![]() |
![]() |
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
مكّية
وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وأربعُون آية
سمّيت هذه السورة بـ«فاطر» أو «الملائكة» لإبتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر» و «الملائكة». وهي من السور المكيّة، مع أنّ البعض يستثني منها الآيات (29 و32) ويعتبرها مدنية، إلاّ أنّنا لم نجد دليلا على صحّة هذا الإستثناء.
ولكونها مكيّة النّزول، فانّ محتواها العام يعكس الملامح العامّة للسور المكية، كالحديث في المبدأ والمعاد والتوحيد، ودعوة الأنبياء، وذكر نعم الله عزّوجلّ ومصير المجرمين يوم الجزاء.
ويمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:
1 ـ قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدّث حول آثار عظمة الله في عالم الوجود، وأدلّة التوحيد.
2 ـ قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله وتدبيره لجميع اُمور العالم، بالأخصّ اُمور الإنسان، وعن خالقيته ورزاقيته، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.
3 ـ قسم آخر يتحدّث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة الله الواسعة في الدنيا، وسنّته الثابتة في المستكبرين.
4 ـ قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين. ومواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الخصوص.
5 ـ القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكمّلا لها.
بعض المفسّرين لخّص جميع هذه السورة في موضوع واحد وهو: هيمنة وقهّارية الله في جميع الاُمور(1).
هذا الإعتبار وإن كان منسجماً مع القسم الأعظم من آيات السورة، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار وجود موضوعات مختلفة اُخرى فيها.
ورد في الحديث الشريف عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة الملائكة، دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة أن ادخل من أي الأبواب شئت»(2).
ومع الإلتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنّة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنّة، كما ورد في بعض الروايات من أنّ هناك باباً باسم «باب المجاهدين» أو أمثاله، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الإعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد ـ المعاد ـ النبوّة».
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ «الحمدين: حمد سبأ، وحمد فاطر، من قرأهما في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته، فمن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واُعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(3).
ونقول كما قلنا سابقاً بأنّ القرآن برنامج عمل، وتلاوته بداية للتفكّر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات، وكلّ هذا الثواب العظيم يتحقّق بهذه الشروط «فتأمّل!!».
* * *
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ جَاعِلِ الْمَلَئِكَةِ رُسُلا أُوْلِى أَجْنِحَة مَّثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَـأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـلِق غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
تبدأ هذه السورة ـ كما هو الحال في سورة الفاتحة وسبأ والكهف ـ بحمد الله والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح، يقول تعالى: (الحمد لله فاطر السموات والأرض).
«فاطر» من مادّة «فطر» وأصله الشقّ طولا، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ
ظلمة العدم وظهور نور الوجود، إستخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق، خصوصاً إذا لاحظنا ما يقوله العلم الحديث من نظريات تشير إلى أنّ مجموعة عالم الوجود كانت في البدء كومة واحدة ثمّ انشقّت تدريجيّاً عن بعضها.
وإطلاق كلمة «فاطر» على الله سبحانه وتعالى، يعطي للكلمة مفهوماً جديداً وأكثر وضوحاً. نعم فنحن نحمد الله ونشكره على خالقيته، لأنّ كلّ ما هو موجود منه تعالى، وليس لأحد ممّن سواه شيء من ذاته(1).
ولأنّ تدبير اُمور هذا العالم قد نيطت من قبل الباري عزّوجلّ ـ بحكم كون عالمنا عالم أسباب ـ بعهدة الملائكة، فالآية تنتقل مباشرةً إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها الله إيّاها!
(جاعل الملائكة رسلا اُولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير).
هنا تطرح ثلاثة أسئلة:
الأوّل: ما هي رسالة الملائكة التي ورد ذكرها في الآية؟ هل هي رسالة تشريعية وجلب الأوامر من الباري إلى الأنبياء، أم انّها رسالة تكوينية، أي تحمّل مسؤولية المأموريات المختلفة في عالم الخلق، كما سترد الإشارة إليه لاحقاً، أم يُقصد منه الإحتمالان؟
يتّضح من ملاحظة ما ورد في الجملة الاُولى، من الحديث حول خلق السموات والأرض، وما ورد في الجملة الأخيرة من الحديث حول الأجنحة المتعدّدة للملائكة، والتي تدلّ على قدرتهم، وكذلك بملاحظة إطلاق مفهوم «الرسالة» بالنسبة إلى جميع الملائكة (يلاحظ أنّ الملائكة لفظة جمع لإقترانها بالألف واللام وتدلّ على العموم) يتّضح من ذلك كلّه أنّ المقصود من الرسالة
مفهوم واسع يشمل كلا من «الرسالة التشريعيّة» و «الرسالة التكوينية».
