![]() |
![]() |
![]() |
عليهم، أمّا القلوب المهيأة فسوف تقبل بذلك بالرغم من أن كثيراً من الجاهلين سوف يعرضون عنها، ولكنك لست مسؤولا عنهم.
وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في بداية هذه السورة في قوله تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل)(1).
ثمّ ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها) ويغفل عن ذكر الخالق: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).
فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة، ولا تؤثر فيه دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رُسُل الخالق، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلاّ أن هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثر فيهم أيّ من هذه العوامل، وهذا بسببهم أنفسهم وليس بسببك، لأنّك قمت بمسؤوليتك في الإبلاغ.
وقد تكون عبارة «إذا أذقنا» في الآية أعلاه (وهي هنا بخصوص رحمة الخالق، وفي آيات قرآنية اُخرى بخصوص العذاب الإلهي) إشارة إلى أن النعم والمصائب في هذه الدنيا تعتبر لا شيء بالنسبة إلى نعم ومصائب الآخرة. أو قد تكون بمعنى أن هؤلاء الأشخاص يصابون بالغرور والطغيان بمجرّد قليل من النعمة، واليأس والكفر بقليل من المصائب.
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن الخالق يوكل النعم إلى نفسه، لأن رحمته تقتضي ذلك، بينما يوكل المصائب والإبتلاءات إليهم، لأنّها نتيجة أعمالهم.
1 ـ الشورى، الآية 6.
واستخدام كلمة (الإنسان) في مثل هذه الآيات تشير إلى طبيعة (الإنسان غير المهذّب) حيث أنّه ذو تفكير قصير ونفسية ضعيفة، وتكرار ذلك ـ في الآية أعلاه ـ يؤكّد على هذا المعنى.
ثمّ لبيان حقيقية أن أي نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة، حيث تقول: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء).
ولهذا السبب فإنّ الكل يأكل من مائدة نعمه، ويحتاج إلى لطفه ورحمته، فليس منطقياً الغرور عند النعمة، ولا اليأس عن المصيبة.
و«نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأن كلّ ما موجود هو منه، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه: (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً واناثاً ويجعل من يشاء عقيماً).
وبهذا الترتيب فإن الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور والإناث، والجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.
والعجيب أن أي شخص لا يستطيع الإنتخاب في هذا المجال سواء في الماضي أو في الوقت الحاضر، بالرغم من تقدم وتطور العلوم، ورغم المحاولات العديدة فإن أحداً لم يستطع أن يهب الأبناء للعقيم الحقيقي، أو يعين نوع المولود وفقاً لرغبة الإنسان بالرغم من دور بعض الأطعمة أو الأدوية في زيادة احتمال ولادة الذكر أو الأنثى، إلاّ أن هذا يبقى مجرّد احتمال ولا توجد أية نتيجة حتمية لهذا الأمر.
وهذا نموذج واضح لعجز الإنسان، ودليل على المالكية والحاكمية والخالقية للباريء جلّ وعلا، وهل هناك مثال أوضح من هذا؟
والطريف في الأمر أن هذه الآيات قدّمت الإناث على الذكور، لكي توضح
الأهمية التي يعطيها الإسلام لمنزلة المرأة، ومن جانب ثان تقول للذين لهم تصورات خاطئة عن ولادة البنت أو الأنثى ـ ويكرهونها ـ أن الخالق يعطي الشيء الذي يريده هو وليس ما تريدونه أنتم، وهذا دليل على أنّه هو الذي ينتخب.
إن استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلا واضحاً على أن الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.
كما أن استخدام عبارة (يزوجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس وبعبارة اُخرى فإن مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأن (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.
واعتبر بعضهم هذه الآية بمعنى ولادة الذكور والإناث على الترتيب، والبعض الآخر اعتبرها بمعنى ولادة التوائم، يعني الذكر والأنثى.
ولكن العبارة أعلاه لا تدل على أي من التفاسير المذكورة.
إضافةٌ إلى ذلك فإنها لا تتناسب مع ظاهر الآية، لأن الآية تريد الكلام عن مجموعة ثالثة رزقها الله البنات والبنين.
وعلى أية حال، فإن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كلّ شيء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه بقدرته، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: (إنّه عليم قدير).
