إنّ العالم اليوم ينطق في كلّ جزء من أجزائه بوجود قدرة أزلية تكمن وراءه، فكل شيء يدل على الصانع لمدبِّر، وأي نبات ينبت على الأرض يهتف «وحده لا شريك له».

نستطيع هنا أن نترك الحديث عن القضايا العلمية المعقدة، ونتجه إلى ظواهر عادية ممّا ينتشر حولنا، لنتلمّس فيها أدلة واضحة على إثبات الصانع العظيم.

ولا بأس هنا من ذكر هذين المثالين:

المثال الأول: الجميع يعرف أنّ هناك تقوّس في أخمص قدم كلّ إنسان بحيث لا يبدو الأمر ملفتاً للنظر مطلقاً، ولكنَّا نسمع في معاملات الفحص الطبي الخاص بأداء الخدمة العسكرية، أنّ الشاب الذي يفتقد مثل هذا التقوّس يعفى من الخدمة العسكرية أو يحال إلى الأعمال المكتبية الإدارية.

إنّ الإنسان الذي يفتقد مثل هذا التقوس يتعب بسرعة، ولا يملك الإستعداد الكافي لأداء الخدمة العسكرية التي تستدعي المشي الطويل.

وهكذا كلّ شيء في هذا العالم وفي وجود الإنسان مخلوق بدقّة ونظم، حتى التقوس البسيط في أخمص قدم الإنسان!

المثال الثّاني: في داخل فم الإنسان وعينه منابع فوّارة منتظمة ودقيقة الإفراز، يخرج من فتحتها الصغيرة على مدى حياة الإنسان سائلان مختلفان تماماً، لولاهما لما استطاع الإنسان أن يكون قادراً على الرؤية أو التحدّث أو مضغ الطعام وبلعه.

[452]

بعبارة اُخرى: إنّ الحياة مستحيلة بدون هذين السائلين العاديين ظاهراً!

فبدون أن يكون سطح العين رطباً بشكل دائم يستحيل دوران الحدقة التي ستصاب بآلام كثيرة والأذى بمجرّد ملامستها لأجسام صغيرة، بل ستمنعها هذه الأجسام عن الحركة.

كذلك إذا لم يكن فم الإنسان وبلعومه رطباً، فإنّ الكلام يصبح أمراً مستحيلا بالنسبة له، وكذلك مضغ الطعام وبلعه. بل وحتى التنفس إذا كان الفم جافاً.

وكذلك ينبغي أن تكون التجاويف الأنفية رطبة دائماً حتى يسهل دخول الهواء ومروره باستمرار.

والدقيق هنا أنّ ماء العين ينزل عبر قنوات خاصة من العين إلى الأنف للمحافظة على رطوبته، وإذا قدِّر لهذا المجرى أن يغلق ليوم واحداً فقط ـ كما نشاهد ذلك في حال بعض المرضى ـ فإن الدموع ستسيل على الوجه بشكل دائم وسيكون لها منظر مزعج مؤذ.

ونفس الكلام يقال بالنسبة للغدد اللعابية في الفم، فقلّة إفرازاتها تزيد من جفاف اللسان والفم والبلعوم، وكثرته تعوق التحدث وتجعل اللعاب يسيل من الفم إلى الخارج.

ثم إنَّ المذاق الملحي للغدد الدمعية يؤدي إلى حفظ أنسجة العين ضدَّ الأجسام الغريبة بمجرّد دخولها إلى العين.

بينما يفتقد اللعاب لأي طعم، كي يستطيع الإنسان أن يشعر بالمذاق الخاص للأطعمة، بينما تساعد الأملاح الموجودة فيه على هضم الطعام.

وإذا تدبرنا في طبيعة التكوين الكيمياوي والفيزيائي لسوائل هذه الغدد وأنظمتها الدقيقة ومنافعها، نتبيّن عندها أنَّ وجودها لا يمكن أن يكون مجرّد صدفة عمياء لا تعقل ولا تعي، بل هي من آيات الله الأنفسية ومصداق لقوله الحق جلَّ وعلا: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحق).

