![]() |
![]() |
![]() |
فهل أنّ القادر على الخلق الأوّل من التراب والنطفة غير قادر على إعادة الحياة للناس مرّة اُخرى!؟
وهل أنّ العالم بكلّ دقائق وتفاصيل الاُمور المرتبطة بتلك القوانين، يواجه مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد.
تشير الآية التالية ـ التي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ـ إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها، فتقول الآية الكريمة: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اُجاج)(1).
فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض، وأنّ كليهما من أصل واحد، إلاّ أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضاً.
والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما: (ومن كلّ تأكلون لحماً طريّاً وتستخرجون حلية تلبسونها) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والإنتقال (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون).
1 ـ «فرات»: على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّاً.
«سائغ»: الماء الذي يُستمرأ بسهولة لعذوبته، على عكس الماء المالح ـ أو الاُجاج ـ وهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان.
2 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر، ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها، والتي تتحدّث عن الخلقة، وحتّى نفس هذه الآية، شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضاً تبحث في أسرار التوحيد، وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة.
3 ـ ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية، ووسائل الزينة، ومسألة الحمل والنقل.
ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعاً مهمّاً من المنابع الغذائية للبشر، وكلّ عام يُستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة، بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعباً أو مشقّة، فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون إعتراض وبأقل زحمة ومشقّة.
كذلك يستخرج من البحار أيضاً وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ ـ والمرجان ـ والصدف ـ والدرّ)، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.
وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم اُسس التمدّن الإنساني والحياة الإجتماعية، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات
بهذا الخصوص. إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاُخرى، وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها(1).
4 ـ بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالاُمور التي ذكرت أعلاه، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة، فهناك مسألة تكون الغيوم، الأدوية النفط، الألبسة، الأسمدة للأراضي البور، التأثير في إيجاد الرياح .. إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى.
5 ـ تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.
6 ـ هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في إنتشارها، فأين تقع بحور الماء العذب؟
وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضاً ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها، إضافةً إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحاراً أيضاً في بعض الأحيان، فقد ورد إستعمال كلمة «البحر» لـ (نهر النيل) في قصّة موسى، كما في سورة البقرة ـ الآية 50 والشعراء ـ 63 والأعراف ـ 138).
كذلك فإنّه يمكن إعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة، لأنّ مياه الأنهار عند إنصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للإختلاط لمدّة قصيرة.
7 ـ جملة (لتبتغوا من فضله) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية إقتصادية تعتمد على البحر.
* * *
قام المفسّرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات حول إطالة وإقصار العمر بأمر الله، وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا الخصوص.
طبيعي أنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر، والتي أصبح أكثرها معروفاً عند الناس، كالتغذية الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط، العمل وإدامة الحركة، تحاشي المواد المخدّرة، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية، الإبتعاد عن المهيّجات المستمرة، التمسّك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش بإطمئنان وهدوء في الملمّات، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.
وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عوامل اُخرى غير واضحة الإرتباط ظاهراً بقضيّة طول العمر، ولكن الروايات أكّدت عليها، وكنموذج نورد الروايات التالية:
أ ـ عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار»(1).
ب ـ وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من سرّه أن يبسط في رزقه وينسىء له في أجله فليصل رحمه»(2).
ج ـ وفيما يخصّ بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ في الرواية المشهورة عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «يامعشر المسلمين إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أمّا التي في الدنيا فإنّه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر»(1).
د ـ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء»(2).
كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الاُخرى كالظلم، بل مطلق المعاصي.
بعض المفسّرين الذين لم يتمكّنوا من التفريق بين «الأجل المحتوم» و «الأجل المعلّق» اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنّها مخالفة لنصّ القرآن وأنّ عمر الإنسان له حدّ ثابت لا يتغيّر.
توضيح المسألة: ـ لا شكّ أن للإنسان أجلا محتوماً وأجلا معلّقاً.
الأجل المحتوم الذي هو نهاية إستعداد الجسم للبقاء، وبحلوله ينتهي كلّ شيء بأمر الله.
الأجل المعلّق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه، مثلا إنسان ينتحر فلو أنّه لم يقم بتلك الكبيرة فإنّه سيبقى لسنوات اُخرى يواصل حياته. أو أنّه نتيجة تعاطي المشروبات الكحولية والمواد المخدّرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط، يفقد الجسم قدراته في مدّة قصيرة. في حال أنّه بالإبتعاد عن هذه الاُمور يستطيع أن يعيش لسنوات طويلة اُخرى.
هذه اُمور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.
كذلك فإنّه فيما يخصّ الأقدار فإنّ هناك اُموراً ترتبط بالأجل المخروم، وهي أيضاً غير قابلة للإنكار.
