![]() |
![]() |
![]() |
«غرف» جمع «غرفة»من مادة «غرف» وعلى وزن حرف ـ بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة» ثمّ اطلقت على الطبقات العليا من المنازل.
وكشفت الآية أيضاً عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها (تجري من تحتها الأنهار) نعم، هذا وعد الله (وعد الله لا يخلف الله الميعاد)(1).
* * *
الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع و آراء بقية المذاهب، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الأُخرين أقوى من حجّتهم الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.
إلاّ أنّ الإسلام ـ شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع أراء الأُخرين، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط،
1 ـ يقول «الزمخشري» في الكشاف: (وعد الله) منصوب لكونه مفعولا مطلقاً للتأكيد، ولأنّ عبارة (لهم غرف) تعني (وعدهم الله غرفاً) .
ولا يتقبلون كلّ وسواس.
الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.
ويوبّخ ـ بشدّةـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق، كما ورد في قول نوح(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شكى قومه للباريء عزّوجلّ: (و إنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً)(1).
واساساً فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقاً قوياً لا يرهب أقوال الأُخرين، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.
هذه الآية وضعت ـ في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدى صدقه، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الإستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.
من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة، منها:
1 ـ لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.
2 ـ لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.
3 ـ كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من
1 ـ سورة نوح، الآية 7.
السي، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟
الجواب على السؤال الأوّل واضح، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه مادام الأمر لم يثبت لأحد، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأُخرى لقبول الدين الصحيح، لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.
أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّاً بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمراً ممنوعاً، بل يعدّ واجباً، والعلماء الذين حرّموا ذلك لا يقصدون هذا المعنى.
ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.
وأمّا بشأن السؤال الثّالث، فيجب الإلتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما، ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.
وعلى سبيل المثال، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السىء غير المتناسق، كما أنّ هناك أشخاصاً كثيرين ليسوا بشعراء، إلاّ أنّهم يتمكنون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك
أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين، وانتخاب الجيد منهم.
وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا: «يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)»(1).
وورد حديث آخر عن الأمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية المذكورة أعلاه، قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه ولا ينقص»(2).
وبالطبع، فإنّ تفسير (فيتبعون أحسنه) هو المقصود في هذا الحديث، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول، وينقله ذاته للآخرين.
ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام): (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(3).
ذكر المفسّرون أسباباً لنزول هذه الآيات، ومنها، أنّ الآية: (و الذين اجتنبوا
1 ـ 1 الكافي، المحلد الأوّل، كتاب العقل الحديث (12).
2 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 486، الحديث 34.
3 ـ نهج البلاغة، قصار الكلمات، الخطبة (80)
الطاغوت...) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانو يقولون لا إله إلا الله، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبوذر الغفاري وزيد بن عمرو)(1).
وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(2).
والبعض الآخر قال: إنّ الآية: (أفمن حق عليه كلمة العذاب...) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(3).
وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسباباً للنزول.
* * *
1 ـ تفسير القرطبي; ومحمع البيان ذيل آيات البحث.
2 ـ الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان، المجلد17، صفحة 267.
3 ـ القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهََ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءِ فَسَلَكَهُ يَنَـبِيعَ فِى الاْرَضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَنُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَمَـاً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَـب( 21 ) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهَُ صَدْرَهُ لِلاِْسْلَـمِ فَهُوَ عَلَى نُور مِّنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَـسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهَِ أُوْلَـئِكَ فِى ظَلَـل مُّبِين( 22 )
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اُخرى دلائل التوحيد والمعاد، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية الباريء عزّوجلّ في نظام عالم الكون، وذلك عندما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)باعتباره القدوة لجميع المؤمنين (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع
في الأرض)(1).
قطرات المطر التي تبعث الحياة حينماتنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اُخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرّة اُخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون و قنوت و آبار.
كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفاً.
«ينابيع» هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الإمتصاص، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماماً، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأُخرى غير نفوذية، وبدرجات معينة، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة، تبيّن قدرة الباريء عزّوجلّ.
والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحياناً ذات طبقات متعددة، بعضها نفوذي والبعض الأخر غير نفوذي، ومرتبة الواحدة فوق الأُخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).
وتضيف الآية فيما بعد: (ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه) ذات الأشكال المختلفة.
1 ـ «ينابع» على ما هو المشهور يكون منصوباً بنزع الخافض، و هو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني، ج23، ص256; روح البيان، ج8، ص93.
أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة، ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.
وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق، فيما تطلق كلمة (شجر)على الأشجار ذات السيقان القوية، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الإستفادة منها للغذاء، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبية التي يؤخذ منها الدواء، وأحياناً نرى في غصن واحد، ولربّما فيوردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة، تسبح وتوحد الباريء عزّوجلّ بلسان صامت.
ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اُخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول: (ثم يهيج فتراه مصفراً)(1) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى: (ثم يجعله حطاماً).
نعم، إن في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).
هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه الباريء عزّوجلّ لعالم الوجود، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثمّ بمسألة البعث و عودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات، إلاّ أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضاً مع وجود بعض الإختلاف في مدّة الأعمار، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط و الشباب، ومن ثمّ الذبول والكهولة، وفي النهاية الموت.
و كتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة
1 ـ «يهيج» من مادة (هيجان) و لها معنيان في اللغة، الأوّل هو جاف النبات و اصفراره، و الثّاني هو التحرك و الإنتفاض، و من الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنه يستعد للانفصال و الأنتشار و التحرك و الهيجان.
بين المؤمنين و الكافرين، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض، وكما أنّ الأرض التي لها الإستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله، هي ـ فقط ـ التي تستفيد من آيات الله، وذلك طبقاً لقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه)(1) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!!
أمّا القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى، ولا الآيات القرآنية المؤثرة، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ.
نعم (أولئك في ظلال مبين).
«القاسية» مشتقّة من (قسوة)وتعني الخشونة والصلابة والتحجر، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة، و يقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية، ولا تلين ولا تستسلم لها، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية).
على أية حال، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح، لأنّ الرحابة والإتساع كناية عن الإستعداد للإستقبال، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناساً كثيرين، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر.
ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير هذه الآية: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)
1 ـ هذه الآية تتضمّن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليهاو عند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح».
ثم قلنا: يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجا في عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزوله»(1).
أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) نزلت في حقّ أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب(عليه السلام). وقد ورد في تفاسير اُخرى أنّ عبارة: (فويل للقاسية قلوبهم) نزلت بحقّ (أبي لهب وأبنائه)(2).
ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة.
إنّ ما يلفت النظر في عبارة: (فهو على نور من ربه) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابه مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه.
* * *
الناس ليسوا على وتبرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأُمور، فالبعض يتمكّن من إدارك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة، وهذا يعني أنّ تذكيراً واحداً يكفي لإيقاظهم فوراً، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة و أقوى العبارات، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن.
1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5691 (تفسير سوة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.
2 ـ تفسير الصافي ذيل آيات البحث.
وكم هي جميلة التعابير القرآنية في هذا المجال، وذلك عندما تصف البعض بأنّهم ذوو صدور منشرحة وأرواح واسعة، وتصف البعض الآخر بأنّهم ذوو صدور ضيفة، كما ورد في الآية (125) من سورة الأنعام: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصعد في السماء).
هذا الموضوع يتّضح بصورة كاملة في حالة دراسة أوضاع وأحوال الأشخاص، فالبعض لهم صدور منشرحة رحبة تتسع لإستيعاب أيّ مقدار من الحقائق، في حين أنّ البعض الآخر على العكس، إذ أنّ صدورهم ضيقة وأفكارهم محدودة لا يمكنها أحياناً استيعاب أيّ حقيقة، وكأن عقولهم محاطة بجدران فولاذية لا يمكن اختراقها. وبالطبع لكلّ واحد منهما أسبابه.
فالدراسة الدائمة والمستمرة والإتصال بالعلماء والحكماء الصالحين، وبناء الذات وتهذيب النفس، واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام، وذكر الله دائماً، كلها أسباب وعوامل لإنشراح الصدر، وعلى العكس فإنّ الجهل والذنب والعناد والجدل والرياء، ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد الدنيا والشهوات، كلّها تؤدّي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب.
فعندما يقول القرآن الكريم: (فمن يرد الله يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً). فهذه الإرادة وعدم الارادة ليست اعتباطية وبدون دليل. بل هي نابعة من اعماقنا وذواتنا في البداية.
وقد ورد حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثره المال، ولا تدع ذكري على كلّ حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب »(1).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، جاء فيه: «ما جفت الدموع إلاّ
1 ـ بحار الانوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 23.
لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»(1).
كما ورد في حديث ثالث أنّ من جملة كلام الله سبحانه وتعالى مع موسى (عليه السلام)«يا موسى لا تطول في الدنيا أملك، فيقسو قلبك، والقاسي القلب مني بعيد»(2).
وأخيراً، ورد حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه: «لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك، فلمّة الملك الرقة والفهم، ولمّة الشيطان السهو والقسوة»(3).
على أية حال، فإن من يريد انشراح صدره وإزالة القساوة من قلبه، عليه أن يتوجه نحو الباريء عزّوجلّ كي يبعث الأنوار الإلهية في قلبه كما وعد بذلك الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وعليه أن يصقل مرآة قلبه من صدأ الذنوب، ويطهّر روحه من أوساخ هوى النفس والوساوس الشيطانية، استعداداً لإستقبال المعشوق، وأن يسكب الدموع خوفاً من الله وحباً له، فإنّ في ذلك تأثيراً عجيباً لا نظير له على رقّة ولين القلب ورحابة الروح، وفي المقابل فان جمود العين هو إحدى علامات القلب المتحجر.
* * *
1 ـ بحار الأنوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 24.
2 ـ الكافي، المجلد الثّاني، باب القسوة الحديث (1).
3 ـ نفس المصدر السابق الحديث (3).
اللهَُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـباً مُتَشَـبِهاً مَّثَانِى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهَِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَآءُ وَ مَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد( 23 ) أَفَمَنْ يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَ قِيلَ لِلظَّـلِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( 24 ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( 26 )
نقل بعض المفسّرين عن (عبد الله بن مسعود) أنّ جمعاً من الصحابة ملّوا وتضجّروا، فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حدّثنا حديثاً يزيل السأم من نفوسنا والملل من قلوبنا، فنزلت أول آية من الآيات المذكورة أعلاه معرّفة القرآن بـ (أحسن الحديث)(1).
1 ـ سبب النّزول ورد باختلاف يسير في تفسير (الكشاف) المجلد الرابع ص 123 و في تفسير (القرطبي) و (الآلوبسي) و (أبو الفتوح الرازي) و غيرها، و ذلك في ذيل آيات البحث.
الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبل الحقّ.
الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرق إلى هذا الأمر، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوّة، إذ تقول الفقرة الأُولى من الآية: (الله نزّل أحسن الحديث).
ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمّة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له:
المقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضادّ، وكلّ آية فيه أفضل من الأُخرى والمتماثل من حيث اللطف والجما ل والعمق في البيان.
وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى بصياغته فإنّها لن تخلو من الاخطاء والإختلافات والتناقضات، خصوصاً عندما يتسع مجالها وتأخذ أبعاداً أوسع، إذ تلاحظ أنّ بعضها في قمّة البلاغة، والبعض الآخر عادي وطبيعي، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعر هي خير شاهد على هذا الموضوع.
أمّا كلام الله المجيد فليس كذلك، إذ نرى فيه انسجاماً خارقاً، وتناسقاً لا نظير له في المفاهيم والفصاحة والبلاغة، وهذا بحدّ ذاته يجعل آيات القرآن تحكم وتشهد بأنّه ليس من كلام البشر.
وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان، وإنّما على العكس من ذلك، إذ يتشوق لتلاوته أكثر، وهذه إحدى أُسس الفصاحة، إذ يعمد الإنسان أحياناً إلى التكرار وبصور مختلفة وأساليب متنوعة، وذلك إذا أراد التأكيد على أمر ما وجلب الإنتباه إليه والتأثّر به، كي لا يملّ السامع أو يضجر منه.
إضافة إلى أنّ مواضيع القرآن المكررة تفسّر إحداها الأُخرى، وتحل الكثير من ألغازه عن هذا الطريق.
بعضهم اعتبرها إشارة إلى تكرار تلاوة القرآن وبقائه غضاً طرياً من جراء تكرار تلاوته.
والبعض الآخر اعتبرها إشارة إلى تكرار نزول القرآن، فمرّة نزل دفعة واحدة على صدر الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك في ليلة القدر، ومرّة اُخرى بصورة تدريجية استمرت لفترة (23) عاماً.
ومن المحتمل أن يكون المراد من التكرار هو ملاءمة القرآن لكلّ زمان، وانكشاف بعض الأُمور الغيبية فيه بمرور السنوات.
والتّفسير الأوّل أنسب من بقية التفاسير، رغم عدم وجود أيّ تعارض بين الجميع، بل من الممكن أن تكون جميعها صحيحة(1).
وهذه الخاصية للقرآن فهي مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).
1 ـ قال الزمخشري في الكشاف: إن (مثاني) يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مصلّى) و تعني المكرّر، و يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مبنى) من التثنية بمعنى التكرار، الكشاف، المجلد الرابع، الصفحة 123.
إنّه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئاً من الخوف والرهبة، الخوف الذي يكون أساساً للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسؤولياته المختلفة. ثمّ تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات الله وتتبعها السكينة والإستقرار.
هذه الحالة التدريجية التي تبيّن مراحل (السلوك إلى الله) المختلفة، يمكن إدراكها بسهولة، فالقلوب تقشعر فور ما تسمع آيات التهديد والتحذير النازلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ تهدأ فور ما تسمع آيات الرحمة.
التفكير بذات الله ومسألة أبديته وأزليته وعدم محدوديته يوجد عند الإنسان حالة من الرهبة في كيفية معرفة الله، إلاّ أنّ دراسة آثار ودلائل ذاته المقدسة في الآفاق والأنفس تمنح الإنسان نوعاً من الإرتياح والهدوء(1).
والتأريخ الإسلامي مليء بالشواهد على التأثير العجيب للقرآن في قلوب المؤمنين، وحتى غير المؤمنين من أصحاب القلوب المستعدة لتقبل الإيمان، فالجاذبية أو النفوذ الخارق للقرآن دليل واضح على أنّ القرآن كتاب نزل من السماء بواسطة الوحي.
وقد ورد حديث عن (أسماء)، جاء فيه (كان أصحاب النّبي حقاً إذا قرىء عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم)(2).
أمير المؤمنين (عليه السلام) وصف هذه الحقيقة بأفضل وجه في الخطبة الخاصة بالمتقين، إذ قال: «أمّا الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا،
1 ـ (تقشعر) من مادة (قشعريرة) و قد ذكر اللغويون والمفسّرون معاني مختلفة و متقاربة بعض الشيء، فالبعض قال: إنّها تعني انكماش جلد البدن (حالة تصيب الإنسان أثناء خوفه) و البعض قال: إنّها الرجفة التي تصيب الإنسان في حالة الخوف، و البعض الآخر قال: إنّها تعني وقوف شعر البدن، و في الحقيقة فإنّ كلّ حالة من هذه الحالات ملازمة للاُخرى.
2 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5693، عن التأثير العميق و الخارق لآيات القرآن، أوردنا روايات عديدة في ذيل الآية 92 من سورة آل عمران.
يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم».
وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء).
![]() |
![]() |
![]() |