![]() |
![]() |
![]() |
وبعد أن انتهت غزوة بني المصطلق تزوّج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بجارية عتيقة من هذه القبيلة، وكان هذا الزواج سبباً في إطلاق سراح كلّ أسرى القبيلة.
لقد وردت في الإسلام تعليمات كثيرة حول الرفق بالعبيد ومداراتهم، حتى أنّها أشركتهم في حياة مالكيهم.
يقول النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليكسه ممّا يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كان ما يغلبه فليعنه»(2).
ويقول علي (عليه السلام) لغلامه قنبر: «أنا أستحيي من ربّي أن أتفضل عليك، لأنّ رسول الله يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون»(3).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «وإن كان أبي ليأمرهم ـ أي غلمانه ـ فيقول: كما
1 ـ الشرائع، كتاب القضاء.
2 ـ بحار الأنوار، المجلد 74، صفحة 141، حديث 11.
3 ـ المصدر السابق، صفحة 144، حديث 19.
أنتم، فيأتي، فإن كان ثقيلاً قال: بسم الله، ثمّ عمل معهم»(1).
لقد كانت معاملة الإسلام مع العبيد في هذه المرحلة الإنتقالية حسنة إلى الحدِّ الذي أكّد عليها حتى الغرباء عن الإسلام وحمدوها ومجّدوها.
وكنموذج لذلك نذكر ما يقوله «جرجي زيدان» في تأريخ تمدّنه: إنّ الإسلام رحيم بالعبيد كلّ الرحمة، وقد أوصى نبيّ الإسلام بالعبيد كثيراً، ومن جملة ما قاله: لا تكلفوا العبد ما لا يطيق، وأطعموه ممّا تأكلون.
ويقول في موضع آخر: لا تنادوا مماليككم بيا غلام، ويا جارية، بل قولوا: يا بني، ويا ابنتي!
والقرآن أيضاً أوصى بالرقيق وصايا رائعة، فهو يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ولا تعاملوا آباءكم وأمّهاتكم وأولي أرحامكم واليتامى والفقراء والجيران، البعيد منهم والقريب، والأصدقاء، والمشرّدين، والرقيق، إلاّ بالحسنى، فإنّ الله لا يرضى بالعجب والرضى من النفس(2).
يعد بيع العبيد وشراؤهم من أبغض المعاملات في الإسلام، حتى ورد في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرّ الناس من باع الناس»(3). وهذا التعبير كاف لتوضيح وجهة نظر الإسلام في شأن العبيد، ويبيّن اتجاه حركة البرامج الإسلامية، وما تريد تحقيقه والوصول إليه.
والأروع من ذلك أنّ الإسلام قد اعتبر سلب حرية البشر، وتبديلهم إلى سلعة تباع وتشترى، من الذنوب التي لا تغفر، فقد ورد في حديث عن نبيّ الإسلام
1 ـ المصدر السابق، صفحة 142، حديث 13.
2 ـ تاريخ التمدّن، المجلد 4، صفحة 54.
3 ـ المستدرك، المجلد 2، كتاب التجارة، باب 19، حديث 1.
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله تعالى غافر كلّ ذنب إلاّ من جحد مهراً، أو اغتصب أجيراً أجره، أو باع رجلاً حراً»(1). وطبقاً لهذا الحديث فإنّ اغتصاب حقوق النساء، والعمال، وسلب حرية البشر ثلاثة ذنوب لا تغفر.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ الإسلام لم يبح الإسترقاق إلاّ في مورد أسرى الحرب، وحتى في هذا المورد لا يكون الإسترقاق إلزامياً، وكان ذلك في عصر ظهور الإسلام، غير أنّنا نرى العبودية والإسترقاق متفشيّة في الدول الغربية بعد عدّة قرون من ظهور الإسلام حيث كان المستعمرون يشنّون الحملات والهجمات الشرسة على بلدان السود، ويقبضون على البشر الأحرار ويحوّلونهم إلى رقيق يباعون ويشترون، وقد بلغ بيع وشراء العبيد حدّاً رهيباً، بحيث كان يباع في كلّ سنة (000،200) عبداً في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، وكانوا يأخذون مائة ألف نسمة من أفريقيا كل عام، ويرسلونهم إلى أمريكا كعبيد(2).
وخلاصة القول: إنّ الذين يعترضون على برنامج الإسلام في مسألة الرقيق قد سمعوا كلاماً لم يتأمّلوا فيه، ولم يطّلعوا الإطلاع الكافي على أصول البرنامج وهدفه، وهو «تحرير العبيد تدريجياً»، ومن دون خسائر، أو إنّهم وقعوا تحت تأثير المغرضين الذين يظنون أنّ هذه نقطة ضعف كبيرة في الإسلام، وطلبوا لها وزمروا، وسخّروا لها وسائل الإعلام، إلاّ أنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً.
* * *
1 ـ بحار الأنوار، المجلد 103، صفحة 168، حديث 11.
2 ـ الميزان، الجزء 6، صفحة 368.
يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ( 7 ) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـلَهُمْ ( 8 )ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـلَهُمْ( 9 ) أَفَلَمْ يِسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـفِرِينَ أَمْثَـلُهَا( 10 ) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَـفِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ( 11 )
تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ، فتقول: (يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم).
إنّ التأكيد على مسألة «الإيمان» إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.
وعبارة (تنصروا الله) تعني ـ بوضوح ـ نصرة دينه، ونصرة نبيّه، وشريعته وتعليماته، ولذلك وردت نصرة الله إلى جانب نصرة رسوله في بعض آيات القرآن الكريم، كما نقرأ في الآية (8) من سورة الحشر: (وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).
ومع أنّ قدرة الله سبحانه غير محدودة، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال قدرته، غير أنّه يعبّر بنصرة الله ليوضح أهمية الجهاد والدفاع عن دين الله، ولا يوجد تعبير أعظم من هذا لتبيان أهمية هذا الموضوع.
ولنرَ ما هو هذا الوعد الذي وعد الله به المجاهدين إذا ما دافعوا عن دينه؟
يقول أوّلاً (ينصركم) أمّا كيف يتمّ ذلك؟ فإنّ الطرق كثيرة، فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى، وفي أرادتكم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكاركم الهدوء والإطمئنان.
ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم، إنّ نصرة الله تحيط بالجسم والروح، من الداخل والخارج.
إلاّ أنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كلّ أشكال النصرة، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو أهم رمز للإنتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر، ولذلك نقرأ في قصة محاربة طالوت ـ القائد العظيم لبني إسرائيل ـ لجالوت ـ المتسلّط الجائر القوي ـ أنّ المؤمنين القليلين الذين كانوا معه عندما واجهوا جيش العدو الجرار، قالوا: (ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
ونقرأ في الآية التي بعدها: (فهزموهم بإذن الله).
أجل، إنّ نتيجة ثبات القدم هي النصر المؤزّر على العدو.
ولمّا كانت حشود العدو العظيمة، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل الله أحياناً، فإنّ الآية التالية تضيف: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم)(1).
«تعس» ـ على وزن نحس ـ بمعنى الإنزلاق والهوي، وما فسّره البعض بأنّه الهلاك والإنحطاط، فهو لازمه في الواقع لا معناه.
وعلى كلّ حال، فإنّ المقارنة بين هذين الفريقين عميقة المعنى جدّاً، فالقرآن يقول في شأن المؤمنين (يثبّت أقدامهم) وفي شأن الكافرين (أضلّ أعمالهم)وبصيغة اللعنة، ليكون التعبير أبلغ وأكثر جاذبية وتأثيراً.
