![]() |
![]() |
![]() |
2 ـ نور الثقلين، المجلد الأوّل، ص473.
التأكيد على الذنوب القبيحة للغاية بعد ذكر اجتناب المؤمنين الحقيقيين عن جميع الذنوب الكبائر، للتأكيد على أهمية ذلك.
وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكل هو الإجتناب عن (الكبائر)، فكيف يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان والتوكل على الخالق، في حين أنّه مصاب بأنواع الذنوب وقلبه وكر من أوكار الشيطان؟!
أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.
وهذه الصفة لا تتوفر إلاّ في ظل الإيمان الحقيقي والتوكل على الحق.
والطريف في الأمر أن الآية لا تقول: إنّهم لا يغضبون، لأنّ الغضب من طبيعة الإنسان، وهناك ضرورة له في بعض الأحيان خاصةً عندما يكون لله وفي طريق إحقاق الحق، بل تقول: إنّهم لا يلوثون أنفسهم بالذنب عند الغضب، وبكل بساطة يعفون ويغفرون، ويجب أن يكونوا هكذا، فكيف يمكن للإنسان أن ينتظر العفو الإلهي في حين أن أعماقه مليئة بالحقد وحب الإنتقام، ولا يعترف بأي قانون عند الغضب؟ وإذا شاهدنا التأكيد على الغضب هنا، فذلك لأنّ هذه الحالة كالنار الحارقة التي تلتهب في داخل أعماق الإنسان، وهناك الكثيرون الذين لا يستطيعون ضبط أنفسهم في تلك الحالة، إلاّ أن المؤمنين الحقيقيين لا يستسلمون أبداً للغضب.
وورد في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب،
وإذا غضب، حرم الله جسده على النّار»(1).
الآية الأُخرى تشير إلى الصفة الثّالثة والرّابعة والخامسة والسادسة، حيث تقول: (والذين استجابوا لربهم).
(وأقاموا الصلاة).
(أمرهم شورى بينهم)(2).
(وممّا رزقناهم ينفقون).
فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب، إلاّ أن الآية التي نبحثهاتتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره، حيث أن الخير كلّ الخير تجسد في هذا الأمر. فهم مستسلمون بكل وجودهم لأوامره، وليست لهم إرادة إزاء إرادته، ويجب أن يكونوا هكذا، لأنّ الإستسلام والإستجابة أمران حتميان بعد تطهير القلب والروح من آثار الذنب الذي يعيق السير نحو الحق.
ونظراً لوجود بعض القضايا المهمّة في التعليمات الإلهية يجب الإشارة إليها بالخصوص، لذا نرى أن الآية أشارت إلى بعض المواضيع المهمّة وخاصة (الصلاة) التي هي عمود الدين وحلقة الوصول بين المخلوق والخالق ومربية النفوس، وتعتبر معراج المؤمن وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
بعد ذلك تشير الآية إلى أهم قضية اجتماعية وهي «الشورى» فبدونها تعتبر جميع الأعمال ناقصة، فالإنسان الواحد مهما كان قوياً في فكره وبعيداً في نظره، إلاّ أنّه ينظر للقضايا المختلفة من زاوية واحدة أو عدّة زوايا، وعندها ستختفي عنه الزوايا والأبعاد الأُخرى، إلاّ أنّه وعند التشاور حول القضايا المختلفة تقوم
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم ـ طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 583.
2 ـ يقول بعض المفسّرين أنّه متى ماكانت (شورى) مصدراً وتعني المشاورة يجب أن تضاف لها كلمة (ذو) ويصبح تقدير الجملة (أمرهم ذو شورى بينهم) ... أو للمبالغة والتأكيد، لأن ذكر (المصدر) بدلا من (الصفة) يوصل هذا المعنى عادة، لكن إذا كانت شورى كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى (الأمر الذي يتشاور فيه) عندها لا حاجة للتقدير (لاحظ ذلك).
العقول والتجارب المختلفة بمساعدة بعضها البعض، عند ذلك ستتوضح الأُمور وتقل العيوب النواقص ويقل الإنحراف.
لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما من رجل يشاور أحداً إلاّ هدي إلى الرشد».
والملفت للنظر أن العبارة وردت هنا على شكل برنامج مستمر للمؤمنين، ليس في عمل واحد ومؤقت، بل يجب أن يكون التشاور في جميع الأعمال. والطريف في الأمر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان أيضاً يتشاور مع أتباعه وأنصاره في القضايا الإجتماعية المهمّة والتنفيذية والصلح والحرب والأمور المهمّة الأُخرى بالرغم من تكامل عقله وارتباطه بمصدر الوحي، وكان يشاور أصحابه أحياناً بالرغم من المشكل التي تحصل من جراء ذلك، لكي يكون أسوة وقدوة للناس، لأن بركات الإستشارة أكثر بكثير من احتمالات ضررها.
