![]() |
![]() |
![]() |
المفسّر الإسلامي الكبير العلاّمة «الطبرسي» نقل ذلك في تفسيره (مجمع البيان) عن أهل البيت الأطهار، ونقلها كذلك أبو الفتوح الرازي في تفسير (روح الجنان) عن نفس المصدر السابق. كما نقلت مجموعة من المفسّرين السنة ذلك عن أبي هريرة نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن طرق اُخرى، ومن جملة من نقله
العلاّمة ابن المغازلي في (المناقب) و (العلاّمة الگنجي) في (كفاية الطالب) والقرطبي في تفسيره والعلاّمة السيوطي في (الدر المنثور) وكذلك (الآلوسي) في (روح المعاني)(1).
ومثلما أشرنا من قبل فإنّ نقل مثل هذه التفاسير هو بيان أوضح المصاديق، ومن دون أيّ شكّ فإنّ الإمام عليّ(عليه السلام) يقف في مقدمة الصفّ الأوّل لأتباع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصدّقين به، وإنّه هو أول من صدّق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يوجد أحد من العلماء من ينكر هذه الحقيقة.
والإعتراض الوحيد الذي صدر عن بعض المفسّرين هو أنّ الإمام علي(عليه السلام)آمن بالرّسول وكان عمره ما بين (10) إلى (12) عاماً، وأنّه لم يكن مكلّفاً في هذا السّن ولم يبلغ بعد سنّ الحلم.
هذا الكلام عجيب جدّاً، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا الإعتراض صحيحاً، في الوقت الذي قبل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إسلام علي(عليه السلام)، وقال له بأنّه (وزيره) و (وصيه) وأكّد مراراً وتكراراً في كلماته على أنّ علياً هو (أول المؤمنين) أو (أوّلكم إسلاماً) وقد أوردنا في نهاية الآية (10) من سورة التوبة أدلة متعددة من كتب علماء أهل السنة وبصورة مفصلة.
* * *
1 ـ لمن يرغب الإطلاع أكثر عليه مراجعة كتاب إحقاق الحق، المجلد الثّالث ، الصحفة 177 فما بعد، و كتاب المراجعات، الصفحة 64 (المراجعة 12).
أَلَيْسَ اللهُ بِكَاف عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُظْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد( 36 ) وَ مَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيز ذِى انْتِقَام( 37 )
الكثير من المفسّرين قالوا: إنّ مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من آلهتهم ويحذرونه من غضبها على أثر وصفه تلك الأوثان بأوصاف مزرية، ويوعدونه بأنّه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى، وللرد على كلامهم نزلت الآية المذكورة أعلاه(1).
والبعض قال: عندما عزم خالد على كسر العزى بأمر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال المشركون: إياك يا خالد فبأسها شديد. فضرب خالد أنفها بالفأس وهشمها وقال: كفرانك يا عزى لا سبحانك، سبحان من أهانك، إنّي رأيت الله قد أهانك(2).
ولكن قصة خالد هذه التي كانت بعد فتح مكّة كما يبدو، لا يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية لأنّ كلّ سورة الزمر (مكية) ولهذا لعلها من قبيل التطابق.
1 ـ تفسير الكشاف ومجمع البيان وأبو الفتوح الرازي وفي ظلال مع اختلافات جزئية.
2 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث (هذه الرواية وردت أيضأ في الكشاف والقرطبي و بصورة مختصرة).
تتمة لتهديدات الباريء عزّو جلّ التي وردت في الآيات السابقة للمشركين، والوعد التي لأنبيائه، تتطرق الآية الأولى في بحثنا لتهديد الكفّار (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه).
إن قدرة الباريء عزّوجلّ أقوى وأعظم من كلّ القدرات الأُخرى، وهو الذي يعلم بكلّ احتياجات ومشكلات عباده، والذي هو رحيم بهم غاية الرحمة واللطف، كيف يترك عباده المؤمنين لوحدهم أمام أعاصير الحوادث وعدوان بعض الأعداء؟
ومع أن سبب نزول هذه الآية ـ طبقاً لما جاء في الرّوايات التي ذكرناهاـ هو للرد على التخويف والتهديد بغضب الأصنام، لكن معنى الآية أوسع، ويتّسع لكلّ تهديد يهدد به الإنسان بما هو دون الله.
على أية حال، فإنّ في هذه الآية بشرى لكلّ السائرين في طريق الحقّ والمؤمنين الحقيقيين، خاصّة أُولئك الذين يعيشون أقلية في بعض المجتمعات، والمحاطين بمختلف أشكال التهديد من كلّ جانب.
الآية تعطيهم الأمل والثبات، وتملأ أرواحهم بالنشاط وتجعل خطواتهم ثابتة، وتمحو الآثار النفسية لصدمات تهديدات الأعداء، نعم فعندما يكون الله معنا فلا نخاف غيره، وإن انفصلنا وابتعدنا عنه فسيكون كلّ شيء بالنسبة لنا رهيباً ومخيفاً.
وكتتمة للآية السابقة والآية التالية اشارة إلى مسألة (الهداية) و (الضلالة) وتقسم الناس إلى قسمين: (ضالين) و (مهتدين) وكل هذا من الله سبحانه وتعالى، كي تبيّن أنّ جميع العباد محتاجون لرحمته، ومن دون إرادته لا يحدث شيء في هذا العالم، قال تعالى: (ومن يظلل الله فما له من هاد).
(ومن يهد الله فما له من مضل).
ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إن كلّ حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحقّ، ولايترك أدنى فرصة تتاح له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أنّ الله سيضله، ولا يكتفي بعدم توفيقه وحسب، وإنّما يعطّل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه الأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها.
أمّا الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون الخطوات الأولى في هذا المسير، فإنّ نور الهداية الإلهية يشعّ لينير لهم الطريق، وتهبّ ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلاّت.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن المجيد كشاهد على تلك القضايا، وما أشدّ جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهداً على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنّهم لا يعلمون أن آيات القرآن تفسّر إحداها الأُخرى. بل إن القرآن الكريم بقول في نهاية هذه الآية: (أليس الله بعزيز ذي انتقام)وهو خير شاهد على هذا المعنى.
وكما هو معروف فإنّ الإنتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع الجزاء وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان(1).
* * *
1 ـ يقول الراغب في مفرداته: كلمة (نقمة) تعني العقوبة و الجزاء.
«الهداية»: في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقّة(1)، وتنقسم إلى قسمين (بيان الطريق)، و (الإيصال إلى المطلوب) وبعبارة اُخرى (هداية تشريعية) و (هداية تكوينية)(2).
ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإنسان يصف أحياناً الطريق للسائل بدقّة ولطف وعناية ويترك السائل معتمداً على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد المطلوب. وأحياناً اُخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثمّ يمسك بيده ليوصله إلى المكان المقصود.
وبعبارة اُخرى: الشخص المجيب في الحالة الأولى يوضّح القانون وشرائط سلوك الطريق للشخص السائل كي يعتمد الأخير على نفسه في الموصول إلى المقصد والهدف، أمّا في الحالة الثانية، فإضافة إلى ما جاء في الحالة الأولى، فإنّ الشخص المجيب يهيء مستلزمات السفر، ويزيل الموانع الموجود، ويحلّ المشكلات، إضافة إلى أنّه يرافق الشخص السائل في سلوك الطريق حتّى الوصول إلى مقصده النهائي لحمايته والحفاظ عليه.
و (الإضلال) هو النقطة المقابلة لـ (الهداية).
فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتضح لنا ـ بصورة جيدة ـ أنّ القرآن يعتبر أنّ الظلالة والهداية من الله، أي أن الاثنين ينسبان إلى الله، ولو أردنا أن نعدد كل الآيات التي تتحدث بهذا الخصوص، لطال الحديث كثيراً، ولكن نكتفي بذكر ما جاء في الآية (213) من سورة البقرة: (والله يهدي من يشاء إلى صراط
1 ـ «مفردات» مادة (هدى).
2 ـ نلفت الإنتباه إلى أن الهداية التكوينية هنا قد استخدمت بمعناها الواسع، حيث تشمل كلّ أشكال الهداية عدا الهداية التي تأتي عن طريق بيان الشرائع و التوجيه إلى الطريق.
مستقيم)وفي الآية (93) من سورة النحل: (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء). وأمثال هذه الإيات ـ الخاصة بالهداية أو الضلال أو أحدهماـ ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد(1).
وأكثر من هذا، فقد جاء في بعض الآيات نفي قدرة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) على الهداية وتحديد القدرة على الهداية بالله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). وفي الآية (272) من سورة البقرة: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).
الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدى الى زيغ البعض خلال تفسيرهم لها وانحرافهم عن طريق الهداية ووقوعهم في فخاخ المذهب الجبري، حتّى أنّ بعض المفسّرين المعروفين لم ينجوا من هذا الخطأ الكبير، حيث اعتبروا الضلالة والهداية وفي كلّ مراحلها أمراً جبرياً، والأدهى من ذلك أنّهم أنكروا أصل العدالة كي لا ينتقض رأيهم، لأنّ هناك تناقضاً واضحاً بين عقيدتهم وبين مسألة العدالة والحكمة الإلهية، فاذا كنا أساساً نقول بالجبر، فلا يبقى هناك داع للتكليف والمسؤولية وإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.
أمّا المعتقدون بمذهب الإختيار وأن الإنسان مخير في هذه الدنيا ـ وأن العقل السليم لا يقبل مطلقاً بأن الله سبحانه وتعالى يجبر مجموعة من الناس على سلوك سبيل الضلال ثمّ يعاقبهم على عملهم ذلك، أو أنّه يهدي مجموعة اُخرى إجبارياً ثم يمنحها ـ من دون أي سبب ـ المكافأة و الثواب، و يفضلها على الآخرين لأدائها عملا كانت قد أجبرت على القيام به ـ
فهؤلاء انتخبوا لإنفسهم تفاسير اُخرى لهذه الآيات، كان أهمها:
1 ـ إنّ المراد من الهداية الإلهية هي الهداية التشريعية التي تأتي عن طريق
1 ـ و منها ما ورد في السور والآيات التالية (فاطر ـ8) و (الزمر ـ 23) و (المدثرـ 31) و (البقرة ـ 272)و (الأنعام ـ 88) و (يونس ـ 25) و (الرعد ـ 27) و (إبراهيم ـ 4).
الوحي والكتب السماوية وإرسال الأنبياء والأوصياء، إضافة إلى إدراك العقل والشعور، أمّا انتهاج السبيل فهو في عهدة الإنسان في كافة مراحل حياته. وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يتطابق مع الكثير من الآيات القرآنية التي تتناول موضوع الهداية، ولكن هناك آيات كثيرة اُخرى لا يمكن تطابقها مع هذا التّفسير، لأنّ فيها نوعاً من الصراحة فيما يخص (الهداية التكوينية) و (الإيصال إلى الهدف) كماورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). في حين أنّنا نعرف أنّ الهداية التشريعية والتوجيه نحو الطريق الصحيح، هي الواجب الرئيسي للأنبياء.
2 ـ مجموعة اُخرى من المفسّرين فسّروا الهداية والضلال اللذين لهما هنا طابع تكويني على أنّهما الثواب والعقاب، والإرشاد إلى طريق الجنّة والنّار، وقالوا بأن الباريء عزّوجلّ يهدي المؤمنين إلى طريق الجنّة، ويضل عنها الكافرين.
إن هذا المعنى صحيح بالنسبة لعدّة آيات فقط، ولكنّه لا يتطابق مع آيات اُخرى تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة.
3 ـ مجموعة ثالثة قالت: إنّ المراد من الهداية هو تهيئة الأسباب والمقدمات التي توصل إلى الغرض المطلوب، والمراد من الضلالة هو عدم توفير تلك الأسباب و المقدمات أو حجبها عنهم، والتي عبّر عنها البعض بـ (التوفيق) و (سلب التوفيق) لأنّ التوفيق يعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الهدف، وسلب التوفيق يعني عدم تهيئة تلك المقدمات.
ووفقاً لهذا فإنّ الهداية الإلهية لا تعني أنّ الباريء عزّوجلّ يجبر الإنسان على الوصول إلى الهدف، وإنّما يضع الوسائل المطلوبة للوصول تحت تصرفهم واختيارهم، وعلى سبيل المثال، وجود مربّ جيد، بيئة سالمة للتربية، أصدقاء وجلساء صالحين، وأمثالها، كلها من المقدمات، ورغم وجود هذه الأُمور فإنّه لا يجبر الإنسان على سلوك سبيل الهداية.
وثمّة سؤال يبقى مطروحاً، وهو: لماذا يشمل التوفيق مجموعة دون اُخرى؟
المنحازون لهذا التّفسير عليهم أن ينتبهوا إلى حكمة أفعال الباريء عزّوجلّ ويعطوا دلائل لهذا الإختلاف، فمثلا يقولون: إنّ عمل الخير هو سبب التوفيق الإلهي، وتنفيذ الأعمال الشريرة تسلب التوفيق من الإنسان.
وعلى أيّة حال فإنّ هذا التّفسير جيد ولكن الموضوع ما زال أعمق من هذا.
4 ـ إنّ أدق تفسير يتناسب مع كلّ آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعاً بصورة جيدة من دون أن يتعارض أدنى تعارض مع المعنى الظاهري، وهو أنّ الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامّة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (3) من سورة الدهر: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفوراً) وفي الآية (51) من سورة آل عمران: (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم) ومن البديهي أن دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة الله تعالى. لأن كلّ ما عند النّبي هو من الله.
وبالنسبة الى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من سورة النجم: (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى).
أمّا الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كلّ منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كلّ الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي أي الهداية التكوينية ـ موضع بحث الكثير من آيات القرآن الأُخرى التي لا يمكن تقييدها بأية شروط، فالهداية هذه تخصّ مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أمّا الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنه يخص مجموعة اُخرى ذكرت أوصافهم أيضاً في القرآن الكريم.
ورغم وجود بعض الآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة، إلا أن هناك الكثير من الآيات الأُخرى التي تبيّن ـ بدقة ـ محدوديتهما، وعندما
تضع الآيات (المطلقة) إلى جانب (المحدودة) يتّضح المعنى بصورة كاملة، ولا يبقى أي غموض أو إبهام في معنى الآيات، كما أنّها ـ أي الآيات ـ تؤّكد بشدة على مسألة الإختيار وحرية الإرادة عند الإنسان ولا تتعارض معهما.
الآن يجب الإنتباه إلى التوضيح التالي:
القرآن المجيد يقول في إحدى آياته: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) وفي مكان آخر يقول الباريء عزّوجلّ: (واللّه لا يهدي القوم الظالمين)(1) وهذا يبيّن أن الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتّضح أن الفسق، أي عدم إطاعة أوامر الباريء تعالى وهو مصدر الضلال.
وفي موضع آخر نقرأ: (والله لا يهدي القوم الكافرين)(2)، وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهيء أرضية الضلال.
وقد ورد في آية اُخرى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)(3) يعني أنّ الكذب والكفر هما مقدمة الضلال.
والآية التالية تقول: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)(4) أي أن الإسراف والكذب يسببان الضلالة.
وبالطبع، فإنّ ما أوردناه كان جزءاً يسيراً من آيات القرآن التي تتناول هذا الموضوع، فبعض الآيات وردت مرات عديدة في سور القرآن المختلفة وهي تحمل المعاني والمفاهيم.
إن ما يمكن استنتاجه هو أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الضلالة الإلهية تشمل كلّ من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب). (الإسراف) فهل أن الضلالة غير لائقة بمن تتوفر فيه مثل هذه الصفات!
1 ـ البقرة، 258.
2 ـ البقرة، 264.
3 ـ الزمر، 3.
4 ـ غافر، 28.
وبعبارة اُخرى: هل ينجو قلب من يتصف بتلك الصفات القبيحة، من الغرق في الظلمات والحجب؟!
وبعبارة اُخرى أوضح: أنّ لهذه الأعمال والصفات آثاراً تلاحق الإنسان شاء أم أبى، إذ ترمي بستائرها على عينيه وأذنيه وعقله، وتؤدي به إلى الضلال، ولكون خصوصيات كلّ الأشياء وتأثيرات كلّ الأسباب إنّما هي بأمر من الله، ومن الممكن أيضاً أن ينسب الإضلال إليه سبحانه وتعالى في جميع هذه الموارد، وهذه النسبة هي أساس اختيار الإنسان وحرية إرادته.
هذا فيما يتعلق بالضلالة، أمّا فيما يخص الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبيّن أنّ الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية.
وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقاً للهداية ومحاطاً باللطف الإلهي، منها: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الاسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(1).
إذن فإتباع أمر الله، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.
وفي مكان آخر نقرأ: (إن الله يضل من يشاء ويهدي الله من أناب)(2) إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقاً للهداية.
وفي آية اُخرى ورد: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(3) فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل الله) هو من الشروط الرئيسية للهداية.
وأخيراً نقرأ في آية اُخرى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)(4) أي أن قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للإستمرار فيه بلطف الباريء عزّوجلّ.
1 ـ المائدة، الآية 16.
2 ـ الرعد، الآية 27.
3 ـ العنكبوت، الآية 69.
4 ـ محمّد، الآية 17.
نستنتج من ذلك أنّه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر الله، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإن اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك الباريء بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب.
فهل أنّ شمول هؤلاء الذين يتحلون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنّه دليل على هدايتهم بالإجبار؟
من الملاحظ أنّ آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدّاً ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الإبتلاء و (لأنّهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في طيق الخيال).
إذن يجب القول بأنّهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).
على أية حال، فإنّ المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثاً ومن دون أي حكمة، وإنّما تتمّ بشرائط خاصّة، بحيث تبيّن تطابق حكمة الباريء عزّوجلّ مع ذلك الأمر.
يعتبر الإنسان كالقشة الضعيفة في مهب الرياح العاتية التي تهب هنا وهناك في كلّ لحظة من الزمان، ويمكن أن تتعلق هذه القشة بورقة أو غصن مكسور تأخذه الرياح أيضاً مع تلك القشة الضعيفة، وترميهما جانباً، وحتى إذا تمكنت يد الإنسان من الإمساك بشجرة كبيرة فإنّ الأعاصير والرياح العاتية تقتلع أحياناً تلك الشجرة من جذورها، أمّا إذا لجأ الإنسان إلى جبل عظيم فإن أعتى الأعاصير لا تتمكن من أن تزحزح ذلك الجبل ولو بمقدار رأس إبرة من مكانه.
الايمان بالله بمثابة هذا الجبل والإعتماد والإتكال على غير الله بمثابة الاعتماد على الأشياء الواهية، ولهذا السبب يقول الباريء عزّوجلّ في الآيات
المذكورة أعلاه: (أليس الله بكاف عبده)الإعتقاد والإيمان بما جاء في هذه الآية يضيف للإنسان شجاعة واعتماداً على النفس، وتطمئن خواطره وتهدئها، كي يصمد ويثبت أمام الحوادث كالجبل، ولا يخاف حشود الأعداء، ولا يستوحش من قلّة عدد أتباعه أو أصحابه،، ولا تعبث المشاكل الصعبة بروحه الهادئة المستقرة، وقد ورد في الحديث «المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف»
* * *
وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَ الاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَدَنِى اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـشِفَـتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ( 38 ) قُلْ يَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّىِ عَـمِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ( 39 ) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيْهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ( 40 )
الآيات السابقة تحدثت عن العقائد المنحرفة للمشركين والعواقب الوخيمة التي حلّت بهم، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض دلائل التوحيد كي تكمل البحث السابق بالأدلة، كما تحدثت الآيات السابقة عن دعم الباريء عزّوجلّ لعباده وكفاية هذا الدعم، والايات أعلاه تتابع هذه المسألة مع ذكر الدليل.
في البداية تقول الآية: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله).
العقل والوجدان لايقبلان أن يكون هذا العالم الكبير الواسع بكل هذه العظمة مخلوق من قبل بعض الكائنات الأرضية، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أنّ الأصنام التي لا روح فيها ولا عقل ولا شعور هي التي خلقت هذا العالم، وبهذا الشكل فإنّ القران يحاكم أُولئك إلى عقولهم وشعورهم وفطرتهم، كي يثبّت أول أسس التوحيد في قلوبهم، وهي مسألة خلق السماوات والأرض.
وفي المرحلة التالية تتحدث الآيات عن مسألة الربح والخسارة، وعن مدى تأثيرها على نفع أو ضرر الإنسان، كي تثبت لهم انّ الأصنام لا دور لها في هذا المجال، وتضيف (قل أفرأتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنّ كاشفات ضرّه أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته)(1).
والآن بعد أن اتّضح أنّ الأصنام ليس بإمكانها أن تخلق شيئاً ولا باستطاعتها أن تتدخل في ربح الإنسان وخسارته، إذن فلم نعبدها ونترك الخالق الأصلي لهذا الكون، والذي له اليد الطولى في كلّ ربح و خسارة، ونمد أيدينا إلى هذه الموجودات الجامدة التي لا قيمة لها ولا شعور؟ وحتى إذا كانت الآلهة ممن يمتلك الشعور كالجن أو الملائكة التي تعبد من قبل بعض المشركين، فإنّ مثل هذا الإله ليس بخالق و لايمكنه أن يتدخل في ربح الإنسان و خسارته، وكنتيجة نهائية وشاملة يقول الباريء عزّوجلّ (قل حسبي الله وعليه يتوكل المتوكلون).
