وأمّا ثانياً:فلأنا لا نسلم أن كلّ واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الإعتقادات أن الإمامية اجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنّه لا يجب طاعة كلّ منهم.

وأمّا ثالثاً: فلا لا نسلم إن كلّ واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزّعامة الكبرى وإلاّ لكان كلّ نبي في زمنه صاحب ذلك ونص: (إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً) يأبى ذلك

وأمّا رابعاً: فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته، بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه...»(1).

* * *

 

تحليل ومناقشة:

يمكن توضيح جواب العديد من هذه الإشكالات إذا راجعنا تصورنا لهذه


1 ـ تفسير روح المعاني ج25، ص 32ـ33.

[518]

الآية ـ التي نبحثها ـ وفقاً للقرائن المتعدده القوية الموجودة في نفس هذه الآية، وسائر الآيات القرآنية الأُخرى:

قلنا: إن هذه المحبّة ليست أمراً عادياً، بل هي جزاءً للنبوّة وأجراً للرسالة، ولابد أن يكون الأجر والثمن مساوياً للمثمن، حتى يمكن اعتباره جزاءً له.

من جانب ثان فإن الآيات القرآنية تؤّكد أن نفع هذه المحبة ليس شيئاً يعود إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ان حاصل ذلك يعود إلى المؤمنين أنفسهم، أو بعبارة اُخرى يعتبر أمراً معنوياً يؤثر في هداية المسلمين وتكاملهم.

وبهذا الترتيب فبالرغم من أنّه لا يستفاد من الآية سوى وجوب المحبة، إلاّ أن وجوب المحبة هذه ـ بمراعاة القرائن المذكورة ـ لها علاقة بقضية الإمامة التي تعتبر السند لمقام النبوة والرسالة.

ومع هذا التوضيح المختصر سنقوم ببحث الإشكالات أعلاه:

1 ـ يجب القول أنّ بعض الترسبات الذهنية واتخاذ المواقف المسبقة كانت سبباً لعدم تفسير بعض المفسّرين للآية بمودة أهل البيت، فمثلا فسّر بعضهم (القربى) لمعنى (التقرب من الخالق) في حين أنّها وردت بمعنى الأقرباء في جميع الآيات القرآنية التي تحتوي على هذه الكلمة.

أو أنّ البعض فسّر ذلك بمعنى قرابة النّبي مع سائر القبائل العربية، في حين أن هذا التّفسير يخل بنظام الآية بشكل كامل، فأجر الرسالة يطلب من الذين قبلوا تلك الرسالة، فهل توجدحاجة للإهتمام بالقرابة وغض النظر عن الأذى لمن آمن برسالة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

إضافة إلى ذلك، لماذا نترك الرّوايات المتعددة التي تفسّر الآية بولاية أهل بيت النّبيّ؟

لذا يجب الإعتراف بأنّ هذه المجموعة من المفسّرين لم يفسروا الآية بأذهان خالية من المواقف المسبقة، وإلاّ فإنه لا يوجد موضوع معقد ضمنها.

[519]

ومن هنا يتوضح أن طلب مثل هذا الأجر لا يتعارض، لا مع منزلة النبوة،  ولا يشبه تقاليد اصحاب الدنيا، ويتناسق بشكل كامل مع الآية (104) من سورة يوسف التي تنفي أي نوع من الأجر، لأن أجر مودة أهل البيت في الحقيقة ـ لا يستفيد منه النّبي، بل إن المسلمين هم الذين يستفيدون منه.

2 ـ صحيح أن وجوب المحبة العادية لا تكون دليلا أبداً على وجوب الطاعة، لكن عندما تكون هذه المحبة بمستوى الرسالة، عندها سنتيقن بأنّها تشمل وجوب الطاعة، ومن هنا يتّضح أن قول ابن بابويه (الشيخ الصدوق) لا يتعارض مع ما قلناه.

3 ـ صحيح أن أي طاعة واجبة لا يكون دليلا على منزلة الإمامة والزعامة الكبرى، ولكن يجب الإنتباه إلى أن وجوب الطاعة التي هي أجر للرسالة بما يناسب مقامها لا يمكن أن يكون شيئاً سوى الإمامة.