ومن الضروري أن نشير إلى أن كلمة (عقيم) المأخوذة من كلمة (عقم) ـ على وزن (بخل) وكذلك على وزن (فهم)ـ وتعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهن غير مستعدة لتقبل النطفة ونمو الطفل، كما تسمى بعض الرياح بالرياح العقيمة لعدم قدرتها على ربط الغيوم الممطرة، و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه
سرور وفرح، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.
وأخيراً فإن الغذاء (المعقم) يطلق على الغذاء الذي تم القضاء على جميع ميكروباته، بحيث لا يمكنها النمو في ذلك المحيط.
* * *
وَمَا كَانَ لِبَشَر أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآىءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ( 51 )
فيما يلي خلاصة لما ذكره بعض المفسّرين من سبب النّزول في هذه الآية: جاء عدد من اليهود إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لماذا لا تتكلم مع الخالق؟ ولماذا لا تنظر إليه؟ فلو كنت نبيّاً حقّاً فافعل مثل موسى حيث نظر إلى الخالق وتحدث معه، وسوف لا نؤمن بك أبداً حتى تفعل ما نطلبه منك، عندها أجابهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ موسى لم يَرَ الخالق أبداً، هنا نزلت الآية أعلاه (حيث وضحت كيفية الإرتباط بين الأنبياء والخالق)(1).
هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة،
1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، ص5873.
فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأن الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي).
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهم نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي والإرتباط بين الأنبياء والخالق.
في البداية تقول الآية: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً) لأنّ الخالق منزه عن الجسم والجسمانية.
(أو من وراء حجاب) كما كان يفعل موسى حيث أنّه كان يتحدث في جبل الطور، وكان يسمع الجواب عن طريق الأمواج الصوتية التي كان يحدثها الخالق في الفضاء، دون أن يرى أحداً، لأنّه لا يمكن مشاهدة الخالق بالعين المجرّدة.
(أو يرسل رسولا) كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)(فيوحي بإذنه ما يشاء).
نعم، فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدث الخالق مع عبادة لـ(إنّه علي حكيم).
فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان، وكل أفعاله حكيمة، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.
هذه الآية تعتبر ـ في الحقيقة ـ رداً على الذين يتصورون ـ بجهالة ـ أن الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه، حيث أن الآية تعكس بشكل دقيق ومختصر حقيقة الوحي والروح.
ومن مجمل الآية نستفيد أن الإرتباط بين الأنبياء والخالق يتمّ عبر ثلاثة طرق هي :
1 ـ الإيحاء، حيث كان كذلك بالنسبة للعديد من الأنبياء مثل نوح، حيث
تقول الآية: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك باعيننا ووحينا)(1).
2 ـ (من وراء حجاب) كما كان الخالق يتكلم مع موسى في جبل طور، (وكلم الله موسى تكليماً)(2).
وقد اعتبر البعض أيضاً أن (من وراء حجاب) تشمل الرؤيا الصادقة والحقيقية.
3 ـ إرسال الرّسول، كما في الوحي الى الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالآية تقول: (من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك باذن الله)(3).
ولم يقتصر الوحي على هذا الطريق بالنسبة للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بل كان يتمّ بطرق اُخرى أيضاً.
ومن الضروري أن نشير إلى أن الوحي قد يتمّ أحياناً في اليقظة، كما أشير إلى ذلك أعلاه، وأحياناً في المنام عن طريق الرؤيا الصادقة، كما جاء بشأن إبراهيم وأمره بذبح ابنه إسماعيل(عليهما السلام) [ بالرغم من اعتبار بعضهم أن ذلك مصداق لـ(من وراء حجاب)].
وبالرغم من أن الطرق الثلاثة التي ذكرتها الآية تعتبر الطرق الرئيسية للوحي، إلاّ أن بعضاً من هذه الطرق لها فروع بحد ذاتها، فالبعض يعتقد أن الملائكة تقوم بإنزال الوحي عبر أربعة طرق:
1 ـ يقوم الملك بالقاء الوحي إلى روح النّبي وقلبه دون أن يتجسد أمامه أيّ النفث في الروع كما نقرأ ذلك في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: «إن روح القدس نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب».
1 ـ المؤمنون، الآية 27.
2 ـ النساء، الآية 164.
3 ـ البقرة، الآية 97.
