تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي انتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الربّاني لهم، فتتحدث عن النّبي الكليم(عليه السلام): (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب).

إنّ هداية الله لموسى تنطوي على معاني واسعة، إذ تشمل مقام النبوة والوحي، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز لتي وقعت على يديه (عليه السلام) أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.

إن استخدام كلمة «ميراث» بالنسبة الى التوراة يعود إلى أنّ بني إسرائيل توارثوه جيلا بعد جيل، و كان بإمكانهم الإستفادة منه بدون مشقة; تماماً مثل الميراث الذي يصل إلى الإنسان بدون عناء وتعب، ولكنّهم فرّطوا بهذا الميراث الإلهي الكبير.

الآية التي بعدها تضيف: (هدى وذكرى لأولي الألباب)(1).

الفرق بين «الهداية» و «الذكرى» أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته، أما التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بأُمور سمعها مسبقاً وآمن بها لكنّه نسيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان، وترافقه في أشواط حياته تبث من نورها وهداها عليه .

ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم «أولو الألباب» وأصحاب العقل، وليس الجهلة والمعاندون المتعصبون.

الآية الاخيرة ـ من المقطع الذي بين أيديناـ تنطوي على وصايا وتعليمات


1 ـ يمكن أن تكون «هدى وذكرى» مفعولا لأجله أو مصدراً بمعنى الحال، أي (هادياً ومذكراً لأولي الألباب) لكن البعض احتمل أن تكون بدلا أو خيراً لمبتدأ محذوف، إلاّ أن ذلك غير مناسب كما يبدو.

[287]

مهمّة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم).

يقول تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق).

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحياناً أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضاً أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

إنّ سر انتصارك في جميع الأُمور يقوم على أساس الصبر والإستقامة.

ثم اعلم أنّ وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه، وإيمانك ـ وإيمانهم ـ بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئناً ومستقيماً في عملك، فتهون الصعاب عليك وعلى المؤمنين.

لقد أمر الله تعالى رسوله مرّات عديدة بالصبر، والأمر بالصبر جاء مطلقاً في بعض الموارد، كما في الآية التي بصددها، وجاء مقيداً في موارد اُخرى ويختص بأمر معين، كما في الآيتين (39ـ40) من سورة «ق»: (فاصبر على ما يقولون). وكذلك يخاطبه تعالى في الآية (28) من سورة الكهف بقوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).

إنّ جميع انتصارات الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والإستقامة واليوم لابدّ أن نسير على خطى رسول الله ونصبر كما صبر الرّسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الفقرة الأُخرى من التعليمات الربانية تقول: (واستغفر لذنبك).

واضح أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم لم يرتكب ذنباً ولا معصية، لكنّا قد أشرنا

[288]

في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم، والتي تشمل في خطابها الرّسول الاكرم وسائر الأنبياء، إنّماتشمل ما نستطيع تسميته بـ «الذنوب النسبية» لأنّ من الأعمال ما هو عبادة وحسنة بالنسبة للناس العاديين، بينما هي ذنب للرسل و الأنبياء لأنّ: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

فالغفلة ـ مثلا ـ لا تليق بمقامهم، ولو للحظة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة لترك الأولى، إذ أن منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تتوجب أن يحذروا هذه الأُمور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.

وما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود بالذنوب هي ذنوب المجتمع، أو ذنوب الآخرين التي ارتكبوها بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أنّ الإستغفار تعبدي فهو بعيد.

الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول: (وسبّح بحمد ربك بالعشي والإبكار).

«العشي» فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس، أما «الإبكار» فهو ما بين الطلوعين.

ويمكن أن تطلق لفظتا (العشي والإبكار) على الوقت المعيّن بالعصر والصباح، حيث يكون الإنسان مُهيأً للحمد وتسبيح خالقه تبارك وتعالى بسبب عدم شروعه بعد بعمله اليومي، أو أنّه قد انتهى منه.

وقد اعتبر البعض أنّ هذا الحمد والتسبيح إشارة إلى صلاة الصبح والعصر، أو الصلوات اليومية الخمس، في حين أنّ ظاهر الآية ينطوي على مفهوم أوسع من ذلك الصلوات هي إحدى مصاديقها.

في كلّ الأحوال تعتبر التعليمات الثلاث الآنفة الذكر شاملة بناء الإنسان وإعداده للرقي في ظل اللطف والرعاية الإلهية، وهي إلى ذلك زاده في سيره للوصول نحو الأهداف الكبيرة.

فهناك أولا ـ وقبل كلّ شيء ـ التحمّل والصبر على الشدائد

[289]

والصعوبات، ثّم تطهير النفس من آثار الذنوب. وأخيراً تكليل كلّ ذلك بذكر الله، حيث تسبيحه وحمده يعني تنزيهه من كلّ عيب ونقص، وحمده فوق كلّ حسن وكمال.

إنّ الحمد والتسبيح الذي يكون لله تعالى يؤثر في قلب الإنسان ويطهره من جميع العيوب، ومن سيئات الغفلة واللهو، ويجعله يتصف باليقظة والكمال.

[290]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَـن أَتَـهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـلِغِيهِ فَاسْتَعِْذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 56 ) لَخَلْقُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( 57 ) وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَلاَ الْمُسِىءُ قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ( 58 ) إِنَّ السَّاعَةَ لاََتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤمِنُونَ( 59 )

 

التّفسير

ما يستوي الأعمى والبصير!

دعت الآيات السابقة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصبر والإستقامة أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية، والآيات التي نحن بصددهاتذكر سبب مجادلتهم للحق.

يقول تعالى: (إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في

[291]

صدورهم إلأكبر).

«المجادلة» ـ كما أشرنا سابقاًـ تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية، وإن كانت تشمل أحياناً في معناها الواسع الحق و الباطل.

أما قوله تعالى: (بغير سلطان أتاهم) فهي للتأكيد على ما يستفاد من معنى المجادلة حيث تعني «سلطان» الدليل والبرهان الذي يكون سبباً لهيمنة الإنسان على خصمه.

أما «آتاهم»فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى الله بها إلى أنبيائه عليهم السلام، ولا ريب أنّ الوحي هو أفضل الطرق وأكثرها اطمئناناً لإثبات الحقائق.

أما المقصود بـ «آيات الله» التي كانوا يجادلون فيها، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد، حيث كانوا يعتبرونها سحراً، أو أنّها علامات الجنون، أو أساطير الأولين!

من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الإنصياع إلى الحق، لذلك كانوا يرونَ أنّ أفكار الآخرين وعقائدهم باطلة وأن عقائدهم وأفكارهم حقّة!

تشير كلمة (إن) إلى أنّ السبب الوحيد لعنادهم في هذه الموارد هو الغرور والتكبّر، وإلاّ كيف يصرّ الإنسان على كلامه وموقفه دون دليل أو برهان.

«الصدور» تشير هنا إلى القلوب، والمقصود بالقلب هو الفكر والروح، حيث ورد هذا المعنى مرّات عدّة في آيات الكتاب المبين.

أمّا كلمة (كبر) في الآية فقد فسّرها بعض المفسّرين بالحسد.

وبذلك اعتبر هؤلاء أن سبب مجادلتهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو حسدهم له ولمنزلته ومقامه المعنوي الظاهري.

لكن «كبر» لا تعني في اللغة المعنى الآنف الذكر، لكنّه يمكن أن يلازمها، لأنّ

[292]

من يتكبّر يحسد، إذ لا يرى المتكبّر المواهب إلاّ لنفسه، ويتألم إذا انصرفت لغيره حسداً منه وجهلا.

ثم تضيف الآية: (ما هم ببالغيه).

إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كباراً، يفاخرون بذلك و يفتخرون على غيرهم، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران، ولن يصلوا بطريق التكبر والغرور والعلو و المجادلة بالباطل إلى ما يبتغونه(1).

في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يستعيذ بالله من شر هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم، حيث يقول تعالى: (فاستعذ بالله إنّه هو السميع البصير).

فهو ـ تعالى ـ يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.

والاستعاذة بالله لا تنبغي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده وحسب، وإنّما تجب على كل السائرين في طريق الحق عندما تتعاظم الحوداث ويستعر الصدام مع المتكبرين عديمي المنطق!

لذلك نرى استعاذة يوسف (عليه السلام) عندما تواجهه العاصفة الشديدة المتمثلة بشهوة «زليخا» يقول: (معاذ الله إنّه ربي أحسن مثواي) فكيف أخون عزيز مصر الذي أكرمني وأحسن وفادتي.

وفي آيات سابقة من نفس هذه السورة نقرأ أنّ كليم الله موسى (عليه السلام) قال: (إني


1 ـ ثمّة بين المفسّرين كلام حول مرجع الضمير في قوله: «بالغيه» أشهره قولان:

الأول: أن يعود الضمير إلى «كبر» و تكون «ماهم ببالغيه» جملة وصفية لـ (كبر) ويكون المعنى هكذا: إنّهم لا يصلون إلى مقتضى وهدف تكبرهم (في الواقع حذف هنا المضاف والتقدير «ما هم ببالغي مقتضى كبرهم»).

الثّاني: أن يعود الضمير إلى «جدال» الذي يستفاد من جملة «يجادلون» والمعنى أنّهم لن يصلوا إلى هدف جدالهم المتمثل بإبطال الحق. ولكن في هذه الحالة لا تستطيع أن نقول: إنّ الجملة صفة لـ(كبر) بل ينبغي أن نعطفها على ما سبقها مع حذف العاطف.

[293]

عذت بربي و ربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)(1).

إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار، ويعاندون بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر، إذ يقول تعالى: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع ـ بصورة أولى ـ أن يحيي الموتى، وإلاّ كيف يتسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟

إنّ هذا المنطق يعبّر عن جهل هؤلاء الذين لا يستطيعون إدراك هذه الحقائق الكبرى!

أغلب المفسّرين اعتبر هذه الآية ردّاً على مجادلة المشركين بشأن قضية المعاد، بينما احتمل البعض أنّها رد على كبر المتكبرين والمغرورين الذين كانوا يتصورون أن ذواتهم وأفكارهم عظيمة غير قابلة للردّ أو النقض، في حين آنها تافهة بالقياس إلى عظمة عالم الوجود(2).

هذا المعنى غير مستبعد، ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار الآيات التي بعدها يكون المعنى الأوّل أفضل.

لقد تضمنت الآية الكريمة سبباً آخر من أسباب المجادلة متمثلا بـ «الجهل» في حين طرحت الآيات السابقة عامل «الكبر». والعاملان يرتبطان مع بعضهما، لأن أصل وأساس «الكبر» هو «الجهل» وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

الآية التي بعدها، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال


1 ـ المؤمن ـ27.

2 ـ يلاحظ الرأي الأوّل في مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، الكشاف، روح المعاني، الصافي و روح البيان.

[294]

المتكبرين الجهلة إزاء المؤمنين الواعين، حيث يقول: (وما يستوي الأعملى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء)(1).

إلاّ أنكم بسبب جهلكم وتكبركم: (قليلا ما تتذكرون)(2).

إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم و معرفتهم وموقعهم، إلاّ أنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به. لذلك فهو يخطىء دائماً في تقييم أبعاد وجوده، ويصاب بالكبر و الغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسىّء.

ونستفيد أيضاً من خلال ارتباط الجملتين ببعضهما البعض أنّ الإيمان والعمل الصالح ينوّر بصائر القلب والفكر بنور المعرفة والتواضع والإستقرار، بعكس الكفر والعمل الطالح الذي يجعل الإنسان أعمى فاقداً لبصيرته، مشوّهاً في رؤيته للأشياء والمقاييس.

الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرض إلى وقوع القيامة و قيام الساعة حيث يقول تعالى: (إنّ الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

«إن» و «اللام» في (لاتية) و جملة (لا ريب فيها) كلها للتأكيد المكرّر الذي يستهدف تأكيد المضمون والمعنى المراد، وهو قيام القيامة.