إنّ إطلاق لفظة الرسالة على «الرسالة التشريعية» وإبلاغ الوحي إلى الأنبياء ورد في القرآن بكثرة، وإطلاق هذه اللفظة أيضاً على «الرسالة التكوينية» ليس بالقليل كذلك.
في الآية (21) من سورة يونس نقرأ (إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون).
وفي الآية (61) من سورة الأنعام نقرأ (حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).
وفي الآية (31) من سورة العنكبوت ورد (ولمّا جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنّا مهلكوا أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين).
وفي آيات اُخرى من القرآن نرى أنّه قد عهد إلى الملائكة أيضاً بمأموريات مختلفة عدّت من رسالاتهم أيضاً، وعليه فإنّ للرسالة مفهوماً واسعاً.
الثاني: ما هو المقصود بالأجنحة التي عبّر عنها بـ (مثنى وثلاث ورباع).
ليس من المستبعد أن يكون المقصود بالأجنحة هنا هو القدرة على الإنتقال والتمكّن من الفعل، بحيث يكون بعضهم أفضل من بعض وله قدرة أكبر.
وعليه فقد ذكرت لهم سلسلة من المراتب بالأجنحة، فبعضهم له أربعة أجنحة (مثنى = إثنان إثنان)، والبعض له ستّة أجنحة، والبعض ثمانية، وهكذا.
«أجنحة» جمع (جناح) ما يستعين به الطائر على الطيران، وهو بمثابة اليد في الإنسان، ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الإنتقال والحركة والفعّالية، فقد إستخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والإستطاعة، فمثلا يقال: إنّ فلاناً إحترقت أجنحته، كناية عن فقدانه قدرة الحركة أو الإمكانية، أو أنّ الإنسان يجب أن يطير بجناحي العلم والعمل، والكثير من هذه التعبيرات التي تشير إلى المعنى المستعار لهذه الكلمة.
كما يلاحظ أنّ المقصود من تعبيرات مثل «العرش» و «الكرسي» و «اللوح» و
«القلم» هي المفاهيم المعنوية لها، وليس واقعها المادّي.
من الطبيعي أنّه لا يمكن حمل ألفاظ القرآن على غير معانيها الظاهرية بدون قرينة، ولكن حيثما ظهر أثر لتلك القرائن فليس هناك مشكلة.
ورد في بعض الروايات أنّ «جبرئيل» رسول الوحي الإلهي، له ستمائة جناح، وكان يملأ ما بين الأرض والسماء حينما يلتقي به الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
أو ما ورد في «نهج البلاغة» حينما تحدّث أمير المؤمنين عن عظمة الملائكة. فقال: «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم»(2).
أو أنّ هناك ملائكة ما بين شحمة آذانهم وعيونهم مسيرة خمسمائة عام من الطيران(3).
ومن الواضح انّ هذه التعبيرات لا يمكن حملها على البعد الجسماني والمادّي، بل المراد بيان العظمة المعنوية وأبعاد القدرة.
ونعلم أنّ الجناح ـ عادةً ـ يُستفاد منه في جو الأرض، لأنّ الأخيرة محاطة بغلاف غازي من الهواء الضاغط، والطيور إنّما تستفيد من أمواج الهواء للطيران، والإرتفاع والإنخفاض، ولكن بمجرد خروجنا من المحيط الغازي للأرض حيث ينعدم الهواء فانّ الجناح ليس له أدنى تأثير في تحقيق الحركة، ويكون حاله حال سائر الأعضاء.
ناهيك عن أنّ المَلَك الذي تكون أقدامه في أعماق الأرض ورأسه أعلى من أعلى السموات، ليس له حاجة إلى الطيران الجسماني!!
البحث في هل أنّ «الملائكة» أجسام لطيفة أو من المجردات بحث آخر،
سنشير له في البحوث ان شاء الله. المقصود الآن هو أن نعلم أنّ الجناح والريش بالنسبة لها وسيلة الفعّالية والحركة والقدرة، والذي عبّرت عنه القرائن المشار إليها أعلاه بقدر كاف، بالضبط كما قلناه بالنسبة لـ «العرش» و «الكرسي»، فانّ هاتين الكلمتين تشيران إلى قدرة الله في العالم من أبعاد مختلفة!!
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) «الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(1).
