![]() |
![]() |
![]() |
* * *
1 ـ الكافي، المجلد الثّاني، باب الكبر الحديث 6.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـلِدِينَ( 73 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـمِلِينَ ( 74 )وَتَرَى الْمَلَـئِكَةَ حَآفِينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينِ( 75 )
هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم، لتتوضح الأُمور أكثر من خلال هذه المقارنة.
في البداية تقول: (وسيق الذين اتقوا إلى الجنّة زمراً).
استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين، لأنّ هذا
التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟
قال البعض: إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.
والبعض الآخر قال: إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء الباريء عزّوجلّ يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.
فيما قال البعض: إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.
مع أن هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينها، إلاّ أنّ هناك نقطة اُخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أُولئك عليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.
والملاحظ أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.
ثم تضيف الآية (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(1).
الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم: إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب، ويقول بشأن أهل الجنّة، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم
1 ـ ماهو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها) ؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة، أنسبها الذي يقول: إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها، والبعض قال: (فتمت) هي الجواب و(الواو) زائدة.
من قبل، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم، ويقف عند الباب بانتظارهم.
وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين، عندما يقولون لهم: قد هيئت لكم أسباب الهداية، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟
أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخو ل الجنّة.
عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوماً إنشائياً، وتعني: لتكونوا طاهرين مطهرين و نتمنى لكم السعادة والسرور.
وبعبارة اُخرى: طابت لكم هذه النعم الطاهرة، يا أصحاب القلوب الطاهرة.
ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنىً خبرياً عند تفسيرها، وقالوا: إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي، ونقل البعض رواية تقول: إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم، ويغتسلون بماء العين الأُخرى فيتطهر ظاهرهم، وهنا يقول خزنة الجنّة لهم: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(1).
الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.
1 ـ تفسير القرطبي المجلد (8) الصفحة 5730.
الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم، حيث تقول: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده).
وتضيف في العبارة التالية(وأورثنا الأرض).
المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه، إذ ـ كما هو معروف ـ فإن الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.
أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره، وإن عمل عملا صالحاً استحق به الجنّة، فيمنح مكاناً في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.
أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الأرث، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حراً في استخدامه.
هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (63) من سورة مريم (تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقياً).
العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة، إذ تقول: (نتبوأ من الجنّة حيث نشاء).
يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (72) من سورة التوبة عبارة (جنات عدن) وأهل الجنّة وفقاً لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.
أمّا العبارة الآخيرة فتقول: (فنعم أجر العالمين).
وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعاً) ليكون صاحبه لائقاً ومستحقاً لنيل مثل هذه النعم.
وهنا يطرح هذه السؤال وهو: هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟
المفسّرون وافقوا الرأيين، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول: إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأُخرى في الآية.
وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (وترى الملائكة حافين من حول العرش) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.
إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.
ولهذا تقول العبارة التالية (وقضى بينهم بالحق).
وباعتبار هذه الأُمور هي دلائل على ربوبية الباريء عزّوجلّ واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء، فإنّ الجملة الأخيرة تقول: (وقيل الحمدلله ربّ العالمين).
وهنا يطرح هذا السؤال: هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة، أم عن أهل الجنّة المتقين، أم أنّه صادر عن الاثنين؟
المعنى الأخير أنسب من غيره، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.
نهاية سورة الزّمر
* * *
مَكيَّة
وَ عَدَدُ آيَاتِهَا خَمسٌ وَ ثمانُون آية
سورة المؤمن هي طليعة الحواميم، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضاً، نزلت جميعاً في مكّة، وهي بتدأ بـ «حم».
هذه السورة كسائر السور المكّية، تثير في محتواها قضايا العقيدة، وتتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.
ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة... السورة ـ إذاً ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.
وتمتاز هذه السورة أيضاً بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأُخرى، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسى (عليه السلام)، وقصة مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».
إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون، ومحسوب ـ ظاهراً ـ من حاشيته. لقد كان هذا الرجل مؤمناً بما جاء به موسى(عليه السلام)، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعاً حساساً مميزاً في الدفاع عن موسى(عليه السلام) وعن دينه، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسى(عليه السلام)
للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.
إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده، أي ما يقارب ربع السورة.
يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالاسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس عليهما غبار.
لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالب(عليه السلام) عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان من جملة هؤلاء، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).
وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية:
القسم الأوّل: وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى، خصوصاً تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب، مثل قوله تعالى: (غافر الذنب) و (شديد العقاب).
القسم الثّاني: تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواماً اُخرى في ماضي التأريخ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.
القسم الثّالث: بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي
1 ـ الغدير، المجلد الثامن، ص 388.
اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسى(عليه السلام) من كيدها.
القسم الرّابع: تعود السورة مرّة اُخرى للحديث عن مشاهد القيامة، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.
القسم الخامس: تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك، بوصفهما دعامتين لوجود الانسان وحياته، وفي ذلك تتناول جانباً من دلائل التوحيد، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.
القسم السّادس: تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) للتحمل والصبر، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا، ليكون ذلك تهديداً للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.
لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.
