وممّا يستحق الإِنتباه أن جملة (نُقَيِّض) وبالإِلتفات إلى معناها اللغوي، تدل على إستيلاء الشياطين، كما تدل على كونهم أقراناً، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة: (فهو له قرين) بعدها لتؤكّد هذا المعنى، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد، ولا يبتعدون عنهم مطلقاً!


1 ـ «يَعْشُ» من مادة العشو، فإن عديت بـ(إلى): (عشوت إليه) فهي تعني الهداية بواسطة شيء ما بعين ضعيفة، وإن عديت بـ(عن): (عشا عنه)، أعطت معنى الإعراض عن الشيء، وهو المراد في الآية المذكورة. لسان العرب (عشو).

2 ـ «نُقَيِّض» من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثمّ جاءت بمعنى جعل شيء مستولياً على شيء آخر.

3 ـ النحل، الآية 63.

4 ـ النحل، الآية 63.

[56]

والتعبير بـ«الرحمـن» إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقراناً للشياطين، يتبعون أوامرهم، وينفذون ما يملون عليهم؟

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون للشياطين هنا معنى واسع بحيث يشمل حتى شياطين الإِنس، واعتبروا الكلمة إشارة إلى رؤوس الضلالة وزعمائها الذين يتسلطون على الغافلين عن ذكر الله سبحانه فيكونون أقراناً لهم، وهذا التوسع في المعنى ليس ببعيد.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين، فقالت: (وإنّهم ليصدونهم عن السبيل)(1).

فكلما صمّموا على التوبة والرجوع إلى طريق الصواب والرشاد كانت الشياطين تلقي في طريقهم الأحجار والعقبات، وتنصب الموانع في طريق عودتهم حتى لا يعودوا إلى الصراط المستقيم أبداً. وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: (ويحسبون أنهم مهتدون) كما نقرأ ذلك في الآية (38) من سورة العنكبوت حول عاد وثمود: (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإِنسان الغافل الجاهل على ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).

إنّ كل أنواع العذاب من جهة، ومجالسة قرين السوء هذا من جهة اُخرى والنظر إلى وجهه المشؤوم يجسد أمام عينيه كل ذكريات ضياعه وتعاسته، فويل له إذ


1 ـ ضمير الجمع في «أنّهم» والجملة التالية يعود إلى الشياطين، ومع أنه قد جاء بصيغة المفرد من قبل، إلاّ أنّه كان بمعنى الجمع.

[57]

أصبح قرين من كان يزين له كل القبائح ويسلكه طريق الضلال على أنّه سبيل الخير والفلاح، وطريق الإِنحراف على أنّه طريق الهدى والصلاح، وويل له إذا أصبح مقيّداً معه بنفس الأصفاد في نفس السجن!

نعم، إن عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما ـ برأي بعض المفسّرين ـ يقرنان بسلسلة واحدة!

من المعلوم أنّ المراد من المشرقين: المشرق والمغرب، لأنّ العرب عندما يريدون أن يثنوا جنسين مختلفين بلفظ واحد، فإنّهم يختارون أحد اللفظين، كما يقولون: الشمسان، إشارة إلى الشمس والقمر، والظهران، إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، والعشاءان، إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء.

وقد ذكروا تفاسير أُخرى لا تبدو مناسبة للآية من أي وجه، كقولهم: إنّ المراد هو مشرق بداية الشتاء، ومشرق بداية الصيف، وإن كان هذا التّفسير مناسباً في موارد أُخرى.

وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير كناية عن أبعد مسافة يمكن تصورها، حيث يضرب المثل ببعد المشرق عن المغرب في هذا الباب.

إلاّ أن هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً، ولا يمكن أن يقع الإِفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الأُخرى إلى الأبد(1).

وبهذا فإنَّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإِفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم، وكم هو مضن تحمل هذا الجوار؟


1 ـ على هذا فإن فاعل «ينفع» هو القول السابق حيث كانوا يأملون أن يكون البعد بينهم وبين الشياطين كما بين المشرق والمغرب، وجملة (إذ ظلمتم) بيان لعلة عدم النفع، وجملة (إنّكم في العذاب مشتركون)نتيجة هذا الظلم والجور.

