![]() |
![]() |
![]() |
وخلاصة القول: إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى، عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي، فكيف بكم إذن؟
ثمّ تضيف الآية: (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة)(3) فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً، وكانوا يدركون الأُمور جيداً، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه، لكن: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله)(4) وأخيراً: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون).
نعم، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية، وبوسائل إدراك الحقيقة، إلاّ أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الإستكبار والعناد، وكانوا يتلقون كلام
1 ـ «إن» في جملة (إن مكّناكم فيه) نافية ولدينا شواهد متعددة من آيات القرآن الكريم وردت في المتن. إلاّ أنّ البعض اعتبرها شرطية، أو زائدة ولا نرى ذلك صواباً.
2 ـ الفجر، الآيات 6 إلى 8.
3 ـ يجدر الإنتباه إلى أنّ الأبصار والأفئدة وردت بصيغة الجمع، في حين أنّ السمع قد ورد بصيغة المفرد، ويمكن أن يكون هذا الإختلاف بسبب أنّ للسمع معنى المصدر، والمصدر يستعمل دائماً بصيغة المفرد، أو لوحدة المسموعات أما تفاوت المرئيات والمدركات.
4 ـ من في (من شيء) زائدة وللتأكيد، أي لم ينفعهم أي شيء.
الأنبياء بالسخرية والإستهزاء، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة.
فإذا كان أُولئك القوم قد عجزوا عن القيام بأي عمل مع كلّ تلك القدرات والإمكانيات التي كانوا يمتلكونها، وأصبحت جثثهم الهامدة كالريشة في مهب الرياح تتقاذفهم من كلّ جانب بكلّ مذلة واحتقار، أولى لكم أن تعتبروا إذ أنتم أضعف منهم وأعجز.
وليس عسيراً على الله تعالى أن يأخذكم بأشد العذاب نتيجة أعمالكم وجرائمكم، وأن يجعل عوامل حياتكم أسباب فنائكم، وهذا خطاب لمشركي مكّة، ولكلّ البشر المغرورين الظالمين العتاة على مر التأريخ، وفي كلّ الأعصار والأمصار.
وحقاً فإنّ الأمر كما يقول القرآن الكريم، فلسنا أوّل من وطأ الأرض، فقد كان قبلنا أقوام كثيرون يعيشون فيها، ولديهم الكثير من الإمكانيات والقدرات، فكم هو جميل أن نجعل تأريخ أُولئك مرآة لأنفسنا لنعتبر به، ولنرى من خلاله مستقبلنا ومصيرنا.
ثمّ تخاطب الآية مشركي مكّة من أجل التأكيد على هذا المعنى، ولزيادة الموعظة والنصيحة، فتقول: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى).
أُولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيراً عنكم، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب، فقوم عاد كانوا يعيشون في أرض الأحقاف في جنوب الجزيرة، وقوم ثمود في أرض يقال لها «حجر» في شمالها، وقوم سبأ الذين لاقوا ذلك المصير المؤلم في أرض اليمن، وقوم شعيب في أرض مدين في طريقكم الشام، وكان قوم لوط يعيشون في هذه المنطقة، وابتلوا بأنواع العذاب لكثرة معاصيهم وكفرهم.
لقد كان كلّ قوم من أُولئك عبرة، وكان كلّ منهم شاهداً ناطقاً معبراً، يسأل: كيف لا يستيقظ هؤلاء ولا يعون مع كلّ وسائل التوعية هذه؟!
ثمّ تضيف الآية بعد ذلك: (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) فتارة أريناهم المعجزات وخوارق العادات، وأُخرى أنعمنا عليهم، وثالثة بلوناهم بالبلاء والمصائب، ورابعة عن طريق وصف الصالحين المحسنين، وأخرى بوصف المجرمين، وأخرى وعظناهم بعذاب الإستئصال الذي أهلكنا به الآخرين. إلاّ أنّ الكبر والغرور والعجب لم يدع لهؤلاء سبيلاً إلى الهداية.
وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة، وتذمهم بهذا البيان: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة)(1).
حقّاً، إذا كانت هذه آلهة على حق، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.
ثمّ تضيف: (بل ضلوا عنهم) فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية، والتي ليست مبدأ لأي أثر، ولا تأتي بأي فائدة، وهي عند العسر صماء عمياء، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلاً لها؟
وأخيراً تقول الآية: (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) فإنّ هذا الهلاك والشقاء، وهذا العذاب الأليم، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر، كان نتيجةً لأكاذيب أُولئك وأوهامهم وافتراءاتهم(2).
* * *
1 ـ المفعول الأوّل لـ (اتخذوا) محذوف، و(آلهة) مفعولها الثاني، و(قرباناً) حال، والتقدير: اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونهم متقرباً بهم، ويحتمل أيضاً أن تكون (قرباناً) مفعولاً لأجله. وقد احتملت احتمالات أُخرى في تركيب الآية، لكنّها لا تستحق الإهتمام.
2 ـ بناءً على هذا فإنّ للآية محذوفاً، والتقدير: وذلك نتيجة إفكهم. ويحتمل أيضاً أن لا يحتاج الآية إلى محذوف، وفي هذه الحالة يصبح المعنى: كان هذا كذبهم وافتراءهم، غير أنّ المعنى الأوّل يبدو هو الأنسب.
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْ إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ( 29 ) قَالُواْ يَـقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم( 30 ) يَـقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِنْ عَذَاب أَلِيم( 31 ) وَمَن لاَ يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِى الاَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَـئِكَ فِى ضَلَـل مُبِين( 32 )
وردت روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآيات، ومن جملتها: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من مكّة إلى سوق عكاظ في الطائف ـ وكان معه زيد بن حارثة ـ من أجل أن يدعو الناس إلى الإسلام، إلاّ أنّ أحداً لم يجبه، فاضطر الى الرجوع إلى مكّة، وفي طريق عودته وصل إلى موضع يقال له: وادي الجن، فبدأ بتلاوة القرآن
في جوف الليل، وكانت طائفة من الجن يمرون من هناك، فلما سمعوا قراءة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن أصغوا إليه وقال بعضهم لبعض: اسكتوا وأنصتوا، فلما أتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلاوته آمنوا به، وأتوا قومهم كرسل يدعونهم إلى الإسلام، فآمن لهم جماعة، وأتوا جميعاً الى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعلّمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام، فنزلت هذه الآيات وآيات سورة الجن(1).
ونقل جماعة عن ابن عباس سبب نزول آخر يقرب من سبب النّزول السابق، باختلاف: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشتغلاً بصلاة الصبح وكان يقرأ القرآن فيها، وكان جماعة من الجن في حالة بحث وتحقيق، إذ كان انقطاع أخبار السماء عنهم قد أقلقهم، فسمعوا صوت تلاوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: هذا سبب انقطاع أخبار السماء عنّا، فرجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الإسلام(2).
وقد أورد العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان سبباً ثالثاً للنزول هنا، وهو يرتبط بقصة سفر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف وخلاصته:
بعد وفاة أبي طالب صعب الأمر على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فرحل إلى الطائف لعله يجد أنصاراً، فبرز إليه أشراف الطائف وكذّبوه أشدّ تكذيب، ورموا النّبي بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه، فأعياه التعب، فأتى إلى جنب بستان واستظل بظل نخلة، وكانت الدماء تسيل منه.
وكان البستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وكانا من أثرياء قريش، فتأذى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من رؤيتهما لعلمه بعدائهما للإسلام من قبل، فأرسلا غلامهما «عداساً» ـ وكان رجلاً نصرانياً ـ إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطبق من العنب، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لعداس: «من أي أرض أنت»؟ قال: من نينوى، قال: «من مدينة العبد الصالح يونس بن
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 19، باختصار يسير.
2 ـ ورد هذا الحديث الذي أوردنا ملخصه في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بصورة مفصلة، طبقاً لنقل في ظلال القرآن، المجلد 7، صفحة 429.
متى»، فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: «أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى» فعرف عداس صدق النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فخرّ ساجداً لله تعالى، ووقع على قدمي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبلهما.
فلما رجع لامه عتبة وشيبة على ما صنع، فقال: لقد أخبرني هذا الرجل الصالح بما يجهله أهل هذه البلاد من أمر نبيّنا يونس، فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك، فإنّه رجل خداع!
فرجع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكّة، ولم يكن حاصل سفره هذا إلاّ مؤمن واحد، فوصل نخلاً في جوف الليل، فما إن حلّ حتى تهيّأ للصلاة، وكان جماعة من الجن من أهل نصيبين أو اليمن يمرون من هناك، فسمعوا صوت تلاوة القرآن في صلاة الصبح فأصغوا إليه وآمنوا(1).
* * *
جاء في هذه الآيات ـ وكما أُشير في سبب النّزول ـ بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه السماوي، لتوضح لمشركي مكّة حقيقة، هي: كيف تؤمن طائفة من الجن البعيدين ـ ظاهراً ـ بهذا النبي الذي هو من الإنس، وبعث من بين أظهركم، وأنتم تصرون على الكفر، وتستمرون في عنادكم ومخالفتكم؟
وسيكون لنا بحث مفصل حول (الجن) وخصوصياته في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى، ونتناول هنا تفسير الآيات مورد البحث فقط.
1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 92. وأورد هذه القصة باختلاف يسير ابن هشام في تأريخه (السيرة النبوية)، المجلد 2، صفحة 62 ـ 63.
لقد كانت قصة قوم عاد تحذيراً لمشركي مكّة في الحقيقة، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيراً آخر.
تقول الآية أوّلاً: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن).
إنّ التعبير بـ (صرفنا) ـ من مادة صرف، يعني نقل الشيء وتبديله من حالة إلى اُخرى ـ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع، ومع ظهور نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن.
و«النفر» كما يقول الراغب في مفرداته ـ عدّة رجال يمكنهم النفر، والمشهور بين أرباب اللغة أنّه الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، وأوصلها البعض إلى الأربعين.
ثمّ تضيف الآية: (فلمّا حضروه قالوا أنصتوا) وذلك حينما كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يتلو آيات القرآن في جوف الليل، أو في صلاة الصبح.
«انصتوا» من مادة إنصات، وهو السكوت مع الإستماع والإنتباه.
وأخيراً أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقاً، ولذلك: (فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين) وهذا دأب المؤمنين دائماً، في أن يطلعوا الآخرين على الحقائق التي اطلعوا عليها، ويدلوهم على مصادر إيمانهم ومنابعه الفياضة.
وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: (قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى).
ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: (مصدقاً لما بين يديه)(1).
وصفته الأُخرى أنّه: (يهدي إلى الحق) بحيث أنّ كلّ من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.
1 ـ لقد أوردنا تفسير هذه الجملة مفصلاً في ذيل الآية 41 من سورة البقرة.
وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد: (والى طريق مستقيم).
إنّ التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم، يكمن ظاهراً في أنّ الأوّل إشارة إلى العقائد الحقة، والثّاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.
وجملة: (أنزل من بعد موسى) وجملة: (مصدقاً لما بين يديه) تؤيدان أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة، وخاصة كتاب موسى (عليه السلام)، وكانوا يبحثون عن الحق.
وإذا رأينا أنّ الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسى (عليه السلام)، فليس ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أنّ الجن لم يكونوا مطلعين على نزول الإنجيل مطلقاً، إذ أنّ الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها، فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أنّ التوراة كانت هي الكتاب الأساسي، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام شريعتهم عنها.
ثمّ أضافوا: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين: (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم)(1).
المراد من: (داعي الله) نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه، ولما كان أغلب خوف الإنسان واضطرابه من الذنوب وعذاب القيامة الأليم، فقد ذكروا لهم الأمن تجاه هذين الأمرين، ليلفت انتباههم قبل كلّ شيء.
واعتبر جمع من المفسّرين كلمة (من) في (من ذنوبكم) زائدة، ليكون ذلك تأكيداً على غفران جميع الذنوب في ظل الإيمان. في حين اعتبرها البعض تبعيضية، وأنّها إشارة إلى تلك الذنوب التي اقترفوها قبل إيمانهم، أو الذنوب التي تتعلق بالله سبحانه، لا بحق الناس.
غير أنّ الأنسب هو كون (من) زائدة وللتأكيد، والآية الشريفة تشمل كلّ
1 ـ «يجركم» من مادة (إجارة)، وقد وردت بمعان مختلفة: الإغاثة، الإنقاذ من العذاب الإيواء، والحفظ.
الذنوب.
وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ كلام مبلغي الجن، فتقول: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء) ينصرونه من عذاب الله، ولذلك فإنّ: (أُولئك في ضلال مبين).
أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبيّ الله، بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كلّ عالم الوجود، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!
وقد قلنا مراراً: إنّ (معجز) ـ أو سائر مشتقات هذه الكلمة ـ تعني في مثل هذه الموارد العجز عن المطاردة والتعقيب والمجازاة، وبتعبير آخر: الفرار من قبضة العقاب.
وعبارة (في الأرض) إشارة إلى أنّكم حيثما تذهبون في الأرض فإنّه ملك الله وسلطانه، ولا يمكن أن تكونوا خارج حدود قدرته وقبضته، وإذا كانت الآية لا تتحدث عن السماء، فلأنّ مكان الإنس والجن هو الأرض على كلّ حال.
* * *
كما قلنا سابقاً، فإنّ البحث حول الجن وكيفية حياتهم والخصوصيات الاُخرى المتعلقة بهم ستأتي في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى، والذي يستفاد من هذه الآيات أنّ الجن موجودات عاقلة لها إدراك وشعور، وهم مكلّفون بالواجبات الإلهية، وفيهم المؤمن والكافر، ولديهم الإطلاع الكافي على الدعوات الإلهية.
والمسألة الملفتة للنظر في هذه الآيات هو الأسلوب الذي اتبعه هؤلاء للتبليغ من أجل الإسلام بين قومهم، فهم بعد حضورهم عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وسماعهم آيات
القرآن، وإطلاعهم على محتواها، أتوا قومهم مسرعين وشرعوا بدعوتهم.
لقد تحدّثوا أوّلاً عن كون القرآن حقّاً، وأثبتوا ذلك بأدلة ثلاثة، ثمّ بدأوا بترغيبهم، فبشروهم بالنجاة والخلاص من قبضة عذاب الآخرة في ظل الإيمان بهذا الكتاب السماوي، وكان ذلك تأكيداً على مسألة المعاد من جانب، وصرف الإهتمام إلى قيم الآخرة الأصيلة في مقابل قيم الدنيا الزائلة الفانية من جانب آخر.
ثمّ نبّهوهم في المرحلة الثّالثة على أخطار ترك الإيمان، وحذروهم تحذيراً مقترناً بالإستدلال والحرص، وأخيراً بيّنوا لهم عاقبة الإنحراف عن هذا المسير، فالإنحراف عنه هو الضلال المبين.
إنّ هذا الأسلوب في التبليغ والإعلام أُسلوب مؤثر نافع لكلّ فرد ولكلّ فئة.
يظهر جلياً من الآيات أعلاه ـ وآيات سورة الجن ـ أنّ هذه الفرقة من الجن قد انجذبوا إلى القرآن وانشدوا إليه بمجرّد سماع آياته، ولا يوجد أي دليل على أنّهم قد طلبوا من نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزة أُخرى.
لقد اعتبر هؤلاء انسجام القرآن المجيد مع آيات الكتب السابقة من جهة، وأنّه يدعو الى الحق من جهة ثانية، واستقامة برامجه العملية وتخطيطه من جهة ثالثة، كافياً لأن يدل على كونه حقّاً.
والحق أنّ الأمر كذلك، فإنّ التدبّر في محتوى القرآن والتحقيق فيه يغنينا عن الحاجة إلى أي دليل آخر.
إنّ كتاباً لشخص أُمي لم يدرس، وفي محيط مليء بالجهل والخرافات، يكون فيه هذا المحتوى السامي، والعقائد الطاهرة النقية، والتوحيد الخالص، والقوانين المحكمة المنسجمة، والإستدلالات القوية القاطعة، والبرامج المتينة البنّاءة،
والمواعظ والإرشادات العالية الجلية، وبتلك الجاذبية القوية، والجمال المذهل، كل ذلك يشكل بنفسه أفضل دليل على حقانية هذا الكتاب السماوي، فإنّ ظهور الشمس دليل على ظهورها ـ كما يقول المثل ـ(1).
* * *
1 ـ كان لنا بحث مفصّل حول إعجاز القرآن في التّفسير الأمثل، ذيل الآية (23) من سورة البقرة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـدِر عَلَى أَن يُحِْىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ( 33 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هـذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ( 34 ) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَهَار بَلَـغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَـسِقُونَ( 35 )
تواصل هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الأحقاف ـ البحث حول المعاد، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن. هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد، وعظمة القرآن المجيد، وإثبات نبوة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الإعتقادية الثلاثة.
تقول الآية الأولى: (أوَ لم يروا أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنّه على كلّ شيء قدير) فإنّ خلق السماوات والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كلّ شيء، لأنّ كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يكون عاجزاً عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحدِّ ذاته دليل قاطع مفحم على مسألة إمكان المعاد.
وأساساً فإنّ أفضل دليل على إمكان أي شيء وقوعه، فكيف ندع إلى أنفسنا سبيلاً للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات الحية وتولدها من موجودات ميتة، وعلى هذا النطاق الواسع؟
هذا أحد أدلة المعاد العدديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة، ومن جملتها الآية (81) من سورة يس(1).
وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد، فتقول: (ويوم يعرض الذين كفروا على النّار).
أجل، فمرّة تُعرض النّار على الكافرين، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات.
وعندما يعرضون الكافرين على النّار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم: (أليس هذا بالحق)؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلاّ أساطير الأولين؟
1 ـ طالع التفصيل حول هذا الموضوع، وأدلّة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس.
غير أنّ أُولئك الذين لا حيلة لهم: (قالوا بلى وربّنا) فهنا يقول الله سبحانه، أو ملائكة العذاب: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأُم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلاّ الهم والحسرة، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.
ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر آية في سورة الأحقاف، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين، أن: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا، فنبيّ الله العظيم نوح (عليه السلام) دعا قومه (950) سنة، ولم يؤمن به إلاّ فئة قليلة، وكان قومه يؤذونه دائماً، ويسخرون منه.
وألقوا إبراهيم (عليه السلام) في النّار، وهددوا موسى (عليه السلام) بالقتل، وكان قلبه قد امتلأ قيحاً من عصيانهم، وكانوا يريدون قتل المسيح (عليه السلام) بعد أن آذوه كثيراً، فأنجاه الله منهم.
وخلاصة القول: إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والإستقامة والثبات.
هناك بحث واختلاف كبير جدّاً بين المفسّرين في: مَن هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم)، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم.
«العزم» بمعنى الإرادة الصلبة القوية، ويقول الراغب في مفرداته: إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر.
وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحياناً، كقوله
تعالى: (ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأُمور)(1).
وجاءت أحياناً بمعنى الوفاء بالعهد، كقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)(2).
لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر، وواجهوا مصاعب أشد، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً. وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)من هذه الفئة، لأنّها تقول: (فاصبر كما صبر أولو العزم).
وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة، وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة.
وعلى أية حال، فطبقاً لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية، وإشارة الى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة، وهم الذين أشارت إليهم الآية 7 من سورة الأحزاب: (وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً).
فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع، وهذا دليل على خصوصيتهم.
وتتحدث الآية (13) من سورة الشورى عنهم أيضاً، فتقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى).
وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر
1 ـ الشورى، الآية 43.
2 ـ سورة طه، الآية 115.
والصادق عليهما السلام: «ومنهم خمسة: أولهم نوح، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى، ثمّ عيسى،ثمّ محمّد»(1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد». وعندما يسأل الراوي: لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمام (عليه السلام) مجيباً: «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها، وجنّها وإنسها»(2).
وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «سادة النبيّين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد»(3).
وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضاً، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة(4).
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أُمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم.
واعتبر البعض عددهم (313) نفراً(5)، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة(6) صلبة وطبقاً لهذا القول، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعاً، وتؤيده الروايات الإسلامية.
ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك: (ولا تستعجل لهم) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل
![]() |
![]() |
![]() |