السؤال الثالث: هل أنّ عبارة (يزيد في الخلق ما يشاء) إشارة إلى زيادة أجنحة الملائكة؟ كما قال به بعض المفسّرين؟ أم أنّ لها معنى أوسع من ذلك بحيث يشمل عدا الزيادة في أجنحة الملائكة الزيادات التي تحصل في خلق الموجودات الاُخرى؟
إطلاق الجملة من جهة، ودلالة بعض الروايات التي جاءت في تفسير هذه الآيات من جهة اُخرى، يشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.
فمن جملة ما ورد، حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الجملة أنّه قال: «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن».
ونقر في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسّنوا القرآن بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وقرأ (يزيد في الخلق ما يشاء).
بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه، والتي هي الأساس لكلّ عالم الوجود، تقول الآية الكريمة: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم).
الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده، وهو يشمل بها كلّ من يراه أهلا لها، ويفتح أبوابها حيثما إقتضت حكمته، ولن يستطيع الناس بأجمعهم أن يغلقوا ما
فتح ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أو أن يفتحوا باباً أغلقه سبحانه وتعالى، وهذا المفهوم في الحقيقة فرع مهم من بحث التوحيد حيث يتفرّع عنه فروع اُخرى «تأمّل».
وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية الاُخرى، ففي الآية 107 ـ سورة يونس يقول تعالى: (وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم).
* * *
1 ـ التعبير بـ «يفتح» ـ من مادّة «فتح» ـ إشارة إلى وجود خزائن الرحمة الإلهية التي ورد ذكرها أيضاً في آيات اُخرى من القرآن الكريم، والملفت للنظر أنّ هذه الخزائن بمجرّد فتحها تجري الرحمة على الخلائق بلا أدنى حاجة إلى شيء آخر، وبدون أن يستطيع أحد منعها من ذلك.
وتقدّم مفهوم «فتح الرحمة» على «إمساكها»، لأنّ رحمة الله تسبق غضبه دوماً.
2 ـ تعبير «الرحمة» له معنى واسع وشامل، لكلّ المواهب الإلهيّة في الكون، معنويةً وماديةً، ولهذا السبب يحسّ المؤمن عندما توصد أمامه جميع الأبواب بأنّ الرحمة تنساب في قلبه وروحه، فيكون مسروراً وقانعاً هادئاً ومطمئناً، حتّى وإن كان مأسوراً في السجن.
وتارةً ينعكس الحال، وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة أمام الإنسان، ومع ذلك يحسّ في أعماقه بالضيق والضغط ويرى الدنيا على سعتها سجناً مظلماً موحشاً، لمجرد عدم إنفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه. وهذا أمر محسوس وملموس للجميع.
3 ـ إستعمال صفتي «العزيز» و «الحكيم» لتوضيح قدرة الله سبحانه وتعالى
على «إرسال» و «إمساك» الرحمة، وفي عين الحال إشارة إلى أنّ الفتح والإغلاق في أيّ وقت شاء تعالى إنّما هو على أساس الحكمة، لأنّ قدرة الباري وحكمته مقرونتان.
وعلى كلّ حال فإنّ الإنتفاع من محتوى هذه الآية، يمنح الإنسان المؤمن هدوءاً وسكينة، ويجعله مقاوماً لكلّ أنواع الحوادث، ولا يخاف من المشاكل، ويبعده عن الغرور في حال النجاح والفوز.
وتشير الآية التالية إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد الخالقية والرازقية» فتقول الآية الكريمة: (ياأيّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم).
فكّروا ملياً ما هو منشأ كلّ هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم .. (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض). فمن الذي يرسل عليكم من الشمس نورها الذي ينشر الحياة، وحبّات المطر التي تحيي الموات، والنسيم الذي ينعش الروح؟ ومن الذي يخرج لكم من الأرض معادنها وذخائرها وغذاءها وأنواع نباتاتها وثمارها وبركاتها الاُخرى؟
فإذا علمتم أنّ مصدر كلّ هذه البركات هو الله، فاعلموا أنّ: (لا إله إلاّ هو).
وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل، وتسجدون للأصنام بدلا من السجود لله سبحانه؟ (فأنّى تؤفكون).
«تؤفكون»: من مادّة «إفك»، بمعنى «كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه» ولذا قيل لكلّ حديث ينصرف عن الصدق في المقال إلى الكذب «إفك» وإن كان البعض يرى أنّ هذه الكلمة تطلق على الكذب الفاحش والتهمة الشنيعة.
