1 ـ يوسف، الآية 39.

[270]

جانب ثان تشير إلى إلغاء ألوهية الأصنام والفراعنة، حيث لا يملكون العزة  ولا العفو.

ينتقل الخطاب القرآني ـ على لسان مؤمن آل فرعون ـ إلى قوله تعالى: (لا جرم انما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة)(1) فهذه الأصنام لم ترسل الرسل إلى الناس ليدعوهم إليهم، وهي لا تملك في الآخرة الحاكمية على أي شيء.

إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع، وإنّ عليكم أن تعلموا: (وإن مردنا إلى اللّه).

فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.

ويجب أن تعلموا أيضاً: (وأن المسرفين هم أصحاب النّار).

وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني التوحيدي، وانفصل علناً عن خط الشرك الملوث الذي يصبغ بآثامه وأوحاله الحكّام الفراعنة ومن يلف حولهم، لقد رفض الرجل دعوتهم ووقف لوحده إزاء باطلهم وانحرافهم.

في آخر كلامه ـ وبتهديد ذي مغزى ـ يقوله لهم: (فستذكرون ما أقول لكم).

إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما تصيبكم المصائب، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان، فإن كان في الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو  لا يتم إلاّ حين يحل بكم العذاب الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.


1 ـ قلنا سابقاً: إنّ «لا جرم» مركبة من (لا) و (جرم) على وزن (حرم) و هي في الأصل تعني القطع واقتطاف الثمر، وهي ككلمة مركبة تعني: لا يستطيع أي شيء أن يقطع هذا العمل أو يمنعه. لذلك تستخدم بشكل عام بمعنى (حتماً) وتأتي أحياناً بمعنى القسم.

[271]

ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن: (وأفوض أمري إلى اللّه إنّ الله بصير بالعباد).

لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم، ولا أرهب كثرتكم وقوتكم، ولا تخيفني وحدتي بيّن أيديكم، لأني وضعت نفسي بين يدي المطلق ذي القدرة اللامتناهية، والمحيط علمه بكل شيء، وبأحوال عباده أينما كانوا وحلّوا.

إنّ هذا التعبير يستبطن في طياته دعاء مهذباً انطلق من الرجل المؤمن الذي وقع أسيراً في قبضة هؤلاء الأشقياء الظالمين.لذلك طلب بشكل مؤدب من خالقه (جلّ وعلا) أن يحميه بحمايته وينقذه ممّا هو فيه .

الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما: (فوقاه الله سيئات ما مكروا).

إنّ التعبير بـ (سيئات ما مكروا) يفيد أنّهم وضعوا خططاً مختلفة ضدّه... ترى ما هي هذه الخطط؟

في الواقع، إنّ القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة، لكنّها ـ حتماً ـ لا تخرج عن ألوان العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام، إلاّ أنّ اللطف الإلهي أبطل مفعولها جميعأ وأنجاه منهم.

تفيد بعض التفاسير أنّ مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق بموسى(عليه السلام)، وعبّر البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضاً: أنّهُ هرب إلى الجبل عندما صدر عليه قرار الموت، وبقي هناك مختفياً عن الأنظار(1).

ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين، إذ يمكن أن يكون قد هرب إلى الجبل أولا، ثمّ التحق ببني إسرائيل.

وقد يكون من مؤامراتهم عليه، محاولتهم فرض عبادة الأصنام عليه وإخراجه من خط التوحيد، إلاّ أن الله تبارك وتعالى أنجاه من مكرهم ورسخ قدمه


1 ـ يراجع تفسير مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية مورد البحث.

[272]

في طريق الإيمان والهدى.

أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب)(1).

إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلاّ أنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشد إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً)(2) ثم: (ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب).

وهنا نلفت النظر إلى الملاحظات الثلاث الآتية:

أولا: استخدام تعبير (آل فرعون)إشارة إلى العائلة والأنصار و الأصحاب الضالين، وعندما يكون هذا هو مصير الآل، ترى ماذا يكون مصير نفس فرعون؟

ثانياً: تقول الآية: إنهم يعرضون على النّار صباحاً ومساءً، ثمّ تقول: في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن. وهذا دليل على أنّ العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة ... إنّ العرض على نار جهنّم يهز الانسان و يجعله يرتعد خوفاً وهلعاً.

ثالثاً: إن تعبير بـ (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب. أو قد يفيد انفطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

وينبغي أن لا نتعجب هنا من كلمتي (الغدو) و (العشي) فنسأل: وهل في البرزخ ثمّة صباح ومساء؟ لأنّ الصبح و الليل موجودان حتى في يوم القيامة، كما


1 ـ (حاق) بمعنى أصاب ونزل، ولكن احتملوا أيضاً أن يكون أصلها (حق) فتغيرت إحدى القافين فيها إلى ألف فأصبحت (حاق)[ يلاحظ ذلك في مفردات الراغب كلمة حاق] . ضمناً فإنّ (سوء العذاب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، إذ كانت في الأصل (العذاب السوء).

2 ـ «النّار» بدل عن (سوء العذاب) .

[273]

نقرأ في قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً)(1).

وهذا الأمر لا يتعارض مع دوام نعم الجنّة واستمرارها، كما جاء في الآية (35) من سورة (الرعد) حيث قوله تعالى: (أكلها دائم وظلها) حيث يمكن أن تشمل الألطاف الإلهية أهل الجنّة في خصوص هذين الوقتين، بينماتكون نعم الجنّة دائمة باقية.

* * *

 

بحوث

أوّلا: مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت

إنّ القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية الامر ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت، وإذا توجست هذا القلّة المخلصة خوفاً من أعدائها، أو أنّها شكت بأنّ كثرة دليل على حقانيتهم، فلن يكون بمقدور الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا.

إنّ الأساس الذي يتحكم في منطلق هذه البرامج الهادية والأطروحات الوضّاءة، هو قول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله»(2).

لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجاً لهذه المدرسة، وكان من الأوائل في هذا الطريق، وأثبت أنّ الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية ـ النابعة من إيمانه بالله تعالى ـ التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة; بل وأن يوفّر سبل النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم.

إنّ تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي، يثبت ضرورة أن تكون خطوات


1 ـ مريم ـ 62.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 201.

[274]

أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر، إذ يجب أحياناً التكتم على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة; كما يجب في أحيان اُخرى الجهر بدعوة الحق وإظهار الإيمان.

إنّ التقية ليست سوى إخفاء اعتقاد الإنسان والتكتم عليه في فترة معينة في سبيل الأهداف المقدّسة.

وكما يعتبر التسلّح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب دحر العدو، كذلك فإنّ المنطق القوي والحجّة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل في تأثيره السلاح المادي عدة مرّات. لذا فإنّ العمل الذي قام به (مؤمن آل فرعون) بواسطة منطقه وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر.

ثم إنّ قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أنّ الله جلّ وعلا لا يترك عباده المؤمنين وحيدين، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار.

وأخيراً فإن من الضروري أن نشير إلى حياة مؤمن آل فرعون انتهت كما في بعض الروايات إلى الإستشهاد، وأنّ ما يقوله القرآن من حفظ الله له ووقايته له يمكن تأويله بإنقاذه من براثن خططهم الشيطانية في إغوائه وجرّه إلى ساحة الضلال والشرك، وأنّ الله أنجاه من سوء المنقلب وانحراف العقيدة(1).

 

ثانياً: تفويض الأمور إلى الله

فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى يكفي أن نفتتح الحديث بقول لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، جاء فيه: «الإيمان له أربعة أركان: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله عزّوجلّ والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر


1 ـ جاء في كتاب (محاسن البرقي) : عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:

(فوقاه الله سيئات ما مكروإ) قوله(عليه السلام) : «أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه» نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 521.

