ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية، لم نعثر له على دليل وشاهد، صحيح أنّ الوحي والآيات، هما غذاء الروح، ينزلان من سماء الغيب، وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية، وهما متناسقان مع بعضهما. ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة (آياته) التي نحن بصددهاتشير إلى مفهوم أوسع، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية، لأنّ عبارة (يريكم آياته) وردت مراراً في القرآن الكريم، وهي عادةً ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود.

مثلا، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية، من قبيل الزواحف والفلك تقول: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)(1).

إنّ تعبير «يريكم» ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية، بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و (يأتيكم).

من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية، وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية، كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك، لا يستند إلى دليل، ولا تقوم عليه حجّة.

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق


1 ـ المؤمن، الآية 81.

[218]

من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان، ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر، واحياناً نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق، وإنقاذه من وضعه المتردي، لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء.

وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع، وتغمد الوجود بضيائها، إلاّ أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً، وإنّما يتذكر ـ فقط ـ من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: (وما يتذكر إلاّ من ينيب).

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: (فادعوا الله مخلصين له الدين) إنهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان، وامحوا آثارها من ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع.

ومن الطبيعي أنّ وقفتكم الرّبانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين، لكن عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يتسرّب الى قلوبكم، أخلصوا نيّاتكم: (ولو كره الكافرون).

ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية، يكون طريق أهل التوحيد موحشاً في باديء الأمر، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى وسط عالم الظلام والخفافيش، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير المدروسة، تقدموا بحزم وإصرار، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص، وانشروها في كلّ مكان.

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، بعض الصفات المهمّة، فتقول: (رفيع الدرجات) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(1).


1 ـ المجادلة، الآية 11.

[219]

وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للإمتحان والإختبار أكثر من غيرهم، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)(1).

لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض، وجعل منه خليفته، وفضّل البعض على البعض الآخر وفقاً لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات)(2).

فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين، فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول: إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم، فهو رفيع الدرجات.

إنّ صحة كلّ هذه المعاني منوطة بتفسير (رفيع) بالرافع، إلاّ أنّ البعض ذهب إلى أنّ (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإنّ (رفيع الدرجات) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى، فهو رفيع في علمه، وفي قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.

وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة (رفيع) فإنّ التّفسيرين واردان، ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين، والذي هو الدرجات الرفيعة، لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر.

لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى، خصوصاً في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة.

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: (ذو العرش).


1 ـ البقرة، الآية 253.

2 ـ الأنعام، الآية 165.

[220]

فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته، ولا منازع له في حكومته، وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى.

وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن «العرش» فلا حاجة هنا للتكرار.

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي، حيث تحيي هذه الأُمور القلوب، وتكون في الانسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان.

إنّ قدرته من جانب، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر، تقتضي أن يعلن عزّوجلّ عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي، وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح، هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم.

لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح، لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية، وممّا تفيده الآية (2) من سورة «النحل» التي تقول: (ينزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذورا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون)وكذلك ممّا تفيده آية (52) من سورة «الشورى» التي تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وتوضح له نزول القرآن و الإيمان والروح بقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها، هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي.

تفيد عبارة (من أمره) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح، إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه.

أمّا قوله تعالى: (على من يشاء من عباده) فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر، كما نقرأ في الآية (124) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى: (الله أعلم

[221]

حيث يجعل رسالته).

وعندما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) تُفسّر الروح في الآية أعلاه بـ «روح القدس» وتخصّها بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام)، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ «روح القدس» هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، وكثيراً ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة، وتنطق لسانهم بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة).

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء(عليهم السلام)، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.

الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله: (لينذر يوم التلاق).

أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين...

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين...

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم...

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...

وأخيراً، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة

[222]

العدل الإلهي.

إذاً، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير ... إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسماً ليوم القيامة!

