![]() |
![]() |
![]() |
والتعبير بـ (الذين في قلوبهم مرض) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن
المنافقين عادةً، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها، التي تتحدّث جميعاً عن المنافقين.
وعلى أية حال، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة، فتقول: (فأولى لهم).
إنّ جملة (أولى لهم) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر(1).
وفسّرها البعض بأنّها تعني: الموت أولى لهم، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.
وتضيف الآية التالية: (طاعة وقول معروف)(2).
إنّ التعبير بـ(قول معروف) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد، فقد كانوا يقولون تارةً (لا تنفروا في الحر)(3)، وأخرى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)(4)، وثالثة كانوا يقولون: (هلمّ إلينا)(5)، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.
ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.
ثمّ تضيف الآية: (فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم) وسيرفع
1 ـ اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح: يليه مكروه، وهو يعادل معنى ويل لهم.
2 ـ (طاعة) مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل لهم، واعتبرها البعض خبراً لمبتدأ محذوف، وكان التقدير: أمرنا طاعة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
3 ـ التوبة، الآية 81.
4 ـ الأحزاب، الآية 12.
5 ـ الأحزاب، الآية 18.
رؤوسهم في الدنيا، ويمنحهم العزّة والفخر، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل، والأجر الكبير، والفوز العظيم في الآخرة.
وجملة (عزم الأمر) تشير في الأساس إلى استحكام العمل، إلاّ أنّ المراد منها هنا الجهاد، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.
وتضيف الآية التالية: (فهل عسيتم إن توليّتهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)(1) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتماً، ولم يكن في الجاهلية إلاّ الفساد في الأرض، والإغارة والقتل وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات. هذا إذا كانت «توليّتم» من مادة «تولّي» بمعنى الإعراض.
غير أنّ كثيراً من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة «ولاية»، أي: الحكومة، فيكون المعنى: إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلاّ الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.
وكأنّ جمعاً من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟
فيجيبهم القرآن قائلاً: ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم، ولم يظهر منكم إلاّ الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلاّ تذرّع وتهرّب، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة، لا الفساد في الأرض، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود، لا قطع الرحم.
وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ هذه الآية في بني
1 ـ بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم «عسى» وخبرها، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض)، والتقدير: إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلاّ الفساد في الأرض؟
أُمية الذين لم يرحموا صغيراً ولا كبيراً، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم(1).
من المعلوم أنّ بني أمية جميعاً، اتبداءً من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده، كانوا مصداقاً واضحاً لهذه الآية، وهذا هو المراد من الرواية، إذ أنّ للآية معنى واسعاً يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.
وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).
إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة للرحم، وفساداً في الأرض، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم، ولا عين ناظرة بصيرة!
ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين، أنّه قال لولده الإمام الباقر (عليه السلام): «إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله عزَّوجلّ في ثلاثة مواضع، قال الله عزَّ وجلّ: فهل عسيتم...»(2).
«الرحم» في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.
وجاء في حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثلاثة لا يدخلون الجنّة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم»(3).
1 ـ راجع: نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 40.
2 ـ أصول الكافي، المجلد 2، باب «من تكره مجالسته»، الحديث 7. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (25) من سورة الرعد، والأُخرى الآية (27) من سورة البقرة، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحاً، وفي الأُخرى كناية وتلميحاً.
3 ـ التّفسير الأمثل ذيل الآية (77) من سورة المائدة (نقلاً عن الخصال).
ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم، وطردهم من رحمته، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق، لا يستلزم الجبر، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.
وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لإنحراف هؤلاء القوم التعساء، فقالت: (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)؟
نعم، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين: إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن، برنامج الهداية الإلهية، والوصفة الطبية الشافية تماماً، أو أنّهم يتدبّرونه، إلاّ أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.
وبتعبير آخر، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات، فلا سراج في يده، ولا هو يبصر إذ هو أعمى، فلو كان معه سراج، وكان مبصراً، فإنّ الإهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.
«الأقفال» جمع قفل، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع، أو من القفيل، أي الأشياء اليابسة، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل، فكلّ من يأت يقفل راجعاً، وكذلك لمّا كان القفل شيئاً صلباً لا ينفذ فيه شيء، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.
* * *
تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر، والتدبّر في عواقب الأُمور، والإنذار، وإخراج البشر من الظلمات، والشفاء والرحمة والهداية.
فنقرأ في الآية (50) من سورة الأنبياء: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه).
وفي الآية (29) من سورة ص: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته).
وجاء في الآية (19) من سورة الأنعام: (وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).
وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
وأخيراً، جاء في الآية (82) من سورة الإسراء: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين).
ولهذا، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في صميمها لا على هامشها، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كلّ أوامره، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.
لكنّ، جماعة من المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ لا يتعاملون مع القرآن إلاّ على أنّه مجموعة أوراد وأذكار، فهم يتلونه جميعاً تلاوةً مجرّدة، ويهتمون أشدّ الإهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستوراً جامعاً لحياة البشر، واكتفوا بترديد ألفاظه، وقنعوا بذلك.
والجدير بالإنتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة: إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن، فلاقوا هذا المصير الأسود.
«التدبّر» من مادة دَبْر، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه، بعكس «التفكر» الذي يقال غالباً عن علل الشيء وأسبابه، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.
لكن، ينبغي أن لا ننسى أنّ الإستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها، وإن كان القرآن بنفسه معيناً في تهذيبها، لأنّ القلوب إذا كانت
مقفلة بأقفال الهوى والشهوة، والكبر والغرور، واللجاجة والتعصّب، فسوف لا يلجها نور الحق، وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إلى هذا المعنى.
وما أروع كلام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في خطبته حول صفات المتّقين، إذ يقول: «أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم»(1).
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير جملة: (أم على قلوب أقفالها): «إنّ لك قلباً ومسامع، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً، وهو قول الله عزَّ وجلّ: (أم على قلوب أقفالها)»(2).
* * *
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 193، المعروفة بخطبة همام.
2 ـ نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 41.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـرِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ( 25 ) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاَْمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ( 26 ) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـرَهُمْ( 27 ) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـلَهُمْ( 28 )
تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة، فتقول: (إنّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم).
وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين
كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يذكرون علامات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ظهوره، وذلك استناداً إلى ما ورد في كتبهم السماوية، وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، إلاّ أنّهم أعرضوا عنه بعد ظهوره واتضاح هذه العلامات وتحقّقها، ومنعتهم شهواتهم ومصالحهم من الإيمان به.
بالرغم من ذلك، فإنّ القرائن الموجودة في الآيات السابقة واللاحقة تبيّن جيداً أنّ هذه الآية تتحدث أيضاً عن المنافقين الذين جاؤوا ورأوا بأمّ أعينهم الدلائل الدالّة على حقانية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسمعوا آياته، إلاّ أنّهم أدبروا اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم، وطاعةً لوساوس الشيطان.
«سوّل» من مادة سُؤْل ـ على وزن قفل ـ، وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان(1)، و«التسويل» بمعنى الترغيب والتشويق إلى الأُمور التي يحرص عليها، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان، وتمنع من هدايته.
وجملة (وأملى لهم) من مادة «إملاء»، وهو زرع طول الأمل فيهم، والآمال البعيدة المدى، والتي تشغل الإنسان، فتصدّه عن الحق والهدى.
وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني، فتقول: (ذلك بأنّهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) وهذا دأب المنافقين في البحث عن العصاة والمخالفين، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كلّ المواقف، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.
بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة ـ وهم «بنو النضير» و«بنو قريظة»
1 ـ ولذلك فإنّ البعض قد فسّرها بمعنى الأمل، كما نقرأ ذلك في الآية (36) من سورة طه: (قد أوتيت سؤلك يا موسى).
الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا بعد ظهوره ومبعثه، وتعرّض مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، فإنّهم اعتبروا الإسلام ديناً باطلاً، وغير سليم ـ ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتآمرهم ضد الإسلام، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.
وربّما كان تعبير (في بعض الأمر) إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام، وتعتقدون بالبعث والقيامة، ونحن لا نتفق معكم في هذه الأُمور(1).
هذا الكلام شبيه بما جاء في الآية (11) من سورة الحشر: (ألم ترَ إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنّكم).
وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول: (والله يعلم إسرارهم) فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم، وبتآمرهم مع اليهود، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب. وعليم بما كان يخفيه اليهود من حسدهم وعدائهم وعنادهم، فقد كانوا يعرفون علامات نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يعرفون أبناءهم بشهادة كتابهم، وكانوا يذكرون هذه العلامات للناس من قبل، إلاّ أنّهم أخفوها جميعاً بعد ظهوره، والله عليم بهذا الإخفاء ومحاولة طمس الحق.
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): أنّ المراد من (كرهوا ما أنزل الله) بنو أُمية الذين كرهوا نزول أمر الله تعالى في ولاية علي (عليه السلام)(2).
1 ـ ثمّة احتمالات عديدة أُخرى في تفسير هذه الآية، لا ينسجم أي منها مع الآيات السابقة واللاحقة، ولذلك أعرضنا عن ذكرها.
2 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 105.
وواضح أنّ هذا النوع تطبيق وبيان مصداق، وليس حصراً لمعنى الآية.
والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم، فتقول: (فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)(1).
نعم، إنّ هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد، وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه.
وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (50) من سورة الأنفال حول الكفار والمنافقين: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).
وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت، فتقول: (ذلك بأنّهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).
لأنّ رضى الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكلّ سعي وجهد، وبناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تحبط أعمال أُولئك الذين يصرون على إغضاب الله عزَّ وجلّ وإسخاطه، ويخالفون ما يرتضيه، ويودعون هذه الدنيا وهم خالو الوفاض، قد أثقلتهم أوزارهم، وأرهقتهم ذنوبهم.
إنّ حال هؤلاء القوم يخالف تماماً حال المؤمنين الذين تستقبلهم الملائكة بوجوه ضاحكة عندما يشرفون على الموت، وتبشّرهم بما أعد الله لهم: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولن سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون)(2).
وممّا يلفت النظر أنّ الجملة فعلية في مورد غضب الله تعالى: (ما أسخط الله)وهي أسمية في مورد رضاه: (رضوانه)، وقال بعض المفسّرين: إنّ هذا التفاوت
1 ـ كيف، خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فكيف حالهم...
2 ـ النحل، الآية 32.
في التعبير يتضمن نكتةً لطيفة، وهي أنّ غضب الله قد يحدث وقد لا يحدث، أمّا رضاه ورحمته فهي مستمرة دائمة.
وواضح أيضاً أنّ غضب الله تعالى وسخطه لا يعني التأثر النفسي، كما أنّ رضاه سبحانه لا يعني انبساط الروح وانشراح الأسارير، بل هما كما ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): «غضب الله عقابه، ورضاه ثوابه»(1).
* * *
1 ـ توحيد الصدوق، طبق نقل الميزان، المجلد 18، صفحة 266.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لَن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَـنَهُمْ( 29 ) وَلَوْ نَشَاءُ لاََرَيْنَـكُهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيَمـهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعمَـلَكُمْ( 30 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُـجَـهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـبِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَـرَكُمْ( 31 )
تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين دائماً، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى، فتقول أوّلاً: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)(1).
«الأضغان» جمع ضِغْن، وهو الحقد الشديد.
1 ـ اعتبر البعض (أم) في الآية أعلاه استفهامية، والبعض الآخر اعتبرها منقطعة بمعنى بل، ويبدو أنّ الأوّل هو الأفضل.
نعم، لقد كانت قلوب هؤلاء مملوءة غيظاً وحقداً شديداً على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين، وكانوا يتحيّنون الفرص لإنزال الضربة بهم، فهنا يحذّرهم القرآن بأن لا يظنّوا أنّ بإمكانهم أن يخفوا وجههم الحقيقي دائماً، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.
ثمّ تضيف: (ولتعرفنّهم في لحن القول) فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم.
يقول الراغب في مفرداته: «اللحن» عبارة عن صرف الكلام عن قواعده وسننه، أو إعرابه على خلاف حاله، أو الكناية بالقول بدلاً من الصراحة. والمراد في الآية مورد البحث هو المعنى الثّالث، أي: يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.
حينما يكون الكلام عن الجهاد، فإنّهم يسعون إلى إضعاف إرادة الناس ومعنوياتهم، وحينما يكون الكلام عن الحق والعدالة، فإنّهم يحرّفونه بنحو من الأنحاء، وإذا ما أتى الحديث عن الصالحين المتّقين السابقين إلى الإسلام، فإنّهم يسعون إلى تشويه سمعتهم، وتقليل أهميتهم ومكانتهم، ولذلك روي عن «أبي سعيد الخدري» حديثه المعروف الذي يقول فيه: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب، وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب(1).
نعم، لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال، وأول مضح في سبيل الإسلام، ويبغضونه.
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث. ثمّ إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم، ومن جملتهم: أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل، وابن عبد البر في الإستيعاب، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام، وابن الأثير في جامع الاُصول، والعلاّمة الگنجي في كفاية الطالب، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة، والسيوطي في الدر المنثور، والآلوسي في روح المعاني، وأورده جماعة آخرون في كتبهم، وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلمة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) لمزيد من الإيضاح يراجع إحقاق الحق، المجلد الثّالث، صفحة 110 وما بعدها.
إنّ الإنسان لا يستطيع عادةً أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه»(1).
وقد ذكرت آيات القرآن الأُخرى كلمات المنافقين الجارحة، والتي هي مصداق للحن القول هذا، أو حركاتهم المشبوهة، ولعلّه لهذا السبب قال بعض المفسّرين: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف المنافقين جيداً، من خلال علاماتهم، بعد نزول هذه الآية.
والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أُمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعياً الله له: (ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره)(2).
لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصّةً في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف.
واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الإجتماعية المهمة، وخاصة عند الإضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 26.
2 ـ التوبة، الآية 84.
ويفضحوها.
وأخيراً تضيف الآية: (والله يعلم أعمالكم) فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن، ويعلم أعمال المنافقين، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم، وخلوتهم واجتماعهم؟
وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقاً أُخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين: (ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.
ومع أنّ لهذا الإبتلاء والإختبار أبعاداً واسعة، ومجالات رحبة تشمل الصبر والثبات في أداء كلّ الواجبات والتكاليف، ولكن المراد منه هنا الإمتحان في ساحة الحرب والقتال لمناسبته كلمة «المجاهدين»، والآيات السابقة واللاحقة، والحق أنّ ميدان الجهاد ساحة اختبار عسير وشديد، وقلّما يستطيع المرء أن يخفي واقعه في أمثال هذه الميادين.
وتقول الآية الأخيرة: (ونبلوا أخباركم).
قال كثير من المفسّرين: إنّ المراد من الأخبار هنا أعمال البشر، وذلك أن عملاً ما إذا صدر من الإنسان، فإنّه سينتشر بين الناس كخبر.
وقال آخرون: إنّ المراد من الأخبار هنا: الأسرار الداخلية، لأنّ أعمال الناس تخبر عن هذه الأسرار.
ويحتمل أن تكون الأخبار هنا بمعنى الأخبار التي يخبر بها الناس عن وضعهم وعهودهم ومواثيقهم، فالمنافقون ـ مثلاً ـ كانوا قد عاهدوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يرجعوا عن القتال، في حين أنّهم نقضوا عهدهم: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار)(1).
1 ـ الأحزاب، الآية 15.
ونراهم في موضع آخر: (ويستأذن فريق منهم النّبي يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً)(1).
وبهذا فإنّ الله سبحانه يختبر أعمال البشر، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ لهاتين الجملتين في الآية مورد البحث معنيين متفاوتين، مع أنّ إحداهما تؤكّد الأُخرى طبقاً للتفاسير السابقة.
![]() |
![]() |
![]() |