[58]

وهناك احتمالات اُخرى في تفسير هذه الآية، منها أن الإِنسان قد يشعر بخفة آلامه عند رؤية متألمين آخرين، لأنّ المعروف (أن البلية إذا عمّت طابت) غير أنّه يقال لهؤلاء: لا يوجد هناك مثل تسلية الخاطر هذه، بل ستغوصون في العذاب، وعذاب الشياطين المشتركين معهم لا يبعث على تسلية الخاطر(1).

واحتملوا أيضاً أن المصيبة عندما تقع، تخف وطأتها عندما يجد الإِنسان ثقلها موزعاً بينه وبين أصدقائه، ولكن هذه المسألة لا توجد هناك أيضاً، لأنّ لكل فرد سهماً وافراً من العذاب، من دون أن ينقص من عذاب الآخرين شيء!

لكن بملاحظة أن هذه الآية تكملة للآية السابقة، فإنّ التّفسير الأوّل الذي اخترناه هو الأنسب.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذبوا ارتباطه بالله، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين).

وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن الكريم، حيث شبه المعاندين الذين لا أمل في هدايتهم، والغارقين في الذنوب بالعمي والصم، بل وبالأموات أحياناً.

فقد جاء في الآية (42) من سورة يونس: (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون).

وجاء في الآية (80) من سورة النمل: (إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين). وآيات أُخرى.

إن كل هذه التعابير توضح أن القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإِنسان: السمع والبصر والحياة الظاهريّة، والسمع والبصر والحياة الباطنية،


1 ـ بناء على هذا التّفسير، فإن جملة: (إنكم في العذاب مشتركون) ستكون فاعل (ينفع) لا نتيجته.

[59]

والمهم هو القسم الثّاني من الإِدراك والنظر والحياة، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير!

ومما يستحق الإِنتباه أنّ الآيات السابقة قد شبهت هذه الفئة بالأفراد العمش العيون، والمحدودي البصر، وتشبههم الآية الأخيرة هنا بالصم والعمي، وذلك لأنّ الإِنسان إذا اشتغل بالدنيا فحاله كمن يشكو ألماً بسيطاً في عينه، فكلما زاد تعلقه بالدنيا واشتغاله بها، ومال إلى الماديات أكثر، وأهمل المسائل الروحية والمعنوية، فسيضعف بصره نتيجة ذلك الألم في عينه، حتى يصل بعدها إلى مرحلة العمى، وهذا هو الشيء الذي أثبتته الأدلّة القطعية في مجال التشديد على المعنويات السلبية والإِيجابية في الإِنسان، ورسوخ الملكات فيه نتيجة تكرار العمل والإِصرار عليه، وقد راعى القرآن الكريم هذا التسلسل أيضاً(1).

 

* * *

 

 


1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلد 27، صفحة 214 ـ 215.

[60]

الآيات

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ( 41 ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنـهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ( 42 ) فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرط مُّسْتَقِيم( 43 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ( 44 ) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ( 45 )

 

التّفسير

استمسك بالذي أوحي إليك:

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفّار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم، تخاطب هذه الآيات نبيّ الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب، ومسليّة خاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (فإمّا نذهبن بك فإنّا منهم منتقمون).

وسواء كان المراد من الذهاب بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من بين أُولئك القوم وفاته أم هجرته من مكّة إلى المدينة، فإنّه إشارة إلى أنّك حتى وإن لم تكن شاهداً وناظراً لأمرهم،

[61]

فإنّا سنعاقبهم أشدّ عقاب إن استمروا في طريق ضلالتهم وغيهم، لأنّ «الإنتقام» في الأصل يعني الجزاء والعقوبة، وإن كان المستفاد من آيات قرآنية عديدة أُخرى ـ نزلت في هذا المعنى ـ إن المراد من الذهاب بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفاته، كما جاء في الآية (46) من سورة يونس: (وإمّا نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على ما يفعلون).

وجاء هذا المعنى أيضاً في سورة الرعد ـ الآية 40، وسورة غافر ـ الآية 77، وعلى هذا فإنّ تفسير الآية بالهجرة لا يبدو مناسباً.