4 ـ الإمام ـ بمعنى القائدـ لا يمكن أن يكون أكثر من واحد في أي عصر، وبناء على ذلك فإنّه لا يوجد أي معنى لإمامة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) جميعهم، إضافةً لذلك يجب الإستفادة من دور الروايات في هذا المجال لفهم معنى الآية.

والملفت للنظر أن الآلوسي نفسه يهتم كثيراً بمودة أهل البيت، ويقول في بضع سطور قبل هذا البحث:

«والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث أنّهم قرابته...وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودّة أشدّ... وآثار تلك المودة التعظيم والإحترام والقيام بأداء الحقوق أتمّ قيام وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي:

يا راكباً قف بالمحصّب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض

[520]

إن كان رفضاً حب آل محمّد فليشهد الثقلان أني رافضي ومع هذا لا أعتقد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ديناً، وأرى حبّهم فرضاً علي مبيناً، فقد أوجبه الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع»(1).

 

2ـ سفينة النجاة

ذكر الفخر الرازي في نهاية هذا البحث ملاحظة، كما ذكرها الآلوسي أيضاً في روح المعاني بعنوان (ملاحظة لطيفة) وذلك نقلا عن الفخر الرازي، حيث يعتقد أن بعض التناقضات ستزول من خلال هذه الملاحظة هي: إن الرّسول الأكرم قال من جانب: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجى» ومن جانب آخر قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

فنحن الآن تائهون في بحر التكاليف، وأمواج الشبهات والشهوات تعصف بنا من كلّ جانب، ومن يريد أن يعبر هذا البحر يحتاج إلى شيئين:

الأول: السفينة الخالية من أي عيب أو نقص.

والثّاني: النجوم المتلألئة التي توضح الطريق.

فعندما يركب الإنسان في السفينة وتراقب عيناه النجوم الوضاءة، عندها سيكون هناك أمل بالنجاة. وبالمثل فأي واحد من أبناء السنة عندما يركب في سفينة حب آل محمّد وينظر إلى الأصحاب (النجوم) عندها سيكون هناك أمل بأن يوصله الخالق جل وعلا إلى السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة(2).

وكلنا نقول أن هذا التشبيه الشاعري ليس دقيقاً بالرغم من جماله، لأن سفينة نوح كانت مركب النجاة في ذلك اليوم، عندما غطت الأمواج العاصفة والمياه كل


1 ـ تفسير روح المعاني، ج 25، ص32.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلد 27، ص167.

[521]

العالم، وكانت في حركة دائبة، وليست مثل السفن العادية التي لها مرفأ تتجه إليه مقتدية بالنجوم.

لقد كان الهدف السفينة نفسها، والنجاة من الغرق، حتى غاظ الماء واستوت على الجودي.

إضافة إلى ذلك فإنّ بعض الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة تنقل عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمتي من الإختلاف في الدين»(1).

 

3ـ تفسير «ومن يقترف حسنة...»

«اقترف» في جملة: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً) مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة، أو من الجروح الحاصلة، حيث تكون أحياناً علامة على شفاء الجرح وتحسنه، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الإكتساب سواء كان حسناً أو سيئاً.

ولكن كما يقول الراغب ـ فإن هذا المصطلح استخدم في السيئات أكثر ممّا هو في الحسنات (بالرغم من أن الآية التي نبحثها استخدمته في الحسنات). لذلك فإن هناك مثل معروف يقول: الإعتراف يزيل الإقتراف.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و(السدّي) أن المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد(2).

وجاء في حديث ذكرناه سابقاً عن الإمام الحسن بن علي(عليه السلام): «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».


1 ـ نقل (الحاكم) هذا الحديث عن ابن عباس في المجلد الثّالث (المستدرك) ص149، ثمّ يقول: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

2 ـ مجمع البيان ـنهاية الآيات التي نبحثها، وتفسير الصافي والقرطبي.

