[1]

 

 

الأَمْثَلُ

 

 

 

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

 

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

 

 

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الخامسْ عَشرْ

 

 

 

[3]

 

 

 

سُورَة

 

 

 

الزُّمَر

 

 

مكيّة

 

وَ عَدَدُ آيَاتِهَا خَمسٌ وَ سبعُون آية

 

 

[5]

«سورة الزّمر»

 

محتوى سورة الزّمر:

هذه السورة نزلت في مكّة المكرمة، ولهذا السبب فإنّها تتطرق للقضايا المتعلقة بالتوحيد والمعاد، وأهميّة القرآن، ومقام نبوّة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الحال في بقية السور المكّية.

فالمرحلة التي قضاها المسلمون في مكّة كانت مرحلة للبناء الإيماني والعقائدي، ولذلك فإن السور المكية حوت أقوى البحوث وأكثرها تأثيراً في هذا المجال. وكانت الأساس القوي المحكم الذي ظهرت آثاره العجيبة في المدينة، و في الغزوات وعند مواجهة العدو، وأمام عراقيل المنافقين، وفي قبول النظام الإسلامي، وإذا أردنا معرفة سر الأنتصار السريع للمسلمين في المدينة فإنّ علينا أن نطالع دروس مكّة المؤثرة.

وعلى أية حال فإنّ هذه السورة تضم عدّة أقسام مهمّة:

1 ـ تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد الله، توحيده في الخلق، توحيده في الربوبية، توحيده في العبودية، كما تسلط الضوء على مسألة الإخلاص في العبادة لله، وآيات هذه السورة في هذال المجال مؤثرة جدّاً بحيث تجذب قلب الإنسان وتدفعه نحو الإخلاص.

2 ـ الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها و حتى نهايتها، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى، ومسألة الثواب

[6]

والعقاب، وغرف الجنّة، وكور النّار في جهنمّ، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير، إضافة إلى أنّها تستعرض قضية اسوداد أوجه الكاذبين والذين افتروا على الله الكذب، وسوق الكافرين صوب جهنم، وتعرض الكافرين لتوبيخ وملامة ملائكة العذاب ودعوة أهل الجنّة إلى دخول الجنّة وتقديم ملائكة الرحمة التهاني والتبريكات لهم، وهذه الأُمور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكل معها نسيجاً واحداً.

قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد، ورغم قلّة عدد آيات هذا القسم، فهو يجسّد بصورة لطيفة القرآن وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

4 ـ قسم آخر أيضاً يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جراء تكذيبهم لآيات الله الحقّ.

5 ـ وأخيراً قسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى الله، وقد تضمّن هذا القسم أقوى آيات القرآن تأثيراً في مجال التوبة، ويمكن القول بأن آيات هذا القسم تزف البشرى و تحمل أخباراً سارّة قد لا يوجد مثيل لها في بقية آيات القرآن.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (71) و(73) من هذه السورة، وتعرف أيضاً باسم سورة (الغرف) وهذا الاسم مأخوذ من الآية (20) إلاّ أن هذه التسمية غير مشهورة.

 

فضيلة سورة الزمر:

لقد أولت الأحاديث الإسلامية أهمية كبيرة لتلاوة هذه السورة، وقد ورد حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «من قرأ سورة الزّمر لم يقطع الله رجاه،

[7]

وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافو الله تعالى»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) «من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة، حتى يهابه من يراه وحرّم جسده على النّار»(2).

مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها في مجال الخوف من الله، ورجاء رحمته، والإخلاص في العبودية، والتسليم المطلق لذات الله، يوضح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر وسيلة للإيمان والعمل.

وبعبارة اُخرى: أن يتوغل محتوى السورة في اعماق روحه. ويتجلّى في كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والفردية. أجل فمثل هؤلاء الافراد لائقون لهذا الثواب العظيم والرحمة الواسعة.

 

* * *


1 ـ مجمع البيان بداية سورة الزمر.

2 ـ مجمع البيان وثواب الأعمال و تفسير نور الثقلين.

[8]

الآيات

تَنزِيلُ الْكِتـبِ مِنَ اللهَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 1 ) إِنَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ( 2 ) أَلاَ ِللهَ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـذِبٌ كَفَّارٌ( 3 )

 

التّفسير

عليك الاخلاص في الدين!

هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد: الأولى تقول: إن الله هو الذي أنزل القرآن، والثانية: تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)(1).

من الطبيعي أنّ كلّ كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك


1 ـ (تزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف و التقدير «هذا تنزيل الكتاب» ، و احتمل بعض المفسّرين أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ و «من الله» خير. لكن الرأي الأوّل أصحّ، و«تنزيل» مصدر بمعنى المفعول. فتكون إضافته إلى الكتاب من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، و المعنى (هذا الكتاب منزل من الله) .

[9]

أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شيء، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنّا بلا عناء أن محتوياته حقّ وكلّها حكمة ونور وهداية.

مثل هذه العبارات عندما ترد في بدايات سور القرآن، ترشد المؤمنين إلى هذه الحقيقة، وهي أن كلّ ما هو موجود في القرآن المجيد هو كلام الله وليس بكلام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم كون كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بليغاً وحكيماً أيضاً.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه (إِنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق).

لا يوجد فيه غير الحقّ، ولهذا السبب يتبعه طلاب الحقّ، والباحثون عن الحقيقة مشغولون بالبحث في محتوياته. من هنا، ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشريه، فإنّ آخر الآية يقول: (فاعبد الله مخلصاً له الدين).

قد يكون المراد هنا من كلمة (دين) هو عبادة الله، لأنّ الجملة التي وردت قبلها (فاعبدالله) فيها أمر بالعبادة، ولذا فإنّ العبارة التي تليها (مخلصاً له الدين)تبيّن شروط صحة العبادة والتي تتمثل في الإخلاص وفي الشرك والرياء.

على كلّ حال فإنّ اتساع مفهوم (الدين) وعدم ذكر قيد أو شرط له، يعطي معنى واسعاً، بحيث يشمل العبادات وبقية الأعمال إضافة إلى العقائد، وبعبارة اُخرى فإنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كلّ حياتهم لله وأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم وساحة عملهم ودائرة حديثهم عن كل ما هو لغير اللّه، وأن يفكروا به ويعشقوه، وأن يتحدثوا عنه ويعملوا من أجله، وأن يسيروا دائماً في سبيل رضاه، وهذا هو (إخلاص الدين).

ولذا لا يوجد أيّ داع أو دليل واضح لتحديد مفهوم الآية في شهادة (لا إله إلا

[10]

الله) أو بخصوص (العبادة والطاعة).

الآية التّالية تؤّكد مرّة اُخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: ( ألا لله الدين الخالص) وهذه العبارة ذات معنيين:

الأوّل: هو أنّ البارىء عزّوجلّ لا يقبل سوى الدين الخالص، والإستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط، ولا يقبل أي عمل فيه رياء أو شرك، أو خلط للقوانين الإِلهية بغيرها من القوانين الوضعية.

والثّاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من الله فقط، لأن أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

ولكن وفق ما جاء في ذيل الآية السابقة فإنّ المعنى الأوّل أنسب، لأن الذين يؤدون المطلوب منهم بإخلاص هم العباد، ولهذا فإنّ هذا الخلوص في الآية مورد بحثنا يجب أن يراعى من جانب أُولئك.

وهناك دليل آخر على هذا الكلام، وهو حديث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء فيه أن رجلا قال لرسول الله: يا رسول الله! إنّا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا، قال: يا رسول الله! إنّا نعطي التماس الأجر والذكر، فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله تعالى لا يقبل إلاّ  من أخلص له، ثمّ تلا هذه الآية: (ألا لله الدين الخالص)»(1).

وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها، فهناك تقول: (فاعبدالله مخلصاً له الدين) وهنا تقول: (ألا لله الدين الخالص).

مسألة الإخلاص تناولتها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية، وبدء الجملة مورد بحثنا بـ (ألا) التي تستعمل عادة لجلب الإنتباه، هو دليل آخر على أهمية هذا الموضوع.

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا


1 ـ روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 212 ذيل آيات البحث.

[11]

طريق الخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والإنحراف: (و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى، إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون)(1)، وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم..

هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ البارىء عزّوجلّ سيحاكمهم في يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر.

منطق عبدة الأصنام واضح هنا، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ الله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس، فهو منزّه عن أن يكون مورداً للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: من الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم، فنتخذهم أرباباً من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسو البشر.

ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، ولأنّهم كانوا يزعمون أن لا فرق بين التماثيل وأُولئك المقدسين وأنّ لهما نوعاً من التوحّد،، لذا عمدوا إلى عبادة الأصنام واتخاذه آلهة لهم.

وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم، هم أُولئك الذين خلقهم الله وقربهم إلى نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم حسب زعمهم، وكانوا يعتبرون البارىء عزّوجلّ هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهتهم


1 ـ من الواضح أنّ في الآية المذكورة أعلاه و قبل عبارة (ما نعبدهم) جملة تقديرها «و يقولون ما نعبدهم» .

[12]

الوهمية ـ أي الملائكة والجن وأمثالهم ـ هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته(1).

وبالطبع فإنّ هناك أسباباً اُخرى لعبادة الأصنام، ومنها أنّ الإحترام الفائق الذي يكنونه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبب في احترام حتى التمثال الذي ينحت أو يصنع لهم بعد وفاتهم، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل طابعاً استقلالياً، ويتبدل الإحترام إلى عبادة، ولهذا فإنّ الإسلام نهى بشدّة عن صنع التماثيل.

وقد ورد في كتب التأريخ أنّ عرب الجاهلية كانوا يكنون إحتراماً فائقاً للكعبة الشريفة ولأرض مكّة المكرّمة، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر صغيرة من تلك الأرض عندما يذهبون إلى مكان آخر، ويضفون عليها الإحترام والتقديس، ومن ثمّ يعمدون إلى عبادتها.

وما ورد في قصة (عمرو بن لحي)التي جاء فيها، أنّ عمراً في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام شاهد بعض مشاهد عبدة الأصنام، وفي طريق عودته إلى الحجاز، اصطحب معه صنماً من بلاد الشام، ومنذ ذلك الحين بدأت عبادة الأصنام في الحجاز هذه القصّة لا تتعارض مع ما ذكرناه لأنّه يبيّن بعض جذور عبادة الأصنام، وهدف أهل الشام من عبادة الأصنام كان مأخوذاً من أحد تلك الأمور أو نظائرها.

عبادة الأصنام ـ بأي شكل كانت ـ ما هي إلاّ أوهام وخيالات لا صحة لها ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل لمعرفة الله.

والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصّة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل بالله من دون أي واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته، ويطلب العفو


1 ـ تفسير الميزان، المجلد 17، الصفحة 247 مع بعض التغييرات.

[13]

والتّوبة، فكلّ هذه الاُمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضّح هذه الحقيقة، لانّ قراءة العباد المستمر لهذه السورة في صلواتهم اليومية، تجعل العبد على اتصال مباشر مع البارىء، عزّوجلّ، إذ أنّه يقرؤها ويطلب من الله ـ دون أي واسطة ـ حاجاته منه.

سبل الإستغفار والتوبة، وكذلك طلب العون من البارىء، عزّوجلّ وما ورد في الأدعية ا لمأثورة، كلها تبيّن أنّ الإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر، وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة باذن البارىء عزّوجلّ وسماحه، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد.

ويجب أن تكون العلاقة هكذا، لأنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أيّ شيء، كما يقول بذلك القرآن: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)(1)، (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)(2).

وبهذا الشكل فالبارى، عزّوجلّ ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كلّ قريب، وموجود في مكان وفي أعماق قلوبنا.

وفقأ لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجنّ ونظائرهم، أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافة إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة اللّه، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار).

فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم، ولا إلى الجنّة في العالم الآخر،


1 ـ سورة ق، 16.

2 ـ سورة الأنفال، 24.

[14]

لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه، ولأنّ البارىء عزّوجلّ يبعث فيض هدايته إلى من يراه لائقاً ومستعداً لإستقبالها، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل الإستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم.