2 ـ يتقمص الملك أحياناً شكل الإنسان ويتحدث مع النّبي (حيث تذكر الأحاديث أن جبرئيل ظهر بصورة دحية الكلبي)(1).
3 ـ وأحياناً يكون على شكل رنين الجرس الذي يدوي صوته في الآذان، وكان هذا أصعب أنواع الوحي بالنسبة للرسول حيث كان يتصبب عرقاً حتى في الأيّام الباردة، وإذا كان راكباً على دابة فإنّها كانت تقف وتجثو على الأرض.
4 ـ كما كان يظهر جبرئيل أحياناً بصورته الأصلية التي خلقه الله عليها، وهذا ما حدث مرتين فقط طوال حياة رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) [ كما سيأتي تفصيل ذلك في سورة النجم ـ الآية 12](2).
* * *
يرى الراغب في مفرداته إن أصل الوحي يعني الإشارة السريعة سواء بالكلام الخافت، أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية، أو الإشارة بالأعضاء (بالعين واليد والرأس) أو بالكتابة.
ومن خلال ذلك نستفيد أن الوحي يشتمل على السرعة من جانب والإشارة من جانب آخر، لذا فإن هذه الكلمة تستخدم للإرتباط الخاص والسريع للأنبياء مع عالم الغيب، وذات الخالق المقدسة.
1 ـ «دحية بن خليفة الكلبي» هو أخو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الرضاعة، وكان من أجمل الناس في ذلك الزمان، حيث كان جبرئيل يظهر على صورته عند مجيئه للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) [ مجمع البحرين ـ كلمة دحى] ، وكان من أشهر صحابة الرّسول ومعروفاً بالوجه الحسن، وقد أرسله النّبي الأكرم إلى قيصر الروم (هرقل) حاملاً رسالة منه في العام السادس أو السابع للهجرة، وبقي حياً إلى أيّام خلافة معاوية.
2 ـ في ظلال القرآن، المجلد السابع، ص306.
وهناك معان مختلفة (للوحي) في القرآن المجيد وفي لسان الأخبار، فأحياناً تكون بخصوص الأنبياء، وأحياناً للناس الأخرين، وأحياناً تطلق للإرتباط الخاص بين الناس، وأحياناً الإرتباط الخاص بين الشياطين، وأحياناً بخصوص الحيوانات.
وأفضل كلام في هذا المجال هو ما ورد عن علي(عليه السلام) في رده لشخص سأل عن الوحي، حيث قسمه الإمام إلى سبعة أقسام هي:
1 ـ وحي الرسالة والنبوّة: مثل (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً)(1).
2 ـ الوحي بمعنى الإلهام: مثل (وأوحى ربّك إلى النحل)(2).
3 ـ الوحي بمعنى الإشارة: مثل (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً)(3).
4 ـ الوحي بمعنى التقدير: مثل (وأوحى في كلّ سماء أمرها)(4).
5 ـ الوحي بمعنى الأمر: مثل (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)(5).
6 ـ الوحي بمعنى الأكاذيب: مثل (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)(6).
7 ـ الوحي بمعنى الإخبار: مثل (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا
1 ـ النساء، الآية 163.
2 ـ النحل، الآية 68.
3 ـ مريم، الآية 11.
4 ـ فصلت، الآية 12.
5 ـ المائدة، الآية 111.
6 ـ الأنعام، الآية 112.
إليهم فعل الخيرات)(1).
ويمكن أن تكون لبعض هذه الأقسام السبعة فروعاً اُخرى تزيد عند استعمالها من استخدامات الوحي في الكتاب والسنة، لذا فإن «التفليسي» ذهب في كتابه (وجوه القرآن) الى وجود عشر معاني أو أوجه للوحي، وبعضهم ذكر عدداً أكثر من هذا.
ومن خلال هذه الإستخدامات المختلفة للوحي ومشتقاته نستنتج أن الوحي الإلهي على نوعين: (وحي تشريعي) و (وحي تكويني).
فالوحي التشريعي هو ما كان ينزل على الأنبياء، ويمثل العلاقة الخاصة بينهم وبين الخالق، حيث كانوا يستلمون الأوامر الإلهية والحقائق عن هذا الطريق.
