كلٌّ محتمل، إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ المراد الآيات القرآنية بقرينة التعبير بالتلاوة، غاية مافي الأمر أنّ هذه الآيات القرآنية آيات الله سبحانه في كلّ عالم الوجود، وعلى هذا فيمكن الجمع بين التّفسيرين (فتأمل!).

وعلى أية حال، فإنّ (التلاوة) من مادة (تلو) أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير بالحق إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الإستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)(1).

وعلى قول «الطبرسي» في مجمع البيان، فإنّ الحديث إشارة إلى قصص الأقوام الماضين، وأحداثهم التي تبعث على الإعتبار بهم، في حين أنّ الآيات تقال للدلائل التي تميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وآيات القرآن المجيد تتحدث عن الإثنين معاً.

حقاً إنّ للقرآن الكريم محتوى عميقاً من ناحية الإستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد ـ أو أرضية صالحة ـ، وتدعو كلّ مرتبط بالحق الى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

* * *


1 ـ للتعبير بـ(بعد الله) محذوف، والتقدير: فبأي حديث بعد حديث الله.

[191]

الآيات

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاك أَثِيم( 7 ) يَسْمَعُ آيَـتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَاب أَلِيم( 8 ) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَـتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( 9 ) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( 10 )

 

التّفسير

ويل لكلّ أفاك أثيم:

رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية.

أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول: أوّلاً: (ويل لكل أفاك أثيم).

«الأفاك» صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

[192]

و«الأثيم» من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب، لا أُولئك الصادقون الطاهرون، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

ثمّ تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها)(1) ولهذا فإنّه بحكم تلوثه بالذنب والكذب، والغرور والكبر والعجب، يمر كأن لم يسمع كلّ هذه الآيات، وكأنه أصم أو أنّه يعتبر نفسه كذلك، كما ورد لك في الآية (7) من سورة لقمان: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقراً).

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: (فبشره بعذاب أليم)فكما أنّه آذى قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وآلمهم، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً، لأنّ عذاب القيامة تجسم لأعمال البشر في الحياة الدنيا.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكر سبب نزول لهذه الآية والآية التي تليها، واعتبروهما إشارة إلى أبي جهل أو النظر بن الحارث، ذلك أنّهم كانوا قد جمعوا قصصاً وأساطير من العجم ليلهوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الحق.

لكن من الواضح أنّ هذه الآية لا تختص بهم، بل ولا بمشركي العرب أيضاً، فهي تشمل كلّ المجرمين الكاذبين المستكبرين في كلّ عصر وزمان، وكلّ الذين يصرون كأن لم يسمعوا آيات الله سبحانه ونداءات الأنبياء وكلمات الأئمّة والعظماء، لأنّها لا تنسجم مع شهواتهم وميولهم ورغباتهم المنحرفة، ولا تؤيد أفكارهم الشيطانية، ولا توافق عاداتهم الخاطئة وأعرافهم البالية وتقاليدهم العمياء.


1 ـ يمكن أن تكون عبادة (يسمع آيات الله) جملة مستأنفة، أو هي وصف آخر لـ (كل).

[193]

نعم، بشّر كلّ أولئك بالعذاب الأليم.

ولما كان العذاب لا ينسجم مع البشارة، فإنّ هذا التعبير ورد من باب السخرية والإستهزاء.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها: (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)(1).

في الحقيقة، توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان:

الأولى: أنّهم غالباً ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها، ويمرون عليها دون اهتمام وتعظيم، فكأنّهم لم يسمعوها أيضاً.

والأُخرى: أنّهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها، فليس لهم من رد فعل إزاءها إلاّ الاستهزاء والسخرية. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين، فمرّة هذه، وأُخرى تلك، وبناء على هذا فلا تعارض بين هذه الآية والتي قبلها.

والطريف أنّها تقول أوّلاً: (وإذا علم من آياتنا شيئاً) ثمّ لا تقول: إنّه يستهزيء فيما بعد بما علم، بل تقول: إنّه يتخذ كلّ آياتنا هزواً، سواء التي علمها والتي لم يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزيء به وهو لم يفهمه أصلاً، وهذا خير دليل على عناد أُولئك وتعصبهم.

ثمّ تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: (أُولئك لهم عذاب مهين) ولم لا يكون الأمر كذلك، فإنّ هؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة والمكانة الإجتماعية من خلال الإستهزاء بآيات الله سبحانه، إلاّ أنّ الله تعالى سيجعل عقابهم تحقيرهم ومذلتهم وهوانهم، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل، فيسحبون على وجوههم مصفَّدين مكبَّلين ثمّ يرمون على تلك الحال في جهنم، ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.

