![]() |
![]() |
![]() |
وعلى أية حال، فليست هذه المرة الأولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون، وقد ذكرت مسألة الإمتحان والإبتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالإختبار الإلهي في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.
ثمّ إنّ جملة (حتى نعلم المجاهدين) لا تعني أنّ الله لا يعلمهم، بل المراد تحقق هذا المعلوم عملياً، وتشخيص هؤلاء المجاهدين، فالمعنى: ليتحقق علم الله سبحانه في الخارج، وتحصل العينية، وتتميز الصفوف.
* * *
1 ـ الأحزاب، الآية 13.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّواْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـلَهُمْ( 32 ) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعمَـلَكُمْ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ( 34 )
بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث هذه الآيات وضع جماعة أُخرى من الكفار، فتقول: (إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقوا الرّسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضرّوا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم)حتى وإن عملوا خيراً، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.
هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما، لأنّ التعبير بـ«الكفر»، و«الصد عن سبيل الله»، و(شاقّوا الرسول)قد ورد بحقّ
الفريقين في آيات القرآن الكريم.
أمّا «تبيّن الهدى»، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.
و«إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.
وعلى أية حال، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات: الكفر، والصد عن سبيل الله، والعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه، والأُخرى بعباد الله، والثالثة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد أن تبيّن حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجّهت الآية التالية الخطاب إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم، فقالت: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالهكم).
في الواقع، إنّ أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار والمنافقين في كلّ شيء، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه، وأُولئك يطيعونه، هؤلاء يعادون النبي، وأولئك يطيعون أمرهو هؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم ومنّتهم، أمّا أولئك فإنّ أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها، لاجتنابهم هذه الأُمور.
وعلى كلّ حال، فإنّ أُسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.
والشاهد لهذا الكلام سبب النّزول الذي ذكره البعض لهذه الآية، وهو: إنّ «بني أسد» كانوا قد أسلموا وأتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إنّنا نؤثرك على أنفسنا، ونحن وأهلونا رهن إشارتك وأمرك. غير أنّ أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنّة،
فنزلت الآية أعلاه، وحذّرتهم من ذلك.
واستدل بعض الفقهاء بجملة: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة قطع الصلاة، ولكنّ الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنّها لا تتعلق بهذا الأمر، بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.
وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع، فتقول: (إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ثمّ ماتوا وهم كفّار فلن يغفر الله لهم) لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم، فكيف يغفر الله لهم؟
وبهذا، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات: الكفّار، والمنافقون، والمؤمنون، وتحدّدت صفات كلّ منهم ومصيره.
* * *
من المسائل الأساسية التي أكدت عليها آيات القرآن المختلفة، ومنها الآية مورد البحث، هي أن يحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار، وبتعبير آخر: فإنّ نفس العمل شيء، والحفاظ عليه شيء أهمّ، فإنّ العمل الصالح السالم المفيد، هو العمل الذي يكون منذ البداية سالماً من العيوب وأن يحافظ عليه من الخلل والعيب حتى نهاية العمر.
والعوامل التي تؤدي إلى إحباط أعمال الإنسان، أو تهددها بذلك الخطر كثيرة، ومن جملتها:
1 ـ المن والأذى كما يقول القرآن الكريم: (يا أيّها الذين آمنوا لا تبطلوا
صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)(1). فهنا ذكر عاملان لبطلان العمل: أحدهما المنّ والأذى، والآخر الرياء والكفر، فالأوّل يأتي بعد العمل والثّاني قرينه، وهما كالنّار يحرقان الأعمال الصالحة.
2 ـ العجب عامل آخر في إحباط آثار العمل، كما ورد ذلك في الحديث: «العجب يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب»(2).
3 ـ الحسد ـ أيضاً ـ أحد هذه الأسباب، والذي ورد فيه تعبير شبيه بما ورد في العجب، فقد روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إيّاكم والحسد، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب»(3).
وكما تذهب الحسنات السيئات (إنّ الحسنات يذهبن السيئات)(4)، فإنّ السيئات تمحو كلّ الحسنات أحياناً.
4 ـ المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر، وهذا أهم شرط لبقاء آثار العمل، لأنّ القرآن يقول بصراحة: (ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين)(5).
من هنا نعرف أهمية ومشاكل وصعوبات مسألة المحافظة على الأعمال، ولذلك ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل»، قال ـ أي الراوي ـ : وما الإبقاء على العمل؟ قال: «يصل الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ
1 ـ البقرة، الآية 264.
2 ـ روح البيان، المجلد 8، صفحة 522.
3 ـ بحار الأنوار، المجلد 73، صفحة 255.
4 ـ هود، الآية 114.
5 ـ الزمر، الآية 65.
يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً»(1).
وقد أشارت الآية ـ مورد البحث ـ إشارة خفية إلى هذه الأُمور حيث تقول: (ولا تبطلوا أعمالكم)(2).
* * *
1 ـ الكافي، المجلد الثاني، باب الرياء، الحديث 16.
2 ـ لمزيد من الإيضاح والتفصيل حول مسألة إحباط العمل راجع ذيل الآية (217) من سورة البقرة.
فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعمَـلَكُمْ( 35 )
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدّث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية إلى أحد الأُمور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب.
من المسلّم أنّ الصلح خير وحسن جدّاً، لكن في محله، إذ يكون حينها صلحاً يحقق الأهداف الإسلامية السامية، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم وعظمتهم. أمّا الصلح الذي يؤدي إلى ذلّتهم وانكسار شوكتهم فلا، ولذلك تقول الآية الشريفة: الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)(1).
أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم، كيف تذلّون أنفسكم وترضون
1 ـ «تدعوا» مجزوم، وهو معطوف على (لا تهنوا)، والمعنى: لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم.
بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلاّ التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار، وهو نوع من طلب الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.
ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: (والله معكم ولن يتركم أعمالكم) فإنّ من كان الله معه تكون كلّ عوامل الإنتصار مسخّرة له، فلا يحس بالوحشة أبداً، ولا يدع للضعف والإنهزام سبيلاً إلى نفسه، ولا يستسلم للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في اللحظات الحسّاسة.
(لن يتركم) من مادة «الوتر»، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي وحيداً: وِتْر. وجاء أيضاً بمعنى النقصان.
وفي الآية ـ مورد البحث ـ كناية جميلة عن هذا المطلب، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلاّ كتبت لكم، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئاً، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.
اتضح ممّا قلناه أنّ الآية مورد البحث لا تنافي مطلقاً الآية (61) من سورة الأنفال حيث تقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم)لنجعل إحداهما ناسخة للأُخرى، بل إنّ كلاً منها ناظرة إلى مورد خاص، فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول، والأُخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإنّ أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين وهم على أبواب النصر، ولذلك فإنّ تتمة آية سورة الأنفال تقول: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله).
وقد أشار أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إلى كلا الصلحين في عهده لمالك الأشتر،
حيث يقول: «ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى»(1).
إنّ طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة، وكونه مقترناً برضى الله سبحانه من جهة أُخرى، يبيّن انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.
وعلى أية حال، فإنّ أمراء المسلمين وأولياء أُمورهم يجب أن يكونوا في غاية الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب، والتي هي من أعقد المسائل وأدقّها، لأنّ أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.
* * *
1 ـ نهج البلاغة، الرسالة 53.
إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئـَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ( 36 ) إِن يَسْئـلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـنَكُمْ( 37 ) هَـا أَنتُمْ هـؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـلَكُم( 38 )
قلنا: إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي، والآيات مورد البحث ـ وهي آخر آيات هذه السورة ـ تتناول مسألة أُخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموماً، والى أمر الجهاد بالخصوص، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد عوامل المهمّة التي تعوّق عن
الجهاد، فتقول: (إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو).
«اللعب» يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي، و«اللهو» يقال لكلّ عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.
والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلاّ، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنّما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.
ثمّ تضيف الآية: (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم)(1)فلا أنّ الله يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكلّ تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة، ولا رسوله، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.
وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية أخرى، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولإستقرار النظام والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.
بناءً على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.
ثمّة احتمالات أُخرى عديدة في تفسير جملة: (ولا يسألكم أموالكم) ولرفع ما يبدو في الظاهر تناقضاً:
فقال البعض: إنّه تعالى لا يسألكم شيئاً من أموالكم مقابل الهداية والثواب.
وقال آخرون: إنّه تعالى لا يسألكم كلّ أموالكم، بل يريد قسماً منها فقط.
وقال جماعة: إنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ أموال الجميع من الله سبحانه، وإن كانت ودائع بأيدينا أيّاماً قليلة.
1 ـ جملة (لا يسألكم) مجزومة، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية، أي: يؤتكم.
لكن أفضلها جميعاً هو التّفسير الأول.
وعلى أية حال، فلا ينبغي نسيان أنّ جانباً من الجهاد هو الجهاد بالأموال، ومن الطبيعي أنّ كلّ جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن تجمع وتهيّأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلّقين بها. والآيات مورد البحث تهيء ـ في الحقيقة ـ الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.
ولتبيان تعلّق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم).
«يحفكم» من مادة إحفاء، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي في الأصل من حفأ، وهو المشي حافياً، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.
و«الأضغان» جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد، وقد أشرنا إليه سابقاً.
وخلاصة القول: فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأُمور المالية، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الإرتباط، وتشويق إلى هذا المعنى، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّاً أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئاً من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه!
وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلاّ الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.
والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل الله، فتقول: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل).
وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أولاً: (ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه)(1) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقل التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.
وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه!
وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير بـ(في سبيل الله) يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو: (والله الغني وأنتم الفقراء) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.
إنّ الموجودات الممكنة ـ وما سوى الله سبحانه ـ متسربلة في الفقر جميعاً، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير، فإنّها فقيرة إليه دائماً، حتى في أصل وجودها، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة، فسينتهي وجودها، وتخرّ أبدانها جثثاً هامدة!
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: (وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم).
1 ـ «البخل» يتعدّى مرة بعن، وأخر بعلى، وعلى الأوّل يعني المنع، وعلى الثّاني يعني الإضرار.
أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة.. أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!
وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).
والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية ـ مورد البحث ـ أنّ جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه بعد نزول هذه الآية: من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان «سلمان» جالساً قريباً من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضرب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بيده على فخذ سلمان ـ وفي رواية على كتفه ـ وقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».
لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة، كالبيهقي والترمذي، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين، كصاحب تفسير القرطبي، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازي، والمراغي، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.
وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث(1).
وروي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام)، يكمل الحديث السابق، إذ يقول: «والله أبدل بهم خيراً منهم الموالي»(2).
1 ـ الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 67.
2 ـ تفسير مجمع البيان، الجزء 9، صفحة 108.
إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة، وبنظرة بعيدة عن التعصّب، ولاحظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة ـ في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة، وتنقيح العلوم الإسلامية وتدوينها من جهة أخرى، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث، وتفصيل هذا الكلام طويل.
اللّهمَّ! ثبّت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.
اللّهمَّ! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاةً لدينك الحنيف.
إلهنا! زد في قوّتنا وإيماننا، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبّت فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.
آمين يا رب العالمين.
نهاية سورة محمّد
* * *
مدنيّة
وَعَدَدُ آياتِها تسعٌ وعشرُونَ آية
هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر! الفتح والنصر على أعداء الإسلام، الفتح المبين والأكيد «سواءً كان هذا الفتح متعلقاً بفتح مكّة أو بصلح الحديبيّة أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».
ومن أجل أن نفهم محتوى هذه السورة فينبغي أن نعرف ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ هذه السورة نزلت في السنة السادسة للهجرة بعد قضيّة «صلح الحديبية».
وبيان ذلك.. أنّ النّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) صمّم في السنّة السادسة للهجرة مع أصحابه من المهاجرين والأنصار وباقي المسلمين أن يتحرّكوا نحو مكّة للعُمرة، وكان من قبلُ قد أخبر المسلمين بأنّه رأى رؤيا في منامه وكأنّه مشغول بأداء مناسكه مع أصحابه في المسجد الحرام معتمرين فعقد المسلمون إحرامهم عند «ذي الحليفة» «المنطقة التي تقرب من المدينة المنوّرة» وتحرّكوا نحو مكّة المكرّمة في إبل كثيرة لتُنحر «يوم الهدي» هناك.
وكانت الحالة التي يتحرك النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها توحي بصورة جيدة أنّه لا هدف لديه سوى هذه العبادة الكبرى.. إلى أن وصل النّبي منطقة الحديبيّة «وهي قرية على مقربة من مكّة ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلو متراً».
إلاّ أنّ قريشاً علمت بوصول النّبي إلى الحديبيّة فأوصدت بوجهه الطريق ومنعته من الدخول إلى مكّة المكرمة.
وبهذا ألغت قريش جميع السنن التي ترتبط بأمن المسجد الحرام وضيوف الله والشهر الحرام ووضعتها تحت أقدامها.. إذ كانت تعتقد بحرمة الأشهر الحرام «ومن ضمنها شهر ذي القعدة الذي عزم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه على العمرة» وخاصّةً إذا كان الناس حال الإحرام فلا ينبغي التعرّض لهم حتى لو كان المحرم قاتل واحد من رجالهم، ورُئي محرماً في مناسكه فلا يُمس بسوء أبداً».
وفي هذا المكان أي «الحديبية» جرى ما جرى بين رسول الله والمشركين من الكلام حتى انتهى إلى عقد معاهدة الصلح بين المسلمين وبين المشركين من أهل مكّة وقد سُمّي هذا الصلح بصلح الحديبيّة وسنتحدث عنه في الصفحات المقبلة بإذن الله.
وعلى كلّ حال فقد مُنع النّبي أن يدخل مكّة ويؤدي مناسك العمرة.. فاضطُر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر أصحابه بأن ينحروا إبلهم ويحلقوا رؤوسهم ويُحلّوا من إحرامهم! وأن يعودوا نحو المدينة!
وهنا غمرَ المسلمين طوفانٌ من الحزن والغم وربّما تغلّبَ الشك والترديد على قلوب بعض الأفراد ضعيفي الإيمان!
وعن عبدالله بن مسعود قال: أقبل رسول الله من الحديبيّة فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا فأنزل الله عليه (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فأدركنا رسول الله وبه من السرور ما شاء الله. فأخبر أنّها نزلت عليه(1).
ومن هنا فإنّه يبدو واضحاً هذا الجو الخاص الحاكم على هذه السورة وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام!..
1 ـ تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضاً، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النّبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكّة وأداء مناسك العمرة.
1 ـ مجمع البيان، سورة الفتح، ومثله في تفسير القمي وفي ظلال القرآن.
2 ـ يتحدّث قسمٌ آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلّقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و«بيعة الرضوان» وما إلى ذلك!..
3 ـ ويتحدّث قسم ثالث منها عن مقام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهدفه الأسمى.
4 ـ ويكشف القسم الرابع الستار عن غَدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلةً من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النّبي جهاده المشركين والكفّار.
![]() |
![]() |
![]() |