 

* * *

 

ملاحظة

الفرق بين التنزيل والإنزال:

في الآية الأولى وردت عبارة (تنزيل الكتاب)، وفي الثانية عبارة (أنزلنا إليك الكتاب)، فما الفرق بين الإنزال والتنزيل؟ وما المراد من تباين العبارتين في هاتين الآيتين؟

كتب اللغة تقول: إنّ كلمة (تنزيل)تعني نزول الشيء على عدّة دفعات، في حين أن كلمة (إنزال) لها معنى عام يشمل النّزول التدريجي والنّزول دفعة واحدة(1).

قال بعضهم إنّ لكل منهما معنى خاصاً بها وأن (تنزيل) تعني ـ فقط ـ النّزول على عدّة دفعات، و (إنزال) تعني ـ فقط ـ النّزول دفعة واحدة(2).

اختلاف العبارتين المذكورتين أعلاه إنّما يعود إلى أن القرآن المجيد نزل بصورتين:

الأُولى: نزل دفعة واحدة على قلب النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)في ليلة القدر في شهر


1 ـ مفردات الراغب مادة (نزل) والفرق بين الإنزال و التنزيل في وصف القرآن و الملائكة، أن التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقاً و مرّة بعد اُخرى و الإنزال عام.

2 ـ هذا الإختلاف ورد في التّفسير الكبير للفخر الرازي نقلا عن آخرين.

[15]

رمضان المبارك كما ورد في الآيات المباركة: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)(1) و (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)(2) و (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)(3).

وفي كلّ هذه الآيات استخدمت عبارة (الإنزال) التي تشير إلى نزوله دفعة واحدة.

ويوجد نزول آخر تمّ بصورة تدريجية استغرقت (23) عاماً، أي طوال فترة نبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانت تنزل في كلّ حادثة وقضية آية تناسبها، وتنتقل بالمسلمين من مرحلة إلى اُخرى ليرتقوا سلم الكمال المعنوي والأخلاقي والعقائدي والإجتماعي، كما ورد في الآية (106) من سورة الإسراء: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا).

والذي يثير الإنتباه، هو أنّ الكلمتين (تنزيل) و (إنزال) تأتيان أحياناً في آية واحدة للتعبير عن مقصودين، كما ورد في الآية (20) من سورة محمّد: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت).

فكأن المسلمين يطلبون احياناً نزول السورة القرآنية تدريجاً كي يهضموا محتوياتها بصورة جيدة، لكن الضرورة كانت تستدعي في بعض الحالات نزول السورة دفعة واحدة، وخاصة السور التي تتناول مسائل الجهاد في سبيل الله، لانّ نزولها التدريجي كان قد يؤدي إلى سوء استغلالها من قبل المنافقين الذين كانوا يتحينون الفرص لبث سمومهم. ففي مثل هذه الحالات ـ كما ذكرنا ـ كانت السورة تنزل دفعة واحدة. وهذا آخر شيء يمكن ذكره بشأن التباين الموجود بين العبارتين، وطبقاً لهذا فإنّ آيات بحثنا أشارت إلى طريقتي النّزول بصورة جامعة


1 ـ القدر، 1.

2 ـ سورة الدخان، 3.

3 ـ سورة البقرة، 185.

[16]

كاملة.

ومع هذا فإنّه توجد هناك بعض الأُمور الإستثنائية لتفسير وبيان الإختلاف المذكور أعلاه، كماورد في الآية (32) من سورة الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).

بالطبع، لكل من (التنزيل) و (الإنزال) فوائد و آثار خاصّة به، سنتطرق إليها في مواضعها(1).

 

* * *


1 ـ هناك بحث مفصل عن فوائد النّزول التدريجي للقرآن تعرضنا له لدى تفسير الآية (34) من سورة الفرقان.

[17]

الآيتان

لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَـنَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ( 4 ) خَلَقَ السَّمَـوَاتَ وَ الاََرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـرُ( 5 )

 

التّفسير

ما حاجة الله إلى الأولاد؟

المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطاً وشفيعاً لهم عند الله، كما استعرضت ذلك الآيات السابقة، فقد اعتقدوا ـ أيضاً ـ أن بعض المخلوقات ـ كالملائكة ـ هي بنات الله، والآية الأولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطىء والتصور القبيح بالقول: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار).