ومن هنا يتّضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة، وبالمهين هنا،


1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ ضمير (اتخذها) لا يعود على (شيئاً)، بل على (آياتنا).

[194]

وبالعظيم في الآية التالية، فكلّ منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.

وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: (من ورائهم جهنّم).

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنّم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم، وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، والقرآن الكريم يقول: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً)(1).

وقال جمع من المفسّرين أيضاً: إنّ كلمة (وراء) من مادة المواراة، وتقال لكلّ شيء خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنّه بعيد لا يراه، وعلى هذا فإنّ لكلمة (وراء) معنى جامعاً يطلق على مصداقين متضادين(2).

وليس ببعيد إذا قلنا: إنّ التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلاً نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إنّ تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضاً تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم، وأنّها ستغني عنهم من الله شيئاً، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء).

ولما لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب الله ونار غضبه: (ولهم عذاب عظيم).


1 ـ سورة الدهر، الآية 27.

2 ـ قال البعض أيضاً: إنّ كلمة (وراء) إنّ أضيفت إلى الفاعل أعطت معنى الوراء، وإن أضيفت إلى المفعول أعطت معنى الأمام. روح البيان، المجلد 8، صفحة 439. لكن لا دليل على هذا المدعى.

[195]

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه، ولذلك سيعظم الله عذابهم، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم!

إن هذا العذاب عظيم من كلّ الجهات، فهو عظيم في خلوده، وشدته، وباقترانه بالتحقير والإهانة، وعظيم في نفوذه إلى نخاع وقلوب المجرمين..

نعم.. إنّ الذنب العظيم، أمام الله العظيم، لا يكون جزاؤه إلاّ العذاب العظيم.

 

* * *

 

[196]

الآيات

هذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِن رِجْز أَلِيمٌ( 11 ) اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( 12 ) وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّمـوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لاَيَـت لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ( 13 ) قُل لِلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 14 ) مَنْ عَمِلَ صَـلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ( 15 )

 

التّفسير

كل شيء مسخر للإنسان:

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: (هذا هدى) فهو يميز بين الحق والباطل، ويضيء حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم

[197]

ومنزلهم المقصود، لكن: (والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم).

«الرجز» يعني الإضطراب والإهتزاز وعدم الإنتظار، كما يقول الراغب في مفرداته، وتقول العرب: رجز البعير إذا تقاربت خطواته واضطرب لضعف فيه.

وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والإبتلاءات الصعبة، أو العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأنّ كلّ هذه الأُمور تبعث على الإضطراب والتزلزل وعدم الإنتظام والإنضباط، وإنّما يقال لأشعار الحرب (رجز) لأنّها مقاطع قصيرة متقاربة، أو لأنّها تلقي الرعب والإضطراب بين صفوف الأعداء.

ثمّ تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الأولى لهذه السورة، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه ومعرفته.

فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).

من الذي أودع في مادة السفن الأصلية خاصية الطفو على الماء وعدم الغطس؟ ومن الذي جعل الماء فراشاً ناعماً حركتها حتى استطاعت أن تسير فيه بكلّ سهولة ويسر؟ ومن الذي أمر الرياح أن تمرّ على سطح المحيطات بصورة منتظمة لتحرك السفن وتسيرها؟ أو يحل قوّة البخار محل الهواء ليزيد من سرعة هذه السفن العظيمة؟

نحن نعلم أنّ أكبر وسائط نقل الإنسان وأهمها في الماضي والحاضر هي السفن الصغيرة والكبيرة، والتي تنقل على مدار السنة ملايين البشر، وأكثر من ذلك البضائع التجارية من أقصى نقاط العالم إلى المناطق المختلفة، وقد تكون السفن أحياناً بسعة مدينة صغيرة، وسكانها بعدد سكانها، وهي مجهزة بمختلف الوسائل والأموال.

[198]

حقاً لو لم تكن هذه القوى الثلاث، أفيكون بمقدور الإنسان أن يحل مشاكل حمله ونقله بواسطة المراكب العادية البسيطة؟ حتى هذه المراكب والوسائط البسيطة هي بحدّ ذاتها من نعمه سبحانه، وهي فعالة في مجالها.

