![]() |
![]() |
![]() |
إلاّ أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معياراً للكمال الإنساني؟
إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية.
إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان، ومثل هذا الإختيار هو ما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأُخرى، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منهُ إنسانيتهُ.
1 ـ الواقعة، الآية 50.
وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل، فهي أيضاً سنّة إلهية لا قبل التغيير.
ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء، فلا معنى للتكليف حينئذ، ولا للحساب والسؤال والجواب، ولا النصيحة والموعظة، وبشكل أولى الثواب والعقاب!
ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردُّد الإنسان في أعماله، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء!
تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار، فيقول تعالى: (ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير).
وعندما يشخّص أهل النّار بوصف «الظلم» فيبيّن أنّ المراد من «من يشاء» في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.
وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار.
ولكن ينبغي الإنتباه إلى أنّ «ظالم» هنا، وفي العديد من الآيات القرآنية الأُخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضاً، وتشمل المنحرفين عقائدياً، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟
يقول لقمان لابنه وهو يعظه: (يا بني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم)(1).
وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن
1 ـ لقمان، الآية 13.
سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون).
وقال بعضهم في الفرق بين «ولي» و «نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعم من ذلك(1).
ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب.
أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.
* * *
1 ـ يلاحظ ذلك في مجمع البيان، المجلد 8، صفحة 779. ذيل الآية (22) من العنكبوت.
أَمِ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ( 9 ) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( 10 ) فَاطِرُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاَْنْعَـمِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 11 ) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ( 12 )
أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى الله، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية ،وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.
تقول الآية بأسلوب التعجب والإنكار: (أم اتخذوا من دونه أولياء)(1). إلا1 ـ اعتبر بعض المفسّرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر الرازي في التّفسير الكبيرـ أنّ «أم» هنا بمعنى الإستفهام الإنكارى، أما البعض الآخرـ كالطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ فقد اعتبروها بمعنى«بل» .
أنّهُ: (فالله هو الولي).
فلو أراد هؤلاء أن يختاروا ولياً، فعليهم أن يختاروا الله، لأنّ أدلة ولايته واضحة في الآيات السابقة، مع بيان أوصافه الكمالية، فالعزيز والحكيم، والمالك والعلي والعظيم، والغفور والرحيم، هذه الصفات السبع التي مرّت علينا تعتبر ـ لوحدها ـ أفضل دليل على اختصاص الولاية به.
ثم تذكر دليلا آخر فتقول: (وهو يحيي الموتى).
ويجب اللجوء إليه لا لغيره، لأنّ المعاد والبعث بيده، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعدالموت.
ثم تذكر دليلا ثالثاً فتقول: (وهو على كلّ شيء قدير).
وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقية.
الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.
إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم بذلك، أم أنّ هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل عباده، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟
إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره.
لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم الإختلاف الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى: (ما اختلفتم فيه من شيء) في الإختلاف الوارد في الآيات المتشابهة، أو في الإختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط، إلاّ أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك، إذ هي تشمل الإختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد، أم الأحكام
الشرعية، أم القضايا الحقوقية والقضائية، أم غير ذلك ممّا يحدث بين الناس لقلّة معلوماتهم ومحدوديتها; إنّ ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي، وبالرجوع إلى علم الله وولايته.
وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية بالله، تقول الآيات على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (ذلكم الله ربّي)(1) فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب: (عليه توكلت وإليه أنيب) أيّ أعود إليه في المشكلات والشدائد والزلات.
جملة: (ذلكم الله ربّي) تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أنّ للربوبية قسمين: القسم التكويني الذي يعود إلى إدارة نظام الوجود، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياء(عليهم السلام).
وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية «التوكل» و«الإنابة» حيث تعني الأولى رجوع جميع الأُمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جلّوعلا. والثّانية تعني رجوع الأمور التشريعية إليه(2).
الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامساً على ولاية الله المطلقة، أو دليلا على ربوبيته، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة، إذ تقول: (فاطر السماوات والأرض).
«فاطر» من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شيء ما، ويقابلها «قط» التي تعني بقول البعض الشق العرضي.
وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج
1 ـ في بداية هذه الجملة تكون كلمة «قل» مقدّرة، فهذه الجملة وما بعدهاتتحدث عن لسان النبيّ فقط، أمّا جملة (ما اختلفتم فيه من شيء) فهي استمرار لحديث الخالق جلّ وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في الظاهر.
2 ـ الميزان، المجلد 18، الصفحة 23.
الموجودات منه.
وبهذه المناسبة فإنّ «فُطُر» تطلق على «طلاع» التمر عندما يتفتق ويخرج منه التمر.
والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها، لأنّ الخالقية تشملها جميعاً.
ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه)(1).
وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته، حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجاً من أنفسهم، وهو يعتبر أساساً لراحة الروح وسكون النفس، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساساً لبقاء النسل واستمراره، وتكاثره.
وبالرغم من أنّ خطاب الآية موجّه للإنسان، والمعنى منصب عليه من خلال «يذرؤكم» إلاّ أنّ هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام والموجودات الحية الأُخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل.
وفي الواقع إنّ توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير الى مقامه الكريم، وأما أمر البقية فيتبيّن من خلال الإنسان كمثال.
الصفة الثّالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى: (ليس كمثله شيء).
إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأُخرى، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أي صفة من صفات الله، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في «التشبيه»حيث يشبهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته، وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك!
1 ـ الضمير في «فيه» يعود إلى «التدبير» أو «جعل الأزواج» و«يذرؤ» من «ذرأ» على وزن «زرع» وتعني «الخلق» لكنّه الخلق الذي يقترن ويتزامن مع إظهار الأفراد. وقد وردت أيضاً بمعنى الإنتشار.
إنّ وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد، وكل شيء غيره له نهاية وحد من حديث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل...; وفي كلّ شيء.
وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.
لذا فإنّ ما يثبت لغيره لا يصح عليه (سبحانه وتعالى) ولا ينطبق على ذاته المنزّهة، بل ولا معنى له.
فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأُخرى صعبة، وبعض الأحداث وقع في الماضي وبعضها يقع الآن، ومنها ما يقع في المستقبل. وبعض الأشياء صغير وبعضها كبير.
إنّ مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود، وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها.
أمّا هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة، فإنّ أياً منها لا ينطبق على صفات الله، إذ لا معنى لديه للقرب والبعد، فالكل قريب وفي متناول إرادته، ولا معنى للصعب والسهل، فكل شيء سهل وطوع إرادته المطلقة، ولا يوجد مستقبل وماض، فكل شيء بالنسبة إليه تعالى حضور وحال.
إنّ إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته ممّا هو فيه.
لهذا السبب يقال: إنّ من السهل معرفة أصل وجود الخالق جلّ وعلا، لكن من الصعب معرفة صفاته.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في هذا الشأن: «وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء»(1).
تشير نهاية الآية إلى صفات اُخرى من صفات الله: (وهو السميع البصير).
هو الخالق والمدبّر، والسميع والبصير، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 184.
أو مثيلْ، ولهذا لا ينبغي الإستظلال إلاّ تحت ولايته، ولا تصح العبودية والربوبية إلاّ له، وذلك لا يكون ألاّ بفك قيود عبودية الغير، وتصريفها إليه دون غيره سبحانه وتعالى.
الآية التي بعدها تتحدّث عن ثلاثة أقسام اُخرى من صفات الفعل والذات حيث توضح كلّ واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص.
يقول تعالى: (له مقاليد السماوات والأرض).
فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه منه، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب (ولله خزائن السماوات والأرض)(1).
«مقاليد» جمع «مقليد» وتعني المفتاح، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كلّ شيء ما، فيقال مثلا: إنّ مفتاح هذا الأمر بيدي، يعني أنّ برنامجه وطريقه وشرائطه كلّها تحت قدرتي وفي يدي.(2).
وفي الصفة الأُخرى، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض ه فإنّ جميع الأرزاق في قبضته، ويقسمها وفقاً لمشيئته التي تصدر يمقتضى حكمته، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.
إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأُخرى، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى: (إنّه بكل شيء عليم).
وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (6) من سورة «هود» في قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل
1 ـ المنافقون، آية 7.
2 ـ بهذا الخصوص لدينا بحث مفصل يمكن مراجعته في نهاية الحديث عن الآية (63) من سورة «الزمر».
في كتاب مبين).
وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي يحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية.
فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة، إحياء الموتى، قدرته على كلّ شيء، خلقه للسماوات والأرض، خلقه للإزواج وتكثير النسل، لا يوجد مثيل له، سميع، بصير، له خزائن السماوات والأرض، رزاق، وعليم بكل شيء.
إنّها صفات تكمل الواحدة منها الأُخرى من حيث البيان، وكلّها دليل على ولايته وربوبيته، وبالنتيجة تعتبر طريقاً لإثبات توحيده في العبادة.
* * *
إنّ علمنا وعلوم الكائنات جميعاً محدود، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة، لأنّ المعرفة بحقيقة شيء ما تعني الإحاطة به، فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟
وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا، خصوصاً وأنّ صفاته هي عين ذاته.
لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم اجرايى، وأكثر ما يدور حول آثاره جلّ وعلا.
من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبيّن ذات الله وصفاته المطلقة غير المحدودة، لأنّ ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية، لذلك سوف نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق الكمالية، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والماكلية، وسائر الصفات الأُخرى.
نقول مثلا: إنّ الله هو «الأول» وهو أيضاً «الآخر» هو «الظاهر» وهو «الباطن» هو مع كلّ شيء وليس مع شيء، وبعيد عن كلّ شيء إلاّ أنّهُ ليس غربياً عنهُ.
قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد، لأنّ معاني الألفاظ نقيسها على الأشياء والموجودات المحدودة، فيمكن أن يكون هو الأوّل ولا يكون الآخر، والظاهر ولا يكون باطن، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه، فهوالأوّل في نفس الوقت الذي هو الآخر، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضاً.
وعلينا أن نعترف هنا بأنّ المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن ننتبه إلى حقيقة: (ليس كمثله شيء).
يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول: «ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إيّاه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه»(1).
وفي مكان آخر يقول (عليه السلام): «كل مسمّى بالوحدة غير قليل»(2).
خلاصة القول: يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى: (لم يكن له كفواً أحداً) وعبارة «سبحان الله» في العبادات وغيرها تشير إلى هذه الحقيقة.
إنّ الكاف في جملة (ليس كمثله شيء) للتشبيه، وتعني المثل أيضاً. لذا فإنّ هذا التكرار أصبح سبباً لأن يعتبر الكثير من المفسّرين أنّها زائدة، وأنّها جاءت
1 ـ الخطبة رقم (186).
2 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 65.
للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى.
ولكن ثمّة تفسير أجمل، وهو أن يقال أحياناً: مثلك لا يهرب من ساحة الأحداث. أيّ أنّ الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك، لا ينبغي عليه الهرب (والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا).
وفي الآية التي نبحثهاسيكون المعنى هكذا: مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه ـ كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل».
ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى إنّ هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى (مثل) إلاّ أنّها ليست مثلها فى المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها، مثلا:
«ند» على وزن «ضد» وتقال عندما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى المشابهة في الجوهر والماهية.
«شبه» وتقال عندما يكون الكلام عن الكيفية فقط.
«مساوي» وتقال عندما يكون الكلام عن الكمية فقط.
«شكل» وتقال عندما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة.
إلاّ أنّ «مثل» لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية، بحيث تشمل جميع المفاهيم الآنفة الذكر.
لذا فإنّ الله عندما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول: (ليس كمثله شيء)(1).
أ: معيار بسط الرزق وتقديره:
يجب أن لا نتصوّر أبداً أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا، أو أن تضييق المعيشة هي دليل غضبه، لأنّ الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه،
1 ـ لاحظ مفردات الراغب مادة «مثل».
وأحياناً يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه.
وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان.
إنّ الثروة الكبيرة قد تكون أحياناً سبباً لعذاب أهلها وتعبهم وسلب استقرارهم وراحتهم النفسية، حيث يقول القرآن في الآية (55) من سورة التوبة: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللهُ ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).
وفي الآيتين (55 ـ 56) من سورة المؤمنين، نقرأ قوله تعالى: (أيحسبون إنّما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون).
ب: تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود:
إنّ الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافى مع سعي الإنسان في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثأ للخمول والكسل والهروب من تحمل مسؤوليات الجهاد الفردي الإجتماعي، إذ هناك آيات قرآنية كثيرة تؤّكد أهمية وقيمة السعي الإنساني.
إنّ الهدف هو أن ندرك أنّنا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحياناً بحجب نتائج هذه الجهود، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك، حتى لا ينسى الناس في حياتهم الإجتماعية الطويلة أن ثمّة قدرة اُخرى هي قدرة مسبب الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم.
وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق الإلهي المحدود لكل إنسان، لأنّه تعالى صرّح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله الفرد من جهد وعناء.
ج:عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي:
للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي، بل إنّ الرزق الأصلي هو الرزق المعنوي، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤّكد ذلك، فنقول حول الحج مثلا: «اللهم ارزقني حج بيتك الحرام».
وفي أدعية طلب الطاعة تقول: «اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية».
وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول: «اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين» (دعاء اليوم الخامس عشر).
وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأُخرى.
د: القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق:
لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحدِّ ذاتها درساً لتربية الإنسان وبنائه، ففي الآية «7» من سورة «إبراهيم» نقرأ قوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم).
وفي الآية «15» من سورة «الملك» قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
وفي سورة الأعراف، آية «96» قوله تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).
هـ: التضييق في الرزق والقضية التربوية:
أحياناً يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان، كما نقرأ في قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)(1).
1 ـ الشورى، الآية 27.
ز: الرّزاق هو اللّه
يؤكّد القرآن الكريم أنّ الذي يعطي الرزق للناس هو الله، وعليهم أن لا يطلبوا من غيره، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم، كما ورد في الآية (3) من سورة «فاطر» في قوله تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض).
والآية «17» من «العنكبوت» في قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق).
وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الانسان إلى عباد مثله، وتجعله مرتبطاً بخالقه وبارئه ورازقه، فتنمي فيه روح الإباء، والعبودية والإنقطاع إلى الله.
ولدينا بحث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة، وأسباب الرزق ومصادره في نهاية تفسير الآية «71» من سورة «النحل» وكذلك في نهاية تفسير الآية «6» من سورة «هود»، فليراجع هناك.
* * *
شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الَّدِينَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ( 13 ) وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بِغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَولاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَل مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَـبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب( 14 )
بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم، وليس أصل التوحيد فحسب، بل إن جميع دعوات الأنبياء في
القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.
تقول الآية: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.
وأيضاً: (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى).
وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً و«ما يمتلكه الصالحون جميعاً تملكه لوحدك».
إن عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.
لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اُخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.
فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء، أنّ أوّل دعوة لهم كانت: (يا قوم اعبدوا الله)(1).
وفي مكان آخر نقرأ: (ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولا أن اعبدوا الله).
وأيضاً فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام 130، الأعراف 59، الشعراء 135، طه 15، مريم 31).
أمّا موسى وعيسى وشعيب(عليه السلام) فيتحدثون عن الصلاة (طه 14، مريم 31، هود 87).
وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج 27).
وكان الصوم مشرّعاً عند جميع الأقوام السابقين (البقرة 183).
1 ـ الأعراف (59، 65، 73، 85) هود (50، 61، 84) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح، هود وصالح(عليهم السلام) .
لذا، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأُخرى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
![]() |
![]() |
![]() |