صحيح أنّ أنبياء آخرين قبل إبراهيم(عليه السلام) ـ كنوح(عليه السلام) ـ قد حاربوا الشرك والوثنيّة، ودعوا البشر إلى التوحيد، إلاّ أنّ الذي منح هذه الكلمة الإستقرار والثبات، ورفع رايتها في كلّ مكان، كان إبراهيم(عليه السلام) محطّم الأصنام. فهو(عليه السلام) لم يسعَ لإستمرار خطّ التوحيد في زمانه وحسب، بل إنّه طلب استمرار هذا الأمر من الله سبحانه في أدعيته إذ قال: (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)(2).

ثمّة تفسير آخر، وهو: إنّ الضمير في (جعل) يعود إلى الله سبحانه، فيكون معنى الجملة: إنّ الله سبحانه قد جعل كلمة التوحيد في أسرة إبراهيم.

غير أنّ رجوع الضمير إلى إبراهيم(عليه السلام) ـ وهو التّفسير الأوّل يبدو أنسب، لأنّ الجمل السابقة تتحدّث عن إبراهيم، ومن المناسب أن يكون هذا الجزء من جملة أعمال إبراهيم، خاصّة وأنّه قد أكّد على هذا المعنى في آيات عديدة من القرآن الكريم، وإنّ إبراهيم كان مصرّاً على أن يبقى بنوه وعقبه على دين الله، كما نقرأ في الآيتين (131)، (132) من سورة البقرة: (إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين * ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين  فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون).

والتصوّر بأنّ (جعل) يعني الخلق، وأنّه مختصّ بالله سبحانه، تصوّر خاطىء، لأنّ (الجعل) يطلق على أعمال البشر وغيرهم أيضاً، وفي القرآن نماذج كثيرة


1 ـ «العقب» في الأصل بمعنى كعب القدم، إلاّ أن هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

2 ـ إبراهيم، الآية 35.

[40]

لذلك، فمثلاً عبّر القرآن عن إلقاء يوسف في البئر من قبل إخوته، بالجعل: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب)(1)

اتّضح ممّا قلناه أنّ ضمير المفعول في (جعلها) يعود إلى كلمة التوحيد وشهادة (لا إله إلاّ الله) ويستفاد هذا من جملة: (إنّني براء ممّا تعبدون) التي تخبر عن مساعي إبراهيم من أجل استمرار خط التوحيد في الأجيال القادمة.

وورد في روايات عديدة من طرق أهل البيت(عليهم السلام) اعتبار مرجع الضمير إلى مسألة الإِمامة، وضمير الفاعل يرجع إلى الله طبعاً، أي إنّ الله سبحانه قد جعل مسألة الإِمامة مستمرّة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام)، كما يستفاد من الآية (124) من سورة البقرة، إذ لما قال الله سبحانه لإبراهيم: (إنّي جاعلك للناس إماماً) طلب إبراهيم (عليه السلام)أن يكون أبناؤه أئمّة أيضاً، فاستجاب الله دعاءه، إلاّ في الذين ظلموا وتلوّثوا بالمعصية والجور: (قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال  لا ينال عهدي الظالمين).

إلاّ أنّ الإِشكال الذي يتبادر لأوّل وهلة هو أنّه لا كلام عن الإِمامة في الآية مورد البحث، اللهمّ إلاّ أن تكون جملة (سيهدين) إشارة إلى هذا المعنى، لأنّ هداية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) شعاع من هداية الله المطلقة، وحقيقة الهداية والإِمامة واحدة.

والأفضل من ذلك أن يقال: إنّ مسألة الإِمامة مندرجة في كلمة التوحيد، لأنّ للتوحيد فروعاً أحدها التوحيد في الحاكميّة والولاية والقيادة، ونحن نعلم أنّ الأئمّة يأخذون ولايتهم وزعامتهم من الله سبحانه، لا أنّهم مستقلّون بأنفسهم، وبهذا فإنّ هذه الرّوايات تعتبر من قبيل بيان مصداق وفرع من المعنى العام لـ(جعلها كلمة باقية) ولهذا فإنّه لا منافاة مع التّفسير الذي ذكرناه في البداية.


1 ـ يوسف، الآية 15.

[41]

(فتأمّل!)(1).

والجدير بالملاحظة هنا: هو أنّ المفسّرين قد احتملوا عدّة احتمالات في تفسير (في عقبه) ففسّرها البعض بكلّ ذريّة إبراهيم وأسرته، واعتبرها آخرون خاصّة بقوم إبراهيم وأمّته، وفسّرها جماعة بآل محمّد(عليهم السلام) إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ لها معنى واسعاً يشمل كل ذريته إلى انتهاء الدنيا، والتّفسير بآل محمّد(عليهم السلام) من قبيل بيان المصداق الواضح لها.

والآية التالية جواب عن سؤال في الحقيقة، وهو: في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب الله مشركي مكّة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: (فانتقمنا منهم

فتقول الآية مجيبة: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين)فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النّبي العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بهدايتهم.

وبتعبير آخر، فإنّ جملة (لعلهم يرجعون) في الآية السابقة توحي بأنّ الهدف من مساعي إبراهيم(عليه السلام) الحثيثة كان رجوع كل ذرّيته إلى خط التوحيد، في حين أن العرب كانت تدعي أنّها من ذرية إبراهيم(عليه السلام) ورغم ذلك لم ترجع، إلاّ أنّ الله سبحانه أمهلهم مع ذلك حتى يأتي النّبي العظيم بالكتاب الجديد ليوقظ هؤلاء من نومهم، وبالفعل فقد استيقظت جماعة عظيمة منهم.

إلاّ أنّ العجيب أنّه: (ولما جاءهم الحقّ قالوا هذا سحر وإنّا به كافرون)!

نعم .. لقد عدّوا القرآن المجيد سحراً، والنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ساحراً، وإذا لم يرجعوا عمّا قالوا فإنّ عذاب الله سيحيط بهم ويأخذهم من حيث لا يشعرون.

* * *


1 ـ نقل صاحب نور الثقلين هذه الأحاديث في المجلّد 4، صفحة 596 ـ 597، ووردت أيضاً في تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 138 ـ 139.

[42]

الآيتان

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـذا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُل مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم( 31 )أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـت لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ( 32 )

 

التّفسير

لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء؟

كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم، وتشير الآيات ـ مورد البحث ـ إلى حجّة واهية أُخرى من حجج أُولئك المشركين، فتقول: (وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي مكّة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في

[43]

تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

إنّ صغار العقول هؤلاء كانوا يتصوّرون أنّ الأثرياء، وزعماء قبائلهم الظلمة هم أقرب الناس إلى الله سبحانه، ولذلك فإنّهم كانوا يتعجبون لماذا لم تنزل موهبة النبوّة والرحمة الإِلهيّة العظيمة هذه على رجل من قبيل هؤلاء الأفراد ونزلت على يتيم فقير خالي اليد اسمه محمّد! إن هذا لشيء عجاب لا يكاد يصدق!

نعم، إنّ نظام القيم الخاطيء يستتبع مثل هذا الإِستنباط، وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

إنّ حامل هذه الدعوة الإِلهيّة يجب أن يكون إنساناً تغمر وجوده روح التقوى .. أن يكون إنساناً واعياً، ذا إرادة وتصميم، شجاعاً عادلاً، عارفاً بآلام المحرومين والمظلومين، ذائقاً لمرارتها..

هذه هي القيم التي يلزم توفّرها من أجل حمل هذه الرسالة السماويّة،  لا الألبسة الفاخرة الجميلة، والقصور الفخمة الفارهة المزيّنة بأنواع الزينة والزخارف، خاصّة وإن أيّاً من أنبياء الله لم يكن متمتعاً بهذه الصفات والمزايا المادية، لئلاّ تشتبه القيم الأصيلة بالقيم المزيّفة.

وللمفسّرين أقوال في مراد المشركين من الرجل في مكّة والطائف؟ إلاّ أنّ أغلبهم اعتبروا «الوليد بن المغيرة» رجل مكّة، و«عروة بن مسعود الثقفي» رجل الطائف، وإن كان البعض قد ذكر أن عتبة بن ربيعة من مكّة، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف.

إلاّ أنّ الظاهر أن قول أُولئك المشركين لم يكن يدور حول شخص معين، بل كان هدفهم الإِشارة إلى أحد الأثرياء المعروفين، وله عشيرة مشهورة.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي، ويجسد النظرة الإِلهيّة الإِسلاميّة تماماً، فيقول أوّلاً: (أهم يقسمون رحمة

[44]

ربك)فيمنحوا النبوّة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي، وإذا لم يعجبهم إنسان أهملوه؟

هؤلاء على خطأ كبير، فإنّ ربّك هو الذي يقسم رحمته، وهو يعلم ـ أفضل من سواه ـ من يستحق هذا المقام العظيم، ومن هو أهل له، كما ورد ذلك في الآية (124) من سورة الأنعام أيضاً: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

فضلاً عن ذلك، فإنّ وجود التفاوت والإِختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: (نحن قسّمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليّتخذ بعضهم بعضاً سخرياً).

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلاّ عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الإِجتماعية، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل.

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإِنسانية، إذ: (ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون) بل إن كل المقامات والثروات  لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

إنّ التعبير بـ «ربّك» الذي تكرّر مرّتين في هذه الآية، إشارة لطيفة إلى لطف الله الخاص بنبي الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنحه مقام النبوّة والخاتميّة.

* * *

 

سؤالين مهمّين:

عند مطالعة الآية أعلاه يتبادر إلى الذهن سؤالان يستخدمهما أعداء الإِسلام كحربة للطعن في الفلسفة الإِسلاميّة:

[45]

الأوّل: كيف أقرّ القرآن استخدام الإِنسان وتسخيره من قبل الإِنسان؟ ألا يماثل هذا نظام الطبقات الإِقتصاديّة، أي نظام المستثمِرين والمستثمرين؟

الثّاني: أنّ الأرزاق والمعايش إذا كانت مقسّمة من قبل الله تعالى، فأي ثمرة يمكن أن تنتج عن جهودنا ومساعينا؟ ألاّ يعني هذا إطفاء مشاعل السعي ومصابيح الجهاد من أجل الحياة؟

إنّ الإِجابة على هذه الأسئلة تتّضح بالتدقيق في متن الآية، لأنّ هؤلاء يتصورون أنّ معنى الآية هو أنّ جماعة معيّنة من البشر تسخر جماعة أُخرى لأنفسها تسخيراً ظالماً يمتصّ الدماء والجهود، في حين أن الأمر ليس كذلك، بل هو استخدام الناس بعضهم بعضاً، أي أنّ كل جماعة من الناس لهم إمكانيّات واستعدادات خاصّة يستطيعون العمل بواسطتها في مجال ما من شؤون الحياة، وهم بطبيعة الحال يقدمون خدماتهم في ذلك الحقل إلى الآخرين، كما أنّ خدمات الآخرين في الحقول الأُخرى تقدم إليهم.

والخلاصة: هو استخدام متبادل، وخدمة ذات طرفين، وبتعبير آخر: فإنّ الهدف من التسخير هو التعاون في أمر الحياة، ولا شيء آخر.

ولا يخفى أنّ البشر لو كانوا متساوين جميعاً من ناحية الذكاء والإِستعداد الروحي والجسمي، فسوف لن تتهيّأ مستلزمات الحياة الإِجتماعيّة، والنظم الحياتيّة مطلقاً، كما أن خلايا جسم الإِنسان لو كانت متشابهة من ناحية البنية والرقة والمقاومة لاختل نظام الجسم، فأين خلايا عظم كعب القدم القويّة جدّاً من خلايا العين الرقيقة؟ إن لكل من هاتين مهمّة خاصّة بنيت على أساسها.

والمثال الحي الذي يمكن أن يضرب لهذا الموضوع هو الخدمات المتبادلة في جهاز التنفّس، ودوران الدم، والتغذية، وسائر أجهزة بدن الإِنسان، التي هي مصداق واضح لـ (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) في إطار نشاطات البدن الداخليّة، فهل يمكن الإِشكال على مثل هذا التسخير؟ وهل فيه خلل أو نقص؟

[46]

فإن قيل: إنّ جملة: (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) دليل على عدم العدالة الإِجتماعية.

