أمّا الآية التي نتحدث عنها الآن فهي تتحدث عن العقاب الأخروي، وأوصافهم في النّار ذات السعير.

من الضروري أن نشير أيضاً إلى أنّ «يجادلون» فعل مضارع يدل على

[319]

الإستمرار. وهذه إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين يكذبون بآيات الله لتبرير عقائدهم وأعمالهم السيئة المشينة، إنّما يقومون بالمجادلة بشكل مستمر من خلال الأقوال والذرائع الواهية.

وتنتهي الآية بتهديد من خلال قوله تعالى: (فسوف يعلمون)أي سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وعاقبة أعمالهم السيئة وذلك في وقت (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم) أيّ يلقي بهم في الماء المغلي ثمّ (في النّار يسجرون)(1).

«يسجرون» من كلمة «سجر» على وزن «فجر» وتعني إشعال النّار وزيادة لهيبها ـ كما ذهب إليه الراغب في مفرداته ـ.

أمّا الآخرون من أرباب اللغة والتّفسير فيقولون: إنها تعني ملء التنور بالنار(2).

لذلك يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذه المجموعة من الكفّآر تصبح وقوداً للنار، كما نقرأ ذلك في الآية (24) من سورة البقرة: (فاتقوا النّار التي وقودها النّاس والحجارة).

البعض الآخر يقول: إنّ معنى الآية هو أنّ هؤلاء ستملأ النّار كلّ وجودهم وتستوعب كامل كيانهم. (طبعاً ليس ثمّة تعارض بين المعنيين).

هذا النوع من العقاب للمعاندين والمتكبرين والمجادلين يعتبر في الواقع انعكاس لأعمالهم في هذه الدنيا، حيث كذّبوا بآيات الله بسبب كبريائهم


1 ـ «الاغلال» جمع «غل» وتعني الطوق حول العنق أو الرجل. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «غلل» على وزن «أجل» بمعنى الماء الذي يجري بين الأشجار. ويطلق على «الخيانة» (غلول) وعلى الحرارة الناشئة من العطش «غليل» وذلك بسبب نفوذها تدريجياً إلى داخل أعماق الإنسان.

«السلاسل» فهي جمع «سلسلة، و «يسحبون» من كلمة «سحب» على وزن (سهو).

2 ـ يلاحظ ذلك في «تفسير الصافي» و«روح المعاني» و«الكشاف» في نهاية الآيات التي نبحثها. وفي لسان العرب: المعنى الأصلي لـ«سجر» هوالملء. فيقال «سجرت النهر» أي ملأته ماءً.

[320]

وغرورهم، وقيدوا أنفسهم بسلاسل التقليد الأعمى، وفي يوم الجزاء والقيامة ستطوقهم السلاسل من الأعناق بمنتهى الذلّة، وسيسحبون أذلاء إلى نار جهنم وبئس المصير.

إضافة إلى هذا العذاب الجسماني سيعاقبون بمجموعة من أنواع العذاب الروحي والنفسي كما تشير إليه الآية التالية، حيث يقول تعالى: (ثم قيل لهم أينما كنتم تشركون من دون الله)؟!

أي أين شركاؤكم من دون الله كي ينقذوكم من هذا العذاب الأليم وأمواج النّار المتلاطمة؟ ألم تقولوا: إنّكم تعبدونهم وتطيعونهم و تتخذونهم أرباباً ليشفعوا لكم، إذاً أين شفاعتهم الآن؟!

فيجيبون بخضوع يغشاهم وذل يعلوهم: (قالوا ضلوا عنّا)(1) أيّ اختفوا وهلكوا وأبيدوا بحيث لم يبق منهم أثر.

ولا ريب، فإنّ من كانوا يدعونه من دون الله هم في نار جهنم، وقد يكونون بجانبهم، إلاّ أنّهم لا ينفعون ولا يؤثرون وكأنّهم قد اختلفوا!

وعندما يرى هؤلاء أنّ اعترافهم بعبادة الأصنام أصبح عاراً عليهم وعلامةً تميزهم، فإنّهم يبدأون بالإنكار فيقولون: (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً).

