1 ـ أخراج الشطأ. 2 ـ والمؤازرة للنموّ. 3 ـ والإستغلاظ. 4 ـ والإستواء. 5 ـ والنمو المعجب.

وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدّث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية...

وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدّث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).

أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة... وتتنامى براعمهم دائماً ويثمرون ويتآزرون كلّ حين... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي!...

أجل، إنّهم لا يتكاسلون في حركتهم المتّجهة إلى الإمام دائماً، وهم في حال عبادتهم مجاهدون، وفي حال جهادهم عابدون ظاهرهم سوي، وباطنهم سليم، وعواطفهم صادقة، ونيّاتهم خالصة، وهم مظهر غضب الله بوجه أعداء الحق، ومظهر الرحمة بوجه إخوانهم.

ثمّ تضيف الآية معقّبةَ: أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته: (ليغيظ بهم الكفّار)(1).

ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً).

بديهي أنّ أوصاف أصحاب النّبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما: أي أنّ الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمروا بالإيمان والعمل الصالح، وإلاّ فإنّ من كان يوماً مع النّبي ويوماً آخر مع سواه وعلى خلاف طريقته فلا يُشملون بهذا الوعد أبداً.

والتعبير بـ «منهم» مع الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّ الأصل في كلمة «من» في مثل هذه الموارد التبعيض، وظاهر الآية يُعطي هذا المعنى أيضاً، وهذا التعبير يدلُّ على أنّ أصحاب النّبي ينقسمون قسمين ـ فطائفة منهم ـ يواصلون إيمانهم وعملهم الصالح وتشملهم رحمة الله الواسعة وأجره العظيم، وطائفة يحيدون عن نهجه فيحرمون من هذا الفيض العظيم!...

وليس معلوماً السبب في إصرار بعض المفسّرين على أنّ «من» في كلمة «منهم» بيانيّة حتماً، في حين لو ارتكبنا خلاف الظاهر وقلنا إنّ من هنا بيانية فكيف يمكن أن ندع القرائن العقلية هنا، فلا أحد يدّعي أبداً أنّ جميع أصحاب النّبي معصومون وفي هذه الصورة يزول احتمال أنّ كلّ واحد منهم بقي على عمله الصالح وإيمانه، ومع هذه الحال فكيف يعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم دون قيد وشرط سواءً عملوا الصالحات في طول مسيرتهم، أو أن يعملوا الصالحات في وقت، ثمّ ينحرفوا من منتصف الطريق!...

وهذه اللطيفة تستدعي الإلتفات وهي أنّ جملة: (والذين معه) لا تعني المرافقة الجسدية مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصاحبة الجسمانية لأنّ المنافقين كانوا على هذه الشاكلة أيضاً... بل المراد من «معه» هو المعيّة من جهة أصول الإيمان والتقوى قطعاً... فبناءً على هذا لا يمكننا أن نستنتج حكماً كليّاً من الآية الآنفة في شأن جميع المعاصرين والمجالسين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...

* * *


1 ـ يرى كثير من المفسّرين أنّ اللام في جملة «ليغيظ بهم الكفّار» هي لام التعليل، فيكون مفهوم الجملة: إنّ هذه القوّة والقدرة جعلها الله نصيب أصحاب محمّد ليغيظ بهم الكفّار..

[500]

بحثان

1 ـ قصة تنزيه الصحابة!

المعروف بين علماء أهل السنّة أنّ صحابة رسول الله جميعاً أولو امتياز خاص دون سائر الناس من أُمّة محمّد فهم مطهّرون أزكياء معصومون من الزلل وليس لنا الحق في انتقاص أي منهم أو انتقاده ويحرم الإساءة إليهم بالكلام وغيره، حتى أنّ بعضهم قال بكفر من يفعل ذلك واستدلّوا على ذلك بآيات من الذكر الحكيم منها هذه الآية: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً)...

وبالآية (100) من سورة التوبة إذ تعبّر عن المهاجرين والأنصار بعد ذكرهم في آيات سابقة بقولها: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)...

ولكنّنا إذا ابتعدنا عن الأحكام المسبقة الإعتباطية، فسنجد أمامنا قرائن تتزلزل عندها هذه العقيدة!

الأولى: إنّ جملة: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) الواردة في سورة التوبة لا تخصّ المهاجرين والأنصار فحسب، لأنّ في الآية تعبيراً آخر وهو: (والذين اتبعوهم بإحسان) يشمل كلّ من يتّبعهم بالإحسان والصلاح إلى يوم القيامة...

فكما أنّ «التابعين» إذا كانوا في خط الإيمان يوماً وفي خط الكفر والإساءة يوماً آخر يخرجون من خيمة رضا الله، فإنّ الموضوع ذاته وارد في الصحابة لأنّهم في آخر سورة الفتح مقيّدون بالإيمان والعمل الصالح أيضاً بحيث لو خرجوا عن هذا القيد ولو يوماً واحداً لخرجوا عن رضوان الله سبحانه...

وبتعبير آخر: إنّ كلمة «بإحسان» هي في شأن التابعين والمتبوعين جميعاً، فأي منهما خرج عن خطّ الإحسان فلن يشمله رضا الله ولطفه...

الثانية: أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ أصحاب النّبي وإن امتازوا بشرف صحبته، إلاّ أنّ من يأتي بعدهم في الفترات المقبلة وهم ذوو عمل صالح وإيمان راسخ أفضل منهم من جهة واحدة وهي أنّ أصحاب النّبي شهدوا معاجزه بجميع أنواعها غير أنّ الآخرين اتبعوا منهاجه دون مشاهدتها وساروا على هداه بالإفادة من الدلائل الأُخر...

ونقرأ في بعض أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سأله أصحابه: «نحن إخوانُك يا رسول الله؟! قال: لا أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدي. آمنوا بي ولم يروني، وقال: للعامل منهم أجر خمسين منكم، قالوا: بل منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم ردّدها ثلاثاً، ثمّ قال: لأنّكم تجدون على الخير أعواناً»(1).

كما نقل في صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ودِدْتُ أنّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَ لسنا إخوانك يا رسول الله؟! فقال: أنتم أصحابي وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعد»(2).

ويؤيّد العقل والمنطق هذه المقولة أيضاً حيث إنّ من لم يدركوا رسول الله ولم يتعلّموا بين يديه وهم في الوقت ذاته مثل أصحابه من حيث الإيمان والعمل الصالح فهم أفضل من الصحابة...

الثالثة: إنّ هذا الكلام من وجهة النظر التاريخية مقدوح فيه كثيراً لأنّ بعض الصحابة بعد زمان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل حتى في عصره حاد عن جادّة الصواب...

فكيف يمكن أن نُبرّئ الذين أشعلوا نار فتنة «الجمل» وقتلوا ما قتلوا وحملوا على خليفة رسول الله حقّاً بالسيف ولا نعدّهم آثمين خاطئين...

أو أن نقول إنّ الذين اجتمعوا في النهروان وصفّين وثاروا على وصي رسول الله وخليفته المنتخب من قبل المسلمين وسفكوا الدماء الغزيرة مشمولون برضوان الله ولا غبار عليهم من الذنب والإثم؟!

وأعجب من ذلك كله أن يُعتذر ـ عن أولئك الذين أخطأواً كلّ هذه الأخطاء وفعلوا ما فعلوا ـ بأنّهم مجتهدون، والمجتهد معذور! هكذا وجّهوا الأمر!!

وإذا أمكن أن توجّه أمثال هذه الذنوب الكبيرة على أنّها اجتهاد فلا مجال لملامة أي قاتل، ولا داعي لإقامة حدود الله في شأنه!! فلعلّه اجتهد فأخطأ!!...

وبتعبير آخر: أنّه قد تقابلت في معركة الجمل وصفّين والنهروان طائفتان متحاربتان ومن المسلّم به قطعاً أنّهما لم تكونا جميعاً على الحق، لأنّ الجمع بين الضدّين محال، فمع هذا التقدير كيف يمكن القول بأنّ الطائفتين كلتيهما مشمولتان برضا الله، والمسألة لم تكن من المسائل العويصة الملتوية ولم يكن التمييز بين الحق والباطل صعباً ولا مشكلاً... فالجميع كانوا يعرفون أنّ علياً (عليه السلام) أمّا طبقاً لنص النّبي عليه أو بانتخاب المسلمين هو الخليفة الحق ومع هذا فقد واجهوه بالسيف، فكيف يُوجه هذا العمل عن طريق الإجتهاد؟

ولمَ لا يوجّهون قيام «أصحاب الردّة» في زمان أبي بكر عن طريق الإجتهاد وعدوّهم مرتدّين رسماً... غير أنّهم برّأوا أصحاب الجمل وصفّين والنهروان من أي ذنب وإثم!!؟

وعلى كلّ حال... يبدو أنّ مسألة «تنزيه الصحابة» بصورة مطلقة كانت حكماً سياسياً لتحفّظ جماعة بعد النّبي موقعها وتعوّل على هذا الحكم، وتصون نفسها من الإنتقاد...

وهذا الموضوع لا ينسجم مع حكم العقل ولا مع التواريخ الإسلامية المسلّم بها...