[453]

وفي إشارة عابرة لكنّها كبيرة الدلالة والمعنى، يتحدث الإمام الصادق في الحديث المعروف بتوحيد المفضَّل، الذي هو غني جدّاً في الإشارة إلى الآيات الآفاقية والأنفسية لله في الوجود، يقول(عليه السلام): «أي مفضل! تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنّه جعل يجري جرياناً دائماً إلى الفم، ليبل الحلق واللهوات فلا يجف، فإنّ هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان، ثمّ كان لا يستطيع أن يسيغ طعاماً إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة»(1).

فإذا تجاوزنا جسم الإنسان فإنّ روحه بؤرة للعجائب بحيث حيّرت جميع العلماء. وثمّة آلاف الآلاف من هذه الآيات البينات التي تشهد جميعاً«أنّهُ الحق».

وهنا يلتقي صوتنا ـ بدون إرادة منّاـ مع صوت الحسين(عليه السلام)، ونقول: «عميت عين لا تراك»!!

نهاية سورة فصّلت

* * *

 


1 ـ بحار الأنوار، المجلد 3، صفحة 77.

[454]

 

[455]

 

 

سُورَة

 

 

الشّورى

 

 

مكيّة

 

وَ عَدَدُ آياتِها ثلاث وخمسُون آية

[456]

 

[457]

 

 

«سورة الشورى»

نظرة عامة في محتوى السورة:

إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (38) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في أُمورهم.

ولكن بالإضافة إلى هذا الموضوع، وإلى ما تتضمنهُ السورة من بحوث ومضامين السور المّكية من بحث في المبدأ والمعاد، والقرآن والنبوّة، فإنّها تتناول قضايا اُخرى يمكن الإشارة إليها مختصراً بما يلي من نقاط:

القسم الأول: وهو أهم أقسام السورة، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياء(عليهم السلام) بالله تبارك وتعالى.

والملاحظ أنّ هذا الموضوع يلقي بظلاله على جميع أجزاء السورة، فالسورة تبدأ بالإشارة إليه وتنتهي به أيضاً.

وكامتداد لهذا الموضوع تثير السورة بحوثاً حول القرآن ونبوة نبيّ الإسلام وبداية الرسالة منذ أيام نبيّ الله نوح(عليه السلام).

القسم الثّاني: إشارات عميقة المعنى إلى دلائل التوحيد، وآيات الله في الآفاق والأنفس التي تكمِّل البحث في موضوع الوحي.

وفي هذا القسم ثمّة بحوث حول توحيد الربوبية.

القسم الثّالث: في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة.

[458]

وهو محدود قياساً إلى الأقسام الأُخرى.

القسم الرابع: تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية التي تعكسها السورة بشكل خاص ودقيق. فهي تدعو أحياناً إلى ملكات خاصة مثل الإستقامة والتوبة والعفو والصبر وإطفاء نار الغضب.

وتنهى في المقابل عن الرذيلة، والطغيان في مقابل النعم الإلهية، أو العناد وعبادة الدنيا، وكذلك تنهى عن الفزع والجزع عند ظهور المشاكل.

إنّ السورة تنطوي على مجموعة متكاملة من دروس الهدى هي في الواقع شفاء للصدور ومسالك نور في طريق الحق.

 

فضيلة تلاوة السورة:

جاء في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من قرأ سورة حم عسق كانَ ممن تصلّي عليه الملائكة، ويستغفرون لهُ ويترحمون عليه»(1).

وفي حديث آخر عن الصادق نقرأ قوله(عليه السلام) «من قرأ حم عسق بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتى يقف بين يدي الله عزّوجلّ فيقول: عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها، أمّا لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنّة».

وعندما يدخل الجنّة يرفل بأنواع النعم الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق في الحديث الآنف بشكل مفصل(2).

* * *

 


1 ـ مجمع البيان، المجلد 9 ـ 10، ص31، طبعة دار المعرفة.

2 ـ ثواب الأعمال، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 556.

[459]

الآيات

حم( 1 ) عسق( 2 ) كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( 3 ) لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ( 4 ) تَكَادُ السَّمَوَتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَـئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاَْرْضِ أَلاَ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 5 )

 

التّفسير

تكادُ السماوات يَتَفَطّرن!