ثمّ تضيف الآية: (أو نرينك الذي وعدناهم فإنّا عليهم مقتدرون) فهم في قبضتنا على أية حال، سواء كنت بينهم أم لم تكن، والعقاب والإِنتقام الإِلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم، سواء كان ذلك في حياتك أم بعد مماتك، فقد يتقدم أو يتأخر، إلاّ أنّه لابدّ من وقوعه.

إنّ هذه التأكيدات القرآنية قد تكون إشارة إلى قلّة صبر الكفّار الذي كانوا يقولون: «إن كنت محقاً وصادقاً فيما تقول، فلماذا لا ينزل علينا العذاب»؟ هذا من جهة. ومن جهة أُخرى كانوا في انتظار موت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ظنّاً منهم أن النّبي إن أغمض عينه وغاب شخصه فسينتهي كل شيء!

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنّك على صراط مستقيم) فليس في دينك وكتابك أدنى اعوجاج أو زيغ، وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك، فاستمر في طريقك بكل ما أوتيت من قوّة، والباقي علينا.

ثمّ تضيف الآية الأُخرى: (وإنّه لذكر لك ولقومك) فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر، وتعريفهم بتكاليفهم: (وسوف تسألون).

وبناء على هذا التّفسير فإنّ الذكر في هذه الآية يعني ذكر الله سبحانه، ومعرفة الواجبات الدينيّة، والإِطلاع على تكاليف البشر، كما ورد هذا المعنى في الآيتين

[62]

5 و 36 من هذه السورة، وككثير من آيات القرآن الأُخرى.

ومن المعروف أنّ الذكر أحد أسماء القرآن الكريم، والذكر بمعنى ذكر الله سبحانه، ونقرأ هذه الجملة عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) الآيات 17 ـ 22 ـ 32 ـ 40.

إضافة إلى أن جملة: (وسوف تسألون)تشهد بأنّ المراد هو السؤال عن العمل بهذا البرنامج الإِلهي.

لكن ـ مع كل ذلك ـ فالعجيب أنّ كثيراً من المفسّرين اختاروا تفسيراً آخر لهذه الآية لا يتناسب مع ما قلناه، فمن جملة ما قالوا: إن معنى الآية هو: إنّ هذا القرآن هو أساس الشرف والعزة، أو الذكر الحسن والسمعة الطيبة لك ولقومك، وهو يمنح العرب وقريشاً أو أُمتك الشرف، لأنّه نزل بلغتهم، وسيسألون قريباً عن هذه النعمة(1).

صحيح أن القرآن رفع نداء نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والعرب، بل وكل المسلمين عالياً في أرجاء العالم، وأن اسم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر بإعظام بكرة وعشياً على المآذن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن عرب الجاهلية الخاملي الذكر قد عُرفوا في ظل اسمه(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا صوت الأُمّة الإِسلامية في ربوع العالم بفضله.

وصحيح أن الذكر قد ورد بهذا المعنى في القرآن المجيد أحياناً، إلاّ أنّ ممّا  لا شك فيه أنّ المعنى الأوّل أكثر وروداً في آيات القرآن، وأكثر ملاءمة مع هدف نزول القرآن والآيات مورد البحث.

واعتبر بعض المفسّرين الآية (10) من سورة الأنبياء شاهداً على التّفسير الثاني، وهي: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون)(2). في حين أن الآية


1 ـ مجمع البيان، التّفسير الكبير للفخر الرازي، تفسير القرطبي، تفسير المراغي، وتفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ تفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.

[63]

تناسب التّفسير الأوّل أيضاً، كما فصلنا ذلك في التّفسير الأمثل، في ذيل هذه الآية(1).

وقد وردت روايات في هذه الآية في المصادر الحديثية، وستأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثمّ تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر، فقالت: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

إشارة إلى أنّ كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد، ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم، وعلى هذا فإن نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية، وإنّما كان عبدة الأصنام والمشركون هم الذين يسيرون على خلاف مذهب الأنبياء.

وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ السائل وإن كان نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ المراد كل الأُمّة، بل وحتى مخالفيه.

