حقاً إنّ القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلاب الحقّ والحقيقة هم المستفيدون ـ فقط ـ من نوره، أمّا أُولئك الذين تعمدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم، و الذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد فقط  لا يستفيدون من نور القرآن، وإنّما يزدادون ضلالة من جراء عنادهم وعدائهم، لذلك فإن تتمة الآية تقول: (ومن يضلل الله فما له من هاد).

فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقاً مع إرادة الإنسان وحريته.

الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين، ومجموعة من المؤمنين الذين استتعرضت أوضاعهم فيما قبل، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحاً في هذه المقارنة، إذ تقول: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة)(1)كمن هو آمن في ذلك اليوم ولا تمسّه النّار أبداً؟!.

الملاحظة التي ينبغي الإلتفات إليها، هي قوله تعالى: (يتقي بوجه سوء العذاب) وكما هو معروف فإنّ الوجه أشرف أعضاء جسم الإنسان، لأنّ فيه (العينان والفم والأذنان) التي هي أهم حواسّ الإنسان، وأساساً فإنّ تشخيص الإنسان إنّما يتمّ عن طريق وجهه، ولهذاه الخصائص الموجودة في الوجه، فإنّ


1 ـ هذه العبارة فيها محذوف، التقدير (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن لا تمسه النار).

[68]

الإنسان عندما يحسّ أنّ هناك خطراً سيصيب وجهه، فإنّه يضع يديه وما يمكن من أعضاء جسمه أمام وجهه كدرع لدرء ذلك الخطر.

إلا أن أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدم وجوههم كوسيلة دفاعية، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل، كما ورد في الآية (8) من سورة يس: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون).

قال البعض: بما أنّ أهل جهنم يرمون على وجوههم في النّار، لذا فإنّ الوجه هو أوّل عضو من أعضا الجسم يحترق في نار جهنم، كما ورد في الآية (90) من سورة النمل: (من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار).

والبعض الآخر قال: إنّ هذه العبارة كناية عن عجز أهل جهنم من الدفاع عن أنفسهم مقابل نار جهنم.

التفاسير الثلاثة ـ هذه ـ لا تتعارض مع بعضها، ويمكن أن تعطي جميعها مفهوم الآية.

ثم تضيف نهاية الآية: (وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون).

نعم، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة، إذ يقولون لهم: إنّ أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.

وممّآ يلفت النظر أنّ هذه العبارة لا تقول: ذوقوا عقاب ما كنتم تكسبون، وإنّما تقول لهم: ذوقوا ما كنتم تكسبون، وهذا شاهد آخر على مسألة تجسيد الأعمال يوم القيامة.

إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة، و الآية التالية تتحدّث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا، قال تعالى: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث

[69]

 لا يشعرون).

فالإنسان لا يتألم كثيراً إن أُصيب بضربة كان يتوقعها، إلاّ أنّه يتألم كثيراً إن وجهت إليه ضربة من طرف لم يتوقع أن تصدر منه، كأن تصدر عن أقرب أصدقائه، أو يلحق به أذى من أُمور حيوية جداً ومحبوبة له كالماء الذي هو مصدر حياة الإنسان، أو من نفحة النسيم التي هي مصدر نشاطه، أو من الأرض الهادئة التي هي مقر استراحته وأمنه.

نعم، إنّ نزول العذاب الإلهي بواسطة هذه الطرق يعدّ أمراً مؤلماً جدّاً، كالذي أصاب قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وأمثالهم، إذ لم يكن أي أحد منهم يتوقع أن يصيبه العذاب بواسطة إحدى الطرق المذكورة أعلاه.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية: (فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا)(1).

نعم، فإن أُصيب الإنسان بمصيبة في هذه الدنيا، ثمّ خرج منها مرفوع الرأس حافظاً لماء وجهه، فهذه الحالة ليست بعار وخزي على الإنسان، إنّما العار والخزي للإنسان الذي يخرج من هذه الدنيا رذيلا وذليلا، ومبتلىً بعذاب فاضح يريق ماء وجهه، (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).

كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.

