ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اُخرى، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون).

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك، تماماً كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعاً من فرشهم ويخرجون من خيمهم، ويقفون في صفّ واحد، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.

واستخدم صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الإنفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال: نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان، و .. ومنه نسل إذا عدا، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى: (ربّهم) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

[ 207 ]

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (68) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية: (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا، هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون).

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلاّ من الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون إنبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين، وعدوهم بمثل هذا اليوم، فيجيبون أنفسهم قائلين: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزىء بكلّ ذلك!!

وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية، ولا داعي ولا ضرورة له، لأنّ إعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية، ففي الآية (97) من سورة الأنبياء (واقترب الوعد الحقّ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا بل كنّا ظالمين).

وعلى كلّ حال، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(1) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق، وكما ذكرنا في تفسير الآية (100) من سورة «المؤمنون»، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات


1 ـ يأتي تارةً بمعنى اسم مكان، واُخرى اسم للنوم، أي مصدر ميمي.

[ 208 ]

الرفيعة، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضاً أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون).

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الاُولى للموت، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

وإستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع، والتعبير بـ (هم جميع لدينا محضرون) بصيغة الجملة الإسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب، وكأنّ هذه الصيحة تقول: ياأيّها الناس النائمون، أيّتها الأتربة المتناثرة، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا .. انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء ... فما أجمل الآيات القرآنية، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

 

* * *

[ 209 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)إِنَّ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُل فَـكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَجُهُمْ فِى ظِلَـل عَلَى الاَْرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَـمٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيم (58)

 

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الاُولى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً).

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو إضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّاً عليها فتقول: (ولا تجزون إلاّ ما كنتم تعملون).

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعاً

[ 210 ]

هو نفس أعمالكم، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اُخرى: فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضاً، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساساً في مشهد يوم القيامة، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حيناً ويقع الظلم أحياناً كثيرة، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقاباً على قدر أعمالهم، دون أن تشمل المؤمنين، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الإشتباه، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الإستحقاق، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «إستحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: (إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون).

«شغل»: ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك، يمكن إستنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

[ 211 ]

والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه، وحتّى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(1).

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاُخرى وشرط الإستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاُخرى، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)(2).

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ 22 سورة الصافات (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الآية فيبدو بعيداً. خصوصاً أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(3).

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة، أو إشارة إلى ظلال قصورهم، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك، ولكنّها ليست شمساً مؤذية، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سروراً ونشاطاً عظيمين.


1 ـ يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.
2 ـ هناك إحتمالات عديدة في إعراب الجملة، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ، و «متكئون» خبر، و «على الأرائك» متعلّق به، و «في ظلال» متعلّق به أيضاً أو متعلّق بمحذوف.
3 ـ لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اُخرى.

[ 212 ]

إضافةً إلى ذلك فإنّ (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون).

يستفاد من آيات القرآن الاُخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيراً عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه، فما يتمّنوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان: العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي، فيقول: «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت ...

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: (سلام قولا من ربٍّ رحيم)(1).

هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبّة الله، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اُخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنّة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم ياأهل الجنّة، وذلك قول الله تعالى: (سلام قولا من ربٍّ رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه


1 ـ إختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو إعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

[ 213 ]

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(1).

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب، ورؤية لطفه، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة، بل بالعالم أجمع، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(2).

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة، هو سلام مستقيم بلا واسطة، سلام منه تعالى، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

 

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام).

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).(3)


1 ـ تفسير روح المعاني، مجلّد 23، صفحة 35.
2 ـ روح البيان، مجلّد 7، صفحة 416.
3 ـ الرعد، 24.

[ 214 ]

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلاماً عليكم).(1)

وعندما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(2)

ويسلّم بعضهم على بعض (تحيتهم فيها سلام).(3)

وأخيراً، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزّوجلّ (سلام قولا من ربّ رحيم).

الخلاصة: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(4)

والسلام ليس لفظاً فحسب، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

 

* * *


1 ـ الأعراف، 46.
2 ـ النحل، 32.
3 ـ إبراهيم، 23.
4 ـ الواقعة، 26.

[ 215 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَامْتَـزُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الُْمجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـبَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَـنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

 

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا: يخاطبون في ذلك اليوم خطاباً تحقيرياً (وامتازوا اليوم أيّها المجرمون).

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارةً، واستفدتم من حيثيتهم وإعتبارهم، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (28) من سورة ص حيث يقول الباري عزّوجلّ: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين

[ 216 ]

في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار).

وعلى كلّ حال، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل إحتمالات اُخرى من جملتها: تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم، أو إنفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم، أو إنفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافاً على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا: (ألم أعهد إليكم بابني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين).

إنّ هذا العهد الإلهي أُخذ على الإنسان من طرق مختلفة، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات: (يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنّه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)(1)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل: (ولا يصدنّكم الشيطان إنّه لكم عدو مبين)(2)

وكذلك في الآية (168) من سورة البقرة نقرأ: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنّه لكم عدو مبين).

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد اُخذ على الإنسان في عالم التكوين، وبلسان إعطاء العقل له، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن  لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة، وأقسم على إغواء


1 ـ الأعراف، 27.
2 ـ الزخرف، 62.

[ 217 ]

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد اُخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد، وإنحصار الطاعة في الله سبحانه، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد، بل بعدّة ألسنة وأساليب، واُمضي هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة (لا تعبدوا الشيطان) بمعنى «الطاعة»، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (47) من سورة «المؤمنون» (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) وفي الآية (31) من التوبة نقرأ: (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً).

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادق (عليه السلام) تعليقاً على الآية بقوله: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(2).

وعن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(3).

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم، تقول الآية الكريمة: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).

اُخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟.. هذا من جانب.


1 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص89، حديث1.
2 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص91، حديث8 و9.
3 ـ المصدر السابق.

[ 218 ]

ومن جانب آخر، اُخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمناً بأنّ الدنيا ليست بدار القرار، إذ أنّ الطريق لا يُرسم لأحد إلاّ لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى: (ولقد أضلّ منكم جبلاّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون).

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكل من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟  ولا زلتم تتّخذونه صديقاً بل قائداً ووليّاً وإماماً!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيهاً بالجبل في العِظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيراً» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الإجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر، أو أكثر، وما دون ذلك  لا  يكون جبلاًّ(1)، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(2).

وعلى كلّ حال، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوٍّ


1 ـ اُنظر روح المعاني والفخر الرازي.
2 ـ المصدر السابق.

[ 219 ]

خطر كهذا، لا يتورّع عن أي شيء، ولا يرحم أي إنسان أبداً، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبداً، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام:

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله، أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، فقال: ربّ بما أغويتني لاُزينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(1).

 

* * *


1 ـ نهج البلاغة، خطبة 192 (القاصعة).

[ 220 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَـهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـعُوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ (67) وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ (68)

 

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضاً.

نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول: (هذه جهنّم التي كنتم توعدون).

[ 221 ]

فقد بُعث إليكم الأنبياء واحداً بعد واحد، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار، ولكنّكم لم تأخذوا أقوالهم إلاّ على محمل السخرية والإستهزاء (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون)(1).

ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة ... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).

نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب.

ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّاً منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار، إلاّ أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة، الأمر الذي يثير عجب اُولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.

أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء، فثمّة تفسيرات وإحتمالات عديدة:

1 ـ انّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة «لسان» أو «مخ الإنسان» القدرة على النطق، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضاً.

2 ـ أنّ تلك الأعضاء لا تُعطى الإدراك والشعور، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام، وإنكشاف


1 ـ «أصلوها» من (صلا) أصل الصَّلي إيقاد النار، ويقال صَلِيَ بالنار وبكذا، أي بُلي بها واصطلى بها.

[ 222 ]

الحقائق بإذن الله.

3 ـ أنّ أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا، إذ أنّ أي عمل في هذه الدنيا لا يفنى، بل إنّ آثاره ستبقى على كلّ عضو من البدن، وفي الفضاء المحيط بها، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلّي، ستظهر هذه الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة. وهذا تماماً كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول: «عينك تشهد على سهرك»، أو «الجدران تبكي صاحب الدار».

وعلى كلّ حال، فإنّ من المسلّمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة، ولكن هل أنّ كلّ عضو يكشف عن فعله فحسب، أو يكشف عن كلّ الأعمال؟ فلا شكّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب، لذا فإنّ الآيات القرآنية الكريمة الاُخرى تذكر شهادة الاُذن والعين والجلد، كما في الآية (20) من سورة فصلت حين يقول تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أو ما ورد في الآية (24) من سورة النور من قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

والجدير بالملاحظة أنّه تعالى في سورة النور يقول: (تشهد عليهم ألسنتهم)وفي الآية مورد البحث يقول: (اليوم نختم على أفواههم)، ومن الممكن أن يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أوّلا لتشهد أعضاؤه، وبعد أن يرى بنفسه شهادة أعضائه، يفتح لسانه، ولأنّه لا مجال للإنكار فإنّ لسانه أيضاً يقرّ بالحقيقة.

وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي ينبعث منه كما في سائر الأعضاء، وليس نطقه العادي.

آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلّم الأعضاء هو أنّ ذلك خاص بالمجرمين، وإلاّ فالمؤمنون حسابهم واضح، لذا ورد في الحديث عن الباقر (عليه السلام)

[ 223 ]

«ليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ: (فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا)(1).

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم)(2).

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: (فاستبقوا الصراط فأنّى يبصرون). فهم عاجزون حتّى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك عن العثور على طريق الحقّ وسلوك الصراط المستقيم!

وعقوبة مؤلمة اُخرى لهم: انّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: (لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيّاً ولا يرجعون)(3).

«فاستبقوا الصراط» يمكن أن تكون بمعنى التسابق فيما بينهم للعثور على الطريق الذي يذهبون منه عادةً، أو بمعنى الإنحراف عن الطريق وعدم العثور عليه، على ضوء ما قاله بعض أرباب اللغة من أن «فاستبقوا الصراط» بمعنى «جاوزوه وتركوه حتّى ضلّوا»(4).

وعلى كلّ حال، فطبقاً للتفسير الذي قبل به أغلب المفسّرين الإسلاميين، فإنّ الآيتين أعلاه، تتحدّثان عن عذاب الدنيا، وعن تهديد الكفّار والمجرمين بأنّ الله