أمّا الوحي التكويني فهو في الحقيقة وجود الغرائز والقابليات والشروط والقوانين التكوينية الخاصة التي أوجدها الخالق في أعماق جميع الكائنات في هذا العالم.
لقد قيل الكثير حول حقيقة الوحي، ولكن بما أن هذا الإرتباط المجهول خارج حدود إدراكاتنا، لذا فإن هذه الكلمات لا تستطيع أن تعطي صورة الواضحة للموضوع، وأحياناً تؤدي الى الانحراف عن جادة الصواب، وقد ذكرنا آنفاً ما يمكن قوله في هذا المجال، وفي الحقيقة فإن ما يمكن قوله بشكل جميل ومختصر، ولم تصل بحوث المفكرين والعلماء لأكثر من ذلك، وفي نفس الوقت لابدّ هنا من ذكر بعض التفاسير التي طرحها الفلاسفة القدماء والجدد حول الوحي:
1 ـ الأنبياء، الآية 73.
بحار الأنوار ـ المجلد 18 ـ ص254.يرى هؤلاء ـ وفقاً لمقدمات مفصلة ـ أن الوحي هو عبارة عن الإتصال الخارق (لنفس الرّسول) مع (العقل الفعّال) المسيطر بظله على عالم (الحس المشترك) و(الخيال).
أنّ القدماء كانوا يعتقدون أن الروح الإنسانية لها ثلاث قوى: (قوّة الحس المشترك) وبواسطتهايدرك الإنسان صور المحسوسات، و (قوّة الخيال) وبواسطتها يدرك بعض الصور الذهنية، و (القوة العقلية) التي يدرك بواسطتها الصور الكلية.
ومن جانب آخر، فهم يعتقدون بنظرية الأفلاك التسعة لبطليموس، وكانوا يعتقدون بوجود (النفس المجرّدة) لها مثل (الروح لأجسادنا) ويضيفون: إن هذه النفوس الفلكية تستلْهم من كائنات مجرّدة تسمى (العقول)، وعلى هذا الأساس فهم يقولون بوجود (تسعة عقول) تختص (بالأفلاك التسعة).
ومن جانب ثالث كانوا يعتقدون أن النفوس الإنسانية وأرواحها يجب أن تستلهم من الكائن المجرد الذي يسمى بـ (العقل الفعال) وذلك لأجل إظهار القابليات وإدراك الحقائق، حيث كان يسمى بـ (العقل العاشر)، أمّا سبب تسميته بالفعال فلأنّه أساس حدوث القابليات للعقول الجزئية.
ومن جانب رابع كانوا يعتقدون أنّه مهما قويت الروح الإنسانية فإنّه سيزداد ارتباطها واتصالها بالعقل الفعال الذي هو خزانة ومصدر المعلومات، لذا فإنّ الروح القوية والكاملة تستطيع أن تكتسب أوسع المعلومات من (العقل الفعال) بأمر من الخالق، وذلك في أقصر مدة.
وأيضاً فإذا قويت (قوّة الخيال) فانّها تستطيع أن تنقل هذه المفاهيم إلى
الحس بشكل أفضل، وعندما يقوى الحس المشترك الإنسان أن يدرك القضايا المحسوسة الخارجية بشكل أفضل أيضاً.
ومن خلال هذه المقدمات سيتنتجون أن روح النّبي لها ارتباط واتصال كبير جداً بالعقل الفعال، لأنّها قوية بشكل خارق، ولهذا السبب تستطيع أن تأخذ المعلومات بشكل عام من العقل الفعال في أكثر الأوقات.
وبما أن القوة الخيالية للنبي قوية جداً أيضاً، وفي نفس الوقت تتبع القوة العقلية، لذا فإنها (أي القوة الخيالية) تستطيع أن تعطي صوراً محسوسة مناسبة للصور الكلية المأخوذة من العقل الفعال، وأن ترى نفسها ضمن أطر حسية في أفق الذهن، فمثلا لو كانت تلك الحقائق العامة من باب المعاني والأحكام فسيسمعها من لسان شخص بمنتهى الكمال، وذلك على شكل ألفاظ موزونة بمنتهى الفصاحة والبلاغة.
ولأن قوته الخيالية مسيطرة بشكل كامل على الحس المشترك، لذا فإنّها تستطيع أن تعطي طبيعة حسية لهذه الصور، ويستطيع النّبي أن يرى ذلك الشخص بعينه ويسمع ألفاظه بإذنه.
