![]() |
![]() |
![]() |
إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته و بعد رحلته و ذاباً عن الدعوة الجديدة، واستمرّ في كلّ المراحل و الأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.
* * *
1 ـ يلاحظ الصدوق في «الأمالي» وابن حجر في الفصل الثّاني الباب التاسع من «الصواعق».
وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاَْحْزَابِ( 30 ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ( 31 ) وَيَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ( 32 ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَالَكُمْ مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِم وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ هَاد( 33 )
كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، و كانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.
لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى(عليه السلام) يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: (وقال الذي آمن يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب).
ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الاقوام السالفة. (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم)(1).
لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة، وبعضهم بالصواعق المحرقة، ومجموعة بالزلازل المخرّبة.
واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون: ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك; أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم ; ترى ماذا عمل أُولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟
ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم و يقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبماجنت أيديكم: (وما الله يريد ظلماً للعباد).
لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل أنبياءه لهدايتهم، ولصدّ طغيان العتاة عنهم، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.
ثم تضيف الآية على لسانه: (ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلاّ أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.
«التناد» مأخوذة اًصلا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» (وهي في الأصل (التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلّها) والمشهور بين المفسّرين أنّ
1 ـ «داب» على وزن (ضرب) تعني في الأصل الإستمرار في السير، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثمّ أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة ... والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على الشرك والطغيان والظلم والكفر.
(يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة، وقد ذكروا أسباباً لهذه التسمية متشابهة تقريباً، فمنهم من يقول: إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النّار لأهل الجنّة، كما يقول القرآن: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله) فجاءهم الجواب: (إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين)(1)(2). أو أنّ التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلباً للعون والمساعدة.
وهناك من قال: إن سبب التسمية يعود إلى أنّ الملائكة تناديهم للحساب، وهم يطلبون العون من الملائكة.
أو لأنّ منادي المحشر ينادي: (ألا لعنة الله على الظالمين)(3).
وقال بعضهم: إنّ السبب يعود إلى أنّ المؤمن عندما يشاهد صحيفة أعماله ينادي برضى وشوق: (هآؤم اقرؤا كتابيه)(4) بينما الكافر من شدة خوفه و هول ما يحلّ به يصرخ وينادي: (ياليتني لم أوت كتابيه)(5).
ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية، بحيث يشمل «يوم التناد في هذه الدنيا أيضاً، لأنّ المعنى ـ كما رأيناـ يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر) وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.
وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيّام التي ينزل فيها العذاب الإلهي، أو الأيّام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما ارتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اُخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث
1 ـ الأعراف، الآية 50.
2 ـ ورد هذا المعنى أيضاً في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب «معانى الأخبار» للصدوق.
3 ـ هود، الآية 18.
4 ـ الحاقة، الآية 19.
5 ـ الحاقة، الآية 25.
يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!
الآية التاليةتفسّر يوم التناد بقولها: (يوم تولّون مدبرين مالكم من الله من عاصم).
ومثل هؤلاء حق عليهم القول: (ومن يضلل الله فما له من هاد) إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن الطريق المستقيم، سيظلّون في الآخرة عن الجنّة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون: (ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).
* * *
وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ( 34 ) الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَـن أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار( 35 )
هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع، كلّ منها اكتسى بلون من المخاطبة، و شكل من الدليل، الذي يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به، بغية محو الصدأ وآثار الكفر السوداء منها كي تذعن لله ورسالاته و أنبيائه، وتترك التكبر والطغيان:
المقطع الأوّل: راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة من جهتين: (قال لهم: لو كان موسى كاذباً فسينال جزاء
كذبه، أمّا لو كان صادقاً فيشملنا العذاب، إذاً عليكم أن لا تتركوا العمل بالإحتياط).
المقطع الثّاني: وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمّل بما حلّ بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء، كي يأخذوا العبرة من ذلك المصير!
المقطع الثّالث: كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكر هم الآيات ـ من خلال خطاب مؤمن آل فرعون ـ بجزء من تأريخهم، هذا التأريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم، ولم تمحى بعد أواصر الإرتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه ; وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسف (عليه السلام)، الذي يعتبر أحد أجداد موسى، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)(1) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم: (فمازلتم في شك ممّا جاءكم به).
وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.
ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات، قلتم: (حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا).
بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).
لقد سلكتم سبيل الأسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.
واليوم ـ والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم ـ اتبعتم نفس
1 ـ تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسف(عليه السلام) ، وإن كنّا لا نعدم إشارات متفرقة لهذه النبوّة في سياق آيات قرآنية اُخرى.
الأسلوب حيال دعوة موسى(عليه السلام)، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته، فابتعدت عنكم أنوار الهداية، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة.
الآية الكريمة التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول الله تبارك وتعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)(1).
هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل، بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية، كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.
وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا، تقول الآية: (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا)(2).
ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء للآخرين، حيث تنطفيء أنوار الهداية في تلك الأوساط، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.
في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرّر الآية قوله تعالى:(كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبّار )(3).
أجل، إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح، بحيث ينتهي الأمر إلى أن
1 ـ (الذين) هنا بدل عن «مسرف مرتاب» إلاّ أنّ المبدل عنه مفرد، في حين أنّ البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك أنّ الخطاب لا يستهدف شخصاً معيناً وإنّما يشتمل على النوع.
2 ـ فاعل «كبر» هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة، أمّا «مقتاً» فهي تمييز، فيما يرى بعض المفسّرين أنّ الفاعل هو «مسرف مرتاب» إلاّ أنّ الرأي الأوّل أفضل.
3 ـ «متكبر جبار» وصف للقلب، وليست وصفاً لشخص، بالرغم من أنّها مضافة. اشارة الى أنّ أساس التكبر والتجبر انما ينبع من القلب، ولأنّ القلب يسيطر على كلّ أعضاء ووجود الإنسان، فإنّ كلّ الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذيء.
يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد، ولا ادخال المحتوى الهادي الصحيح.
إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق و أهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر و التجبر، فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مراً في مذاقهم، والباطل حلواً.
وفي كلّ الأحوال، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفاً، فانتهى ـ كما سيظهر في الآية اللاحقة ـ إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسى(عليه السلام)، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا لمخطط إلى أن استطاع موسى(عليه السلام) أن يفلت من الخطر.
لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله (عليه السلام): وكما سيتضح لاحقاً من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضاً في هذا السبيل.
* * *
وَقَالَ فِرْعَوْنَ يَـهَـمَـنُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاَْسْبَـبَ ( 36 )أَسْبَـبَ السَّمَـوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّى لاََظُنُّهُ كَـذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إَلاَّ فِى تَبَاب( 37 )
بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في أثناء عزم فرعون عن قتل الكليم(عليه السلام)، إلاّ أنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبره وتعاليه إزاء الحق، لأنّ فرعون لم يكن ليملك مثل هذا الإستعداد أو اللياقة الكافية للهداية، لذلك نراه يواصل السير في نهجه الشرير، إذ يأمر وزيره هامان ببناء برج للصعود إلى السماء (!!) كي يجمع المعلومات عن إله موسى، يقول تعالى في وصف هذا الموقف: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب). أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني الى السماوات.
(أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذباً).
ولكن ماذا كانت النتيجة؟! (كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلاّ في تباب).
«الصرح» في الأصل تعني الوضوح، و«التصريح» بمعنى التوضيح، ثمّ عُمّمَ معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية، وذلك لأنّها واضحة ومميّزة بشكل كامل، وقد ذكر هذا المعنى العديد من المفسّرين واللغويين.
«تباب» تعني الخسارة والهلاك.
إنّ أول ما يطالعنا هنا هو السؤال عن الهدف الذي كان فرعون يرغب بتحقيقه من خلال عمله هذا.
هل كان فرعون بهذا لمقدار من الغباء والحماقة والسذاجة بحيث يعتقد أن إله موسى موجود فعلا في مكان ما من السماء؟ وإذا كان موجوداً في السماء، فهل يستطيع الوصول إليه بواسطة إقامة بناء مرتفع يعتبر ارتفاعه تافهاً إزاء جبال الكرة الأرضية؟
إنّ هذا الاحتمال ضعيف للغاية، ذلك لأنّ فرعون بالرغم من غروره و تكبره،فقد كان يمتاز بالذكاء والقدرة السياسية التي أهّلته للسيطرة على شعب كبير لسنين مديدة من خلال أساليب القهر والقوة والخداع.
لذلك كلّه نرى الموقف يدعونا إلى تحليل هذا التصرف الفرعوني لمعرفة دواعيه وأهدافه الشيطانية.
فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرّف والأهداف هذه هي:
أولا: أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوة موسى(عليه السلام) وثورة بني إسرائيل. وقضية بناء مثل هذا الصرح المرتفع يمكن أن تحوز على اهتمام الناس، وتهيمن على اهتماماتهم الفكرية، وبالتالي إلى صرفهم عن القضية الأساسية.
وفي هذا الإطار يلاحظ بعض المفسّرين أن فرعون خصص لبناء صرحه مساحة واسعة من الأراضي، ووظّف في إقامته خمسين ألفأ من العمال والبنائين المهرة، بالإضافة إلى من انشغل بتهيئة وسائل العمل والتمهيد لتنفيذ المشروع، وكلما كان البناء يرتفع أكثر كلّما ازداد تأثيره في الناس، وأخذ يجلب إليه الإهتمام والأنظار أكثر، إذ أصبح الصرح حديث المجالس، والخبر الأوّل الذي يتناقله الناس، وفي مقابل ذلك يتناسون قضية انتصار موسى(عليه السلام) على السحرة ـ ولو مؤقتاـ خصوصاً مع الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الإهتزاز العنيف الذي ألحق بجهاز فرعون وأساط الناس.
ثانياً: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس، وعلى الأخص العاطلين منهم، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاءٌ ـ ولو مؤقتاًـ عن مظالم فرعون و ينسون جرائمه وظلمه. و من ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدي إلى ارتباطهم بخزانة فرعون وأمواله، وبالتالي ارتباطهم بنظامه وسياساته!
ثالثاً: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح، أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه، ويرمق السماء ببصره، أو يرمي سهماً نحو السماء، ويرجع الى الناس فيقول لهم: لقد انتهى كلّ شيء بالنسبة لإله موسى. والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال!!
أما بالنسبة إلى فرعون نفسه، فقد كان يعلم أنّه حتى لو ارتقى الجبال الشامخات التي تتطاول في علوها على صرحه، فإنّه سوف لن يشاهد أي شيء آخر يفترق عمّآ يشاهده وهو يقف على الأرض المستوية يتطلع نحو السماء!
والطريف في الأمر هنا أنّ فرعون بعد قوله: (فاطلع إلى موسى) رجع خطوة إلى الوراء فنزل عن يقينه إلى الشك، حيث قال بعد ذلك: (وإنّي لأظنه كاذباً) إذ استخدم تعبير «أظن»!
والجدير بالإشارة هنا أنّ القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: (كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلاّ في تباب) ذكر ثلاث قضايا ذات محتوى كبير بجمل قصيرة، حيث قال أولا: إن السبب الرئيسي في انحراف فرعون عن جادة الصواب يعود إلى تزيين عمله القبيح في نظره بسبب غروره و تكبره.
ثم تناول بعد ذلك نتيجة ذلك متمثلةً بالضلال عن طريق الحق والهدى والنور.
وفي الجملة الثّالثة لخصت الآية مال مخططات فرعون، هذا المآل الذي تمثل بالفشل الذريع والتباب والخسران.
طبعاً، يمكن للخطط السياسية والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطراً من الزمان، وتؤثر فيهم لفترة من الوقت، إلاّ أنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.
فقد ورد في بعض الرّوايات أنّ «هامان» قد زاد في ارتفاع الصرح الفرعوني إلى الدرجة التي باتت الرياح الشديدة مانعاً عن الإستمرار بالعمل وعندها اعتذر هامان لفرعون عن الإستمرار بالبناء.
ولكن لم تمض فترة وجيزة من الزمن حتى حطمت الرياح الشديدة ذلك البناء(1).
واتضح أن قوة فرعون متعلقة في ثباتها بالرياح.
* * *
1 ـ يمكن ملاحظة ذلك في بحار الأنوار، المجلد 13، صفحة 125، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.
وَ قَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 38 )يَـقَوْمِ إِنَّمَا هَـذِهِ الْحَيَـوةُ الدُّنْيَا مَتَـعٌ وَإِنَّ الاَْخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ( 39 ) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَـلِحاً مِّن ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب( 40 )
أشرنا آنفاً إلى أنّ مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع، وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف أولا على المقطع الرابع، بعد أن أشرنا في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.
إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصب في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة، وقضية المعاد والحشر والنشر، إذ أنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.
يقول تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد).
لقد قرأنا سابقاً أنّ فرعون كان يقول: إنّ ما أقوله هو طريق الرشد والصلاح، إلاّ أنّ مؤمن آل فرعون أبطل هذا الادّعاء الفارغ، وأفهم الناس زوره، وحذرّهم أن يقعوا فريسة هذا الإدّعاء، إذ أنّ خططه ستفشل وسيصاب بسوء العاقبة ; فالطريق هو ما أقوله; إنّه طريق التقوى وعبادة الله.
ثم تضيف الآية: (يا قوم إنّما هذه الحيوة الدنيا متاع و إنّ الآخرة هي دار القرار).
يريد أن يقول لهم: لنفرض أنّنا انتصرنا ببذل الحيل والتوسّل بوسائل الخداع والمكر، وتركنا الحق وراء ظهورنا، وارتكبنا الظلم وتورطنا بدماء الأبرياء ; ترى ما مقدار عمرنا في هذا العالم؟ إنّ هذه الأيّام المعدودة ستنتهي وسنقع في قبضة الموت الذي يجرنا من القصور الفخمة إلى تحت التراب وتكون حياتنا في مكان آخر.
إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاءالآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء، حيث يقول تعالى: (من عمل سيئة فلا يجزى إلاّ مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب).
إنّ مؤمن آل فرعون ـ بكلامه هذاـ آثار أولا قضية عدالة الله تبارك وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً.
و من جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الالهي لذوي العمل الصالح، إنّه الجزاء الذي لا يخضع لموازين الحساب الكمية، إذ يهب الله تبارك وتعالى للمؤمنين بغير حساب، ممّا لم تره عين أو تسمعه أذن ولا يخطر على فكر إنسان.
ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.
ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى،
وفي القيم الإنسانية.
لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعاً لا يغني شيئاً عن الحياة الأُخرى، إلاّ أنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي هي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا. إذن هل هناك تجارة أربح من هذا؟
كما ينبغي أن نقول: إنّ عبارة «مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا، متشابهة كاملة بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى
أمّا تعبير «غير حساب» فيمكن أن يكون إشارة إلى حساب العطايا يختص بالاشخاص من ذوي المواهب المحدودة، أمّا المطلق (جلّ وعلا) الذي لا تنقص خزائنه مهما بذل للآخرين (لأن كلّ ما يؤخذ من اللانهاية يبقى بلانهاية) لذلك فهو عطاء لا يحتاج إلى حساب.
وبقيت مسألة بحاجة إلى جواب، وهي: هل ثمّة تعارض بين هذه الآية وما جاء في الآية (160) من سورة الأنعام، حيث قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون).
في الجواب على هذا التساؤل نقول: إنّ «عشر أمثالها» إشارة للحد الأدنى من العطاء الإلهي، إذ هناك الجزاء الذي يصل إلى (700) مرّة وأكثر، ثمّ قد يصل العطاء الإلهي إلى مستوى الجزاء بـ «غير حساب» وهو ممّا لا يعلم حدّه ولا يمكن تصوره.
* * *
وَيَـقَوْمِ مَالِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ( 41 )تَدْعُونَنِى لاَِكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّـرِ( 42 ) لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاَْخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـبُ النَّارِ( 43 ) فَسْتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ( 44 ) فَوَقَـهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنِ سُوءُ الْعَذَابِ( 45 ) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُذُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( 46 )
في خامس ـ وآخرـ مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كلّ ما هو ضروري، أمّا القوم من ملأ
فرعون، فكان لهم ـ كما سنرى ذلك ـ قرارهم الخطير بشأنه!
يفهم من خلال القرائن أنّ أولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام.
لذا فقد صرخ قائلا: (و يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة و تدعونني إلى النّار).
إنني أطلب سعادتكم وأنتم تطلبون شقائي ; إنني أهديكم إلى الطريق الواضح الهادي وأنتم تدعونني إلى الإنحراف والضلال!
نعم، إنّكم: (تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفّار).
نستفيد من الآيات القرآنية المختلفة، و من تأريخ مصر، أنّ هؤلاء القوم لم يقتصروا في عبادتهم و شركهم وضلالهم على الفراعنة وحسب، وإنّما كانت لهم أصنام يعبدونها من دون الواحد القهار، كما نستفيد ذلك بشكل مباشر من قوله تعالى في الآية (127) من سورة «الأعراف» حيث قوله تعالى: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) والآية تحكي خطاب أصحاب فرعون والملأ من قومه لفرعون.
وقد تكرّر نفس المضمون على لسان يوسف (عليه السلام)، إذ قال لرفاقه في سجن الفراعنة: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)(1).
لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على دليل صحيح، والشرك طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر وسوء العاقبة والمصير، بينما دعوته (مؤمن آل فرعون) دعوة للهدى والرشاد وسلوك طريق الله العزيز الغفّار.
إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن
![]() |
![]() |
![]() |