1 ـ يقول الإمام علي (عليه السلام): «الآداب حُللٌ مجدّدة»(1).

ويقول في مكان آخر: الأدب يُغني عن الحسب(2).

كما أنّنا نقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: «خمس من لم تكن فيه لم يكن كثير فيه مستمتع; قيل: وما هنّ يا بن رسول الله قال (عليه السلام): الدين والعقل والحياء وحُسن الخلق وحسن الأدب»(3).

ونقرأ في مكان آخر حديثاً عنه (عليه السلام) أيضاً يقول فيه: لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ولا الخبّ في كثرة الصديق ولا السيء الأدب في الشرف(4)...

ولذلك فإنّنا حين نقرأ تأريخ حياة القادة في الإسلام وننعم النظر فيها نلاحظ أنّهم يراعون أهم النقاط الحسّاسة واللطائف الدقيقة في الأخلاق والآداب حتى مع الأناس البسطاء، وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرّسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر...

والتدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف عن أنّ الله سبحانه بما له من مقام العظمة حين يتكلّم مع عباده، يراعي الآداب بتمامها...

فحيث يكون الأمر على هذه الشاكلة فمن المعلوم عندئذ ما هي وظيفة الناس أمام الله؟ وما هو تكليفهم؟! ونقرأ في بعض الأحاديث الإسلامية أنّه حين نزلت الآيات الأُولى من سورة «المؤمنون» وأمرتهم بسلسلة من الآداب الإسلامية، ومنها مسألة الخشوع في الصلاة، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر أحياناً إلى السماء عند الصلاة ثمّ ينظر إلى الأرض مطرقاً برأسه «لا يرفعه»(5).

وفي ما يخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هذا الموضوع ذا أهمية أيضاً إذ صرّح القرآن في آياته بالإعراض عن اللغو عنده وعدم رفع الصوت والصخب، فكلّ ذلك موجب للحبط في الأعمال واضمحلال الثواب.

وواضح أنّه لا تكفي رعاية هذه المسألة الخلقيّة عند النّبي فحسب، بل هناك أمور أخرى ينبغي مراعاتها في حضوره، وكما يعبّر الفقهاء ينبغي إلغاء الخصوصية هنا وتنقيح المناط بما سبق أشباهه ونظائره!

ونقرأ في سورة النور الآية (63) منها: (لا تجعلوا دعاء الرّسول كدعاء بعضكم بعضاً)... وقد فسّرها جماعة من المفسّرين بأنّه «عندما تنادون النّبي فنادوه بأدب واحترام يليقان به لا كما ينادي بعضكم بعضاً»...

الطريف هنا أنّ القرآن عدّ أُولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ويراعون الأدب بأنّهم مطهّرو القلوب وهم مهيّأون للتقوى، وجديرون بالمغفرة والأجر العظيم... في حين أنّه يعدّ الذين ينادونه من وراء الحجرات ويسيئون الأدب عنده ـ كالأنعام ـ أكثرهم لا يعقلون.

حتى أنّ بعض المفسّرين توسّعوا في الآيات محل البحث وجعلوا لها مراحل أدنى أيضاً بحيث تشمل المفكّرين والعلماء والقادة من المسلمين، فوظيفة المسلمين أن يراعوا الآداب بين أيديهم...

وبالطبع فإنّ هذه المسألة أكثر وضوحاً في شأن الأئمة أولي العصمة، حتى أنّه بلغنا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت أنّه «حين دخل أحد الأصحاب على الإمام بادره الإمام دون مقدّمة: أما تعلم أنّه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء»(6).

وورد التعبير في رواية أُخرى بهذه الصورة: «أنّ بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب».

وملخص القول أنّ مسألة رعاية الآداب أمام الكبير والصغير تشمل قسماً كبيراً من التعليمات الإسلامية بحيث لو أردنا أن ندرجها ضمن بحثنا هذا لخرجنا عن تفسير الآيات، إلاّ أنّنا نختم بحثنا بحديث عن الإمام علي بن الحسين (السجّاد) في «رسالة الحقوق» حيث قال في «مورد رعاية الأدب أمام الأستاذ»:

«وحقّ سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وأن لا ترفع عليه صوتك ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ولا تحدّث في مجلسه أحداً ولا تغتاب عنده أحداً وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدواً ولا تعادي له ولياً فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلَّ اسمه لا للناس»(7).


