته.

وذلك دليل على أنّ الآية تشير إلى الإتقاء من عذاب الله ومجازاته في الدنيا وفي الآخرة.

ومن هذه التّفسيرات أيضاً عكس ما ورد في التّفسير الأوّل، وهو أنّ «ما بين أيديكم» تعني عقوبات الآخرة و «ما خلفكم» تعني عذاب الدنيا، لأنّ الآخرة أمامنا (وهذا التّفسير لا يختلف كثيراً عن الأوّل من حيث النتائج).

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من «بين أيديكم» الذنوب التي إرتكبت سابقاً، فتكون التقوى منها بالتوبة وجبران ما تلف بواسطتها، و «ما خلفكم» الذنوب التي سترتكب لاحقاً.

والبعض يرى بأنّ «بين أيديهم» الذنوب الظاهرة، و «ما خلفكم» الذنوب الباطنة والخفيّة.

وقال البعض الآخر: «ما بين أيديكم» إشارة إلى أنواع العذاب في الدنيا، و «ما خلفكم» إشارة إلى الموت (والحال أنّ الموت ليس ممّا يتّقى منه!!).

والبعض ـ كصاحب تفسير «في ظلال القرآن» ـ اعتبر هذين التعبيرين كناية عن إحاطة موجبات الغضب والعذاب الإلهي التي تحيط بالكافر من كلّ جانب.

و «الآلوسي» في «روح المعاني» و «الفخر الرازي» في «التّفسير الكبير» كلّ

[ 200 ]

منهما ذكر إحتمالات متعدّدة، ذكرنا قسماً منها.

و «العلاّمة الطباطبائي» في «الميزان» يرى أنّ «ما بين أيديكم» الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا، و «ما خلفكم» العذاب في الآخرة(1). في حين أنّ ظاهر الآية هو أنّ كلا الإثنين من جنس واحد، وليس بينهما سوى التفاوت الزمني، لا أنّ إحداهما إشارة إلى الشرك والذنوب، والاُخرى إشارة إلى العقوبات الواقعة نتيجة ذلك.

على كلّ حال فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه أوّلا، وآيات القرآن المختلفة شاهد على ذلك أيضاً، وهو أنّ المقصود من «ما بين أيديكم» هو عقوبات الدنيا و «ما خلفكم» عقوبا الآخرة.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفّار وإعراضهم عن آيات الله وتعاليم الأنبياء، تقول الآية الكريمة: (وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين).

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم، ولا الآفاقية، ولا التهديد والإنذار، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهيّة، لا يتقبّلون منطق العقل ولا أمر العواطف والفطرة، فهم مبتلون بالعمى الكلّي بحيث لا يتمكّنون حتّى من رؤية أقرب الأشياء إليهم، وحتّى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثمّ يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمّة لعنادهم وإعراضهم فيقول: (وإذا قيل لهم أنفقوا ممّا رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلاّ في ضلال مبين).

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسّك به الأنانيون والبخلاء في كلّ عصر وزمان ويقولون: إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا


1 ـ الميزان، المجلّد 17، الصفحة 96. (ذيل الآيات مورد البحث).

[ 201 ]

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وإبتلاء، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الإمتحان الغنى والفقر، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود، أو المشركين في مكّة، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوماً عامّاً يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور، وهي قولهم: إذا كان الله هو الرازق إذاً لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلماذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئاً، ويوجب نظام التشريع شيئاً غيره.

فنظام التكوين ـ بإراة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر، وأن يعطى البشر حريّة إنتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والإستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق، فبالزكاة تطهر النفوس، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب، ويتحقّق التكافؤ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماماً كما يقول شخص: لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

[ 202 ]

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(1)؟

جملة (قال الذين كفروا) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم: (أنفقوا ممّا رزقكم الله) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام، ويا لهم من بخلاء اُولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة: (إن أنتم إلاّ في ضلال مبين) فلتفسيرها توجد إحتمالات ثلاثة:

الأوّل: أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني: أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث: أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب، لأنّه يتّصل مباشرةً بحديث الكفّار السابق، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

 

* * *


1 ـ بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو: أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق، وكان هدف الكفّار هو الإستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والاُمور جميعها إلى المشيئة الإلهية، فكانوا يقولون لهم: إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان، وتفسير القرطبي، وروح المعاني).

[ 203 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَـوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـنُ وَصَدَقُ الْمُرْسَلُونَ (52) إن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)

 

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

[ 204 ]

تقول الآية الكريمة الاُولى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى: (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون).

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلّف وراءها صمت مطبق، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(1).

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون»، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمّل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الرويّة، والنظر الإنتظار».

«صيحة» صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، ويقال: بأرض فلان شجر قد صاح، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.


1 ـ مجمع البيان، ج4، ص427. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

[ 205 ]

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والاُمور المعيشية الاُخرى، ولكن البعض يرى: إنّه تخاصم في أمر «المعاد»، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو، وإن كان إعتبار شمول الآية لكلا المعنيين، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد، ويستهزئون بذلك بقولهم: متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبداً «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع، وهذا أوّلا. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا: (فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون).

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الاُمور المعلّقة، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الاُمور الاُخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل بقي أحد حيّاً ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع اُمّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبداً، فلا إمكان لأي من هذه

[ 206 ]

الاُمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضاً.