![]() |
![]() |
![]() |
المرحلة الثّالثة تنطوي على دعاء الملائكة وحملة العرش للمؤمنين في طلب الجنّة لهم ولأقربائهم أيضاً، حيث يعتبر هؤلاء الإقرباء الصالحون عاملا من عوامل الراحة والإستقرار النفسي.
وبسبب وجود (مؤذيات) اُخرى مهمّة في يوم القيامة غير نار جهنّم، كهول المطّلع والمحشر، والفضيحة أمام الخلائق، وطول الوقفة للحساب وأمثال ذلك، لذا
طلبت الملائكة وحملة العرش في أدعيتهم الأُخرى أن يحفظ الله المؤمنين ويقيهم من أي سوء أو مكروه في ذلك اليوم، كي يدخلوا جنّة الخلد براحة بال واطمئنان واحترام كامل.
في هذه الآيات يعلّم حملة العرش والملائكة المؤمنين أُسلوب الدعاء.
ففي البداية ينبغي يالتمسك بكلمة «ربّنا».
ثمّ مناداته تعالى بصفات الجلال والجمال، وطلب العون من مقام رحمته المطلقة وعلمه غير المتناهي: (وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً).
وأخيراً الدعاء وطلب الحاجة بحسب أهميتها وبشروط توفّر الأرضية للإستجابة: (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك).
ثم ينتهي الدعاء بذكر صفاته تعالى الجمالية والجلالية، والتوسّل برحمته تعالى مرّة اُخرى.
والطّريف في الأمر أنّ حملة العرش الإلهي يعتمدون على خمسة أوصاف إلهية مهمّة في دعائهم وهي: الربوبية، والرحمة، والقدرة، والعلم، والحكمة.
عند قراءة آيات القرآن الكريم نرى أنّ أولياء الله ـ سواء منهم الأنبياء أو الملائكة أو الصالحون ـ كانوا يبدأون كلامهم بـ «ربّنا» أو «ربّي» عند الدعاء...
فآدم(عليه السلام) يقول: (ربّنا ظلمنا أنفسنا).
ونوح(عليه السلام) يقول: (ربّ اغفرلي ولوالدي)
و إبراهيم(عليه السلام) يقول:(ربّ اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).
أما يوسف(عليه السلام) فيقول: (ربّ قد آتيتني من الملك).
وموسى الكليم(عليه السلام) يقول: (ربّ بما أنعمت علىّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين).
أما سليمان(عليه السلام) فيقول: (ربّ هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي).
أما عيسى المسيح(عليه السلام) فيقول: (ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء)(1).
والرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (ربّ أعوذ بك من همزات الشياطن)(2).
وعلى لسان المؤمنين نقرأ في أماكن متعدّدة كلمة «ربّنا» في فاتحة الدعاء، ففي آخر سورة «آل عمران» نرى دعائهم: (ربّنا ماخلقت هذا باطلا).
من خلال هذه النماذج والمواقف نستنتج أنّ أفضل الدعاء هو مايبدأ بالربوبية صحيح أنّ الاسم المبارك «الله» هو أكثر شمولية لأسماء الخالق، ولكن لارتباط الحاجات بمقام الرّبوبية، هذا المقام الذي يرتبط به الإنسان منذ اللحظة الأولى من وجوده وحتى آخر عمره، وتستمر بعد ذلك صفة الإرتباط بـ «الربوبية» التي تغرق الإنسان بالألطاف الإلهية، لذا فإنّ ذكر هذه الكلمة في بداية الأدعية يعتبر أكثر تناسباً من باقي الأسماء الأُخرى(3).
لقد أشرنا مراراً إلى أن ألفاظنا ـ الموضوعة أصلا لتوضيح مشخصات الحياة المحدودة ـ لا تستطيع أن توضّح عظمة الخالق، أو حتى أن تحيط بعظمة مخلوقاته جلّ وعلا، لهذا السبب فليس أمامنا سوى استخدام ألفاظ ومعاني للكناية عن تلك العظمة.
وفي طليعة الألفاظ التي يشملها هذا الوضع كلمة (العرش) التي تعني لغوياً (السقف) أو (السرير ذا المسند المرتفع) في قبال (الكرسي) الذي هو (سرير ذو
1 ـ المائدة، الآية 114.
2 ـ المؤمنين، الآية 97.
3 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي في نهاية الآية مورد البحث.
مسند منخفض). ثمّ استخدمت هذه الكلمة لتشمل (عرش) القدرة الإلهية.
وللمفسّرين والفلاسفة والمناطقة كلام كثير حول المقصود بالعرش، وما ينطوي عليه من معنى كنائي.
فأحياناً فسّروا العرش بمعنى (العلم اللامتناهي لله تبارك وتعالى).
واُخرى قالوا بأن المعنى هو (المالكية والحاكمية الإلهية).
وفسّروا العرش أيضاً بأنّه إشارة إلى أي واحدة من الصفات الكمالية والجلالية لله تبارك وتعالى، لأنّ كلّ واحدة من هذه الصفات توضح عظمة منزلته جلّ وعلا، كما أنّ عرش السلطان (والأمثال تضرب ولا تقاس) يوضح عظمته.
فالخالق جلّ وعلا يملك عرش العلم، وعرش القدرة، وعرش الرحمانية، وعرش الرحيمية.
وطبقاً للتفاسير والآراء الثلاثة هذه، فإنّ مفهوم (العرش) يعود إلى صفات الخالق جل وعلا، ولا يعني وجود خارجي آخر له.
وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليه السلام)، ما يشير إلى هذا المعنى، ففي رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه أجاب عندما سئل عن معنى قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات و الأرض) أنّ المقصود بذلك علمه تعالى شأنه(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاًه أنّه فسّر (العرش) بأنّه «العلم» الذي كشفه وعلّمه الله للأنبياء عليهم السلام، بينما (الكرسي) هو «العلم» الذي لم يعلمه لأحد ولم يطلع عليه أحد(2).
وبين أيدينا تفاسير اُخرى استندت إلى روايات إسلامية، ففسّرت العرش والكرسي بأنّهما موجودات عظيمة من مخلوقات الله تبارك وتعالى.
قالواـ مثلاـ إنّ المقصود بالعرش هو مجموع عالم الوجود.
1 ـ بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 28، الحديث رقم 46، 47.
2 ـ المصدر السابق.
وقالوا أيضاً: هو مجموع الأرض والسماء المتجسدة ضمن هذا الكرسي; بل إنّ السماء والأرض كالخاتم في الصحراء الواسعة مقايسة بينهما وبين (الكرسي) ثم قالوا: إنّ «الكرسي» في مقابل العرش كالخاتم في الصحراء الواسعة.
وفي تفاسير اُخرى تستند بدورها إلى روايات إسلامية، أطلقوا كلمة (العرش) للكناية عن قلوب الأنبياء والأوصياء والمؤمنين التامين الكاملين، كما جاء ذلك في الحديث: «إنّ قلب المؤمن عرش الرحمن»(1).
وفي حديث قدسي نقرأ قوله تعالى: «لم يسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن»(2).
أما أفضل الطرق لإدراك معنى العرش ـ بمقدار ما تسمح به قابلية الإنسان واستيعابه ـ فهو أن نبحث موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، و نتفحص مدلولاتها بشكل متأن.
في آيات كثيرة من كتاب الله نلتقي مع هذا التعبير، كما في قوله تعالى: (ثمّ استوى على العرش)(3). ثمّ يرد تعبر (يدبّر الأمر) في بعض الآيات التي تأتي بعد مفاد الآية أعلاه (آية العرش) أو ترد جمل اُخرى تعبّر عن علم الله ودراية الخالق جلّ وعلا.
في آية اُخرى من القرآن الكريم يوصف العرش بالعظمة: (وهو ربّ العرش العظيم)(4).
وأحياناً تتحدث الآية عن حملة العرش، كما في الآية التي نحن بصددها.
ومن الآيات ما تتحدث عن الملائكة المحيطة بالعرش، كما في قوله تعالى:
1 ـ بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 39.
2 ـ ـ بحار الأنوار، المجلد 58، صفحة 39.
3 ـ الأعراف، الآية 54.
4 ـ التوبة، الآية 129.
(وترى الملائكة حافين من حول العرش)(1)
وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء).
من خلال مجموع هذه الموارد، والتعابير الأُخرى الواردة في الأحاديث والروايات الإسلامية، نستنتج بشكل واضح أنّ كلمة (العرش) تطلق على معاني مختلفة بالرغم من أنّها تشترك في أساس واحد.
فأحد معاني العرش هو مقام (الحكومة والمالكية وخلق عالم الوجود) إذ تلاحظ أنّ الإستخدام الشائع للعرش يدلل ـ من خلال الكناية ـ على سيطرة الحاكم على أُمور دولته، فنقول مثلا: «فلان شلّ عرشه» والتعبير كناية عن انهيار قدرته وحكومته.
والمعنى الآخر من معاني العرش هو، «مجموع عالم الوجود» لأنّ كلّ الوجود هو دليل على العظمة.
وأحياناً يستخدم العرش بمعنى «العالم الأعلى» والكرسي بمعنى «العالم الأدنى».
ويستخدم العرش أحياناً بمعنى (عالم ما وراءالطبيعة) والكرسي بمعنى (مجموع عالم المادة) بما في ذلك الأرض والسماء، كما جاء في آية الكرسي: (وسع كرسيه السموات والأرض).
ولأنّ علم الخالق لا ينفصل عن ذاته المنزهة، لذا فانّ كلمة (عرش) تطلق أحياناً على «علم الله».
وإذا أطلق وصف (عرش الرحمن) على القلوب الطاهرة لعباد الله المؤمنين، فذلك يعود إلى أنّ هذا المكان هو محل معرفة الذات الإلهية المنزهة، وهو بحدّ ذاته أحد أدلة عظمته وقدرته جلّ وعلا.
من كلّ ذلك يتضح أنّ كافة معاني العرش ـ التي وردت آنفاًـ توضح عظمة
1 ـ الزمر، الآية 75.
الخالق جلّ وعلا.
وفي الآية التي نحن بصدد بحثها يمكن أن يكون المقصود من العرش هو نفس حكومة الله تعالى وتدبيره لعالم الوجود، وحملة العرش يقومون بتنفيذ إرادة الله الحاكمة في الخلق.
ويمكن أن يكون المعنى هو مجموع عالم الوجود أو عالم ما وراء الطبيعة. أمّا حملة العرش الإلهي فهم الملائكة الذين تقع عليهم مسؤولية تدبير أمر هذا العالم بأمر الله تعالى.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِن مِّقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الاِْيمَـنِ فَتَكْفُرُونَ( 10 ) قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِّن سَبِيل( 11 ) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنُواْ فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ( 12 )
تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن «غضب» الله تعالى على الكافرين، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين.
في البداية تقول الآية: (إنّ الّذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).
من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟
يبدو أن ملائكة العذاب ينادونهم بهذ النداء لتوبيخهم وفضحهم، في مقابل ما
تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.
ويحتمل أن يكون هذا النداء من نوع التخاطب والتخاصم الذي يقوم بين الكفار في القيامة، لكن المعنى الأوّل أرجح كما يبدو، وعلى كلّ حال سينطلق هذا النداء يوم القيامة، كما أنّ الآيات اللاحقة شاهد على هذا المعنى.
«المقت» تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أن غضب الله تعالى على الكافرين هو أشد من عداوتهم لأنفسهم أمّا فيم يتعلق بمقت الكفار لأنفسهم، فهناك تفسيران:
الأوّل: يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد، فهم لم يهملوا مصابيح الهداية وحسب، بل عمدوا إلى تحطيمها. فهل ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.
وطبقاً لهذا التّفسير يكون قوله تعالى: (إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) بياناً لكيفية مقت وعداوة الكافرن أنفسهم.
الثّاني: أن يكون المقصود بغضبهم وعدائهم لأنفسهم هو أن تصيبهم حالة من الألم والندم الشديد عندما يشاهدون يوم القيامة نتيجة أعمالهم وما اقترفت أيديهم في هذه الدنيا، حيث ترتفع آهاتهم وصرخاتهم، ويعضون على أناملهم من الندم، ولات ساعة مندم يقول تعالى:(ويوم يعضّ الظالم على يديه)(1). ويتمنون أن يكونوا تراباً: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً)(2).1 ـ فرقان، الآية 27.
2 ـ نبأ، الآية 40.
3 ـ سورة ق، الآية 22.
4 ـ الطارق، الآية 9.
الأعمال: (وإذا الصحف نشرت)(1). وعندها تكون النتيجة: (كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)(2). لذلك سيلوم هؤلاء أنفسهم بشدة ويتنفرون منها ويبكون على مصيرهم.
