يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: «ظن» تعني الاعتقاد الحاصل من الدليل والقرينة، وهذا الاعتقاد قد يكون قوياً في بعض الأحيان ويصل إلى مرحلة اليقين، وأحياناً يكون ضعيفاً لا يتجاوز حدَّ الظن.

 

* * *

 

[436]

الآيات

لاَّ يَسْئَمُ الاِْنْسَـنُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ( 49 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَـهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِنْ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَاب غَلِيظ( 50 ) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الاِْنْسَـنِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فِذُو دُعَآء عَرِيض( 51 ) قُل أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلَّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقِ بَعِيد( 52 )

 

التّفسير

في نفس الاتجاه الذي تحدّثت فيه الآيات السابقة، نلتقي مع مضمون المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا، والتي تواصل حديثها عن صور اُخرى حيّة وناطقة من حياة أناس من عديمي الإيمان وضعافه، الذين يحملون أفكاراً غير ناضجة ومواقف مهزوزة ولا يمتلكون القدرة على تحمل الصعاب.

[437]

يقول تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير).

فليس لحرص الإنسان من نهاية، فكلما يحصل على شيء يطالب بالمزيد، ومهما يعطى لا يكتفي بذلك.

ولكنّه: (وإن مسّهُ الشر فيؤوس قنوط).

والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعد بأصول التربية الإسلامية، والذي لم يتنور قلبهُ بالمعرفة الإلهية والإيمان بالله، ولم يحسّ بالمسؤولية بشكل كامل. إنّها كناية عن الناس المتقوقعين في عالم المادة بسبب الفلسفات الخاطئة، فهم لا يملكون الروح العالية التي تؤهلهم للصبر والثبات، وتجاوز الحدود المادية إلى ما وراءها من القيم العظيمة.

هؤلاء يفرحون إذا أقبلت الدنيا عليهم، وييأسون ويحزنون إذا ما أدبرت عنهم، ولا يملكون ملجأً يلجأون إليه، ولا يدخل نور الأمل والهداية إلى قلوبهم.

وينبغي أن نشير أيضاً إلى أنّ «دعاء» تأتي أحياناً بمعنى المناداة، وأحياناً بمعنى الطلب، وفي الآية التي نبحثها جاءت بالمعنى الثّاني.

لذا فقوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) يعني لا يمل ولا يتعب الإنسان أبداً من طلب الخير والجميل.

وثمّة بيّن المفسّرين اختلاف في الرأي حول «يؤوس» و «قنوط» فيما إذا كانا بمعنى واحد أم لا؟

يرى البعض أنّهما بمعنى واحد، والتكرار للتأكيد(1).

وقال البعض الآخر: «يؤوس» من«يئس» بمعنى اليأس في القلب، أمّا «قنوط» فتعنى إظهار اليأس على الوجه وفي العمل(2).

أمّا «الطبرسي» فقد قال في مجمع البيان: إنّ الأوّل هو اليأس من الخير، بينما


1 ـ تفسير الميزان، المجلد 17، صفحة 426.

2 ـ الفخر الرازي في التّفسير الكبير، المجلد 27، صفحة 137; وروح المعاني، المجلد 25، صفحة 4.

[438]

الثّاني هو اليأس من الرحمة(1).

ولكن الذي نستفيد، من الاستخدام القرآني أنّ الاثنين يستخدمان تقريباً للدلالة على معنى واحد، فنقرأ في قصة يوسف ـ مثلا ـ أنّ يعقوب(عليه السلام) حذّر أبناءه من اليأس من رحمة الله، في حين كانت قلوبهم يائسة من العثور على يوسف، وكانوا أيضاً يظهرون علامات اليأس.(2).

وفي حالة إبراهيم(عليه السلام) نرى أنّهُ عجب من البشارة التي زفتها إليه الملائكة بالولد، لكن الملائكة قالت له: (بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين)(3).

الآية التالية تشير إلى صفة اُخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن العلم والإيمان متمثلة بالغرور: (ولئن اذقناه رحمةً منّا من بعد ضرّاء مسته ليقولن هذا لي)(4) أي إنّني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.

إنّ الإنسان المغرور ينسى أنّ البلاء كان من الممكن أن يشمله عوضاً عن النعمة، تماماً كما قال قارون: (قال إنّما أوتيته على علم عندي)(5).