1 ـ نهج البلاغة الحكمة ـ 5.

2 ـ بحار الأنوار، ج75، ص68.

3 ـ المصدر السابق، ص67.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ راجع تفسير مجمع البيان وتفسير الفخر الرازي، ذيل الآية 2 سورة المؤمنون.

6 ـ بحار الأنوار، ج27، ص255.

7 ـ المحجّة البيضاء، ج3، ص450، باب آداب الصحبة والمعاشرة.

[516]

2 ـ رفع الصوت عند قبر الرسول

قال جماعة من العلماء والمفسّرين أنّ الآيات محل البحث كما أنّها تمنع رفع الصوت عند النّبي حال حياته فهي كذلك شاملة للمنع بعد وفاته(1).

وإذا كان المراد من تعبيرهم آنفاً شمول العبارة في الآية، فظاهر الآية يخصُّ زمان حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّها تقول: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) وذلك في حالة ما يكون النّبي له حياة جسمانية وهو يتكلّم مع أحد فلا يجوز رفع الصوت فوق صوته...

لكن إذا كان مرادهم ـ المناط ـ وفلسفة الحكم ـ وهي واضحة في هذه الموارد وأمثالها ـ وأهل العرف ـ يُلغون «الخصوصية»، فلا يبعد التعميم المذكور. لأنّه من المسلّم به ـ أنّ الهدف هنا رعاية الأدب واحترام ساحة قدس النبي، فعلى هذا متى ما كان رفع الصوت عند قبره نوعاً من هتك الحرمة فهو بدون شكّ غير جائز، إلاّ أن يكون أذاناً للصلاة أو تلاوةً للقرآن أو إلقاء خطبة... وأمثال ذلك فإنّ هذه الأُمور ليس فيه أي إشكال لا في حياة النّبي ولا بعد وفاته...

ونقرأ حديثاً في أصول الكافي نُقل عن الإمام الباقر في شأن ما جرى للحسن بعد وفاته وممانعة عائشة عن دفنه في جوار رسول الله جاء فيه أنّه حين ارتفعت الأصوات استدل الإمام الحسين (عليه السلام) بالآية: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياءاً(2).

وهذا الحديث شاهد آخر على عموم مفهوم الآية!


1 ـ روح المعاني، ج26، ص125.

2 ـ أصول الكافي ـ طبقاً لما نُقل في نور الثقلين، ج5، ص80.

[520]

3 ـ الإنضباط الإسلامي في كلّ شيء وفي كلّ مكان!

إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة ـ حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً... ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعده، ومن أوضح الأُمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أُحُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

والقرآن يثير هذه المسألة المهمّة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب جامع طريف إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله).

ومفهوم الآية كما أشرنا سابقاً واسع إلى درجة أنّها تشمل أي نوع من أنواع التقدّم والتأخّر والكلام والتصرّفات الذاتية الخارجية عن تعليمات القيادة...

ومع هذه الحال فإنّنا نلاحظ في تاريخ حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)موارد كثيرة يتقدّم فيها بعض الأفراد على أمره أو يتخلّفون ويلون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة والتوبيخ الشديد... ومن ذلك ما يلي...

1 ـ حين تحرّك النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول وافطر ثمّ أفطر من كان معه، إلاّ أنّ العجيب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النبي) ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين فسمّاهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعُصاة(1)!

2 ـ ومثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن ينادي المنادي: «من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه» ثمّ يؤدّي مناسك الحج وأنّ من جاء بالهدي (وحجّه حجّ إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه... ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) «لولا أنّي سقت الهدي لأحللت، وجعلتها عمرةً، فمن لم يسق هدياً فليحلّ». إلاّ أنّ جماعة أبوا وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النّبي محرماً أليس قبيحاً أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل «من الجنابة».

فساء النّبي ما قالوا ووبّخهم ولامهم(2).

3 ـ قصة التخلّف عن جيش أُسامة عندما أراد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يلتحق بالرفيق الأعلى معروفة حيث أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن ينفّذوا جيش أُسامة بن زيد ويتحرّكوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش...

ولعلّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد ألاّ تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة ـ وقد وقعت ـ حتى أنّه لعن المتخلّفين عن جيش أُسامة ومع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النّبي في مثل هذه الظروف(3)!!...

4 ـ قصة «القلم والدواة» معروفة أيضاً وهي في الساعات الأخيرة من عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنّها مثيرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم بعينها هنا:

«لمّا حُضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي: هلمّ اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا»(4)!..

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا الحديث عينه نقله البخاري في صحيحه باختلاف يسير جداً «صحيح البخاري، ج6، باب مرض النبي، ص11».

وهذه القضية من الحوادث المهمّة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل وبسط ليس هنا محلّه ولكنّها على كلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النّبي ومخالفة الآية محل البحث: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله)...

وما يهمّنا هنا أنّ رعاية الإنضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم المطلق وقبول القيادة «الإلهية» في جميع شؤون الحياة والإيمان المتين بمقام القائد الشامخ...

 

* * *


1 ـ نقل هذا الحديث كثير من المؤرخين والمحدّثين ومنها ما ورد في الجزء السابع من وسائل الشيعة، الصفحة 125، باب من يصح منه الصوم مع شيء من التلخيص.

2 ـ بحار الأنوار، ج21، ص386 (بشيء من التصرّف والإختصار).

3 ـ ذكر هذه القصة مؤرّخون كُثر في كتب التاريخ الإسلامي وهي من الحوادث المهمّة في تاريخ الإسلام «لمزيد الإطلاع يُراجع كتاب المراجعات ـ المراجعة 90 ـ منه».

4 ـ صحيح مسلم، ج3، كتاب الوصية، الحديث 22.

[524]

 

 

 

 

الآيات

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً بِجَهَـلَة فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـدِمِينَ( 6 ) وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِير مِنَ الاَْمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَـنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ( 7 ) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( 8 )

 

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان: هناك قولان في شأن نزول الآية الأولى من الآيات أعلاه، ولكنّ بعضهم اكتفى بقول واحد منهما كالقرطبي وسيد قطب، ونور الثقلين.

فالقول الأوّل في شأن نزول الآية محل البحث الذي ذكره أغلب المفسّرين أنّ الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) نزلت في «الوليد بن عقبة» وذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسله لجمع الزكاة من قبيلة «بني المصطلق» فلمّا علم بنو المصطلق أنّ مبعوث الرّسول قادم إليهم سّروا كثيراً وهُرعوا لإستقباله، إلاّ أنّ الوليد حيث كانت له خصومة معهم في زمان الجاهلية، شديدة، تصوّر أنّهم يريدون قتله.

فرجع إلى النّبي «ومن دون أن يتحقّق في الأمر» وقال: يا رسول الله إنّهم امتنوا عن دفع الزكاة «ونعرف أنّ عدم دفع الزكاة هو نوع من الوقوف بوجه الحكومة الإسلامية فبناءً على ذلك فإنّ مدّعى الوليد يقتضي أنّهم مرتدّون»!!

فغضب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك وصمّم على أن يقاتلهم فنزلت الآية آنفة الذكر(1)...

وأضاف بعضهم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أخبره الوليد بن عقبة بارتداد قبيلة (بني المصطلق) أمر خالد بن الوليد بن المغيرة أن يمضي نحوها وأن لا يقوم بعمل حتى يتريث ويعرف الحقّ...

فمضى خالد ليلاً وصار قريباً من قبيلة بني المصطلق وبعث عيونه ليستقصوا الخبر فعادوا إليه وأخبروا بأنّهم مسلمون «أوفياء لدينهم» وسمعوا منهم صوت الآذان والصلاة، فغدا خالد عليهم في الصباح بنفسه فوجد ما قاله أصحابه صدقاً فعاد إلى النّبي وأخبره بما رأى فنزلت الآية آنفة الذكر، وعقّب النّبي عليها... «التأنّي من الله والعجلة من الشيطان»(2).

وذكر بعض المفسّرين قولاً آخر في شأن نزول الآية وعوّلوا عليه فحسب، وهو أنّ الآية نزلت في «مارية القبطية» زوج النّبي وأم إبراهيم (عليه السلام)، لأنّه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أنّ لها ابن عمٍّ «يُدعى جريحاً» تتردّد إليه أحياناً «وبينهما علاقة غير مشروعة» فأرسل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلف علي (عليه السلام) فقال له «يا أخي خذ السيف فإن وجدته عندها فاضرب عنقه...»

فأخذ أمير المؤمنين السيف ثمّ قال بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أكونُ في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة; أمضي لما أمرتني أم الشاهد يُرى ما لا يرى الغائب فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب»، قال علي: فأقبلتُ متوشّحاً بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلمّا عرف أنّي أريده أتى نخلةً فرقى إليها ثمّ رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا أنّه أجبّ امسح مال ممّا للرجال قليل ولا كثير فرجعت فأخبرت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «الحمد لله الذي يصرف عنّا السوء أهل البيت»(3).

وورد هذا الشأن ذاته في تفسير نور الثقلين ج5 مع اختلاف يسير في العبارات...

* * *


1 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص132.

2 ـ القرطبي، ج9، ص6131.

3 ـ مجمع البيان، ج9، ص132، كما ورد في تفسير نور الثقلين بصورة مسهبة، ج5، ص81.

[526]

التّفسير

لا تكترث بأخبار الفاسقين:

كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ورد في الآيات المتقدّمة أمران مهمّان، الأوّل أن لا يقدموا بين يديه والآخر هو مراعاة الأدب عند الكلام معه وعدم رفع الصوت فوق صوته...

أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الأُخرى على هذه الأُمّة إزاء نبيّها. وتقول ينبغي الإستقصاء عند نقل الخبر إلى النّبي فلو أنّ فاسقاً جاءكم بنبأ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره، ولا تكرهوا النّبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه... فتقول الآيات أوّلاً: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا).

ثمّ تبيّن السبب في ذلك فتضيف: (أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).

فلو أنّ النّبي قد أخذ بقول «الوليد بن عقبة» وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدّين وقاتلهم لكانت فاجعة ومصيبة عظمى!...

ويستفاد من لحن الآية التالية أنّ جماعة من أصحاب الرّسول اصرّوا على قتال بني المصطلق، فقال لهم القرآن إنّ هذا هو الجهل بعينه وعاقبته الندم.

واستدل جماعة من علماء الأُصول على حجّية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا... ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبأ فلا يلزم التبيّن... ويصح قبول خبره إلاّ أنّه أشكل على هذا الإستدلال بمسائل عديدة أهمها مسألتان:

المسألة الأولى: إنّ الإستدلال المتقدّم ذكره متوقّف على قبول «حجّية مفهوم الوصف»، والمعروف أنّه لا حجّية لمفهوم الوصف(1)...

المسألة الثانية: إنّ العلة المذكورة في ذيل الآية فيها من السعة ما يشمل خبري العادل والفاسق معاً لأنّ العمل بالخبر الظنّي ـ مهما كان ـ ففيه احتمال الندم.

لكنّ هاتين المسألتين يمكن حلّهما، لأنّ مفهوم الوصف وأي قيد آخر في الموارد التي يراد منها بيان القيد في مقام الإحتراز حجة، وذكر هذا القيد «قيد الفاسق» في الآية المتقدّمة طبقاً للظهور العرفي لا فائدة منه تستحق الملاحظة سوى حجّية خبر العادل!

وأمّا في مورد التعليل الوارد في ذيل الآية فالظاهر أنّه لا يشمل كلّ عمل بالأدلة الظنّية، بل هو ناظر إلى الموارد التي يكون العمل فيها بجهالة، أي العمل بسفاهة وحمق، لأنّ الآية عوّلت على الجهالة، ونعرف أنّ أغلب الأدلة التي يعوّل عليها العقلاء جيمعاً في العالم في المسائل اليومية هي دلائل ظنّية «من قبيل ظواهر الألفاظ وقول الشاهد، وقول أهل الخبرة، وقول ذي اليد وأمثالها».

ومعلوم أنّه لا يعدّ أيٌّ ممّا أُشير إليه آنفاً بأنّه جهالة ولو لم يطابق الواقع أحياناً، فلا تتحقّق هنا مسألة الندم فيه لأنّه طريق عام...

وعلى كلّ حال فإنّنا نعتقد بأنّ هذه الآية من الآيات المحكمات التي فيها دلالة على حجّية خبر الواحد حتى في الموضوعات، وهناك بحوث كثيرة في هذا الصدد ـ ليس هنا مجال شرحها...

إضافةً إلى ذلك فإنّه لا يمكن إنكار أنّ مسألة الإعتماد على الأخبار الموثقة هي أساس التاريخ والحياة البشرية. بحيث لو حذفنا مسألة حجيّة خبر العادل أو الموثّق من المجتمعات الإنسانية لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلّقة بالمجتمعات البشرية القديمة وحتى كثير من المسائل المعاصرة التي نعمل على ضوئها اليوم...

ولا يرجع الإنسان إلى الوراء فحسب، بل تتوقف عجلة الحياة، لذلك فإنّ العقلاء جميعاً يرون حجّيته والشارع المقدّس أمضاه أيضاً «قولاً وعملاً».

وبمقدار ما يعطي خبر الواحد «الثقة» الحياة نظامها فإنّ الإعتماد على الأخبار غير الموثّقة خطير للغاية، ومدعاة إلى اضطراب نظام المجتمع، ويجر الوبال والمصائب المتعدّدة، ويهدّد الحيثيات وحقوق الأشخاص بالخطر ويسوق الإنسان إلى الإنحراف والضلال وكما عبّر القرآن الكريم تعبيراً طريفاً في الآية محل البحث: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).

وهنا لطيفة تسترعي الإنتباه أيضاً، وهي أنّ صياغة الأخبار الكاذبة والتعويل على الأخبار غير الموثّقة من الأساليب القديمة التي تتّبعها النظم الإستعمارية والديكتاتورية لتخلق جوّاً كاذباً ينخدع به الجهلة من الناس والمغفّلون فتُنهب أموالهم وأرصدتهم بهذه الأساليب وما شاكلها...

فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية على نحو الدقّة ولم يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبيّن لكانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة!

والجدير بالذكر أنّ المسألة المهمّة هنا هي الوثوق والإعتماد على الخبر ذاته، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الإعتماد على الشخص المخبر تارةً، وتارةً من القرائن الأُخر الخارجية... ولذلك فإنّنا قد نطمئن إلى «الخبر» أحياناً وإن كان «المخبر» فاسقاً...

فعلى هذا الأساس، فإنّ هذا الوثوق أو الإعتماد كيف ما حصل، سواءً عن طريق العدالة والتقوى وصدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر عندنا، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس...

ولذا فإنّنا نرى في الفقه الإسلامي كثيراً من الأخبار ضعيفة السند لكن لأنّها جرى عليها «عمل المشهور» ووقُف على صحة الخبر من خلال قرائن خاصة، فلذلك أصبحت هذه الأخبار (الضعيفة السند) صالحة للعمل وجرت فتاوى الفقهاء على وفقها.

وعلى العكس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر ولكنّ القرائن الخارجية لا تساعد على قبوله، فلا سبيل لنا إلاّ الاعراض عنه وإن كان المخبر عادلاً و«معتبراً»...

فبناءً على هذا ـ إنّ المعيار هو الإعتماد على الخبر نفسه ـ في كلّ مكان ـ وإن كان الغالب كون الوسيلة هي عدالة الراوي وصدقه ـ لهذا الإعتماد ـ إلاّ أنّ ذلك ليس قانوناً كليّاً. (فلاحظوا بدقّة).

والآية التالية ـ وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة ـ تضيف قائلةً: (واعلموا أنّ فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم)(2).

وتدلّ هذه الجملة ـ كما قاله جماعة من المفسّرين أيضاً ـ أنّه بعد أن أخبر «الوليد» بارتداد طائفة «بني المصطلق»... ألحّ جماعة من المسلمين البسطاء السذّج ذوي النظرة السطحية على الرّسول أن يقاتل الطائفة آنفة الذكر...

فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق، فلا تتوقّعوا أن يطيعكم ويتعلّم منكم ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم...

ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة أُخرى من مواهب الله سبحانه فيقول: (ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان).

وفي الحقيقة أنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي «اللطف التكويني».

وتوضيح ذلك أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقّق أمراً فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماماً...

فالله يريد أن يطويَ الناس جميعاً طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة، ويحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويُضري شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان...

وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبِّ الإيمان والطهّارة والتقوى، والبراءة من الكفر والذنب.

إلاّ أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجةً للإختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان...

هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى إتباع رسول الله وعدم التقدّم بين يديه.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ محتوى الآية لا ينافي المشاورة أبداً، لأنّ الهدف من المشاورة أو الشورى أن يعرب كلٌّ عن عقيدته ووجهة نظره، إلاّ أنّ الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد ذلك من آية الشورى أيضاً...

وبتعبير آخر... إنّ الشورى هي موضوع مستقل، وفرض الرأي موضوع آخر، فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة.

وفي أنّ المراد من «الفسوق» المذكور في الآية ما هو؟! قال بعض المفسّرين هو الكذب، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى سعة مفهومه اللغوي فإنّه يشمل كلّ خروج على الطاعة، فعلى هذا يكون التعبير بـ«العصيان» بعده تأكيداً عليه، كما أنّ جملة (وزيّنه في قلوبكم) تأكيد على الجملة السابقة لها: (حبَّب إليكم الإيمان).

وقال بعضهم إنّ كلمة «الفسوق» إشارة إلى الذنوب الكبيرة في حين أنّ «العصيان» أعم منه... إلاّ أنّه لا دليل على ذلك...

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يقرِّر قاعدةً كليةً وعامةً في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة [فيها] فتقول: (أُولئك هم الراشدون).

أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية «العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق» ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شكّ في انتظاركم...

وممّا يستجلب النظر أنّ الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين لكنّ هذه الجملة: (أولئك هم الراشدون) تتحدّث عنهم بصيغة «الغائب» ويبدو أنّ هذا التفاوت في التعبير جاء ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأصحاب النبي، بل هو قانون عام، فكلّ من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل الرشد والهداية والنجاة.

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أن محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: (فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم)(3).

فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود... «وهو الجنّة».

والظاهر أنّ الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة، هي المواهب الإلهية التي يمنحها عباده، غايةً ما في الأمر أنّ «الفضل» إنّما سُمّي فضلاً لأنّ الله غير محتاج إليه و«النعمة» إنّما سمّيت نعمة لأنّ العباد محتاجون إليها، فهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة!...

ولا شكّ أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).

* * *


1 ـ يتصوّر بعضهم أنّ المسألة هنا من قبيل مفهوم الشرط ومفهوم الشرط حجّة، في حين أنّه لا علاقة هنا بمفهوم الشرط، إضافةً الى ذلك فإنّ الجملة الشرطية هنا لبيان الموضوع ونعرف أنّه في مثل هذه الموارد لا مفهوم للجملة الشرطية أيضاً فلاحظوا بدقّة.

2 ـ كلمة «لعنتّم»: مشتقّة من مادة العنت ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان، ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت..

3 ـ (فضلاً ونعمة) نُصباً على أنّهما [مفعولان لأجله] للفعل حبَّب إليكم أو أنّهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين وتقديرهما: هكذا أفضل فضلاً وأنعم نعمة..

[532]

ملاحظات

1 ـ هداية الله وحريّة الإرادة

إنّ الآيات الآنفة تجسيدٌ بيّن لوجهة نظر الإسلام في مسألة «الجبر والإختيار» والهداية والإضلال، لأنّها توضح هذه اللطيفة ـ بجلاء ـ وهي أنّ الله يهيئ المجال «والأرضية» للهداية والرشد، فمن جهة يبعث رسوله ويجعله بين الناس وينزل القرآن الذي هو نور ومنهج هداية; ومن جهة يلقي في النفوس العشق للإيمان ومحبّته; والتنفّر والبراءة من الكفر والعصيان، لكنْ في النهاية يوكل للإنسان أن يختار ما يشاء ويصمّم بنفسه، ويشرع سبحانه التكاليف في هذا المجال!...

وطبقاً للآيات المتقدّمة فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ الله لم يُلقِ في قلب أيّ شخص حُبَّ العصيان وبغض الإيمان...

 

2 ـ القيادة والطاعة

هذه الآيات تؤكد مرّةً أُخرى أنّ وجود القائد «الإلهي» ضروري لرشد جماعة ما، بشرط أن يكون مطاعاً لا مطيعاً وأن يتّبع أصحابه وجماعته أوامره لا أن يؤثّروا عليه ويفرضوا عليه آراءهم (ابتغاء مقاصدهم ومصالحهم).

وهذه المسألة لا تختصّ بالقادة الإلهيين فحسب، بل ينبغي أن تكون حاكمة في المديرية والقيادة في كلّ مكان. وحاكمية هذا الأصل لا تعني استبداد القادة، ولا ترك الشورى كما أشرنا آنفاً وأوضحنا ذلك.

 

3 ـ الإيمان نوع من العشق لا إدراك العقل فحسب...

هذه الآيات تشير ضمناً إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإيمان نوع من العلاقة الإلهية الشديدة «والمعنوية» وإن كانت من الإستدلالات العقلية... ولذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سألوه: هل الحب والبغض من الإيمان، فأجاب (عليه السلام): «وهل الإيمان إلاّ الحبّ والبغض»؟! ثمّ تلا هذه الآية: (... ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون)(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله في هذا المجال «وهل الدين إلاّ الحبّ»؟! ثمّ استدلّ (عليه السلام) ببعض الآيات منها هذه الآية محل البحث وقال بعدئذ: «الدين هو الحبّ والحبّ هو الدين»(2).

إلاّ أنّه ودون أدنى شكّ يجب أن تُرفد هذه المحبّة ـ كما نوّهنا آنفاً ـ بالوجوه الإستدلالية والمنطقيّة لتكون مثمرة عندئذ...

 

* * *


1 ـ أصول الكافي، ج2، باب الحب في الله والبغض في الله، الحديث 5.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص83، وص84.

[535]

 

 

 

 

الآيتان

وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَـتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( 9 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( 10 )

 

سبب النّزول

ورد في شأن نزول الآيتين ـ هاتين ـ أنّ خلافاً وقع بين قبيلتي «الأوس» و«الخزرج» «وهما قبيلتان معروفتان في المدينة» أدّى هذا الخلاف إلى الإقتتال بينهما وأن يتنازعا بالعصي والهراوات والأحذية فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وعلّمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث(1).

وقال بعضهم: حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف! فقال أحدهما للآخر: سآخذ حقّي منك بالقوة لأنّ قبيلتي كثيرة، وقال الآخر: لنمضِ ونحتكم عند رسول الله، فلم يقبل الأوّل، فاشتدّ الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي والأحذية و«حتى» بالسيوف، فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وبيّنت وظيفة المسلمين في مثل هذه الأُمور(2).


1 ـ مجمع البيان، ج9، ص132.

2 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6136.

[536]

التّفسير

المؤمنون أخوة:

يقول القرآن هنا قولاً هو بمثابة القانون الكلّي العام لكلّ زمان ومكان: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)(1).