وهنا يأتي النداء: (إنّ الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).
وطبقاً لهذا التّفسير تكون جملة: (إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) بياناً لدليل شدة الغضب الإلهي عليهم(3).
بالطبع فإن كلا التّفسيرين مناسب، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل بلحاظ بعض الأُمور ـ أرجح.
عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكرون بطريق للخلاص، فيعترفون بذنوبهم ويقولون: (قالوا ربّنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل).
عندما تزول حجب الغرور والغفلة، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية، فلا سبيل عندها سوى الإعتراف بالذنوب!
إنّ هؤلاء كانوا يصرون على إنكار المعاد، ويستهزئون بوعيد الأنبياء لهم،
1 ـ التكوير، آية 10.
2 ـ الإسراء، الآية 14.
3 ـ طبقاً للتفسير الأوّل تكون (إذ) ظرفية و متعلقة بـ «مقتكم أنفسكم» أمّا طبق التّفسير الثّاني فتعتبر (إذ) تعليلية ومتعلقة بـ «مقت الله» والجدير بالملاحظة أنّ المقتين الواردين في الآية أعلاه يرتبطان بأربعة احتمالات هي:
الأوّل: أن يكون مكان الإثنين في يوم القيامة. الثّاني: أن يكون مكانهما في هذه الدنيا. الثّالث: أن يكون المقت الأوّل في الدنيا والثّاني في الآخرة. أما الرابع: فهو عكس الثّالث. ولكن الأفضل وفقاً للتفسير أعلاه أن يختص الأوّل بالآخرة. والثّاني بالدنيا، أو أن يختص الإثنان بالآخرة.ولكن بعد توالي الموت والحياة لا يبقى مجال للإنكار، وقد يكون سبب تكرارهم للموت والحياة، أنّهم يريدون القول: يا خالقنا الذي تملك الموت والحياة، أنت قادر على أن تعيدنا إلى الدنيا مرةٌ اُخرى كي نعوّض مامضى.
* * *
ذكر المفسرون عدّة تفاسير حول المقصود من قوله تعالى: (أمتنا اثنتين)و(أحيينا اثنتين) و من بين هذه التفاسير هناك ثلاثة آراء نقف عليها فيما يلي:
أوّلا: أن يكون المقصود من (أمتنا اثنتين) هو الموت في نهاية العمر، والموت في نهاية البرزخ. أمّا المقصود من (أحييتنا اثنتين) فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.
ولتوضيح لذلك، نرى أنّ للإنسان حياة اُخرى بعد الموت تسمى الحياة البرزخية، وهذه الحياة هي نفس حياة الشهداء التي يحكي عنها قوله تعالى: (بل أحياء عند ربّهم يرزقون)(1)، وهي نفس حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، حيث يسمعون سلامنا ويردون عليه.
وهي أيضاً نفس حياة الطغاة والأشقياء كالفراعنة الذين يعاقبون صباحاً ومساءً بمقتضى قوله تعالى: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً)(2).
ومن جانب آخر نعرف أنّ الجميع، من الملائكة والبشر والأرواح، ستموت في نهاية هذا العالم مع أوّل نفخة من الصور: (فصعق من في السماوات ومن في الأرض)(3). ولا يبقى أحد سوى الذات الإلهية (بالطبع على خلاف ما أوضحناه في نهاية الآية (86) من سورة الزمر بين موت وحياة الملائكة والأرواح، وبين موت وحياة الإنسان).
1 ـ آل عمران، الآية 169.
2 ـ غافر، الآية 46.
3 ـ الزمر، الآية 68.
وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية ; لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية.
يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين: حياة برزخية، وحياة في يوم القيامة.
وهنا قد يطرح البعض هذا السؤال: إنّنا في الواقع نملك حياة ثالثة هي حياتنا في هذه الدنيا، وهي غير هاتين الحياتين، وقبلها أيضاً كنّا في موت قبل أن نأتي إلى هذه الدنيا، وبهذا سيكون لدينا ثلاث موتات وثلاثة إحياءات.