نعم، إنّ الكافرين إذا انزلقوا وزلّت أقدامهم، فليس هناك من يأخذ بأيديهم لينقذهم من الهلكة، بل إنّهم سينحدرون إلى الهاوية سريعاً وبسهولة، أمّا المؤمنون، فإنّ ملائكة الرحمة تهب لنجدتهم ونصرتهم، ويحفظونهم من المنزلقات والمنحدرات، كما نقرأ ذلك في موضع آخر، حيث تقول الآية (30) من سورة فصلت: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة).
إنّ أعمال المؤمنين مباركة، أمّا أعمال الكافرين فإنّها بائرة ولذلك فهي تزول وتفنى سريعاً.
وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء، وجعل أعمالهم هباءً منثوراً، فتقول: (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم).
لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كلّ شيء، إلاّ أن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.
لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة، والعفّة والتقوى، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً، واتجهوا صوب الظلم والفسّاد، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى
1 ـ «تعساً» مفعول مطلق لفعل مقدّر، والتقدير: تعسهم تعساً، وجملة (أضلّ أعمالهم) عطف على هذا الفعل المقدّر، وكلاهما بصيغة اللعنة، مثل (قاتلهم الله)، ومن الواضح أنّ اللعنة من قبل الله تعني وقوعها.
وحده: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)(1).
وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الأُمور، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير، ولقد كانت كلّ مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته، فمن الطبيعي أيضاً أن تحبط كلّ هذه الأعمال.
وجاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): «كرهوا ما أنزل الله في حق علي»(2).
ومعلوم أنّ لتعبير (ما أنزل الله) معنى واسعاً، ومسألة ولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أحد مصاديقه الواضحة، لا أنّ معناه منحصر فيها.
ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة، فقد دعاهم هنا أيضاً إلى التدبّر في أحوال الماضين، فقال: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم)؟
ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: (وللكافرين أمثالها)(3).
فلا يظنّوا أنّهم في منأى من العقاب المشابه لذلك العقاب إن هم عملوا أعمالاً تشابه أعمال الماضين، فليسيروا في الأرض ولينظروا آثار الذين من قبلهم، ثمّ لينظروا مستقبلهم من خلال سنن التأريخ.
والجدير بالإنتباه أنّ (دمّر) من مادة (تدمير)، وهي من الأصل بمعنى الإهلاك والإفناء، أمّا إذا أتت مع (على) فإنّها تعني إهلاك كلّ شيء حتى الأولاد والأهل والعشيرة والأموال الخاصّة بالإنسان(4). وعلى هذا فإنّ هذا التعبير بيان لمصيبة أليمة، خاصة بملاحظة لفظ (على) الذي يستعمل عادةً في مورد التسلط، وبذلك يصبح معنى الجملة، إنّ الله عزَّ وجلَّ قد صبَّ عذابه على رؤوس هؤلاء الأقوام
1 ـ الزمر، الآية 45.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
3 ـ ضمير «أمثالها» يعود إلى العاقبة التي تستفاد من الجملة السابقة.
4 ـ تفسير روح المعاني، وروح البيان، والفخر الرازي.
وأموالهم وكلّ ما يتعلّق بهم فأفناها جميعاً.
وقد بحثنا موضوع «السير في الأرض» ـ والذي يؤكّد عليه القرآن المجيد مراراً كبرنامج توعية مؤثر ـ بصورة مفصّلة في ذيل الآية (137) من سورة آل عمران، والآية (45) من سورة الروم.
وتناولت آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ سبب حماية الله المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم، وإهلاكه الكافرين الطغاة، فتقول: (ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم)(1).
«المولى» بمعنى الولي والناصر، وبذلك فإنّ الله سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته، ومن الواضح أنّه تعالى يعين أُولئك المستظلين بظل ولايته، ويدفع عنهم النوائب، ويزيل عن طريقهم العراقيل، ويثبّت أقدامهم، وأخيراً فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة الله ومعونته. أمّا أُولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط، وتكون عاقبتهم الهلاك.
وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ الله سبحانه مولى المؤمنين فقط، في حين أنّه سبحانه وصف في بعض آيات القرآن الأُخرى بأنّه مولى الجميع حتى الكافرين، كما في الآية (30) من سورة سورة يونس حيث تقول: (وردّوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون).
وتتّضح الإجابة على هذا السؤال بملاحظة نكتة واحدة، وهي: إنّ ولاية الله العامّة ـ وهي كونها خالقاً مدبّراً ـ تعم الجميع، أمّا الولاية الخاصّة، وعنايته الخاصة المقترنة بأنواع الحماية والنصرة، فإنّها لا تشمل إلاّ المؤمنين(2).
وقال البعض: إنّ هذه الآية أرجى آية في القرآن، لأنّها أدخلت كلّ المؤمنين،
1 ـ المشار إليه بـ(ذلك) هي عاقبة المؤمنين الحسنة، وعاقبة الكافرين المشؤومة، واللتان أشير إليهما في الآيات السابقة.
2 ـ فسّر البعض ـ كالآلوسي في روح المعاني ـ «المولى» في الآية مورد البحث بالناصر، وفي آية سورة يونس وأمثالها. بالمالك
العالم منهم والجاهل، الزاهد والراغب، الصغير والكبير، المرأة والرجل، الشاب والكهل، أدخلتهم تحت حماية الله ورعايته الخاصة، ولم تستثنِ حتى المؤمنين العاصين، فهو سبحانه يظهر رعايته في المواقف الحسّاسة واللحظات الحرجة، والحوادث والمصائب والنكبات، وكلّ فرد منّا قد أحسَّ بهذه الرعاية طيلة مدة حياته، وفي التأريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وقد ورد في حديث أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعد غزوة تحت شجرة وحيداً فحمل عليه مشرك بسيف فقال له: من يخلّصك منّي؟ فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «الله» فسقط المشرك ـ فأخذت الكافر رعدة، وهوى على الأرض ـ السيف، فأخذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال له: «فمن يخلّصك منّي»؟ قال: لا أحد، ثمّ أسلم(1).
نعم، الله مولى الذين آمنوا، وإنّ الكافرين لا مولى لهم.
* * *
1 ـ روح البيان، المجلد 8، صفحة 503.
إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاَْنْعَـمُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ( 12 ) وَكَأَيِّن مِن قَرْيَة هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ( 13 ) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم( 14 )
لمّا كانت الآيات السابقة تتحدّث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفّار من خلال مقارنة واضحة، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب، بل إنّ الإختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة، فتقول: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوى لهم)(1).
صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها، إلاّ أنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى الله تعالى. أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتّع بلذّات الحياة.
المؤمنون يتحرّكون حركة واعية هادفة، والكافرون يحيون بلا هدف، ويموتون بلا هدف، كالأنعام تماماً.
المؤمنون يضعون شروطاً كثيرة للتمتع بنعم الحياة، فهم يدقّقون في مشروعية طرق الحصول عليها، كما يدقّقون كيف ينفقونها، أمّا الكافرون فإنّهم كالدّواب لا يهمها أن يكون علفها من أرض صاحبها أو يكون مغصوباً، وسواء كان من حق يتيم أو عجوز بائسة أم لا؟
عندما يتنعّم المؤمنون بنعمة، فإنّهم يفكّرون في واهبها، ويتدبّرون في آياته، ويشكرونه عليها، أمّا الكافر الغافل فلا يفكّر في أي شيء لغفلته، وهو يضيف إلى حمله حملاً جديداً من الظلم والذنوب باستمرار، ويدني نفسه من الهلاك بعد أن تثقله الأوزار، حاله في ذلك حال الأغنام السمينة، فهي كلّما تأكل أكثر، وتسمن أكثر، تكون أقرب إلى الذبح.
وقال البعض: إنّ الفرق بين المؤمنين والكافرين، أنّ المؤمن لا يخلو أكله من ثلاث: الورع عند الطلب، واستعمال الأدب، والأكل للسبب. والكافر يطلب للنهمة، ويأكل للشهوة، وعيشه في غفلة.
وممّا يستحق الإنتباه أنّ القرآن الكريم يقول في شأن المؤمنين: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات) ويقول في الكافرين (والنّار مثوى لهم)فإنّ التعبير الأوّل يدلّ على احترام المؤمنين وتقديرهم، وإنّ الله سبحانه يدخلهم
1 ـ كما تأكل.. في محل نصب مفعول مطلق مقدّر، والتقدير: يأكلون أكلاً كما تأكل الأنعام.
الجنّة، أمّا التعبير الثّاني، فإنّه يوحي باحتقار الكفّار الذين خرجوا من ولايته، وعدم الإهتمام بهم.
واستفاد بعض المفسّرين من جملة: (والنّار مثوى لهم) ـ أي محلهم النّار ـ أنّهم الآن في النّار، لأنّ الجملة ليست بصيغة الفعل المضارع والمستقبل، وإنّما هي تخبر عن الحال.
والحقيقة كذلك، لأنّ أعمال هؤلاء وأفكارهم نار بحدِّ ذاتها، وهم مبتلون بها، وقد أحاطت بهم جهنّم من كلّ مكان، وإن كان هؤلاء الذين هم كالأنعام في غفلة، كما نقرأ ذلك في الآية (49) من سورة التوبة: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين).
وفي بعض آيات القرآن الأُخرى شبّه أصحاب النّار بالأنعام، بل هم أضلّ منها: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(1)، وقد أوردنا في ذيل هذه الآية شرحاً مفصّلاً.
ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكّة وعبدة الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول: (وكأيّن من قرية هي أشدّ قوة من قريّتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم).
فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل الله من أقدس المدن، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، والله قادر على تدميرهم بكلّ سهولة، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.
وجاء في رواية عن ابن عباس: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا خرج من مكّة إلى غار ثور، توجّه إلى مكّة وقال: «أنت أحبّ البلاد إلى الله، وأنت أحبّ البلاد إليَّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك»، فنزلت الآية أعلاه تبشّر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
1 ـ الأعراف، الآية 179.
بنصر الله، وتهدّد الأعداء بالعذاب والعقاب(1).
وطبقاً لسبب النّزول هذا تكون الآية مكيّة، لكن يبدو أنّ سبب النّزول هذا يتعلّق بالآية (85) من سورة القصص، وقد ذكره كثير من المفسّرين هناك، فهو ينسجم مع تلك الآية أكثر، إذ تقول: (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد)(2).
والملفت للنظر أنّ الآية نسبت الإخراج إلى نفس مكّة، في حين أنّ المراد أهلها، وهذه كناية لطيفة عن تسلّط فئة معيّنة، على مقدرات المدينة، وقد ورد نظير ذلك في مواضع أُخرى من القرآن المجيد.
ثمّ إنّ التعبير بالقرية ـ وكما قلنا ذلك مراراً ـ يطلق على كلّ مدينة وأرض عامرة مسكونة، ولا يخص المعنى المتعارف للقرية.
وتطرح آخر الآيات ـ مورد البحث ـ مقارنة أُخرى بين المؤمنين والكفار.. بين فئتين تختلفان في كلّ شيء، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات، وتحيا الاُخرى حياة حيوانية بكلّ معنى الكلمة.. بين فريقين، أحدهما مستظل بظل ولاية الله سبحانه، والآخر لا مولى له ولا ناصر، فتقول: (أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)؟
إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي، وهم يرون طريقهم وهدفهم بوضوح، ويسيرون نحوه بسرعة.
أمّا الفريق الثّاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون. والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات، لأنّ الهوى والشهوات تلقي الحجب
1 ـ تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6055.
2 ـ لمزيد من التفصيل حول هذا المطلب يراجع تفسير الآية (85) من سورة القصص.