والمسؤولون هم أتباع الأنبياء السابقين، أتباعهم المخلصون، بل ومطلق أتباعهم، إذ يحصل الخبر المتواتر من مجموع كلامهم، وهو يبيّن دين الأنبياء التوحيدي.

وينبغي التذكير بأنّه حتى المنحرفين عن أصل التوحيد ـ كالمسيحيين الذين يؤمنون بالتثليث اليوم ـ يتحدثون عن التوحيد أيضاً، ويقولون: إنّ تثليثنا لا ينافي التوحيد الذي هو دين جميع الأنبياء! وبهذا فإنّ الرجوع إلى هذه الأُمم كاف في إبطال دعوى المشركين.


1 ـ الأمر الآخر الذي يمكن أن يكون دليلاً على التّفسير المشهور، هي كلمة (القوم) التي وردت في الآية المذكورة، لأنّ القرآن منهاج لتذكير كل البشر، لا قوم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، أو خصوص أُمة الإسلام.

   إلاّ أن هذا الكلام يمكن الإجابة عليه بأن هؤلاء القوم قد استفادوا من تذكير القرآن قبل الآخرين، ولذلك كان التأكيد عليهم.

[64]

إلاّ أنّ بعض المفسّرين احتملوا احتمالاً آخر في تفسير هذه الآية مستوحى من بعض الروايات(1)، وهو أن السائل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وأن المسؤولين هم الأنبياء السابقون. ثمّ أضافوا: إنّ هذا الأمر قد تمّ في ليلة المعراج، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قد التقى بأرواح الأنبياء الماضين، ومن أجل تأكيد أمر التوحيد طرح هذا السؤال وسمع الجواب.

وأضاف البعض: إنّ مثل هذا اللقاء كان ممكناً بالنسبة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في غير ليلة المعراج، لأنّ المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعاً ولا عائقاً في مسألة اتصال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأرواح الأنبياء، وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم في أية لحظة، وفي أي مكان.

طبعاً، ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي، لكن لما كان الهدف من الآية نفي مذهب المشركين، لاطمأنة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذ أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مستغرقاً في مسألة التوحيد، ومشمئزاً من الشرك إلى الحدّ الذي لا يحتاج معه إلى سؤال، ولم يكن التقاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالاً مقنعاً أمام المشركين ـ اذن فالتّفسير الأوّل يبدوا أكثر ملاءمة، والتّفسير الثّاني قد يكون إشارة إلى باطن الآية لا ظاهرها، لأنّ لآيات القرآن ظهراً وبطناً.

وهناك أمر يستحق الإِنتباه، وهو أنّ اسم (الرحمن) قد اختير في هذه الآية من بين أسماء الله سبحانه، وهو إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن يترك هؤلاء الله الذي وسعت رحمته العامّة كل شيء، ويتوجهون إلى أصنام لا تضر ولا تنفع؟!

 

* * *

 


1 ـ رويت هذه الرواية عن ابن عباس في تفسير القرطبي وتفسير الفخر الرازي ومجمع البيان، ورويت في تفسير نور الثقلين روايتان مفصلتان في هذا الباب عن كتاب الإحتجاج وتفسير علي بن إبراهيم. يراجع المجلد 4، ص605 ـ 607.

[65]

ملاحظة

من هم قوم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

توجد ثلاثة احتمالات في المراد من «القوم» في آية: (وإنّه لذكر لك ولقومك).

الأوّل: أنّهم كل الأُمة الإِسلامية.

والثّاني: أنّهم العرب.

والثّالث: أنّهم قبيلة قريش.

ولما كان القوم في منطق القرآن الكريم قد أطلقت في موارد كثيرة على أُمم الأنبياء، أو الأقوام المعاصرين لهم، فالظاهر أنّه هو المعنى المراد في الآية أيضاً.

وبناءً على هذا، فإنّ القرآن أساس الذكر والوعي واليقظة لكل الأُمة الإِسلامية حسب التّفسير الأوّل، وأساس الإِفتخار والشرف لهم جميعاً حسب التّفسير الثّاني.

إلاّ أننا نطالع في الروايات العديدة الواردة عن طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّ المراد من القوم في الآية هم أهل بيت النّبي وعترته(1).

