![]() |
![]() |
![]() |
الحديث ـ هنا ـ يتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة.
و أحياناً اُخرى يقول: (يغشى الليل النهار) (2) ، وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.
ثمّ تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم، قال تعالى: (و سخر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى).
فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقية كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصّة في مجرة درب التبانة أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً، ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكلّ يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.
1 ـ سورة فاطر، 13.
2 ـ سورة الأعراف، 54.
ويوجد احتمال آخر، وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله، كما ورد في الآية (33) من سورة إبراهيم: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين). ولكن بالإلتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية، يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعداً بعض الشيء.
نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول: (ألا هو العزيز الغفار) فبحكم عزّته و قدرته المطلقة لا يمكن لأىّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفّار، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم بظلّ رحمته.
«غفار» صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإِنسان لشيء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري، عزّوجلّ فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه، نعم فهو (غفار) في اوج عزته وقدرته، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه، والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال.
* * *
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسِ وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاَْنْعَـمِ ثَمَـنِيَةَ أَزْوَاج يَخْلُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقً فِى ظُلُمَـتِ ثَلَـثِ ذَلِكُمُ اللهَُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ( 6 ) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهََ غَنِىٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 7 )
مرّة اُخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأُخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.
في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول: (خلقكم من نفس واحدة ثمّ جعل منها زوجها).
خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم(عليه السلام)
وعبارة: (ثمّ جعل منها زوجها)(1) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته.
وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم، وقبل خلق أبناء آدم.
عبارة(ثمّ) لا تأتي دائماً كتأخير للزمان، وإنّما تأتي أحياناً كتأخير للبيان، فمثلا يقال: رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم.
والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح، هذا التّفسير غير صحيح، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر» في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف.
وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدم(عليه السلام) لم تخلق من أي جزء منه، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فإنّه كلام خاطىء مأخوذ من بعض الرّوايات الإِسرائيلية، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف، إضافة إلى كونه مخالفاً للواقع والعقل، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل، وهذا الإختلاف ليس أكثر من خرافة.
بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان
1 ـ في قوله تعالى: (ثم جعل منها زوجها) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثمّ جعل منها زوجها) .
ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمه الغذائه، ومن جهة اُخرى يصنع من جلودهاوأصوافها عدّة أُمور يستفيد منها في حياته، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإِبل والبقر والضأن والمعز، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه اُطلقت كلمة زوج على حواء).
وعبارة(أنزل لكم) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة ـ كما بيّنا ذلك من قبل ـ لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى.
كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف، أو أوّل ما يقدم للضيف، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (198) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة، قال تعالى: (خالدين فيها نزلا من عند الله).
وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.
وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجوات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة الباريء عزّوجلّ، أي في علم الغيب، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور)، ولهذا أطلقوا على هذا الإنتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (21) في سورة الحجر: (و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم)(1).
1 ـ تفسير الميزان; وروح المعاني ذيل آيات البحث.
لكنّ التّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.
وورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه: «إنزاله ذلك خلقه إباه» أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله.
ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق، وله المقام الأسمى والأرفع.
وعلى أية حال، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اُخرى يزداد ويتسع حجم الإحتياج إليها يوماً بعد آخر، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.
ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اُخرى من حلقات خلق الله، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث).
يتضح أنّ المقصود من (خلقاً من بعد خلق) هو الخلق المتكرر والمستمر، وليس الخلق مرتين فقط.
«يخلقكم»: فعل مضارع يعطي معنى الإستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأُم. وطبقاً لأقوال علماءعلم الأجنّة
فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأُمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق الباريء عزّوجلّ، ونادراً ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.
وقوله (ظلمات ثلاث)إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين.
فالمصورون ـ الآن ـ بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو.
الإمام الحسين(عليه السلام) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري عزّوجلّ عليه: «وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً»(1).
(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (6) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (5) من سورة الحج).
وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول الباريء عزّوجلّ: (ذلكم الله ربّكم له الملك لا إله إلاّ هو فأنى تصرفون).
1 ـ دعاء عرفة، مصباح الزائر، ابن طاووس.
فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الأثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود. ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية، حيث يقول: (ذلكم الله ربّكم) حقّاً لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار... فعين الجسم ترى الآثار، وعين القلب ترى خالق الآثار.
عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة (لا إله إلا هو) فعندما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود، فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!
وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة: (فأنى تصرفون) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد(1)؟
بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها الباريء عزّوجلّ على عباده، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي البداية تقول: (إن تكفروا فإنّ الله غني عنكم) اي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.
ثمّ تضيف، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية، نعم، قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه لكم)(2).
وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي
1 ـ نلفت الإنتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحياناً بمعنى (اين) وأحياناً اُخرى بمعنى(كيف) .
2 ـ وفق القراءات المشهورة، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء و بدون إشباع الضمير، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) و قد أسقطت الألف بسبب الجزم و أصبحت (يرضه) و الضمير فيها يعود على الشكر. و رغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة، إلاّ أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في (اعدلوا هو أقرب للتقوى) الذي يعود على العدالة.
تحمل شخص مسؤولية أعماله، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر، قال تعالى: (ولا تزر وازرةٌ وزر اُخرى).
ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد، وتقول: (ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون).
ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: (إنه عليم بذات الصدور).
بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري، الذي انتشر ـ ممّا يؤسف له ـ في صفوف بعض الطوائف الإسلامية، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة: (ولا يرضى لعباده الكفر).
وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئاً لا يأتي به، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد، نعم، فالباري، عزّوجلّ لا يرتضي الكفر لأحد من عباده، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء(1).
1 ـ هناك بحث مفصل في ذيل الآية (5) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية و فلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.
وهذه النقطة تلفت الإنتباه، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية(1).
وبالطبع يمكن أحياناً أن يكون الإنسان مشتركاً في ذنوب الأُخرين، وذلك عندما يكون مضطلعاً أو مساهمأ مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب(2).
* * *
1 ـ بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.
2 ـ هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (14) من سورة الأنعام.
وَ إِذَا مَسَّ الاِْنَسـنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُواْ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَ جَعَلَ ِللهِ أَنْدَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـبِ النَّارِ ( 8 )أَمَّنْ هُوَ قَـنِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاَْخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الاَْلْبَـبِ( 9 )
الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة الباريء عزّوجلّ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اُخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ
العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة: (وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه) ونادماً من ذنوبه وغفلته.
وعندما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا الله عزّوجلّ من أجل كشفها عنه، قال تعالى: (ثم إذا خوله نعمة منه نسي ماكان يدعوا إليه من قبل)(1).
إذ يجعل لله أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد ـ أيضاً ـ لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله: (وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله).
المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائماً.
المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح.
«خولناه»: من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة.
وقال البعض: إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم، ولهذا فإنّ كلمة «خوله» تعني الخادم الذين وهب لصاحبه، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل.
والبعض الآخر قال: إنّها تعني الفخر والتباهي، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة
1 ـ هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه(ما) في عبارة (نسي ما كان يدعو إليه) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) و لكون هذا المعنى هو الأنسب، فقد قدم على المعاني الأخرى، و قال البعض أيضاً: إن (ما) موصولة و المراد منها هو الله سبحانه و تعالى: و مجموعة أخرى قالت: إن (ما) مصدرية و تعني الدعاء، و إمعان النظر في الآية (12) من سورة يونس: (و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل.
أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم(1).
ويصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة، اهتمام الباريء عزّوجلّ الخاصّ بعبده.
عبارة (منيباً إليه) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانباً، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله، ويعود إلى الباري، عزّوجلّ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الانسان ومقصده وغايته هو الله تعالى.
«أنداد»: جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل، مع وجود بعض الإختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع، ولكن (ند) لها معنى واحد، وهو المماثلة في الذات والجوهر.
عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيهاً لله، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع.
وعبارة (ليضل عن سبيله) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال.
وعلى أية حال، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت ـ مرّات عديدة ـ إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و (الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال.
وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون، وما أقل من ينقلب ويتغير عندما يمنّ الباريء عزّوجلّ عليه بالنصر والنعم والإستقرار.
نعم، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة، أمّا المحيط
1 ـ يراجع (لسان العرب) و (مفردات الراغب) و تفسيز (روح المعاني).
الهادي فإنّه لا يتأثر أبداً بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي.
نهاية الآية تخاطب مثل أُولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع: (قل تمتع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النّار).
فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا؟!
الآية التالية استخدمت أُسلوب المقارنة، الأُسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة، حيث تقول: هل أن مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمه: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدأ وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربّه)(1).