على عقل الإنسان وفكره، فتصوّر له القبيح حسناً، كما نرى أناساً يفخرون بأعمالهم التي يندى لها الجبين، وهي وصمة عار في جباههم، كما جاء ذلك في الآية (103) من سورة الكهف: (قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً).
«البينة» تعني الدليل الواضح الجلي، وهي هنا إشارة إلى القرآن، ومعاجز الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدلائل العقلية الأُخرى.
ومن الواضح أنّ الإستفهام في جملة: (أفمن كان...) استفهام إنكاري، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبداً.
ولكن من الذي يزيّن أعمال السوء في أنظار عبدة الهوى ومتبعيه؟ أهو الله سبحانه، أم هم أنفسهم، أم الشياطين؟
ينبغي أن يقال: إنّها تصح جميعاً، لأنّ التزيين نسب إلى الثلاثة في آيات القرآن، فتقول الآية (4) من سورة النمل: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم).
وجاء في آيات عديدة أخرى، ومن جملتها الآية (38) من سورة العنكبوت، التي تقول: (وزيّن لهم الشيطان أعمالهم).
وظاهر الآية مورد البحث، وبملاحظة الجملة: (واتبعوا أهواءهم) أنّ هذا التزيين ناشئ عن اتباع الهوى، وقضية كون الهوى والشهوات تسلب الإنسان القدرة على الحس والتشخيص والإدراك الصحيح للحقائق، قضية يمكن إدراكها بوضوح.
إنّ نسبة التزيين إلى الشيطان ـ طبعاً ـ صحيحة أيضاً، لأنّه هو الذي ينصب المكائد ويوسوس للإنسان أن يلجها، ويزيّن له اتباع الهوى.
وأمّا نسبته إلى الله سبحانه فلأنّه مسبب الأسباب، وإليه يرجع كلّ سبب، فهو الذي أعطى النّار الأحراق، ومنح الهوى قدرة تغطية الحقائق وإلقاء الحجب عليها
لئلا يدركها من يتبعه، وقد أظهر هذا التأثير وأعلنه من قبل، ولذلك فإنّ أصل المسؤولية يرجع إلى نفس الإنسان.
ويعتقد البعض أنّ جملة: (من كان على بيّنة من ربّه) إشارة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والجملة التالية ناظرة إلى كفار مكّة، غير أنّ الظاهر هو أنّ للآية معنى واسعاً، وهذا من مصاديقه.
* * *
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَـرٌ مِنْ ماء غَيْرِ آسِن وَأَنْهـرٌ مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهـرٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّـرِبِينَ وَأَنْهَـرٌ مِنْ عَسَل مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الَّثمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَـلِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ( 15 )
إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.
وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.
تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية.
تقول الآية أوّلاً: (مثل الجنّة التي وعد المتقون فيها أنها من ماء غير آسن)(1).
«الآسن» يعني النتن، وبناءاً على هذا، فإنّ (ماء غير آسن) تعني الماء الذي لا يتغيّر طعمه ورائحته لطول بقائه وغيره ذلك، وهذا أوّل نهر من أنهار الجنّة، وفيه ماء زلال جار طيب الطعم والرائحة.
ثمّ تضيف: (وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه) وذلك أنّ الجنّة مكان لا يعتريه الفساد، ولا تتغيّر أطعمة الجنّة بمرور الزمن، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.
ثمّ تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنّة، فقالت: (وأنهار من خمر لذّة للشاربين).
وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنّة بأنّه: (وأنهار من عسل مصفّى).
وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كلّ منها لغرض، فقد تحدّثت الآية عن فواكه الجنّة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: (ولهم فيها من كلّ الثمرات)(2)فستوضع بين أيديهم وتحت تصرفهم كلّ الثمرات والفواكه المتنوّعة الطعم والرائحة، سواء التي يمكن تصوّرها، أو التي لا يمكن أن تخطر على أذهاننا اليوم ويصعب تصوّرها.
![]() |
![]() |
![]() |