* * *
تعرّض القرآن الكريم كثيراً لذكر الملائكة .. فقد تحدّثت آيات عديدة عن صفات، خصائص، مأموريات، ووظائف الملائكة. حتّى أنّ القرآن الكريم جعل الإيمان بالملائكة مرادفاً للإيمان بالله والأنبياء والكتب السماوية، ممّا يدلّل على أهميّة هذه المسألة الأساسية.
(آمن الرّسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله).(1)
وممّا لا شكّ فيه أنّ وجود الملائكة من الاُمور الغيبية التي لا يمكن إثباتها بتلك الصفات والخصائص إلاّ بالأدلّة النقلية، ويجب الإيمان بها على أنّه إيمان بالغيب.
وبالجملة يطرح القرآن الكريم خصائص الملائكة كما يلي:
1 ـ الملائكة موجودات عاقلة لها شعور، وهم عباد مكرمون من عباد الله (بل عباد مكرمون)(2).
2 ـ مطيعون لأوامر الله ولا يعصونه أبداً: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).(3)
3 ـ أنّ لهم وظائف مهمّة وكثيرة التنوّع كلّفوا بها من قبل الباري عزّوجلّ.
مجموعة تحمّل العرش (والمَلَك على أرجائها ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية).(4)
مجموعة تدبّر الأمر (فالمدبّرات أمراً)(5).
واُخرى لقبض الأرواح (... حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم ...).(1)
وآخرون يراقبون أعمال البشر (وإنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون).(2)
مجموعة تحفظ الإنسان من المخاطر والحوادث (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون).(3)
واُخرى مأمورة بإحلال العذاب والعقوبة على أقوام معيّنة (ولمّا جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب)(4)
وآخرون يمدّون المؤمنين حال الحرب (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إن جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً)(5).
وأخيراً مجموعة لتبليغ رسالات الوحي وإنزال الكتب السماوية للأنبياء (يُنزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتّقون).(6)
ولو أردنا الإسترسال في ذكر وظائف الملائكة لطال البحث واتّسع.
4 ـ الملائكة دائمو التسبيح والتقديس لله سبحانه وتعالى (والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض).(7)
5 ـ وبناءً على أنّ الإنسان بحسب إستعداده للتكامل يمكنه أن يكون أعلى مقاماً وأشرف موضعاً من الملائكة فقد سجدت الملائكة بدون إستثناء لخلق آدم،
وعدّوا آدم معلّماً لهم «الآيات 30 ـ 34 سورة البقرة».
6 ـ إنّ الملائكة يظهرون بصورة الإنسان للأنبياء وغير الأنبياء، كما نقرأ في الآية (17) من سورة مريم: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً).
كذلك يذكر القرآن الكريم تجلّيهم بصورة إنسان لإبراهيم ولوط (هود ـ 69 و77) كما أنّه يستفاد من أواخر تلك الآيات أنّ قوم لوط أيضاً رأوهم بتلك الصورة الإنسانية السوية «هود ـ 78».
فهل أنّ ذلك الظهور بالشكل الإنساني، له واقع عيني، أم هو بصورة تمثّل وتصرّف في قوّة الإدراك؟ ظاهر الآيات القرآنية يشير إلى المعنى الأوّل، وإن كان بعض من كبار المفسّرين قد إختار المعنى الثاني.
7 ـ يستفاد من الروايات أنّ أعداد الملائكة كثيرة بحيث انّه لا يمكن مقايسة أعدادهم بالبشر بأي شكل من الأشكال، فحينما سئل الإمام الصادق (عليه السلام): هل الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ قال: «والذي نفسي بيده لملائكة الله في السموات أكثر من عدد التراب في الأرض، وما في السماء موضع قدم إلاّ وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه، ولا في الأرض شجرة ولا مدر إلاّ وفيها ملك موكّل بها يأتي الله كلّ يوم بعملها والله أعلم بها، وما منهم أحد إلاّ ويتقرّب كلّ يوم إلى الله بولايتنا أهل البيت، ويستغفر لمحبّينا ويلعن أعداءنا، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب إرسالا»(1).
8 ـ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتزوجون، فقد ورد عن الإمام الصادق في حديث طويل قوله: «إنّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(2).
9 ـ لا ينامون ولا يضعفون ولا يغفلون، ففي الحديث عن أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام «وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، فليس فيهم فترة ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك، ... ولا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمّهم الأرحام» الحديث(1).