والطريف أنّ الآية (32) من سورة إبراهيم تقول: (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره) أمّا هنا فإنّ الآية تقول: (سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه) لأنّ التأكيد هناك كان على تسخير البحار، ولذلك اتبعتها بقولها: (وسخر لكم الأنهار)أمّا هنا فإن الآية ناظرة إلى تسخير الفلك، وعلى أية حال، فإنّهما معاً مسخران للإنسان بأمر الله سبحانه، وهما في خدمته.

إنّ الهدف من هذا التسخير هو أن تبتغوا من فضل الله، وهذا التعبير يأتي عادة في مورد التجارة والنشاطات الإقتصادية، ومن الطبيعي أنّ نقل المسافرين من مكان الى آخر في ضمن هذا التسخير.

والهدف من الإستفادة من فضل الله هو إثارة حس الشكر لدى البشر، لتعبئة عواطفهم لأداء شكر المنعم، وبعد ذلك يسيرون في طريق معرفة الله سبحانه.

كلمة «الفلك» ـ وكما قلنا سابقاً ـ تستعمل للمفرد والجمع.

ولمزيد من التفصيل حول تسخير البحار والفلك، ومنافعها وبركاتها، راجعوا ذيل الآية (14) سورة النحل.

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه).

فقد كرّمكم إلى درجة أنّ سخر لكم كلّ موجودات العالم، وجعلها في خدمتكم ولتأمين مصالحكم ومنافعكم، فالشمس والقمر، والرياح والمطر، والجبال والوديان، والغابات والصحاري، والنباتات والحيوانات، والمعادن والمنابع الغنية التي تحت الأرض، وبالجملة فإنّه أمر كلّ هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم،

[199]

ومطيعة لأمركم، ومنفذة لإرادتكم، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه، ولا تذهلوا في سكرة الغفلة عنه.

ومما يستحق الإنتباه أنّه يقول: (جميعاً منه)(1) فإذا كانت كلّ النعم منه، وهو خالقها وربها ومدبرها جميعاً، فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه!! إنّه يتحدث مع عباده بكلّ لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، وأُخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كلّ ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

وقد أوردنا بحثاً مفصلاً حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات 31 ـ 33 من سورة إبراهيم.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله).

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم بكلّ رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم،


1 ـ ثمّة احتمالات عديدة في إعراب (جميعاً منه) وتركيبها، فقد احتمل الزمخشري في الكشاف احتمالين: الأول: إنّ (جميعاً منه) حال لـ(ما في السموات وما في الأرض) أي إنّها جميعاً مسخرة لكم لكنّها منه سبحانه. والآخر: إنّه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي منه جميعاً.

واحتمل البعض أيضاً أن تكون تأكيداً لـ (ما في السموات وما في الأرض).

[200]

فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

إنّ حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من جهة، كما أنّه يمكن أن يكون عاملاً لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.

وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيراً في القرآن الكريم كقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)(1)

إنّ التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة، بل إن تجاهلهم والإعتزاز بالنفس أمامهم هو الأُسلوب الناجح في إيقاظهم، وهو عامل مؤثر في هدايتهم.

وليس هذا قانوناً عاماً بالطبع، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن معالجتها ومواجهتها إلاّ بالغلظة والشدّة، غير أنّها قليلة.

والنكتة الأُخرى هنا أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، إلاّ أنّ (أيّام الله) قد أُطلقت على أيّام خاصّة، للدلالة على عظمتها وأهميتها.

لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد: أحدهما في هذه الآية، والآخر في سورة إبراهيم، وله هناك معنىً أوسع وأشمل.

وقد فسّرت «أيّام» في الرّوايات الإسلامية بتفاسير مختلفة، ومن جملتها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأنّ أيّام الله ثلاثة: يوم قيام المهدي، ويوم الموت، ويوم القيامة(2).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه»(3).

وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة، يوم تجلي حاكمية الله


1 ـ سورة الزخرف، الآية 89.

2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 526.

3 ـ المصدر السابق.

[201]

تعالى على كلّ فرد، وعلى كلّ شيء، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً.

تقول الآية: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثمّ إلى ربّكم ترجعون).

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً، وبعبارات مختلفة، يشكل جواباً لمن يقول: ماذا يضر عصياننا الله تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة أوامره والإنتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات: إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلقون إلى سماء قرب الله عزَّ وجلّ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي، فتبتعدون عن الله عزَّ وجلَّ وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي، ولذلك يقرر القرآن الحكيم (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غني حميد)(1)

ويقول في موضع آخر: (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)(2)

ونقرأ في موضع ثالث: (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه والى الله المصير)(3)


1 ـ لقمان، الآية 12.