[522]

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أن معنى اكتساب الحسنة لا يتحدد بمودّة أهل البيت(عليهم السلام)، بل له معنى أوسع وأشمل ولكن بما أن هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى، لذا فإن أوضح مصداق لإكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

 

4ـ مكان نزول هذه الآيات

هذه السورة (سورة الشورى) من السور المكّية، كما قلنا في البداية، إلاّ أن بعض المفسّرين يعتقدون أن هذه الآيات الأربع (23 ـ 26) نزلت في المدينة، وسبب النّزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضاً فإنّ الرّوايات التي تفسر أهل البيت بعلي وفاطمة وابنيهما الإمام الحسن والحسين عليهما السلام تناسب هذا المعنى، لأنّنا نعلم أن زواج علي من سيدة النساء(عليهما السلام) تمّ في المدينة، وولادة الحسن والحسين(عليهما السلام) كانتا في العام الثّالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.

 

* * *

 

[523]

الآيات

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَـطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 24 ) وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( 25 ) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَيَزِيدُهُم مِّنْ فَضْلِهِ وَالْكَـفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ( 26 )

 

التّفسير

يقبل التوبة عن عباده:

هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت(عليهم السلام).

فأوّل آية تقول: إن هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: (أم يقولون افترى على الله كذباً) وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: (فإن يشأ الله يختم على قلبك) ويجردك من قابلية إظهار هذه الآيات.

[524]

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر إشارة إلى الإستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو كذب على الخالق فإن الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته، كما ورد في الآيات (44) إلى (46) من سورة الحاقة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنامنه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين).

وقد ذكر بعض المفسّرين احتمالات اُخرى في تفسير هذه الجملة، إلاّ أن ما قلناه أعلاه هو أفضل وأوضح التفاسير كما يظهر.

ونلاحظ أيضاً أن إحدى التهم التي نسبها الكفار والمشركون إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)هي أنّه يعتبر أجر الرسالة في مودّة أهل بيته وأنّه يكذب على الخالق في هذا الأمر: (جاء ذلك وفقاً للبحث في الآيات السابقة) إلاّ أن الآية أعلاه نفت هذه التهمة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن بالرغم من هذا، فإن مفهوم الآية لا يختص بهذا المعنى، فأعداء الرّسول كانوا يتهمونه بهذه التهمة في كلّ القرآن والوحي كما تقول الآيات القرآنية الأُخرى، حيث نقرأ في الآية (38) من سورة يونس: (أم يقولون افتراه قل فأتوات بسورة مثله).

وورد نفس هذا المعنى باختلاف بسيط في الآيات (13) و (35) من سورة هود، وقسم آخر من الآيات القرآنية، حيث أنّ هذه الآيات دليل لما انتخبناه من تفسير للآية أعلاه.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته)(1).

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلاّ


1 ـ لا حظوا أنّ «يمح» هي في الأصل كانت (يمحو) حيث سقطت الواو لأن الرسم القرآني ـ عادة ـ هكذا، مثل (ويدع الإنسان بالشر) (الإسراء ـ 11) (وسندع الزبانية) (العلق ـ 18)، إلاّ أنّه وفقاً للرسم الحديث فإن الواو تذكر في جميع هذه الكلمات، إلاّ أنّها تحذف في القرآن غالباً.

[525]

فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أن من الاخطاء الكبيرة أن يتصور البعض قيام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا العمل مُخفياً ذلك عن علم الخالق: (إنّه عليم بذات الصدور).

وكا قلنا في تفسير الآية 38 من سورة فاطر،فإنّ (ذات) لا تعني في اللغة العربية عين الأشياء وحقيقتها، بل هو مصطلح من قبل الفلاسفة(1)، حيث أن ذات تعني ـ (الصاحب)، عندها سيكون مفهوم جملة: (إنه عليم بذات الصدور) إن الخالق عليم بالأفكار والعقائد المسيطرة على القلوب، وكأنما هي صاحبة هذا القلب ومالكته.

وهذه إشارة لطيفة إلى استقرار الأفكار وحاكميتها على قلوب وأرواح الناس (فدقق في ذلك).

وبما أن الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد، لذا فإن الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير الى أن الابواب التوبة مفتوحة دائماً: ولذا تقول الآية محل البحث: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات).

إلاّ أنكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالا اُخرى، فلا تتصوروا أن ذلك يخفى عن علم الخالق، لأنّه: (ويعلم ما تفعلون).

وقلنا في سبب النّزول الذي ذكرناه في بداية الآيات السابقة، أنّه بعد نزول آية المودّة، قال بعض المنافقين وضعفاء الإيمان: إنّ هذا الكلام افتراه محمّد على الخالق، ويريد به أن يذلنا بعده لأقرباءه، عندها نزلت آية: (أم يقولون افترى على الله كذباً) ردّاً عليهم، وعندما علموا بنزول هذه الآية تندم بعضهم وبكى وبات قلق البال، في ذلك الوقت نزلت الآية: (وهو الذي يقبل التوبة...) وبشرتهم بغفران


1 ـ راجع مفردات الراغب.

[526]

الذنب إذا تابوا إلى الله توبةً نصوحاً.

أمّا آخر آية فتوضح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول: إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات). بل: (ويزيدهم من فضله) وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا. (والكافرون لهم عذاب شديد).

وقد تمّ ذكر تفاسير مختلفة للأمر الذي سيستجيبه من المؤمنين، حيث أن بعض المفسّرين حدد ذلك في طلبات معينة، منها:

أنّه سيستجيب دعاء المؤمنين أحدهم للآخر.

ومنها أنّه سيقبل عباداتهم وطاعاتهم.

ومنها أن ذلك مختص بشفاعتهم لاخوانهم.

ولكن لا يوجد أي دليل على هذا التحديد، حيث أن الخالق سيستجيب أي طلب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والأكثر من ذلك فإنّه سيهبهم من فضله أُموراً قد لا تخطر على بالهم ولم يطلبوها، وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية بخصوص المؤمنين.

وورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير: (ويزيدهم من فضله): «الشفاعة لمن وجبت له النّار ممن أحسن إليهم في الدنيا»(1).

ولا يعني هذا الحديث العظيم في معناه اقتصار الفضل الإلهي بهذا الأمر فحسب، بل يعتبر أحد مصاديقه الواضحة.

 

* * *

 


1 ـ تفسير«مجمع البيان» نهاية الآيات التي نبحثها.

[527]

الآيات

وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاَْرْضِ وَلَـكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَر مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ( 27 ) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ ( 28 )وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ( 29 ) وَمَآ أَصَـبَكُم مِّن مُّصِيبِة فَبَِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَنْ كَثِير( 30 ) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وِلِىٍّ وَلاَ نَصِير( 31 )

 

سبب النّزول

نقل عن الصحابي المعروف (خباب بن الأرث) أن الآية الأولى: (ولو بسط...)نزلت فينا، وذلك بسبب أنّنا كنّا ننظر إلى الأموال الكثيرة لبني قريظة وبني النظير وبني القينقاع من اليهود، وكنّا نرغب بامتلاكنا لمثل هذه الأموال، إلاّ أن هذه الآية نزلت وحذرتنا من أن الخالق لو بسط لنا في الرزق فسوف نطغى(1).


1 ـ تفسير الفخر الرازي، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير القرطبي (نهاية الآية التي نبحثها).

[528]

وفي تفسير (الدر المنثور) ورد حديث آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في أهل الصُفّة، لأنّهم كانو يأملون بتحسن وضع دنياهم(1).

وهناك تفصيل في نهاية الآيات بخصوص أصحاب الصفة ومن هم؟

 

التّفسير

المترفون الباغون:

قد يكون ارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة بلحاظ ما ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أن الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء).

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: (إنّه بعباده خبير بصير).

فهو يعلم بمقدار استيعاب أي شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته، فلا يعطيه كثيراً لئلا يطغى، ولا قليلا لئلا يستغيث من الفقر.