وما أحسن أن نحتكم في شأن أصحاب النّبي في الوقت الذي نجلّهم ونحترمهم ذاته ـ إلى معيار يقضي عليهم بالحق من خلال أعمالهم وعقائدهم عبر حياتهم من البداية حتى النهاية، ذلك المعيار الذي أفدناه من القرآن الكريم وذلك المعيار الذي وزن النّبي به صحابته...


1 ـ تفسير روح المعاني، ج9، ص61.

2 ـ صحيح مسلم، ج1، الحديث 39.

[503]

2 ـ المحبّة الإسلامية المتبادلة

في الروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفتح تأكيد لا مزيد عليه على قوله تعالى: (رحماء بينهم) ومن بين هذه الروايات ما نقرأه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحقّ على المسلم الإجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله عزَّ وجلَّ رحماء بينكم متراحمين، مغتّمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله»(1).

إلاّ أنّ العجيب أنّ المسلمين في هذا العصر لا يقتدون بتعاليم هذه الآية المؤثرة وما تنقله من خصائص أصحاب رسول الله والمؤمنين الصادقين، وربّما تحامل بعضهم على بعض وأثار الحفيظة وسفك الدماء وهو ما لم يفعله أعداء الإسلام أحياناً...

وربّما ارتبطوا بالكفّار وأنشأوا علائق المحبّة حتى تظن أنّهم إخوان من أصل واحد ونسب واحد.

فلا خبر عن الركوع والسجود ولا النيّات الخالصة ولا ابتغاء فضل الله ولا آثار السجود في سيماهم ولا الزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه!!

والعجيب أيضاً... أنّه كلّما ابتعدنا عن الأصول القرآنية هذه منينا بالذل والنكبة أكثر فأكثر ومع ذلك لا نلتفت من أين نؤكل؟! وما تزال حميّة الجاهلية تصدّنا عن التفكير وإعادة النظر والعودة نحو القرآن...

اللّهمَّ نبّهنا من نومة الغافلين!...

اللّهمَّ وفّقنا أن نحيى فيها خلال أصحاب رسول الله وصفاتهم التي ذكرتها هذه الآيات البيّنات...

اللّهمَّ ارزقنا الشدّة على أعدائنا والرحمة فيما بيننا والتسليم لأمرك، والإهتمام الى ما توليه إيّانا من العنايات الخاصّة والجد والسعي إلى النهوض بالمجتمع الإسلامي إلى الخير والإزدهار.

اللّهمَّ ارزقنا فتحاً مبيناً يتحرّك في ظلّه المجتمع الإسلامي وأن نوفّق إلى نشر تعاليم هذا الدين القويم الذي يهب الحياة للناس في هذا العصر الذي هو أحوج الى المعنويات من أي وقت آخر، وأن نفتح كلّ يوم قلوباً جديدة إلى نور الإسلام...

 

آمين يا ربّ العالمين

انتهت سورة الفتح

 

* * *


1 ـ أصول الكافي ـ طبقاً لتفسير نور الثقلين، ج5، ص77، الحديث 91.

[507]

 

 

 

 

سُورَة

 

 

 

 

الحُجُرَات

 

مدنيّة

 

وَعَدَدُ آياتها ثماني عشرة آية

«سورة الحجرات»

 

محتوى السورة:

هذه السورة التي لا تتجاوز 18 آية تحملُ في ما تحمل مسائل مهمة تتعلّق بشخص النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمِّي هذه السورة بـ«سورة الأخلاق والآداب»...

ويمكن على الإجمال تقسيم مضامين السورة على النحو التالي:

القسم الأوّل: آيات بداية السورة وهي تبين طريقة التعامل مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

الثّاني: تشتمل هذه السورة على سلسلة من أُصول «الأخلاق الإجتماعية» المهمّة التي إن عمل بها وعلى هداها حفظت المحبّة والصفاء والأمن والإتحاد في المجتمع الإسلامي، وعلى العكس من ذلك لو أهملت تكون سبباً للشقاء والنفاق والتفرّق وعدم الأمن...

الثّالث: الأوامر الإرشادية المتعلّقة بكيفية مواجهة الإختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحياناً...

الرابع: يتحدّث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وأهمية التقوى!...

الخامس: يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لابدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس ـ إضافةً إلى الإعتقاد في القلب ـ.

السادس: يتحدّث عن أنّ الإيمان والإسلام هما هدية إلهية للمؤمنين وبدلاً من أن يمنّوا بالإسلام أو الإيمان ينبغي أن يشكروا الله على هذه الهدية إذ شملهم بها...

السابع: والأخير يتحدّث عن علم الله وإطلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة!

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها وسنبيّن تفسيرها في السطور التالية...

فضيلة تلاوة هذه السورة!

يكفي أن نعرف فضيلة هذه السورة من حديث نقرؤه عن النّبي في فضلها!... «من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله وعصاه».

كما نقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق في فضلها يقول: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من زوّار محمّد»...

وبديهي أنّ كلّ هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلاً من الفريقين وأن نفكّر جيداً فنجعل مسيرنا وفقاً لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النّبي أيضاً فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ التلاوة في كلّ مكان مقدمة للعمل...

 

* * *

 

الآيات

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( 1 ) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعمَـلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ( 2 ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( 4 )وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( 5 )

 

سبب النّزول

ذكر المفسّرون لنزول الآية الأُولى من هذه السورة شأناً بل شؤوناً كما ذكروا لنزول الآيات التي بعدها شؤوناً أُخر!

فمن الشؤون التي ذكروها لنزول الآية الأُولى أنّه: حين أراد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوجّه إلى خيبر رغب في أن يخلّف شخصاً معيّناً مكانه في المدينة وينصّبه خليفةً عنه، فاقترح عمر شخصاً آخر، فنزلت الآية الآنفة وأمرت أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(91).

وقال آخرون: كان بعض المسلمين بين الفينة والأُخرى يقولون لو نزلت فينا آية لكان أفضل، فنزلت الآية أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(92).

وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إلى أعمال بعض المسلمين الذين كانوا يؤدّون عباداتهم قبل أوآنها، فنزلت الآية لتنهاهم عن مثل هذه الأعمال(1).

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسّرون إنّ طائفةَ من «بني تميم» وأشرافهم وردوا المدينة، فلمّا دخلوا مسجد النّبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي: يا محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدّبة النبي، فخرج إليهم فقالوا له: جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدّث عن مفاخر قبيلتنا، فأجازهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهميّة كثيراً...

فأمر النّبي (ثابت بن قيس) أن يردّ عليهم(2) فنهض وخطب خُطبةً بليغة فلم يُبق لخُطبة أولئك من أثر!...

ثمّ نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردَّ عليه بقصيدة شافية كافية!

فقام رجلٌ من أشراف تلك القبيلة واسمه «الأقرع» فقال: إنّ هذا الرجل يعني محمّداً خطيبه أبلغ من خطيبنا وشاعره أجدر من شاعرنا وصدى صوته أبعد مدىً من صوتنا...

فأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تُهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوّته!

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

وهناك شأن آخر لنزول الآية بل هو يتعلّق بالآية الأولى وما بعدها وهو أنّه في السنة التاسعة للهجرة [حين كانت القبائل تَفُد على النّبي للسلام عليه أو للمعاهدة معه] وقد عُرف العام ذلك «بعام الوفود» وعند وصول ممثلي قبيلة تميم إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبو بكر: ليكن «القعقاع» (أحد أشراف تلك القبيلة) أميرها، واقترح عمر أن يكون «الحابس بن أقرع» أميرها. فقال أبو بكر لعمر أردت أن تخالفني، فردَّ عليه عمر بأنّه لم يُرد مخالفته أبداً، فتعالى الصياح والضجيج بينهما، فنزلت الآيات الآنفة... أي لا تقترحوا في الأُمور على النّبي شيئاً ولا تتقدّموا عليه في العمل ولا ترفعوا أصواتكم عند بيت النبي(3).

* * *


1 ـ 2 ـ 3 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6121.

2 ـ كان «ثابت بن قيس» خطيب الأنصار وخطيب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان حسّان بن ثابت شاعره [أسد الغابة، ج1، ص229].

3 ـ نقل ذلك القرطبي في تفسيره، ج9، ص6121، وسيد قطب في ظلاله، ج7، ص524، وابن هشام في سيرته ص206 فما بعد (مع شيء من التفاوت والإختلاف) كما ورد في صحيح البخاري، ج6، ص172، في تفسيره سورة الحجرات..

[511]

التّفسير

آداب الحضور عند النبي:

كما أشرنا آنفاً أنّ في محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والأوامر والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة الأخلاق، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ـ والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

الأول: عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... فتقول الآية الأولى في هذا الصدد: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميع عليم).

والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الأُمور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله...

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا أن يحدّدوا مفهوم الآية وجعلوه منحصراً بأداء العبادات قبل وقتها، أو التكلّم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك، إلاّ أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل أي تقدّم وإسراع في كلّ خطّة ومنهج(1).