لكن لا يبعد أن تكون هذه الروايات من قبيل بيان المصاديق الواضحة، سواء كان معنى القوم كل الأُمة الإِسلامية، أو أمة العرب، أو أهل بيت نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي كل الأحوال يعتبر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) من أوضح مصاديقها.

 

* * *

 

 


1 ـ جمع هذه الأحاديث مؤلف تفسير نور الثقلين، في المجلد 4، صفحة 64 ـ 65.

[66]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَـتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ( 46 ) فَلَمَّا جَآءَهُم بِئايَـتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَة إِلاَّ هِى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَـهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( 48 ) وَقَالُواْ يَـأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ( 50 )

 

التّفسير

الفراعنة المغرورون ونقض العهد:

في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبيّ الله موسى بن عمران(عليه السلام)وبين فرعون، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأن الله إن كان يريد أن يرسل رسولاً، فلماذا لم يختر رجلاً من أثرياء مكّة والطائف لهذه المهمّة العظمى؟

وذلك لأنّ فرعون كان قد أشكل على موسى نفس هذا الإِشكال، وكان منطقه عين هذا المنطق، إذ جعل موسى في معرض التقريع والتوبيخ والسخرية للباسه

[67]

الصوفي، وعدم امتلاكه لأدوات الزينة، فقالت الآية الأولى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون ومَلائه فقال إنّي رسول ربّ العالمين).

المراد من «الآيات»: المعجزات التي كانت لدى موسى، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

«الملاء» ـ كما قلنا سابقاً ـ من مادة الملأ، أي القوم أو الجماعة الذين يتبعون هدفاً واحداً، وظاهرهم يملأ العيون لكثرتهم، وقرآنياً فإنّ هذه الكلمة تعني الأشراف والأثرياء أو رجال البلاط عادة.

والتأكيد على صفة: (ربّ العالمين) هو في الحقيقة من قبيل بيان مدعى مقترن بالدليل، لأنّ ربّ العالمين ومالكهم ومعلمهم هو الوحيد الذي يستحق العبوديّة،  لا المخلوقات الضعيفة المحتاجة كالفراعنة والأصنام!

ولنرَ الآن ماذا كان تعامل فرعون وآل فرعون مع الأدلة المنطقية والمعجزات البينة لموسى(عليه السلام)؟

يقول القرآن الكريم في الآية التالية: (فلمّا جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون)وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين أما القادة الحقيقيين، إذ لا يأخذون دعوتهم وأدلتهم بجدية ليبحثوا فيها ويصلوا إلى الحقيقة، ثمّ يجيبونهم بسخرية واستهزاء ليُفهموا الآخرين أن دعوة هؤلاء  لا تستحق البحث والتحقيق والإِجابة أصلاً، وليست أهلاً للتلقي الجاد.

إلاّ أننا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الأُخرى لإِتمام الحجة: (وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها)(1).

والخلاصة: أنّنا أريناهم آياتنا كل واحدة أعظم من أختها وأبلغ وأشد، لئلا يبقى لهم أي عذر وحجّة، ولينزلوا عن دابة الغرور والعجب والأنانية، وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع


1 ـ التعبير بـ «الأخت» في لغة العرب يعني ما يوازي الشيء في الجنس والمرتبة كالأختين.

[68]

وغيرها(1).

ثمّ تضيف الآية: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) فمرّة أتاهم الجفاف والقحط ونقص الثمرات كما جاء في الآية (130) من سورة الأعراف: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات).

وكان العذاب أحياناً بتبدل لون ماء النيل إلى لون الدم، فلم يعد صالحاً للشرب، ولا للزراعة، وأحياناً كانت الآفات النباتية تقضي على مزارعهم.

إنّ هذه الحوادث المرّة الأليمة وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة، فيلجؤون إلى موسى، غير أنّهم بمجرّد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شيء، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم، كما نقرأ ذلك في الآية التالية: (وقالوا يا أيّها الساحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون).

أي تعبير عجيب هذا؟! فهم من جانب يسمونه ساحراً، ومن جانب آخر يلجؤون إليه لرفع البلاء عنهم، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية!

