![]() |
![]() |
![]() |
إنّ المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل أو الخوف أو نتاج العامل الإقتصادي والأُمور الأُخرى لإضلال الناس، هي بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة.
القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى: (أفمن يُلقى في النّار خير أم مَن يأتي آمناً يوم القيامة)؟
الاشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنّم، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم الى التوحيد والإيمان، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟
وقال بعض المفسّرين: إنّ الآية تقصد «أباجهل» «أبو جهل» كنموذج للغواية ولأهل النّار، وفي الجانب المقابل ذكروا «حمزة» عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو «عمار بن ياسر» لكن من الواضح أنّ هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقاً للآية ذات المفهوم الواسع.
والطريف في هذا الجزء من الآية أنّ التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في
مخاطبة أهل النّار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم، بينما يستخدم كلمة «يأتي» في مخاطبة أهل الجنّة، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في اختيار الأمن والهدوء.
وفوق كلّ هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنّة، بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر، وفي ذلك إشارة إلى أنّ أهم قضية في ذلك اليوم هي «الأمن».
وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله: افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء: (اعملوا ما شئتم).
لكن عليكم أن تعلموا: (أنّه بما تعملون بصير).
لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون، أو أن يتصرفوا بما يرغبون، بل هو تهديد لهم بأنّهم لا يصغون لكلام الحق، إنّه تهديد يتضمّن توعُّد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين.
الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى: (إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم)(1).
إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته، وقد ورد نظير ذلك في الآية (9) من سورة «الحجر» في قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون).
ثمّ تنعطف الآية لبيان عظمة القرآن فتقول: (وإنّه لكتاب عزيز).
إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه، منطقه عظيم
1 ـ لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول خبر «إنّ الذين» أنسبها اًن نقول بأنّ الخبر هو جملة (لا يخفون علينا) حيث حذف بقرينة الآية السابقة. وقال البعض: إنّ الخبر هو جملة «يلقون في النّار» المستفادة من الآية السابقة، بينما قال البعض بأنّه جملة «أولئك ينادون من مكان بعيد» التي ترد في الآيات القادمة، لكن الرأي الأوّل أرجح.
واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الأحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.
ثم تذكر الآية صفة اُخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) لأنّه: (تنزيل من حكيم حميد).
أفعال الله عزوجل لا تكون إلاّ وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.
لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل...) إلاّ أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه، من أي طريق كان، ومهما كان الأُسلوب، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشيء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.
لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.
لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره،، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضاً.
لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلا.
إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (9) من سورة «الحجر» حيث قوله تعالى: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(1).
ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى: (من بين يديه ومن خلفه) كناية عن جميع الجوانب والجهات، بمعنى أنهُ لن يصيبهُ البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل، فان
1 ـ لقد اختار هذا التّفسير الزمخشري في كشافه، وللعلاّمة الطباطبائي حديث يشبه هذا في تفسير الميزان، في حين حدّد بعض المفسّرين مصطلح الباطل بالشيطان أو المحرفين، أو الكذب، وما شابه. وقد ورد في حديث عن الباقر والصادق قولهما عليهما السلام:«إنّه ليس في أخباره عما مضى باطل، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل» كما نقل عنهما عليهما السلام صاحب مجمع البيان. وواضح أن ما ذكر هو مصاديق لمفهوم الآية.
قولهم هذا مصداق للمفهوم الأول.
«الباطل» كما يرى الراغب في مفرداته: هو ما يقابل الحق، ولكن قد يفسّر أو يراد به أحياناً أحد مصاديقه كالشرك والشيطان والمعدوم والساحر.
ويطلق على الشجاع بـ «البطل» لأنّه يبطل أعداءه ويقتلهم أو يلقي بهم خارجاً.
لكن «باطل» في الآية تنطوي على مفهوم مطلق غير محدّد بمصداق معين.
والتعبير الأخير في الآية (تنزيل من حكيم حميد) دليل واضح على عدم وصول الباطل بأي طريق من الطرق إلى القرآن الكريم، فالباطل قد يسري الى الكلام الذي يصدر من الأفراد ذوي العلم المحدود والقدرات النسبية.
أمّا الذي يتصف بالعلم المطلق والحكمة المطلقة ويجمع كلّ الصفات الكمالية التي تجعله أهلا للحمد، فلا يطرأ على كلامه التناقض والاختلاف، ولا ينسخ أو ينقض، أو تمتد إليه يد التحريف، ولا يتناقض كلامه مع الكتب السماوية والحقائق السابقة، ولا يعارض بالمكتشفات العلمية الراهنة، أو تلك التي يكشفها المستقبل.