لقد كانت الأصنام مجرّد أوهام، لكنّا كنّا نظن أنّها تمثل حقائق ثابتة، لكنّها أصبحت كالسراب الذي يتصوره العطشان ماء. أمّا اليوم فقد ثبت لنا أنّها لم تكن سوى أسماء من غير مسمى وألفاظ ليس لها معنى، وأنّ عبادتها لم تنفعنا بشيء سوى الضلال. لذلك فهؤلاء اليوم بمواجهة الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره.

هناك احتمال آخر في تفسير الآية، هو أنّهم سيكذبون لينقذوا أنفسهم من الفضيحة، كما نقرأ ذلك في الآيتين (23) و(24) من سورة الأنعام: (ثم لم تكن


1 ـ لقد ذكر المفسّرون معنيين لكلمة «ضلّوا» فالبعض اعتبرها بمعنى ضاعوا وهلكوا، بينما قال البعض الآخر: إنّها بمعنى «غابوا» كقولنا «ضلت الدابة» أيّ غابت فلم يعرف مكانها.

[321]

فتنتهم إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون).

وأخيراً يقول تعالى: (كذلك يضل الله الكافرين).

إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجاباً على قلوبهم وعقولهم، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل، فيحرمون يوم القيامة من الجنّة وينتهي مصيرهم إلى النّار. وهكذا يضل الله الكافرين.

الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة، حيث يقول تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون).

كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين، وكانوا يشعرون بالعظمة عند ارتكاب الذنوب وركوب المعاصي. واليوم عليهم أن يتحملوا ضريبة كلّ ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير.

«تفرحون» من «فرح» وتعني السرور والإبتهاج. وقد يكون الفرح ممدوحاً ومطلوباً في بعض الأحيان، كما تفيد الآيتان (4) و(5) من سورة «الروم» في قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله).

وفي بعض الأحيان يكون الفرح مذموماً وباطلا، كما ورد في قصة قارون، الآية (76) من سورة «القصص» حيث نقرأ قوله تعالى: (إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحب الفرحين).

طبعاً ينبغي التفريق بين الموردين من خلال القرائن، ولا ريب من أن «الفرح» في الآية التي نبحثها من النوع الثّاني.

«تمرحون» مشتقّة من «مرح» على وزن «فرح» وهي كما يقول اللغويون والمفسرون، تأتي بمعنى شدة الفرح، وقال آخرون: إنّها تعني الفرح بسبب بعض القضايا الباطلة.

[322]

في حين ذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبارها حالة من الفرح المتزامن مع نوع من الطرب والإستفادة من النعم الإلهية في طريق الباطل.

والظاهر أنّ هذه المعاني جميعاً تعود إلى موضوع واحد، ذلك أنّ شدّة الفرح والإفراط فيه يشمل جميع المواضيع والحالات السابقة. وفي نفس الوقت فهو يتزامن مع أنواع الذنوب والآثام والفساد والشهوة(1).

إنّ هذه الأفراح المتزامنة مع الغرور والغفلة والشهوة، تبعد الإنسان بسرعة عن الله تبارك وتعالى وتمنعه من إدراك الحقيقة، فتكون الحقائق لديه غامضة والمقاييس معكوسة.

ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).

هذه الآية تؤّكد مرّة اُخرى على أنّ التكبر هو أساس المصائب، ذلك أنّ التكبر هو قاعدة الفساد، ويحجب البصائر عن رؤية الحق ويجعل الإنسان يخالف دعوة الأنبياء(عليهم السلام).

ثم تشير الآية إلى أبواب جهنّم بقوله تعالى: (أبواب جهنّم).

ولكن هل الدخول من أبواب جهنّم يعني أن لكل مجموعة باب معين تدخل منه، أو أنّ كلّ مجموعة منهم تدخل من أبواب متعدّدة؟

أي أنّ جهنّم تشبه السجون المخيفة التي تتداخل فيها الأبواب والدهاليز والممرات والطبقات، فبعض الضالين المعاندين يجب أن يسلكوا كلّ هذه الأبواب والممرات والطبقات قبل أن يستقروا في قعر جهنّم.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما يروى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه أجاب عن سؤال في تفسير قوله تعالى: (لها سبعة أبواب بكل باب


1 ـ يقول الراغب في المفردات: «الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية. والمرح شدّة الفرح و التوسع فيه».

[323]

منهم جزء مقسوم) :(1) أنّه قال: إنّ جهنّم لها سبعة أبواب، أطباق بعضها فوق بعض، ووضع إحدى يديه على الأُخرى، فقال هكذا»(2).

وثمّة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي: إنّ أبواب جهنم ـ كأبواب الجنّة ـ إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى دخولها، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر باباً.

وثمّة ما يشير الى ذلك في الروايات الإسلامية، ووفق هذا المعنى فإنّ العدد(7) هو كناية عن الكثرة، وما ورد في القرآن الكريم من أنّ للجنّة ثمانية أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب (راجع ذيل الآية 44 سورة الحجر).

وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.

* * *

 


1 ـ الحجر، الآية 44.

2 ـ مجمع البيان، المجلد 5 ـ 6، صفحة 338، نهاية الآية 44 من سورة الحجر. هناك روايات اُخرى ذكرها العلاّمة المجلسي في المجلد 8، من بحار الأنوار، صفحة 289 و301 و285.

[324]

الآيتان

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ( 77 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُول أَنْ يَأْتِىَ بِآيَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ( 78 )

 

التّفسير

فاصبر... حتى يأتيك وعد الله:

بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وتأمرانه بالصبر والإستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.

يأتي الأمر أوّلا في قوله تعالى: (فاصبر إنّ وعد الله حق).

إن وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما سيتحققان، على أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخر عقابهم، لذلك تضيف الآية:(فإمّا نُرينك بعض الذي نعدهم أو

[325]

نتوفينك فإلينا يرجعون)(1).

إنّ مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنور القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر!

عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر أن تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب على هذه الفئة الضالة.

والكلام يتضمّن تهديداً إلى تلك الفئة لكي يعلموا أنّ العذاب لا بدّ مصيبهم، ونازل بساحتهم، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في «بدر» و غيرها، فهناك أيضاً يوم القيامة والعذاب المنتظر.

ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث واجه الانبياء السابقين مثل هذه المشاكل، إلاّ أنّهم استمروا في طريقهم و احتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك).

لقد واجه كلّ منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركو مكّة لم يشذوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك يخاطب الله تعالى رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله).

إنّ جميع المعاجز هي من عند الله وبيده، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة الكفار والمشركين، بل إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي له الإستسلام أمام «معجزاتهم المقترحة» بل ما يكون من المعجزة ضرورياً لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره


1 ـ يلاحظ مثلها في الآية (46) من سورة يونس.

[326]

الله على أيدي الأنبياء.

ثم تهدّد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرّسول صادقاً؟ فتقول الآية: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون).

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ولا تنفع الآهات والصرخات، ويخسر أهل الباطل صفقتهم، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم، إذاً فلماذا كلّ هذا الأصرار على مجيء ذلك اليوم؟!

وفقاً لهذا التّفسير ينصرف معنى الآية والمقصود بالعذاب فيها إلى «عذاب الإستئصال».

ولكن بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية بمثابة بيان للعذاب في يوم القيامة. فهناك يكون القضاء الحق بين الجميع، ويشاهد أنصار الباطل خسرانهم المريع.

إنّ فيما تضمّنته الآية (27) من سورة «الجاثية» يؤكّد هذا التّفسير، إذ يقول تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون).

ولكن تمّ استخدام «أمر الله» وما شابهها في الآيات المتعدّدة التي تختص بعذاب الدنيا(1).

ويحتمل أن يكون للآية معنى أوسع يشمل عذاب الدنيا والآخرة، وفي المشهدين يتوضح خسران المبطلين.