وجاء ما يشبه هذا المعنى في الآية (6) و(7) من سورة العلق: (إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

وهو حقّاً كذلك، فالبحث في أحوال الناس يدل على هذه الحقيقة الصادقة، وأنّه عندما تقبل الدنيا عليهم ويعيشون في رفاهية وسعة، ينسون الخالق ويبتعدون عنه ويغرقون في بحر الشهوات، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويشيعون الظلم والجور والفساد في الأرض.

وفي تفسير آخر عن (ابن عباس) في هذه الآية ورد أن المقصود من (البغي)


1 ـ ينقل الدر المنثور هذا الحديث عن الحاكم والبيهقي وأبي نعيم (ج6 ص8).

[529]

ليس الظلم والجور، وإنّما (بغى) تعني(طلب) أي يكون معنى الآية أنّهم يطلبون أكثر ولا يشبعون.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مقبول من قبل عدّة مفسّرين وهو الأفضل كما يظهر، لأن عبارة: (يبغون في الأرض) وردت عدة مرات في الآيات القرآنية بمعنى الفساد والظلم في الأرض، مثل: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)(1) و(إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)(2).

صحيح أن (بغى) وردت بمعنى (طلب) أيضاً، إلاّ أنّها متى ما تذكر مع كلمة (في الأرض) فإنها تعني الفساد والظلم في الأرض.

 

وهنا يطرح سؤالان:

الأوّل: لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذا البرنامج، فلماذا إذن نرى أشخاصاً لهم رزق وفير وقد أفسدوا وطغوا كثيراً في الدنيا ولم يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟

وفي الجواب على هذا السؤال يجب الإنتباه إلى هذه الملاحظة، وهي أن بسط الرزق أحياناً قد يكون أسلوباً للإمتحان والإختبار، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال.

وأحياناً قد يكون بسط الرزق لبعض الافراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، و نحن الان نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.

فأحياناً تكون الثروة غير المحدودة نوعاً من العقاب الإلهي الذي يشمل


1 ـ يونس، الآية 23.

2 ـ آية 42 من نفس هذه السورة.

[530]

بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أمّا إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها!، وفي هذا المجال هناك قصص عديدة لسلاطين الثروة في الدنيا، حيث يطول بنا المقام لو أردنا سردها.

السؤال الآخر هو: ألا يعني هذا الكلام أنّه متى ما كان الإنسان فقيراً فلا ينبغي له السعي للتوسع في الرزق، لأن الخالق جعل مصلحته في هذا الفقر؟

وللجواب على هذا السؤال نقول: إنه قد تكون قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه أحياناً، فهذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتماً، بل بسبب أعماله، والإسلام يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة وفقاً لتأكيده على أصل السعي وبذل الجهد الذي يشير إليه القرآن في آيات عديدة، وسنة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الأطهار(عليهم السلام).

ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تغلق الأبواب في وجهه، عليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الخالق أيضاً.

وتجدر الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن كلمة (عباده) لا تتعارض أبداً مع الطغيان عند بسط الرزق، لأن هذه العبارة تستخدم في الأفراد الصالحين والسيئين والمتوسطي الحال، مثل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).

صحيح أن الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلاّ أنّه لا يمنعهم أو يحرمهم، لذا فإن الآية التي بعدها تقول: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).

ولماذا لا يكون هذا: (وهو الولي الحميد

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق، لأن نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب،

[531]

فعندما تشرق الشمس على المحيطات تفصل ذرات الماء الدقيقة عن الأملاح وترسلها على شكل سحب إلى السماء، ثمّ تقوم طبقات الجو العليا الباردة بتكثيفها، ثمّ تحملها الرياح إلى الأراضي اليابسة، ثمّ تتحول أخيراً إلى قطرات مطر بسبب برودة الهواء وضغطه الخاص وتهطل على الأرض، وتنفذ فيها دون تخريب.

نعم، فلو دققنا النظر في هذا النظام، فسنجد علائم قدرة الخالق وعلمه متجلية فيه، فهو الولي الحميد الذي يقوم بتأمين كلّ حاجات العباد وتشملهم ألطافه العديدة.

