![]() |
![]() |
![]() |
فهي توصي بأمرين مهمّين:
الأوّل: إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب، بل إقامته وإحياؤه ونشره).
الثّاني: الإحتراز عن البلاء العظيم، يعني الفرقة والنفاق في الدين.
وبعد ذلك تقول: (كبر على المشركين ماتدعوهم إليه).
فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.
وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب).
* * *
وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الإنتباه إليها:
1 ـ (شَرَع) من كلمة (شَرْع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.
وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة، لذا فإنّ لهذا المصطلح
تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري(1).
2 ـ لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام) لأن هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم، أيّ أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.
3 ـ في البداية ذكرت الآية نوحاً، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والإجتماعية) نزلت عن طريقه، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه(2).
ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوح (عليه السلام).
4 ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة، تمّ ذكر نوح(عليه السلام)في البداية ثمّ نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد ذلك إبراهيم(عليه السلام) وموسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام)، وهذا الترتيب بسبب أن نوحاً كان هو الباديء والفاتح، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.
5 ـ من الضروري أيضاً أن نشير إلى هذه الملاحظة، وهي أن القرآن يستخدم عبارة: (أوحينا إليك) بخصوص نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الأخرين، وقد يكون هذا الإختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأُخرى.
6 ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤهلات الذاتية للرسل الإلهيين.
1 ـ لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.
2 ـ هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية 213 من سورة البقرة.
أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.
جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(1).
وقد ورد هذا الإحتمال أيضاً في تفسير الجملة الأخيرة، وهو أن (الإجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.
وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفرق في الدين، فقد كانوا يدعون لذلك حتماً، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كلّ هذه الإختلافات المذهبية؟
وقد أجابت الآية الأُخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الإختلافات الدينية بأنّه: (وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، فالإختلافات لم تحدث إلاّ بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.
نعم، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعاً، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية، ويكشفوا ـ علانيةً ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.
وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والإنحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.
«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معاً لزرع هذه الإختلافات.
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، ص 157 (نهاية الآيات التي نبحثها).
وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأن الدين أوجد الإختلاف بين البشر، وأدى ألى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائماً هو أساس للوحدة والإتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الإختلافات وأصبحوا أُمة واحدة).
إلاّ أن السياسات الإستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس، وحرضت على الإختلافات، وكانت أساساً لإراقة الدماء، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيراً آخر في إيجاد الفرقة، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضاً.
«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي، يعني (طلب التجاوز والإنحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا، وتختلف كميته وكيفيته، ولهذا السبب فغالباً ما يستخدم بمعنى الظلم.
وأحياناً يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمراً جيداً ومرغوباً.
لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين: (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.
ثم يضيف القرآن الكريم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.
نعم، فالدنيا هي محل الإختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الإختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.
أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني، لذا لم يسطيعوا إدراك الحق بشكل جيد، حيث تقول: (وإن الذين اورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)(1).
وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيراً بعد أن يزال الستار عنه، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأدلة الواضحة، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلاّب الحق.
* * *
نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول الله تعالى: (أن أقيموا الدين) قال الأمام، (ولا تتفرقوا فيه) كناية عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ثمّ قال:(كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) من أمر ولاية علي (الله يجتبي إليه من يشاء)كناية عن علي(ع)(2).
وبديهي أنّ المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة والسلام، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ قضية ولاية أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) تعتبر من أركان الدين أيضاً.
* * *
1 ـ وفقاَ لهذا التّفسير الذي يتناسق بشكل كامل مع الجمل السابقة، فإن ضمير (بعدهم) يعود إلى الأمم الأولى التي أوجدت الفرقة بين المذاهب والأديان، وليس إلى الأنبياء المذكورين في الآية السابقة (فدقق ذلك).
2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 567.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنْتُ بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَـبِ وَأُمِرْتُ لاَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـلُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( 15 )
بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تفرق الأمم بسبب البغي والظلم والإنحراف، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النّبي بمحاولة حل الإختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء، وأن يبذل منتهى الإستقامة في هذا الطريق، فتقول: (فلذلك فادع)(1) أي ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الإختلافات.
ثم تأمره بالإستقامة في هذا الطريق، فتقول: (واستقم كما أمرت).
ولعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الإستقامة، أو إلى أن
1 ـ بعض المفسّرين اعتبر «اللام» في «لذلك» بمعنى (إلى)، والبعض الآخر بمعنى (التعليل) وفي الحالة الأولى تكون كلمة (ذلك) إشارة إلى دين الأنبياء السابقين، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف الأمم.
الإستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأُخرى مطابقة للقانون الإلهي.
وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها: (ولا تتبع أهواءهم)، لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والإختلاف والنفاق، فعليك القضاء على هذه الأهواء، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد.
وبما أن لكل دعوة نقطة بداية، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب). فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية، اعترف بها جميعاً، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها.
فأنا لستُ مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الأخرين، فاليهود يلغون المسيحيين، والمسيحيون يلغون اليهود، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضاً يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة.
وبما أن رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول: (وأمرت لأعدل بينكم)، سواء في القضاء والحكم، أو في الحقوق الإجتماعية والقضايا الأُخرى(1).
وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة، حيث تبداً من أصل الدعوة، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها ـ يعني الإستقامة ـ ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق «كعبادة الأهواء» ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس، وأخيراً الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة.
1 ـ بعض المفسّرين حدّد (العدالة) هنا بالقضاء، في حين أنّه لا توجد قرينة على هذه المحدودية في الآية.
بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات، حيثت تقول: (الله ربّنا وربّكم) وكل واحد مسؤول عن اعماله (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم). (لا حجّة بيننا وبينكم) وليس بيننا نزاع وخصومة، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم.
وعادة لا توجد حاجة إلى الإستدلال والإحتجاج، لأن الحق واضح، إضافة إلى ذلك فإننا جميعاً سوف نجتمع في مكان واحد: (الله يجمع بيننا)(1).
والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: (وإليه المصير).
وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد، والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسؤولون جميعاً حيال أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلاّ بالإيمان والعمل الصالح.
وننهي هذا البحث بحديث جامع، فقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فالمنجيات: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السر والعلانية، والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»(2).
* * *
1 ـ الضمير المتكلم مع الغير في (بيننا) يشير إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وضمير الجمع في (بينكم) يشير إلى جميع الكفار، سواء كانوا أهل الكتاب أو المشركين.
2 ـ مجمع البيان، نهاية الآيات التي نبحثها. وتحف العقول كلمات الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ( 16 ) اللهُ الَّذِى أَنْزَلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ( 17 ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذيِنَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ظَلَـل بَعِيد( 18 )
الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة بينه وبينهم. أمّا الآيات التي نبحثها، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أن حقانية نبيّ الأسلام لا تحتاج إلى دليل، تقول: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربّهم) وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة، بل للعناد والاصرار تقول الاية (وعليهم غضب).
(ولهم عذاب شديد) لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.
وقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة: (من بعد ما استجيب لهم).
فقالوا: إنّ المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة، والذين ليست لهم نوايا خبيثة، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بحق معارضيه كما في يوم معركة بدر، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار شوكته.
وأحياناً اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب، حيث كانوا ينتظرون نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ظهوره، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم، وكانوا يظهرون الإيمان والحب له، إلاّ أنّه بعد ظهور الإسلام أنكروا كلّ ذلك، لأن مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.
ويبدو أن التّفسير الأوّل هو الأفضل، لأن التّفسير الثّاني يقتضي أن تكون هذه الآيات نازلة بعد معركة بدر، في حين أنّه لا دليل على هذا الأمر، ويظهر أن جميع هذه الآيات نزلت في مكّة.
والتّفسير الثّالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية، لأنّه يجب أن يقال: «من بعدما استجابوا له».
إضافةً إلى أن ظاهر جملة: (يحاجون في الله) يشير إلى محاججة المشركين بخصوص الخالق، وليس أهل الكتاب بالنسبة الى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن ما هي المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين:
فقال البعض: إنّ المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان
موجوداً قبل الإسلام وإن اسبقيته دليلٌ على افضليته.
أو، ما دمتم تدّعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسى(عليه السلام) لأن الطرفين يقبلانه.
ولكن ـ كما قلناـ فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود أو أهل اكتاب، لأن «المحاججة في الله» أكثر ما تخص المشركين، لذا فإنّ الجملة أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك، والتي منها شفاعة الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.
على أية حال، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق، سيفتضح أمرهم بين خلق الله، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم الآخر.
ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي، حيث تقول الآية: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان).
«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والإجتماعية، وما شابه ذلك، لأن الحق هو الشيء الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.
وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد، بالرغم من أن معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن، إلاّ أنّه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار للقياس والقانون الإلهي الصحيح، وحتى شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، حيث أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.
بناءً على هذا فإنّ الخالق أنزل كتاباً على نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يعتبر هو الحق، والميزان للتقييم، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده،
واستدلالاته المنطقية، أو قوانينه الإجتماعية، وحتى برامجه لتهذيب النفوس وتكامل البشر... كلّ ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.
إنّ هذا المحتوى العظيم ـ بهذا العمق ـ من شخص أُمّي لا يعرف القراءة والكتابة، وقد نشاً في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفاً، يعتبر بحدّ ذاته دليلا على عظمة الخالق، ووجود عالم ما وراء الطبيعة، وحقانية من جاءبه.
وهكذا فإنّ الجملة أعلاه تعتبر جواباً للمشركين ولأهل الكتاب.
وبما أن نتيجة كلّ هذه الأمور، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة والميزان تتّضح في يوم القيامة، لذا فإن الآية تقول في نهايتها: (وما يدريك لعل الساعة قريب).
فالقيامة عندما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله، ويواجهون الميزان الذي يقيس حتى حبّة الخردل أو أصغر منها.
ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة، فتقول الآية: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها).
فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب أبداً، إنّ كلامهم هذا من قبيل الإستهزاء والإنكار، ولو كانوا يعلمون ما سيحل عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.
(والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنّها الحق)(1).
طبعاً لحظة قيام القيامة خافية على الجميع، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين والملائكة المقربين، ليكون هذا الأمر أسلوباً تربوياً مستمراً للمؤمنين، واختباراً واتمام حجة للمنكرين، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.
1 ـ «مشفقون» من كلمة (إشفاق) وتعني العلاقة المقترنة مع الخوف، فمتى ما تعدت بحرف (من) يطغى جانب الخوف عليها، وعندما تتعدى بحرف (على) يطغى جانب الإنتباه والمراقبة عليها، ولذا فإن الإنسان يقول لصاحبه وصديقه: «أنا مشفق عليك» (تفسير روح المعاني ومفردات الراغب).
ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة من اللحظات.
وكإعلان عام، تقول الآية في نهايتها: (ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) لأن نظام هذا العالم يعتبر ـ بحد ذاته ـ دليلا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثاً وليس له أي معنى، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.
وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أن الإنسان قد يضل الطريق أحياناً، إلاّ أنّه لا يبتعد عنه كثيراً، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحياناً يكون البعد كبيراً جداً بحيث يصعب ـ أو يستحيل ـ عليه العثور على الطريق مرّة اُخرى.
والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «سأل رجل رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع: يا محمّد...، فأجابه الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وبصوت مرتفع مثل صوته «ما تقول؟».
قال الرجل: متى الساعة؟
قال الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّها كائنة فما اعددت لها؟».
قال الرجل: حبّ الله و رسوله!
قال الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنت مع من أحببت»(1).
* * *
1 ـ تفسير المراغي، المجلد الخامس والعشرون، ص32.
اللهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ( 19 ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاَْخِرَةِ مِن نَّصِيب( 20 )
بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد: (الله لطيف بعباده).
فعندما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع، يعدهم باللطف في موضع آخر، ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجّل في عقاب الجاهلين المغرورين.
ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق، فتقول: (يرزق من يشاء). وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء، كما جاء في الآية 26 من سورة الرعد: (الله يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر).
ونقرأ في آية قادمة في هذا السورة: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)(1).
وواضح أن (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي، الجسماني والروحاني فعندما يكون هو مصدر اللطف والرزق، فلماذا تتوجهون نحو الأصنام التي لا ترزق ولا تتلطف، لا تحل مشاكلكم.
وتقول الآية في نهايتها: (وهو القوي العزيز).
وعندما يعدالله تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر، ولهذا السبب لا يوجد أي تخلف في وعوده أبداً.
ومن الضروري الإنتباه إلى هذه الملاحظة وهي أن (لطيف) لها معنيان: الأوّل: أنّه صاحب اللطف والمحبة والرحمة. والثّاني: علمه بجميع الأمور الصغيرة والخافية، وبما أن رزق العباد يحتاج إلى الإحاطة والعلم بالجميع وفي أي مكان كانوا، سواء في السماء أو في الأرض، لذا فإن الآية تشير في البداية إلى لطفه ثمّ إلى رزقه، كما أن القرآن يضيف في الآية (6) من سورة هود وبعد أن يذكر: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها) قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها).
وطبعاً لا يوجد أي تناقض بين هذين المعنيين، بل يكمل أحدهما الآخر، فاللطيف هو الشخص الذي يكون كاملا من حيث المعرفة والعلم، ومن حيث اللطف والمحبّة لعباده، وبما أن الخالق يعلم باحتياجات عباده بشكل جيد فانه يسدد احتياجاتهم بأفضل وجه، لذا فهو الاجدر بهذا الاسم.
على أية حال، فإنّ الآية أعلاه أشارت إلى أربعة صفات من أوصاف الخالق: اللطف، والرزق، والقوّة، والعزّة، وهي أفضل دليل على مقام (ربوبيته)، لأن (الرب) يجب أن تتوفر فيه هذه الصفات.
1 ـ الآية 27 ـ نفس هذه السورة.
الآية التي بعدها شبّهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الإستفادة منه بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر للدنيا، وتحدد عاقبة كلّ قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب)(1).
إنه لتشبيه لطيف وكناية جميلة، فجميع الناس مزارعون، وهذه الدنيا مزرعة لنا، أعمالنا هي البذور، والإمكانات الإلهية هي المطر لهذه المزرعة، إلاّ أن هذه البذور تختلف كثيراً، فبعضها غير محدودة النتاج وأبدية، أشجارها دائمة الخضرة ومثمرة وبعضها الآخر قليل النفع جداً، وتنتهي بسرعة، وتحمل ثماراً مرّة.
![]() |
![]() |
![]() |