لقد عالجت الرؤية القرآنية قضية القيامة في أكثر من مكان ومورد، بمختلف الأدلة ووسائل الإقناع، ذلك نرى بعض الآيات تذكر قيام الساعة والقيامة بدون مقدمات أو دليل، مكتفية بما ورد من أدلة ومقدمات في أماكن اُخرى من الكتاب


1 ـ النظرة الأولية في الآية قد لا توجب معنى لـ «لا النافية» في قوله تعالى: (ولا المسيء) ولكن تأكيد النفي من ناحية، وتجلية المقصود من الجملة من ناحية ثانية، أوجب تكرار النفي، مضافاً إلى أن طول الجملة قد يؤدي إلى نسيان الإنسان للنفي الأول، الأمر الذي يوجب التكرار.

2 ـ «ما» في قوله تعالى: (قليلا ما تتذكرون) زائدة، وهي للتأكيد.

[295]

المبين .

«الساعة» كما يقول «الراغب» في «المفردات» هي بمعنى: أجزاء من أجزء الزمان.

إنَّ الإشارة التي يطويها هذا الإستخدام لكلمة (الساعة) يشير إلى السرعة الّتي يتم فيها محاسبة الناس هناك.

لقد استخدمت الكلمة عشرات المرّات في القرآن الكريم، لتدل بشكل عام على المعنى الآنف الذكر، لكنّها تعني في بعض الأحيان نفس القيامة، فيما تعني في أحيان اُخرى الإشارة إلى انتهاء العالم ومقدمات البعث والنشور. وبسبب من الإرتباط القائم بين الحدثين والقضيتين، وأنّ كلاهما يحدث بشكل مفاجىء، لذا تمّ استخدام كلمة «الساعة». (يمكن للقارىء الكريم أن يعود إلى بحث مفصل حول «الساعة» في تفسير سورة الروم).

أما سبب القول: بـ (ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون) فلا يعود إلى أن قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو «الحرية» في الإستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذات الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة، ويغفل عن التفكير بالقيامة، أو الإستعداد لها.

* * *

 

ملاحظه

اليهود المغرورون:

لقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الأولى ـ من مجموعة الآيات التي بين أيديناـ بحثاً مفاده أن اليهود كانوا يقولون: سيخرج المسيح الدجال فنعينه على محمّد وأصحابه ونستريح منهم، ونعيد الملك إلينا (مجمع البيان ـ الجزء

[296]

الثامن ـ صفحة (822) طبعة دار المعرفة).

يمكن أن يشمل هذا السبب فيما يتضمّن من ادعاءات اليهود معنيين: الأول: أنّهم أرادوا أن ينتصر المسيح على الدّجال، من خلال ادعائهم أنّ «المسيح المنتظر» هو منهم وتطبيق الدجّال، والعياذ بالله، على النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

أو أنّهم كانوا حقاً في انتظار الدجّال الذي كانوا يعتبرونه من أنفسهم.

ذلك أنّ المسيح وكما ذكر «الراغب» في «المفردات» وابن منظور في «لسان العرب» تطلق على «عيسى»(عليه السلام) بسبب سيره وسياحته في الأرض، أو بسبب شفائه للمرضى بأمر الله عندما كان يمسح بيده عليهم. وكانت تطلق أيضاً على «الدجال» لأنّ الدجال له عين واحدة، بينما كان مكان العين الأُخرى ممسوحاً.

ويحتمل أن يكون اليهود ينتظرون خروج الدجال ليتعاونوا معه في دحر المسلمين الذين هزموهم مرات عديدة ممّا أثار غضبهم على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد يكونوا في انتظار المسيح، كما يستفاد من قاموس الكتاب المقدس حيث يظهر أنّ المسيحيين واليهود ينتظرون خروج المسيح، لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سيحارب الدجال ويقضي عليه. لذلك أرادوا تطبيق هذا المعنى على ظهور الإسلام.

وقد استنتج بعض المفسّرين من سبب نزول هذه الآية على أنّها مدنية دون غيرها من آيات السورة المكية. ولكن عدم ثبوت سبب النّزول، كما أن عدم وضوح مفاد الآية وإبهامها تستوجب ضعف هذا الإستنتاج.

* * *

 

[297]

الآيات

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( 60 ) اللهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهاَرَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ( 61 ) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء لاَّ إَلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ( 62 ) كَذَلِكَ يُؤفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِأيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ( 63 )

 

التّفسير

ادعوني أستجب لكم:

لقد تضمنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبّاً إلهياً ولطفاً، وتنبجس بالرحمة الشاملة للتائبين.

يقول تعالى أولا: (وقال ربّكم اُدعوني أستجب لكم).

لقد فسّر الكثير من المفسّرين «الدعاء» بمعناه المعروف، وما يؤكّد ذلك هو جملة «استجب لكم» بالإضافة إلى ما تفيده الروايات العديدة الواردة بخصوص

[298]

هذه الآية وثواب الدعاء، والتي سنشير إلى بعض منها فيما بعد.

ولكن بعض المفسّرين تبع (ابن عباس) في رأيه بأن الدعاء هنا بمعنى التوحيد وعبادة الخالق جلّ وعلا، أي «اعبدوني واعترفوا بوحدانيتي» إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأظهر.

ونستفيد من الآية أعلاه مجموعة ملاحظات هي:

أنّ الله يحب الدعاء ويريده ويأمر به.

لقد وعد الله بإجابة الدعاء، لكن هذا الوعد مشروط وليس مطلقاً. فالدعاء واجب الإجابة هو ما اجتمعت فيه الشروط اللازمة للدعاء والداعي وموضوع الدعاء.

وفي هذا الإطار شرحنا ما يتعلق بهذا الموضوع في تفسير الآية (186) من سورة البقرة.

الدعاء في نفسه نوع من العبادة، لأنّ الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.

تتضمّن الآية في نهايتها تهديداً قوياً للذين يستنكفون عن الدعاء، حث يقول تعالى: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)(1).

* * *

 

أهمية الدعاء وشروط الإستجابة

ثمّة تأكيد كبير على أهمية الدعاء في الروايات المنقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة المعصومين(عليهم السلام):

في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الدعاء هو العبادة»(2).


1 ـ داخر من «دخور» وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والإستعلاء.

2 ـ مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 528.

[299]

في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سئل: ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعاً، كان أحدهما أكثر صلاة، والآخر دعاءً فأيهما أفضل؟ قال «كلّ حسن».

لكن السائل عاد وسأل الإمام (عليه السلام): قد علمت، ولكن أيهما أفضل؟ أجاب الإمام(عليه السلام): «أكثرهما دعاء، أما تسمع قول الله تعالى: (ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). ثمّ أضاف بعد ذلك: «هي العبادة الكبرى»(1).

في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه أجاب عن أفضل العبادات بقوله: «ما من شيء أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب ممّا عنده، وما أحد أبغض إلى الله عزّوجلّ ممن يستكبر عن عبادته، ولايسأل ما عنده»(2).

في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق أنّه (عليه السلام) قال: «إنّ عند الله عزّوجلّ منزلة لا تنال إلاّ بمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاًه فاسأل تعط، إنّه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه»(3).

5 ـ لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الدعاء أفضل حتى من تلاوة القرآن، كما أشار إلى ذلك الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وحفيداه من أئمة المسلمين الإمام الباقر و الصادق(عليهما السلام)، حيث قالوا: «الدعاء أفضل من قراءة القرآن»(4). وفي نطاق تحليل قصير نستطيع أن ندرك عمق مفاد هذه الأحاديث، فالدعاء يقود الإنسان من جانب إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وهذه المعرفة هي أفضل رصيد للإنسان في وجوده.

ومن جانب آخر يدفع الدعاء الإنسان إلى الإحساس العميق بالفقر والخضوع


1 ـ مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 529.

2 ـ الكافي، مجلد2، باب: فضل الدعاء والحث عليه. صفحة 338.

3 ـ الكافى، المجلد الثّاني، (باب فضل الدعاء والحث عليه) ص: 338.

4 ـ مكارم الأخلاق، طبقاً للميزان، المجلد 2، ص34.

[300]

تجاه خالقه جلّ وعلا ويبعده عن التعالي والغرور اللذين يعدّ ان الأرضيه المناسبة للمجادلة في آيات الله والإنحراف عن جادة الصواب والوقوع في المهالك.

من جانب ثالث يعمق الدعاء لدى الإنسان الشعور بأنّه جلّ وعلا منبع النعم ومصدره ويدفعه إلى العشق والارتباط العاطفي مع الله جلّ جلاله.