في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، نرى كلاماً واسعاً من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.
ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «الحواميم تاج
القرآن»(1).
وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(2).
وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قوله(عليه السلام): «الحواميم ريحان القرآن، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(3).
وفي حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «الحواميم سبع، وأبواب جهنّم سبع، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: الّلهم لا تُدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(4).
وفي قسم من حديث مروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلاّ صلّوا عليه واستغفروا له»(5).
ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به، والإلتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك، فإنّه سيكون مستحقاً للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.
وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة، فإنّ التلاوة المعنية هي التي
1 ـ هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.
2 ـ المصدر السابق
3 ـ مجمع البيان أثناء تفسير السورة
4 ـ البيهقي طبقاً لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني، المجلد 24، صفحة 36.
5 ـ مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.
تكون مقدمة للإعتقاد الصحيح، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذاً التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكرـ المنقولة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».
* * *
حم( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتَـبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( 2 ) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( 3 )
تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة، حيثُ افتتحت السورة بـ «حاء» و«ميم».
وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة»، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اُخرى.
الشيء الذي تضيفه هنا، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك
عن الامام الصادق(عليه السلام)(1).
البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان»، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».
وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.
عن ابن عباس، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(2).
ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر، بل هي تعمد جميعاً إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.
في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأُسلوب القرآني ـ، حديث عن عظمة القرآن، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ، إنّما يشتكّل في مادته الخام من حروف الألف باء... وهنا يكمن معنى الإعجاز.
يقول تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم).
إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأُخرى عن الوقوف إزاءه، فقدرته ماضية في كل شيء، وعزته مبسوطة، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.
والآية التي بعدها تعدّد خمساً من صفاته تعالى، يبعث بعضها الأمل والرجاء، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.
يقول تعالى : (غافر الذنب).
(قابل التوب)(3).
1 ـ يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق، صفحة 22، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.
2 ـ تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.
3 ـ «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدراً (يلاحظ مجمع البيان).
(شديد العقاب).
(ذي الطول)(1).
(لا إله إلاّ هو إليه المصير).
أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.
* * *
تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات، نقف عليها من خلال النقاط الآتية:
أولا: في الآيات أعلاه (آية 2 و3) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد (إليه المصير)اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.
أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحد الأحد.
ثانياً: ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيراً، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ
1 ـ «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة ومايشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول: إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.
الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة الإلهية، وفي كلّ ذلك دليل على المعنى المكنون في «يا من سبقت رحمته غضبه».
ثالثاً: لا يقتصر المعنى في جملة (إليه المصير) على عودة الجميع ورجوعهم كافةً إليه تعالى في يوم القيامة، و إنّما تشير أيضاً إلى الإنتهاء المطلق لكل الأُمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى، وانتهاء سلسلة الوجود إلى قدرته وإرادته .
رابعاً: جاء تعبير (لا إله إلاّ هو) في ختام الصفات، وهو حكاية عن مقام التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى، حيث تنتهي أمام عبوديته كل العبوديات الأُخرى. وهكذا يكون تعبير «لا إله إلاّ هو» بمثابة النتيجة النهائية الإخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.
ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنّه تعالى: (غافر الذنب) للشخص الذي يقول: لا إله إلاّ الله وهو تعالى: (قابل التوب) للذي يقرّ بالعبودية ويقول:لا إله إلاّ الله. و هو(شديد العقاب) للذي لا يقرّ ولا يقول: لا إله إلا الله. وهو (ذي الطول) وغني عن الشخص الذي لا يقول: لا إله إلا الله.
من كلّ ذلك يتّضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد، الذي يدور مدار الإعتقاد الصحيح والعمل الصالح.
خامساً: من وسائل الغفران في القرآن:
ثمّة في كتاب الله أُمور كثيرة تكون أسباباً وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيئات، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين:
1 ـ التوبة: إذ في آية (8) من سورة التحريم قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربّكم أن يكفر عنكم سيئاتكم).
2 ـ الإيمان والعمل الصالح: حيث نقرأ في سورة (محمّد ـ آية 2) قوله تعالى: (والذين آمنوا و عملوا الصالحات وآمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق من ربّهم كفر عنهم سيئاتهم).
3 ـ التقوى: ونرى مصداقها في قوله تعالى: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم)(1).
4 ـ الهجرة والجهاد والشهادة: ومصداقها قوله تعالى في الآية (195) من سورة «آل عمران»: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرنّ عنهم سيئاتهم).
5 ـ صدقة السر: وذلك قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وأن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئائكم)(2).
6 ـ الإقراض: كما في قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم)(3).
7 ـ اجتناب كبائر الذنوب: حيث يقول تعالى في(4): (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم).
وهكذا يتبيّن لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كلّ مكان، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها، أو كلّها جميعاً.
* * *
1 ـ الأنفال، آية 29.
2 ـ البقرة، آية 271.
3 ـ التغابن، الآية 17.
4 ـ النساء، آية 31.
مَا يُجَـدِلُ فِى ءَايَـتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـدِ( 4 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَالاَْحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةِ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَـدَلُواْ بِالْبَـطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ( 5 ) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَـبُ النَّارِ( 6 )
![]() |
![]() |
![]() |