[275]

الله»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه(عليه السلام)قال: «المفوض أمره إلى الله في راحة الأبد، والعيش الدائم الرغد، والمفوض حقّاً هو العالي عن كلّ همة دون الله»(2).

«التفويض» كما يقول الراغب في مفرداته، يعني «التوكل، لذا فإنّ تفويض الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الجد والجهد، إذ أنّ هذا السلوك ينطوي على فهم محرّف لمعنى التفويض، بل عليه أن يبذل كلّ جهده ولا يتخوّف الصعاب التي تواجهه، أو يترك العمل إذعاناً لها، بل عليه أن يسلّم أمره وعمله إلى الله، ويستمر في بذل الجهد بعزم راسخ وهمة عالية.

وبالرغم من أنّ «التفويض» يشبه «التوكل» إلى حد كبير، إلاّ أنّه يعتبر مرحلة أفضل منه. لأنّ حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه، لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى. وفي حياتنا العملية نرى أنّ الانسان الذي يتخذ لنفسه وكيلا يواصل إشرافه على عمله. إلاّ أنّه في حالة التفويض  لا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع، بل تتر ك الأمور إلى من فوّضت إليه.

 

ثالثاً: عالم البرزخ

«البرزخ» ـ كما يدل عليه اسمه ـ هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم الآخر. وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر، ولكنّه قليل عن عالم البرزخ. ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ، وبالتالي  لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرّح القرآن بأصل وجوده.


1 ـ بحار الأنوار، المجلد 68، صفحة 341.

2 ـ سفينة البحار، المجلد الثّاني، صفحة 384، مادة «فوض» .

[276]

إنّ الآيات أعلاه تعتبر من الآيات التي عبّرت بصراحة عن وجود هذا العالم، حينما قالت: إنّ آل فرعون يعرضون صباحاً ومساءً على النّار قبل القيامة، وذلك كنوع من العقاب البرزخي لهم.

من جانب آخر، فإنّ الآيات التي تتحدث عن حياة الشهداء الخالدة بعد الموت، والثواب العظيم الذي ينالهم، تدل هي الأُخرى على وجود (البرزخ).

وفي حديث عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن النّار، يقال: هذا مقعدك حيث يبعثك الله يوم القيامة»(1).

أما الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) فيقول عن البرزخ: «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدو وعشي» ثمّ قال: «إن كانوا يعذبون في النّار غدواً وعشياً ففيما بين ذلك هم من السعداء، لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله عزّوجلّ: ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب»(2).

الإمام (عليه السلام) لم يقل بعدم وجود الصباح والمساء في القيامة، بل يقول: إنّ نار جهنّم أبدية خالدة لا تعرف الصباح والمساء. أمّا العقاب الذي له مواقيت في الصباح والمساء فهو عالم البرزخ، ثمّ يدلل(عليه السلام) على الجملة التي بعدها والتي تتحدث عن القيامة; على أنّها قرينة بإختصاص الجملة السابقة بالبرزخ.

لقد تعرضنا إلى عالم البرزخ مفصلا أثناه الحديث عن الآية (100) من سورة «المؤمنون».

* * *


1 ـ ينقل هذه الرواية كلّ من البخاري ومسلم في صحيحيهما (طبقاً كما يذكره الطبرسي وصاحب الدر المنثور والقرطبي، أثناء حديثهم عن الآية المذكورة أعلاه) أما صحيح مسلم فيعقد باباً حول الروايات المتعلقة بالبرزخ، إذ يمكن مراجعته في المجلد الرابع، صفحة 2199.

2 ـ محمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 526.

[277]

الآيات

وَ إذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَـؤُاْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ( 47 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ( 48 )وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ( 49 ) قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَادُعَـؤُاْ الْكَفِريِنَ إِلاِّ فِى ظَلَـل( 50 )

 

التّفسير

نقاش الضعفاء والمستكبرين في جهنّم:

لقد لفت مؤمن آل فرعون في نهاية كلامه نظر القوم إلى القيامة والعذاب وجهنم، لذلك جاءت هذه المجموعة من الآيات الكريمة وهي تقف بشكل رائع دقيق على تحاجج وتخاصم أهل النّار فيما بينهم، وبالذات تحاجج المتستضعفين مع المستكبرين.

يقول تعالى: (وإذ يتحاجون في النّار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا

[278]

لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا نصيباً من النّار)(1).

المراد من «الضعفاء» هنا هم أُولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والإستقلال الفكري، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم القرآن اسم المستكبرين، وكانت التبعية مجرّد انقياد أعمى بلا تفكير أو وعي.

ولكن هؤلاء الأتباع يعلمون أنّ العذاب سيشمل زعماءهم ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلماذا إذن يستغيثون بهم و يلجأون إليهم كي يتحملوا عنهم قسطاً من العذاب.

ذهب البعض إلى أنّ ذلك يحصل تبعاً لعادتهم في الإنقياد إلى زعمائهم في هذه الدنيا، لذلك تكون استغاثتهم بهم في الآخرة كنوع من الإنقياد اللاّ إرادي وراء قادتهم.

ولكن الأفضل أن نقول: إن الإستغاثة هناك هي نوع من السخرية والإستهزاء واللوم، يوم يثبت أنّ كلّ ادعاءات المستكبرين مجرّد تقولات زائفة عارية عن المضمون والحقيقة(2).

(وفي الحقيقة فان الإمام أمير المؤمنين ـ يحذر بهذا الكلام أُولئك الذين سمعوا وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير ـ أو أنّها وصلتهم بطريق صحيح ـ ثمّ اعتذروا بأنّهم نسوها ليتبعوا أناساً آخرين).

إنّ المستكبرين لم يسكتوا على هذا الكلام وذكروا جواباً يدل على ضعفهم الكامل وذلتهم في ذلك الموقف المهول، إذ يحكي القرآن على لسان قولهم: (قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إنّ الله قد حكم بين العباد).

يريدون أن يقولوا: لو كان بمستطاعنا حل مشاكلكم فالأحرى بنا والأجدر


1 ـ يتصور البعض أنّ الضمير في «يتحاجون» يعود إلى آل فرعون، إلاّ أنّ القرائن تفيد أنّ الآية تنطوي على مفهوم عام يشمل جميع الكفّار.

2 ـ «تبعاً» جمع تابع، والبعض يحتمل أن تكون مصدراً، خصوصاً وأنّ إطلاق المصدر على الأشخاص الموصوفين بصفة معينة أمر متعارف. والمعنى في هذه الحال هو: إنّنا كنا لكم عين التبعية.

[279]

أن نحل مشاكلنا و ما حلّ بنا، ولكنا لا نستطيع أن نمنع العذاب عن أنفسنا ولا عنكم، ولا أن نتحمل عنكم جزءاً من العقاب!

والملاحظ هنا أنّ الآية (21) من سورة «إبراهيم» تتضمن نفس هذا الإقتراح من قبل الضعفاء إزاء المستكبرين، الذين قالوا جواباً على هذا: (لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص).

والمقصود بالهداية هنا هي الهداية الى طريق الخلاص من العذاب.

وهكذا يظهر أنّ هذين الجوابين لا يتعارضان فيما بينهما، بل يكمل أحدهما الآخر.

وعندما تغلق في وجههم السبل، سبل النجاة والخلاص، يتوجه الجميع إلى خزنة النّار: (وقال الذين في النّار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب)(1).

إنهم يعلمون أنّ العذاب الإلهي لا يرتفع، لذلك يطلبون أن يتوقف عنهم ولو ليوم واحد كي يرتاحوا قليلا... إنّهم قانعون بهذا المقدار!

لكن إجابة الخزنة تأتي منطقية واضحة: (قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات

وفي الجواب قالوا: (قالوا بلى).