نقد وتحليل
هذه النظرية تعتمد على مقدمات يعتبر القسم الأعظم منها مرفوضاً في الوقت الحاضر، فمثلا أفلاك بطليموس التسع والنفوس والعقول المرتبطة بها تعتبر جزءاً من الأساطير، لعدم وجود أي دليل على إثباتها، بل وتوجد أدلة ضدها.
ومن جانب آخر فإن هذه الفرضية لا تتلاءم مع الآيات القرآنية بخصوص الوحي، لأن الآيات القرآنية تصرّح بأن الوحي نوع من الإرتباط مع الخالق الذي قد يكون عن طريق الإلهام أحياناً، وأحياناً اُخرى عن طريق الملك أو سماع
الأمواج الصوتية أمّا القول بأنّه وليد القوة الخيالية والحس المشترك وأمثال ذلك فهو في غاية الضعف وعدم الانسجام مع الآيات القرآنية.
ومن الإشكالات الأُخرى على هذا الكلام هو تصنيفه للنبي في قائمة الفلاسفة والنوابغ بعقل وروح أقوى، في حين أنّنا نعلم أن طريق الوحي مغاير تماماً لطريق الإدراكات العقلية.
فهذه المجموعة من الفلاسفة أساءت لأساس الوحي والنبوة دون قصد ولأنّهم لم يلمّوا بالحقيقة سلكوا طريق الخيال والأسطورة.
وهناك تفصيلات أكثر عن هذا الموضوع تأتي ضمن البحوث القادمة.
هذه المجموعة من الفلاسفة اعتبرت الوحي باختصار نوعاً من (الشعور الباطن) وجاء في (دائرة معارف القرن العشرين) حول الوحي ما يلي:
(كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتدنية يقولون بالوحي لأن كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء، فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة وتغالت حتى انكرت الخالق والروح معاً وعللت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاف من المتنبأة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا إلى هذيان مرض يعتري بعض العصبيين فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحاً تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئاً. رواج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي، فلما ظهرت آية الأرواح في امريكا سنة 1846 وسرت منها إلى أوروبا كلها وأثبت للناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة تغير وجه النظر في المسائل الروحانية، وحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء النحت فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر لا على أسلوب التقليد الديني ولا
من طريق الغرب في مهامة الخيالات، فتأدوا إلى نتائج وإن كانت غير ما قرره علماء الدين الإسلامي إلا أنّها خطوة كبيرة في سبيل إثبات أمر عظيم كان قد أحيل إلى عالم الأمور الخرافية)(1).
والكلام في هذا المجال كثير، إلاّ أن خلاصته أنّهم اعتبروا الوحي تجلياً للوجدان الخفي وإظهاراً لعالم اللاشعور في الانسان الذي هو أقوى بكثير من عالم الشعور فيه وبما أنّ الانبياء كانوا رجالا متميّزين فقد كانوا يتمتعون بوجدان قوي جدّاً وذي ترشحات مهمّة.
نقد وتحليل
واضح أن ما تقوله هذه المجموعة هو افتراض بحت، حيث لم يذكروا أيّ دليل على ذلك، وفي الحقيقة فقد اعتبروا الأنبياء أفراداً لهم نبوغ فكري وشخصية عظيمة، دون أن يقبلوا بارتباطهم بمصدر عالم الوجود (الخالق العظيم) واكتسابهم للعلوم عن طريقه ومن خارج كيانهم.
إنّ مصدر خطئهم هو أنّهم أرادوا قيا س الوحي وفقاً لمعايير العلوم التجريبية، ونفي أي شيء خارج دائرتها، وجميع الموجودات في هذا العالم يجب أن تدرك بهذا المعيار، وإلاّ فهو غير موجود.
هذا الأُسلوب من التفكير ترك آثاره السيئة، ليس في موضوع الوحي فحسب، بل في العديد من البحوث الفلسفية والعقائدية الأُخرى. لذا فإن هذا التفكير مرفوض من أساسه، لأنّهم لم يذكروا أيّ دليل على تقييد جميع الكائنات في العالم بالكائنات المادية وما ينتج عنها.