تضيف الآية بعد ذلك أنّ هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار الآخرة حيث يقول: (وما أظن الساعة قائمة). ولنفرض أنّ هناك قيامة فإنّ حالي سيكون أحسن من هذا: (ولئن رجعت إلى ربّي انّ لي عندهُ للحسنى).

إنّ هذه الحالة تشابه ما استمعنا إليه في سورة الكهف من قصة الرجلين الذين كان أحدهما غنياً مغروراً، والثّاني عارفاً مؤمناً،حيث حكت الآية على لسان الثري المغرور قوله: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت


1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 18.

2 ـ يوسف، الآية 87 فما فوق.

3 ـ الحجر ـ 55.

4 ـ ذهب بعض المفسّرين للقول بأنّ جملة «هذا لي» تعني أنّ هذه النعمة ستبقى دائمأ لي، أي إنها في الحقيقة توضّح دوام ذلك، إلاّ أنّ التّفسير الذي عرضناه أعلاه أنسب بالرغم من إمكان الجمع بين الإثنين، أي إنهم يعتبرون أنفسهم مستحقين للنعم، ويتصورونها دائمة لهم أيضاً.

5 ـ القصص، الآية 78.

[439]

إلى ربّي لا جدنّ خيراً منها منقلباً)(1).

لكنّ الله يحذّر أمثال هؤلاء بقوله تعالى: (فلننبئنّ الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ).

«العذاب الغليظ» هو العذاب الشديد المتراكم.

نفس هذا المعنى لاحظناه في مكان آخر من القرآن، في قوله تعالى في الآية (10) من سورة هود: (ولئن اذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولن ذهب السيئات عنّي إنّه لفرح فخور).

الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء، هي حالة النسيان عند النعمة والفزع والجزع عند المصيبة.

يقول تعالى: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآ بجانبه) أما: (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض).

«نآ» من «نأي» على وزن «رأي» وتعني الابتعاد، وعندما تقترن مع كلمة «بجانبه» فتكون كناية عن التكبر والغرور، لأنّ المتكبرين ينأون بوجوههم دون اهتمام ويبتعدون.

«العريض» مقابل الطويل، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على الزيادة والكثرة.

وفي الاية (12) من سورة يونس نرى معاني شبيهة لما نحنُ بصدده، حيث يقول تعالى: (وإذا مسَّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنهُ ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون).

إنّ الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات، فهو مع إقبال النعم مغرور ناس لله، وإذا أدبرت عنهُ قنوط يائس كثير الجزع.

وفي الجانب المقابل نرى أنّ رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيرون


1 ـ الكهف، الآيات، 35 ـ 37.

[440]

إذا أقبلت عليهم النعم، ولا يهنون أو ييأسون أو يجزعون عند إدبارها، إنّهم مصداق قوله تعالى: (رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) فأربح التجارة لا تنسيهم ربّهم، إنّهم عارفون حق المعرفة بفلسفة النعمة والبلاء في هذه الدنيا، يعلمون أنّ الابتلاءات ناقوس خطر لهم، بينما النعم اختبار وامتحان إلهي لهم.

ومن الابتلاء ما يكون أحياناً عقوبةً للغفلة والنسيان، والنعم لإثارة دوافع الشكر لدى العباد.

ويلفت النظر هنا طرافة الاستخدام القرآني لكلمتي «أذقنا» و «مسه» والتي تعني أنّهم مع قليل جداً من إقبال الدنيا عليهم يتغيرون وينسون ويصابون بالغرور، وهؤلاء مع «مسّة» قليلة من ضرر أو بلاء يصابون باليأس والقنوط.

من هنا نقف على قيمة سعة الروح، وتدفق النفس بالإيمان، واتساع آفاق الفكر، وانشراح الصدر، واستعداد الإنسان لمواجهة المشاكل والصعاب، وتحدي المزالق والأهواء، التي تعتبر جميعأ من ثمار الإيمان والتقى.

يقول شهيد المحراب الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في أحد أدعيته التي تعتبر درساً لأصحابه: «نسأل الله سبحانهُ أن يحعلنا وإيّاكم ممن لا تبطره نعمة،  ولا تقصر به عن طاعة ربِّه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامةً وكئابة»(1).

الآية الأخيرة تتضمّن الخطاب الأخير لهؤلاء، وتبيّن لهم ـ بوضوح ـ الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل، حيث تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (قل أرأيتم إن كانَ من عندَ الله ثمّ كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد)(2).