10 ـ إنّ لهم مقامات، ومراتب متفاوتة (ما منّا إلاّ له مقام معلوم وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون)(2)
وكذلك نقرأ في الحديث المذكور عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وإنّ لله ملائكة ركعاً إلى يوم القيامة، وإنّ لله ملائكة سجداً إلى يوم القيامة»(3).
ولمزيد الإطلاع على أوصاف الملائكة وأصنافهم يراجع كتاب «السماء والعالم» من بحار الأنوار، أبواب الملائكة (المجلد 59 ـ الصفحات 144 ـ إلى 326) وكذلك نهج البلاغة الخطب (1 و91 ـ خطبة الأشباح ـ و109 و171).
هل أنّ الملائكة بتلك الأوصاف التي ذكرناها، موجودات مجردة أم مادية؟
لا شكّ أنّ من غير الممكن أن تكون الملائكة بهذه الأوصاف من هذه المادّة الكثيفة، ولكن لا مانع من أن تكون أجساماً لطيفة الخلق، أجساماً فوق هذه المادّة المألوفة لنا.
إثبات (التجرد المطلق) للملائكة من الزمان والمكان والجزئية، ليس بالأمر الهيّن، والوصول إلى تلك النتيجة ليس وراءه كثير فائدة، المهمّ هو أن نعرف الملائكة بالصفات التي وردت في القرآن والروايات الثابتة. وأنّها من الموجودات العلوية الراقية عند الله في مقامها ومكانتها، ولا نعتقد لها بغير مقام العبودية لله سبحانه، وأن نعلم بأنّ الإعتقاد بأنّها شريكة مع الله في أمر الخلق أو في العبادة كفر
محض وشرك بيّن.
نكتفي بهذا القدر من التفصيل حول الملائكة ونوكّل التفاصيل الأكثر إلى الكتب التي كتبت بهذا الشأن.
ونرى في الكثير من عبارات «التوراة» لدى الحديث عن الملائكة عبارة «الآلهة» وهو تعبير مشرك ومن علائم تحريف التوراة الحالية، ولكن القرآن الكريم نقي من هذه التعبيرات، لأنّه لا يرى لها سوى مقام العبودية والعبادة لله تعالى وإطاعة أوامره، وحتّى أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته يتفوّق الإنسان الكامل على الملائكة في المرتبة والمقام.
* * *
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (4) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَـنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـبِ السَّعِيرِ(6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات ـ وبعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ـ إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ويوجّه الخطاب إليه أوّلا، ثمّ لعموم الناس وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.
في البداية تقدّم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي، والذي
هو أهمّ الدروس له، فتقول الآية الكريمة: (وإن يكذّبوك فقد كذبت رسل من قبلك) فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة، وتؤدّي رسالتك، والبقية بعهدة الله. (وإلى الله ترجع الاُمور) فهو الناظر والرقيب على كلّ شيء، وسوف يحاسب على جميع الأعمال.
فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذّبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب، فقد يكون للقلق محلّ لو لم يكن ليوم القيامة وجود، أمّا مع وجود تلك المحكمة الإلهية العظيمة، وتلك الكتابة لكلّ أعمال البشر لذلك اليوم العظيم، فأيّ داع للقلق بعد؟
ثمّ تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: (إنّ وعد الله حقّ) فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.
ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور) فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته ..
أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والإحتيال، وهي أيضاً تريد إلفات إهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشاً على الماء، فالحذر الحذر!!
إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتّروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:
1 ـ مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.
2 ـ الإغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة.
ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وإرتكاب الذنوب. غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و «أرحم الراحمين» فهو تعالى في موضع العقوبة «أشدّ المعاقبين»، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبداً باعثاً على المعصية، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سبباً لليأس والقنوط.
«غَرور» صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب «الغرور» إلى الشيطان في آيات مختلفة.
بعض المفسّرين، لهم تحليل خاص هنا ملخّصه: أنّ الناس الذين يتعرضون لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف:
1 ـ صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنّه يخدع بأبسط الحيل.
2 ـ صنف أقوى من الأوّل، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها، بل مع ضمّ وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهوّنون لهم مفاسد أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذّات الدنيوية من جهة، والوساوس الشيطانية من جهة اُخرى، تدفعهم إلى إرتكاب أعمال قبيحة وسيّئة.
3 ـ أمّا الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم، فهم لا يغتّرون بأنفسهم ولا يمكن لأحد خداعهم.
وجملة (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا) إشارة إلى الصنف الأوّل، وجملة
![]() |
![]() |