وهناك تفصيلات في نهاية الآية (159) من سورة آل عمران بخصوص (الإستشارة) و (شروط الشورى) و(أوصاف الذين يجب استشارتهم) و(مسؤولية المستشار) حيث لا نرى ضرورة إلى إعادة ذلك، إلاّ أنّه يجب أن نضيف بعض الملاحظات الأُخرى:
أ ـ الشورى تختص بالأعمال التنفيذية ومعرفة الموضوع وليست لمعرفة الأحكام، لأنّها يجب أن تؤخذ من مصدر الوحي ومن الكتاب والسنة، وعبارة (أمرهم) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأن الأحكام ليست من شأن الناس، بل هي من أمر الخالق.
ولذا فلا أساس لما يقوله بعض المفسّرين كالآلوسي من أن الشورى تشمل الأحكام أيضاً، حيث لا يوجد نص خاص بذلك، خاصة وأنّنا نعتقد بعدم وجود أي أمر في الإسلام ليس له نص عام أو خاص صادر بشأنّه، وإلاّ فما فائدة (اليوم
أكملت لكم دينكم)(1) [ يجب قراءة تفصيلات عن هذا المعنى في كتب أصول الفقه بخصوص بطلان الإجتهاد بمعنى التقنين في الإسلام].
ب ـ قال بعض المفسّرين إن شأن نزول عبارة: (أمرهم شورى بينهم)خاص بالأنصار بخصوص الأنصار، إما لأن أعمالهم قبل الإسلام كانت وفقاً للشورى، أو هي إشارة إلى تلك المجموعة من الأنصار الذين آمنوا قبل هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبايعوه في (العقبة)، ودعوه إلى المدينة (لأن هذه السورة مكية، والآيات أعلاه نزلت في مكّة كما يظهر أيضاً).
وعلى أية حال، فإن الآية لا تختص بسبب نزولها، بل توضح برنامجاً عاماً وجماعياً.
وننهي هذا الكلام بحديث عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) حيث يقول: «لا ظهير كالمشاورة، والإستشارة عين الهداية»(2).
ومن الضروري الإشارة إلى أن آخر صفة وردت في هذه الآية لا تشير إلى الإنفاق المالي فحسب، وإنّما إنفاق كلّ ما أعطاه الخالق من الرزق كالمال والعقل والذكاء والتجربة، والتأثير الإجتماعي، والخلاصة: الإنفاق من كلّ شيء.
وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أيّ أنّهم إذا تعرضوا للظلم لا يستسلمون له، بل يطلبون النصر من الآخرين.
وواضح أنّ الآخرين مكلفون بالإنتصار ضد الظلم، لأن طلب النصر دون النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه، وفي الحقيقة فإن المظلوم مكلف بمقاومة الظالم وطلب النصرة، وأيضاً فإن المؤمنين مكلفون بإجابته، كما ورد في الآية (72) من سورة الأنفال حيث نقرأ: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر).
1 ـ المائدة، الآية 3.
2 ـ وسائل الشيعة، المجلد الثامن، ص425 (باب 21 من أبواب الأحكام العشرة).
هذا البرنامج الإيجابي البناء يحذر الظالمين من مغبة ظلم المؤمنين، حيث أنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم. وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأن الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.
«ينتصرون» من كلمة «انتصار» وتعني طلب النصر، إلاّ أن البعض فسرها بمعنى «التناصر» والنتيجة واحدة للتوضيح الذي ذكرناه.
على أية حال، فأي مظلوم إذا لم يستطع أن يقف بوجه الظلم بمفرده، فعليه ألا يسكت، بل يستفيد من طاقات الآخرين والنهوض بوجه الظلم، ومسؤولية جميع المسلمين الإستجابة لإستغاثته وندائه.
ولكن بم أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حد العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإن الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
يجب أن لا تتجاوزوا عن الحد بسبب أن أصدقاءكم هم الذين ظلموا فتنقلبوا إلى أشخاص ظالمين، وخاصة الافراط في الرد على الظلم في مجتمعات كالمجتمع العربي في بداية الإسلام، لذا يجب التمييز بين نصرة المظلوم والإنتقام.
