هنا ينبغي أن يشمل لطف الله حال المسلمين وأن يُنزل عليهم السكينة والإطمئنان وأن لا يوجد في قلوبهم الضعف والفتور فحسب، بل (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)وتنطبق مصداقية الآية عليهم، فإنّ الآية نزلت في مثل هذه الظروف.

«السكينة» في الأصل مشتقة من «السكون»، ومعناها الأطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث!

وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيلُ ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة والصبر.

وبالطبع فإنّ البحوث السابقة وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

في حين أنّها في الآية (248) من سورة البقرة في قصة «طالوت وجالوت» تعوّل على الأسس العملية أكثر!

وقد ذكر جماعة من المفسّرين معاني أُخرَ للسكينة وترجع في نهايتها إلى هذا التّفسير أيضاً.

الطريف أنّ «السكينة» في بعض الرّوايات فسّرت بالإيمان(1) كما فُسّرت في بعضها بنسيم الجنّة الذي يبدو في هيئة الإنسان ويمنح المؤمنين الإطمئنان(2)!

وكل هذه التفاسير تأييد لما قلناه، لأنّ السكينة وليدة الإيمان، وهي تهب الإطمئنان كنسيم الجنّة!

وينبغي الإلتفات أيضاً إلى هذه اللطيفة في شأن السكينة، إذ عُبّر عنها بالإنزال (هو الذي أنزل السكينة) ونعلم أنّ هذا التعبير في القرآن قد يعني الخلق والإيجاد وإيلاء النعمة أحياناً.. وحيث أنّها من عال إلى دان فقد ورد في شأنها التعبير بالإنزال!.

* * *


1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص114.

2 ـ المصدر السابق.

[429]

ملاحظات

1 ـ السكينة التي لا نظير لها!

إذا لم يكن للإيمان أية ثمرة سوى مسألة السكينة لكان على الإنسان أن يتقبَّله! فكيف به وهو يرى آثاره وثمراته وبركاته!.

والتحقيق في حال المؤمنين وحال غير المؤمنين يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّ الفئة الثّانية يعانون حالة الاضطراب والقلق الدائم، في حين أنّ الجماعة الأولى في اطمئنان خاطر عديم النظير..

وفي ظل الإطمئنان، فإنّهم (لا يخشون أحداً إلاّ الله)(1).

كما أنّهم في مواصلة نهجهم لا يؤثر اللوم والتهديد فيهم أبداً (ولا يخافون لومة لائم)(2).

وهم يتمسّكون بأصلين مهمّين في حفظ هذه السكينة، وهما: عدم الحزن على ما فاتهم، وعدم التعلّق والفرح بما لديهم، فهم مصداق لقوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(3).

وأخيراً فإنّهم لا يضعفوا أبداً أمام الشدائد، ولا يركعوا مقابل الأعداء ويتحلّون بشعار (ولا تهنو ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)(4).

إنّ المؤمن لا يرى نفسه وحيداً في ميدان الخطوب والحوداث بل يحسّ بيد الله على رأسه ويلمس إعانة الملائكة ونصرتهم له، في حين أنّ غير المؤمنين يحكمهم الإضطراب في أحاديثهم وسلوكهم ولا سيما عند هبوب العواصف وطوفان الأحداث إذ يُرى كلّ ذلك منهم بصورة بيّنة!


1 ـ الأحزاب، الآية 39.

2 ـ المائدة، الآية 54.

3 ـ الحديد، الآية 23.

4 ـ آل عمران، الآية 139.

[430]

2 ـ سلسلة مراتب الإيمان:

الإيمان، سواءً بمعنى العلم والمعرفة، أم روح التسليم والاذعان للحق فإنّ له درجات وسلسلة مراتب، لأنّ العلم له درجات، والتسليم والاذعان لهما درجات مختلفة أيضاً، حتى العشق والحب الذي هو توأم الإيمان يتفاوت من حالة إلى أُخرى!

فالآية محل البحث التي تقول: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.. وعلى هذا فلا ينبغي للمؤمن أن يتوقّف في مرحلة واحدة من مراحل الإيمان، بل عليه أن يتسامى إلى درجاته العليا عن طريق بناء شخصيّته والعلم والعمل.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه قال: «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة»(1).

كما نقرأ عنه حديثاً آخر إذ قال: «إنّ الله عزَّ وجلَّ وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم فمن جعل فيه السبعة الأسهم فهو كامل محتمِلٌ وقسّم لبعض الناس السهم والسهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى (الـ) سبعة».

ثمّ يضيف الإمامُ (عليه السلام): «لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فَتبهضوهم».. ثمّ قال كذلك حتى انتهى إلى (الـ) سبعة(2).

ومن هنا يتّضح ما نُقل عن بعضهم أنّ الإيمان ليس فيه زيادة ولا نقصان  لا أساس له، لأنّه لا ينسجم مع الثوابت العلميّة ولا مع الرّوايات الإسلامية!.


1 ـ بحار الأنوار، ج69، ص165.

2 ـ الكافي، ج2، باب درجات الإيمان، حديث1.

[431]

3 ـ ركني السكينة:

قرأنا في ذيل الآية محل البحث جملتين، كلٌّ منهما تمثّل ركناً من أركان «السكينة» والإطمئنان للمؤمنين.

فالأُولى جملة (ولله جنود السماوات والأرض).

والأُخرى جملة (وكان الله عليماً حكيماً).

فالأُولى تقول للإنسان: إذا كنت مع الله فإنّ جميع ما في الأرض والسماء معك!.

والأُخرى تقول: إنّ الله يعلم حاجاتك ومشاكلك كما يعلم سعيك وطاعتك وعبادتك.

ومع الإيمان بهذين «الأصلين» كيف يمكن أن لا يحكم الإطمئنان وسكينة القلب وجود الإنسان!

 

* * *

[432]

 

 

 

 

الآيات

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ جَنَّات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً( 5 ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَـفِقِينَ وَالْمُنَـفِقَـتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً( 6 ) وَللهِِ جُنُودُ السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً( 7 )

 

التّفسير

نتيجة أُخرى من الفتح المُبين:

نقل جماعة من مفسّري الشيعة وأهل السنّة أنّه حين بشّر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)«بالفتح المبين» و«إتمام النعمة» و«الهداية» و«النصرة».. قال بعض المسلمين ممّن كان مستاءً من صلح الحديبيّة: هنيئاً لك يا رسول الله! لقد بيّن لك الله ماذا يفعل بك! فماذ يفعل بنا فنزلت الآية (ليُدخل المؤمنين والمؤمنات)(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآيات تتحدّث عن علاقة صلح الحديبيّة وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كلّ من الفريقين اللذينِ أُمتحنا في هذه «البوتقة» والمختبر ـ فتقول الآية الأولى من هذه الأيات محل البحث (ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها). فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً..

وإضافة إلى ذلك فإنّ الله يعفو عنهم (ويكفّر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً)(2).

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عُظُمَييْن هما «الجنّة خالدين فيها» و«التكفيرُ عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!.

وكلمة «الفوز» التي توصف في القرآن غالباً بـ «العظيم» وأحياناً توصف بـ«المبين» أو «الكبير» بناءً على ما يقول «الراغب» في «مفرداته» معناها الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة، وذلك في صورة ما لو كان فيه النجاة في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.

وطبقاً للرواية المعروفة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين ضربه اللعين عبد الرحمن بن ملجم في محراب العبادة بالسيف على أمّ رأسه قال هاتفاً «فزت وربِّ الكعبة» وكأنّه يقول فزت بأنّي أمضيت خَتم صحيفتي بدم رأسي.

أجلْ قد تبلغ الامتحانات الإلهية درجةً أن تضعضع الإيمان الضعيف وتغيّر القلوب، وإنّما يثبت المؤمنين الصادقون الذين تحلّوا بالسكينة والإطمئنان وسينعمون في يوم القيامة بنتائجه، وذلك هو الفوز العظيم حقّاً!.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدّث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول: (ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السوء).

أجلْ، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين كما تتحدّث عنهم الآية (12) من هذه السورة ذاتها فتقول: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرّسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً).

كما ظنّ المشركون أيضاً أنّ محمّداً لن يعود إلى المدينة سالماً مع قلّة العَدد والعُدد وسيأفل كوكب الإسلام عاجلاً.. ثمّ يفصل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فَيقول أوّلاً: (عليهم دائرة السوء)(3).

«الدائرة» في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته، فهي أعم من أن تكون حسنةً أو سيئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة «السوء» يُراد منها الحوادث غير المطلوبة!.

وثانياً: (وغضب اللّه عليهم).

وثالثاً: (ولعنهم).

ورابعاً وأخيراً: فإنّه بالمرصاد (وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً).

والذي يسترعي الإنتباء أنّه في الحديبيّة كان أغلبُ الحاضرين من المسلمين رجالاً، وفي مقابلهم من المنافقين والمشركين رجالاً أيضاً، غير أنّ الآيات الآنفة أشركت الرجال والنساء في ذلك الفوز العظيم، وهذا العذاب الأليم، وذلك لأنّ الرجال المؤمنين أو المنافقين الذين يقاتلون في «ساحات القتال» لا يحقّقون أهدافهم إلاّ أن تدعمهم النساء بالدعم اللازم.

وأساساً فإنّ الإسلام ليس دين الرجال فحسب فيُهمل شخصيّة المرأة، بل يهتمّ بها، في كلّ موطن يوهم الكلام بالاقتصار على الرجل مع عدم ذكر المرأة فيه يصرّح بذكرها ليُعلَم أنّ الإسلام دين الجميع دون استثناء رجالاً ونساءً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة أُخرى إلى عظمة قدرة الله فتقول الآية: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً).

وقد ورد هذا التعبير مرّةً في ذيل مقامات أهل الإيمان ومواهبهم، ومرّةً هنا في ذيل الآية التي تحكي عن عقاب المنافقين والمشركين.. ليتّضح أنّ الله الذي له جنود السماوات والأرض جميعاً قادر على الأمرين، فهو قادرٌ أن تشمل رحمته مستحقيها من عباده الصالحين وناصريه، كما أنّه قادر على أن ينزل غضبه وانتقامه ناراً تحرق المجرمين.

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف الله بالعلم والحكمة، وهما يناسبان مقام الرحمة، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف الله بالعزة والحكمة، وهما يناسبان العذاب!


1 ـ تفسير المراغي، ج26، ص85 وتفسير أبو الفتوح الرازي، ج10، ص26 وتفسير روح المعاني للآلوسي، ج26، ص86.

2 ـ طبقاً لهذا البيان فإنّ جملتي «ليدخل» وكذلك «ويعذّب» اللتين هما في الآية التالية معطوفان على جملة ليغفر، وقد اختار جماعة من المفسّرين هذا الرأي كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، غير أنّ جماعة آخرين قالوا أنّ ما سبق آنفاً معطوف على جملة ليزدادوا إيماناً وهذا لا ينسجم مع شأن النّزول ولا مجازاة الكفّار.

3 ـ «سَوْء» على زنة «نوع» كما يقول صاحب صحاح اللغة فيه معنى مصدري، والسُوء) على وزن (نُور) اسم مصدر، غير أنّ صاحب الكشّاف يقول أنّ كليهما، بمعنى واحد.

[435]

ما المراد من «جنود السماوات والأرض»؟!

هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة «وهي من جنود السماء» كما يشمل جنوداً أُخرَ كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئاً.. لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود الله وهي مطيعة لأوامره!.

 

من هم الظانّون بالله ظنّ السوء؟!

قد يكون سوء الظن تارةً بالنفس، وقد يكون سوء الظن بالآخرين، كما قد يكون بالله، وبهذا التقسيم وعلى منواله يكون «حسن الظن» أيضاً.

أمّا سوء الظن بالنفس إذا لم يبلغ درجة الإفراط فهو سلّم إلى التكامل ويدفع الإنسان إلى التدقيق في أعماله والإخلاص فيها، ويكون حاجزاً عن العجب والغرور منه عند قيامه بالأعمال الصالحة.

وبهذا فإنّ الإمام علياً(عليه السلام) يصف المتّقين في جوابه لهمّام قائلاً: «فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زُكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي منّي بنفسي، اللّهمَّ لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل ممّا يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون»(1).

وإذا كان سوء الظن بالناس فهو ممنوع إلاّ أن يغلب الفساد في المجتمع حيث  لا ينبغي هناك حسن الظن «وسيأتي بيان هذا الموضوع بإذن الله ذيل الآية 12 من سورة الحجرات».

أمّا سوء الظن بالله أي سوء الظن بوعده أو رحمته وكرمه الذي لا حدَّ له فهو قبيح ومذموم، وقد يدلّ على ضعف الإيمان وربّما دلّ على عدم الإيمان!

ويشير القرآن عدّة مرّات إلى سوء ظنّ ضعافِ الإيمان أو عديمي الإيمان.. وخاصةً عند بروز الحوادث الإجتماعية الصعبة وطوفان الإبتلاء والامتحان، وكيف أنّ المؤمنين يبقون ثابتي الأقدام عند هذه الحوادث وهم في كمال حسن الظن والإطمئنان بلطف الله.. ولكنّ ضعيفي الإيمان يطلقون لسان الشكوى، كما كان ذلك في قصة الحديبيّة، حيث إنّ المنافقين ومن على شاكلتهم أساءوا الظنّ، وقالوا أنّ محمّداً وأصحابه يمضون في سفرهم هذا ولا يعودون بعده، فكأنّهم نسوا وعود الله أو أنّهم اتهموها.

والنموذج الآخر ما حدث في ساحة يوم الأحزاب حين زلزل المسلمون زلزالاً شديداً ووقعوا تحت التأثير والمحنة الصعبة فهناك ذمّ الله المسيئين الظنّ به فقال: (إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)(2).

وقد عبّرت الآية (154) من سورة آل عمران عن مثل هذه الظنون بـ «ظنّ الجاهلية».

وعلى كلّ حال، فإنّ حسن الظن بالله ورحمته ووعده وكرمه ولطفه وعنايته من علائم الإيمان المهمّة ومن الأسباب المؤثّرة في النجاة والسعادة!.

حتى أنّه ورد في بعض أحاديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «ليس من عبد يظنّ بالله خيراً إلاّ كان عند ظنّه به»(3).

كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «أحسن بالله الظن فإنّ الله عزَّ وجلَّ يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خير فخير وإن شر فشر»(4).

وأخيراً فقد ورد حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «إنّ حسن الظنّ بالله عزَّ وجلَّ ثمن الجنّة»(5)!.

فأي قيمة أيسر من هذا.. وأيُّ متاع أعظم قيمةً منه!؟

 

* * *


1 ـ نهج البلاغة.

2 ـ الأحزاب، الآيتان 10 ـ 11.

3 ـ بحار الأنوار، ج70، ص384.

4 ـ بحار الأنوار ج70، ص385.

5 ـ المصدر السابق.

[438]

 

 

 

 

الآيات

إِنَّا أَرْسَلْنَـكَ شَـهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً( 8 ) لِتُؤْمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَـهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً( 10 )

 

التّفسير

مكانة النّبي وواجب الناس تجاهه!

قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدّة على صلح الحديبيّة وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الإحترام بالنسبة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان مجموع هذه الأُمور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّةً أُخرى على عظمة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وجلالة قدره!.

لذلك فإنّ الآية الأولى من الآيات أعلاه تخاطب النّبي فتقول: (إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً).

وهذه ثلاثة أوصاف بارزة هي من أهم ما يتمتّع به النّبي من صفات ومقام. كونه «شاهداً» و«مبشّراً»، و«نذيراً».

«شاهداً» على جميع الأمّة الإسلامية، بل هو شاهد على جميع الأمم كما نقرأ هذا التعبير في الآية (41) من سورة النساء (فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).

ونقرأ في الآية (5) من سورة التوبة قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

وأساساً فإنّ لكلّ إنسان شهوداً كثيرين!.

أولهم اللّه الذي هو عالم الغيب والشهادة المطّلع على جميع أعماله ونيّاته!.

ومن بعده الملائكة المأمورون بحفظ أعماله كما ورد التعبير في الآية (21) من سورة (ق) (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

ثمّ أعضاء بدن الإنسان وحتى جلده شاهد عليه.. (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)(1).

وجاء في الآية 21 من سورة فصلت في هذا الصدد أيضاً: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كلّ شيء).

و«الأرض» أيضاً، من زمرة الشهود وكما جاء في سورة الزلزلة (يومئذ تحدّث أخبارها).

وطبقاً لبعض الروايات فإنّ «الزمان» أحد الشهود أيضاً، إذ نقرأ في بعض أحاديث الإمام علي (عليه السلام) قوله: «ما من يوم يمرّ على بني آدم إلاّ قال له ذلك اليوم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فافعل فيّ خيراً واعمل فيّ خيراً، اشهدُ لك يوم القيامة فإنّك لن تراني بعد هذا أبداً»(2)،(3).

ولاشك أنّ شهادة الله وحدها كافية، لكنّ تعدّد الشهود فيه إتمام للحجّة أكثر وله أثر تربويّ ـ أقوى ـ في الناس..

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم بيّن هذه الأوصاف الثلاثة وهي الشهادة والبشارة والانذار التي هي من الأوصاف الأساسية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لتكون مقدمة لما ورد في الآية التي بعدها.

وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمّة ـ هي في الحقيقة بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً: وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر منها في «طاعة» رسوله و«الدفاع عنه» و«تعظيم مقامه»، إذ تقول الآية: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزّروه وتوقّروه وتسبّحوه بكرةً وأصيلاً).

كلمة «تعزّروه» مشتقة من مادة تعزير، وهو في الأصل يعني «المنع» ثمّ توسّعوا فيه فأطلق على كلّ دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب «التعزير» أيضاً.

وكلمة «توقّروه» مشتقة من مادة توقير، وجذورها «الوقر» ومعناها الثِقَل.. فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.

وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الضميرين في «تعزّروه» و«توقّروه» يعودان على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه «وقد اختار هذا التّفسير الشيخ الطوسي في «التبيان» و«الطبرسي» في مجمع البيان وغيرهما أيضاً».

غير أنّ جماعة من المفسّرين (4) ذهبوا إلى أنّ جميع الضمائر في الآية تعود على الله، والمراد بالتعزير والتوقير هنا نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه ودليلهم على هذا التّفسير انسجام جميع الضمائر بعضها مع بعض.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ «التعزير» أولاً: معناه في الأصل المنع وذبُّ الأعداء والدفاع عن «الشخص»، ولا يصحّ ذلك في شأن الله إلاّ على سبيل «المجاز» فحسب!

وأهمُ من ذلك هو شأن نزول الآية، إذ أنّها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم يسيءُ التعامل مع النّبي ولا يحترم مقامه الكريم، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النّبي بأنّه «شاهدٌ ومبشرٌ ونذير» وهذا الأمر يهيء الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها!

وتوضيح ذلك هو: كما قلناه آنفاً إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في منامه كما تقول التواريخ أنّه دخل مع أصحابه مكّة، فتوجّه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة صحابي إلى مكّة، إلاّ أنّ قريشاً صمّمت على منعه وهو على مقربة من مكّة.. فتوقف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه في منطقة الحديبيّة.. وتمّ تبادل المبعوثين بين قريش والنّبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبيّة!

وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين، أُمر عثمان مرّةً أن يبلغ أهل مكّة ـ من قِبل النّبي ـ أنّه لا يريد الحرب ولا القتال وإنّما يريد العمرة فحسب، إلاّ أنّ المشركين من أهل مكّة أوقفوا عثمان مؤقتاً وكان هذا الأمر سبباً أن يشيع بين المسلمين خبر قتل عثمان، ولو كان هذا الموضوع صحيحاً لكان دليلاً على إعلان قريش الحرب ومنازلة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فإنّ النّبي قال: «لا نبارح مكاننا «الحديبيّة» حتى نأخذ البيعة من قومنا»، فطلب تجديد البيعة.. فاجتمع المسلمون وبايعوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظِهريّاً وأن يقاتلوا مع النّبي أعداءه ويذبّوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.

فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودبّ الرعب فيهم، وهذا ما دعاهم إلى الصلح مع النبي. ومن هنا سمّيت مبايعة المسلمين نبيّهم تحت الشجرة بيعة الرضوان حيث وردت الإشارة إليها في الآية (18) من السورة ذاتها: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يتحدّث عن مبايعة المسلمين في الآية محلّ البحث فيقول: (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)!

و«البيعة» معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايَع!.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و«المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضاً. وخاصةً أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى (يد الله فوق أيديهم).. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة الله، فكأنّ الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون الله، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية!.

وبناءً على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة (يد الله فوق أيديهم)هو أنّ قدرة الله فوق قدرتهم أو أنّ نصرة الله أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها وإن كان هذا الموضوع بحدِّ ذاته صحيحاً.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلاً: (فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً)(5).

كلمة «نكث» مشتقة من «نكْث» ومعناها الفتح والبسط ثمّ استعملت في نقض العهد(6).

والقرآن في هذه الآية يُنذر جميع المبايعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجراً عظيماً ومن نَكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال الله ضررُه أبداً.. بل إنّه يهدّد وجود المجتمع وكرامته وعظمته ويعرّضه للخطر بنقضه البيعة!.

وقد ورد ـ في كلام ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «إنّ في النّار لمدينة يقال لها الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له: ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال: فيها أيدي الناكثين»(7).

ومن هنا يتّضح بجلاء قبح نقض البيعة من وجهة نظر الإسلام!! وفي هذا المجال هناك بحوث في «البيعة في الإسلام» وحتى «قبل الإسلام» وكيفية البيعة وأحكامها ستأتي بأذن الله في ذيل الآية (18) من هذه السورة ذاتها!.

 

* * *


1 ـ النور، الآية 24.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص112.

3 ـ مرّ البحث عن الشهود في محكمة القيامة ذيل الآيات 20 ـ 22 من سورة فصلت.

4 ـ منهم الزمخشري في «الكشاف» والآلوسي في «روح المعاني» و«الفيض الكاشاني» في تفسير الصافي و«العلاّمة الطباطبائي في الميزان».

5 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ كلمة (عليهُ) في الآية الآنفة جاءت على خلاف ما نعهده، إذ ضُمّ الضمير وهو الهاء هنا، وقد وجّه بعض المفسّرين إلى أنّ هذا أصله «هو» وبعد حذف الواو يأتي مضموناً أحياناً مثل له وعنه ويأتي مكسوراً أحياناً لأنه يلي الياء ككلمة «عليه الله» وحيث أنّ كلمة «عليه» هنا تلاها لفظ الجلالة فقد ضم الضمير في «عليه» ينسجم مع تضخيم اللام في لفظ الجلالة «الله».

6 ـ «النكث» بفتح النون مصدر و«النِكث» بكسر النون اسم مصدر.

7 ـ بحار الأنوار، الجزء 67، الصفحة 186.

[444]

 

 

 

 

الآيات

سَيَقُولُ لَكَ الْمُـخَلَّفُونَ مِنَ الاَْعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَّا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرَّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَاً بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً( 11 ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً( 12 ) وَمَن لَمْ يؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ سَعِيراً( 13 ) وَللهِِ مُلْكُ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً( 14 )

 

التّفسير

اعتذار المخلفين:

ذكرنا ـ في تفسير الآيات الآنفة ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توجّه من المدينة إلى مكّة مع ألف وأربعمائة من صحابته «للعُمرة»!.

وقد أُبلغ عن النّبي جميع من في البادية من القبائل أن يحضروا معه في سفره هذا، إلاّ أنّ قسماً من ضعيفي الإيمان لووا رؤوسهم عن هذا الأمر وأعرضوا عنه وكان تحليلهم هو أنّ المسلمين لا يستطيعون الحفاظ على أرواحهم في هذا السفر في حين أنّ كفار قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين وقاتلوهم في أُحد والأحزاب على مقربة من المدينة، فإذا توجّهت هذه الجماعة القليلة العزلاء من كلّ سلاح نحو مكّة وعرّضت نفسها إلى العدو المدجّج بالسلاح. فكيف ستعود إلى بيوتها بعدئذ؟!

إلاّ أنّهم حين رأوا المسلمين وقد عادوا إلى المدينة ملاءَ الأيدي وافرين قد حصلوا على إمتيازات تستلفت النظر من صلح الحديبيّة دون أن تراق من أحدهم قطرة دم، عرفوا حينئذ خطأهم الكبير وجاؤوا إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ليعتذروا إليه، ويبرّروا تخلّفهم عنه ويطلبوا منه أن يستغفر لهم!