البعض الآخر تجاوز هذه الأقوال وأعلن بشكل رسمي أن الوحي نتيجة
1 ـ دائرة المعارف القرن العشرين 10/ مادة(وحى).
للنبوغ الفكري للأنبياء، ويقول: إنّ الأنبياء كانوا أفراداً ذوي فطرة طاهرة ونبوغ خارق، حيث كانوا يدركون مصالح المجتمع الإنساني، وبواسطته يضعون له المعارف والقوانين.
وهذا الكلام في الواقع ينكر بصراحة نبوّة الأنبياء، ويكذب أقوالهم، ويتهمهم بأنواع الأكاذيب (العياذ بالله).
وبعبارة أوضح فإنّ أيّاً ممّا ذكرناه لا يعتبر تفسيراً للوحي، وإنّما هي افتراضات مطروحة في حدود الأفكار، ولأنّهم أصروا على عدم الإعتراف بوجود قضايا اُخرى خارج إطار معلوماتهم، لذا فإنّهم واجهوا الطريق المسدود.
لا يمكننا الاحاطة ـ بلا شك ـ بحقيقة الوحي وارتباطاته، لأنّه نوع من الإدراك خارج عن حدود إدراكنا، وهو ارتباط خارج عن حدود ارتباطاتنا المعروفة. فعالم الوحي بالنسبة لناعالم مجهول وفوق إداركاتنا، فكيف يستطيع إنسان ترابي أن يرتبط مع مصدر عالم الوجود؟!
وكيف يرتبط الخالق الأزلي الأبدي مع مخلوق محدود وممكن الوجود! وكيف يتيقن النّبي عند نزول الوحي أن هذا الإرتباط معه؟
هذه أسئلة يَصْعُب الجواب عليها بالنسبة لنا، ولا داعي للإصرار على فهمها.
أمّا الموضوع الذي يعتبر معقولا بالنسبة لنا ويمكن قبوله فهو وجود ـ أو إمكانية وجودـ هذا الإرتباط المجهول.
فنحن نقول: لا يوجد أيّ دليل عقلي ينفي إمكانية مثل هذا الأمر، بل على العكس من ذلك حيث نرى ارتباطات مجهولة في عالمنا نعجز عن تفسيرها، وهذه الإرتباطات تؤّكد وجود مرئيات ومدركات اُخرى خارج حدود حواسنا وارتباطاتنا.
ولا بأس من ذكر مثال لتوضيح هذا الموضوع...
لنفرض أنّنا كنا في مدينة كلّ أهلها من العميان (عميان منذ الولادة) ونحن الوحيدون ننظر بعينين، فكل أهل المدينة لهم أربعة حواس (على فرض أن الحواس الظاهرية للإنسان خمسة) ونحن الوحيدون نملك خمسة حواس. عندها سنشاهد أحداثاً كثيرة في هذه المدينة، وعندما نخبر أهل هذه المدينة سيتعجبون جميعهم من هذه الحاسة الخامسة التي تستطيع أن تدرك هذه الحوادث المتعددة، ومهما حاولنا شرح حاسة النظر لهم وفوائدها وآثارها فإنّهم لا يستطيعون فهم ذلك. فمن جانب لا يستطيعون نكران ذلك لإدراكهم آثارها، ومن جانب آخر لا يقدرون على درك حقيقة حاسة النظر، لأنّهم غير قادرين على النظر طيلة حياتهم ولو للحظة واحدة.
ولا نريد القول أن الوحي هو (الحاسة السادسة)، بل هو نوع من الإرتباط والإدراك لعالم الغيب والذات الإلهية المقدسة، ولأننا نفقد ذلك لا نستطيع أن ندرك كنهه بالرغم من إيماننا بوجود الوحي لوجود آثاره.
إنّنا نرى رجالا عظماء يدعون الناس الى أُمور هي فوق مستوى أفكار البشر، ويدعوهم إلى الدين الإلهي، وعندهم من المعاجز الخارقة ما يفوق طاقة الإنسان، حيث توضح هذه المعاجز ارتباطهم بعالم الغيب، فالآثار واضحة إلاّ أن الحقيقة مخفية.
هل توصلنا ـ نحن إلى معرفة جميع أسرار هذا العالم، كي ننفي الوحي لصعوبة إداركه بالنسبة لنا؟!
وحتى في عالم الحيوانات، فهناك ظواهر مجهولة نعجز عن تفسيرها، فهل توضحت لنا الحياة المجهولة لبعض الطيور المهاجرة التي قد تقطع ثمانية عشر ألف كيلومتر من القطب الشمالي وحتى الجنوبي أو العكس؟ فكيف تعرف هذه الطيور الطريق بدقة مع أنّها قد تسافر أحياناً في النهار وأحياناً اُخرى في الليالي
المظلمة، في حين أنّنا لا نستطيع أحياناً أن نسير مقداراً يسيراً من طريقها ما لم يكن لدينا أجهزة ووسائل معينة توضح لنا لمسير؟
وهناك بعض الأسماك التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات، وعندما تريد أن تضع بيوضها تعود إلى مسقط رأسها الذي يبعد أحياناً آلاف الكيلومترات، فكيف تستطيع هذه الأسماك أن تهتدي إلى مسقط رأسها بهذه السهولة؟!
وهناك العديد من هذه الأمثلة المجهولة في حياتنا تمنعنا انكار ونفي كل شيء، وتذكرنا بوصية الفيلسوف «ابن سينا» الذي يقول: «كل ما قرع سمعك من الغرائب فضعه في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قاطع البرهان.»
والآن لنر ادلّة الماديين في إنكار الوحي.
يذكر بعض الماديين لدى طرح مسألة الوحي بأن الوحي خلاف العلم!
وإذا سألناهم كيف ذلك؟ يقولون بلهجة المغرورة والواثق من نفسه: إنّه يكفى لانكار شيء أن العلوم الطبيعية لم تثبته. ونحن لا نقبل إلاّ المواضيع التي أثبتتها العلوم التجريبية وفق معاييرها الخاصة.
وإضافة لذلك فنحن لم نواجه في تحقيقاتنا العلمية حول جسم الإنسان وروحه، شيئاً مجهولا يستطيع أن يربطنا بعالم ماوراء الطبيعة.
كيف يمكننا أن نصدق بأن الأنبياء، الذين هم بشر مثلنا، لهم إحساس غير إحساسنا وادراك فوق ادراكنا؟
مثل هذا التعامل للماديين مع الوحي لا يرتبط بهذا الخصوص فحسب،
فهؤلاء لهم مثل هذا التحليل حيال جميع القضايا التي تختص بما وراء الطبيعة، ولأجل التوضيح نقول لهم دائماً: لا تنسوا أن حدود العلم هي عالم المادة، والأجهزة والوسائل المستخدمة في البحوث العلمية ـ كالمختبرات والتلسكوبات والميكروسكوبات وقاعات التشريح ـ كلها محدود بحدود هذا العالم، فهذه العلوم وأجهزتها لا تستطيع أن تتحدث أبداً عما هو موجود خارج حدود عالم المادة، لا بالنفي ولا بالإثبات، والدليل على ذلك واضح، لأن هذه الأجهزة والوسائل لها قدرة محدودة ومحيط خاص بها.
بل إنّ أجهزة كلّ واحد من العلوم الطبيعية لا يستطيع أن يكون فاعلا بالنسبة للعلم الآخر، فمثلا نحن لا نستطيع أن ننكر وجود ميكروب السل إذا لم نشاهده بواسطة التلسكوب العظيم المستخدم في النجوم، أو ننفي وجود كوكب البلوتون لأنّنا لم نشاهده بواسطة الميكروسكوب أو المجهر.
فالوسائل تتناسب مع نوع العلم دائماً، أما الوسائل المستخدمة لمعرفة ما وراء الطبيعة، فهي ليست سوى الإستدلالات العقلية القوية التي تفتح لنا الآفاق نحو ذلك العالم الكبير.
فالذين يخرجون العلم عن محيطه وحدوده ليسوا علماء ولا فلاسفة، إنّما يدعون ذلك، وفي نفس الوقت هم خاطئون وضالون.
المهم إنّنا نرى أشخاصاً عظاماً جاؤوا وذكروا لنا أُموراً هي خارج حدود معرفة البشر، وهذا يؤكّد ارتباطهم بما وراء عالم المادة. أمّا كيف يكون هذا الإرتباط المجهول؟ فهذا مالم يتضح لنا، إنّما المهم هو أنّنا نعلم بوجود مثل هذا الإرتباط.
![]() |
![]() |
![]() |