![]() |
![]() |
![]() |
إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّي لا أخاف تهديداتكم، وسأصمد حتى آخر نفس، والله حافظي وحارسي، وكانت مثل هذه التعبيرات تمنح القادة الإِلهيين حزماً أكبر في دعوتهم، وتزيد في انهيار إرادة الأعداء ومعنوياتهم، وتزيد من
جانب آخر ثبات المحبين والمؤمنين واستقامتهم، لأنّهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم حتى اللحظات الأخيرة.
وربّما كان التأكيد على مسألة الرجم من جهة أن كثيراً من رسل الله قبل موسى(عليه السلام) قد هددوا بالرجم، ومن جملتهم نوح(عليه السلام) (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)(1)
وكذلك الحال بالنسبة إلى إبراهيم(عليه السلام) لما هدده آزر وقال له: (لئن لم تنته لأرجمنك)(2)، وشعيب لما هدده الوثنيون قالوا له: (ولو لا رهطك لرجمناك)(3)
أمّا اختيار الرجم من بين أنواع القتل، فلأنّه أشدّها جميعاً. وعلى قول بعض أرباب اللغة فإن هذه الكلمة جاءت بمعنى مطلق القتل أيضاً.(4)
واحتمل كثير من المفسّرين أن يكون الرجم بمعنى الإِتهام وإساءة الكلام، لأن هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى أيضاً. وكانت هذه الإستعاذة في الحقيقة مانعاً من تأثير التهم التي اتهموا بها موسى فيما بعد.
ويمكن أن تكون هذه الكلمة قد استعملت في معناها الواسع الذي يشمل كلا المعنيين.
وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) لأن موسى(عليه السلام)كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين، وأن ثورته ستؤتي أكلها بعد حين، ولذلك كان يرضى من هؤلاء القوم أن يتنحوا عن طريقه ولا يكونوا حاجزاً بينه و بين الناس.
لكن، هل يمكن أن يهدأ هؤلاء الجبابرة المغرورون وهم يرون الخطر يهدد
1 ـ الشعراء، الآية 116.
2 ـ مريم، الآية 46.
3 ـ هود، الآية 91.
4 ـ لسان العرب، ماده رجم.
مصالحهم وثرواتهم اللامشروعة، ويقبلوا مثل هذا الاقتراح ويدعوا موسى وشأنه؟
الآيات الآتية كفيلة بأن تبيّن تتمة هذه الأحاديث.
* * *
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هـؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ( 22 ) فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ( 23 ) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ( 24 ) كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّات وَعُيُون( 25 ) وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم( 26 ) وَنَعْمَة كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ( 27 ) كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَـهَا قَوْماً آخَرِينَ( 28 ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ( 29 )
لقد استخدم موسى (عليه السلام) كلّ وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة، إلاّ أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كلّ باب ما من مجيب.
لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجاً إلاّ لعنهم والدعاء عليهم، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب الله ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم، لذلك تقول الآية الأولى من هذه الآيات: (فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون).
انظر إلى أدب الدعاء، إنّه لا يقول: اللّهم افعل كذا وكذا، بل يكتفي بأنّ يقول: اللّهمَّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!
وقد استجاب الله سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة بني إسرائيل منهم، أمر موسى(عليه السلام) أنّ (فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون) لكن لا تقلق من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.
إنّ موسى(عليه السلام) مأمور بأنّ يتحرك ليلاً بصحبة عباد الله المؤمنين، أي بني إسرائيل، وجماعة من أهل مصر الذين مالت قلوبهم إلى الإيمان ولبّت دعوة موسى، وأن يأتي النيل، ويعبره بطريقة إعجازية، ثمّ يسير إلى الأرض الموعودة، «فلسطين».
صحيح أنّ حركة موسى وأنصاره قد تمّت ليلاً، إلاّ أنّ من المحتم أنّ لا تبقى حركة جماعية عظيمة كهذه خافية عن أنظار الفراعنة مدة طويلة، وربّما لم تمض عدّة ساعات حتى أوصل جواسيس فرعون هذا الخبر المهول ـ أو قل فرار العبيد الجماعي ـ إلى مسامعه، فأمر بمطاردتهم بجيش جرار.
والطريف أنّ كلّ هذه الأُمور التي حدثت جاءت ضمن إشارة موجزة في الآيات أعلاه ( إنّكم متبعون).
إن ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضِّح في آيات أُخرى من القرآن بعبارات موجزة، فمثلاً نقرأ في الآية (77) من سورة طه (ولقد أوحينا إلى موسى أنّ أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى).
ثمّ تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء (واترك البحر رهواً) والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.
لقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة معنيين للرهو: هما الهدوء، والسعة والإنفتاح، ولا مانع هنا من اجتماعهما.
لكن لماذا صدر مثل هذا الأمر لموسى(عليه السلام)؟
من الطبيعي أنّ موسى(عليه السلام) وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة أُخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلاّ أنّهم أُمروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في ختامها (إنّهم جند مغرقون).
هذا هو أمر الله عزَّوجلَّ الحتمي الصادر بحق هؤلاء القوم، بأنّهم يجب أن يغرقوا جميعاً في نهر النيل العظيم، الذي كان أساس ثروتهم وقوّتهم! و بأمر إلهي واحد تحول هذاالنهر الذي كان عصب حياتهم إلى أداة فنائهم وموتهم.
نعم، عندما وصل فرعون وجنوده إلى شاطئ النيل كان بنو إسرائيل قد خرجوا من الجانب الآخر، وكان ظهور مثل ذلك الطريق اليابس وسط النيل كافياً وحده لأن يلفت نظر حتى الطفل الساذج إلى تحقق إعجاز إلهي عظيم في البحر، إلاّ أنّ كبر أُولئك الحمقى وغرورهم لم يسمح لهم بإدراك هذه الحقيقة الواضحة فيقفوا على اشتباهاتهم وأخطائهم، ويتوجهوا إلى الله سبحانه!
ربّما كانوا يظنون أنّ هذا التغير الذي طرأ على النيل قد تمّ بأمر فرعون أيضاً! وربّما قال هذا الكلام لجنوده، ثمّ ورد بنفسه ذلك الطريق فتبعه جنوده حتى الجندي الأخير!
لكن، أمواج النيل تلاطمت فجأةً وانهالت عليهم كبناء شاهق انهدمت قواعده فانهار إلى الأرض، فغرقوا جميعاً.
والنكتة التي تلفت النظر في هذه الآيات، هي اختصارها الفائق، وكونها بليغة ومعبرة في الوقت نفسه، فقد ذكرت قصة مفصلة في ثلاث آيات ـ أو جمل ـ بحذف الجمل الإضافية التي تفهم من القرائن أو الجمل الأُخرى، ونراها اكتفت بالقول:
(فدعاه ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون. فأسر بعبادي ليلاً إنّكم متبعون، واترك البحر رهواً إنّهم جند مغرقون).
إنّ التعبير بـ«مغرقون» مع أنّهم لم يكونوا قد غرقوا بعدُ إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي حتمي وقطعي.
ولنر الآن ماذا جرى من الحوادث التي تدعو إلى الاعتبار بها، بعد غرق فرعون والفراعنة.
يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكلّ حياة الفراعنة، فيقول أوّلاً: (كم تركوا من جنات وعيون).
لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء، لأنّ مصر كانت أرضاً خصبة مليئة بالبساتين بوجود نهر النيل. وهذه العيون يمكن أن تكون إشارة الى العيون التي كانت تنبع هنا وهناك، أو أنّها جداول كانت تستمد مياهها من النيل، وتمر في بساتين أولئك وحدائقهم الغناء الخضراء، وليس بعيداً إطلاق العين على هذه الجداول.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وزروع ومقام كريم) وكانت هاتان ثروتين مهمتين أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا يستخدمونها غذاءاً لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج، ومن جهة اُخرى كانت القصور والمساكن العامرة، حيث أنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.
لاشك أنّ هذه القصور كريمة من الناحية الظاهرية، ومن وجهة نظر هؤلاء أنفسهم، وإلاّ فإنّ مساكن الطواغيت المزينة هذه، والتي تسبب الغفلة عن الله، لا قيمة لها في منطق القرآن.
واحتمل البعض أن يكون المراد من المقام الكريم مجالس الأنس والطرب، أو المنابر التي كان يرتقيها المدّاحون والشعراء للثناء على فرعون.
لكن، الظاهر أنّ المعنى الأوّل أنسب من الجميع.
ولما كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الأُمور الأربعة المهمّة التي مرَّ ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعاً في جملة مقتضبة، فقال: (ونعمة كانوا فيها فاكهين)(1)(2).
ثمّ يضيف (كذلك وأورثناها قوماً آخرين)(3).
والمراد من (قوماً آخرين) هم بنو إسرائيل، حيث صرّح بذلك في الآية (95) من سورة الشعراء. والتعبير بالإرث إشارة إلى أنّهم حصلوا على كلّ هذه الأموال والثروات من دون أن يبذلوا أدنى جهد، أو يتحملوا أقل تعب ومشقّة، كما يحصل الإنسان على الإرث دون أن يشقى ويجهد في تحصيله.
والجدير بالإنتباه أنّ الآية المذكورة ونظيرتها في سورة الشعراء توحيان بأنّ بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك، وسير الحوادث يقتضي ـ أيضاً ـ أنّ لا يدع موسى(عليه السلام) مصر تعيش فراغاً سياسياً بعد انهيار دعائم حكومة الفراعنة فيها.
لكن هذا الكلام لا ينافي ما ورد في آيات القرآن الكريم من أنّ بني إسرائيل قد ساروا إلى الأرض الموعودة، أرض فلسطين، بعد خلاصهم من قبضة الفراعنة، والذي جاء مفصلاً في القرآن، فمن الممكن أن تكون جماعة منهم قد أقاموا في
1 ـ «نعمة» بفتح النون تعني التنعم، وبكسرها تعني الإنعام، وقد صرح جماعة من المفسّرين وأرباب اللغة بهذا المعنى، في حين يعتقد جمع آخر أنّ للإثنين معنى واحداً يشمل كلّ المنافع التي تستحق الإلتفات والنظر.
2 ـ فسّرت كلمة «فاكهين» بالإستمتاع بالفواكه تارة، وأخر بالأحاديث الفكاهية السارة، وثالثة بالتنعم والتلذذ، والمعنى الأخير أجمع من الجميع.
3 ـ «كذلك» خبر لمبتدأمحذوف والتقدير: الأمر كذلك، ويستعمل هذا التعبير للتأكيد. واحتمل البعض احتمالات أُخرى في تركيبها.
مصر بعد استيلائهم عليها كوكلاء لموسى (عليه السلام)، وسار القسم الأعظم إلى فلسطين.
ولمزيد من الإيضاح حول هذا الكلام انظر ذيل الآية (59) من سورة الشعراء.
وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين).
إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم، ومن المتعارف بين العرب أنّهم إذا أرادوا تبيان أهمية مكانة الميت، يقولون: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت الشمس والقمر لفقده.
واحتمل أيضاً أنّ المراد بكاء أهل السماوات والأرض، لأنّهم يبكون المؤمنين المقربين عند الله، لا الجبابرة والطواغيت وأمثاله.
وقال البعض: إنّ بكاء السماء والأرض بكاء حقيقي، حيث تُظهر احمراراً خاصاً غير احمرار الغروب والطلوع، كما نقرأ في رواية: «لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها»(1).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحاً، ولم تبك إلاّ عليهما» قلت: وما بكاؤها؟ قال: «كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء»(2).
غير أننا نقرأ في حديث روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه»(3).
ولا منافاة بين هذه الرّوايات، حيث كان لشهادة الحسين (عليه السلام) ويحيى بن زكريا(عليه السلام) صفة العموم في كلّ السماء، ولما ورد في الرّوايات الأخيرة صفة
1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 65 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
الخصوص(1).
على أي حال، فلا تضاد بين هذه التفاسير، ويمكن جمعها في معنى الآية.
نعم لم تبك السماء لموت هؤلاء الضالين الظالمين، ولم تحزن عليهم الأرض، فقد كانوا موجودات خبيثة، وكأنّما لم تكن لهم أدنى علاقة بعالم الوجود ودنيا البشرية، فلما طرد هؤلاء الأجانب من العالم لم يحس أحد بخلو مكانهم منهم، ولم يشعر أحد بفقدهم، لا على وجه الأرض، ولا في أطراف السماء، ولا في أعماق قلوب البشر، ولذلك لم تذرف عين أحد دمعة لموتهم.
وننهي الكلام في هذه الآيات بذكر رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام).
فقد ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياً(عليه السلام) لما مرّ على المدائن، ورأى آثار كسرى مشرفة على السقوط والإنهيار، أنشد أحد أصحابه الذين كانوا معه:
جرت الرياح على رسومهم فكأنّهم كانوا على ميعاد!
فقال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «أفلا قلت (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين... فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانو منظرين)»(2).
* * *
1 ـ روي في الدر المنثور حديث في باب الجمع بين هذه الروايات. الدر المنثور، طبقاً لنقل الميزان، المجلد 18، صفحة 151.
2 ـ سفينة البحار، ج2، ص531 (مادة مدن).
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ( 30 ) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ( 31 ) وَلَقَدِ اخْتَرْنَـهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَـلَمِينَ( 32 ) وَآتَيْنَـهُم مِنَ الآيَـتِ مَا فِيهِ بَلـؤٌ مُبِينٌ( 33 )
كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين. وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: (ولقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين) من العذاب الجسمي والروحي الشاق، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم.. من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك.
فكم هو مؤلم أن يكون مصير أُمة بيد هكذا عدوّ دموي شيطاني، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الإنسانية؟
نعم، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم
سفاكي الدماء في التأريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران(عليه السلام) الرّبانية، لذلك تضيف الآية (من فرعون إنّه كان عالياً من المسرفين).
ليس المراد من «عالياً» هنا علو المنزلة، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي، كما جاء ذلك أيضاً في الآية (4) من سورة القصص (إنّ فرعون علا في الأرض) حتى أنّه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الرب الأعلى.
و«المسرف» من مادة «إسراف»، أي كلّ تجاوز للحدود، سواء في الأقوال أم الأفعال، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين، كما نقرأ ذلك في الآية (53) من سورة الزمر (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).
وتشير الآية التالية إلى نعمة أُخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) إلاّ أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.
وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس).
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم
هذا العدد من الأنبياء.
إلاّ أنّ هذا الكلام، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساساً، فربَّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى(عليه السلام)أنّهم لم يتركوا شيئاً سيئاً لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.
وعلى أية حال، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.
غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائماً ـ حسب ما يذكره القرآن ـ وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان حقيقة أُخرى. وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.
كما يستفاد من الآية التالية ـ أيضاً ـ أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اُخرى ليبلوهم.
ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا وحسب، بل هو ذم ضمني أيضاً، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدّوا حقها، ولم ينجحوا في الامتحان.
وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأُخرى التي منحهم الله إيّاها، فتقول: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين)فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء، وفي وادي التيه وأُخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء، ومنحناهم أحياناً نعماً مادية ومعنوية أُخرى. إلاّ أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان، لأنّ الله
سبحانه يختبر قوماً بالمصيبة، وآخرين بالنعمة، كما نقرأ ذلك في الآية (168) من سورة الأعراف: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).
وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوّتهم، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم، وأورث بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر، وكما اختبر أُولئك بهذه المواهب، فإنّكم ستوضعون أيضاً في بوتقة الامتحان والاختبار، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟
وهذا تحذير لكلّ الأُمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.
* * *
إِنَّ هـؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ( 34 ) إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ( 35 ) فَأْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ( 36 )
بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهداً من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرّة أُخرى، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد ـ والتي مرّت في بداية السورة ـ بصورة أُخرى، فقالت: (إنّ هؤلاء ليقولون إن هي إلاّ موتتنا الأولى) وسوف لا نعود إلى الحياة اطلاقاً(1) وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنّة والنّار لا حقيقة له، فلا حشر ولا نشر أبداً!
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا يؤكّد المشركون على الموتة الأولى فقط،
1 ـ هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسّرين الى (الموتة)، وهو المستفاد من سياق الكلام، وبناء على هذا يكون المعنى: ما الموتة إلاّ موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف).
في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية، وعلى هذا يكون المعنى: ما عاقبة أمرنا إلاّ الموتة الأولى (روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت، في حين أنّ مرادهم نفي الحياة بعد الموت، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإنّ الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة بعد الموت، لا بالموت مرة ثانية.
ونقول في الإجابة: إنّ مرادهم عدم وجود حالة أُخرى بعد الموت، أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كلّ شيء، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أُخرى ولا موت آخر، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير. (فتأمل!)(1).
وهذا يشبه كثيراً ما ورد في الآية (29) من سورة الأنعام، حيث تقول: (وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)!
ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).
قال البعض: إنّ هذا كان كلام أبي جهل، حيث أنّه التفت إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: إن كنت صادقاً فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنّه كان رجلاً صادقاً لنسأله عمّا يكون بعد الموت(2).
من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعاً، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة، ويضربون على وتر آخر، فيسمون ذلك الفعل سحراً مثلاً، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات، فلما أتاهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بها أنكروها أشد إنكار.
* * *
1 ـ ذكر المفسّرون احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة، وتبدو جميعاً بعيدة، ومن جملتها: أنّهم فسّروا الموتة الأولى بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا، وبناء على هذا يكون معنى الآية: إنّ الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من قبل، أمّا الموت الثّاني فلا حياة بعده أبداً.
2 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66، وبعض التفاسير الأُخرى.
لم يكن للمشركين بعامة ـ ومشركي العرب بخاصة ـ مسلك متحد في مسائلهم العقائدية، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.
فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون: (ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر)(1)
وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون بالله عزّوجلّ، ويعتقدون أيضاً أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله، إلاّ أنّهم كانوا ينكرون المعاد، وهم الذين كانوا يقولون: (من يحيي العظام وهي رميم)(2)، فأُولئك كانوا يحجون إلى الأصنام، ويقدمون القرابين لها، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.
لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر(3).
واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه، وعندما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة، وينوح عند قبره.
وكانوا يعتقدون ـ أيضاً ـ أنّ هذا الطائر يكون صغيراً في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم، وهو يعيش دائماً في خوف واضطراب، ويسكن الديار الخالية، والخرائب، والقبور ومصارع القتلى!
1 ـ الجاثية، الآية 24.
2 ـ سورة يس، الآية 78.
3 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، المجلد 1، صفحة 117.
وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصاً إذا قتل ستصيح هامة على قبره: اسقوني فإني صدية أي عطشانة(1).
لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية، ولذلك روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «لا هامة»(2).
وعلى أية حال، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته، إلاّ أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.
أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى، ويعود إلى الحياة من جديد، وأن لكلا الجسم والروح معاداً مشتركاً، فإنّهم كانوا ينكرونه تماماً، ولا ينكرونه فحسب، بل كانوا يخافونه. وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.
* * *
1 ـ بلوغ الأرب، المجلد 2، صفحة 311.
2 ـ المصدر السابق.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّع وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَـهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ( 37 )وَ مَا خَلَقْنَا السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَابَيْنَهُمَا لـَعِبِينَ( 38 ) مَا خَلَقْنَـهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ( 39 )
![]() |
![]() |
![]() |