ولكن الجواب يتوضح عند التدقيق في نفس الآية، فالموت قبل الحياة الدنيا (أي في الحالة التي كنّا فيها تراباً) يعتبر «موتاً» لا «إماتة» وأمّا الحياة في هذه الدنيا فالبرغم من أنّها مصداق للإحياء، إلاّ أنّ القرآن لم يشر إلى هذا الجانب في الآية أعلاه، لإنّ هذا الإحياء لا يشكّل عبرة كافية بالنسبة للكافرين، إذ الشيء الذي جعلهم يعون ويعترفون بذنوبهم هو الحياة البرزخية أوّلا، والحياة عند البعث ثانياً.
ثانياً: إنّ المقصود بالحياتين، هو الإحياء في القبر لأجل بعض الأسئلة، والإحياء في يوم القيامة، وإنّ المقصود بالموتتين، هما الموتة في نهاية العمر، والموتة في القبر.
لذلك اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على الحياة المؤقتة في القبر.
أمّا عن كيفية حياة القبر، وفيما إذا كانت جسمانية أو برزخية أو نصف جسمانية، فهذه كلّها بحوث ليس هنا مجال الخوض فيها.
ثالثاً: إنّ المقصود بالموتة الأولى، هو الموت قبل وجود الإنسان في هذه الدنيا، إذ أنّه كان تراباً في السابق، لذا فإنّ الحياة الأولى هي الحياة في هذه الدنيا، والموت الثّاني هو الموت في نهاية هذا العالم، فيما الحياة الثانية هي الحياة عند
البعث.
والذين يعتقدون بهذا التّفسير يستدلون بالآية (28) من سورة «البقرة» حيث قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون).
إلاّ أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن إماتتين، في حين أنّ آية سورة البقرة تتحدّث عن حياة واحدة وإماتة واحدة(1).
يتّضح من مجموع التفاسير الثّلاثة هذه أنّ التّفسير الأوّل هو الأرجح.
ولا بأس أن نشير إلى أنّ بعض مؤيدي «التناسخ» أرادوا الإستدلال بهذه الآية على الحياة والموت المكرّر للإنسان، وعودة الروح إلى الأجساد الجديدة في هذه الدنيا، في حين أنّ الآية أعلاه تعتبر إحدى الآدلة الحية على نفي التناسخ، لأنّها تحدّد الموت والحياة في مرّتين، إلاّ أنّ أنصار عقيدة «التناسخ» يقولون بالموت والحياة المتعدّد والمتوالي، ويعتقدون بأنّ روح الإنسان الواحد يمكن أن تتجسّد و تحل مرأت اُخرى في أجساد جديدة، ونطف جديدة وترجع إلى هذه الدنيا.
من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها.
لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلا على مانقول، إذ تقول: (ذلكم بأنّه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يُشرك به تؤمنوا).
فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقة تشمئزون وتحزنون، أما إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط
1 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية أعلاه تشير إلى «الرجعة» إلاّ أنّ مراعاة عمومية الآية وشمولها جميع الكافرين، وعدم ثبوت عمومية الرجعة لهم جميعاً، يجعل هذا التّفسير قابلا للنقاش.
أساريركم، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.
وهنا نطرح هذا السؤال: كيف نربط هذا الجواب مع طلبهم العودة إلى هذه الدنيا؟
إنّ الآية تفيد أنّ حقيقة أعمال هؤلاء لم تكن محدودة بزمن معين، ولم تكن مؤقتة، بل كانت دائمية، لذلك فلو عادوا إلى الحياة مرّة اُخرى فإنهم سيستمرون على هذا الوضع، أمّا هذا الإيمان والتسليم والإذعان الذي رأيناه منهم يوم القيامة، فهو اضطراري وليس عن قناعة حقيقية.
ثمّ إنّ اعتقادات هؤلاء وأعمالهم ونياتهم السابقة تستوجب خلودهم في الجحيم، لذا فلا يمكن عودة هؤلاء إلى الدنيا مع هذا الوضع.
وهذا الوضع يختص بالأفراد الذين تجذّر الكفر والشر والذنب في أعماقهم، وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بأنّ نفوسهم تشمئز عند ذكر الله تعالى وحده، ويفرحون عند ذكر الأصنام: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)(1).
إنّ هذا الوصف لا يختص بالمشركين في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، إذ يشهد زماننا مثل هؤلاء من ذوي القلوب الميتة، الذين يفرون من الإيمان والتوحيد والتقوى، ويقبلون على الكفر والنفاق والفساد.