إن عدم الإِنسجام بين هذه الأُمور الثلاثة في الظاهر أصبح سبباً في اختلاف التفاسير:

فذهب البعض: إنّ الساحر هنا يعني العالم، لأنّهم كانوا يعظمون السحرة في ذلك الزمان، وخاصّة في مصر، وكانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى العلماء.

واحتمل البعض أن يكون السحر هنا بمعنى القيام بأمر مهم، كما نقول في محادثاتنا اليومية: إنّ فلاناً ماهر في عمله جدّاً حتى كأنه يقوم بأعمال سحرية!

وقالوا تارة: إنّ المراد أنّه ساحر بنظر جماعة من الناس.

وأمثال هذه التفاسير.

إلاّ أنّ العارفين بطريقة تفكير وتحدث الجاهلين المعجبين بأنفسهم والمستكبرين المغرورين والطواغيت يعلمون أنّ لهؤلاء الكثير من هذه التعابير


1 ـ جاء تفصيل المعجزات التسع لموسى بن عمران (عليه السلام) في ذيل الآية (101) من سورة الإسراء.

[69]

المتناقضة، فلا عجب من أن يسمّوه ساحراً أوّلاً، ثمّ يلجؤون إليه لرفع البلاء، وأخيراً يعدونه بالإِهتداء.

بناء على هذا فيجب الحفاظ على ظاهر تعبيرات الآية والوقوف عندها، إذ  لا تبدو هناك حاجة إلى توجيهات وتفاسير أُخرى.

وعلى أية حال، فيظهر من أسلوب الآية أنّهم كانوا يعدون موسى(عليه السلام) وعوداً كاذبة في نفس الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليه، وحتى في حال المسكنة وعرض الحاجة لم يتخلوا عن غرورهم، ولذلك عبروا في طلبهم من موسى بـ(ربك)و(بما عهد عندك) ولم يقولوا: ربّنا، وما وعدنا، أبداً. مع أن موسى قال لهم بصراحة: إنّي رسول ربّ العالمين، لا رسول ربّي.

أجل، إن ضعاف العقول والمغرورين إذا ما تربعوا على عرش الحكم، فسيكون هذا منطقهم وعرفهم وأسلوبهم.

إلاّ أن موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم، بل استمرّ في طريقه، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء، وهدأت، لكنّهم كما تقول الآية التالية: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون).

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين، وتسلية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم، ولا يدعوا اليأس يخيم على أرواحهم وأنفسهم، بل ينبغي أن يشقوا طريقهم بكل ثبات ورجولة وحزم، كما ثبت موسى(عليه السلام) وبنو إسرائيل على مواقفهم، واستمرّوا في طريقهم حتى انتصروا على الفراعنة.

وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين، بأنهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد، فلينظروا عاقبة أمر أُولئك، وليتفكروا في عاقبتهم.

 

* * *

[70]

الآيات

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَـقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـذِهِ الأَنْهَـرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( 51 ) أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْ هَـذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ( 52 ) فَلَوْلآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَب أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَـئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوْا قَوْماً فَـسِقِينَ( 54 ) فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ أَجْمَعِينَ( 55 ) فَجَعلْنَـهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخَرِينَ( 56 )

 

التّفسير

إذا كان نبياً فلم لا يملك أسورة من ذهب؟

لقد ترك منطق موسى(عليه السلام) من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة أُخرى، والإِبتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى(عليه السلام) من جهة ثالثة، أثراً عميقاً في ذلك المحيط، وزعزعت أفكار الناس

[71]

واعتقادهم بفرعون، ووضعت كل نظامهم الإِجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى(عليه السلام) عن التأثير في أفكار شعب مصر، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط، وقارن بينه وبين موسى(عليه السلام) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقاً على موسى، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)(1).

أمّا موسى فماذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة السامية، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيداً وتأمّلوا دقيقاً في المسألة..

وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).

التعبير بـ «نادى» يوحي بأن فرعون عقد مجلساً عظيماً لخبراء البلد ومستشاريه، وخاطبهم جميعاً بصوت عال فقال ما قال، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد.