القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تأريخ الأولين للإطلاع على أنواع الإبتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو ردّ

[116]

تأريخي وواقعي.

ثمّ يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي، إذ يقول: (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كلّ النواحي، فلو كان الظفر المادىّ كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد. إذن فمن هنا يستدل على وجود يد قوية اُخرى خلف عالم الاسباب تدير الشؤون وفق منهج محسوب.

صحيح أنّه يجب على الإنسان أن يبذل الجهد والسعي في حياته، وصحيح أنّ الجهاد والسعي هما مفتاح حلّ الكثير من المشاكل، ولكن إغفال مسبب الأسباب والنظر إلى الأسباب فقط، واعتبار الكفاءة هي المؤثر الوحيد يعد خطأً كبيراً.

فإحدى أسرار إحاطة الفقر والحرمان بمجموعة من العلماء المقتدرين، وإحاطة الغنى بمجموعة من الجهلة غير الأكفاء هو تنبيه لكلّ الناس التائهين في عالم الأسباب بأن لا يعتمدوا فقط على قواهم الذاتية. لذا تضيف الآية (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

الآيات التي وضحها أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود الهمم»(1). وهي كلمة سامية تدلّ على ضعف وعجز الإنسان كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.

 

* * *

 


1 ـ نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 250.

[117]

الآيات

قُلْ يَـعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 53 ) وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ( 54 ) وَ اتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَهً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ( 55 )

 

التّفسير

إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً (عليهم السلام)

بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيسي من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباريء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم، عندما يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً).

التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي

[118]

تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا...»(1).

والدليل على ذلك واضح من وجوه:

1 ـ التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ.

2 ـ التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.

3 ـ التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّهاعليه، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده، عندما يقول: لا تظلم نفسك أكثر من هذا!

4 ـ التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «القنوط» يعني ـ في الأصل ـ اليأس من الخير، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي.

5 ـ عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة.

6 ـ عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد، وكلمة «الذنوب» التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية.

7 ـ إنّ ورود كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل.

8 و 9 ـ وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل.


1 ـ مجمع البيان وتفسير القرطبي وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

[119]

نعم، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية. وحقّاً، فإنّ الذي لانهاية لبحر لطفه، وشعاع فيضه غير محدود، لا يتوقع منه أقل من ذلك.

وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها:

الأولى: هل أنّ عمومية الآية تشمل كّل الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأُخرى، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء: إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

والثّانية: هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟

وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء (انيبوا إلى ربّكم) والثّانية (وأسلموا له) والثّالثة (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم).

هذه الأوامر الثّلاثة تقول: إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب، ويتوجهوا في مسيرهم نحو الباريء عزّوجلّ، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة  ولا غيره، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط  لا يمكن تجاهلها.

وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو

[120]

والرحمة، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم، وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي.

اذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره، ويتسألون: هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟

إنّهم يدركون معنى الآية جيداً، ومستعدون للتوبة،ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى إرتكاب الذنب مرّة اُخرى.

هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم. لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء(عليه السلام)، كان خائفاً من عدم قبول توبته، لأنّ ذنبه كان عظيماً، مجموعة من المفسّرين قالوا: إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!

ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية، لأن هذه السورة من السور المكّية، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات، ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى.

يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح

[121]

المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة، لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً، بقرائن الآيات التالية، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: (وانيبوا إلى ربّكم) واصلحوا أُموركم ومسير حياتكم (واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون).

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم»، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث:

الخطوة الأُولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.

الخطوة الثّانية: الإيمان بالله والإستسلام له.

الخطوة الثّالثة:العمل الصالح.

فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقأ لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.

أمّا بشأن المراد من (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزّوجلّ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات

[122]

والمستحبات، مع الإنتباه إلى تدرّجها.

وقال البعض: إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة، بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر (الله أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني). وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.

* * *

 

بحثان

1 ـ باب التوبة مفتوح للجميع

من المشاكل التي تقف عائقاً في طريق بعض المسائل التربوبة، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.

هذا التفكير يبقى كابوساً مخفياً يرافقه كالظل، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة؟ فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته …

والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيداً ما ذكرناه، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.

التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عندما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للإنفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين

[123]

التائبين، حيث ورد (كمن ولدته أُمه).

وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفاً التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.

ونقراً في رواية وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1).

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام)جاء فيه: «التائب من الذنب كمن  لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزىء»(2).

ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط، لأنّ الباريء عزّوجلّ حكيم ولا يفعل شيئاً عبثاً، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لابدّ منه.

ومن جهة اُخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة، وأن تحدث انقلاباً وتغيراً في داخله وذاته.

ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء اُسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.

ومن ناحية ثالثة، يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

 


1 ـ سفينة البحار، المجلد الاول، الصّفحة 127، مادة التوبة.

2 ـ أصول الكافي، المجلد 2، الصفحة 216، باب التوبة، الحديث 10.

[124]

2 ـ اصحاب الأحمال الثقيلة

بعض المفسّرين أوردوا أسباباً متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.

ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد، عندما قتل حمزة عمّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غدراً، وقد كان حمزة قائداً شجاعاً كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اُخرى: إنّه كان درعاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدئهم، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي، ولكنّه كان خائفاً من عدم قبول إسلامه، ولما أسلم قال له النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أوحشي؟» قال: نعم، قال: «أخبرني كيف قتلت عمي» فأخبره، فبكى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: «غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك» فلحق بالشام فمات في الخمر(1). وهنا تساءل أحدهم: هل أن هذه الآية تخص وحشياً فقط أم تشمل كلّ المسلمين، فأجاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّها تشمل الجميع .

ومنها قصة النباش ـ قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكياً فسلّم فردّ عليه السلام ثمّ قال: «ما يبكيك، يا معاذ؟» فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شاباً طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ادخل عليّ الشاب يا معاذ» فأدخله عليه فسلم فردّ عليه السلام قال: «ما يبكيك يا شاب؟»

قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً، إن أخذني الله عزّوجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «هل أشركت بالله شيئاً؟».


1 ـ سفينة البحار، المجلد 2، الصفحة 637، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4; وتفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 493.

[125]

قال: أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئاً.

قال: «أقتلت النفس التي حرّم الله؟».

قال: لا.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي».

فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق».

قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيه من الخلق.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي».

قال: فإنّها أعظم من ذلك.

قال: فنظر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: «ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟».

فخّر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الربّ العظيم».

قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟».

قال: بلى، أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت

[126]

منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي... ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فاذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين،... فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبداً فما ترى يا رسول الله.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): تنحى عنّي يا فاسق; إنّي أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار!...

فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّداً فيها، ولبس مسحاً وغل يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول... ثمّ قال: اللّهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك، وإن لم تستجب لي دعائي... فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) (والذين إذا فعلوا فاحشة...)(1).

الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول، و إنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الإنتباه أكثر، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اُخرى: إن مثل أُولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوباً ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضى.

وقد ذكر «الفخر الرازي» أسباباً اُخرى لنزول هذه الآيات إذ قال: إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!(2).

* * *

 


1 ـ بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 24 (طبع بيروت).

2 ـ التّفسير الكبير لفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4 ذيل آيات البحث.

[127]

الآيات

أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنْبِ اللهِ وَإِن كُنْتُ لَمِنَ السَّـخِرِينَ( 56 ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ( 57 ) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ( 58 ) بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكَـفِرِينَ( 59 )

 

التّفسير

الندم لا ينفع في ذلك اليوم:

الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع، ففي البداية تقول: (أن تقول نفس يا حسرتا على مافرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)(1).

«يا حسرتا»: هي في الأصل (يا حسرتي)، (حسرة أضيفت إليها ياء


1 ـ في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذراً أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا) . (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل، (إنّي كنت من الساخرين) .

[128]

المتكلم)، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لا نحساره ممّا لا يمكن استدراكه.

ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل، فلا اطلاق على هذه الموارد.

نعم، فعندما يرد الانسان إلى ساحة المحشر، ويرى بأُمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزواً ولعباً، يصرخ فجأة (واحسرتاه) إذ يمتلىء قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

أما فيما يخصّ معنى (جنب الله) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة»، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم، وهنا (جنب الله)تعني أن الأُمور ترجع إلى جانب الله، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه، وكلها مجموعة في هذا المعنى.

وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.

ثمّ تضيف الآية (أو تقول لو أنّ الله هداني لكنت من المتقين).

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اُخرى (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من

[129]

المحسنين).

وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضاًـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اُخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين.

والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.

حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر.

ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين، عندما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه الباريء عزّوجلّ على عباده المتقين.

ويتوسلون إلى الباريء عزّوجلّ ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد، عندما يرون العذاب الإلهي الأليم.

القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول: (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)(1).

إنّ قولك: لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبر والكفر!


1 ـ رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته،ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان، وقد قال البعض: إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.

[130]

فهل يمكن أن يعاقب الباريء عزّوجلّ أحداً من دون أن يتمّ حجّته عليه؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أُعدّت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟

الجواب: لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم.

وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى الباريء عزّوجلّ كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (28) من سوة الأنعام: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون) والآية (100) من سورة المؤمنون، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوية.

والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضاً، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة، في حين أنّ الباريء عزّوجلّ أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب، إنّما هو نوع من اليقظة الإضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عندمايعودون إلى حالتهم الطبيعية. حقاً إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عندما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فما نجاهم

[131]

إلى البر إذاهم يشركون)(1).

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ التفريط في جنب الله

قلنا: إنّ (جنب الله) التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة، تشمل كلّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وبهذا الشكل فإنّ التفريط في جنب الله يشمل كلّ أنواع التفريط في طاعة أوامر الله، واتباع ما جاء في الكتب السماوية، والتأسي بالأنبياء والأولياء.