* * *

 

بحث

وردت عدّة روايات في ذيل الايات مورد البحث تجسّم أمامنا آفاقاً أوسع مهما يفهم من الآية.


1 ـ كلمة (خزي) تعني الذلّ و الهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).

[70]

إذ نقل العباس عم النّبي، حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جاء فى، «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها»(1). ومن الواضح أن الشخص الذي يخشى الله ويتأثر من ذلك الى هذه الدرجة لابدّ أن تتوفر فيه حالة التوبة والانابة، ومثل هذا الشخص سيكون مورداً لعفو الله ومغفرته حتماً.

وروي عن (أسماء) إذ قالت عندما سئلت عن أصحاب رسول الله فقالت: (كان أصحاب النّبي حقاً إذا قرىء عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم). وأضاف الراوي: سئلت أسماء: هل عندنا أحد يغمى عليه أو يفقد الوعي عندما يسمع آيات القرآن المجيد، فأجابت أسماء: أعوذ بالله تعالى من الشطان، (أي إنّه من عمل الشيطان)(2).

هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ جواب لأُولئك المتصوفة الذين يعقدون الإجتماعات والحلقات، ويقرأون فيها بعض الآيات والأذكار، ثمّ يقومون ببعض الحركات بعنوان حالة الوجد والسرور، ثمّ يشرعون بإطلاق بعض الصيحات وإظهار أنفسهم وكأنّهم قد أُغشي عليهم، ويحتمل أن البعض يغشى عليه فعلا. مثل هذه الأُمور لم ينقلها أحد أبداً بشأن أصحاب الرّسول، وما هي إلاّ بدعة ابتدعها المتصوفة.

وبالطبع يمكن أن يندهش الإنسان أحياناً وقد يغشى عليه من شدّة خوفه من الباريء عزّوجلّ، وهذا الأمر يختلف كثيراً عن ممارست الصوفيين الذين يعقدون الحلقات للذكر التي ذكرناها آنفاً.

 

* * *


1 ـ (مجمع البيان) ذيل آيات البحث، كما نقل هذه الرواية أبو الفتوح الرازي و القراطبي مع شيء من الإختلاف.

2 ـ أورد الآلوسي هذا الحديث في روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 235، كما أورده بعض المفسّرين في ذيل الآية.

[71]

الآيات

وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلِ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( 27 ) قُرْءَاناً عَرَبِيَّاً غَيْرَ ذِى عِوَج لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِّرَجُل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ ِللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 29 )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ( 31 )

 

التّفسير

قرآن لا عوج فيه:

الآيات ـ هناـ تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال.

ففي البداية تتحدّث عن مسألة شمولية القرآن، إذ تقول الآية الكريمة: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل).

حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة، وعواقب الذنوب الوخيمة، ونصائح ومواعظ، وأسرار الخلق ونظامه، وأحكام وقوانين متينة.

[72]

وبكلمة أنّه وضح فيه كلّ ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم (لعلهم يتذكرون).

وممّا يذكر أنّ «المثل» في اللغة العربية هو الكلام الذي يجسّم الحقيقة، أو يصف الشيء، أو يشبه الشيء بشيء آخر، وهذه العبارة شملت كلّ حقائق ومواضيع القرآن، وبيّنت شموليته.

ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن، إذ تقول: (قرآناً عربياً غير ذي عوج)(1).

في الحقيقة، تمّ هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن:

الأُولى كلمة (قرآناً) التي هي إشارة إلى حقيقة أنّ الآيات الكريمة ستبقى تتلى دائماً، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، في الخلوات وفي أوساط الناس، وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن ستبقى نور الهداية المضيء على الدوام.

الصفة الثانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي، الذي عبّر عنه بـ (عربياً) لأنّ إحدى معاني العربي هي الفصاحة، والمقصود منه هنا هذا المعنى.

الصفة الثّالثة، ليس فيه أي إعوجاج، فآياته منسجمة، وعباراته ظاهرة ويفسّر بعضها البعض(2).