 

* * *

 

[223]

الآيتان

يَوْمَ هُمْ بَرِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَحِدِ الْقَهَّارِ( 16 ) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( 17 )

 

التّفسير

يوم التلاقي!

هذه الآيات والتي تليها، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة.

في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة و كلّ واحدة أكثر إثارة من الأُخرى.

يبيّن تعالى أن يوم التلاقي، هو: (يوم هم بارزون)... إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا، وتصبح الأرض (قاعاً صفصفاً) كما يصفها القرآن في الآية (106) من سورة طه».

ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم، ثمّ تنكشف الأسرار الباطنية

[224]

والمخفية: (يوم تبلى السرائر)(1).

ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها: (وأخرجت الأرض أثقالها)(2).

ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها: (وإذا الصحف نشرت)(3).

في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه: (يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه)(4).

وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها: (بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل)(5).

وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان، وستشهد ـ أيضاًـ الأرض وتكشف ما ارتكب عليها: (يومئذ تحدّث أخبارها)(6).

في ذلك اليوم سيطوى الكون، وسيظهر الإنسان بكل وجوده، ويبرز الكون وما عليه، ولا تبقى من خافية: (وبرزوا الله جميعاً)(7).

إنّهُ منظر مهول ومشهد موحش!!

وَيكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل ... وَ لو للحظة واحدة... منظر هَذِهِ الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة؟ لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد، وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه، و أن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ.

الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول، هوانكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى


1 ـ الطارق، الآية 9.

2 ـ الزلزال، الآية 2.

3 ـ التكوير، الآية 10.

4 ـ النبأ، الآية 40.

5 ـ الأنعام، الآية 28.

6 ـ الزلزال، الآية 4.

7 ـ إبراهيم، الآية 21.

[225]

شيء منها على الله تعالى: (لا يخفى على الله منهم شيء).

بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق، إذ يتساوى لذى ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر، والشاهد والغائب. فلماذاـ إذاًـ ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّهاتفسير لجملة (يوم هم بارزون

إن سبب ذلك يعود إلى أنّ «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر، بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض. أمّا بالنسبة لله فالمسألة  لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم: (لمن الملك اليوم

يأتي الجواب: (لله الواحد القهار).

مَن الذي يطرح السؤال، وَ مَن الذي يجيب عليه؟

الآية لا تتحدّث عن ذلك، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.

ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا، أمّا الجواب فيأتي من الجميع، مؤمنين وكافرين(1).

وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عزّوجلّ(2).

قسم ثالث يعتقد أنّ «المنادي الإلهي» هو الذي يطرح السؤال، وهو الذي يجيب عليه.

ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر،


1 ـ مجمع البيان، أثناء تفسير الآية.

2 ـ الميزان: ذيل الآية مورد البحث.

[226]

تطرحه جميع ذرات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه.

فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود، لسمعتها تقول: (لمن الملك) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: (لله الواحد القهّار).

وقد نرى في هذه الدنيا نموذجاً مصغراً لذلك، فعندما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين، فإنّنا نحس بقدرة شخص معين، وبانبساط حاكميته، وكأنّ الجميع يقولون ـ كلّ بلسان حاله ـ: إنّ المالك أو الحاكم هو فلان، وتشهد على ذلك حتى الجدران!!

وبالطبع، في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى، ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس و الجن.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم، هو كونه يوم جزاء: (اليوم تجزى كلّ نفس بماكسبت). أجل، إن ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة، والمفرحة من جهة اُخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم، فهي ما يختصره قوله تعالى: (لا ظلم اليوم).

وكيف يمكن أن يحصل الظلم، في حين أن الظلم إمّا أن يكون عن جهل، والله عزوجل قد أحاط بكل شيء علماً.

وإمّا أن يكون عن عجز، والله عزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على شيء، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي العادل.

[227]

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي، هي سرعة الحساب لأعمال العباد، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى: (إنّ الله سريع الحساب).

وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر، وهي بدرجة بحيث نقرأ عنها في حديث: «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر»(1).