ومن الضروري هنا الإشارة إلى الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق(رحمه الله) في أماليه بإسناده إلى أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: كان في المدينة رجل يضحك الناس، فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه ـ يعني علي بن الحسين(عليه السلام) ـ قال: فمرّ(عليه السلام)وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته، ثمّ مضى فلم يلتفت إليه الإمام(عليه السلام) فاتبعوه وأخذوا الرداء منه، فجاؤوا به فطرحوه عليه فقال لهم: من


1 ـ كما في «هود» الآيات: (43)، (76)، (101).

[327]

هذا؟ فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة، فقال: قولوا له إن لله يوماً يخسر فيه المبطلون»(1).

* * *

 

ملاحظة في عدد الأنبياء؟!

للمفسّرين كلام كثير حول عدد أنبياء الله ورسله.

والرواية المشهورة في هذا المجال تذكر أنّ عددهم مائة وعشرون ألف نبي، في حين تقتصر روايات اُخرى على ثمانية آلاف، أربعة الآف منهم هم أنبياء بني إسرائيل، والباقون من غيرهم(2).

وقد جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خلق الله عزّوجلّ مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيّ، أنا أكرمهم على الله ولا فخر، وخلق الله عزّوجلّ مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، وعلي أكرمهم على الله وأفضلهم»(3).

وفي رواية اُخرى عن أنس بن مالك أنّ رسول الله قال: «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبيّ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل»(4).

هذان الحديثان لا يتناقضان فيما بينهما، إذ يمكن أن يكون الحديث الثّاني قد أشار إلى الأنبياء العظام، كما يذكر ذلك العلاّمة المجلسي في توضيح هذا الكلام.

وفي حديث آخر أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أجاب على سؤال لأبي ذر(رضي الله عنه) عن عدد الأنبياء قائلا بأنّهم (124) ألف نبي، وعن سؤال حول عدد الرسل منهم، أنّهم


1 ـ نور الثقلين، ج4، ص527، حديث 118.

2 ـ مجمع البيان: أثناء الحديث عن هذه الآية.

3 ـ بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 30، حديث رقم 21.

4 ـ بحار الأنوار، مجلد 11، صفحة 31، حديث رقم 22.

[328]

(313) رسول فقط(1).

وفي حديث آخر أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن ذكر العدد (124) ألف قال: خمسة منهم أولوالعزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

وهناك روايات اُخرى في هذا المجال تؤيد العدد المذكور أعلاه.

من هنا يتضح أنّ هذه الرواية (حول عدد الأنبياء) ليست خبراً واحداً كما يقول «برسوئي» نقلا عن بعض العلماء في تفسير «روح البيان»، بل هناك روايات متعدّدة ومستفيضة تؤّكد أنّ عدد الأنبياء الإلهيين كان (124) ألف نبي. وأنّ مثل هذه الروايات موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة.

والطريف في الأمر أن عدد الأنبياء الذين صرح القرآن بأسمائهم هو (26) نبي فقط هم: آدم ـ نوح ـ إدريس ـ صالح ـ هود ـ إبراهيم ـ إسماعيل ـ إسحق ـ يوسف ـ لوط ـ يعقوب ـ موسى ـ هارون ـ زكرياـ شعيب ـ يحيى ـ عيسى ـ داودـ سليمان ـ إلياس ـ اليسع ـ ذوالكفل ـ أيوب ـ يونس ـ عزير ـ ومحمّد (عليهم الصلاة والسلام).

ولكن هناك أنبياء آخرون أشار إليهم القرآن وإن لم يذكر أسماءهم صراحة مثل «أشموئيل» الذي ورد ذكره في الآية (248) من سورة «البقرة» في قوله تعالى: (وقال لهم نبيّهم).

والنّبي «أرميا» الوارد في الآية (259) من سورة البقرة في قوله تعالى: (أو كالذي مرّ على قرية ... )(3).

و «يوشع» المذكور في الآية (60) من سورة «الكهف» في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه).


1 ـ بحار الأنوار،، مجلد 11، صفحة 32، حديث رقم 24.