الكثير من اللغويين وأصحاب التّفسير قالوا: إنّ (عوج) (بكسر العين) تعني الإنحرافات المعنوية، في حين أنّ (عوج) بفتح العين، تعني الإعوجاج الظاهر. ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الإعوجاج الظاهري، ما في الآية (107) من سورة طه: (لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) لهذا فإنّ بعض اللغويين يعتبرونها أكثر


1 ـ الموقع الإعرابي لقوله تعالى: (قرآناً عربياً) حال لـ (القرآن) التي ذكرت من قبل، و لكون كلمة (قرآناً) لا تحمل طابع الوصف فقد قال البعض: إنّها توطئة للحال الذي هو (عربياً) و ذهب البعض الى آنها بمعنى (مقرؤاً) وتعطي معنى الوصف، والبعض قال: إنّها منصوبة على المدح بتقدير فعل.

2 ـ كلمة (عوج) جاءت بصورة نكرة في سياق النفي، و تعطي معنى النفي العام لعدم لوجود أي انحراف و انعطاف في القرآن.

[73]

عمومية(1).

وعلى أية حال، فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم ـ بكل هذه الصفات التي ذكرناهاـ هو (لعلهم يتقون).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية السابقة انتهت بعبارة: (لعلهم يتذكرون)وهنا انتهت بعبارة: (لعلهم يتقون) لأنّ التذكّر يكون دائماً مقدّمة للتقوى و«التقوى» هي ثمرة شجرة «التذكر».

ثمّ يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل، إذ يقول: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون)(2).

أي إنّ هناك عبداً يمتلكه عدّة أشخاص، كلّ واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معين، فهذا يقول له: نفذ العمل الفلاني، والآخر ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل، وهو في وسطهم كالتائه الحيران، لا يدري أي أمر ينفّذ، فالأمران متناقضان ومتضادان، ولا يدري أيّاً منهما يرضيه؟

والأدهى من كلّ ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته، يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأوّل، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد (ورجلا سلماً لرجل).

فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، ويعمل تحت رعاية فرد يدعمه في كلّ شيء وفي كلّ أمر وفي كلّ مكان. فهل أنّ هذين الرجلين متساويان (هل يستويان مثلا).


1 ـ يراجع (مفردات الراغب) و(لسان العرب) وغيرها من التفاسير.

2 ـ «متشاكسون» : أصلها من (شكاسة) و تعني سوء الخلق و التنازع و الإختصام، و لهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية و سوء خلق.

[74]

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد، فلا استقرار في حياته ولا اطمئنان ولا مسير واضح يسلكه. أما الموحّدون فإنّهم يعشقون الله وحده، وفي كلّ الأحوال يلجؤون إلى ظلّ لطفه، ولا تنظر عيونهم إلى سواه، فطريقهم ونهجهم واضح، ومصيرهم ونهايتهم واضحة أيضاً.

وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام «أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله»(1).

وورد في حديث آخر عنه أيضاً «الرجل السلم للرجل حقاً علىّ وشيعته»(2).

وفي نهاية الآية يقول تعالى: (الحمد للّه) فاللّه سبحانه وتعالى بذكره لتلك الأمثال يرشدكم إلى أفضل السبل، ويضع تحت تصرفكم أوضح الدلائل لتشخيص الحقّ عن الباطل، فالبايء عزّوجلّ يدعو الجميع إلى الإخلاص و في ظل الاخلاص تكون السكينة والراحة، فهل هناك نعمة أفضل من هذه، وهل هناك أمر آخر يستحق الحمد والشكر أكثر من هذه النعمة؟!

ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة، إذ أنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة: (بل أكثرهم لا يعلمون).

وتتمّة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك، تتحدث الآية التالية عن نتائج الشرك والتوحيد في موقف القيامة.

إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوابة القيامة، وتبيّن لكلّ البشرية أنّ قانون الموت عامّ وشامل للجميع: (إنّك ميت وإنّهم ميتون)(3).


1 ـ نقله (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) في شواهد التنزيل.

2 ـ نقله العياشي في تفسيره مجمع اليبان، ذيل آيات البحث.