وأساساً فإنّه مع القبول بمسألة تجسّم الاعمال و بقاء آثار الخير و الشر فإن مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أنّ الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي تحسب مقدار العمل في اثناء العمل بجاجة الى زمان؟!

وقد يكون الغرض من تكرار (سريع الحساب) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو عدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغوائاته، ومن يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ.

إضافة إلى أنّ هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأنّ ذلك اليوم لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في هذه الدنيا، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين.

* * *

 


1 ـ في مجمع البيان، نهاية الحديث عن الآية (202) من سورة البقرة.

[228]

الآيات

وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاَْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـظِمِينَ مَا لِلَّظـلِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ( 18 ) يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاَْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ( 19 ) وَاللهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 20 )

 

التّفسير

يوم تبلغ القلوب الحناجر:

هذه الآيات تستمر ـ كالآيات السابقة ـ في وصف القيامة ـ يوم التلاقي ـ وتحدّد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.

يقول تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة).

«الآزفة» باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة، حيث أطلق سبحانه على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن ذلك اليوم، فلا ينبغي ـ والحال هذه ـ أن ينشغل المرء بالتفكير به!

وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة

[229]

حيال يوم القيامة، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تأريخ لهذا اليوم المهول، حتى للأنبياء(عليهم السلام)، لذا يجب الإستعداد دائماً لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثّاني ليوم الأزقة هو: (إذ القلوب لدى الحناجر) من شدة الخوف. فعندما تواجه الإنسان الصعويات يشعر وكأنّ قلبه يفر من مكانه، وكأنّهُ يريد أن يخرج من حنجرته، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على هَذِهِ الحالة وصف «بلغت القلوب الحناجر».

ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أنّ روحه بلغت حنجرته هلعاً وخوفاً، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجياً ولم يبق منها سوى القليل.

إنّ هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق، والخشية من الإفتضاح وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق، وتحمّل العذاب الأليم الذي  لا يمكن الخلاص منه، كلّ هذه أُمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها وشرحها بأي بيان.

الصفة الثّالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية بـ ( كاظمين) أي إنّ الهم والغم سيشمل كل وجودهم، إلاّ أنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم» مشتقّة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء; ثمّ أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلاّ أنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ او يستريح بالصراخ، لكن المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ ... فماذا ينفع الصراخ في محضر الخالق جلّ وعلا وفي ساحة عدله وعندما تنكشف جميع الأسرار امام جميع الخلائق.

الصفة الرّابعة ليوم التلاقي هو يوم: (ما للظالمين من حميم). أي صديق نعم، أنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملقاً ـ كما

[230]

يحيط الذباب بالحلويات ـ طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إنّ هؤلاء في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحداً... وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة  ولا خلّة.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية:(ولا شفيع يطاع).

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفاً لكيفية القيامة، حيث تقول: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)(1).

إنّ الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها، وهو بعلمه سيجعل صباخ الظالمين المذنبين مظلماً.

وعندما سئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معنى الآية فأجاب: «ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر إليه، فذلك خائنة الأعين»(2). أي يوهم أنّه لا ينظر إليه.

قد يتطاول البعض بنظره إلى أعراض الناس وإلى ما يحرم النظر إليه، وقد يستطيع الفاعل أن يخفي فعلته عن الآخرين، لكن ذلك لايخفى عن علم الله المحيط بكل ذرات الوجود إذ: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في


1 ـ هناك احتمالان من حيث التركيب النحوي لجملة «يعلم خائنة الأعين» : الأول: أنّ (خائنة) لها معنى مصدري وتعني الخيانة (مثل كاذبة ولا غية بمعنى كذب ولغو). ويحتمل أن تكون (اسم فاعل) من باب تقديم الصفة، أي أنّها تعني في الأصل (الأعين الخائنة).

2 ـ تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.

[231]

الأرض)(1).

