![]() |
![]() |
![]() |
وفي الحقيقة، فإن عباردة (يريد) تشير إلى اختلاف الناس في النيات، ومجموع هذه الآية يعتبر توضيحاً لما جاء في الآية السابقة من المواهب والرزق الإلهي، فالبعض يستفيد من هذه المواهب على شكل بذور للآخرة، والبعض الآخر يستعملها للتمتع الدنيوي.
والطريف في الأمر أن الآية تقول بخصوص الذين يزرعون للآخرة: (نزد له في حرثه) إلاّ أنّها لا تقول أنّه لا يصيبهم شيء من متاع الدنيا، وبالنسبة لمن يزرع للدنيا تقول: (نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب).
وعلى هذا الأساس فلا طلاّب الدنيا يصلون إلى ما يريدون، ولا طلاّب الآخرة يحرمون من الدنيا، ولكن مع الفارق، وهو أن المجموعة الأولى تذهب إلى الآخرة بأيد فارغة، والمجموعة الثانية بأيد مملوءة.
وقد جاء ما يشبه نفس هذا المعنى في الآية 18 و19 من سورة الإسراء، ولكن بشكل آخر: (من كان يريد العاجلة عجلناله فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا
1 ـ مصطلح (حرث) كما يقول الراغب في مفرداته: تعني في الأصل: رمي البذر في الأرض وتهيئتها للزراعة، وفي القرآن الكريم استخدمت عدّة مرّات بهذا المعنى، ولكن لا يعلم سبب اعتبار بعض المفسّرين أنّها تعني (العمل والكسب).
له جهنم يصلاها مذموماً ومدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً).
عبارة (نزد له في حرثه) تتلاءم مع ما ورد في آيات قرآنية اُخرى، مثل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)(1) و (ليوفيهم أجروهم ويزيدهم من فضله)(2).
على أية حال، فالآية أعلاه صورة ناطقة تعكس التفكير الإسلامي بالنسبة الى الحياة الدنيا، الدنيا المطلوبة لذاتها، والدنيا التي تعتبر مقدمة للعالم الآخر ومطلوبة لغيرها، فالإسلام ينظر إلى الدنيا على أنّها مزرعة يقتطف ثمارها يوم القيامة.
والعبارات الواردة في الروايات أو في آيات قرآنية اُخرى تؤّكد هذا المعنى.
فمثلا تشبّه الآية (216) من سورة البقرة المنفقين بالبذر الذي له سبعة سنابل، وفي كلّ سنبلة مئة حبة، وأحياناً أكثر. وهذا نموذج لمن يبذر البذور للآخرة.
ونقرأ في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). «وهل يكب الناس على مناخرهم في النّار إلاّ حصائد ألسنتهم»(3).
وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام»(4).
ويمكن أن نستفيد هذه الملاحظة من الآية أعلاه، وهي أن الدنيا والآخرة تحتاجان إلى السعي، ولا يمكن نيلهما دون تعب وأذى، كما أن البذر والثمر لا يخلوان من التعب والأذى، لذا فالأفضل للإنسان أن يزرع شجرة ويبذل جهده في تربيتها، ليكون ثمرها حلو المذاق ودائمياً وأبدياً، وليست شجرة تموت بسرعة وتُفنى.
1 ـ الأنعام، الآية 160.
2 ـ فاطر، الآية 30.
3 ـ المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص193 (كتاب آفات اللسان).
4 ـ الكافي، وفقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 569.
ونُنهي هذا الكلام بحديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: «من كانت نيّته الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من لدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت نيّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»(1).
وما هو مشهور بين العلماء أن (الدنيا مزرعة الآخرة) فهو في الحقيقة اقتباس من مجموع ما ذكرناه أعلاه.
* * *
1 ـ مجمع البيان، نهاية الآيات التي نبحثها.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَـؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ الِّدِينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( 21 )تَرَى الظَّـلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمِّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعُ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ( 22 ) ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حَسَناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ( 23 )
لقد ورد في تفسير مجمع البيان سبب نزول للآيات 23 وحتى 26 من هذه السورة أنّه ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس أنّ رسول الله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله فنقول له إن تعروك أُمور فهذه أموالنا
تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك فأتوه في ذلك فنزلت: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) فقرأها عليهم وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذللنا لقرابته من بعده، فنزلت: (أم يقولون افترى على الله كذباً)فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فانزل الله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) الآية، فأرسل في أثرهم فبشرهم وقال: (ويستجيب الذين آمنوا وهم الذين سلّموا لقوله تعالى)(1).
بما أنّ الآية 13 من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل الخالق بواسطة الأنبياء أولي العزم، لذا فإن أوّل آية في هذا البحث ـ كاستمرار للموضوع ـ تقول في مجال نفي تشريع الأخرين، وأن جميع القوانين ليست معتبرة قبال القانون الإلهي، وأن التقنين يختص بالخالق: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).
فهو خالق ومالك ومدبر عالَم الوجود، ولهذا السبب تنفرد ذاته المنزهة بحق التقنين، ولا يستطيع شخص أن يتدخل في تشريعاته دون إذن، لذا فكل شيء باطل قبال تشريعه.
وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرعين بالباطل، حيث تقول الآية: (ولو لا كلمة الفصل لقضي بينهم) حيث يصدر الأمر بعذابهم.
وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لا ينسوا هذه الحقيقة وهي: (وإن الظالمين لهم عذاب أليم).
1 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص 29.
المقصود من (كلمة الفصل) هي المدّة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل هؤلاء الأفراد، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.
كما أن عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم، وإطلاقه على أي عمل ليس في مورده.
ويظهر أن المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة، لأن هذه العبارة عادةً ما تستخدم بهذا المعنى في القرآن الكريم، والآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، وما قاله بعض المفسّرين (كالقرطبي) من أن ذلك يشمل عذاب الدنيا والآخرة مستبعد.
ثم تذكر الآية بياناً مجملا حول (عذاب الظالمين) ثمّ بياناً مفصلا عن (جزاء المؤمنين)، فتقول: (ترى الظالمين مشفقين ممّا كسبوا وهو واقع بهم). (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات).
«روضات» جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر الكثير، لذا فإن كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء، ونستفيد من هذه العبارة بشكل واضح أن بساتين الجنّة متفاوتة، والمؤمنون من ذوي الأعمال الصالحة في أفضل بساتين الجنّة، ومفهوم هذا الكلام أن ّالمؤمنين المذنبين سيدخلون الجنّة بعد أن يشملهم العفو الإلهي بالرغم من أن مكانهم ليس في (الروضات).
إلاّ أن الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا ينتهي هنا، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم).
ولهذا الترتيب لا يوجد أي قياس بين (العمل) و (الجزاء)، بل إن جزاءهم غير محدود من جميع الجهات، لأن جملة: (لهم ما يشاؤون) تكشف عن هذه الحقيقة.
والأجمل من ذلك عبارة (عند ربّهم) حيث توضح اللطف الإلهي
اللامتناهي بشأنّهم، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق؟ فكما يقول بخصوص الشهداء: (بل أحياء عند ربّهم يرزقون)، كذلك يقول بشأن المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم).
وليس غريباً أن تقول الآية في نهايتها: (ذلك هو الفضل الكبير).
وقد قلنا ـ مراراً ـ أنّه لا يمكن شرح نعم الجنّة من خلال الكلام، فنحن المكبلون بقيود عالم المادة، لا نستطيع أن ندرك المفاهيم التي تتضمّنها جملة: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم). فماذا يريد المؤمنون؟ وما هي الألطاف الموجودة في جوار قربه تعالى؟!
وعادة عندما يقوم الخالق العظيم بوصف شيء ما بالفضل الكبير، فإنّ ذلك يكشف عن مقدار العظمة بحيث يكون أعظم من كلّ ما نفكر به.
وبعبارة اُخرى: سوف يصل الأمر بهؤلاء العباد الخلّص أنّه سيتوفر لهم كلّ ما يريدونه، يعني سيظهر في وجودهم شعاع من قدرة الخالق الأزلية، أي (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1)، فهل هناك فضيلة وموهبة أعظم من هذه؟
ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
يبشرهم حتى لا تَصعُب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء الله، ويقوم هذا الجزاء العظيم بترغيبهم ويعطيهم القدرة والطاقة الكبيرة لسلوك طرق الحياة المليئة بالصعوبات والمشاكل للوصول إلى رضا الخالق.
وقد يتوهم أن نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) يريد جزاءً وأجراً على إبلاغ هذه الرسالة، لذا فإنّ القرآن يأمر الرّسول بعد هذا الكلام ليقول: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) أي حبّ اهل بيتي.
1 ـ سورة يس، الآية 82.
ومودة ذوي القربى ومحبتهم ـ كما سيأتي بيانها بشكل مفصل ـ ترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم السلام من آل الرّسول حيث تعتبر في الحقيقة استمراراً لقيادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واستمراراً للولاية الإلهية، وجليّ أن قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ستكون سبباً لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها.
* * *
هناك بحوث متعددة وتفاسير مختلفة للمفسّرين في تفسير هذه الجملة، بحيث إذا ما نظرنا إليها بدون أي موقف مسبق نشاهد أنّها ابتعدت عن المفهوم الأصلي للآية بسبب الدوافع المختلفة، وذكروا احتمالات لا تتلاءم مع محتوى الآية، ولامع سبب نزولها ،ولا مع سائر القرائن التأريخية والروائية.
وبشكل عام هناك أربعة تفاسير معروفة للآية:
1 ـ هو ما قلناه أعلاه، حيث أن المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحبّهم يعتبر وسيلة لقبول إمامة وقيادة الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)من نسل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعماً لتطبيق الرسالة.
وقد اختار هذا المعنى جمع من المفسّرين الاوائل، وجميع المفسّرين الشيعة، ووردت روايات كثيرة من طرق الشيعة والسنّة في هذا المجال سنشير إليها لاحقاً.
2 ـ المقصود هو أن جزاء الرسالة وأجرها هو حب أُمور معينة تقربكم من الله.
هذا التّفسير الذي ذكره بعض مفسّري أهل السنة لا يتلاءم مع ظاهر الآية أبداً، لأن معنى الآية سيصبح هكذا: إنني أريد منكم أن تحبوا طاعة الخالق، وتودونه في قلوبكم، في حين أنّه يجب أن يقال: إنني أريد منكم أن تطيعوا
الخالق، (وليس مودة الطاعة الإلهية).
إضافة إلى ذلك فإنّه لا يوجد أحد بين المخاطبين في الآية لا يرغب بالتقرب من الخالق، وحتى المشركين كانوا يرغبون بذلك، وكانوا يظنون أن عبادة الأصنام تعتبر وسيلة لهذا الأمر.
3 ـ المقصود حبّ أقرباءكم بعنوان أجر الرسالة، أي بصلة الرحم. وبملاحظة هذه التّفسير لا يوجد أي ترابط بين الرسالة وأجرها، لأنّه ماذا يستفيد الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من حبّ الشخص أقرباءهُ؟ وكيف يمكن اعتبار هذا الأمر أجراً للرسالة؟!
4 ـ المقصود أن أجري هو أن تحفظوا قرابتي منكم، ولا تؤذونني، لأني أرتبط برابطة القرابة مع أكثر قبائلكم (لأن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرتبط بقبائل قريش نسبياً، وبالقبائل الأُخرى سببياً (عن طرق الزواج)، وعن طريق أمه بعض أهالي المدينة من قبيلة بني النجار، وعن طريق مرضعته بقبيلة بني سعد).
هذه العبارة هي أسوأ تفسير مذكور للآية، لأن طلب أجر الرسالة هو من الأشخاص الذين آمنوا بها، ومع هؤلاء الأشخاص لا توجد حاجة إلى مثل هذا الكلام، فأُولئك كانوا يحترمون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه مرسل إلهي، ولا توجد حاجة لإحترامه بسبب قرابته، لأن الإحترام الناشىء بسبب قبول الرسالة فوق جميع هذه الأُمور، وفي الواقع يجب اعتبار هذا التّفسير من الأخطاء الكبيرة التي أصابت بعض المفسّرين ومسخت مفهوم الآية بشكل كامل.
ولكي نفهم حقيقة محتوى الآية بشكل أفضل، علينا طلب العون من الآيات القرآنية الأُخرى:
نقرأ في العديد من آيات القرآن المجيد: (ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين)(1).
1 ـ سورة الشعراء، الآية 109، 127، 145، 164، 180.
وهناك عبارات مختلفة تخصّ الرّسول، فقد ورد في القرآن: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله)(1).
وفي مكان آخر نقرأ: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا).
وأخيراً: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)(2).
وعندما نضع هذه الآيات الثلاثة إلى جانب الآية التي نبحثها، يسهلً علينا الإستنتاج: ففي مكان تنفي الآية الأجر والجزاء بشكل كامل.
وفي مكان آخر تقول الآية: إنني أطلب الأجر من الأشخاص الذين يريدون سلوك الطريق إلى الخالق.
وبخصوص الآية الثّالثة فإنّها تقول: إنّ الأجر الذي أطلبه منكم إنّما هو لكم.
وأخيراً فإن الآية التي نبحثها تضيف: إن مودّة القربى هي أجر رسالتي، يعني أن الأجر الذي طلبته منكم ويشمل هذه الخصوصيات: لا يعود نفعه إلىّ أبداً، بل ينفعكم بالكامل، ويعبّد الطريق أمامكم للوصول إلى الخالق.
وعلى هذا الإساس، فهل تعني الآية شيئاً آخر سوى قضية استمرار خط رسالة النّبي الكريم بواسطة القادة الإلهيين وخلفاءه المعصومين الذين كانوا جميعهم من عائلته؟ لكن لأن المودة هي أساس هذا الإرتباط نرى أن الآية أشارت بصراحة إلى ذلك.
والطريف في الأمر أن هناك خمسة عشر مورداً في القرآن المجيد ـ غير الذي ذكرناـ ذكر فيه كلمة (القربى) حيث أن جميعها تعني الأقرباء، ومع هذا الوضع لا نعلم لماذا يصر البعض بحصر معنى كلمة القربى في (التقرب إلى الله) ويتركون المعنى الواضح والظاهر المستخدم في جميع الآيات القرآنية؟.
1 ـ سبأ، الآية 47.
2 ـ سورة ص، الآية 86.
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنّه ورد في آخر الآية: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور). وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائماً تحت راية القادة الإلهيين، يحبّهم بقلبه، ويستمر على خطهم، يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق، يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.
* * *
الدليل الآخر على التّفسير أعلاه هو الروايات المتعددة الواردة في مصادر أهل السنة والشيعة، والمنقولة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث توضح أن المقصود من (القربى) هم أهل البيت والمقربون وخاصة الرّسول، وعلى سبيل المثال نذكر:
1 ـ ينقل (أحمد بن حنبل) في فضائل الصحابة بسنده عن سعيد بن جبير عن عامر: لما نزلت: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله! ومن قرابتك؟ من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام، وقالها ثلاثاً»(1).
2 ـ ورد في (مستدرك الصحيحين) أن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) قال: عند استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)، وقف الحسن بن علي(عليه السلام) يخطب في الناس، وكان ممّا قال: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيّه:(قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت(2).
1 ـ إحقاق الحق، المجلد الثّالث، ص2، كما ذكر القرطبي: أيضاً هذه الرواية في نهاية الآية التي نبحثها المجلد الثامن، ص5843.
2 ـ مستدرك الصحيحين، المجلد الثّالث، ص 172، وقد نقل محب الدين الطبري نفس هذا الحديث في الذخائر ص 137، كما ذكر ابن حجر ذلك أيضاً في الصواعق المحرقة، ص 101.
3 ـ ذكر (السيوطي) في (الدر المنثور) في نهاية الآية التي نبحثها عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال في تفسير آية: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى):أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي(1).
ومن هنا يتّضح ضعف ما ينقل عن ابن عباس بطريق آخر من أن المقصود هو عدم إيذاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب قرابته مع القبائل العربية المختلفة.
4 ـ ينقل (ابن جرير الطبري) في تفسيره بسنده عن (سعيد بن جبير) وبسند آخر عن (عمر بن شعيب) أن المقصود من هذه الآية هم قربى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
5 ـ وينقل العلاّمة الطبرسي عن (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني، الذي هو من المفسّرين والمحدثين المعروفين لأهل السنة، عن (أبي أمامة الباهلي) أن رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى، وأنا وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقهاـ حتى قال ـ لو أن عبداً عبدالله بين الصفا والمروة ألف عام، ثمّ ألف عام، ثمّ ألف عام، حتى يصير كالشن البالي، ثمّ لم يدرك محبتنا كبه الله على منخريه في النّار، ثمّ تلا: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى)».
والطريف في الأمر أن هذا الحديث اشتهر بدرجة بحيث أن الشاعر المعروف الكميت أشار إلى ذلك في أشعاره، فقال:
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأوّلَها منا تقيٌّ ومعربُ(3)6 ـ وينقل السيوطي أيضاً في (الدر المنثور) عن ابن جرير عن أبي الديلم: عندما تأسّر علي بن الحسين(عليه السلام)، وأوقفوه في بوابة دمشق، قال رجل من أهل الشام: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم.
1 ـ الدر المنثور، نهاية الآية التي نبحثها، المجلد السادس، ص7.
2 ـ تفسير الطبري ـ المجلد 25 ـ ص16 و17.
3 ـ مجمع البيان، المجلد التاسع، ص29.
قال علي بن الحسين(عليه السلام): هل قرأت القرآن؟
قال: نعم
قال: هل قرأت سور حم.
قال: لا.
قال: ألم تقراً هذه الآية: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى).
قال: أأنتم الذين أشارت لهم هذه الآية؟
قال: بلى(1).
7 ـ نقل (الزمخشري) حديثاً في «تفسير الكشاف» وقد اقتبسه أيضاً الفخر الرازي والقرطبي في تفسيرهما، حيث يوضح هذا الحديث مقام آل محمّد وأهمية حبّهم، فيقول:
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من مات على حب آل محمّد مات شهيداً
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مغفوراً له
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات تائباً
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان
ألا ومن مات على حب آل محمّد بشره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير
ألا ومن مات على حب آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة
ألا ومن مات على حب آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات على السنة والجماعة
ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله
ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً
1 ـ الدر المثنور، المجلد السادس، ص7.
ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة(1).
والطريف في الأمر أن (الفخر الرازي) بعد ذكر هذا الحديث الشريف الذي أرسله «صاحب الكشاف» ارسال المسلمات، يقول: «وأنا أقول: آل محمّد هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعلياً الحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم امته فإن حملناه على القرابة فهم الآل وإن حملناه على الأُمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل، فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل، وأما غيرهم فيدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه.
وروى فيه صاحب الكشاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النّبي، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله تعالى: (إلا المودة في القربى) ووجه الإستدلال به ما سبق.
الثّاني: لا شك أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة وقال (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمة مثله لقوله: (واتبعوه لعلكم تهتدون) ولقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) ولقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولقوله سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
الثّالث: أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد
1 ـ تفسير الكشاف، المجلد الرابع، ص220 و221، تفسير الفخر الرازي، المجلد 27، ص165 و166; تفسير القرطبي، المجلد الثامن، ص5843; تفسير الثعلبي، نهاية الآية التي نبحثها عن جليل بن عبد الله البجلي (وفقاً لنقل المراجعات رسالة رقم 19).
في الصلاة وهو قوله اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد وأرحم محمّداً وآل محمّداً. وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكل ذلك يدل على أن حبّ آل محمّد واجب.
وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمّد فليشهد الثقلان أني رافضي(1)نعم فهذا مقام آل محمّد الذين نتمسك بهم ونؤمن بهم كقادة لنا، وسراج لديننا ودنيانا، ونعتبرهم أسوة وقدوة لنا، ونرى أن استمرار خط النبوة في إمامتهم.
وطبعاً، فإن هناك روايات كثيرة اُخرى غير التي ذكرناها أعلاه، في المصادر الإسلامية، وقد اكتفينا بسبع روايات مراعاة للإختصار، ولكن لا بأس من ذكر هذه الملاحظة، وهي أنّه في بعض المصادر الكلامية كإحقاق الحق وشرحه المبسوط، ورد الحديث المعروف أعلاه بشأن تفسير الآية: (قل لا أسألكم أجراً إلاّ الموة في القربى) منقولا عن خمسين كتاباً تقريباً من كتب أهل السنة، حيث يبيّن هذا الأمر مدى انتشار هذه الرواية واشتهارها، بغض النظر عن المصادر الكثيرة التي تنقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت(عليهم السلام).
* * *
في هذا المجال يطرح سؤال ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني بشكل اعتراض على الشيعة، ونحن نذكر ذلك على شكل سؤال ونقوم بمناقشته: يقول:
1 ـ تفسير فخر الرازى 27/166.
«ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الإستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال: علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة، ينتج، علي رضي الله عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث
أمّا أوّلا: فلأن الإستدلال بالآية على الصغرى لا يتمّ إلاّ على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأوّل وقيل في هذا المعنى: إنّه لا يناسب شأن النبوّة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفعٌ لأولادهم وقراباتهم وأيضاً فيه منافاة لقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر)
![]() |
![]() |
![]() |