3 ـ عبارة (إنّك ميت و إنّهم ميتون) على الظاهر تعطي معنى موت الجميع في الوقت الحاضر، و هي من قبيل (المضارع المتحقق الوقوع) الذي يأتى أحياناً بصورة حال و أحياناً اُخرى بصورة الماضي.

[75]

نعم، فالموت من الأمور التي تشمل جميع الناس، ولا يستثنى منه أحد، فهو طريق يجب أن يمرّ به الجميع في نهاية المطاف.

قال بعض المفسّرين: إنّ أعداء رسول الله كانوا ينتظرون وفاته، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يموت في نهاية الأمر، فالقرآن ـ هناـ أجابهم بالقول: إن مات رسول الله فهل تبقون أنتم خالدين، هذا ما نصت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء: (أفإن مت فهم الخالدون).

ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر، (ثم إنّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون).

«تختصمون»: مشتقّة من (اختصام) وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل، منهما تفنيد كلام الأخر، فأحياناً يكون أحدهم على حقّ والآخر على باطل، وأحياناً يكون الاثنان على باطل، كما في مجادلة ومخاصمة أهل النّار فيما بينهم، وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الحكم عاماً أم لا.

قال البعض: إنّ المخاصمة تقع بين المسلمين والكفار.

وقال البعض الآخر: إنّها تقع بين المسلمين أنفسهم،وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال: لم يكن أحد فينا يفكر في أن يقع خصام فيما بين المسلمين، وكنّا نقول: كيف نختصم نحن وربّنا واحد، ونبيّنا واحد وديننا واحد؟ فلما كان يوم صفين وشدّ الفريقان الذين كانا مسلمين (حيث كان أحدهما مسلماً حقيقياً والآخر يدعي الإسلام) بالسيوف على بعضهما البعض، قلنا: نعم، الآية تشملنا نحن أيضاً(1).

ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة، والمشركين المكذبين من جهة اُخرى.

لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب; فقال: إنّ رجالا من المنافقين


1 ـ مجمع البيان، المجلد8، الصحفحة 497.

[76]

يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي والله رسول اللّه ما مات، ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات; ووالله ليرجعنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات؟.

وقال الرّاوي: وأقبل أبوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلّم الناس، فلم يلفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجّى في ناحية البيت، عليه بُرد حبرة؟، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال الراوي: قال أبوبكر: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلاّ أن يتكلم ثمّ تلا أبوبكر هذه الآية: (وما محمد إلاّ رسول).

قال الرّاوي: فوالله لكأنّ الناس يعلموا أنّ هذه الآية ما نزلت حتى تلا أبو بكر ثمّ قال عمر: والله ما هو إلاّ أن سمعت أبابكر تلاها فعفرت(1) حتى وقعت إلى الارض ما تحملني رجلاي(2).

 

* * *

 


1 ـ 1ـ غفرت: وحشت

2 ـ سيرة ابن هشام، المجلد الرابع، الصفحات 305 و 306، نقلا عن الكامل لابن الأثير، المجلد الثّاني، الصفحة 323 و 324، مع شيء من التلخيص.

[77]

 

بداية

 

الجزء الرابعْ والعشرون

 

مِنَ

 

 

 

القُرانُ الكريمْ

 

 

[78]

 

[79]

الآيات

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَ كَذَّبَ بِالْصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْكَـفِرِينَ( 32 ) وَ الَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( 33 ) لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الـمُحْسِنِينَ( 34 ) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ( 35 )

 

التّفسير

أولئك الذين يصدقون كلام الله:

هذه الآيات تواصل البحث الخاصّ بموقف الناس في ساحة المحشر، وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى، وتقسم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما (المكذبون) و (المصدقون).

والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الأولى، أي «المكذبين»،قال تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه).

الكافرون والمشركون يكذبون كثيراً على الباريء عزّوجلّ، فأحياناً يعتبرون الملائكة بنات الله، وأحياناً يقولون: عيسى هو ابن الله، وأحياناً اُخرى

[80]

يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند الله، وأحياناً يبتدعون أحكاماً كاذبة في الحلال والحرام وينسبونها إلى الله، وما شابه ذلك.

وأمّا الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذّبوه فهو القرآن المجيد.

خاتمة الآية تبيّن في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد، قال تعالى: (أليس في جهنم مثوى الكافرين)(1).

أمّا المجموعة الثّانية فقد وصفها القرآن الكريم بوصفين، إذ قال: (و الذي جاء بالصدق وصدق به أُولئك هم المتقون).

فبعض الرّوايات الواردة عن أئمّة الهدى(عليهم السلام) فسّرت: (والذي جاء بالصدق)بأنّها تعود على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و (صدق به) تعود على علي(عليه السلام)(2)، وبالطبع فإن المقصود من ذلك هو بيان مصداقية الآية، لأنّ عبارة: (أُولئك هم المتقون)دليل على شمولية الآية.

ومن هنا يتّضح أنّ تفسير الآية المذكورة أعلاه بأن المراد شخص  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو مهبط الوحي و المصدق به في نفس الوقت، فهو أيضاً من قبيل بيان مصداق الآية وليس بيان المفهوم العام لها.

لذلك فإنّ مجموعة من المفسّرين فسّروا عبارة قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق)بأنّه يعني كلّ الأنبياء و (صدق به)يعني أتباعهم الحقيقيين، وهم المتقون.

وهناك تفسير آخر للآية، لكنّه أوسع وأكثر شمولية من التفاسير الأُخرى، رغم أنّه لم يحظ كثيراً باهتمام المفسّرين، لكنّه أكثر انسجاماً مع ظاهر الآيات، والتّفسير هو أن (الذي جاء بالصدق) ليس منحصراً في الرّسل فقط، وإنّما يشمل كلّ الذين يبلغون نهج الأنبياء ويروجون كلام الله، وفي هذه الحالة فلا يوجد أي


1 ـ «مثوى» : من مادة (ثواء) و تعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا فإنّ (مثوى) هنا تعني المكان والمنزل الدائم.

2 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث.

[81]

مانع من القول بأن العبارتين تنطبقان على مجموعة واحدة (كما يوضح ذلك ظاهر الآية، لأنّ ضمير (والذي ذكر مرّة واحدة فقط).

وبهذا الشكل فإنّ الآية تتحدّث عن أناس هم من حملة الرسالة و من العاملين به، وتتحدّث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من كلام الباريء عزّوجلّ وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإنّ الآية تضم الأنبياء والأئمّة المعصومين والدعاة لنهج الأنبياء.

والملفت للنظر أنّ الاية عن الوحي «بالصدق» وهو اشارة إلى أن الكلام الوحيد الذي لا يحتمل وجود الكذب والخطأ فيه هو كلام الله الذي نزل به الوحي، فإن سار الإنسان في ظلّ تعليمات نهج الأنبياء وصدقها فإنّ التقوى سوف تتفتح في داخل روحه.

الآية التالية تبيّن أنّ هناك ثلاث مثوبات بانتظار أفراد هذه المجموعة، أي المصدقين، إذ تقول في البداية: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم ذلك جزاء المحسنين).

لهذه الآية مفهوم واسع بحيث يشمل كلّ النعم المادية والمعنوية التي يمكن تصورها والتي لا يمكن تصورها.

وعلى ضوء هذه الآية يطرح البعض السؤال التالي: إذا طلب أحدهم أن يكون مقامه أرفع من مقام الأنبياء والأولياء، فهل يعطى ذلك؟

علينا أن لا نغفل عن كون أهل الجنّة يدركون عين الحقيقة، ولهذا لا يفكر أحد منهم بأمر يخالف الحقّ والعدالة، ولا يتناسب مع أساس توازن اللياقات والكفاءات.

بعبارة اُخرى: لا يمكن أن يحصل أشخاص لهم درجات مختلفة في الإيمان والعمل على نفس الجزاء، فكيف يأمل أصحاب الجنّة في تحقيق أشياء مستحيلة؟! وفي نفس الوقت فإنّهم يعيشون في حالة روحية خالية من الحسد والغيرة، وهم راضون بما رزقوا به.

