![]() |
![]() |
![]() |
إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للإعتبار به ليس تأريخاً مدوناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له، وإنّما هو تأريخ حي ينطق عن نفسه، وينبض بالعبرة والعظة، فهذه قصور الظالمين الخربة، وماتركوه من جنات وعيون، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والإنتقام الإلهي، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظة الدرس، وعظيم العبرة، خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفةٌ بهؤلاء فيقول عنهم: (كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض).
كانوا يملكون السلطات القوية، والجيوش العظيمة، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة.
إنّ تعبير (أشد منهم قوّة) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية، وعن قوته الإقتصادية والعلمية أيضاً.
أمّا التعبير في قوله تعالى: (آثاراً في الأرض) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم، كما ورد في الآية (9) من سورة «الروم» في قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوّة وآثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها).
وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة، ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد»: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)(1).
ولكن عاقبة هؤلاء القوم، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء، هي كما يقول تعالى: (فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق).
فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي
1 ـ الشعراء، الآية 128 ـ 129.
عندما نزل بساحتهم.
لقد وردت كلمة «أخذ» مراراً في القرآن الكريم بمعنى العقاب، وهي إشارة إلى «أخذ» القوم أو الجماعة قبل أن يُنْزل بها العقاب، تماماً كما يقبض أوّلا على الشخص المجرم، ثمّ يتمّ عقابه.
الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقاً بإيجاز، بقوله تعالى: (ذلك بأنّهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا). فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا، كما يستفاد من قوله تعالى: (كانت تأتيهم) إلاّ أنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية، كانوا يحطمون مصابيح الهداية، ويديرون ظهورهم للرسل، وكانوا ـ أحياناًـ يقتلونهم!
وحينئذ: (فأخذهم الله) وعاقبتهم أشدّ العقاب ـ (إنّه قوي شديد العقاب). إذ هو في مواطن الرأفة أرحم الراحمين وفي مواضع الغضب أشد المعاقبين.
* * *
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين( 23 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَقَـرُونَ فَقَالُوا سَـحِرٌ كَذَّابٌ( 24 ) فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَـفِرِينَ إِلاَّ فِى ظَلَـل( 25 ) وَقَالَ فِرْعَوْنَ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلُ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرْ فِى الاَْرْضِ الْفَسَادَ( 26 ) وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّر لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ( 27 )
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث، من خلال قصة موسى وفرعون، وهامان وقارون.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قصة موسى(عليه السلام) مكررة في أكثر من سورة من سور
القرآن الكريم، ولكن التأمّل في هذه الموراد يظهر خطأ هذا التصوّر، إذ يتبيّن أن القرآن يتطرف الى ذكر القصة في كلّ مرّة من زاوية معينة، وفي هذه السورة يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور «مؤمن آل فرعون» فيها. والباقي هو بمثابة أرضية ممهّدة لحكاية هذا الدور.
يقول تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين).
أرسله تعالى: (إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب).
لقد ذكر المفسرون عدّة تفاسير في الفرق بين «الآيات» و «السلطان المبين» فالبعض اعتبر «الآيات» الأدلة الواضحة، بينما «السلطان المبين» هي المعجزات.
والبعض الآخر اعتبر «الآيات» آيات التوراة، بينما «السلطان المبين» المعجزات.
واحتمل البعض الثّالث أنّ «الآيات» تشمل كلّ معاجز موسى(عليه السلام)، أمّا «السلطان المبين» فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء، التي تسببت في غلبته الواضحة على فرعون.
ومنهم من اعتبر «الآيات» المعجزات، بينما فسّرَ «السلطان المبين» بالسلطة القاهرة والنفوذ الإلهي لموسى(عليه السلام) والذي كان سبباً في عدم قتله وعدم فشل دعوته.
لكن الملاحظ أنّ هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة، ولكن نستفيد من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ «السلطان المبين» يعني ـ في العادةـ الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة، كما نرى ذلك واضحاً في الآية (21) من سورة «النمل» أثناء الحديث عن قصة سليمان(عليه السلام) والهدهد حيث يقول تعالى على لسان سليمان: (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين) فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة.
وفي الآية (15)من سورة الكهف قوله تعالى: (لو لا يأتون عليه بسلطان بيّن).
أمّا «الآيات» فقد وردت في القرآن مراراً بمعنى المعاجز.
وبناء على هذا فإنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى (عليه السلام) القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.