2 ـ بحارا لأنوار، مجلد 11، صفحة 41، حديث رقم 43.

3 ـ ثمّة بحث بين المفسّرين عن اسم هذا النّبي، إذ فيهم من قال: إنّه «أرميا» والبعض قال: إنّه «الخضر» وقال جمع: إنّه «عزير».

[329]

و «الخضر» الوارد ذكره إشارة في الآية (65) من سورة الكهف في قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا).

وورد ذكر لأسباط بني إسرائيل، وهم زعماء قبائل بني إسرائيل كما في قوله تعالى: (و أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)(1).

وإذا كان هناك أنبياء من بين إخوة يوسف (عليه السلام) فقد أشير إليهم مرات عديدة في سورة يوسف.

وخلاصة القول هنا أنّ القرآن أشار إلى قصص وحوادث ترتبط بأكثر من (26) نبياً وهم المصرّح بأسمائهم مباشرة في القرآن الكريم.

ويستفاد من بعض الروايات الواردة في مصادر السنة والشيعة أنّ الله بعث بعض الأنبياء من ذوي البشرة السوداء، كما يقول العلامة الطبرسي مثلا في «مجمع البيان» روي عن علي أنّه قال: «بعث الله نبيّاً أسود لم يقص قصته»(2).

 

* * *

 


1 ـ النساء ـ 163.

2 ـ مجمع البيان نهاية الآية التي تبحثها. وفي هوامش تفسير الكشّاف هناك روايات عديدة في هذا المجال. يلاحظ المجلد الرابع، صفحة 180، طبعة دار الكتاب العربي.

[330]

الآيات

اللهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْنْعَـمَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 79 )وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ( 80 ) وَيُرِيكُمْ ءَايَـتِهِ فَأَىَّ ءَايَـتِ اللهِ تُنكِرُونَ( 81 )

 

التّفسير

منافع الأنعام المختلفة:

تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرّة اُخرى عن علائم قدرة الخالق (جلّ وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر، وتشرح جانباً منها كي تزيد من وعي الإنسان ومعرفته بالله تعالى، وليندفع نحو الثناء والشكر فيزداد معرفة بخالقه.

يقول تعالى: (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون).

فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام، وبعضها للركوب والغذاء كالجمال التي تعتبر بحق سُفن الصحاري.

«أنعام» جمع «نعم»على وزن «قلم» وتطلق في الأصل على الجمال، لكنّها توسعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقر والأغنام، والمصطلح مشتق من «النعمة»

[331]

بسبب أنّ أحد أكبر النعم على الإنسان هي هذه الأنعام. وفي يومنا هذا ـ بالرغم من تقدم التكنولوجيا في مجال النقل البري والجويـ إلاّ أنّ الإنسان ما زال يستفيد من الأنعام، خصوصاً في الأماكن الصحراوية الرملية، التي يصعب فيها استخدام وسائل النقل الأُخرى. ويتمّ استخدام الأنعام والحيوانات في بعض المضائق والمناطق الجبلية، حيث يتعذر استخدام غيرها من وسائل النقل الحديث.

لقد خلق الله الأنعام بأشكال مختلفة، وبروح تستسلم للإنسان وتنصاع إليه وتخضع لأوامره وتلبي له احتياجاته، في حين أنّ بعضها أقوى من أقوى الناس، وهذا الإنصياع في حدّ ذاته دليل من أدلة الخالق العظيم الذي سخّر لعباده هذه الأنعام.

إنّ من الحيوانات الصغيرة ما يكون خطره مميتاً للإنسان، في حين أن قافلة من الجمال يكفي صبي واحد لقيادها!

إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها: إنّ هناك منافع اُخرى: (ولكم فها منافع).

الانسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الأُخرى، بل يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع. وخلاصة القول: إنّه لا يوجد شيء غير نافع في وجود هذه الأنعام، فكل جزء منها مفيد ونافع، حتى أنّ الإنسان بدأ يستخلص بعض الأدوية من امصال هذه الحيوانات، و الملفت أن «منافع» جاءت نكرة في الآية لتبيّن أهمية ذلك).

ثم تضيف الآية: (ولتبلغوا عليها حاجةً في صدوركم).

احتمل بعض المفسّرين أن معنى الآية ينصرف إلى حمل الأثقال الذي يتمّ بواسطة الأنعام، لكن يحتمل أن يكون المقصود بقوله تعالى: (حاجة في صدوركم)الإشارة إلى بعض المقاصد والأهداف والرغبات الشخصية، إذ يستفاد من الإنعام

[332]

في الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر، وما إلى ذلك من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.

ولأنّ الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة، لذلك تقول الآية في نهايتها: (وعليها وعلى الفلك تحملون) هناك بحث عن منافع الحيوانات يمكن مراجعته أثناء الحديث عن الآية الخامسة من سورة النحل).

لقد جاء التعبير القرآني «عليها» (أي الأنعام) بالرغم من الإشارة المباشرة إليها سابقاً، ليكون مقدمة لذكر (الفلك). والمعنى أنّ الله جلّ وعلا سخّر لكم الوسائل في البر والبحر للإنتقال ولحمل الأثقال كي تستطيعوا أن تبلغوا مقاصدكم بسهولة.

لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها، وجعل الله تعالى الحركة في الريح بحيث تستطيع الفلك الإستفادة منها لتحديد وجهة سفر الإنسان ومقصده.

الآية الأخيرة هي قوله تعالى: (ويريكم آياته فأيّ آيات الله تنكرون) هل تستطيعون إنكار آياته في الآفاق وفي أنفسكم؟ أم هل تنكرون آياته في خلقكم من تراب وتحويلكم عبر مراحل الخلق إلى ما أنتم عليه، أم أنّكم تنكرون آياته في الحياة والموت والمبدأ والمعاد؟ وهل يمكنكم إنكار آياته في خلق السماء والأرض أو الليل والنهار، أو خلقه لأُمور تساعد في استمرار حياتكم كالأنعام وغيرها؟

أينما تنظر وتمد البصر فثمة آيات الله وآثار العظمة في خلقه سبحانه وتعالى: «عميت عين لا تراك».

يقول المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي» في تفسيره «مجمع البيان» في جوابه على هذا السؤال: ما هو سبب مثل هذا الإنكار مع وضوح الدلائل والعلامات ؟

يقول: إنّ ذلك يمكن أن يعود إلى ثلاثة أسباب هي:

[333]

1 ـ عبادة الأهواء والإنقياد إليها، لأنّ ذلك يؤدي إلى حجب الإنسان عن رؤية الحق، (وينساق وراء غرائزه، لأنّ الحق يحدّد هذه الغرائز من خلال فرض التكاليف والوظائف الربانية. لذلك يعمد هؤلاء إلى إنكار الحق برغم دلائله الواضحة).

2 ـ التقليد الأعمى للآخرين ـ خصوصاً السابقين ـ وهذا أمر يحجب الإنسان عن الحق.

3 ـ الأحكام والإعتقادات الباطلة المترسخة في وعي الإنسان، فيذعن لها وتحجبه عن دراسة الحق والأنفتاح على آيات الله تبارك وتعالى.

 

* * *

 

[334]

الآيات

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاَْرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 82 ) فَلَمَّا جَآءَتْهُمُ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ( 83 ) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ( 84 ) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَـنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـفِرُونَ( 85 )

 

التّفسير

لا ينفع الإيمان عند نزول العذاب:

هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة المؤمن، ونستطيع أن نعتبرها نوعاً من الإستنتاج للبحوث السابقة، فبعد بيان كلّ الآيات الإلهية في الآفاق والأُنفس، وكل تلك المواعظ اللطيفة التي تحدثت عن المعاد، ومحكمة البعث الكبيرة، هددت هذه الايات الكافرين المستكبرين والمنكرين المعاندين تهديداً شديداً،

[335]

وواجهتهم بالمنطق والإستدلال، وأوضحت لهم عاقبة أعمالهم.