وعليه فإذا ورد في الروايات أنّ الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل العمر وتدفع أنواعاً من البلاء، فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل.
وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من الامور المتعلّقة بالقضاء والقدر، وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة، وسوف تبقى هذه الاُمور غير قابلة للحلّ.
هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي:
لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقّع من صناعتها أن تدوم عشرين عاماً، بشرط المحافظة عليها وصيانتها، وفي هذه الحالة فإنّ الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاماً، ولكن لو لم تتحقّق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات، أو أن يحملها فوق طاقتها، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يومياً، فإنّ أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر، وذلك هو الأجل المخروم، ونحن نعجب كيف أنّ بعض المفسّرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة.
* * *
يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير (14)
تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي، وليرجع عن أيّ شرك أو عبادة خرافية، يقول تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل).
«يولج» من مادّة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة. ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها، أو
الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجىء من النور إلى الظلام وبالعكس(1).
ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: (وسخّر الشمس والقمر). وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر، وهذا التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحاً في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية 33 من سورة إبراهيم).
ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقّف عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: (كلّ يجري لأجل مسمّى).
فبمقتضى (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت)(2)، فإنّها جميعاً ستواجه مصير الإنطفاء والفناء.
بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لجملة (أجل مسمّى)، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما، والتي تتمّ في الاُولى في عام، وفي الثانية في شهر واحد(3).
ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم ـ بمعنى
إنتهاء العمر ـ يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحاً، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضاً ـ أي نهاية عمر الشمس والقمر ـ ورد في الآيات (61 ـ النحل و45 ـ فاطر 42 ـ الزمر 4 ـ النور 67 ـ غافر).
ثمّ يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي (ذلكم الله ربّكم) الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها. (له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)(1).
«قطمير»: على ما يقول الراغب: هو الأثر في ظهر النواة، وذلك مثل للشيء الطفيف، ويقول «الطبرسي» في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره: هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة.
نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.
ثمّ تضيف الآية: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، (ولو سمعوا ما استجابوا لكم).
إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئاً أو تحلّ لكم عقدة.
وأدهى من ذلك (ويوم القيامة يكفرون بشرككم). ويقولون: اللهمّ إنّهم لم يعبدوننا، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.
هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه، أو أنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه
الأصنام أيضاً، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم.
ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون).
احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيح (عليه السلام)، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط، وجملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم(1).
ولكن ـ مع الإلتفات إلى سعة مفهوم (الذين تدعون من دونه) ـ يظهر أنّ المقصود هو الأصنام، وأنّ جملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) ترتبط بالدنيا خاصّة. ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر: أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير).
فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا تتعجّبوا من هذا القول، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل، فهو المحيط علماً بالمستقبل والماضي والحاضر.
* * *
بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية الحقّة، فهي تدعوها بـ (أفيون الشعوب) أي أنّها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!
وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق علماء الإجتماع وعلماء النفس، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها، والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلّحة بالأفكار الدينية السماوية، ومن إستقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة!.. والأنكى من ذلك أنّهم أوعزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعيّة.
والجواب على مثل الكلام مرّ في محلّه، ولسنا هنا في معرض سرد الردود جميعاً، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر، واعتبرت طريق التفكّر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.
كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس، أو أنّه نشأ بفعل جهل البشر بالعوامل الطبيعيّة، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكّر والعيش بصفاء في محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم، بعيداً عن التعصّب والعناد؟! هل يمكن إتّهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون الشعب، أو عامل تخدير لها؟!
ويمكن هنا القول: إنّ على الإنسان أن لا يفكّر لوحده وبشكل إنفرادي، بل عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة، ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها .. عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان للحقّ.
إنّ الأحداث التي مرّت في عصرنا الحالي سيّما نهضة المسلمين الثوريين في مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب، والتي جعلت الدنيا ظلاماً دامساً في وجوههم، وهزّت كياناتهم، تشير جميعاً إلى أنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصيلة، ومن هنا يفهم هدف الإتّهامات الموجّهة ضدّ العقائد الدينية.
وممّا يثير العجب والغرابة أنّ علماء الإجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم ما وراء الطبيعة، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر، كما قالوا بوجود عوامل
مختلفة لنشوء الدين، كالعامل الإقتصادي، وخوف الإنسان، وعدم إطّلاعه، والعقد النفسية ... الخ!! كما أنّهم غير مستعدّين للتفكّر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جلّ وعلا، والعلامات الصريحة لنبوّة الأنبياء كنبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وغير مستعدّين أيضاً للتنصّل عن أحكامهم التي أثبتت فشلها.
لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصّب والعناد وعدم الإطّلاع، نعم، هؤلاء متعصّبون ومعاندون ولكنّهم مطّلعون، ولهذا فهم أكثر خطراً وضلالةً من مشركي عصر الجاهلية.
وممّا يجدر ذكره أنّ ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكّر والتعقّل والتذكّر: فأحياناً تقول: (إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكّرون) (النحل ـ 11 و69) واُخرى تقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (الرعد ـ 3، والزمر ـ 42، والجاثية ـ 13) وثالثة تقول: (لعلّهم يتفكّرون) (الحشر ـ 21، والأعراف ـ 176)، وأحياناً تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجهاً لوجه (كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون) (البقرة ـ 219 و266).
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل، منه الدعوة إلى الفقه ـ أي الفهم ـ والدعوة إلى العقل والتعقّل، ومدح الناس المتعقّلين، والندم الشديد لاُولئك المتعصّبين، وقد جاء ذلك في (46) آية من آيات القرآن المجيد، وقد قال الكثير من العلماء: إنّنا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لأحتجنا إلى كتاب مستقل.
وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أنّ أحد صفات أهل النار هو عدم التفكّر والتعقّل كقوله تعالى: (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير) ومنه قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اُولئك كالأنعام بل هم أضلّ اُولئك هم الغافلون).
* * *
يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (15)إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيز (17) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18)
بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة الله لأن يُعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى، فتقول الآية الكريمة: (ياأيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).
فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود، ويكشف الكثير من الغموض، ويجيب على الكثير من الأسئلة.
نعم، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو الله تعالى، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم، فكما أنّه غير محتاج مطلقاً، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق، وكما أنّه قائم بذاته، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية، وواجب الوجود في الذات والصفات.
ومع حال كهذه، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى: (ذلكم الله ربّكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير).
وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلاّ منه تبارك إسمه، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه، لا لذواتهم مستقلّة.
وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين إستغنائه عن كلّ أحد، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر، وفي عين انّه أرحم الراحمين، فهو غير محتاج لأحد مطلقاً.
الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا
يمدّوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر، ويعتمدوا على همّتهم، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها.
جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارةً إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر» أو «الإمكان والوجوب» لإثبات واجب الوجود، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الإستدلال على إثبات وجود الله، بل إنّها شرح لصفاته تعالى، ولكن يمكن إعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.
إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدماً»، ثمّ اكتست بلباس الوجود، أو بتعبير أدقّ: كان يوم لم تكن شيئاً فيه، ثمّ صارت وجوداً، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر، وليس لها وجود من ذاتها.
ونعلم بأنّ أي وجود معلول، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه إحتياج، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضاً معلولة لعلّة اُخرى فإنّها بدورها ستكون محتاجة، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبداً، لأنّ منتهى الإحتياج إحتياج، ومنتهى الفقر فقر، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة إستقلال.
من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته، ومستقل من جميع النواحي، وهو علّة لا معلول، وهو واجب الوجود.
هنا يثار السؤال التالي: لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله
فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟
والجواب: إذا كان الإنسان ـ الذي يعتبر سيّد المخلوقات ـ غارقاً في الحاجة والفقر إلى الله، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود».
وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال، وفي كلّ شيء وكلّ مكان، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية، ذلك الإلتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد، ويبعث على التواضع أمام الحقّ.
ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد).
وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم، وإنّما أنتم الفقراء إليه.
وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (133) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى: (وربّك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذريّة قوم آخرين).
فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعاً، ولا ينقص من عظمته شيئاً ذهاب العالم بأسره، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئاً.
وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى: (وما ذلك على الله بعزيز) نعم، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.
على كلّ حال، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك
لأجلكم أنتم، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم.
الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة:
الأوّل: من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين، ويُحكمون بالفناء على حد سواء؟
هنا يجيب (ولا تزر وازرة وزر اُخرى).
«وِزر» بمعنى الثقل، وقد اُخذ من «وَزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره، والموازرة: المعاونة(1)، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطاً من الثقل عن رفيقه.
وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاُسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه وإجتهاده في طريق الخير، ويعاقبه على ذنبه.
ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة، بحيث لا يكون أحد مستعدّاً لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريباً منه.
والإلتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان، حيث يكون مراقباً لنفسه، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط، ففساد المحيط لا يمكن إعتباره مسوغاً لإفساد النفس، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه.
ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون
حساباً جمعياً، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه، ومحاربة الفساد، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.
وأساساً فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ إهتماماً لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر)!!
هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)(1).
في حديث عن ابن عبّاس أو غيره، أنّ اُمّاً وإبنها يأتيان في يوم القيامة وكلاًّ منهما عليه ذنوب كثيرة، وتطلب الاُمّ من إبنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به، فيقول لها إبتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا(2).
ويبرز هنا السؤال التالي: هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها».
![]() |
![]() |
![]() |