إنّ موسى(عليه السلام) كان يزاوج بين منطق العقل، وبين الأعمال الإعجازية التي تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى، ولكن في المقابل لم يكن للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب. لقد اتهموه بالسحر في مقابل الآيات والمعجزات التي أظهرها، وكذّبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على الأمور. وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير «آيات» و «سلطان مبين».
وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الإتهام، وأُسلوب إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته.
والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء، كلّ واحد منها يرمز لشيء معين في سياق الحالة السائدة آنذاك، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها في أي عصر.
«فرعون» نموذج للطغاة والعصاة وحكّام الظلم والجور.
«هامان» رمزللشيطنة والخطط الشيطانية.
«قارون» نموذج للأثرياء البغاة، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شيء في سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها.
وبذلك كانت دعوة موسى(عليه السلام) تستهدف القضاء على الحاكم الظالم، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم، وبتر تجاوزات الأثرياء المتستكبرين، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في
المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولكن من وقعت مصالحهُ اللامشروعة في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية.
الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسى(عليه السلام): (فلما جاءهم بالحقّ من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نسائهم).
وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كأُسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسى(عليه السلام) فحسب، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى(عليه السلام)، فالآية (129) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسى(عليه السلام): (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا).
لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسى(عليه السلام).
وفي كلّ الأحوال، يعبّر هذا الأُسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الصاقات الفعّالة، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.
لقد كان «بنو إسرائيل» قبل موسى(عليه السلام) عبيداً للفراعنة، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى(عليه السلام) وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء، بهدف الإنتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.
ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟
القرآن يجيب: (وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال).
أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل و الضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.
لقد اشتد الصراع بين موسى (عليه السلام) وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة، لا يذكر القرآن عنها كثيراً في هذه الفقرة، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسى(عليه السلام) لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها، لكنّ المستشارين من «الملأ» من القوم عارضوا الفكرة.
يقول تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وَليدع ربّه).
نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشارية أو بعضهم على الاقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب(عليه السلام) من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية، إلاّ أنّ فرعون ـ بدافع من غروره ـ يصر على قتله مهما تكن النتائج.
وبالطبع، فإنّ سبب امتناع «الملأ» عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة ... .
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب.
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى(عليه السلام) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته، خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم.
وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين (العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسى(عليه السلام)بالساحر، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان يأمل الإنتصار على موسى(عليه السلام) عن هذا الطريق، لذا بقي في انتظار هذا اليوم.
وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل
موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر(1).
خلاصة القول: إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى(عليه السلام) مجرّد حادث صغير ومحدود، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار... تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه.
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه، كان يرغب ببقاء موسى(عليه السلام) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته.
وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة» في بلاط السلاطين، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم، وليأمنوا هم من رقابته عليهم، كي يفعلوا ما يريدون!
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى(عليه السلام) بدليلين، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال الأول، كما يحكي القرآن ذلك: (إنّي أخاف أن يبدّل دينكم).
وفي الثّاني: (أو أن يظهر في الأرض الفساد).
فإذا سكتّ أناوكففت عن قتله، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر، وستتبدل عباة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم; وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى(عليه السلام) وأتباعه، وهو أمرٌ تصعب معه مجاهدته في المستقبل، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.
بالطبع، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئاً سوى عبادته أو عبادة الأصنام،
1 ـ ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (36) من سورة الشعراء: (قالوا أرجه وأخاه) إنّ الآية دليل على أنّ هناك مجموعة منعت فرعون من قتل «موسى»(عليه السلام) إلاّ أنّ التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنّه لم تكن هناك نية لقتله في ذلك الوقت، وإنّما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة وانتصار موسى(عليه السلام) عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر، حيث خشي فرعون العواقب.
وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته، يستهدف منه السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته.
أمّا الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد، ومحو آثار عبادة الأصنام، وإحياء معالم التوحيد، وتشييد الحياة على أساسها.
إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته، وكذلك «التدليس» على المصلحين بالإتهامات، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر، وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول!
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى(عليه السلام) والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس؟
يقول القرآن في ذلك: (وقال موسى إنّي عذت بربي و ربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب).
قال موسى(عليه السلام) هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى، وأثبت بذلك بأنّه لا يهتز أو يخاف أمام التهديدات.
ويستفاد من قول موسى(عليه السلام) أيضاً أنّ من تحل فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده.
فالتكبر يصبح سبباً لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره، فهو يعتبر كما في حال فرعون ـ الآيات والمعجزات الإلهية سحراً، ويعتبر المصلحين مفسدين، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفاً في النفس.
أمّا عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حراً طليقاً في أعماله وبرامجه، لا يفكر بالعواقب، و لا يرى لنفسه حدوداً يقف عندها، وسيقوم بسبب
انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كلّ دعوة صالحة ويحارب الأنبياء.
ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون؟
الآيات القادمة تنبئنا بذلك، وتكشف كيف استطاع موسى(عليه السلام) أن يفلت من مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور.
* * *
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبِيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَ إِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ( 28 ) يَـقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـهِرِينَ فِى الاَْرْضِ فَمَن يَنْصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَ مَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ( 29 )
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى(عليه السلام) وفرعون، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّماتكتم عليه واعتبر نفسه.
من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفاً بحماية موسى(عليه السلام) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.
فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.
يقول تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله).
أتقتلوه في حين أنّه: (وقد جاءكم بالبينات من ربّكم).
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى، وإله موسى ... هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟
فكروا جيداً، لا تقوموا بعمل عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم.
ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: (وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم).
إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق و الصواب.
ثم تضيف الآيات: (إنّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب).
فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.
ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.
والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله، وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى(عليه السلام) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.
و بالنسبة للتعبير الآنف الذكر (و إن يك كاذباً... ) فقد طرح المفسّرون سؤالين:
الأوّل: إذا كان موسى(عليه السلام) كاذباً، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه و حسب، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.
الثّاني: أما لو كان صادقاً، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟
بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟
وبالنسبة للسؤال الثّاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى(عليه السلام) من التهديد بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.
وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى(عليه السلام).
ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:
أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى(عليه السلام) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.
ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة، ويظهر أنّها أدلة معتبرة، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً.
والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.
ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها و نعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا).
ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (عليه السلام)، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور.
ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: (قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى) وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى و لا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.
ثمّ إنني : (و ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).
و هذه هو حال كافة الطواغيت و الجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، و لا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا... وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.
* * *
نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى(عليه السلام)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه(عليه السلام).
لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكياً و لبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى(عليه السلام) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.
تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.
البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.
والبعض قال: إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل»(1).
فيما قال البعض الآخر: إنّه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية(2).
وينقل عن ابن عباس أنّه قال: إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى(عليه السلام)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا
1 ـ يستفاد هذا المعنى من رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (تلاحظ في أمالي الصدوق طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 519) ولكن بما أنّ الشائع أن «حزقيل» هو أحد أنبياء بني إسرائيل، فعندها سيضعف هذ الإحتمال، إلاّ إذا كان «حزقيل» هذا غير النّبي المعروف في بني إسرائيل. ثمّ إنّ الرواية ضعيفة السند.
2 ـ ورد هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم، كما نقل صاحب نور الثقلين في المجلد الرابع، صفحة 518.
موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين)(1).
لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسى(عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.
والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضاً نداء «يا قوم».
ولكن يبقى دوره مؤثراً في تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.
(التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض، بل غالباً ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين و الجبارين والطغاة، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلاّ عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.
وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو، لا تتمّ إلاّ عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.
لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسى(عليه السلام)، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات و الأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته، و يخبر بها أصحابه و قد تقضي الضرورة النفوذ في ذهينة العدو أيضاً وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما أستطاع إلى ذلك سبيلا.
1 ـ القصص، الآية 20.
الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسى(عليه السلام) لو لم يستخدم أُسلوب التقية؟
لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قوله(عليه السلام): (التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(1).
إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.
إنّ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلتزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات، وحينما ازداد أتباعه و تشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدع (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره تعالى أمام القوم.
ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيم (عليه السلام) الذي استخدم أُسلوب التقية، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام، وإلاّ فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبداً.
كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلاّ في فترات ومواقف خاصّة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.
من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأُسلوب، تختص
1 ـ مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 521.
بالشيعة دون غيرهم، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.
ولمزيد من التوضيح، باستطاعة القاريء الكريم أن يرجع إلى بحثنا في تفسير الآية 28 من آل عمران والآية 106 من النحل.
في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول:(فاتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً) و(حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب و هو أفضلهم».
والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين(1).
![]() |
![]() |
![]() |