قلنا: هذا يصحّ في حالة تفسير العدالة بالمساواة، في حين أنّ العدالة تعني وضع كلّ شيء في محلّه ضمن منظومته، فهل أنّ وجود سلسلة المراجع والرتب في فرقة عسكريّة، أو تنظيم إداري، أو في الدولة، دليل على وجود الظلم في تلك الأجهزة؟

من الممكن أن يستعمل بعض الناس كلمة «المساواة» في مجال الشعارات من دون الإِلتفات إلى معناها الواقعي، أمّا في الواقع العملي فلا يمكن أن يتمّ أو يقوم أي نظام بدون الإِختلاف والتفاوت، غير أنّ هذا التفاوت يجب أن لا يكون ذريعة لأنّ يستغل الإِنسان أخاه الإِنسان أبداً، بل يجب أن يكون الجميع أحراراً في استعمال قواهم الخلاقة، وتنمية نبوغهم وإبداعهم، والإِستفادة من نتائج نشاطاتهم بدون زيادة أو نقصان، وأمّا في حال عجزهم فيجب على القادرين أن يجدوا ويجتهدوا في رفع النواقص وسد ما يحتاجونه.

وأمّا فيما يتعلق بالسؤال الثّاني، وهو: كيف يمكن المحافظة على شعلة الجهاد والسعي والإِجتهاد وهاجة مع كون الرزق معيناً؟ فإنّ الإشتباه ناشيء من تصورهم أن الله سبحانه لم يجعل لسعي الإِنسان واجتهاده أي أثر أو دور.

صحيح أنّ الله سبحانه خلق القابليات متفاوتة لمختلف النشاطات، وصحيح أنّ العوامل الخارجة عن إرادة الإِنسان مؤثّرة في مسير حياته، لكن مع ذلك فإنّه سبحانه قد جعل سعيه واجتهاده أيضاً أحد العوامل الأساسيّة، وأوضح سبحانه ببيان أصل: (أنّ ليس للإنسان إلاّ ما سعى)(1)، أنّ سعادة الإِنسان وما يجنيه ويحصل عليه يرتبط بسعيه واجتهاده.

وعلى أيّة حال، فإنّ النكتة الغامضة والدقيقة تكمن في أنّ البشر ليسوا


1 ـ النجم، الآية 39.

[47]

كالأواني المتساوية الصفات الي صنعت في معمل واحد، في شكل واحد، وعلى وتيرة واحدة، وبحجم واحد، ولغاية واحدة في الإِستعمال، ولو كانوا كذلك لما أمكنهم التعايش بعضهم مع البعض الآخر يوماً واحداً.

وأيضاً ليس الناس من قبيل أجهزة وأدوات سيارة نظمها مهندسها على هيئة ما، فهي تقوم بعملها بصورة إجبارية، بل لديهم حرية الإِرادة، وعليهم مسؤولية وواجب في نفس الوقت الذي تختلف فيه قابلياتهم ولياقاتهم، وهذا هو المركب الخاص الذي يسمونه الإِنسان، والإِعتراضات والإِيرادات التي تطرح غالباً تنبع من عدم معرفة هذا الإنسان.

وخلاصة القول: إنّ الله سبحانه لم يفضل أي إنسان على الآخرين من كل الجهات، بل إنّ جملة: (رفع بعضهم فوق بعض درجات) إشارة إلى الإِمتيازات التي تمتاز بها كل جماعة على الجماعة الأُخرى، وتسخير كل فئة لأُخرى واستخدامها لها نابع من هذه الإِمتيازات تماماً، وهذا عين العدالة والتدبير والحكمة(1).

 

* * *

 

 


1 ـ كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في ذيل الآية (32) من سورة النساء، وبحث آخر في ذيل الآية (165) من سورة الأنعام.

[48]

الآيات

وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ( 33 ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَباً وَسُرُراً عَلَيْهَ يَتَّكِئُونَ( 34 ) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالأخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ( 35 )

 

التّفسير

قصور فخمة سُقُفها من فضة؟ (قيم كاذبة)

تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإِسلام»، وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم، فتقول الآية الأولى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة)(1).

ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (ومعارج عليها


1 ـ «لبيوتهم» بدل اشتمال لـ (لمن يكفر بالرحمن) وتكرار (اللام) لهذا المعنى، أو بمعنى (على) أي: على بيوتهم، لكن الإحتمال الأوّل أصح.

[49]

يظهرون)(1).

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد أن السلالم مصنوعة من الفضة، وعدم تكرار كلمة الفضة لوضوح المراد. وكأنّهم لم يعتبروا وجود السلالم لوحدها دليلاً على أهمية البيوت، والأمر ليس كذلك، إذ أن وجود السلالم الكثيرة دليل على عظمة البناء وتكونه من عدّة طوابق.

«السُقُف» جمع سَقْف، ويعتقد البعض أنها جمع سقيفة، أي المكان المسقف، إلاّ أنّ القول الأوّل أشهر.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى: (ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون).

وربّما كانت هذه الجملة إشارة إلى الأبواب والأسرّة الفضية، لأنّ الآية السابقة لما تحدثت عن السُّقُف الفضية امتنع التكرار. ويمكن أيضاً أن يكون وجود الأبواب والأسرّة المتعددة ـ خاصّة وأن (أبواباً) و(سرراً) نكرة، وقد وردت هنا لبيان الأهمية ـ دليلاً بنفسه على عظمة تلك القصور، لأنّهم يجعلون لبيت حقير عدّة أبواب أبداً، بل هي مختصة بالقصور والبيوت الفخمة، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الأسرّة.

ولم تكتف الآية بهذا، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة (وزخرفاً)(2) لتكمل الحياة المادية وزخارفها وزبارجها من كل الجهات، القصور الفخمة المتعددة الطبقات، الأبواب والأسرّة المتعددة، وكل وسائل الزينة والنقوش والرسوم وسائر الجواذب التي يتحقق فيها مراد عبيد الدنيا وأمانيهم.

ثمّ تضيف الآية: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربّك


1 ـ «المعارجّ» جمع معراج، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا.

2 ـ اعتبر البعض (زخرفاً) عطفاً على (سقفاً)، ويعتقدون أنها إشارة إلى وسائل الزينة المستقلة التي توضع تحت تصرف أمثال هؤلاء الأفراد. والبعض اعتبرها عطفاً على (من فضة) وكانت في الأصل (من زخرف) ثمّ نصبت بنزع الخافض، وعلى هذا يصبح معنى الجملة: إنّا جعلنا بعض سقوف وأسرّة بيوت هؤلاء من ذهب وبعضها من فضة. (تأمل!).

[50]

للمتقين).

«الزخرف» في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف، وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه: كلام مزخرف، لأنهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولاً.

وخلاصة القول: إنّ هذه الأُسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلاّ من نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق، ولو لم يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الأُمور من نصيب هذه الفئة فقط، ليعلم الجميع أن هذه الأُمور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإِنسان وقيمته ومقامه.

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ الإِسلام يحطم القيم الخاطئة

حقّاً لا يمكن العثور على تعبير أبلغ مما ورد في الآيات أعلاه لتحطيم المقاييس والقيم الكاذبة والقضاء عليها، وتغيير بناء ذلك المجتمع الذي يدور محور تقييم شخصية الأفراد فيه حول مقدار ما يملكون من الإِبل، ومقدار الدراهم والدنانير، وعدد الغلمان والجواري والبيوت وأدوات الزينة، حتى أنّهم يتعجبون لماذا اختير محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوة وهو اليتيم الفقير مادياً؟!

إن أهم عمل لرسالة السماء هو تحطيم أطر القيم الخاطئة هذه، وبناء القيم الإِنسانية الأصيلة كالتقوى، والعلم، الإِيثار والتضحية، الشهامة والحلم على أنقاضها، وإلاّ فإنّ كل الإِصلاحات ستكون فوقية وسطحية وغير ثابتة.

وهذا هو الذي قام به الإِسلام والقرآن والرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) على أحسن

[51]

وجه، ولهذا فإنّ المجتمع الذي كان أكثر المجتمعات البشرية تخلفاً وخرافة، قد تسلق سلّم الرشد والرقي حتى أصبح في المرتبة الأولى في مدّة قصيرة.

والطريف أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تكملة هذا البحث: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء»(1).

