ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأئمّة الأطهار هم المقصودون بـ (جنب الله)، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) إذ قال في تفسير: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله): «جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم»(2).

كما نقرأ في تفسير علىّ بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن جنب الله»(3).

والمعنى ذاته ورد في روايات اُخرى لأئمّة أهل البيت الأطهار(عليهم السلام).

وكما قلنا مراراً فإنّ هذه التفاسير إنّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة، لأنّ من المسلّم أنّ اتباع نهج الأئمّة إنّما هو اتباع للرسول وطاعة لله، إذ أنّ الأئمة عليهم السلام لا ينطقون بشيء من عندهم.


1 ـ سورة العنكبوت، الآية 65.

2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، الصحفحة 495.

3 ـ تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة 495.

[132]

وفي حديث آخر تمّ تعريف العلماء غير العالمين بأنّهم مصداق واضح للمتحسرين، حيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقر(عليه السلام)، جاء فيه: «إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثمّ خالفوه، وهو قول الله عزّوجلّ أن تقول نفس يا حسرتا على مافرطت في جنب الله»(1).

 

2 ـ على أعتاب الموت أو القيامة؟

هل أنّ تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عندما شاهدوا العذاب الإلهي في الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم ساحة القيامة؟

المعنى الثّاني أنسب، لأنّ الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة، والشاهد على هذا القول هو الآية (31) من سورة الأنعام التي تقول: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها).

والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.

 

* * *

 


1 ـ المصدر السابق، ص 496.

[133]

الآيات

وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْمُتَكَبِّرِينَ( 60 ) وَ يُنَجِّى اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( 61 ) اللهُ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ( 62 ) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـتِ اللهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُون( 63 ) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـهِلُونَ( 64 )

 

التّفسير

الله خالق كلّ شيء وحافظه:

الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر، إذ تقول: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة).

ثم تضيف (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين).

لا شكّ أن عبارة (كذبوا على الله) لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة، لكن

[134]

الآية ـ هناـ تستهدف أُولئك الذين قالوا بوجود شريك لله، أو باتخاذ الله ولداً من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيح(عليه السلام) هو ابن الله، وأمثال هذه المزاعم والإدعاءات.

و كلمة «مستكبر» تطلق دائماً على أُولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير، ولكن المراد منها ـ هناـ أُولئك الذين يستكبرون على الأنبياء، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة، ويرفضون قبولها واتباعها.

اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضاً، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة.

وبعبارة اُخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة، ولون الوجه يكون بلون القلب، فالذي قلبه أسود ومظلم، يكون وجهه مظلماً وأسود، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعاً بالنور.

وهو ما ورد في الآيتين (106) و (107) من سورة آل عمران (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأمّا الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين إبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).

والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيت عليهم السلام، أن الكذب على الله، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذباً، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما أجاب الإمام على سؤال

[135]

يتعلق بتفسير هذه الآية، وقال: «من زعم أنّه إمام وليس بإمام، قيل: و إن كان علوياً فاطمياً؟ قال: و إن كان علوياً فاطمياً»(1).

وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز، لأنّ الإدعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.

وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى الإمام المعصوم حديثاً مختلقاً، اعتبر كاذباً على الله، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى.

لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوماً فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة...)(2).

الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار، لم يقولوا شيئاً من عندهم، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة، لأنّها تعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الحقيقة مهمّة جداً، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيت عليهم السلام، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، إنّما هي منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام):

«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ»(3).


1 ـ الإعتقادات الإمامية، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث).

2 ـ مجمع البيان ذيل آية البحث.

3 ـ أصول الكافي، المجلد 1، صفحة 51 (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث 14.

[136]

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان (أبى واستكبر وكان من الكافرين)(1). و لهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها، وقد ورد في حديث لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر، شكى إلى الله عزّوجلّ شدة حرّه، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فاحرق جهنم»(2).

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة، إذ تقول: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم)(3).

ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني،(لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).

نعم، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّاً ـ كلّ الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك، وتواصل مجادلة المشركين، حيث تقول: (الله خالق كلّ شيء وهو على كل شيء وكيل).

العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون، كما ورد


1 ـ البقرة، 34.

2 ـ تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث.

3 ـ «مفازة»: مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر، و(الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببة، و بالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالاخلاص والفلاح، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ .

[137]

في الآية (38) من السورة هذه (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله).

ولكنّهم ابتلوا بالإنحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية)، ففي بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أُمور الكون وحفظه هي بيد خالقه، وليس بيد أحد آخر، ولهذا يجب اللجوء إليه دائماً.

وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها: الكفيل، والحافظ، والمدبر للأمر.

ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أو شر، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان.

وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة (الله خالق كلّ شيء) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة، إذ قالوا: إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضاً، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها.

إنّ خطأ أُولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيداً، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.

فأعمالنا تتعلق بالله، وتتعلق بنا أيضاً، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة الباريء عزّوجلّ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه، حيث أنّه أراد أن نكون

[138]

أحراراً وننفذ الأعمال بأختيارنا، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا.

لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.

فإذا قال أحد: إنّ الإنسان يخلق أعماله، ولا دخل لله عزّوجلّ فيها، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين، خالق كبير وخالق صغير، وإذا قال آخر: إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها، فقد انحرف، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال، ثمّ يحمّلنا مسؤوليتها! لأنّ في هذه الحالة، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثاً.

لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض، لأنّها طولية وليست عرضية.

أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة، إذ تقول: (له مقاليد السماوات و الأرض).