أين ذلك الإنسان المشرك والغافل والمتلون والضالّ والمضلّ من هذا الإنسان ذو القلب اليقظ الطاهر الساطع بالنور، الذي يسجد لله في جوف الليل والناس نيام، ويدعو ربّه خائفاً راجياً؟!
فهؤلاء في حال النعمة لا يعدون أنفسهم في مأمن من العقاب والعذاب، وفي حال البلاء لا ييأسون من رحمته، وهذان العاملان يرافقان وجودهم أثناء حركتهم المستمرة بحذر واحتياط نحو معشوقهم.
«قانت» من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.
«آناء» هي جمع (انا) ـ على وزن كذاـ وتعني ساعة أو مقداراً من الوقت.
التأكيد هنا على ساعات الليل، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر، وتقلّ نسبة تلوثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.
قدمت الآية السجود على القيام، وذلك لكون السجود من أعلى درجات العبادة، وإطلاق الرحمة وعدم تقيّدها بالآخرة دليل على سعة الرحمة الإلهية التي تشمل الحياة الدنيا والآخرة.
1 ـ في هذه العبارة شق محذوف، و التقدير (أهذا الذي ذكرنا خير أمن هو قانت آناء الليل) .
وفي حديث ورد في كتاب «علل الشرائع» وفي كتاب «الكافي» نقلا عن الإمام الباقر (عليه السلام)، إنّه فسّر هذه الآية: (أمن هو قانت آناء الليل) بأنّها صلاة الليل(1).
من الواضح أن هذا التّفسير يشبه الكثير من التفاسير الأُخرى التي بيّنت في ذيل آيات مختلفة في القرآن الكريم من قبيل ذكر مصاديقها الواضحة، ولا ينحصر مفهوم الآية بصلاة الليل.
وتتمة الآية تخاطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
كلا، إنّهم غير متساوين: (إنّما يتذكر أولو الألباب).
لا شك في أن السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل، وأنّه يقارن ما بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أي بين العلماء والجهلة، لأنّه قبل طرح هذا السؤال، كان هناك سؤال آخر قد طرح، وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة، فالسؤال الثّاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أن الذين يعلمون بأن المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة؟
وعلى أية حال فهذه العبارة التي تبدأ باستفهام استنكاري، توضح أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلو منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والجهلة. ولأنّ عدم التساوي ـ هذا ـ ذكر بصورة مطلقة، فمن البديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند الباريء، عزّوجلّ، وغير متساويين في وجهة نظر العقلاء، ولا يقفون في صفّ واحد من الدنيا، ولا في الأخرة وأنّهم مختلفون ظاهراً وباطناً.
* * *
1 ـ علل الشرائع; والكافي نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 479.
تتضمّن هاتان الآيتان إشارات لطيفة إلى نقاط مهمّة:
1 ـ في الآية الأولى، ذكرت فلسفة الحوادث المرّة والصعبة، وانكشاف ستائر الغرور والغفلة عن عين القلب، وصيرورة شعاع الإيمان شعلة وهّاجة، والعودة والإنابة إلى لله سبحانه وتعالى، وأجابت الآية في نفس الوقت أُولئك الذين يتصورون أنّ وجود مثل تلك الحوادث الصعبة في الحياة إنّما هي نقص في مسألة نظام الخلق وفي عدالة الباريء عزّوجلّ.
2 ـ الآية الثّانية تبدأ بالدعوة إلى العمل وبناء الذات وتنتهي بالعلم والمعرفة، لأنّ من لم يبن ذاته، لا تشع أنوار المعرفة من قلبه، حيث لا يمكن أصلا فصل العلم عن بناء الذات.
3 ـ قوله تعالى: (قانت آناء الليل) وردت هنا بصيغة اسم فاعل، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه، لأنّ العمل إذا لم يستمر فيكون ضعيف جدّاً.
4 ـ إنّ العلم الاضطراري المتولّد من نزول البلاء والذي يربط الإنسان بخالقه، لا يكون مصداقاً حقيقياً للعلم الاّ اذا استمر إلى ما بعد هدوء العاصفة. لذا فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تجعل الإنسان الذي يستيقظ حال نزول البلاء ويعود إلى غفلته عند زواله تجعله في عداد الجهلة. إذن فإنّ العلماء الحقيقيين هم المتوجهون إليه تعالى في كلّ الحالات.
5 ـ ممّا يلفت الإنتباه أنّ نهاية الآية الأخيرة تقول: إنّ الفرق بين الجاهل والعالم لا يدركه سوى أولي الألباب! لأنّ الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إنّ كلّ مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة اُخرى.
![]() |
![]() |
![]() |