إنّ مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصةً إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألاّ يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي إذا كان لديهم شيءٌ يجدر بيانه، بل المراد منه إلاّ يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبيّن المسائل في حينها، لا سيما إذا كان القائد معصوماً الذي لا يغفل عن أي شيء! كما أنّه لو سُئل المعصوم أيضاً، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم، وفي الحقيقة أنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيِّها.

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثّاني فتقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون).

والجملة الأولى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، والنّبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً.

أمّا جملة: (لا تجهروا له بالقول) فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدّم في الجملة الأولى، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول: «يا رسول الله»!...

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي:ـ إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي، فلا ينبغي لأحد أن يرفع صوته فوق صوت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمّا الجملة الثانية فناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتاً وأصحابه يُحدّثونه، ففي هذه الحالة أيضاً لا ينبغي رفع الصوت عنده.

والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضاً ـ لا مانع منه كما أنّه ينسجم مع شأن نزول الآية، وعلى كلّ حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين...

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلاّ فهو إيذاء له وفيه إثم أيضاً...

وفي الصورة الأُولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح...

وفي الصورة الثانية أيضاً، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وقلنا سابقاً في بحث الحبط أنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة قطعيّ أيضاً... وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى ورغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات والسيئات، إلاّ أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات المهمّة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها!(2).

وقد ورد في رواية أنّه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال «ثابت بن قيس» خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال: أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي وأنا من أهل النّار...

فبلغ ذلك سمع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «هو من أهل الجنّة»(3). لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداءً لوظيفة إسلامية.

كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة «حنين» بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!

وفي الآية الأُخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لأُولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول: (إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم)(4).

كلمة «يغضون» مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

وكلمة «امتحن» مشتقة من الإمتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ، ثمّ استعملت بعدئذ في مطلق الإختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى...

وممّا يسترعي الإنتباه أنّ الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي، إلاّ أنّ هذه الآية ورد التعبير فيها عنه برسول الله، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه «اللطيفة»: وهي أنّ النّبي ليس عنده شيءٌ من نفسه، بل هو رسول الله ونبيّه، فإساءة الأدب إليه إساءة الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله.

ونكّرت كلمة «مغفرة» للتعظيم والأهمية... أي أنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولاً، ثمّ الإنتفاع من الأجر العظيم من قِبل الله..

أمّا الآية الأُخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم، وعدم إدراكهم فتقول: (إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون).

فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟!

وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان...

جملة (أكثرهم لا يعقلون) «الأكثر» في لغة العرب يطلق أحياناً بمعنى الجميع، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعايةً للإحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحداً أُستثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر، فكأنّ الله يريد أن يقول: إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علماً، عند الكلام على مثل هذه الأُمور أراعي الأدب في ذلك فعلامَ لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟!

أو لأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّاً، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع الصوت يريد القرآن أن يحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام...

«الحجرات»: جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت(5) المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد...

وأصل الكلمة مأخوذ من «الحَجْر» على وزن الأجْر: أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان... والتعبير بـ«وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأنّ أبواب الحجرات كانت تتفتح على المسجد أحياناً فيقف الجهلة عندها فينادون: يا محمّد أخرج إلينا، فمنعهم القرآن ونهاهم عن ذلك!...

ويضيف القرآن إكمالاً للمعنى في نهاية الآية قائلاً: (ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم).

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلاّ أنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلاً هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلاً إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة: (والله غفور رحيم).

* * *


1 ـ ورد الفعل «لا تقدّموا» على صيغة الفعل المتعدّي إلاّ أنّ المفعول محذوف هنا وتقديره: لا تقدّموا أمراً بين يدي الله ورسوله وقد احتمل بعضهم أنّ هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدّموا بين يدي الله وبالرغم من أنّ الفعلين مختلفان شكلاً إلاّ أنّ المعنى أو النتيجة واحدة..

2 ـ لمزيد الإطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (217) من سورة البقرة فليراجع.

3 ـ يراجع مجمع البيان، ج9، ص130، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند كثير من المفسّرين ولا سيما البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما.

4 ـ «اللام» في كلمة «التقوى» في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلّة) أي أنّ الله يجعل قلوب أولئك مهيّأة للقبول والتقوى، لأنّ القلب إذا لم يَخلُص ولم يصف فلا يكون محلاً للتقوى حقيقةً.

5 ـ بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] وهو مشتقٌّ من المبيت ليلاً...

[516]

بحوث

1 ـ الأدب أغلى القيم

اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالإحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة، ونشير إلى طائفة من الأحاديث الشريفة هنا على أنّها شواهد وأمثال لهذا العنوان...