2 ـ الزمر، الآية 41.

3 ـ فاطر، الآية 18.

[202]

وخلاصة القول: إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الإنتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملاً مهماً في السير نحو طاعة الله سبحانه، والإبتعاد عن معصيته.

 

* * *

 

[203]

الآيات

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـهُم مِنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ( 16 ) وَآتَيْنَـهُمُ بَيِّنَـت مِنَ الاَْمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 17 ) ثُمَّ جَعَلْنَـكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الاَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ( 18 ) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّـلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَاللهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ( 19 ) هـذَا بَصَـئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْم يُوقِنُونَ( 20 )

 

التّفسير

آتينا بني إسرائيل كلّ ذلك، ولكن...

متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح، تتناول هذه الآيات نموذجاً من حياة بعض الأقوام الماضين

[204]

الذين غمرتهم نعم الله سبحانه، إلاّ أنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الأولى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين).

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل، وبالإضافة إلى النعمة الأُخرى التي سيأتي ذكرها في الآية التالية تشكل ست نعم عظيمة.

النعمة الأولى هي الكتاب السماوي، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام، وطريق الهداية والسعادة.

والثانية مقام الحكومة والقضاء، لأنا نعلم أنّهم كانوا يمتلكون حكومة قوية مترامية الأطراف، فلم يكن داود وسليمان وحدهما حاكمين وحسب، بل إنّ كثيراً من بني إسرائيل قد تسلموا زمام الأُمور في زمانهم وعصورهم.

«الحكم» في التعبيرات القرآنية يعني عادة القضاء والحكومة، لكن لما كان مقام القضاء يشكل جزءً من برنامج الحكومة دائماً، ولايمكن للقاضي أن يؤدي واجبه من دون حماية الدولة وقوّتها، فإنّه يدل دلالة إلتزامية على مسألة التصدي وتسلم زمام الأُمور.

ونقرأ في الآية (44) من سورة المائدة في شأن التوراة: (يحكم بها النبيّون الذين أسلموا).

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوّة، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي(1)، وفي رواية أخرى: إن عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي(2).


1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 75.

2 ـ بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، المجلد 11، صفحة 31.

[205]

وكل هذه كانت مواهب ونعماً من الله سبحانه.

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثاً جامعاً شاملاً عن المواهب المادية، فتقول: (ورزقناهم من الطيبات).

النعمة الخامسة، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف: (وفضلناهم على العالمين).

لاشك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر، لأنّ الآية (110) من سورة آل عمران تقول بصراحة: (كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس).

وكذلك نعلم أنّ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أشرف الأنبياء وسيدهم، وبناء على هذا فإنّ أمته أيضاً تكون خير الأمم، كما ورد ذلك في الآية (89) من سورة النحل: (ويوم نبعث في كلّ أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء).

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل، فتقول: (وآتيناهم بينات من الأمر).

«البينات» يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمران(عليه السلام) وسائر أنبياء بني إسرائيل، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن يكون هذا التعبير إشارة إلى العلامات الواضحة التي تتعلق بنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي علمها هؤلاء، وكان باستطاعتهم أن يعرفوا نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) من خلالها كمعرفتهم بأبنائهم: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(1).

لكن لا مانع من أن تكون كلّ هذه المعاني مجتمعة في الآية.

وعلى أية حال، فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة، والدلائل البينة الواضحة لا يبقى مجال للإختلاف، إلاّ أنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أنّ


1 ـ البقرة، الآية 146.

[206]

اختلفوا، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول: (فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).

نعم، لقد رفع هؤلاء راية الطغيان، وأنشبت كلّ جماعة أظفارها في جسد جماعة أخرى، واتخذوا حتى عوامل الوحدة والأُلفة والإنسجام سبباً للاختلاف والتباغض والشحناء، وتنازعوا أمرهم بينهم فذهبت ريحهم وضعفت قوتهم، وأفل نجم عظمتهم، فزالت دولتهم، وأصبحوا مشردين في بقاع الأرض ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

وقال البعض: إنّ المراد هو الإختلاف الذي وقع بينهم بعد علمهم واطلاعهم الكافي على صفات نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله: (إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وبهذا فقد فقدوا قوتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة، واختلافهم فيما بينهم، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل، وكفرانها من قبلهم، ورد الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين، فقالت الآية: (ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر).

«الشريعة» تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل، ثمّ أطلقت على كلّ طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.