ولابدّ القول أن كلمة (غيث) تعني المطر النافع، كما يقول العديد من المفسّرين وبعض علماء اللغة، في حين أن (المطر) يطلق على جميع الأنواع الأُخرى النافعة والضارة.

لذا، فبعد تلك الجملة وردت عبارة: (وينشر رحمته).

ياله من تعبير لطيف وشامل! فهو ينشر رحمته لإحياء الأراضي الميتة، ونمو النباتات وتنظيف الهواء، وتأمين ماء الشرب للإنسان وباقي الكائنات الحية، والخلاصة في جميع المجالات.

فلو أراد الإنسان أن يدرك مفهوم هذه الجملة القرآنية، فإنّ عليه أن يتوجه نحو الجبال والسهول بعد نزول المطر وعندما تشرق الشمس، كي يشاهد الجمال واللطافة ورحمة الخالق الواسعة وهي تعمر كلّ مكان.

وقد تكوه الإستفادة من كلمة (غيث) بسبب أن لها جذوراً مشتركة مع (غوث) المأخوذه من الإغاثة، ولهذا السبب فإن بعض المفسّرين اعتبر الكلمة أعلاه إشارة إلى أي إغاثة من قبل الخالق بعد اليأس ونشر رحمته(1).

ولهذه المناسبة ـ أيضاًـ فإن الآية التي بعدهاتتحدث عن أهم آيات علم


1 ـ يقول الراغب في مفرداته: الغوث يقال في النصرة، والغيث في المطر.

[532]

وقدرة الخالق، حيث تقول: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة).

فالسموات بعظمتها، بمجراتها وكواكبها، بملايين الملايين من النجوم العظيمة اللامعة، بنظامها الدقيق الذي يبهت الإنسان عند مطالعته لها. والأرض بمنابعها الحياتية ونباتاتها المتنوعة ولورود والفواكه بمختلف البركات والمواهب والجمال! كلها تعتبر آيات وعلائم تدل عليه... هذا من جانب.

ومن جانب آخر فالأحياء في الأرض والسماء، كأنواع الطيور، ومئات الآلاف من الحشرات، وأنواع الحيوانات الأليفة والمتوحشة، والزواحف، والأسماك بأنواعها وأحجامها، والعجائب المختلفة الموجودة في كلّ نوع من هذه الأنواع، والأهم من ذلك حقيقة (الحياة) وأسرارها التي لم يستطع أحد التوصل إلى كنهها بعد آلآف السنين من البحوث لملايين العلماء، كلّ ذلك هو من آيات الخالق.

والملفت للنظر أن (دابة) تشمل الكائنات الحية المجهرية التي لها حركات لطيفة وعجيبة، وتشمل الحيوانات الكبيرة العملاقة التي يصل طولها إلى عشرات الأمتار ووزنها إلى عشرات الأطنان، فكل صنف يسبّح على طريقته الخاصة ويحمد الخالق، ويبيّن عظمته تعالى وقدرته وعلمه اللامحدود، بلسان حاله.

وتقول الآية في نهايتها: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير)(1).

أمّا ما هو المقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية؟ فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة، ويمكن اعتبار الآيات التي تذكر القيامة بعنوان (يوم الجمع) دليلا على هذا المعنى (مثل الآية 7 من نفس هذه السورة والآية 9 من سورة التغابن).


1 ـ (إذا) وكما يقول صاحب الكشاف، تدخل على الفعل المضارع كما تدخل على الفعل الماضي، مثل (والليل إذا يغشى) ولكن الفعل أكثر ما يكون بعد (إذا) على شكل الماضي وقليل جداً على شكله المضارع.

[533]

وهنا قد يطرح هذا السؤال وهو: هل أن جميع الأحياء سيحشرون يوم القيامة، حتى غير الإنسان؟ حيث يقال أحياناً أن كلمة (دابة) تطلق على غير الإنسان. وهنا ستُطرح هذه المشكلة وهي كيف ستحشر الأحياء من غير الإنسان للحساب. في حين أنّها لا تتمتع بعقل ولا اختيار ولا تكليف؟

وقد ورد جواب هذا السؤال في نهاية الآية (38) من سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربهم يحشرون).