مرة اُخرى تواجهنا الحروف المقطّعة في مطلع السورة، وهي هنا تنعكس بشكل مفصل، إذ بين أيدينا خمسة حروف.

«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى أُضيف إليها مقطع (عسق).

وقد ذكرنامراراً أنّ للمفسّرين آراءاً وبحوثاً كثيرة حول هذه الحروف، يجملها صاحب مجمع البيان العلاّمة الطبرسي في أحد عشر قولا، وقد ذكرنا أهم

[460]

تلك الأقوال في مطلع الحديث عن سور: البقرة، آل عمران، والأعراف، ومريم، وغضضنا الطرف عن غير المهم منها.

ونذكر الآن بعضاً لا بأس به من هذه الأقوال بالرغم من عدم قيام دليل قاطع على صحتها.

فمنها قولهم أنّ هذه الحروف جاءت كأُسلوب للفت أنظار الناس إلى القرآن، لأنّ المشركين والمعاندين كانوا قد تواصوا فيما بينهم على عدم استماع آيات الله، خاصّة عندما كان رسول الله يقرؤها عليهم، إذ كانوا يثيرون الضوضاء، لذلك جاءت الحروف المقطعة (في 29 سورة قرآنية) لتكون أسلوباً جديداً في جلب الإنتباه.

وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي إحتمالا آخر يمكن أن نضيفه إلى ما استخلصه العلاّمة الطبرسي من الأقوال الأحد عشر ليكون المجموع اثنا عشر تفسيراً.

وما ذكره العلامة الطباطبائي وإن كان مثله مثل غيره من الأقوال ممّا لم يقم الدليل القاطع عليه، إلاّ أنّه من المفيد أن نستعرضه بإيجاز.

يقول العلاّمة الطباطبائي: «إنك إن تدبرت بعض التدبُّر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين، وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور».

«ويؤكّد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ، كما في مفتتح الحواميم من قوله: (تنزيل الكتاب من الله) أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراءات من قوله: (تلك آيات الكتاب) أو ما في معناه، ونظير ذلك في مفتتح الطواسين، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه».

«ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً، ويؤيد ذلك ما نجده في سورة الأعراف

[461]

المصدّرة بـ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات و ص[ أي ما افتتح بـ «ألم» و«ص»] وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات».

«ولعلّ المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض، لتبيّن له الأمر أزيد من ذلك»(1).

وثمّة تفسير آخر أشرنا إليه سابقاً، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف إشارات ورموزاً لأسماء الخالق ونعمه وقضايا اُخرى.

مثلا، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن، والميم إلى المجيد، والعين إلى العليم، والسين إلى القدوس، والقاف إلى القاهر(2).

يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم: لو كان المقصود من الحروف المقطعة أن لا يعلم بها الآخرون فإنّ ذلك غير صحيح، لأنّ هناك آيات اُخرى تصرّح بأسماء الله، ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ الرموز والإشارات لا تعني دائماً أن يبقى الموضوع أو المعنى سرّياً، بل قد تكون أحياناً علامة للإختصار، وهذا الأمر كان موجوداً سابقاً، وهو مشهور في عصرنا الراهن، بحيث أنّ أسماء العديد من المؤسسات والمنظمات الكبيرة، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف المقطّعة التي يرمز كلُّ منها إلى جزء من الاسم الأصيل.

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي، فتقول: (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد، وهو علم الله وقدرته، ومحتوى الوحي في الأصول والخطوط العريضة واحد أيضاً بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات، بالرغم من أنّ


1 ـ الميزان، للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي، المجد18، صفحة 8 ـ 9.

2 ـ يستفاد هذا التّفسير عن حديث للإمام الصادق(عليه السلام) . يراجع تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5822.

[462]

هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية للبشر(1).

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات الله الكمالية، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية: (العزيز الحكيم).

فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم. وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيماً متناسقاً مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الأمور والشؤون.

وتعبير «يوحى» دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدم (عليه السلام) حتى عصر النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الفعل المضارع يفيد الإستمرار.

قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم).

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألاّ يكون غريباً عن مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها، بل يقوم بتدبير أُمورها وحاجاتها عن طريق الوحي، وهذه هي الصفة الثّالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة لهُ (سبحانهُ وتعالى) في هذه الآيات، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده، وإنّما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده.

الآية التي بعدها تضيف: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن)(2) وذلك بسبب نزول الوحي من قبل الله، أو بسبب التُهم الباطلة التي كان المشركون والكفّار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.


1 ـ بالرغم من الكلام الكثير للمفسّرين حول المشار إليه في اسم الإشارة «كذلك» لكن يظهر أنّ المشار إليه هو نفس هذه الآيات النازلة على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لذا يكون مفهوم الآية: إنّ الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء السابقين، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه، وذلك للتعظيم والإحترام.

2 ـ «يتفطرن» من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

[463]

ويتّضح ممّا سلف أنّ للجملة معنيين:

الأوّل: أنّها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية(21) من سورة «الحشر» في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله).

إنّه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشى، فلو أنّه نزل على الجبال لتصدّعت، لأنّه كلام عظيم من خالق حكيم.

والويل لقلب الإنسان، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم، ويصر على عناده وتكبره.

التّفسير الثّاني: أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون الله، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلَّ وعلا.

التّفسير الأوّل يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي والتّفسير الثّاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (90،91) من سورة «مريم» حيثُ يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار ـ وقبح قولهم ـ باتخاذه ولداً(!!): (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً).

ومن الواضح أن ليس ثمّة تعارض بين التّفسيرين.

أمّا عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة، فقد ذكروا كلاماً وأقوالا متعدّدة في الموضوع تعرضنا لهافي نهاية حديثنا عن الآيتين المذكورتين من سورة مريم.

وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك، فيمكن أن نلاحظ أنّ مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور، بالرغم من عدم إدراكنا له، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه، ويخضعون له ويخشعون لكلامه.

[464]

أو أن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع، مثلما نقول مثلا: إنّ الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدّاً وكأنّما انطبقت معها السماء على الأرض.

بقية الآية، قوله تعالى: (والملائكة يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض).

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه، فهوـ وفقاً للتفسير الأوّل ـ أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته، يسبحون ويحمدون الله دائماً، يحمدونه بجميع الكمالات، وينزهونه عن جميع النواقص، وعندما ينحرف المؤمنون أحياناً، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله تعالى.

أمّا وفق التّفسير الثّاني، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عما ينسب إليه من شرك، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وعندماتستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين، فهي حتماً ـ ومن باب أولى ـ تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب اُخرى. وقد يكون الإطلاق في الآية لهذا السبب بالذات.

نقرأ نظيراً لهذه البشرى العظيمة في الآية (7) من سورة المؤمن في قوله تعالى:(الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك).

وأخيراً تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وتنصب حول الغفران والرحمة، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه، وبخصوص وظائف المؤمنين، حيث يقول تعالى: (ألا إنّ الله هو الغفور الرحيم).

وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من

[465]

الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين، بل أنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

أمّا عن مسألة الوحي فسيكون لناكلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله عندما نتحدّث عن الآيتين(51،52).

 

هل تستغفر الملائكة للجميع؟

قد يطرح السؤال الآتي حول قوله تعالى: (ويستغفرون لمن في الأرض)وهو: الآية تفيد استغفار الملائكة لمطلق أهل الأرض سواء المؤمن منهم أو الكافر، فهل يمكن ذلك؟

لقد أجابت الآية (7) من سورة المؤمن على هذا السؤال من خلال قوله تعالى: (يستغفرون للذين آمنوا).

وبناءً على هذا فإنَّ شرط الإستغفار هو الإيمان، إضافة إلى كونهم معصومين، وهم بذلك لا يطلبون المستحيل للذين يفتقدون إلى أرضية الغفران.

 

* * *

 

[466]

الآيات

وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل( 6 ) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ( 7 ) وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّـلِمُونَ مَا لَهُمْ مِّنْ وَلِىٍّ وَلاَنَصِير( 8 )

 

التّفسير

انطلاقة من «أم القرى»:

تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم).

حتى يحاسبهم في الوقت المناسب، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.

ثم تخاطب الآية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل) إنّ مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد.

[467]

وثمّة في كتاب الله آيات اُخرى تشير إلى هذا المعنى:

قوله تعالى: (لست عليهم بمصيطر)(1).

قوله تعالى: (ما أنت عليهم بجبار)(2).

قوله تعالى: (وما جعلناك عليهم حفيظاً)(3).

قوله تعالى: (ما على الرّسول إلاّ البلاغ)(4).

إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تكمن في حرية الإختيار، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّةً اُخرى، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له، إذ يقول تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أُمّ القرى ومن حوله) و «اُمّ القرى» هي مكّة المكرمة، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء: (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه).

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين: (فريق في الجنّة وفريق في السعير).

وقد يكون التعبير بـ «كذلك» إشارة إلى أنّهُ مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك، هذا القرآن العربي.

وعليه تكون «كذلك» إشارة إلى: (وإلى الذين من قبلك).

ويمكن أن تكون إشارة إلى مابعدها، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة


1 ـ الغاشية، الآية 22.

2 ـ سورةق، الآية 45.

3 ـ الأنعام، الآية 107.

4 ـ المائدة، الآية 99.

[468]

قرآناً عربياً يهدف إلى الإنذار.

صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى: (فريق في الجنّة وفريق في السعير) أنّ مسؤولية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي التبشير والإنذار، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة، لذا فإنّ الآية استندت إلى «الإنذار» مرّتين فقط، مع اختلاف بينهما، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس(1).

وقد يتساءل البعض هنا: إنّنا نستفيد من قوله تعالى: (لتنذر أم القرى ومن حولها) أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟

الجواب على هذا الإستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه (أُمّ القرى).

إنّ كلمة «أُمّ القرى» وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة، مؤلّفة من كلمتين هما:«أُمّ» وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء، ولهذا السبب تسمى الأُمّ بهذا الأسم لأنّها أساس وأصل الأبناء.

ثمّ كلمة «قرى» جمع «قرية» بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة، أو مجرّد قرية.

وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى.

والآن لنرَ لماذا سمّيت «مكّة» بأُمّ القرى؟


1 ـ ينبغي الإنتباه، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى، والثّاني في الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال: أنذره بذلك.

[469]

الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى).

ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّل منطقة ظهرت من تحت الماء، ثمّ بدأت اليابسة بالإتساع من جوار الكعبة، ويعرف ذلك بدحو الأرض.

وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض، لذا فمتى قيل (أُمّ القرى ومن حولها) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية(1).

مضافاً إلى ذلك، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجياً، ففي البداية أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإنذار المقرّبين إليه، كما ورد في قوله تعالى: (وانذر عشيرتك الأقربين)(2) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته، ويكون أكثر قدرة واستعداداً للإنتشار.

ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب، كما ورد في قوله تعالى: (قرآناً عربياً لقوم يعلمون)(3).

وكذلك في قوله تعالى: (وإنّه لذكر لك ولقومك).

وعندما ترسخت أعمدة الإسلام بين هـؤلاء القوم، وقوي عوده أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأوسع من ذلك، أن ينذر العالم والناس كافة، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)وفي آيات اُخرى.


1 ـ جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (92) وقد ذكرنا هناك توضيحاً أوسع، فليراجع.

2 ـ الشعراء، الآية 214.

3 ـ فصلت، الآية 3، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر.

[470]

وبسبب هذا التكليف قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.

ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.

أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها:

بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.

أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.

أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.

ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحاً في قوله تعالى: (قل إنّ الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)(1).

وبما أن قوله تعالى: (فريق في الجنّة وفريق في السعير) يقسّم الناس إلى فئتين، فإنّ الآية التي بعدها تضيف: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) على الهداية.