ومن الواضح أن هذا الكلام إنّما يقال للاشخاص الذين لا ينفع معهم أيّ دليل منطقي لشدّة عنادهم وتعصبهم. فالآية تقول لهؤلاء: إذا كنتم ترفضون حقانية


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 64.

2 ـ «أرأيتم» تأتي عادةً بمعنى «أخبروني» وتفسّر بنفس المعنى.

[441]

القرآن والتوحيد ووجود عالم ما بعد الموت وتصرون عليه، فأنتم لا تملكون حتماً دليلا قاطعاً على هذا الرفض، لذا يبقى ثمّة احتمال في أن تكون دعوة القرآن وقضية المعاد حقيقة موجودة، عندها عليكم أن تتصوروا المصير الأسود الموحش الذي ينتظركم لعنادكم وضلالكم ومعارضتكم الشديدة إزاء الدين الإلهي.

إنّه نفس الأُسلوب الذي نقرأ عنهُ في محاججة أئمّة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد، كما نرى ذلك واضحاً في الحادثة التي ينقلها العلاّمة الكليني في «الكافي» حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادق(عليه السلام) وابن أبي العوجاء.

فمن المعروف أنّ «عبد الكريم بن أبي العوجاء» كان من ملاحدة عصره ودهرييها، وقد حضر الموسم (الحج) أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق في مجالس حوار، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنهُ إلى الإسلام، ولكنّ ابن أبي العوجاء لم يسلم، وقد صرح الإمام(ع) بأن سبب ذلك هو إنّه أعمى ولذلك  لا يسلم.

والحادثة موضع الشاهد هنا، هي أنّ الإمام بضُر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟

فاجاب ابن أبي العوجاء: عادة الجسد، وسنة البلد، ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة!

فقال لهُ الإمام: أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم(1).

وعندما أراد أن يبدأ بالمناقشة والجدال قال له الإمام(عليه السلام): لا جدال في الحج.


1 ـ يناديه الإمام بهذا الاسم، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكراً لله لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.

[442]

ثم قال لهُ: إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما نقول، نجونا ونجوت. وإن يكن الأمر كما نقول، وهو كما نقول نجونا وهلكت.

فأقبل عبد الكريم على من معه وقال: وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني،فردوه فمات(1).

* * *

 

مسألة:

يثار هنا السؤال الآتي: لقد قرأنا في الآيات التي نبحثها قوله تعالى: (إذا مسّهُ الشر فذو دعاء عريض) ولكنّا نقرأ في سورة «الإسراء» قوله تعالى: (وإذا مسّهّ الشرّ كان يؤوسا)(2)

والسؤال هنا كيف نوفق بين الآيتين، إذ المعروف أنّ الدعاء دليل الأمل، في حين تتحدث الآية الأُخرى عن يأس أمثال هؤلاء؟

أجاب بعض المفسّرين على هذا السؤال بتقسيم الناس إلى مجموعتين، مجموعة تيأس نهائياً عندما تصاب بالشر والبلاء، واُخرى تصر على الدعاء برغم ما بها من فزع وجزع(3).

البعض الآخر قال: إنّ اليأس يكون من تأمُّل الخير أو دفع الشر عن طريق الأسباب المادية العادية، وهذا لا ينافي أن يلجأ الإنسان إلى الله بالدعاء(4).

ويحتمل أن تكون الإجابة من خلال القول بأنّ المقصود من (ذو دعاء


1 ـ الكافي، المجلد الأوّل، ص 77 ـ 78، كتاب التوحيد باب حدوث العالم.

2 ـ الإسراء، الآية 83.

3 ـ تفسير روح البيان، المجلد الثامن، صفحة 280.

4 ـ تفسير الميزان، مجلد 17، ص 428، لكن هذا التّفسير لا يناسب المقام كثيراً، خاصة وإنّ الآيات أعلاه هي بصدد ذم مثل هؤلاء الأشخاص، في حين أنّ قطع الأمل من الأسباب الظاهرية والتوجّه نحو الله ليس عيباً وحسب، بل يستحق التنويه والمدح.

[443]

عريض) هو ليس الطلب من الله، بل الجزع والفزع الكثير، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية (20) من سورة المعارج: (إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسّهُ الشر جزوعاً).

أو أن الآيتين تعبّران عن حالتين، إذ أنّ هؤلاء الأفراد يقومون أولا بالدعاء وطلب الخير من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم فزعون جزعون، ثمّ لا تمرّ فترة قصيرة إلاّ ويصابون باليأس الذي يستوعب وجودهم كلّه.

 

* * *

 

[444]

الآيتان

سَنُرِيهِمْ ءَايَـتِنَا فِى الاَْفَاقِ وَفِى أْنَفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ( 53 ) أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْء مُّحيِطُ( 54 )

 

التّفسير

علائم الحق في العالم الكبير والصغير:

الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين، وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.

فالآية الأولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن)، والثانية عن المعاد.

يقول تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق).

«آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إنّ كلّ هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجودالله.

أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحير الذي

[445]

يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثمّ أسرار الروح العجيبة. إنّ كلّ ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.

صحيح أنّ هذه الآيات قد طرقت سابقاً بمقدار كاف من قبل الله تعالى، إلاّ أنّ هذه العملية والإراءة مستمرة، لأنّ(سنريهم) فعل مضارع يدل على الإستمرار، وإذا عاش الإنسان مئات الآلاف من السنين، فسوف تنكشف لهُ في كلّ زمان علامات وآيات إلهية جديدة، لأنّ أسرار العالم لا تنتهي.

إنّ كافة كتب وبحوث العلوم الطبيعية ومايتصل بمعرفة الإنسان في أبعاده المختلفة (التشريح، فسلجة الأعضاء، علم النفس، والتحليل النفسي) وكذلك العلوم التي تختص بمعرفة النباتات والحيوانات والهيئة والطبيعة وغير ذلك، تعتبر في الواقع كتباً وبحوثاً في التوحيد ومعرفة الخالق (جلّ وعلا) لأنّها عادةً ما ترفع الحجب عن الأسرار العجيبة لتبيّن قدراً من حكمة الخالق العظيم، وقدرته الأزلية، وعلمه الذي أحاط بكل شيء.

أحياناً يستحوذ علم واحد من هذه العلوم، بل فرع من فروعه المتعدّدة على اهتمام عالم من العلماء فيصرف عمرهُ في سبيله، وفي النهاية يقرّر قائلا: مع الأسف لا زلت لا أعرف شيئاً عن هذا الموضوع، وما علمتهُ لحد الآن تجعلني أغوص أكثر في أعماق جهلي،

نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى: (أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد)(1).

وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين


1 ـ ذهب الكثير من المفسّرين إلى أنّ «الباء» زائدة و«ربك» تقوم مقام الفاعل. وجملة «أنّه على كلّ شيء شهيد» «بدل» ذلك، والمعنى يكون هكذا: «أولم يكفهم أن ربّك على كلّ شيء شهيد» .

[446]

طبقات المخ العجيبة، وعلى الأغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض، وفي كلّ شيء من الوجود تجد أثراً يدل على الخالق، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

إنّ ما قلناه أعلاه هو أحد التّفسيرين المعروفين للآية، اذ بناءاً على هذا التّفسير فإن الآية بجميعها تتحدث عن قضية التوحيد، وتجلّي آيات الحق في الآفاق والأنفس.

أما التّفسير الثّاني فيذهب إلى قضية إعجاز القرآن، وخلاصته أنّ الله يريد أن يقول: لقد عرضنا معجزاتنا ودلائلنا المختلفة لا في جزيرة العرب وحسب، وإنّما في نواحي العالم المختلفة، وفي هؤلاء المشركين أنفسهم، حتى يعلموا بأنّ هذا القرآن على حق.

فمن آيات الآفاق ما تمثَّل بانتصار الإسلام في ميادين الحرب المختلفة، وفي ميدان المواجهة الفكرية والمنطقية، ثمّ انتصاره في المناطق التي فتحها وحكم فيها على أفكار الناس.

ثم إنّ نفس المجموعة من المسلمين التي كانت في مكّة، كيف يسَّر الله لها أمرها بالهجرة، ثمّ انطلقت إلى بقاع الدنيا، لتدين لدينها الشعوب في مناطق واسعة من العالم ورفع راية الإسلام.

ومن آيات الأنفس ما تمثل في انتصار المسلمين على مشركي مكّة في معركة بدر، وفي يوم فتح مكّة، ونفوذ نور الإسلام إلى قلوب العديد منهم.

إنّ هذه الآيآت الآفاقية والأنفسية اثبتت أنّ القرآن على حق.

وهكذا فإنّ الخالق العظيم الذي يشهد على كلّ شيء، شهد أيضاً على حقانية القرآن عن هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ لكل واحد من هذين التّفسيرين قرائن وأدلة ترجحهُ، إلاّ أن

[447]

التأمل في نهاية الآية والآية التي تليها يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل(1).

وثمّة أقوال اُخرى في تفسير الاية تركناها لعدم جدواها.

الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الاساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة، إذ يقول تعالى عنهم: (ألا إنّهم في مرية من لقاء ربّهم).

ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما كانت، ومهما بلغت. إنّ حجب الغفلة والغرور تهيمن على هؤلاء فتنسيهم لقاء الله، ممّا يؤدي بهم إلى السقوط عن مصاف الإنسانية.

ولكنّهم يجب أن يعلموا: (ألا إنّهُ بكل شيء محيط).

إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم الله، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر.

«مرية» على وزن «جزية» و«قرية» تعني التردُّد في اتخاذ القرار، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة، والكلمة مأخوذة في الأصل من «مريت الناقة» بمعنى عصر ثدي الناقة بعد حَلبها أملا بوجود بقايا الحليب فيه، ولأنّ هذا العمل مع الشك والتردُّد، فقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى.

وعندما نسمع إطلاق كلمة «المراء» على «المجادلة» فذلك لما يحاوله


1 ـ التّفسير الأوّل لهُ أربعة مرجحات هي:

أولا: إنّ أكثر ما تؤّكد عليه الآيات هو قضية التوحيد وأدلته.

ثانياً: ا،نّ تعبيري «آفاق وأنفس» أكثر تناسباً مع آيات التوحيد.

ثالثاً: نشير نهاية الآية في قوله تعالى: (أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد) إلى قضية التوحيد، وشهادة الله التكوينية على حقانية ذاته المنزَّهة.

رابعاً: الآية التي تليها تتحدث عن المعاد، ونحن نعرف أنّ المبدأ والمعاد غالباً ما يقترن أحدهما بالآخر.

أما التّفسير الأوّل فلهُ ثلاثة مرجحات هي:

أوّلا: إنّ ضمير «إنّه» مفرد للغائب، في حين أنّ ضمير «آياتنا» مُتكلّم مع الغير، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ ضمير من الضميرين يختص بمتابعة موضوع خاص.

ثانياً: إنّ الآية السابقة كانت حول القرآن بالخصوص.

ثالثاً: إن جملة «سنريهم» التي هي فعل مضارع للإستمرار، تفيد هذا المعنى بالذات; أي أنّ الآيات المذكورة سنعرضها فيمابعد.

[448]

الإنسان من إخراج ما في ذهن الطرف الآخر.

والآية ـ في هذا الجزء منها ـ رد على شبهات الكفار بخصوص المعاد، فهؤلاء يقولون: كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟ ومن يستطيع أن يجمع أجزاء الإنسان؟ والأكثر من ذلك: من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تأريخ البشرية؟

القرآن يجيب على كلّ ذلك بالقول: كيف يُمكن للخالق المحيط بكل شيء أنْ لا تكون هذه الأمور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟

ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شيء، هو تدبيره لكل هذه الأمور، فكيف يجوز لهُ أن لا يعلم بأُمور ما خلقَ ودبّر؟

بعض المفسّرين اعتبر أنّ الآية تختص بالتوحيد وليسَ بالمعاد، حيث يقول العلامة الطباطبائي في ذلك: «الذي يفيده السياق أنّ في الآية تنبيهاً على أنّهم لا ينتفعون بالإحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيداً على كلّ شيء، وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقل، لأنّهم في مرية وشك من لقاء ربّهم، وهو تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شيء من خلقه»(1).

ولكن هذا التّفسير مُستبعد نظراً لأنّ تعبير «لقاء الله» عادةً ما يأتي للكناية على يوم القيامة.

* * *

 

بحوث

أوّلا: التوحيد بين دليل «النظم» ودليل «الصدّيقين»

أشار الفلاسفة في بحوثهم حول التوحيد إلى الأهمية الكبيرة لنوعين من الإستدلال على الخالق جلَّ وعلا: أحدهما الإستدلال من خلال «النظم».


1 ـ تفسير الميزان. المجلد (17). صفحة (405).

[449]

والآخر دليل «الصديقين».

ودليل «النظم» كما يظهر من اسمه، يبدأ من نظام عالم الوجود وأسراره ودقائقه، ليرشد إلى مصدر العلم والقدرة والخلق الذي أوجد ذلك ودبره، والقرآن الكريم مليء بهذا النوع من الإستدلال، فهو يذكر نماذج كثيرة عن آيات الله في السماء والأرض وفي مظاهر الحياة ونظمها وما يمور فيها من كائنات، وينتهي من هذا الطريق إلى إثبات وجود الصانع المدَبّر (جلَّ وعلا).

إنّ كلّ شخص يستطيع استيعاب هذا النوع من الإستدلال مهما كان مستواه وعلى قدر ما يجمل من علم وإدراك، إذ يستفيد منه أكبر العلماء على قدر استعداده وثقافته استيعابه، في نفس الوقت الذي يستفيد منهُ الأمّي وغير المتعلّم وغير المطّلع على فنون العلوم والمعرفة.

أمّا دليل «الصديقين» فهو نوع من الإستدلال يقوم بالوصول إلى (الذات) بواسطة (الذات) نفسها، ومثل هؤلاء يعرفونه تعالى من خلال وجوب وجوده.

بعبارة اُخرى: إنّ الممكنات والمخلوقات لا تكون هنا واسطة لإثبات وجوده، بل إنّ ذاته بنفسه تدل على ذاته، ويكون تعالى مصداقاً لـ «يا من دلَّ على ذاته بذاته»(1) ومصداقاً أيضاً لـ(شهدالله أنّه لا إله إلا هو)(2).

إنّ هذا الإستدلال استدلال فلسفي معقد بحيث لا يستطيع أن يحيط بكنهه وبأعماقه إلاّ من يحيط بمبادئه، وليسَ من قصدنا هنا تبسيط الدليل فذلك شأن الكتب الفلسفية، وإنّما أردنا من خلال هذا العرض أن نقف على آراء بعض المفسّرين من الذين يعتقدون بأنّ مطلع الآية في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) يتضمّن إشارة إلى دليل «النظم» والعلة والمعلول. بينما اعتبروا نهاية الآية في قوله تعالى: (أو لم يكف بربك أنّه على كلِّ شيء شهيد) إشارة إلى دليل


1 ـ هذا المقطع من دعاء الصباح المنقول عن أمير المؤمنين(عليه السلام) .

2 ـ آل عمران، الآية 18.

[450]

«الصديقين».

ولكن ليسَ ثمّة قرائن واضحة من نفس الآية تؤيد فكرة هذا الإِستنتاج!

 

ثانياً: حقيقة إحاطة الله بكل شيء

يجب أن لا نتصور ـ مطلقاً ـ أنّ إحاطة الخالق جلَّ وعلا بالموجودات والكائنات تشبه إحاطة الهواء الذي يلف الكرة الأرضية ويغلِّفها، لأنّ مثل هذه الإحاطة هي دليل المحدودية، بل الإحاطة المعنية هنا تتضمن معنى دقيقاً ولطيفاً يتمثل في ارتباط كلّ الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.

وبعبارة اُخرى: لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به، بحيث لو زال هذا الإرتباط لحظة واحدة فلا يبقى شيء منها.

إنّ هذه الإحاطة نتلمّس كنهها وحقيقتها في الكلمات الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) إذ يقول: «مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة».

وقد نلمح هذا المعنى بعينه فيما ذكره الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء عرفة ذي المحتوى العميق، إذ يقول فيه: «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً»(1).

 

ثالثاً: آيات الآفاق والأنفس

لو أُتيح للإنسان أن ينكر كلّ ما يستطيع، فهو لا يستطيع أن ينكر وجود نظام دقيق قائم يعم بنسقه عالم الوجود، فأحياناً يقضي عالم معين كلّ عمره بالدرس


1 ـ مقطع من دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة، وهو ممّا تذخر به كتب الأدعية.

[451]

والمطالعة حول تركيب العين وأسرارها أو المخ أو القلب، ويقرأ الكتب الكثيرة ممّا كتب حول الموضوع، إلاّ أنّه أخيراً يعترف بأنّ هناك أسراراً كثيرة حول موضوعه لا تزال مجهولة.

وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّ علوم علماء اليوم، ليست هي سوى نتيجة متراكمة لجهود ودراسات آلاف العلماء عبر تأريخ البشر.