آيات القرآن المجيد أكّدت ـ ولعدّة مرات ـ على أنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض(2). وهذا الأمر يبيّن أن الموضوع كان بالنسبة للمشركين من المسلّمات، وهذا أفضل دليل على بطلان الشرك، لأن توحيد خالق الكون والاعتراف بمالكيته وربوبيته أفضل دليل على (توحيد
1 ـ المفسّرون و اللغويون يفسّرون (أفرأيتم) بأنّها تعطي معنى (أخبروني) في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مانع من تفسيرها بمعناها الأصلى و هو رؤية العين أو القلب.
2 ـ العنكبوت (61) و (63)، لقمان (31)، الزخرف(9) و (87).
المعبود) ومن كلّ هذا نخلص إلى أن التوكل لا يكون إلاّ على الله مع صرف النظر عن عبادة غيره.
وإذا أمعنا النظر في المواجهة التي حدثت بين إبراهيم محطم الأصنام والطاغية نمرود الذي ادعى الربوبية والقدرة على إحياء الناس و إماتتهم، و الذي انبهت وتحير في كيفية تنفيذ طلب إبراهيم(عليه السلام) عندما طلب منه أن يجعل الشمس تشرق من المغرب إن كان صادقاً في ادعاءاته، مثل هذه الإدعاءات التي يندر وجودها حتى في أوساط عبدة الأصنام، لا يمكن أن تصدر إلا من أفراد ذوي عقول ضعيفة ومغرورة وبلهاء كعقل نمرود.
والملفت للنظر أنّ الضمير العائد على تلك الآلهة الكاذبة في هذه الآيات، إنّما جاء بصيغة جمع المؤنث (هن ـ كاشفات ـ ممسكات ـ) وذلك يعود لأسباب:
أوّلا: إنّ الأصنام المعروفة عند العرب كانت تسمى بأسماء مؤنثة اللات و مناة والعزى).
ثانياً: يريد الباريء عزّوجلّ بهذا الكلام تجسيد ضعف هذه الآلهة أمامهم، وطبقاً لمعتقداتهم، لأنّهم كانوا يعتقدون بضعف وعجز الإناث.
ثالثاً: لأنّ هناك الكثير من الآلهة لا روح فيها، وصيغة جمع المؤنث تستخدم عادة بالنسبة إلى تلك الموجودات الجامدة، لذا فقد استفيد منها في آيات بحثنا هذا.
كما يجب الإلتفات إلى أنّ عبارة (عليه يتوكل المتوكلون) تعطي معنى الحصر بسبب تقدم كلمة (عليه) وتعني أن المتوكلين يتوكلون عليه فقط.
الآية التالية تخاطب اُولئك الذين لم يستسلموا لمنطق العقل والوجدان بتهديد إلهي مؤثر، إذ تقول: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنّي عامل فسوف تعلمون)(1).
1 ـ ما هو أصل كلمة (مكانة) ؟ و ماذا تعني؟ أغلب المفسّرين و اللغويين قالوا: إنّها تعني المكان و المنزلة، و هي من مادة (كون) ولأنّها تستخدم كثيراً بمعنى المكان لهذا يتصور أنّ الميم فيها أصلية، و لذا أصبح جمع تكسيرها (أمكنة) أما صاحب (لسان العرب)، فقد ذكر أنّ أصلها (مكنة) و(تمكن) و التي تعني القدرة و الإستطاعة. و على أية حال فإنّ مفهوم الآية يكون في الحالة الأولى: ابقوا على مواقفكم، وفي الحالة الثانية: ابذلوا كلّ ما لديكم من جهد و طاقة.
ستعلمون بمن سيحل عذاب الدنيا المخزي والعذاب الخالد في الآخرة (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم).
وبهذا الشكل فإنّ آخر كلام يقال لأُولئك هو: إمّا أن تستسلموا لمنطق العقل و الشعور وتستجيبوا لنداء الوجدان، أو أن تنتظروا عذابين سيحلان بكم، أحدهمافي الدنيا وهو الذي سيخزيكم ويفضحكم، والثّاني في الآخرة وهو عذاب دائمي خالد، وهذا العذاب أنتم اعددتموه لأنفسكم، وأشعلتم النيران في الحطب الذي جمعتموه بأيديكم.
* * *
إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل( 41 ) اللهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَل مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ( 42 ) أَمِ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَعْقِلُونَ( 43 ) قُلْ ِللهِ الشَّفَـعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَ الاَْرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 44 )
بعد ذكر دلائل التوحيد، و بيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الأُولى ـ في هذا البحث ـ حقيقة مفادها أن قبول ما جاء في كتاب الله أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّ عليكم في هذا
![]() |
![]() |
![]() |