وأخيراً، الآية واضحة الدلالة على نفي التحريف عن القرآن الكريم، سواء من جهة الزيادة أو النقصان (هناك بحث مفصل حول نفي التحريف أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (9) من سورة «الحجر».
سؤال:
قد يقال: إذا كان الباطل هو ما أشرنا إليه، أي كلّ ما يتصف بأنّه «المخالف الحق» فإننا في تفسير الآية (وكذلك المفسّرين الأخرين) فسّرناه بمعنى «المبطل» فكيف يتسق ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ملاحظة دقيقة في الأُسلوب القرآني، فالقرآن لا يقول: سوف لا يأتي باطل بعد هذا الكتاب السماوي، بل يقول لا يأتي الباطل إلى هذا الكتاب (أي القرآن) [ينبغي الإنتباه إلى ضمير جملة: يأتيه].
ومعنى الكلام أن لا شيء يستطيع أن يصل إليه ويبطله. (فدقق في ذلك).
* * *
مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة وَذُو عِقَاب أَلِيم( 43 ) وَلَوْ جَعَلْنَـهُ قُرْءَاناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْ لاَ فُصِّلَتْ ءَايَـتُهُ ءَاْعَجِمىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدىً وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَـئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَان بَعِيد( 44 ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب( 45 ) مَّنْ عَمِلَ صَـلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ( 46 )
قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه، والتصدي للاسلام والقرآن والايات السابقة كانت تحكي عن الحادهم وكفرهم بآيات الله لذلك جاءت الآية الأولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وارشاد
المسلمين الذين يواجهون الأذى بأنّ لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر.
يقول تعالى: (ما يقال لك إلاّ ما قد قبل للرسل من قبلك).
فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.
إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديداً أيضاً، لذلك ما عليك ـ يا رسول الله ـ إلاّ أن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء، لأنّ الله معك.
احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الآية هو: أنّ الكلام الذي قيل لك من قبل الله هو نفس الكلام الذي قيلَ لمن قبلك من الأنبياء(1).
لكن المعنى الأوّل أنسب في المقام، خاصة مع ملاحظة سياق الآيات القادمة.
يقول الله تبارك وتعالى في نهاية الآية: (إنّ ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم).
فرحمتهُ ومغفرته للمصدّقين، وعذابه للمكذبين والمعارضين.
وهذا الجزء من الآية هو بشارة للمؤمنين وتشويق لهم، وإنذارٌ للكفار وتهديد لهم.
إنّ تقديم (المغفرة) على (العقاب) يشبه ـ في الواقع ـ الموارد الأُخرى، وهو دليل على تقدّم رحمته تعالى على غضبه، كما جاء في المأثور من الدعاء: «يامن سبقت رحمتهُ غضبهُ»(2).
الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين، وترد على واحدة منها، إذ هم كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منهُ غير العرب؟
1 ـ هذا الإحتمال يمكن ملاحظته في تفسير «مجمع البيان» و «التّفسير الكبير» ولكنّ كليهما رجح التفسير الأوّل.
2 ـ عن دعاء الجوشن الكبر. الفصل (19) الجملة الثامنة.
إنّها حجّة عجيبة!
ولعلّهم كانوا يستهدفون منها عدم فهم الناس القرآن حتى لا يضطروا إلى منعهم عنه، كما حكى القرآن عن سلوكهم هذا في آية سابقة في قوله تعالى: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه)(1).
وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته).
ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: (أأعجمي وعربي).
أو يقولون: كتاب أعجمي لأُمّة تنطق بالعربية؟!
والآن وبالرغم من نزوله بلسان عربي، والجميع يدرك معانيه بوضوح ويفهم عمق دعوة القرآن، إلاّ أنّهم ومع ذلك نراهم يصرخون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه).
إنّ الآية تتحدث في الواقع عن المرض الكامن في نفوس هؤلاء وعجزهم عن مواكبة الهدى والنور الذي أنزل عليهم من ربّهم، فإذا جاءهم بلسانهم العربي قالوا: هو السحر والأسطورة، وإذا جاءهم بلسان أعجمي فإنّهم سيعتبرونه غير مفهوم، وإذا جاءهم مزيجاً من الألفاظ العربية والأعجمية عندها سيقولون بأنّه غير موزون(2)!!
وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ كلمة (أعجمي) من «عجمة» على وزن «لقمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق «عجم» على غير العرب لأن العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أو غير عربي.
بناءاً على هذا فإنّ (أعجمي) هي (أعجم) منسوبة بالياء.
1 ـ في تفسير الفخر الرازي نقرأ قوله: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار لأجل التعنت قالوا: لو نزل القرآن بلغة العجم».
2 ـ بعض المفسّرين فسّر قوله تعالى: (أأعجمي وعربي) بنفس معناه المباشر أي مزيج وخليط بين العربي والأعجمي.
ثم يخاطب القرآن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء).
أمّا لغيرهم: (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أيّ «ثقل» ولذلك لا يدركونه.
ثم إنّه: (وهو عليهم عمى)(1). أيّ أنّهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء كالاشخاص الذين ينادون من بعيد: (أُولئك ينادون من مكان بعيد).
ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لا يسمعون ولا يبصرون. فلأجل العثور على الطريق والوصول إلى الهدف لا يكفي وجود النور وحده، فيجب أن تكون هناك عين تبصر، كذلك يقال في مسألة التعلّم، حيثُ لا يكفي وجود المبلّغ والداعية الفصيح، بل ينبغي أن تكون هناك أذن تسمع وتعي، فلا شك في بركة المطر وتأثيره في نمو النباتات. ولكن المسألة في الارض. طيبة أم خبيثة!!
فالذين يتعاملون مع القرآن بروح تبحث عن الحقيقة سيهتدون وستشفى نفوسهم وصدورهم به، حيث يعالج القرآن الكريم الأمراض الأخلاقية والروحية، ثم يشدّون الرحال للسفر نحو الآفاق العالية في ظل نور القرآن وهداه.
أمّا ماذا يستفيد المعاندون والمتعصبون وأعداء الحق والحقيقة وأعداء الأنبياء والرسل من كتاب الله تعالى، فهم في الواقع مثلهم مثل الأعمى والأصم ومن ينادى من مكان بعيد، فهل تراه يسمع النداء أو يستجيب لهداه، إنّهم كمن أصيب بالعمى والصمم المضاعف، وهو بعد ذلك في مكان بعيد!!
ونقل بعض المفسّرين أنّ أهل اللغة يقولون لمن يفهم: أنت تسمع من قريب.
ويقولون لمن لا يفهم: أنت تنادى من بعيد(2).
«وثمّة شرح مفصل حول شفاء القرآن ومعالجته لآلام الإنسان الروحية،
1 ـ بعض المفسّرين ذهب إلى القول بأنّ الجملة أعلاه معناها هو: أنّ القرآن هو سبب في عمى هذه الفئة وعدم رؤيتها» في حين أنّ الراغب في المفردات وابن منظور في لسان العرب اعتبرا قول العرب «عمي عليه» بمعنى أنّهُ «اشتبه حتى صار الإضافة إليه كالأعمى» وبناءاً على هذا يكون المراد من الآية هو ما ذهبنا إليه في المتن.
2 ـ يلاحظ ذلك في تفسير القرطبي حديثه عن الآية.
يمكن مراجعته ذيل الآية (82) من سورة الإسراء.»
الآية التالية تستمر في مواساة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه وتقول لهم: إنّ للعناد والإنكار تأريخ طويل في حياة النبوات: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه).
وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجّة عليهم: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم) أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.
إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور، وبغية إتمام الحجّة عليهم، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة، وهي تجري في قومك أيضاً.
لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد: (وإنّهم لفي شك منهُ مريب).
«مريب» من «ريب» بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى الآية: إنّ المشركين لا يشكون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدي بزعمهم إلى الريب.
بعض المفسّرين احتمل أنّ مراد الجملة الأخيرة هم اليهود وكتاب موسى(عليه السلام)، بمعنى أنّ هؤلاء القوم لا يزالون يشكون في التوراة، لكن بعد هذا المعنى يرجح التّفسير الأول(1).
في الآية الأخيرة ـ من المجموعة ـ نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس، وقد أكّده القرآن مراراً. وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرّباني.
يقول تعالى في هذا القانون: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما
1 ـ ينبغي أن يلاحظ أنّ الآية بعينها وردت في سورة هود آية (110).
ربّك بظلاّم للعبيد).
لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا الله تعالى ولا يضروك، لأن الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.
* * *
قوله تعالى: (وماربّك بظلام للعبيد) دليل واضح على قانون الإختيار وحربة الإرادة، وفيه حقيقة أنّ الله لا يعاقب أحداً بدون سبب، ولا يزيد في عقاب أحد دون دليل، فسياستهُ في عباده العدالة المحضة، لأن الظلم يكون بسبب النقص والجهل والاهواء النفسية، والذات الإلهية المقدسة منزّهة عن كلّ هذه العيوب والنواقص.
كلمة «ظلاّم» والتي هي صيغة مبالغة بمعنى «كثير الظلم»، يمكن أن تشير ـ هنا وفي آيات قرآنية اُخرى ـ إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقاً للظلم الكثير، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.
وذهب بعضهم الى أن الله تعالى لهُ عباد كثر، فلو أراد أن يظلم كلّ واحد منهم بجزء يسير قليل، عندها سيكون مصداقاً لـ«ظلاّم».
وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.
المهم هنا أنّ القرآن وفي هذه الآيات البينات نفى الجبر الذي يؤدي الى اشاعة الفساد وارتكاب أنواع القبائح، والاعتقاد به يؤدي إلى إلغاء أي نوع من المسؤولية والتكليف، بينما الجميع مسؤولون عن أعمالهم، نتائجها تعود بالدرجة الأولى عليهم.
لذلك نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في الإجابة على هذا السؤال: هل يجبر الله عباده على المعاصي؟
فقال: «لا، بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا».
فسئل(عليه السلام) مجدداً: هل كلف عباده ما لا يطيقون؟
أجاب الإمام(عليه السلام): «كيف يفعل ذلك وهو يقول:(وما ربّك بظلام للعبيد)».
ثم أضاف الإمام الرضا(عليه السلام): «إنّ أبي موسى بن جعفر نقل عن أبيه جعفر بن محمّد من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئاً»(1).
إنّ هذا الحديث الشريف يشير ـ ضمناً ـ إلى هذه الملاحظة الدقيقة. وهي إنّ الجبريين ينتهون في عقيدتهم إلى القول بـ «التكليف بما لا يطاق» لأنّ الإنسان إذا كان مجبوراً على الذنب من ناحية، وممنوعاً عنه من ناحية اُخرى، فهذا يكون مصداقاً واضحاً للتكليف بما لا يُطاق.
في حديث عميق الدلالة لأمير المؤمنين نقراً قوله(عليه السلام): «وأيم الله! ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأنّ الله ليس بظلام للعبيد».
ثم أضاف(عليه السلام):
«ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد.»(2)
1 ـ عيون أخبار الرضا، نقلا عن نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 555.
2 ـ نهج البلاغه، الخطبة 188.
إنّ هذا النص العلوي الكريم يوضح ـ بجلاء ـ علاقة الذنوب بسلب النعم وزوالها.
لا شك أنّ اللغة العربية أغنى اللغات وأوسعها، ولكن مع هذا فإنّ عظمة القرآن ليست لأنّه باللغة العربية، بل تعود عربية القرآن إلى أنّ الله يرسل الرسل بلسان قومهم كي يؤمنوا أولا، ثمّ ينتشر الدين إلى الأخرين.
لكن أصحاب الذرائع والحجج يطرحون في كلّ موقف حجة أو ذريعة غير منطقية، وهم يعلمون أنّهم بأُسلوبهم هذا لا يبحثون عن الحقيقة ولا ينشدونها.
إنّهم يقولون مرّة: لماذا نزل القرآن بالعربية؟ ألم يكن من الأفضل أن ينزل كلّه أو جزء منهُ بلغة اُخرى حتى يفهمهُ الآخرون؟ (في حين أنّهم كانوا يهدفون إلى تحقيق شيء آخر هو أن لا ينجذب عامة العرب نحو القرآن الكريم).
ولو حقّق لهم هذا الطلب فسيقولون: كيف يكون الرّسول عربياً وكتابه غير عربي؟
هؤلاء إنّما يهربون من الحق من خلال هذا التذرُّع. وعادةً ما يكون أسلوب التذرُّع وإثارة الحجج دليلا على وجود علة اُخرى وهدف آخر يخفيه الإنسان ويغطّي عليه، وعلّة هؤلاء القوم كانت أنّ عامة الناس شغفوا بالقرآن الكريم وانجذبوا إليه، فأصبحت مصالحهم في خطر، لذا فقد استخدموا كلّ الوسائل المتاحة لهم لمواجهة الإسلام دعوة وكتاباً ونبيّاً.
* * *
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَت مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى قَالُوآْ ءَاذَنَّـكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيد( 47 ) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيص( 48 )
الآية الأخيرة ـ في المجموعة السابقة ـ تحدثت عن قانون تحمّل الإنسان لمسؤولية أعماله خيراً كانت أم شراً، وعودة آثار أعماله على نفسه، وهي إشارة ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.
وهنا يطرح المشركون هذا السؤال: متى تكون هذه القيامة التي تتحدّث عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أولا عن هذا السؤال، إذ يقول القرآن: إنّ الله وحده يختص بعلم قيام الساعة: (إليه يرد علم الساعة).
فلا يعلم بذلك نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب، ويجب أن يكون الأمر كذلك لأغراض تربوية يكون فيها المكلّف على استعداد دائم للمحاسبة في أي ساعة.
ثم تضيف الآية: ليس علم الساعة لوحدها من مختصات العلم الإلهي فحسب، بل يندرج معها أشياء اُخرى مثل أسرار هذا العالم، وما يختص بالكائنات الظاهرة والمخفية: (وماتخرج من ثمرات من أكمامها وماتحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه)(1). إنّ النباتات لا تنمو، والحيوانات لا تتكاثر، ولا يضع الإنسان نطفة إلاّ بأمر الخالق العظيم، وبمقتضى علمه وحكمته.
«أكمام» جمع «كم» على وزن «جم» وتعني الغلاف الذي يغطّي الفاكهة و«كم» على وزن «قُم» تعني الجزء من الرداء الذي يغطّي اليد. أمّا «كمة» على وزن «قبة» فهي القلنسوة على الرأس(2).
قال العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: تكمم الرجل في ثوبة، أي غطّى الشخص نفسه بلباسة.
أمّا الفخر الرازي فيفسّر «الأكمام» بمعنى القشرة التي تغطي الفاكهة.
وهناك من المفسّرين من فسروها بأنّها: «وعاء الثمرة»(3).
ويبدو أنّ جميع هذه الآراء تعود إلى معنى واحد، ولأنّ أدق المراحل في عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة، لذلك أكّد القرآن على هاتين القضيتين، سواء في عالم الإنسان والحيوان، أم في عالم النبات.
فالله هو الذي يعلم بالنطف وزمان انعقادها في الأرحام ولحظة ولادتها، ويعلم متى تتشكل الثمار وتنمو، ومتى تخرج من أغلفتها.
ثم يضيف السياق القرآني: إنّ هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزىء بها، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه: (ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منّا من شهيد)(4).
1 ـ «من» في «من الثمرات» و «من أثنى» وكذلك في «من شهيد» تأتي في نهاية الآية كلّها، زائدة جاءت هنا للتأكيد.
2 ـ يلاحظ الراغب في المفردات.
3 ـ تفسير الميزان وتفسير المراغي.
4 ـ «آذناك» من «إيذان» بمعنى الإعلان. وجملة «يوم يناديهم» تتعلق بمحذوف. والتقدير: «اذكر يوم يناديهم...».
لقد ذكروا لهذه الجملة تفسيراً آخر هو: لا يوجد بيننا اليوم من يشهد بوجود شريك لك، والكل ينكر وجود الشريك.فما كنّا نقوله هو كلام باطل كان كلاماً نابعاً من الجهل والعناد والتقليد الأعمى، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.
وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجلون اعترافهم السابق، فهم أيضاً لا يشاهدون أثراً للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله من قبل: (وضلّ عنهم ما كانوا يدعون من قبل).
إنّ مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب، فينسون خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها القرابين; بل وكانوا أحياناً يضحون بأرواحهم في سبيلها، وكانوا يظنون أنّها تحل لهم مشكلاتهم وتنفعهم يوم الحاجة... إنّ كلّ ذلك أصبح وهماً كالسراب.
ففي ذلك اليوم سيعلمون: (وظنوا ما لهم من محيص).
«محيص» من «حيص» على وزن «حيف» وتعني العدول والتنازل عن شيء، ولأنّ (محيص) اسم مكان، فهي تعني هنا الملجأ والمفر.
«ظنوا» من «ظنَّ» ولها في اللغة معنىً واسع، فهي أحياناً بمعنى اليقين، وتأتي أيضاً بمعنى الظن. وفي الآية مورد البحث جاءت بمعنى اليقين، إذ أنّهم سيحصل لهم في ذلك اليوم اليقين حيثُ لا مفرَّ ولا نجاة من عذاب الله.
![]() |
![]() |
![]() |