فيستطرد الخزنة:(قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال).

إنّكم بأنفسكم اعترفتم بأنّ الأنبياء والرسل جاءوا بالدلائل الواضحة، ولكنّكم كفرتم بما جاءكم وكذبتم الأنبياء. لذلك لا ينفعكم الدعاء، لأنّ الله  لا يستجيب لدعاء الكافرين.

بعض المفسّرين يرى في تفسير الجملة الاخيرة أنّ المراد هو أنّنا لا نستطيع الدعاء لكم بدون اذن من الله تعالى، فادعوا انتم بذلك، وذلك اشارة الى انغلاق


1 ـ «خزنة» جمع خازن، وتعني الحارس.

[280]

سبل النجاة أمامكم.

صحيح أنّ الكافر يصبح مؤمناً في يوم القيامة، إلاّ أنّ هذا الإيمان لا يقلل من آثار كفره، لذلك يلازمه لقب الكافر.

لكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل وأكثر قبولا.

 

* * *

 

[281]

الآيات

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَـدُ( 51 ) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّـلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الَّلعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ( 52 ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرءِيلَ الْكِتَـبِ( 53 ) هُدىً وَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَـبِ ( 54 )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالاِْبْكَـرِ( 55 )

 

التّفسير

الوعد بنصر المؤمنين:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن تحاجج أهل النّار وعجزهم عن أن ينصر أحدهم الآخر، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين آمنوا، في هذه الدنيا وفي الآخرة.

إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة: (إنا لننصر رسلنا

[282]

والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي يستتبعها الفوز والنصر، النصر في المنطق والبيان; وفي الحرب والميدان; وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.

إنّ الآية تواجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو: (يوم يقوم الأشهاد).

«أشهاد» جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل ما أنّ أصحاب جمع صاحب، وأشراف جمع شريف) وهي تعني الذي يشهد على شيء ما.

لقد ذكرت مجموعة من الآراء حول المقصود بالأشهاد، نستطيع اجمالها بما يلي:

الأشهادهم الملائكة الذين يراقبون أعمال الإنسان.

هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.

هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.

أمّا احتمال أن تدخل أعضاء الإنسان ضمن هذا المعنى، فهو أمر غير وارد، بالرغم من شمولية مصطلح «الأشهاد» لأنّ تعبير (يوم يقوم الأشهاد) لا يتناسب وهذا الإحتمال.

إنّ التعبير يشير إلى معنى لطيف، حيث يريد أن يقول أنّ: (يوم الأشهاد)الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الإنتصار فيه أروع ما يكون ... إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كرامتهم.

إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، هو: (يوم  لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار).

[283]

فمن جهة هو يوم لا تنفع المعذرة فيه، ولا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد.

ومن جهة اُخرى هو يوم تشمل اللعنة الإلهية فيه الظالمين، واللعنة هنا البعد عن الرحمة.

ومن جهة ثالثه هو يوم ينزل فيه العذاب الجسماني على الظالمين، ويوضعون في أسوأ مكان من نار جهنم.

 

سؤال:

إنّ الآية تفتح المجال واسعاً للسؤال التالي: إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد وعد حتماً بانتصار الأنبياء والمؤمنين، فلماذا نشاهد، ـ على طول التأريخ ـ مقتل مجموعة من الأنبياء والمؤمنين على أيدي الكفار؟ ولماذا ينزل بهم الضيق والشدة من قبل أعداء الله، ثمّ لماذا تلحق بهم الهزيمة العسكرية؟ وهل يكون ذلك نقضاً للوعد الإلهي الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟

الجواب على كلّ هذه الأسئلة المتشعبة يتضح من خلال ملاحظة واحدة هي: إن أكثر الناس ضحية المقاييس المحدودة في تقييم مفهوم النصر، إذ يعتبرون الإنتصار يتمثل فقط في قدرة الإنسان على دحر عدوه، أو السيطرة على الحكم لفترة وجيزة!

إنّ مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الهدف وتقدم الغاية، أو تفوق وانتشار المذهب والفكرة; هؤلاء لا ينظرون إلى قيمة المجاهد الشهيد الذي يتحول إلى نموذج وقدوة في حياة الناس وعلى مدى الأجيال. ولا ينظرون إلى القيمة الكبرى التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار البشر والقرب من الله تعالى ونيل رضاه.

وبديهي إنّ الإنحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب

[284]

على ذلك الاشكال، أما الإنطلاق إلى أفق المعاني الواسعة الوضّاءة لمفهوم النصر الإلهي والاخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدى بنا الى معرفة المعنى العميق للآية.

ثمّة كلام لطيف لسيّد قطب في تفسيرة «في ظلال القرآن» يناسب هذا المقام، إذ يورد فيه ذكرى بطل كربلاء الإمام الحسين(عليه السلام) كمثال على المعنى الواسع لمفهوم النصر فيقول: «... والحسين ـ رضوان الله عليه ـ وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب، أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين»(1).

وينبغي أن نضيف إلى هذا الكلام أن شيعة أهل البيت عليهم السلام يشاهدون كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيّد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام)ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه; إن مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع الخير لحركة عظيمة ثرّة ما زال عطاؤها لم ولن ينضب!

لقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران المسلمة، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيّام عاشوراء للقضاء على الظلم والطغيان والإستكبار.

لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربى في مدرسة أبي الشهداء الحسين(عليه السلام) وتغذى ممّا تدره مجالس عزائه، أن يحطّم بأيد خالية عرش أقوى السلاطين الجبّارين.


1 ـ في ظلال القرآن، ج 7، ص189ـ190.

[285]

نعم، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سرى في العروق عزةً و حركةً وانتفاضة، غيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبرى.

بعد كلّ ذلك، ومع كلّ العطاء الثر الهادي الذي استمدته كلّ الأجيال ـ خلال التأريخ ـ من ذكرى الطف و سيّد الشهداء، ألا يعتبر الحسين(عليه السلام) منتصراً حتى باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرناً على استشهاده!؟

 

سؤال آخر

ثمة سؤال آخر يتبلور من المقابلة بين الآية التي بين أيدينا و الآية (36) من سورة «المرسلات» إذ نقرأ الآية التي نحن بصددها أنّ اعتذار الظالمين لا يؤثر ولا ينفعهم يوم القيامة، فيما تنص الآية من سورة المرسلات على أنّه لا يسمح لهم بالإعتذار أصلا، حيث قوله تعالى: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) فكيف يا ترى نوفّق بين الإثنين؟

قبل الإجابة ينبغي الإنتباه إلى ملاحظتين:

الأولى: أنّ ليوم القيامة مواقف معينة تختلف شرائطها، ففي بعضها يتوقف اللسان عن العمل وتنطق الأرجل والأيدي والجوارح، وتقوم بالشهادة على عمل الإنسان. وفي مواقف اُخرى ينطلق اللسان بالنطق والكلام (كما تحكي ذلك الآية 65 من سورة «يس» والآيات السابقة في هذه السورة التي تحدثت عن تحاجج أهل النّار).

بناءٌ على هذا، فلا مانع من عدم السماح لهم بالإعتذار في بعض المواقف، في حين يسمح لهم في مواقف اُخرى، وإن كان الإعتذار لا يجدي شيئاً ولا يغير من المصير.

الملاحظة الثانية: إنّ الإنسان يتحدث في بعض الأحيان بكلام لا فائدة منه،

[286]

ففي مثل هذه الموارد يكون الشخص كمن لم يتكلّم أصلا. بناءً على هذا يمكن أن تكون الآية الدالة على عدم السماح لهم بالإعتذار تقع وفق هذا المعنى، أي أنّ اعتذارهم برغم خروجه من أفواههم، إلاّ أنّه لا فائدة ترجى منه.