ذكر المفسرون آراء مختلفة في تفسير هذه الآية:

قال البعض: يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، فلِمَ ينتخب

[18]

البنات اللاتي تزعمون أنّهنّ لا قيمة لهنّ؟ فلم لا ينتخب له أبناء؟ وهذا ـ في الحقيقة ـ نوع من أنواع الإستدلال وفق ذهنية الطرف المقابل كي يفهم أن كلامه  لا أساس له من الصحة.

وقال آخر: إنّما يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، لكان قد خلق موجودات اُخرى أفضل وأرفى من الملائكة.

وبالنظر إلى كون مكانة الأنثى لا تقلّ عن مكانة الذكر عند الباريء عزّوجلّ،وبالنظر إلى كون الملائكة أو عيسى عليه السلام ـ والذين اعتبرهم بعض المنحرفين أبناء الله ـ من الموجودات الشريفة والمحترمة، فإنّه لا يعدّ أيّ من التّفسيرين السابقين مناسباً.

والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول: إنّ الابن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإنّ الله عزّوجلّ لو كان محتاجاً لمثل هذا الأمر، لا صطفى لهذا بعضاً ممّن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولداً؟

ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شيء والأزلي والأبدي، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الأُنس مع الآخرين، لهذا فهو منزّه ومقدّس عن الولد، حقيقياً كان أو منتخباً.

وإضافة إلى ما ذكرناه من قبل، فإنّ أُولئك الجهلة الذين يتصورون أحياناً أن الملائكة هم أبناء الله، وأحياناً اُخرى يقولون بوجود نسبة بين الباري، عزّوجلّ والجن، وأحياناً يقولون بأن (المسيح) أو (العزير) هم أبناء الله، يجهلون الكثير من الحقائق الواضحه، فإن كان قصدهم هو الولد الحقيقي:

فأولاً: يجب أن يكون الباري تعالى جسماً.

ثانياً: التركيب من أجزاء (لأنّ الوالد جزء من الأب ينفصل عن وجود أبيه).

ثالثاً: حتمية وجود شبيه ونظير له (لأنّ الأولاد على الدوام يشبهون الآباء).

[19]

رابعاً: احتياجه لزوجة، والله منزّه ومقدّس عن كلّ تلك الأُمور.

وإن كان المقصود هو الولد المنتخب أي (المتبنىّ) فإن ذلك إنّما يتمّ لأجل احتياجه لمساعدة جسدية أو لمؤانسة روحية، والله القادر القاهر لا يحتاج إلى كلّ هذه الأمور. وبهذا فإنّ وصفه بـ (الواحد) و(القهار) هو جواب مختصر على كلّ تلك الإحتمالات.

على أية حال، فإنّ عبارة (لو) التي تستخدم عادة للشرط المستحيل إشارة إلى أن هذا الفرض محال في أن ينتخب الباريء عزّوجلّ ولداً له، وبفرض المحال أنّه يحتاج، فإنّه غير محتاج لما يقولونه من اتخاد الولد، بل إن مخلوقاته المنتخبة هي التي تؤمن هذا الأمر.

ولإثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباريء عزّوجلّ: (خلق السموات والأرض بالحق).

كون تلك الأُمور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان، ثمّ لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم أُولئك، إذ يقول القرآن المجيد: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).

ما أجملها من عبارة! فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور، لشاهد ـ بصورة منتظمة ـ أن سواد الليل يستولي على طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة مستمرة على ظلام الليل.

«يكور» من (تكوير) وتعني الشيء المتكور أو المنحني، ويعتبر أصحاب اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجاً للتكوير، وهذا التعبير القرآني الجميل

[20]

يكشف عن بعض الأسرار، لكن الكثير من المفسّرين نتيجة عدم التفاتهم إلى كروية الأرض ذكروا مواضيع اُخرى لا تناسب مفهوم كلمة (التكوير)، فمن هذه الآية يتجلّى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جراء هذا الدوران، يطّوق الأرض دائماً شريطان، أحدهما سواد الليل، والثّاني بياض النهار، ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي الأسود من جهة اُخرى، أثناء حركة الأرض حول نفسها.

وعلى أية حال، فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظلمات) في عدّة آيات مختلفة، كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة، فأحياناً يقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(1).