وقد روي أنّه (لماجيء بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما اطمأن أهل مكّة وطلب له الأمان عثمان صمت رسول الله طويلا ثمّ قال (نعم) فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله: «ما صمتّ طويلا إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجلٌ من الأنصار: فهلاً أومأت إليّ يا رسول الله، فقال: «إن النّبي  لا تكون له خائنة الأعين»(2).

وبالطبع فإنّ لخيانة العين أشكال مختلفة، إذ تتمثل في بعض الأحيان باستراق النظر إلى ما يحرم كالنساء وغيرهن، وأحياناً تتمثل بإشارات معينة للعين تهدف تحقير الآخرين والإستهزاء بكلامهم. وقد تكون حركات العين مقدمة لمخططات شيطانية ضدّ الآخرين.

إنّ من يؤمن بالحساب الدقيق في الآخرة، عليه أن يراعي حدود التقوى في خائنة الأعين وخطرات الفكر، وواضح أنّ استحضار عناصر الرقابة هذه لها مؤدّاها التربوي الكبير في سلوك الإنسان وحياته.

وفي قصص الوعظ المتداولة في مجالس العلماء، يقال أن أحد كبار العلماء عندما أنهى دراسته الدينية في النجف الأشرف، طلب من أستاذه عندما أراد الرجوع إلى بلده أن يعظه وينصحه، فقال له الأستاذ: بعد كلّ هذا التعب وتحمّل مضاق الدراسة والتحصيل فإنّ آخر نصيحتي لك هي أن لا تنسى أبداً قوله تعالى (ألم يعلم بأنّ الله يرى)(3).

المؤمن الحقيقي يعتبر العالم كلّه حاضراً عند الله تعالى، وإنّ كلّ الأعمال تتمّ في حضوره، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعاً كافياً للخجل والكف


1 ـ سبأ، الآية 3.

2 ـ تفسير القرطبي ذيل الآية.

3 ـ العلق، الآية 14.

[232]

عن المعاصي والذنوب.

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى: (والله يقضي بالحق).

أمّا غيره: (والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء).

في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلاّ بالحق، لأنّ القضاء بغير الحق ـ بالظلم مثلا والإنحياز ـ إمّا أن يعود إلى الجهل وعدم المعرفة، والله محيط بكل شيء، حتى بما يموج في الضمائر وماتكنّه السرائر. أو أنّه يكون نتيجة للعجز والإحتياج، وهذه صفات هي أبعد ما تكون عن ذات الله جلّ جلاله.

إنّ هذا التعبير يحمل في مؤدّاه دليلا كبيراً على توحيد المعبود والعبادة، لأنّ من يكون له حق القضاء في النهاية يستحق العبادة حتماً أمّا الأصنام التي لا تنفع شيئاً في هذا العالم، ولا تكون في القيامة مرجعاً للحكم والقضاء، فكيف تستحق العبادة.

ومن الضروري أن نشير أيضاً إلى أنّ للحكم والقضاء بالحقّ معاني واسعة، إذ هي تشمل عالم التكوين وعالم التشريع، حيث وردت كلمة «قضى» في الآيات القرآنية لتشمل المعنيين، ففي مكان نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه)(1) حيث تنطوي الآية على القضاء التشريعي. وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى: (إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون)(2).

وفي الختام و للتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية (إن الله هو السميع البصير).


1 ـ الإسراء، الآية 23.

2 ـ آل عمران، الآية 47.

[233]

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة، أي إنّ كلّ المسموعات والمبصرات حاضرة عنده، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شيء، وقضاوته بالحق، إذ ما لم يكن الشخص سميعاً وبصيراً مطلقاً فلا يستطيع أن يقضي بالحق،

 

* * *

 

[234]

الآيتان

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاَْرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاق( 21 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( 22 )

 

التّفسير

اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين:

إنّ أسلوب القرآن الكريم في كثير من الايات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمّة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الانسان ليريه الحوادث الماضية و الحالية. لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم، وتدعوا الناس للإعتبار بمصير أولئك، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه.

يقول تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا

[235]

من قبلهم).