ومن جانب رابع يشعر الإنسان بالحاجة الى الله تعالى وانه رهين نعمته، ولذلك فهو موظف بطاعته وتنفيذ أوامره، ويرهف إحساسه بالعبودية لله تعالى.

وخامس بما أنّه يعلم أنّ للإجابة شروطها، ومن شروطها خلوص النية، وصفاء القلب، والتوبة من الذنوب، وقضاء حوائج المحتاجين، والسعي في مسائل الناس من الأقرباء والأصدقاء وغيرهم، فلذلك يهتم ببناء الذات واصلاح النفس وتربيتها.

وسادس يركّز الدعاء في نفس الإنسان الداعي عوامل المنعة والإرادة والثقة، ويجعله أبعد الناس عن اليأس والقنوط أو التسليم للعجز (وقد تحدثنا عن الدعاء وفلسفته وشرائطه ذيل الآيات 77 من سورة الفرقان).

ثمّة ملاحظة مهمّة هنا، هي أن الدعاء لا يلغي بذل الوسع والجهد من قبل الإنسان، وإنّما حسبما تفيد الروايات والأحاديث في هذا الشأن ـ على الإنسان أن يسعى ويبذل ويجهد، ويترك الباقي على الله تعالى. لذا لو جعل الإنسان الدعاء بديلا عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتماً.

لذلك نقرأ في حديث عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أربعةٌ  لا  تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللّهم اُرزقنى، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟. ورجلٌ كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالإقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة، فيقال له: ألم آمرك

[301]

بالشهادة؟!(1).

ومن الواضح أنّ الموارد التي يتحدّث عنها الحديث الشريف، إنّما مُنِعَ فيها الإنسان عن إجابة دعوته لعدم بذله قصارى جهده وسعيه، فعليه أن يتحمّل تبعة تقصيره وتفريطه.

من هنا يتضح أنّ أحد عوامل عدم استجابة الدعاء يتمثل في التباطؤ وترك الجهد المناسب للعمل واللجوء إلى الدعاء وقد جرت سنة الله تعالى على عدم إجابة مثل هذه الدعوات.

طبعاً، هناك عوامل وأسباب اُخرى لعدم استجابة بعض الأدعية. فمثلا عادة ما يحدث أن يخطيء الإنسان في تشخيص مصالحه ومفاسده، إذ يصر أحياناً على موضوع معين ويطلبه من الخالق جلّ وعلا في حين ليس من مصلحته ذلك. ولكنّه يفهم ذلك فيما بعد.

وهذا الأمر يشبه إلى حد كبير الطفل أو المريض الذي يطلب بعض الأطعمة والأشربة ويشتهيها، فلا يجاب لطلبه ولا تلبّى رغباته، لأنّها قد تؤدي إلى مضاعفة الخطر على صحته أو حتى المجازفة بحياته. ففي مثل هذه الموارد لا يستجيب الله تعالى لدعاء العبد، بل يدخر له الثواب يوم القيامة، مضافاً الى أن لاجابة الدعاء شروطاً مذكورة في الآيات والرّوايات الشريفة وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير(2).

 

موانع استجابة الدعاء

لقد ذكرت بعض الروايات ذنوباً متعدّدة إذا ارتكبها الإنسان تحول بينه وبين إجابة دعائه، مثل سوء النية، النفاق، تأخير الصلاة عن وقتها، اللسان البذيء الذي


1 ـ أصول الكافي، المجلد الثّاني، باب من لا يستجاب له دعوة الحديث رقم (2).

2 ـ البقرة، الآية 186.

[302]

يخشاه الناس، الطعام الحرام، وترك الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى(1).

وفي إطار هذه النقطة بالذات ثمّة حديث جامع عن الإمام الصادق(عليه السلام) ينقله «الشيخ الطبرسي» في «الإحتجاج» أنّه سئل: أليس يقول الله: (ادعوني أستجب لكم) وقد نرى المضطر يدعوه ولا يجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟ قال: «ويحك! ما يدعوه أحد إلاّ استجاب له، أما الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب، وأما المحق فإذا دعا استجاب له وصرف عنه البلايا من حيث لا يعلمه، أو ادخر له ثواباً جزيلا ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خير له إن أعطاه، أمسك عنه»(2).