[82]

وكما هو معلوم فإنّ المكافاة الإلهية في الآخرة وحتى التفضيل الإلهي للبعض دون البعض الآخر إنّما يتمّ على أساس اللياقة التي حصل عليها الإنسان في هذه الدنيا، فالذي يعرف أنّ إيمانه وعمله في هذه الدنيا لم يصل إلى درجة إيمان وعمل الأُخرين لا يأمل يوماً ما أن يكون بمرتبتهم، لإنّ ذلك أمل ورجاء غير منطقي.

وعبارة: (عند ربّهم) تبيّن عدم انقطاع اللطف الإلهي عن أُولئك وكأنّهم ضيوف الله على الدوام، وكلّ ما يطلبونه يوفر لهم.

وعبارة: (ذلك جزاء المحسنين) أقيم فيها الظاهر مقام ضمير الإشارة، اشارة الى أن إحسانهم وعملهم الصالح كانا سبباً في حصولهم على الأجر المذكور.

أمّا المكافأتان الثانية والثّالثة اللتان يمنحهما الباريء عزّوجلّ للمصدقين، فيقول القرآن المجيد بشأنهما: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون)(1).

كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون الله سبحانه وتعالى ليكّفر عنهم أسوأ ما عملوا بظلّ لطفه، ويطهرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن جهة اُخرى يدعون الله ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معياراً للمكافأة، وأن يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.

إنّ ما يتّضح من الآيات الكريمة هو أنّ الله استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم وعفا عن أسوأ أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معياراً للمكافأة.

من البديهي، عندما يشمل العفو الألهي الزلاّت الكبيرة، فإنّ الزلات الصغيرة أولى بالشمول، لأنّ الزلات الكبيرة هي التي تقلق الإنسان أكثر من أيّ شيء آخر،


1 ـ في عودة قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم) ذكر المفسّرون آراء شتى بهذا الشأن و لكن التّفسير الذي يبدو أنسب هو أنّها تعود على الفعل (أحسنوا) و يفهم ذلك من كلمة المحسنين، و التقدير (ذلك جزاء المحسنين أحسنوا ليكفر الله عنهم) نعم إنّهم عمدوا إلى عمل الإحسان كي يكفر الله عهم سيئاتهم و يغفر زلاتهم و يعطيهم أفضل الثواب.

[83]

ولهذا السبب فإنّ المؤمنين كثيراً ما يفكرون بها.

وثمة سؤال يطرح نفسه هنا: إذا كانت الآيات السابقة تخص الأنبياء والمؤمنين من أتباعهم، فكيف اقترف هؤلاء تلك الزلات الكبيرة؟

الجواب على هذا السؤال يتّضح من خلال الإنتباه إلى أنّه عندما ينسب عمل ما إلى مجموعة، فهذا لا يعني أنّ الجميع قاموا بذلك العمل، وإنّما يكفي أن تقوم به مجموعة صغيرة منهم، فمثلا عندما نقول: إن بني العباس خلفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من دون أيّ حق، فإنّ هذا لا يعني أنّ الكل اعتلوا كرسي الخلافة، وإنّما مجموعة منهم.

الآية المذكورة أعلاه تبيّن أنّ مجموعة من حملة الرسالة وأتباع نهجهم كانوا قد ارتكبوا بعض الأخطاء والزلاّت، وأنّ الباريء عزّوجلّ صفح عنهم وغفر لهم بسبب أعمالهم الصالحة والحسنة. على أيّة حال فإنّ ذكر الغفران والصفح قبل ذكر الثواب، يعود إلى هذا السبب، وهو أنّ عليهم في البداية أن يغتسلوا ويتطهروا، ومن ثمّ الورود الى مقام القرب الالهي. يجب عليهم في البداية أن يريحوا أنفسهم من العذاب الإلهي كي يتلذذوا بنعم الجنّة.

* * *

 

مسألة:

الكثير من المفسّرين المسلمين من الشيعة والسنة نقلوا الرّواية التالية بشأن تفسير هذه الآية، وهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المقصود في (والذي جاء بالصدق) وأن الإمام علي (عليه السلام)هو المقصود في (صدّق به).