![]() |
![]() |
![]() |
المجال، فإنّه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، و إنّما كان يؤدي واجباً إلهياً، (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ)(1).
وتضيف الآية (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها).
على أية حال، فإنك لست مكلفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط (وما أنت عليهم بوكيل).
هذه القاعده بأنّ كلّ من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه، ومن اتبع سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه، تكررت عدّة مرات في آيات القرآن الكريم، كما أنّها تأكيد على حقيقة أنّ الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من كفرهم ،وكذلك رسوله، وإنّه لم يدع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك الأرباح، وإنّما ليجود على عباده.
قو له تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل) ـ التي وردت فيها كلمة (وكيل) بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله ـ وردت عدّة مرات في آيات القرآن، وبنفس التعبير أو ما يشابهه، والغرض من تكرارها هو بيان أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مسؤولا عن إيمان الناس، لأنّ أساس الإيمان لا يأتي عن طريق الإجبار، وإنّه مكلّف بإبلاغ الأمر الإلهي إلى الناس من دون أن يظهر أدنى تقصير أو عجز، فإمّا أن يستجيبوا لدعوته وإمّا أن يرفضوها.
ثمّ لتوضح أنّ الحياة والموت وكلّ شؤون الإنسان هي بيدالله سبحانه وتعالى، قالت الآية: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)(2).
وبهذا الشكل فإن (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة، أي (أشكال الموت)، لأن العلاقة بين الروح والجسد تصل إلى أدنى درجاتها أثناء
1 ـ «بالحق»: من الممكن أن تكون حالا لـ (كتاب) أو للفاعل في (أنزلناه) ، مع أنّ المعنى الأوّل أنسب، و لذا فإنّ مفهوم الآية يكون: (إنا أنزلنا عليك القرآن مترافقاً بالحق) .
2 ـ كلمة (توفى) تعني قبض الشيء بالتمام، كلمة (أنفس) تعني الأرواح. و كلمة (منام) لها معنى مصدري و تعني النوم.
النوم، وتقطع الكثير من العلاقات والوشائج بينهما.
وتضيف الآية (فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى) نعم (إنّ ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
من هذه الآية يمكن استنتاج عدة أُمور:
1 ـ إنّ الإنسان عبارة عن روح وجسد، والروح هي جوهر غير مادي، يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.
2 ـ عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح والجسد، ويذهب بالروح إلى عالم الأرواح، وعند النوم يخرج الباريء عزّوجلّ الروح والجسد، ولكن ليس بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقاً لهذا فإنّ الروح لها ثلاث حالات بالنسبة للجسد، وهي: إرتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وإرتباط ناقص (حالة النوم) وقطع الإرتباط بصورة كاملة (حالة الموت).
3 ـ النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت)، و (الموت) هو نموذج كامل (للنوم).
4 ـ النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح، خاصة عندما يرافق بالرؤيا الصادقة التي توضح المعنى أكثر.
5 ـ إنّ العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم، وأحياناً تقطع تماماً ممّا يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد، أي موته.
6 ـ إنّ الإنسان عندما ينام في كلّ ليلة يشعر وكأنّه وصل إلى أعتاب الموت، وهذا الشعور بحد ذاته درساً يمكن الاعتبار منه، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من غفلته.
7 ـ كلّ هذه الأُمور تجري بقدرة الباريء عزّوجلّ، وإن كان قد ورد في بعض الآيات ما يشير إلى أنّ ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح، فهذا لا يعني سوى أنّه ينفّذ أوامر الباريء عزّوجلّ.
وعلى أية حال، فإنّ المراد من قوله تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)هو إثبات دلائل قدرة الباريء عزّوجلّ، ومسألة الخلق، والمعاد، وضعف وعجز الإنسان مقابل إرادة الله عزّوجلّ.
وبعد ما أصبحت ـ حاكمية ـ (الله) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمراً مسلماً من خلال الآيات السابقة، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها(أم اتخذوا من دون الله شفعاء)(1).
وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)(2)، إذ أنّهم كانوا يعدونها تماثيل وهياكل للملائكة للأرواح المقدسة، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.
ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أوّلا: يشعر ويدرك ويفهم، وثانياً: قدير و مالك و حكيم، فإن تتمة الآية تجيبهم (قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون)(3).
إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، لأن كلّ ما عندهم هو من الله، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئاً لأنفسهم، فهم لا يمتكلون أدنى عقل أو شعور، فاتركوا هذه الأعذار، وعودوا إلى الذي يملك ويحكم كلّ هذا العالم، وإلى من إليه تنتهي كلّ الأمور.
1 ـ «أم»: هنا منقطعة وتعني (بل) و لو كانت متصلة، لكان يجب تقدير القسم الثّاني لها، و هذا خلاف الظاهر.
2 ـ الزمر، 3.
3 ـ عبارة (أولو كانوا لا يعملكون شيئاً) فيها محذوف، و التقدير: (أيشفعون لكم و لو كانوا لا يملكون شيئاً).
لذا فإنّ الله جلّ وعلا يضيف في الآية التالية (قل لله الشفاعة جميعاً) لأنّه (له ملك السماوات والأرض ثمّ إليه ترجعون).
وبهذا الشكل لم يبق لديهم شيء، لأنّ النظام المسيطر والحاكم على كلّ العالم يقول: لا شفاعة هناك ما لم يأذن الباريء عزّوجلّ بذلك (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)(1).
أو كما يقول بعض المفسّرين: إنّ حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء الله الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقاً لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه(2).
وبشأن إرتباط عبارة (ثم إليه ترجعون) بما قبلها، أظهر المفسّرون عدّة آراء مختلفة منها:
1 ـ هذه العبارة إشارة إلى أنّ شفاعة الباريء عزّوجلّ لا تقتصر على هذه الدنيا، وإنّما تتعداها إلى الشفاعة في الآخرة، ولذا يجب عدم اللجوء إلى غير الله لحل المشاكل ورفع المصائب كما كان يفعل المشركون.
2 ـ هذه العبارة هي دليل ثان على اختصاص الشفاعة بالله، لأنّ الدليل الأوّل اعتمد على (مالكية) الله، وهنا تمّ الاعتماد على (عودة جميع الأشياء إليه).
3ـ هذه الجملة هي بمثابة تهديد للمشركين، إذ تقول لهم: إنّكم سترجعون إلى الله، وستشاهدون نتيجة أفكاركم وأعمالكم السيئة والقبيحة.
كلّ هذه التفاسير مناسبة إلاّ أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أنسب.
* * *
1 ـ البقرة، 57.
2 ـ الميزان، المجلد 17، الصفحة 286.
ما هي حقيقة النوم؟ وما سبب ميل الإنسان إلى النوم؟
بهذا الشأن كتب العلماء أبحاثاً كثيرة:
فالبعض منهم قال: إنّه يأتي نتيجة انتقال جزء كبير من الدم الموجود في المخ إلى بقية أجزاء الجسم، ولذا فإنّ السبب هنا (فيزياوي).
والبعض الآخر يعتقد أنّ النشاط الإضافي للجسم يؤدي إلى تجمع مواد سامّة معينة في الجسم، وهذه الحالة تؤثر على الأنظمة العصبية وتدفع الإنسان إلى النوم، وتستمر هذه الحالة عند الإنسان حتى تتمّ تجزئة تلك السموم وامتصاصها من قبل الجسد، وبهذا يكون السبب هنا (كيمياوياً).
مجموعة اُخرى تقول: إن سبب النوم إنّما يعود لأسباب عصبية لأنّ هناك جهازاً عصبياً نشطاً في داخل مخ الإنسان، وهذا الجهاز هو مصدر الحركة المستمرة لبقية أعضاء الجسم، وهو يتوقف عن العمل إثر التعب الشديد الذي يصيبه فيحصل النوم.
النظريات المذكورة أعلاه عجزت عن إعطاء جواب مقنع فيما يخص مسألة النوم، رغم أنّنا لا يمكن أن ننكر تأثير هذه الأسباب ولو بمقدار ضئيل. نحن نعتقد أنّ التفكير المادي لعلماء اليوم هو السبب الرئيسي الذي يكمن وراء عجزهم عن إعطاء تفسير واضح لمسألة النوم، إذا أنّهم يريدون تفسير هذه المسألة من دون قبول أصالة واستقلالية الروح، فالنوم قبل أن يكون ظاهرة جسدية هو ظاهرة روحية، ومن دون معرفة الروح بصورة صحيحة فإنّ تفسير النوم حالة متعذرة.
القرآن المجيد وضّح من خلال آياته المذكورة أعلاه أدقّ التفاسير لمسألة النوم، إذ يقول: إن النوم هو نوع من أنواع (قبض الروح) وانفصال الروح من الجسد، ولكن هذا الانفصال ليس انفصالا كاملا.
وبهذا الشكل فعندما يخفت شعاع الروح في الجسد بأمر من الله، ولا يبقى غير شعاع خافت اللون يشع في ذلك الجسد، يتعطل جهاز الإدراك والشعور عن العمل، و يتوقف الحسّ والحركة عند الإنسان، عدا بعض الأجزاء التي تبقى تواصل نشاطها لحفظ واستمرار الحياة عند الإنسان، كضربات القلب و دوران الدم ونشاطات الجهاز التنفسي والغذائي.
وقد ورد في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من أحد ينام إلاّ عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، فهو قوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)»(1).
وثمّة مسألة مهمّة اُخرى هي مسألة (الرؤيا) لأنّ الكثيرين يرون في عالم الرؤيا أحلاماً حدثت و قائعها أو ستحدث فيما بعد في الواقع، مع اختلافات جزئية أو بدون أيّ اختلاف.
التفاسير المادية عاجزة عن توضيح مثل هذه الرؤيا والأحلام، في حين أن التفاسير الروحية تستطيع بسهولة توضيح هذا الأمر، لأنّه عندما تنفصل روح الإنسان عن جسده وترتبط بعالم الأرواح، تدرك حقائق كثيرة لها علاقة بالماضي والمستقبل، وهذه الحالة هي التي تشكل أساس الرؤيا الصادقة، وللتوضيح أكثر يراجع التفسير الأمثل) في نهاية الآية (4) من سورة يوسف، إذ أنّ هناك شرحاً مفصلا بهذا الخصوص.
يتضح جيداً من خلال روايات المفسّرين التي وردت في نهاية الآيات
1 ـ مجمع البيان ذيل آية البحث و تفسير الصافي. كلمة (روح) في هذه الرواية تعني (الروح الحيوانية) و عمل أجهزة الجسم الرئيسية، و كلمة (نفس) تعني روح الإنسان.
المذكورة أعلاه، أنّ النوم يعني في الإسلام حركة الروح نحو عالم الأرواح، فيما تعني اليقظة عودة الروح إلى الجسد لبدء حياة جديدة.
ونقرأ في حديث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ضمن وصاياه لأصحابه:
«لا ينام المسلم وهو جنب، لا ينام إلاّ على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإنّ روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها، ويبارك عليها، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته، وإن لم يكن أجله قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته، فيردونها في جسده»(1).
وورد حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) جاء فيه: «إذا قمت بالليل من منامك فقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي لأحمده وأعبده»(2).
والأحاديث في هذا الشأن كثيرة.
* * *
1 ـ خصال الصدوق، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
2 ـ أصول الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ( 45 ) قُلِ الَّلهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَ الاَْرْضِ عَـلِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهَـدَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 46 ) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( 47 ) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ( 48 )
مرّة اُخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك، إذ عكست الآية الأولى إحدى الصور القبيحة والمشوهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم مع التوحيد، قال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة
وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)(1).
فأحياناً يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل لا يسجد ولا يركع أمام عظمة الله جلّ وعلا خالق الكون، إلاّ أنّه يسجد و يركع تعظيماً لأصنام صنعها من الحجارة والخشب أو لإنسان أو كائنات مثله.
ونظير هذا المعنى ورد في الآية (46) من سورة الإسراء، قال تعالى: (وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً).
وفي سورة نوح الآية (7) عندما شكى نبيّ الله نوح(عليه السلام) ممن يفكر بمثل هذا التفكير المنحرف إلى الله سبحانه وتعالى (وإنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذاتهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).
نعم، هذا هو حال المتعصبين اللجوجين والجهلة المغرورين.
من هذه الآية يتضح بصورة جيدة أنّ مصدر شقاء هذه المجموعة أمران: الأوّل: إنكارهم لأساس التوحيد، والثّاني: عدم إيمانهم بالآخرة.
وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم الله ينجذبون إليه بدرجة أنّهم على استعداد لبذل كلّ ما لديهم في سبيله، فاسم حبيبهم يحلّي أفواههم ويعطّر أنفاسهم ويضيء قلوبهم، كما أن سماع أي شيء يرتبط ويتعلق بالله يبعث السرور والبهجة في قلوبهم.
نعود إلى المشركين مرّة اُخرى لنقول: إن الصفة القبيحة التي ذكرناها في بداية البحث بشأن المشركين، لا تخصّ مشركي عصر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما في عصر وزمان هناك منحرفون ذوو قلوب مظلمة يفرحون ويستبشرون فور سماعهم أسماء أعداء الله وأصحاب المذاهب الإلحادية، وسماعهم نبأ انتصار الظلم والطغيان، أمّا سماع أسماء الطيبين والطاهرين ومناهجهم وانتصاراتهم فإنّه
1 ـ «اشمأزت»: من مادة (اشمئزاز) و تعني الإنقياض و النفور عن الشيء، (وحده) منصوب حال أو مفعول مطلق.
يسبب لهم آلاماً مبرحة، بعض الرّوايات فسّرت الآية على أنّها تعني أُولئك الذين ينزعجون من سماع فضائل أهل بيت النبوّة الأطهار(عليهم السلام) أو من يتبع نهجهم(1).
وعندما يصل الأمر إلى درجة أنّ مجموعة من اللجوجين والجهلة
المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم الله، يوحي الباريء عزّوجلّ إلى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم ويتوجه الى الباري عزوجل و يشتكي إليه من هؤلاء بلحن مليء بالعواطف الرفيعة والعشق الالهى لكي يبعث على تسكين قلبه المليء بالغم من جهة، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند اُولئك من جهة اُخرى: (قل الّلهم فاطر السمموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)(2).
نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة الذي تنتهي فيه الاختلافات وتظهر فيه كلّ الحقائق المخفية، لانك خالق كلّ شيء في الوجود وعالم بكل الأسرار فتنتهي الاختلافات بحكمك العادل، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم، ويفكرون في إصلاح ما مضى، ولكن ما الفائدة؟
الآية التالية تقول: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة) ولكن هذا الامر غير ممكن.
«الظلم»: هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضاً وبقية المظالم.
ثم تضيف الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).
وسيرون العذاب بأعينهم، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم، لأنّهم كانوا مغرورين بلطف الله، في حين كانوا في غفلة عن غضبه وقهره. وأحياناً كانوا يقومون بأعمال يتصورونها حسنة، في حين أنّها كانت من الذنوب الكبيرة.
على أيّة حال، تظهر لهم في ذلك اليوم أُمور لم يكن يتصور أحد ظهورها.
1 ـ صول الكافي، وروضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 490.
2 ـ «فاطر السموات» منصوب بعنوان منادى مضاف.
ذلك الوعيد يأتي في مقابل الوعود الطيبة التي قطعت للمؤمنين، قال تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين).(1)
وقد نقل أنّ أحد المسلمين جزع عند الموت، فقيل له: أتجزع، فقال: أخذتني هذه الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)(2).
الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة، إذ تقول: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون).
في الحقيقة هناك أربعة مواضيع تتعلق بالمشركين والظالمين طرحت في هذه الآيات:
أوّلا: إنّ هول ورهبة العذاب الإلهي في ذلك اليوم ستكون من الشدّة بحيث تجعلهم يتمنون لو أنّ لديهم في تلك الساعة ضعف الثروات والأموال التي كانوا يمتلكونها في عالم الدنيا ليفتدوا بها من سوء العذاب، ولكن من المستحيل أن يحدث مثل هذا الأمر في يوم القيامة.
ثانياً: تظهر أمامهم أنواع من العذاب الإلهي الذي لم يكن أحد يتوقعه ولا يتصوره.
ثالثاً: حضور أعمالهم السيئة أمامهم وتجسيدها لهم.
رابعاً: مشاهدتهم حقيقة المعاد الذي لم يأخذوه مأخذ الجد، ومن ثمّ انغلاق كلّ أبواب النجاة أمامهم.
الآية التي تقول: (بدا لهم سيئات ما كسبوا) والتي وردت آنفاً، هي دليل آخر على مسألة تجسيد الأعمال.
* * *
1 ـ الم سجدة، 17.
2 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ذيل آية البحث.
فَإِذَا مَسَّ الاِْنسَـنَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيتُهُ عَلَى عَلْم بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَ لَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 49 )قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 50 )فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصيِبُهُمْ سَيِّئَاتِ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ( 51 ) أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـتِ لِّقَوْمِ يُؤْمِنُونَ( 52 )
الآيات هنا تتحدث مرّة اُخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة اُخرى من صورهم القبيحة.
في البداية يقول (فإذا مس الإنسان ضرّ دعانا) فذلك الإنسان الذي كان ـ وفق ما جاء الآيات السابقة ـ يشمئز من ذكر اسم الله. نعم، هو نفسه يلجأ إلى ظلّ
الله عندما يصيبه الضرّ ويتعرض للشدائد. لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضّل عليه الباريء عزّوجلّ ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكراً لهذه النعم، وزاعماً بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر (ثم إذا خولناه نعمة منّا قال إنّما أوتيته على علم)(1).
نظير هذا الكلام نقله القرآن في الآية (78) من سورة القصص عن لسان «قارون» عندما نصحه علماء بني إسرائيل بأن ينفق ممّا منّ الله به عليه في سبيل الله، إذ قال:(إنّما أوتيته على علم عندي).
إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارفة التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية، فهل أنّ هؤلاء اكتسبوا العلم الذي كان يدرّ عليهم الأموال الطائلة من ذاتهم؟ أم أنّه كان في ذاتهم منذ الأزل؟
بعض المفسّرين ذكروا احتمالا آخر لتفسير هذه العبارة، وقالوا: إنّ النعم التي منّ بها الباريء عزّوجلّ علينا إنّما منّ بها علينا لعلمه بلياقتنا واستحقاقنا لها.
ومع أنّ هذا الاحتمال وارد بشأن الآية مورد بحثنا، لكنّه غير وارد بشأن الآية الآنفة التي تحدثت عن قارون، خاصة مع وجود كلمة (عندي) وهذه أحد القرائن لترجيح التّفسير الأوّل للآية التي هي مورد البحث.
ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة، قائلا: (بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون).
فالهدف من إبتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثمّ إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.
1 ـ «خول»: من مادة (تخويل) و تعني الإعطاء على نحو الهبة، و قد شرحت بالتفصيل في ذيل الآية الثامنة من هذه السورة (الزمر)، ضمير (أوتيته) رغم أنّه يعود على (نعمة) فقد جاء بصيغة المذكر، لأنّ المقصود منه (شيء من النعمة) أو (قسم من النعمة).
هل ييأس الإنسان عند المصيبة ويغترّ ويطغى عند النعمة؟
هل أنّه يزداد تفكيراً بالله عزّوجلّ عندما يحاط بهذه النعم، أم أنّه يغرق في ملذات الدنيا؟
هل ينسى ذاته، أو أنّه يلتفت إلى نقاط ضعفه ويعود إلى ذكر الله أكثر؟
ممّا يؤسف له أنّ أكثر الناس مبتلون بالنسيان، وغير مطلعين على الحقائق التي تكررت مرات عديدة في آيات القرآن المجيد، وهي أنّ العزيز الحكيم يجعل الإنسان أحياناً محاطاً بالمشاكل والإبتلاءات الشديدة، وأحياناً يغدق عليه النعم، وذلك ليمتحنه ويرفع من شأنه وليعرفه بأن كلّ شيء في هذه الحياة هو من ا لله سبحانه وتعالى.
ومن الطبيعي أنّ الشدائد تهيء الأرضيه لتفتتح الفطرة، كما أنّ النعم مقدمة للمعرفة (وفي هذا الخصوص أوردنا بحثاً آخر في تّفسيرنا الأمثل في نهاية الآية (65) من سورة العنكبوت).
وممّا يدعوا إلى الإنتباه تأكيد الآية على كلمة (إنسان) التي عرفته بأنّه كثير النسيان والغرور، وهذه إشارة إلى الذين لم يتربوا وفق ما جاء في الشرائع والسنن الإلهية، والذين لم يكن لهم أيّ مربّ ومرشد.. الذين أطلقوا لشهواتهم العنان واستسلموا لأهوائهم، نعم فهؤلاء هم الذين يلجؤون إلى الباريء عزّوجلّ كلّما مسّهم الضرّ وكلمّا ابتلوا بالشدائد والمحن، ولكن عندما تهدأ أعاصير الحوادث ويشملهم لطف الباريء وعنايته، ينسونه وكأنّهم لم يدعوه إلى ضرّ مسّهم. ولمزيد من الإطلاع راجع موضوع: الإنسان في القرآن الكريم. في نهاية الآية (12) من سورة يونس.
وتضيف الآية التالية (قد قالها الذين من قبلهم فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون)(1).
1 ـ ضمير (قد قالها) راجع إلى القول السابق باعتبار أنّه مقالة أو كلمة، والمراد منها عبارة (إنّما أوتيته على علم) .
نعم، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنّهم حصلوا على الأموال بسبب لياقتهم وغفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ بهذه النعم عليهم وأنّه المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها، وأنّهم كانوا ينظرون فقط للأسباب الظاهرية، لكن التاريخ بيّن أنّه عندما خسف الباريء عزّوجلّ الأرض بأُولئك لم يسرع أحد إلى مساعدتهم، ولم تنفعهم أموالهم، كما ورد في سورة القصص الآية (81) (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله).
وليس قارون ـ وحده ـ ابتلي بهذا العذاب، وإنّما أقوام عاد وثمود وسبأ وأمثالهم ابتلوا ـ أيضاًـ وكان لهم نفس المصير.
ثم يقول: (فأصابهم سيئات ما كسبوا).
فكل واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك، كابتلائهم بالطوفان والسيل والزلزال والصيحة السماوية.
ويضيف: إنّ هذا المصير لا ينحصر باُولئك الاقوام وحسب بل إنّ مشركي مكّة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة، ولا يستطيع أحد منهم أن يفرّ من قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعاً (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين).
وسينال هذا العذاب والإبتلاء كلّ الطغاة والمغرورين والمشركين، وفي كلّ العصور والقرون.
ومن جهة اُخرى ورد احتمالان في هل أنّ المراد من عبارة (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) هو العذاب الدنيوي أم العذاب الاُخروي، ولكن بقرينة (فأصابهم سيئات ما كسبوا) فإنّ التّفسير الأوّل أنسب.
![]() |
![]() |
![]() |