«مقاليد»: كما يقول أغلب اللغوين، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف: إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني المفتاح، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى، ولذا فإن (مقاليد السماوات والأرض) تعني مفاتيح السماوات والأرض.

هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد: مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني.

[139]

ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج (والذين كفروا بآيات الله أُولئك هم الخاسرون).

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماماً عن تقديم أدنى عمل لهم.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه طلب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي، لقد سئلت عن عظيم المقاليد، هو أن تقول عشراً إذا أصبحت، وعشراً اذا أمسيت، لا إله الاّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي و يميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير»(1).

ثم أضاف: «من قالها عشراً إذا أصبح، وعشراً إذا أمسى، أعطاه الله خصالا ستاً... أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان».

أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتماًـ لا يستحق كل، هذه المكافآت، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.

هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني.

من مجموع كلّ الأُمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد، يمكن الحصول على نتيجة جيدة، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام، ولهذا فإن


1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5719، وتفسير أبو الفتوح الرازي، المجلد 9، الصفحة 417 ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث).

[140]

البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة (قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيّها الجاهلون).

هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحياناً يدعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احترام آلهتهم وعبادتها، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن عبادتها، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والإستسلام أبداً، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة، لأنّهم لا يجهلون فقط الباريء عزّوجلّ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.

إنّ التعبير بـ «تأمروني»، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.

أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبادة الباريء عزّوجلّ رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها.

* * *

 

[141]

الآيات

وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ( 65 ) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّـكِرِينَ( 66 ) وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَالسَّـمَوتُ مَطْوِيَّـتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( 67 )

 

التّفسير

الشرك محبط للاعمال:

آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً.

الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول:

(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).

وبهذا الترتيب، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين ـ على فرض المحال ـ

[142]

النتيجة الأولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره وشركه بالله، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد.

فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.

والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.

والشرك هو عاصفة هوجاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها، كما ورد في الآية (18) من سورة إبراهيم (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد إشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد).

لذا ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب و يؤمر به إلى النّار»(1).

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟

الجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم، إلاّ أنّ علمهم الغزير وإرتباطهم المباشر والمستمر مع الباريء عزّوجلّ يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك، فهل يمكن أن ينتاول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة، وهو في حالة طبيعية؟!

الهدف هو إطلاع الجميع على خطر الشرك، فعندما يخاطب الباريء عزّوجلّ


1 ـ نور الثقلين، المجلد 49، الصفحة 497.

[143]

أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة، فعلى الأمة أن تحسب حسابها، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون، إذ قال: يابن رسول الله أليس من قولك أن الإنبياء معصومون؟ قال (عليه السلام): «بلى» قال: فما معنى قول الله إلى أن قال: فأخبرني عن قول الله: (عفى الله عنك لم أذنت لهم).

قال الرضا(عليه السلام): «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته» وكذلك قوله: (لئن اشركت ليحبطن عملك ... ) وقوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا) قال: صدقت يابن رسول الله(1).

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)(2).

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد، ثمّ تأمر الآية بالشكر، لأن الشكر على النعم التي أُغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله، ونفي كلّ أشكال الشرك، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد، وينكشف بطلان عبادة الاصنام التي لا تهب للانسان آية نعمة .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: (وما قدروا الله حق قدره). ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للاوثان!!


1 ـ المصدر السابق.

2 ـ (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل، وقال البعض: إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابداً فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط، وقدم المفعول مكانه .

[144]

نعم، فمصدر الشرك هو عدم معرفة الباريء عزّوجلّ بصورة صحيحة، فالذي يعلم:

أوّلا: أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانياً: أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثاً: أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل، وأنّ الأرزاق بيده، وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله.

وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباريء عزّوجلّ، إذ يقول كلام الله المجيد: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه).

«القبضة»: الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الإصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

«مطويات»: من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شيء ما.

والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (104) من سورة الأنبياء (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب).

فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر.

[145]

خلاصة الكلام، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟

الجواب: إنّ قدرة الباريء عزّوجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أُولئك سينقذونه يوم القيامة، كما فعل المسيحيون، إذ أنّهم يعبدون عيسى(عليه السلام)متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة، وطبقاً لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة الباريء عزّوجلّ في يوم القيامة.

ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم الباريء عزّوجلّ من خلالها، إلاّ إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّاً، حيث نفتقد ألفاظاً تبيّن مقام عظمة الباريء عزّوجلّ بصورة واضحة، إذن فيجب الإستفادة بأقصى مايمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.

على أية حال، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً، يعطي الباريء عزّوجلّ في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية، إذ يقول: (سبحانه وتعالى عما يشركون).

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

[146]

ملاحظتان

1 ـ مسألة إحباط الأعمال

هل يمكن حقّاً أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة يرتكبها؟ وهل أنّ هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة الباريء عزّوجلّ من جهة، ومع ظواهر الآيات التي تقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)؟.

البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الادلة العقلية أو النقلية، وقد أوردنا جزءاً منه في ذيل الآية (217) من سورة البقرة، وسندكره في نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة ان شاء الله.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا هو: إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط الأعمال) بسبب المعاصي، فإنّه لا ينبغي أن يشكّ أبداً في تأثير الشرك على إحباط الأعمال، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفاً ـ تقول وبصراحة (إنّ الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال، وبدونها لا يقبل من الإنسان أي عمل.

فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد، ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة، فإن تلك البذور سوف لن تنبت أبداً.

 

2 ـ هل عرف المؤمنون الله؟

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ أنّهم لو عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور

[147]

لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يقول فيه: «ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك».