[274]

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم، إلاّ أنّه يأبى إلاّ الإستمرار في طريق غيه وكفره، ويصر على ذلك، وأخيراً يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات، فإنّ هذه الآيات تبيّن عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله، فتقول: (أولئك الذين حقّ عليهم القول في أُمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنّهم كانوا خاسرين)(1)، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب الله عزَّ وجلَّ وسخطه.

ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين ـ أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم ـ في هذه الآيات نقف على هذه الأُمور:

إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون، فهم خاسرون.

أُولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم، وهؤلاء منكرون للجميل معتدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.

أُولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة، وهؤلاء مع الكافرين في النّار، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.

أُولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم، ويذعنون للحق، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون، أنانيّون ومتكبرون.

وممّا يستحق الإلتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضاً.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلاً إلى تفاوت درجات كلا


1 ـ جملة (حقّ عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين، والتقدير: حقّ عليهم القول بأنّهم أهل النّار... و(في أمم) في محل حال.

[275]

الفريقين، فتقول: (ولكل درجات ممّا عملوا)(1) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.

«الدرجات» جمع درجة، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى، و«الدركات» جمع درك، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنّة: درجات، وفي شأن النّار: دركات، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين، وهو من باب التغليب(2).

ثمّ تضيف الآية: (وليوفيهم أعمالهم) وهذا التعبير إشارة أُخرى إلى مسألة تجسم الأعمال، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الألم.

وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك: (وهم لا يظلمون) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة، حتى أنّ لأصغر الأعمال، حسناً كان أُم قبيحاً، أثره في مصيرهم، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.

* * *

ملاحظة

كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟

ورد في رواية أنّ «معاوية» أرسل رسالة إلى «مروان» ـ وإليه على المدينة ـ


1 ـ (من) في (ممّا عملوا) للإبتداء ـ أو كما تسمى نشوية ـ أو بمعنى التعليل، أي: من أجل ما عملوا.

2 ـ «درْك» ـ بسكون الوسط ـ ودرَك ـ بفتحه ـ بمعنى أعمق نقطة في العمق، وجاءت ـ أحياناً ـ الدرَك ـ بالفتحة ـ بمعنى الخسارة، والدرْك ـ بالسكون ـ بمعنى فهم الشيء وإدراكه، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.

[276]

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد، وكان «عبدالرحمن بن أبي بكر» حاضراً في المجلس، فقال: يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقلياً وكسروياً ـ ملكي الروم وفارس ـ إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم، وإن لم يكونوا أهلاً لذلك، أو كانوا فساقاً؟

فصاح مروان من على المنبر: صه، فأنت الذي نزلت فيه: (والذي قال لوالديه أُف لكما).

وكانت «عائشة» حاضرة، فقالت: كذبت، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه، لكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

أجل... ولقد كان ذنب عبدالرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيراً، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فإنّه كان مخالفاً لصيرورة الخلافة وراثية، وتبديلها إلى سلطنة، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعاً من الإنحراف نحو الكسروية والهرقلية، ولذلك أصبح غرضاً لأعداء الإسلام الألداء، أي آل أميّة، فحرّفوا آيات القرآن فيه.

وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه، وهو إشارة إلى الآية (60) من سورة الإسراء حيث تقول: (والشجرة الملعونة في القرآن)(2).

 

* * *


1 ـ أبو الفتوح الرازي في تفسيره، المجلد 10، صفحة 159، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد 9، صفحة 6017.

2 ـ يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (60) من سورة الإسراء. وينبغي الإلتفات إلى أنّ «مروان بن الحكم» هو ابن «أبي العاص»، وهذا بدوره ابن «أميّة» أيضاً.

[277]

الآية

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ( 20 )

 

التّفسير

الزهد والإدخار للآخرة:

تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: (ويوم يعرض الذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...)(1).

نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلاّ التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.


1 ـ (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية، والتقدير: ويوم يعرض الذين كفروا على النّار يقال لهم أذهبتم طيّباتكم...

[278]

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

* * *

 

بحوث

1 ـ تقول هذه الآية: إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة، وقد ورد نظير هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأُخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين: (وعرضنا جهنّم للكافرين عرضاً)(1).

لذلك قال بعض المفسّرين: إنّ في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحدِّ ذاته عقاب وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله(2).

وقال البعض: إنّ في العبارة نوع قلب، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك.

لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب، فيقول سبحانه: (هل


1 ـ الكهف، الآية 100.

2 ـ تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 223 ذيل الآيات مورد البحث.

[279]

امتلأت) فتقول: (هل من مزيد)(1).

والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجهاً لوجه، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما، فيمكن القول في هذه الصورة: إنّ الكافرين يعرضون على النّار، كما تعرض عليهم، وكلا التعبيرين صحيح.

وعلى أية حال، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره «الطبرسي» في مجمع البيان، بل إنّ هذا العرض بحدِّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له.

2 ـ إنّ جملة: (أذهبتم طيّباتكم) تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير بـ «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.

ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمراً مذموماً قبيحاً، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

وممّا يلفت الإنتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلاّ في هذه الآية من القرآن الكريم، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحياناً عن لذات الدنيا ويعرض عنها، أو أنّه لا يأخذ منها إلاّ ما يقوّم به صلبه، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.

غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الإلتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعاً، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم، بل يحملون معهم أحمالاً من الأوزار، ولهؤلاء يقول القرآن: (أذهبتم


1 ـ سورة ق، الآية 30.

[280]

طيباتكم في حياتكم الدنيا).

وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة: أنفقتم طيبات ما رُزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا، ولم تنفقوها في مرضاة الله(1).

3 ـ للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط، إلاّ أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقاً لا غير.

4 ـ إنّ التعبير بـ(عذاب الهون) بمثابة ردّ فعل لإستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

5 ـ لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الإستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين(2).

6 ـ إنّ التعبير بـ (غير الحق) لا يعني أنّ الإستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير.

 

7 ـ زهد الأئمة العظماء

لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث، ومن جملتها:

جاء في حديث أنّ عمر أتى يوماً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مشربة أُم إبراهيم ـ وهو


1 ـ مجمع البحرين، مادة ذهب.

2 ـ تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 224.

[281]

موضع قرب المدينة ـ وكان مضطجعاً على حصير من الخوص، وجزء من بدنه الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلّم وجلس، وقال: أنت نبيّ الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير، وأنت على هذا الحال؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أُولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الإنقطاع، وإنّما أخرت لنا طيباتنا»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه أُتي يوماً بحلوى، فامتنع من تناولها، فقالوا: أتراها حراماً؟ قال: «لا، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه، ثمّ تلا هذه الآية: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...)(2).

وجاء في حديث آخر: «أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) إشتهى كبداً مشوية على خبزة لينة، فأقام حولاً يشتهيها، وذُكر ذلك للحسن(عليه السلام) وهو صائم يوماً من الأيّام فصنعها له، فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه، لا تقرأ صحيفتنا غداً: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)(3).

 

* * *

 


1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 88.

2 ـ تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 175، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ سفينة البحار، الجزء الثاني، مادة كبد.

[282]

 

 

 

 

الآيات

وَاذْكُرْ أَخَا عَاد إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاَْحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم( 21 ) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ( 22 ) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلـكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ( 23 ) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هـذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ( 24 ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَـكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُـجْرِمِينَ( 25 )

 

التّفسير

قوم عاد والريح المدمرة:

لما كان القرآن يذكر قضايا كلية، ثمّ يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها،

[283]

ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة، فتقول الآية: (واذكر أخا عاد).

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النّبي العظيم وحرصه على قومه، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد ـ كما نعلم ـ في مورد عدة أنبياء عظام كانوا إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار والتضحية.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم.

ثمّ تضيف الآية: (إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه).

«الأحقاف» ـ كما قلنا سابقاً ـ تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات، على أثر هبوب العواصف في الصحاري، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة.

وذهب البعض أنّها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت وعمان.

إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً، حيث يظهر من آيات القرآن الأُخرى ـ في سورة الشعراء ـ أنّ قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة، ومثل هذا الحال بعيد جدّاً عن قلب الجزيرة.

وذهب جمع آخر من المفسّرين أنّها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن، أو في سواحل بحر العرب(1).

واحتمل البعض أنّ الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة


1 ـ في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.

[284]

وبابل(1).

ونقل عن الطبري أنّ الأحقاف اسم جبل في الشام(2).

لكن يبدو أنّ القول بأنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن، هو الأقرب، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف، وبملاحظة أنّ أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه بمأمن من العواصف الرملية.

وجملة: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا قبله، بعضهم قريب عهد به، وهم الذين عبّر عنهم القرآن بـ (من بين يديه)والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبّر عنهم بـ(من خلفه).

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل هود وبعده، فيبدو بعيداً جدّاً، ولا ينسجم مع جملة: (وقد خلت) التي تعني الزمن الماضي.

ولنرَ الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النّبي العظيم؟

يقول القرآن الكريم: (ألاّ تعبدوا إلاّ الله) ثمّ هدّدهم بقوله: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).

وبالرغم من أنّ التعبير بـ(يوم عظيم) جاء بمعنى يوم القيامة غالباً، إلاّ أنّه أطلق أحياناً في آيات القرآن على الأيّام القاسية المرعبة التي مرّت على الأمم، وهذا المعنى هو المراد هنا، لأنّنا نقرأ في متابعة هذه الآيات أنّ قوم عاد قد ابتلوا بعذاب الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم.

إلاّ أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية، وخاطبوا هوداً:


1 ـ و 3 ـ طبقاً لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي، المجلد 10، صفحة 165.

2 ـ المصدر السابق.

[285]

(قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)(1).

هاتين الجملتين تبيّنان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم، فهم في الجملة الأولى يقولون: إنّ دعوتك كاذبة، لأنّها تخالف آلهتنا التي تعوَّدنا على عبادتها، وهي إرث ورثناه عن آبائنا.

ونراهم في الجملة الثّانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم فلا رجعة معه مطلقاً، وأي ذي لب يتمنّى نزول مثل هذا العذاب، حتى وإن لم يكن لديه يقين بوقوعه؟

إلاّ أنّ هوداً (عليه السلام) قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون: (قال إنّما العلم عند الله) فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم، ولا هو تابع لرغبتي، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق، ألا وهو إتمام الحجّة عليكم، فإن حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثمّ يضيف: (وأبلغكم ما أرسلت به) فهو مهمتي الأساسية، ومسؤوليتي الرئيسية، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

(ولكني أراكم قوماً تجهلون) وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها... ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على نزول عذاب الله ليهلككم، ولو كان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون ـ على الأقل ـ وجود احتمال إيجابي في مقابل كلّ الإحتمالات السلبية، والذي إذا ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر.

وأخيراً لم تؤثر نصائح هود (عليه السلام) المفيدة، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب أُولئك، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم، وتعصبوا له، وحتى نوح (عليه السلام)


1 ـ «لتأفكنا» من مادة «إفك»، أي الكذب والإنحراف عن الحق.

[286]

كذّبه قومه بهذا الإدعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي، وأظهر أُولئك عدم أهليتهم للبقاء، وعدم استحقاقهم للحياة، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الإستئصال»، ذلك العذاب الذي يجتث كلّ شيء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق، واتسع بسرعة: (فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا)(1).

قال المفسّرون: إنّ المطر انقطع مدّة عن قوم عاد، وأصبح الهواء حاراً جافاً خانقاً، فلمّا وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد، وهي تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدّاً، وهبّوا لإستقبالها، وجاؤوا إلى جوانب الوديان والسهول ومجاري السيول والمياه. ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من جديد، وتسر بذلك نفوسهم.

لكن، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم).

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم، إنّها ريح مدمّرة: (تدمر كلّ شيء بأمر ربّها).

قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من (كل شيء) البشر ودوابهم وأموالهم، لأنّ الجملة التالية تقول: (فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم)وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة، أمّا هم فقد هلكوا، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة، أو في البحر.


1 ـ «عارض» من مادة (عرض)، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثمّ تصعد. و«الأودية» جمع واد، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

[287]

وقال البعض: إنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة، إلاّ عندما وصلت قريباً من ديارهم، ورفعت دوابهم ورعاتهم ـ الذين كانوا في الصحاري المحيطة بهم ـ من الأرض ورمتهم في الهواء، ورأوا أنّها تقتلع الخيام من مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد!

عندما رأوا ذلك المشهد، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم، إلاّ أنّ الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض ـ أو حملتها معها ـ ورمت أجساد هؤلاء بالأحقاف، وهي الرمال المتحركة.

وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة: (سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام)وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنون تحت تل من الرمال والتراب، ثمّ أزالت الرياح القوية التراب فظهرت أبدانهم مرّة أُخرى، فحملتها وألقتها في البحر(1).

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين، بل: (كذلك نجزي القوم المجرمين).

وهذا إنذار وتحذير لكلّ المجرمين العصاة، والكافرين المعاندين الأنانيين، بأنّكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالاً من هؤلاء، فإنّه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنّها: (مبشرات بين يدي رحمته) لأنّ الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها.

وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه، إلى قبر له بزلزلة شديدة.

وقد يبدّل المطر الذي هو أساس حياة كلّ الكائنات الحية، إلى سيول جارفة تُغرق كل شيء.

نعم، إنّه عزَّوجلَّ يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء، وكم هو مؤلم الموت


1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 28، ذيل الآيات مورد البحث، وجاء هذا المعنى أيضاً في تفسير القرطبي، المجلد9، صفحة 6026.

[288]

الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصّةً إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ فرحوا وسروا في البداية ثمّ جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم.

والطريف أنّه يقول: إنّ هذه الرياح، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة تتحوّل إعصار يدمّر كلّ شيء بأمر الله(1).

 

* * *

 


1 ـ «تدمّر» من مادة تدمير، وهو الإهلاك والإفناء.

[289]

الآيات

وَلَقَدْ مَكَّنَّـهُمْ فِيَما إِن مَكَّنـكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـرُهُمْ وَلاَ أَفِئِدَتُهُم مِن شَىْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَـتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( 26 ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَـتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( 27 ) فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ( 28 )

 

التّفسير

لستم بأقوى من قوم عاد أبداً:

إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم، فتخاطب مشركي مكّة وتقول: (ولقد مكّناهم فيما إن مكّناكم

[290]

فيه)(1) فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية، فإذا كان بإمكان القوّة الجسمية والمال والثروة والتطور المادي أن تنقذ أحداً من قبضة الجزاء الإلهي، فكان ينبغي على قوم عاد أن يصمدوا أمام العاصفة ولا يكونوا كالقشة في مهب الرياح، تتقاذفهم كيف شاءت ولا يبقى من آثارهم إلاّ أطلال مساكنهم!

إنّ هذه الآية شبيهة بما ورد في سورة الفجر في شأن قوم عاد: (ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)(2).

أو هي نظير ما جاء في الآية (36) من سورة ق: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً).