1 ـ سورة الحاقة، الآية 23.

2 ـ سورة الواقعة، الآية 20.

[170]

(لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى).

والطريف أنّ القرآن الكريم قد بيّن كون نعم الجنّة خالدة بتعابير مختلفة، فيقول تارة: (خالدين فيها)(1) ويقول أُخرى: (عطاء غير مجذوذ)(2)

أمّا لماذا عُبر بـ (الموتة الأولى) فسيأتي بيانه في التأملات، إن شاء الله تعالى.

وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: (ووقاهم عذاب الجحيم)فإنّ كمال هذه النعم إنما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنّة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ الله سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأنّ لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلاً. وبتعبير آخر، فإنّ غير المعصومين مبتلون بالهفوات شاؤوا أم أبوا، وهم في خوف وقلق منها ماداموا غير مطمئنين بشمول العفو الإلهي لهم، وهذه الآية تمنحهم الإطمئنان والراحة والأمان من هذه الجهة.

وهنا يطرح سؤال، وهو: إنّ بعض المؤمنين يقضون مدّة في الجحيم بذنوب اقترفوها، ليتطهروا منها، ثمّ يدخلون الجنّة، فهل تشملهم الآية المذكورة؟

ويمكن القول في معرض الإجابة عن هذا السؤال، بأنّ الآية تتحدث عن المتقين ذوي الدرجات السامية، والذين يردون الجنّة من أوّل وهلة، أما الفئة الأُخرى فهي ساكتة عنهم.

ويحتمل أيضاً أنّ هؤلاء عندما يدخلون الجنّة فلن يخشوا بعد ذلك العودة إلى النّار، بل يبقون من الأمن الدائم، وهذا يعني أنّ الآية أعلاه ترسم صورة هؤلاء وحالهم بعد دخولهم الجنّة.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر


1 ـ ورد هذا التعبير في آيات كثير من القرآن، ومن جملتها: آل عمران ـ 15، 136، النساء ـ 13، 122، المائدة ـ 85، وغيرها.

2 ـ سورة هود، الآية 110.

[171]

تقول: (فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم)(1).

صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلاّ أنّ من المسلّم أن تلك الأعمال جميعا لا تستحق كلّ هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من الله سبحانه، إذ جعل كلّ هذه النعم والعطايا تحت تصرفهم ووهبهم إيّاها.

هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء لم يكونوا قادرين على كسب كلّ هذه الحسنات ولا على فعل الحسنات لو لم يشملهم فضل الله وتوفيقه ولطفه، فهو الذي منحهم العقل والعلم، وهو الذي أرسل الأنبياء والكتب السماوية، وهو الذي غمرهم بتوفيق الهداية والعمل.

نعم، إنّ استغلال هذه المنح العظمى، والوصول إلى كلّ تلك العطايا والثواب، إنّما تمّ بفضله سبحانه إذ وهبهم إيّاها، ولم يكن هذا الفوز العظيم ليحصل إلاّ في ظل لطفه وكرمه.

* * *

 

بحث

ما هي الموتة الأولى؟

قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى، وهنا تطرح أسئلة ثلاثة:

الأول: ما المراد من الموتة الأولى؟ فإنّ كان المراد الموت الذي تنتهي به الحياة الدنيا، فلما تقول الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى) في حين أنّهم قد ذاقوها، وعليه يجب أن يأتي الفعل بصيغة الماضي لا المضارع؟

وللإجابة عن هذا السؤال اعتبر البعض (إلاّ) في جملة (إلاّ الموتة الأولى)


1 ـ احتملت عدّة احتمالات في إعراب (فضلاً): أحدها: إنّها مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: فضلهم فضلاً، والآخر: أنّه مفعول لأجله، أو أنّها حال.

[172]

بمعنى (بعد)، وقالوا: إنّ معنى الآية هو أنّهم لا يذوقون موتاً بعد موتتهم الأولى.

وقدّر البعض الآخر تقديراً في الكلام فقالوا: إنّ التقدير هو: إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها(1).

الثاني: هو: لماذا ورد الكلام عن الموتة الأولى فقط، في حين أننا نعلم أنّ الإنسان يذوق الموت مرّتين: مرّة عند انتهاء حياته، وأخرى بعد حياة البرزخ؟

وقد ذكروا للإجابة على هذا السؤال عدة إجابات كلها غير مرضية، فآثرنا عدم ذكرها لعدم استحقاقها الذكر.

والأفضل أن يقال: إنّ الحياة والموت في البرزخ لا يشبهان أبداً الحياة والموت العاديين، بل إنّ حياة القيامة تشبه الحياة الدنيا من وجوه عديدة بمقتضى المعاد الجسماني، غاية ما هناك أنّها في مستوى أعلى وأسمى، ولذلك يقال لأصحاب الجنّة: لا موتة بعد الموتة الأولى التي ذقتموها، ولما كانت الحياة والموت في البرزخ لا شباهة لهما بحياة الدنيا وموتها لذا لم يرد الكلام حولهما(2).

السؤال الثّالث هو: إنّ عدم وجود الموت في القيامة لا ينحصر بأصحاب الجنّة، بل أصحاب النّار لا يموتون أيضاً، فلماذا أكّدت الآية على أصحاب الجنّة؟

للمرحوم الطبرسي جواب رائع عن ذلك، فهو يقول: إنّ ذلك بشارة لأهل الجنّة، بأن لهم حياة خالدة هنيئة، أما أصحاب النّار الذين يعتبر كلّ لحظة من لحظات حياتهم موتاً، وكأنّهم يحيون ويموتون دائماً، فلا معنى لهذا الكلام في حقهم.

وعلى أية حال، فإنّ التعبير هنا بـ(لا يذوقون) إشارة إلى أنّ أصحاب الجنّة لا يرون ولا يعانون أدنى أثر من آثار الموت.

وجميلٌ أنّ نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ الله تعالى يقول لبعض أهل


1 ـ بناءً على هذا فإنّ الإستثناء أعلاه منقطع أيضاً لأنّ أصحاب الجنّة لا يذوقون مثل هذا الموت، بل ذاقوه من قبل (فتأمل!).

2 ـ الحياة والموت في البرزخ في ذيل الآية (11) من سورة المؤمن.

[173]

الجنّة: «وعزتي وجلالي، وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلنّ لهم اليوم خمسة أشياء: ألا إنّهم شباب لا يهرمون، وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون» ثمّ تلا هذه الآية: (لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى)(1).

 

* * *

 


1 ـ أصول الكافي، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 634.

[174]

الآيتان

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( 58 ) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ( 59 )

 

التّفسير

ارتقب فإنهم مرتقبون!

قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها، وما هو مبيَّن أيضاً بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن ونصحه.

تقول الآية الأولى: (فإنّما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون) فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين،

[175]

ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.

وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقاً له: إنّك وإن كنت أُميّاً لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وهذه الآية ـ في الواقع ـ شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؟!

لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت: (فارتقب إنّهم مرتقبون)فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة والخسران..

انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الإنتظارين هو الصحيح؟

بناء على هذا، ينبغي أنّ لا يستفاد أبداً من الآية أنّ الله سبحانه يأمر نبيّه أن يكف كلياً عن إبلاغهم رسالته، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده، ويكتفي بأنّ يكون منتظراً للنتيجة، وإنّما هو نوع تهديد لأُولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من سباتهم، وينتبهوا من غفلتهم.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ «ارتقب» في الأصل مأخوذة من الرقبة، ولما كان من ينتظر شيئاً يمد رقبته نحوه دائماً، فقد جاءت بمعنى انتظار الشيء ومراقبته.

[176]

2 ـ إنّ الآيات أعلاء تبين بوضوح أنّ القرآن الكريم لا يختص بطبقة خاصّة أو قوم معينين، بل هو لإفهام الجميع وتذكيرهم وإثارة تفكرهم، وعلى هذا، فإنّ أُولئك الذين يجعلون القرآن مجموعة من المفاهيم المبهمة الألغاز المحيرة التي لا  يفهمها ولا يعلمها إلاّ طبقة خاصّة، بل وحتى هذه الطبقة لا تفهم منه شيئا ولا تدرك أبعاده، غافلون في الحقيقة عن روح القرآن.

إنّ القرآن يجب أن يحيا بين الناس ويحضر بينهم حيثما كانوا، في المدينة والقرية، في الخلاء والملأ، في المدار الإبتدائية والجامعات، في المسجد وميادين الحرب، وفي كلّ مكان يوجد فيه إنسان، لأنّ الله سبحانه قد يسَّره ليتذكر الجميع ويقتبسوا من أنواره ما يضيؤون به حياتهم.

وكذلك قضت هذه الآية ببطلان أفكار أُولئك الذين حبسوا القرآن في إطار طريقة تلاوته وقواعد تجويده وتعقيداتها، وأصبح همهم الوحيد أداء ألفاظه من مخارجها، ومراعاة آداب الوقف والوصل فتقول لهم: إنّ كلّ ذلك من أجل التذكر الذي يكون عامل حركة وباعثاً على العمل في الحياة، فإنّ رعاية ظواهر الألفاظ صحيح في محله، إلاّ أنّه ليس الهدف النهائي، بل الهدف هو فهم معاني القرآن لا ألفاظه.

3 ـ ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال»(1).

اللّهمَّ اجعلنا ممن يتعظ بالقرآن العظيم، ويتذكر ويتدبر فيه، ويجعل حياته في جميع أبعادها تبعاً لمفاهيمه وأحكامه.

اللّهمَّ امنحنا من ذلك الأمن الذي وهبته المتقين، فجعلتهم مطمئنين موقنين


1 ـ تفسير روح البيان، المجلد 8، صفحة 433.

[177]

أمام عواصف الأحداث والمصاعب الجمة التي تعترضهم.

إلهنا.. إنّ مواهبك لا تحصى، ورحمتك لا تحد، وعذابك أليم، وليست أعمالنا بالتي تجعلنا مؤهلين لنيل رحمتك والنجاة من عذابك.

اللّهمَّ فانشر علينا من رحمتك، وأفض علينا من فضلك الذي وعدت به المتقين من عبادك، وإلاّ فلا سبيل لنا إلى جنتك الخالدة.

 

آمين ربّ العالمين

 

نهاية سورة الدخان

 

* * *

[178]

 

[179]

 

سُورَة

 

 

 

 

الجَاثِية

 

مكيّة

 

وَعَدَدُ آياتِها سبعٌ وثلاثونَ آية

[180]

 

[181]

 

 

 

 

«سورة الجاثية»

 

محتوى السورة:

هذه السورة ـ وهي سادس الحواميم ـ من السورة المكية، وقد نزلت في وقت كانت المواجهة بين المسلمين ومشركي مكّة قد اشتدت وسادت الأجواء الإجتماعية في مكّة، ولذلك فإنّها أكّدت على المسائل المتعلقة بالتوحيد، ومحاربة الشرك، وتهديد الظالمين بمحكمة القيامة، والتنبيه إلى كتابة الأعمال وتسجيلها، وكذلك التنبيه إلى عاقبة الأقوام المتمردين الماضين.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:

1 ـ عظمة القرآن المجيد وأهميته.

2 ـ بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

3 ـ ذكر بعض ادعاءات الدهريين، والردّ عليها بجواب قاطع.

4 ـ إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين ـ كبني إسرائيل ـ كشاهد على مباحث هذه السورة.

5 ـ تهديد الضالين المصرين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.

6 ـ الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الإنحراف عن طريق الحق.

7 ـ الإشارات البليغة المعبرة إلى مشاهد القيامة المهولة، وخاصة صحيفة الأعمال التي تشتمل على كلّ أعمال الإنسان دون زيادة أو نقصان.

[182]

وتبدأ هذه السورة بصفات وأسماء الله عزّوجلّ العظيمة كالعزيز والحكيم، وتنتهي بها أيضاً.

واسمها مقتبس من الآية 28 منها، و«الجاثية» تعني الجثو على الركب، وهي إشارة الى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة، في محكمة العدل الإلهية تلك.

وقد ذكر المرحوم الطبرسي في مجمع البيان اسماً آخر لهذه السورة غير مشهور، وهو (الشريعة) مستلهم من الآية (18) من هذه السورة.

 

فضل تلاوة السورة:

نقرأ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ حاميم الجاثية ستر الله عورته، وسكن روعته عند الحساب»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام): «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أنّ لا يرى النّار أبداً، ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها، وهو مع محمّد»(2).

 

* * *

 


1 ـ تفسير مجمع البيان، بداية سورة الجاثية.

2 ـ تفسير البرهان، بداية سورة الجاثية، المجلد 4، ص167.

[183]

الآيات

حم( 1 ) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 2 ) إِنَّ فِى السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ لاَيَـت لِلْمُؤْمِنِينَ( 3 ) وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة آيَـتٌ لِقَوْم يُوقِنُونَ( 4 ) وَاخْتِلَـَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن رِزْق فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَـحِ آيَـتٌ لِقٌوْم يَعْقِلُونَ( 5 ) تِلْكَ آيَـتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَآيَـتِهِ يُؤْمِنُونَ( 6 )

 

التّفسير

آيات الله في كلّ مكان:

قلنا: إنّ هذه هي السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المتقطعة (حم) وهي تشكل مع السورة الآتية ـ أي سورة الأحقاف ـ سور الحواميم السبعة.

وقد بحثنا مراراً في تفسير الحروف المتقطعة في بدايات سور البقرة وآل

[184]

عمران، وكذلك في الحواميم.

يقول المرحوم الطبرسي في بداية هذه السورة: إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة. ثمّ ينقل عن بعض المفسّرين، أنّ تسمية هذه السورة بـ(حم) للإشارة إلى أن هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

نعم، إنّ كتاب النور والهداية والإرشاد وحل المعضلات ومعجزة  نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) الخالدة هذا، يتركب من هذه الحروف البسيطة، وغاية العظمة أن يتكون أمر بهذه الأهمية من هذه الحروف السهلة البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)(1).

«العزيز» هو القوي الذي لا يقهر، و«الحكيم» هو العارف بأسرار كلّ شيء، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقة، ومن الواضح أنّ الحكمة التامة والقوّة اللامحدودة من لوازم تنزيل مثل هذا الكتاب العظيم، وهما غير موجودتين إلاّ في الله العزيز المتعال.

والطريف أنّ هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن الكريم، ثلاث منها من الحواميم ـ وهي المؤمن والجاثية والأحقاف ـ والأُخرى من غير الحواميم، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى أية عبارة أو تعبير من تعابيره، ولئلا يظنوا أنّ هذه الكلمة أو تلك لا محل لها ولا فائدة من ذكرها، لكي لا يقنعوا بحدّ معين من فهمه وإدراكه، بل ينبغي أن يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق ممّا أدركوه.


1 ـ (تنزيل الكتاب) خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: (هذا تنزيل الكتاب)، ثمّ إنّ (تنزيل) مصدر جاء هنا بمعنى اسم المفعول، وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، وتقدير الكلام: هذا كتاب منزل...

[185]

وهنا نكتة تستحق الإلتفات، وهي أنّ صفة (العزيز) قد وردت أحياناً لوصف نفس القرآن، مثل: (وإنه لكتاب عزيز)(1)، فإنّه عزيز لا تصل إليه أيدي الذين يقولون بعدم فائدته، ولا ينقص مر الزمان من أهميته، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد قيمتها، ويفضح المحرفين أو من يحاول تحريفه، ويشق طريقه إلى الأمام دائماً رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.

وقد تأتي هذه الصفة في حق منزله جل وعلا، كما في هذه الآية، وكلاهما صحيح.

ثمّ تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس، فقالت: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين).

إن عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كلّ منها آية من آيات الله سبحانه.

إنّ للأرض ـ على قول بعض العلماء ـ أربع عشرة حركة، وتدور حول نفسها بسرعة مذهلة، وكذلك تدور حول الشمس بحركة سريعة، وأُخرى مع المنظومة الشمسية ضمن مجرّة «درب التبانة»، وهي تسير في طريق لا نهاية له، وسفر لا حدّ له، ومع ذلك فهي من الهدوء والإستقرار بمكان، بحيث يستقر عليها الإنسان وكل الموجودات الحية فلا يشعرون بأي اضطراب وتزلزل، حتى ولا بقدر رأس الإبرة.

وهي ليست بتلك الصلابة التي لا يمكن معها أن تزرع، وتبني عليها الدور والبنايات، ولا هي رخوة ولا يمكن الثبات عليها، والإستقرار فيها.

وقد هيئت فيها أنواع المعادن ووسائل الحياة لمليارات البشر، سواء الماضون منهم والحاضرون والآتون، وهي جميلة تسحر الإنسان، وتفتنه.

والجبال والبحار وجو الأرض ـ أيضاً ـ كلّ منها آية وسرّ من الأسرار.


1 ـ سورة فصلت، 41.

[186]

غير أنّ علامات التوحيد هذه، وعظمة الله تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون، أي طلاب الحق والسائرون في طريق الله، أمّا عمي القلوب المغرورون المغفلون، فهم محرومون من إدراكها والإحساس بها.

ثمّ انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون).

كما ورد في العبارة المعروفة والمنسوبة إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «أتحسب انّك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر»، وكلّ ما هو موجود في ذلك العالم الكبير يوجد منه نموذج مصغر في داخل جسم الإنسان وروحه.

إنّ خصاله وصفاته مركبة من خصال الكائنات الحية وصفاتها، وتنوع خلقته عصارة مجموعة من حوادث هذا العالم الكبير.

إنّ بناء خلية من خلاياه كبناء مدينة صناعية عظيمة مليئة بالأسرار، وخلق شعرة منه ـ بخصائصها وأسرارها المختلفة التي اكتشفت بقدرة العلم وتطوره ـ آية عظيمة من آيات الله العظيم.

إنّ وجود آلاف الكيلومترات من العروق والشرايين والأوردة الكبيرة والصغيرة، والأوعية الدموية الصغيرة جدّاً والشعيرات المتناهية في الصغر في بدن الإنسان، وآلاف الكيلومترات من طرق المواصلات وأسلاك الإتصالات في سلسلة الأعصاب، وكيفية ارتباطها واتصالها بمركز القيادة في المخ، والذي هو مزيج فذٌّ من العقد والأسرار، وقوي في الوقت نفسه، وكذلك طريقة عمل كلّ جهاز من أجهزة البدن الداخلية وانسجامها العجيب في مواجهة الأحداث المفاجئة، والدفاع المستميت للقوى المحافظة على البدن ضد هجوم العوامل الخارجية.. كلّ واحد من هذه الأُمور يشكل ـ بحد ذاته ـ آية عظمى من آيات الله سبحانه.

وإذا تجاوزنا الإنسان، فإنّ مئات الآلاف من أنواع الكائنات الحية، ابتداءً من الحيوانات المجهرية وحتى الحيوانات العملاقة، بخصائصها وبناء أجهزتها

[187]

المختلفة تماماً، والتي قد يصرف جمع من العلماء كلّ أعمارهم أحياناً لمطالعة حياة وسلوك نوع واحد منها، ومع أنّ آلاف الكتب قد كتبت حول أسرار هذه المخلوقات، فإنّ ما نعلمه عنها قليل بالنسبة إلى ما نجهله منها.. كلّ واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

لكن، لماذا يعيش جماعة عشرات السنين في ظل هذه الآيات، ويمرون عليها، دون أن يطلعوا حتى على واحدة منها!؟

إنّ سبب ذلك هو ما يقرره القرآن الكريم من أنّ هذه الآيات خاصّة للمؤمنين وطلاب اليقين وأصحاب الفكر والعقل، ولأُولئك الذين فتحوا أبواب قلوبهم لمعرفة الحقيقة، بكلّ وجودهم الظاميء للعلم واليقين ليرتووا من صافي نبعه وفيضه، فلا تعزب عن نظرهم أدنى حركة ولا أصغر موجود، ويفكرون فيه الساعات الطوال، ليجعلوا منه سلماً للإرتقاء إلى الله سبحانه، وسجلاً لمعرفته جلّوعلا، وليذوبوا في مناجاته، وليملؤوا أقداح قلوبهم من خمرة عشقه فينتشوا منها.

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب أُخرى لكلّ منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الأُخرى، وكل منها آية من آيات الله تعالى، وهي مواهب «النور» و«الماء» و«الهواء»، فتقول: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون).

إنّ نظام «النور والظلمة»، وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كلّ منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً، وهو عجيب في وضعه وسنته وقانونه، فإذا كان النهار دائمياً، أو أطول من اللازم، فسترتفع الحرارة حتى تحترق الكائنات الحية، ولو كان الليل سرمداً، أو طويلاً جدّاً لانجمدت الموجودات من شدّة البرد.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود

[188]

نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الأُخرى.

والطريف أنّ العلماء يقولون: بالرغم من التفاوت الشديد بين مناطق الأرض المختلفة من ناحية طول الليل والنهار وقصرهما، فإنّنا إذا حسبنا مجموع أيّام السنة فسنرى أنّ كلّ المناطق تستقبل نفس النسبة من أشعة الشمس تماماً(1).

ثمّ تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي «المطر» والذي لا كلام في لطافة طبعه ورقته، ولا بحث في قدرته على الإحياء، وبعثه الحياة في كلّ الأرجاء ومنحها الجمال والروعة.

ولم لا يكون كذلك، والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان، وكثير من الحيوانات الأُخرى، والنباتات؟

ثمّ تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح.. تلك الرياح التي تنقل الهواء المليء بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحارى والغابات لتصفيته، ثمّ إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية ـ أي الحيوانات والنباتات ـ متعاكسة في العمل تماماً، فالأولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فانّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي


1 ـ وردت بحوث مفصلة حول اختلاف الليل والنهار، في سورة البقرة ـ ذيل الآية 164 وفي سورة آل عمران ذيل الآية 190، وفي سورة يونس ذيل الآية 6، وفي ذيل الآية 71 من سورة القصص.

[189]

المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفن والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها(1).

والطريف أنّ هذه الآيات تتحدث أوّلاً عن آيات السماء والأرض وتقول في نهاية الآية الأولى: إنّها آيات «للمؤمنين»، ثمّ تتناول الحديث في خلق الكائنات الحية فتقول في نهاية الآية الثانية: إنّها آيات «للموقنين»، وبعد ذلك تتكلم في أنظمة النور والظلمة، والرياح والأمطار، ثمّ تقول: إنّها آيات للذين «يعقلون».

إنّ هذا التفاوت في التعبير لعله بسبب أنّ الإنسان يطوي ثلاث مراحل في سيره الى معرفة الله سبحانه ليصل إلى هدفه، فالأولى مرحلة «التفكر»، والثانية مرحلة «اليقين» والعلم، وبعدها مرحلة «الإيمان» أو ما يسمى بعقد القلب، ولما كان الإيمان أشرف هذه المراحل، ثمّ يأتي بعده اليقين، وفي المرحلة الثالثة يأتي التفكير، فقد وردت هذه المراحل حسب هذا الترتيب في الآيات المذكورة، وإن كانت المراحل من ناحية الوجود الخارجي تبدأ بمرحلة التفكر، ثمّ اليقين، ثمّ الإيمان.

وبتعبير آخر فإنّ أهل الإيمان يرتقون إلى هذه المرحلة من خلال مشاهدة آيات الله سبحانه، أمّا الذين ليسوا منهم فليصلوا إلى مرحلة اليقين أو إلى مرحلة التفكر على أقل التقادير.

وقد ذكر المفسّرون في هذا الباب وجوهاً أُخرى أيضاً، وما قلناه هو الأنسب.

وتقول الآية الأخيرة، إجمالاً للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق).

هل أنّ كلمة «تلك» إشارة إلى آيات القرآن، أم إلى آيات الله والعلامات الدالة


1 ـ لقد وردت بحوث مفصلة حول آثار الرياح والأمطار في ذيل الآيات 46 ـ 50 من سورة الروم.

[190]

عليه في الآفاق والأنفس، والتي مرّت الإشارة إليها في الآيات السابقة؟