وعمل الظالم يجب أن يسمى بـ (سيئة) إلاّ أن جزاءه وعقابه ليس (سيئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب التقابل بالألفاظ واستخدام القرائن، أو أنّ الظالم يعتبرها (سيئة) لأنّه يعاقب، أو يحتمل أن يكون استخدام لفظة (السيئة) لأنّ العقاب أليم ومؤذ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أن قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملا حسناً بحد ذاته.
وهذا يشبه العبارة الواردة في الآية (194) من سورة البقرة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله).
على أية حاله، فإنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها، وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من
الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.
لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأن (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
صحيح أنّه فقد حقه ولم يحصل على شيء في الظاهر، إلاّ أنّه بسبب عفوه، العفو الذي يعتبر أساس انسجام المجتمع والتطهّر من الأحقاد وزيادة أواصر الحب وزوال ظاهرة الإنتقام والإستقرار الإجتماعي، فقد تعهد الخالق بأن يعطيه من فضله الواسع، ويا لها من عبارة لطيفة (على الله) حيث أن الخالق يعتبر نفسه مديناً لمثل هؤلاء الأشخاص ويقول بأن أجرهم علىّ.
وتقول الآية في نهايتها: (إنه لا يحب الظالمين).
وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى بعض الملاحظات:
فأوّلا: قد يكون العفو بسبب أن الإنسان لا يستطيع أحياناً السيطرة على نفسه بدقة عند العقاب والقصاص، وقد يتجاوز الحد ويكون في عداد الظالمين.
وثانياً: إن هذا العفو ليس بمعنى الدفاع عن الظالمين، لأن الله لا يحب الظالمين أبداً، بل إن الهدف هو هداية الضالين وتثبيت الأواصر الإجتماعية.
وثالثاً: إنّ الذين يستحقون العفو هم الذين يكفون عن الظلم ويندمون على ما ارتكبوه في الماضي، ويقومون بإصلاح أنفسهم، وليس للظالمين الذين يزدادون جرأة بواسطة هذا العفو.
وبعباة أوضح، فإنّ كلاّ من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الإنتقام، وهذا يسمى العفو البناء، لأنّه يمنح المظلوم المنتصر قابلية السيطرة على النفس وصفاء الروح، وأيضاً يفرض على الظالم المغلوب إصلاح نفسه.
والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيه وضلاله، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع
الضعف فيجب الردّ بالمثل.
وقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليدخل الجنّة، فيقال: من ذا الذى أجره على الله؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنّة بغير حساب»(1).
وهذا الحديث ـ في الحقيقة ـ هو النتيجة المستوحاة من آخر آية في هذا البحث، والإسلام الأصيل هو هذا.
* * *
1 ـ مجمع البيان ـ نهاية الآية التي نبحثها.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيل( 41 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( 42 ) وَلَمَن صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ( 43 )
تعتبر هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تأكيداً وتوضيحاً وتكميلا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب، والهدف من ذلك أن معاقبة الظالم والإنتقام منه من حق المظلوم، ولا يحق لأحد منعه عن حقه، وفي نفس الوقت فإذا صادف أن سيطر المظلوم على الظالم وانتصر عليه، وعند ذلك صبر ولم ينتقم فإن ذلك يعتبر فضيلة كبرى.
فأوّلا تقول الآية: (ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل)(1) فلا يحق لأحد أن يمنع هذا العمل، ولا يلوم ذلك الشخص أو يوبخه أو يعاقبه،
1 ـ عبارة (ظلمه) هي من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
ولا يتوانى في نصر مثل هذا المظلوم، لأن الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم، ونصر المظلومين مسؤولية كلّ إنسان حر ومتيقظ الضمير.
(إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق). وإضافة إلى عقابهم الدنيوي (اُولئك لهم عذاب أليم) ينتظرهم في الآخرة.
يقول بعض المفسّرين حول الإختلاف بين جملة (يظلمون الناس) وجملة (يبغون في الأرض بغير الحق) أن الجملة الأولى إشارة إلى موضوع (الظلم) والثانية إلى (التكبر)(1).
البعض الآخر اعتبر الأولى إشارة إلى (الظلم) والثانية إشارة إلى (الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية).
«بغى» تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما، ولكن كثيراً ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الأُخرين، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق، لذا فإن للظلم مفهوماً خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أي تعد أو تجاوز للحقوق الإلهية.
عبارة (بغير الحق) تأكيد لهذا المعنى، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص.
أمّا آخر آية فتشير مرّة اُخرى إلى الصبر والعفو، لكي تؤكّد أن الإنتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو، حيثت تقول: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)(2).
«العزم» في الأصل يعني (التصميم لإنجاز عمل معين)، ويطلق على الإرادة القوية، وقد تكون عبارة (عزم الأمور) إشارة إلى أن هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان
1 ـ تفسير (الكشاف)، (روح المعاني) و(روح البيان) نهاية الآيات التي نبحثها.
2 ـ اللام في (لمن صبر) هي لام القسم وفي (لمن عزم الأمور) للتأكيد، والإثنان يوضحان أهمية هذا الأمر الإلهي أي (العفو).
العزم لها، وأياً كان من المعنيين فهو يدل على أهمية هذا العمل.
والملفت للنظر ذكر (الصبر) قبل (الغفران)، لأنّه مع عدم وجود الصبر لا يمكن أن يحصل العفو والغفران، حيث يفقد الإنسان السيطرة على نفسه ويحاول الإنتقام مهماكان.
ومرة اُخرى نذكّر بهذه الحقيقة، وهي أن العفو والغفران مطلوبان في حال القوة والإقتدار، وأن يستفيد الطرف المقابل من ذلك بأفضل شكل أيضاً، وقد تكون عبارة «من عزم الأمور» لتأكيد هذا المعنى أيضاً، لأنّ التصميم بخصوص شيء معين يحدث عندما يكون الإنسان قادر على إنجاز ذلك الشيء، على أية حال فإن العفو الذي يكون مفروضاً من قبل الظالم، أو يشجعه في عمله ويجرئه على ذلك، غير مطلوب.
بعض الرّوايات فسّرت الآيات أعلاه بثورة الإمام المهدي(عج) وانتقامه وانتصاره على الظالمين والمفسدين في الآرض. وكما قلنا عدّة مرات سابقاً فإن مثل هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق الواضح ولا تمنع من عمومية مفهوم الآية وشموليته(1).
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، ص585.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّـلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل( 44 ) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْف خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الْخَـسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةَ أَلاَ إِنَّ الظَّـلِمِينَ فِى عَذَاب مُّقِيم( 45 ) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنْصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيل( 46 )
الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.
فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أي ولي، فتقول: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده).
الملمّون بتعابير القرآن بخصوص الهداية والضلالة، يعرفون بوضوح أنّه لا الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس. فأحياناً يقوم الإنسان بعمل معين وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحاً في الظلمات.
وهذا هو عين الإختيار والحرية، فلو أن شخصاً أصر على شرب الخمر وأصيب بأنواع الأمراض، فإنه هوالذي جلب هذا الوضع وهذه الأمراض إلى نفسه، فالخالق مسبب الأسباب ويعطي التأثيرات المختلفة للأشياء، ولهذا السبب تربط النتائج به أحياناً(1).
على أية حال، فإن هذا أحد أكثر العقوبات ألماً بالنسبة للظالمين، ثمّ تضيف الآية: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل).
فقد تحدث القرآن المجيد عدة مرات عن طلب الكافرين والظالمين العودة، فأحياناً عند الموت مثل الآية (99) و (100) من سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلي اعمل صالحاً فيما تركت).
وأحياناً عند القيامة عندما يقتربون من الجحيم، كما تقول الآية (27) من سورة الأنعام: (ولوترى إذ وقفوا على النّار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين).
ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنها ستواجه بالرفض، لأن العودة غير ممكنة أبداً، وهذه سنة إلهية لا تقبل التغيير، فكما أن الإنسان لا يمكنه الرجوع من الكهولة إلى الشباب، أو من الشباب إلى الطفولة، أو من الطفولة إلى عالم الأجنة، كذلك يستحيل الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الدنيا من عالم البرزخ أو الآخرة.
الآية الأُخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول: (وتراهم
1 ـ هناك شرح مفصل في هذا الخصوص في نهاية الآية (36) من سورة الزمر، حيث أوضحنا جميع جوانب هذا الوضوع.
يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي)(1).
فالقلق والخوف الشديد يسيطران على وجودهم، والذلة والإستسلام يطغيان عليهم، وانتهى كلّ شيء من التكبر ومحاربة وظلم وإيذاء المظلومين، وينظرون من طرف خفي إلى النّار.
هذه صورة لحالة شخص يخشى من شيء أشد خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه، لذا فهو مجبور على النظر إليه، لكن بطرف خفي.
بعض المفسّرين قالوا: إنّ جملة (طرف خفي) تعني هنا النظر بعين نصف مفتوحة، لأنّهم لا يستطيعون فتح العين كاملةً من شدة الخوف والهول العظيم، أو أنّهم من شدة الأنّهيار والإعياء لا يستطيعون فتح العين بشكل كامل.
فعندما تكون حالة الإنسان هكذا قبل أن يدخل النّار... فماذا سيجري عليه عندما يطؤها ويهوي في أعماقها؟!
أمّا آخر عقاب ذكر هنا، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين، كما جاء في آخر الآية: (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة).
فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه، ثمّ زوجه، وأبناءه وأقرباءه؟ ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!
ثم تضيف: يا أهل المحشر: (ألا إنّ الظالمين في عذاب مقيم).
إنّه العذاب الذي ليس هناك أمل بانتهائه، ولا يتحدد بزمان معين. إنّه العذاب الذي يحرق أعماق الروح وظاهر الجسد على السواء.
وليس من لمستبعد أن يكون القائل لهذا الكلام هم المؤمنون الحقيقيون، وهم
1 ـ «طرف» «بتسكين الراء» مصدر وتعني دوران العين، وطرفة العين تعني حركة واحدة للعين. والضمير في (عليها) يعود إلى العذاب، صحيح أن العذاب مذكر لكنّه يعني هنا النّار وجهنم وضمير المؤنث يعود إليها.
الأنبياء والأولياء وأتباعهم الخاصين، حيث أنّهم مطهرون من الذنب، والمظلومون الذين أوذوا كثيراً من قبل هؤلاء الظالمين، ومن حقهم التحدث بهذا الكلام في ذلك اليوم (وقد أشارت روايات أهل البيت عليهم السلام إلى هذا المعنى)(1).
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أن (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين، يدل على أن المقصود هم الكافرون، كما ورد في بعض الآيات القرآنية: (والكافرون هم الظالمون).
الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، حيث تقول: (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله).
فهؤلاء قطعوا أواصر ارتباطهم بالعباد المخلصين والأنبياء والأولياء، لذلك لا يملكون ناصراً أو معيناً في ذلك اليوم، والقوى المادية سينتهي مفعولها في ذلك اليوم أيضاً، ولهذا السبب سيواجهون العذاب الإلهي بمفردهم.
ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها: (ومن يضلل الله فماله من سبيل).
وفي الآيات السابقة قرأنا: (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده).
فهناك تنفي الولي، وهنا تنفي السبيل، حيث أنّه ولأجل الوصول إلى الهدف، يجب أن يكون هناك طريق، ويجب أن يتوفّر الدليل، إلاّ أن هؤلاء الضالين محرومون من هذا وذاك.
* * *
1 ـ نور الثقلين، المجلد الرابع، ص586.
اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمَ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَإ يَوْمَئِذ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِير( 47 ) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الاِْنْسَـنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ فَإِنَّ الاِْنْسَـنَ كَفُورٌ( 48 ) للهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ إِنَـثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ قَدِيرٌ عَلِيمٌ( 50 )
بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين، فإنّ الآيات اعلاه تحذر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق.
فأوّل آية تقول: (استجيبوا لربّكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله)(1).
وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحداً يحميكم غير رحمته، فإنّكم على خطاً، لأن: (ما لكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير).
عبارة (يوم لا مرد له من الله) تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم الموت. كما أن عبارة (من الله) تشير إلى أن أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بعدم العودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.
وعلى أية حال، فجميع الطرق التي يعتقد أنّها تنقذ الشخص من العذاب الإلهي تكونن مغلقة في ذلك اليوم، وأحدها هوالعودة إلى عالم الدنيا والتكفير عن الذنوب والخطايا.
أمّا الآخر فهو وجود ملجاً يأمن الإنسان عند اللجوء إليه.
وأخيراً وجود من يقوم بالدفاع عن الإنسان.
فكل جملة من الجمل الثلاث ـ للآية أعلاه ـ تنفي واحداً من هذه الطرق.
وقد فسّر بعضهم جملة (ما لكم من نكير) بمعنى أنكم لا تستطيعون أن تنكروا ذنوبكم هناك، لأن الأدلة والشهود كثيرون بحيث لا مجال للإنكار، إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل كما يبدو.
الآية التي بعدها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتواسيه قائلة: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً) فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولا عن حفظهم من الإنحراف.
(إن عليك إلا البلاغ) سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.
يجب عليك أن تقوم بإبلاغ الرسالة الإليهية بأفضل وجه، وتُتِم الحجّة
1 ـ قد تكون عبارة (من الله) في الجملة أعلاه بمعنى (من قبل الله) يعني لا توجد عودة من قبل الخالق، وقد تكون بمعنى (في مقابل الله) يعني لا يوجد من يستطيع أن يعيدكم إلى هذه الدنيا ضد إرادة الخالق.
![]() |
![]() |
![]() |