لذلك نقرأ في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنّها تختص بقضية (الولاية) إذ يتأذى البعض عند سماعها (أي الولاية) ويفرحون عند سماع أسماء أعداء أهل البيت(عليهم السلام) هذا التّفسير هو من باب انطباق المفهوم، العام على المصداق، وليس من باب تقييد كلّ المفهوم الذي تطوية الآية بهذا المصداق).
وفي نهاية الآية، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب
1 ـ الزمر، الآية 45.
المظلمة، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات الله سبحانه وتعالى: (فالحكم لله العلي الكبير) إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة، ولا يوجد غيره على وكبير، فلا يستطيع أحد أن يغلبه أو أن يؤثّر عليه أو على حكمه بفدية أو غرامة أو وساطه، فالحاكم المطلق هو، والجميع يطيعونه، ولا يوجد طريق للهرب من حكمه.
* * *
ليست هذه المرّة الأولى التي تواجهنا فيها طلبات أهل النّار أو الكفار الذين يريدون العودة إلى هذه الدنيا، فيكون الجواب بالنفي.
لقد طرحت الآيات القرآنية هذا الموضوع عدّة مرّات.
ففي سورة الشورى الآية (44) نقرأ أن الظالمين بعد أن يروا العذاب يقولون: (هل إلى مرد مِن سبيل).
وفي الآية (58) من سورة الزمر، ورد على لسان المذنبين وغير المؤمنين عند رؤيتهم العذاب: (أو تقول حين ترى العذاب لو أنّ لي كرة فأكون من المحسنين).
وفي الآية (107) من سورة «المؤمنون» نقرأ قوله تعالى حكاية على لسان أمثال هؤلاء القوم: (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون).
مجموعة اُخرى عندما يحل بها الموت وترى ملائكة الموت تطلب من الله تعالى العودة فتقول: (ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت)(1).
إلاّ أنّ هذِهِ الطلبات تردع دوماً بكلمة «كلاّ» أو ما شابه ذلك.
1 ـ المؤمنون، الآيتان 99 ـ 100.
وبذلك يتضح أنّ المفهوم القرآني يؤكّد على أنّ الحياة في هذه الدنيا هي تجربة لا يمكن تكرارها بالنسبة للشخص، لذا يجب إبعاد هذا الوهم من العقول بأنّنا اذا متنا وواجهنا العذاب فسوف نعود الى هذه الدنيا ونجبر ما فات حيث لا إمكان للعودة إلى هذه الحياة بعد الموت.
وملاك هذا الأمر واضح، ففي قانون التكامل لا يمكن الرجوع والعودة، كما لا يمكن عودة الطفل إلى بطن أمّه وفقاً لهذا القانون، سواء كان هذا الطفل قد اكتمل نموه في بطن أُمه أو لم يكتمل وولد ناقصاً، إذ العودة غير ممكنة أصلا.
كذلك الموت الذي هو في الواقع ولادة ثانوية، وانتقال من عالم الدنيا هذه إلى عالم آخر، وهناك تعتبر العودة ضرباً من المحال.
إضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار اليقظة الإضطرارية التي تنتاب الناس ـ الذين تتحدث عنهم الآية ـ دليلا على الإقتناع أو اليقظة الحقيقية، إذ عندما تخف أسبابها سيعود النسيان والغفلة مرةً اُخرى، وسيتم تكرار نفس الأعمال، كما نرى ذلك واضحاً في هذه الدنيا لدى الكثير من الناس الذين يتوجهون إلى خالقهم عندما تضيق عليهم الحياة، ويلجون أبواب التوبة، إلاّ أنّهم بمجرّد هدوء العواصف ينسون كل شيء وكأنّهم لم يدعوا الله إلى ضر مسّهم!!
* * *
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ( 13 ) فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجَـتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ( 15 )
هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام.
تقول الآية أوّلا: (هو الذي يريكم آياته).
فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود، وتستوعب بإشراقتها أركانه، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه.
ثم توضح واحدة من هذه الآيات: (وينزل لكم من السماء رزقاً).
قطرات المطر تعطي الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سرّ الوجود والحياة ; حياة جميع الكائنات، حيوانات نباتات، أناس... كلّها تنزل من السماء. وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة، حيث تتفرع الأشياء الأُخرى من أصولها.
بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم «عالم الغيب» وعلى الأرض اسم «عالم الشهود» ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود.
![]() |
![]() |
![]() |