ويُبلغ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) الكلام في هذا الباب غايته حيث يقول: «ولقد دخل موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء».

ويقول في موضع آخر من هذه الخطبة: «ألا ترون ان الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الأرض مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم...».

«ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البُنا، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وطرق عامرة، لكان قد صغر


1 ـ تفسير الكشّاف، المجلد 4، صفحة 250.

[52]

قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»(1).

وعند ذلك كان الناس سينشغلون بالقيم الظاهرية الخداعة، ويغفلون عن القيم الإِلهيّة الواقعية.

على أية حال، فإنّ أساس الثورة الإِسلامية هو تغيير القيم، وإذا ما أصبح مسلمو اليوم يعانون من ظروف صعبة خانقة، وتحت ضغط الأعداء الجلادين القساة، فإنّ ذلك ناتج عن تركهم للقيم الأصيلة، وانتشار القيم والأعراف الجاهلية بينهم مرّة أُخرى، فأصبح المال والمنصب الدنيوي مقياس التقييم، ونسوا العلم والفضيلة والتقوى، وغرقوا في بحر المغريات والزخارف المادية، وأضحوا غرباء عن الإِسلام، وما دام الوضع كذلك فيجب أن يدفعوا كفارة هذا الذنب العظيم، وما داموا لم يشرعوا بالتغيير ابتداءاً من القيم الحاكمة على وجودهم، فسوف لن تشملهم رحمة الله ولطفه، وذلك: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(2).

 

2 ـ جواب عن سؤال

بمطالعة الآيات المذكورة حول التحقير الشديد للزينة الظاهرية، والثروة والمقام المادي، يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: إذا كان الحق كذلك، فلماذا يقول القرآن في موضع آخر: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون).(3)

أو يقول في موضع آخر: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)،(4) فكيف


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 192. الخطبة القاصعة.

2 ـ الرعد، الآية 11.

3 ـ الأعراف، الآية 32.

4 ـ الأعراف، الآية 31.

[53]

تتوافق هاتان الفئتان مع الآيات؟

ينبغي الإِلتفات في الجواب إلى أن الهدف في الآيات ـ مورد البحث ـ هو القضاء على القيم الكاذبة الخاطئة، الهدف هو أن لا يعد الناس شخصية الإِنسان متقومة بثروته وزينته، ولا يعني هذا أنّ الإمكانيات المادية شيء سيّء، بل المهم أن تكون مجرّد أدوات ومظاهر للنظر، وليس كهدف سام وغاية تبلغ.

ثمّ إنّ هذه الإِمكانيات تكون ذات قيمة عندما تكون في حد المعقول واللائق بالحال، وخالية من كلّ أنواع الإِسراف والتبذير، لا أن تبنى القصور من الذهب والفضة، وتدّخر الثروات الطائلة منهما.

ومن هنا يتّضح أن وجود جماعة من الكفّار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلاً على رفعة شخصيتهم، ولا أن حرمان المؤمنين منها، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة، يضر بإيمانهم وتقواهم، وهذا هو التفكير الإِسلامي والقرآني الصحيح.

 

* * *

 

 

[54]

الآيات

وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( 36 ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ( 37 ) حَتَّى إِذا جَآءَنَا قَالَ يَـلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ( 38 ) وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ( 39 ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلـل مُّبِين( 40 )

 

التّفسير

أقران الشياطين!

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية، فإن الآيات ـ مورد البحث ـ تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الإِرتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الإِبتعاد عن الله سبحانه.

تقول الآية الأولى: (ومن يعش عن ذكر الرحمـن نقيض له شيطاناً فهو له

[55]

قرين)(1)(2).

نعم، إنّ الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والإِنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإِنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!

من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم، وقد قلنا مراراً: إنّ أولى نتائج أعمال الإِنسان ـ وخاصة الإِنغماس في ملاذ الدنيا، والتلوث بأنواع المعاصي ـ هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه، ويسلط الشياطين عليه، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب، وهذه نتيجة عمل الإِنسان نفسه، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضاً، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأُخرى بعنوان تزيين الشياطين (فزين لهم الشيطان أعمالهم)(3)، أو بعنوان ولاية الشيطان (فهو وليهم اليوم).(4)