![]() |
![]() |
وحيث أنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلاً، فإنّ الآية التالية تتحدّث عن علائمه، العلائم التي تميّز المؤمن حقّاً عن المسلم والصادق عن الكاذب، وأولئك الذين استجابوا لله وللرسول رغبةً وشوقاً منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعاً أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)!
أجل، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردّد في مسير الإسلام، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.
وهكذا فإنّ الإسلام يستهدف في الإنسان أجلى العلائم «ثبات القدم وعدم الشك والتردّد من جهة، والإيثار بالمال والنفس من جهة أخرى».
فكيف لا يرسخ الإيمان في القلب والإنسان لا يقصّر عن بذل المال والروح في سبيل المحبوب!؟
ولذلك فإنّ الآية تُختتم بالقول مؤكّدةً: (أولئك هم الصادقون).
هذا هو المعيار الذي حدّده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن الكاذبين المدّعين بالإسلام تظاهراً، وليس هذا المعيار منحصراً بفقراء جماعة بني أسد، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكلّ عصر وزمان لفصل المؤمنين عن المتظاهرين بالإسلام، ولبيان قيمة أُولئك الذين يمنّون بأنّ أسلموا على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك بحسب الظاهر فحسب، إلاّ أنّه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقلّ علامة من الإيمان أو الإسلام.
وفي قبال أُولئك رجال لا يدّعون شيئاً ولا يمنّون، بل يرون أنفسهم مقصّرين دائماً، وفي الوقت ذاته هم في طليعة المضحّين والمؤثرين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولو أنّا اتخذنا معيار القرآن لمعرفة المؤمنين الواقعيين وتمييزهم عن سواهم لما كان معلوماً من خلال هذا العدد الهائل من آلاف الآلاف و«الملايين» ممّن يدّعون الإسلام كم هم المؤمنون حقّاً؟! وكم هم المسلمون في الظاهر فحسب؟!
* * *
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ( 16 ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَـمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلاِْيمَـنِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ( 17 ) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( 18 )
قال جماعة من المفسّرين إنّه بعد نزول ما تقدّم من الآيات آنفاً جاء النّبي طائفةٌ من الأعراب وحلفوا أنّهم صادقون في إدّعائهم بأنّهم المؤمنون وظاهرهم وباطنهم سواء، فنزلت الآية الأولى من الآيات محل البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا، فالله يعرف باطنهم وظاهرهم، ولا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض(1).
1 ـ مجمع البيان، الميزان، روح البيان، وتفسير القرطبي.
كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين، وحيث أنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقةً وإنّ الإيمان مستقرٌّ في قلوبهم، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها الله الخبير بكل شيء!
ولحن الآيات فيه عتاب وملامة، إذ تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث: (قل أتُعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض).
ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضاً: (والله بكلّ شيء عليم). فذاته المقدّسة هي علمه بعينه وعلمه هو ذاته بعينها(1) ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي!
ذاته المقدّسة في كلّ مكان حاضرة، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، ويحول بين المرء وقلبه، فمع هذه الحال لا حاجة لإدّعائكم، وهو يعرف الصادقين من الكاذبين ومطّلع على أعماق أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفاً وقوّةً، وقد تنطلي عليهم أنفسهم، إلاّ أنّه يعرفها بجلاء، فعلامَ تصرّون أن تعلّموا الله بدينكم؟!
ثمّ يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النّبي بأنّهم أسلموا وأنّهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الأُخرى.
1 ـ يشيع على ألسنة بعضهم التعبير بـ «صفاته عين ذاته وذاته عين صفاته» وما أشبه ذلك وهذا التعبير ركيك والصحيح ما ورد في المتن (المصحّح).
فيقول القرآن جواباً على كلماتهم هذه: (يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).
«المنَّة» كما بيّنا سابقاً من مادة «المن» ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به، ثمّ استُعمل هذا اللفظ على كلّ نعمة غالية وثمينة، والمنّة على نوعين: فإذا كان فيها جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة، ومنن الله من هذا القبيل، وإذا كان فيها جانب لفظي، كمنّ كثير من الناس بالقول بعد العمل، فهي قبيحة وغير محبوبة!
الطريف أن صدر الآية يقول «يمنّون عليك أن أسلموا» وهذا تأكيد آخر على أنّهم غير صادقين في إيمانهم.
وفي ذيل الآية يأتي التعبير قائلاً: (بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).
وعلى كلّ حال فهذه مسألة مهمّة أن يتصوّر قاصرو التفكير غالباً أنّهم بقبول الإيمان وأداء العبادات والطاعات يقدّمون خدمةً لساحة قدس الله أو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصيائه، ولذلك فهم ينتظرون الثواب والأجر.
في حين أنّه لو أشرق نور الإيمان في قلب أحد، ونال هذا التوفيق بأن كان في زمرة المؤمنين، فقد شمله لطف عظيم من الله عزَّ وجلّ.
فالإيمان وقبل كلّ شيء يمنح الإنسان إدراكاً جديداً عن عالم الوجود، ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور، ويوسع عليه أفق نظرته، ويجسّد له عظمة خلقه في نظره!
انّه يلقي على عواطفه النور والضياء ويُربّيها ويُحيي في نفسه القيم الإنسانية، وينمّي استعداداته العالية فيه، ويمنحه العلم والقوة والشهامة والإيثار والتضحية والعفو والتسامح والإخلاص، ويجعل منه انساناً قوياً ذا عطاء وثمر بعد أن كان موجوداً ضعيفاً.
إنّه يأخذ بيده ويصعد به في مدارج الكمال إلى قمة الفخر، ويجعله منسجماً مع عالم الوجود، ويسخّر عالم الوجود طوع أمره!
أهذه النعمة التي أنعمها الله على الإنسان ذات قيمة، أم ما يمنّه الإنسان على النبي؟!!
كذلك كلّ عبادة وطاعة هي خطوة نحن التكامل، إذ تمنح القلب صفاءً وتسيطر على الشهوات، وتقوّي فيه روح الإخلاص، وتمنح المجتمع الإسلامي الوحدة والقوّة والعظمة فكأنّه نسيج واحد!
فكل واحدة منها درس كبير في التربية، ومرحلة من المراحل التكاملية!
ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدّي شكر نعمة الله صباح مساء، وأن يهوي إلى السجود بعد كلّ صلاة وعبادة، وأن يشكر الله على جميع هذه الأُمور!
فإذا كانت نظرة الإنسان ـ في هذا المستوى ـ من الإيمان والطاعة فإنّه لا يرى نفسه متفضلاً، بل يجد نفسه مديناً لله ولنبيّه وغريق إحسانه. ويؤدّي عبادته بلهفة، ويسعى في سبيل طاعته على الرأس لا على القدم، وإذا ما أثابه الله أجراً فهو تفضّل آخر منه ولطف، وإلاّ فإنّ أداء الأعمال الصالحة يكون بنفع الإنسان، والحقيقة أنّه بهذا التوفيق يضاف على ميزانه عند الله.
فهداية الله ـ بناءً على ما بيّنا ـ لطف، ودعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لطف آخر، والتوفيق للطاعة مضاعف، والثواب لطف فوق لطف!.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث التي هي آخر سورة الحجرات تأكيد آخر على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول: (إنّ الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون) فلا تصرّوا على أنّكم مؤمنون حتماً ولا حاجة للقسم.. فهو حاضر في أعماق قلوبكم، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض جميعاً، فكيف لا يعلم ما في قلوبكم وما تنطوي عليه صدروكم؟!
اللّهمَّ: مننت علينا بنور الإيمان، فنقسم عليك بعظيم نعمة الهداية أن تثبّت أقدامنا في هذا الطريق وتقودنا في سبيل الكمال...
إلهنا، أنت عالم بما في قلوبنا، وتعلم نيّاتنا ودوافعناً، فاستر عيوبنا عن أنظار عبادك، وأصلح ما فسد منّا بكرمك.
ربّنا، وفّقنا للتحلّي بجميل الصفات ومحاسن الأخلاق التي ذكرتها في هذه السورة حتى تتجذّر في وجودنا وتتعمّق في أرواحنا وأفكارنا...
آمين ربّ العالمين
إنتهاء سورة الحجرات
ونهاية المجلد السادس عشر
![]() |
![]() |