![]() |
![]() |
![]() |
3 ـ الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيح (عليه السلام) في الآية السابقة، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.
فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!
وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.
وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس).
وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبدالله ورسوله، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.
وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (36) من سورة مريم.
ويحتمل أيضاً في تفسير الآية، أنّ هذا الإِختلاف لم يكن بين المسيحيين وحسب، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح، فغالى أتباعه فيه، وأوصلوه إلى مقام الألوهية، في حين اتهمه وأُمَّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الإِتهامات، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم، بعضهم صوب الإِفراط، وآخرون نحو التفريط، أو هم ـ على حد تعبير أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ـ بين محب غال وبين مبغض قال، حيث يقول(عليه السلام): «هلك فيّ رجلان: محب غال، ومبغض قال»(1)!
وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!
وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)(2).
نعم، إنّ يوم القيامة يوم أليم، فطول حسابه أليم، وعقوباته أليمة، وحسرته وغمه أليمان، وخزيه وفضيحته أليمان أيضاً.
* * *
1 ـ نهج البلاغة. الكلمات القصار: 117.
2 ـ ينبغي الإنتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ ( 66 )الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ( 67 ) يَـعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ( 68 ) الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَـتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ( 69 )
كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أُمّة عيسى (عليه السلام)، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم، يقول تعالى: (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)؟
لقد طرح هذا السؤال بصورة الإِستفهام الإِنكاري، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال هؤلاء الأفراد، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح، ويهيء عوامل فنائه بيده: إنّه بانتظار حتفه فقط!
والمراد من «الساعة» في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأُخرى ـ هو يوم القيامة، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.
وجاءت هذه الكلمة ـ أيضاً ـ بمعنى لحظة انتهاء الدنيا، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملاً لكلا المعنيين.
وعلى أية حال، فقد وصف قيام الساعة، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجىء، بوصفين في الآية أعلاه: الأوّل: كونه بغتة، والآخر: عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.
من الممكن أن يحدث حدث فجأة، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه، إلاّ أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّاً، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماماً.
هكذا بالضبط حال المجرمين، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإِسلام الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فتقول: «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة، والرجلان يطويان الثوب، ثمّ قرأ (صلى الله عليه وآله وسلم): (هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)»(1).
وأي شيء آلم من أن يكون الإِنسان غافلاً أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون مُعِدّاً لمستلزمات النجاة؟
ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد، والإِغترار بزخارف الدنيا، فتقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين)(2).
1 ـ تفسير روح البيان، المجلد 25، صفحة 89.
2 ـ «الأخلاء» جمع (خليل) ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة، وأصلها من الخلل ـ على وزن شرف ـ أي الفاصلة بين جسمين، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.
إن هذه الآية التي تصف مشهداً من مشاهد القيامة، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضاً، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة، إلاّ العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.
إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأنّ كلاً منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.
نعم، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور، وجعلتني جاهلاً بمصيري، غافلاً عنه.
وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب، إلاّ المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم، وأواصر مودّتهم خالدة، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.
من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضاً في أُمور الحياة، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد، فهم شركاء في الذنب والجريمة، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل إلى عدوّ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.
يقول الإِمام الصادق (عليه السلام): «ألا كل خُلّة كانت في الدنيا في غير الله عزَّ وجلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة»(1).
والآية التالية ـ في الحقيقة ـ تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإِعتزاز.
في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون).
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، طبق نقل نور الثقلين، ج 4، صفحة 612.
كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله ... نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإِنسان في يوم ليس فيه إلاّ القلق والإِضطراب ... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه...
نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.
وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً، بذكر جملتين أُخريين، فتقول: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين).
أجل، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم، ويسبحون في تلك النعم.
إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.
* * *
ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ( 70 ) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَاف مِّن ذَهَب وَأَكْوَاب وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ( 71 ) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( 72 ) لَكُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ( 73 )
تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.
تقول أوّلاً: (ادخلوا الجنّة) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم: أدخلوا الجنّة.
ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم، فقالت: (أنتم وأزواجكم) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً
اللذة والسرور، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.
وقد فسّر بعضهم «الأزواج» هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب، فلو صحَّ فوجودهم نعمة عظيمة، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.
ثمّ تضيف: (تحبرون).
«تحبرون» من مادة حِبْر ـ وزن فكر ـ أي الأثر المطلوب، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه، وإذا قيل للعلماء أحبار، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية، كما يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة»(1).
وتقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والإِطمئنان والصفاء.
«الصحاف» جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.
ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.
وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.
وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود،
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.
وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.
والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس)تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة: (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.
ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة: (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.
ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد، كانت لذة الالقاء أعظم.
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أُموراً كانت حراماً في الدنيا؟
إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الإِلتفات إلى نكتة، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإِنسان، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذا الغذاء، وتلك التي تميل أحياناً إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.
إنّنا نرى بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أُخرى من هذا القبيل، إلاّ أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم
هذه الشهية الكاذبة.
نعم، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبداً إلى مثل هذه الأعمال، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.
إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابياً أتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّاً جمّاً، فالتفت إليه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعلم أن في الجنّة نعماً سينسى معها الأعرابي الابل، وأجابه بعبارة قصيرة فقال: «يا أعرابي، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك»(1).
وبتعبير آخر: فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإِنسان مع الحقائق تماماً.
وعلى كل حال، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: (وأنتم فيها خالدون)لئلاّيكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.
وهنا، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: (وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنت تعملون).
والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة، ومن جهة أُخرى تجعلها إرثاً، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإِنسان من دون أن يبذل جهداً أو سعياً في تحصيلها، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلاّ أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.
ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقاً من أن لكل إنسان منزلاً في الجنّة ومحلاً في الجحيم، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار، ويرث
1 ـ روح البيان، المجلد 8، صفحة 391.
أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.
والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله، فتقول الآية: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون).
لقد كانت الصحاف والأكواب بياناً لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص، وقد أُشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.
والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّاً بحيث لا تتناولون إلاّ جزءاً منها، وعلى هذا فإنّها لا تفنى، وأشجارها مثمرة دائماً.
وجاء في الحديث: «لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلاّ نبت مثلها مكانها»(1).
كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس، وهي بانتظار ذوي الإِيمان القوي البيّن، والأعمال الصالحة النبيلة.
* * *
1 ـ تفسير روح البيان، الجزء 8، صفحة 192.
إِنَّ الُْمجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ( 74 ) لاَيُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ هُمُ الظَّـلِمِينَ( 76 ) وَنَادَوْا يَـمَـلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّـكِثُونَ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَـكُم بِالْحَقِّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـرِهُونَ( 78 ) أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ( 79 ) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَنَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ( 80 )
لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين ـ المطيعين لأمر الله ـ المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين.
تقول الآية الأولى: (إنّ المجرمين في عذاب جهنم خالدون).
«المجرم» من مادة جرم، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع
الثمار من الشجرة ـ أي القطف ـ وكذلك في قطع نفس الشجرة، إلاّ أنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سيء، وربّما كان سبب هذا الإِستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإِنسان عن ربّه وعن القيم الإِنسانية، وتبعده عنهما.
لكن من المسلم هنا أنّه لا يريد كل المجرمين، وإنّما المراد هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلاً لهم، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد، وبقرينة المقارنة بالمؤمنين الذين مرّ الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيداً ما قاله بعض المفسّرين من أنها تشمل كل المجرمين.
ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان، وتقل شدته تدريجياً، فإنّ الآية التالية تضيف: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون)، وعلى هذا فإنّ عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدّة، لأنّ الفتور يعني السكون بعد الحدة، واللين بعد الشدة، والضعف بعد القوّة كما يقول الراغب في مفرداته.
«مبلس» من مادة «إبلاس»، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإِنسان من شدة التأثر والإِنزعاج، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإِنسان إلى السكوت، فقد استعملت مادة الإِبلاس بمعنى السكوت والإِمتناع عن الجواب أيضاً. ولما كان الإِنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة، فقد استعملت هذه المادة في مورد اليأس أيضاً، ولهذا المعنى سمي «إبليسُ» إبليسَ، إذ أنّه آيس من رحمة الله.
على أية حال، فإنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل: مسألة الخلود، وعدم تخفيف العذاب، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الأُمور الثلاثة وتجتمع.
وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم، فتقول: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين).
فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال
المؤمنين المتقين، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذّب الإِنسان بآيات الله سبحانه، ويضرب جذور سعادته بمعول الكفر والإفتراء: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب).(1)
نعم، إن القرآن يرى ارادة الإِنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.
ثمّ تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم، فقالت، (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) فمع أن كل امرىء يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها، إلاّ أنّه عندما تتوالى عليه المصائب أحياناً ويضيق عليه الخناق يتمنى على الله الموت، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحياناً لبعض الناس في الدنيا، فانّها تعمّ جميع المجرمين هناك ، فكلهم يتمنى الموت.
ولكن حيث لا فائدة من ذلك، فإنّ مالك النّار وخازنها يجيبهم: (قال إنكم ماكثون)(2).
والعجيب أنّ خازن النّار يجيبهم بعد ألف سنة ـ برأي بعض المفسّرين ـ وبكل احتقار وعدم اهتمام، فما أشد ايلام هذا الإِحتقار(3).
قد يقال: كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام، وقطع أمله من كل شيء.
أجل، إن هؤلاء عندما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم، سيطلقون هذه الصرخة من أعماق قلوبهم، ولكن حق القول عليهم بالعذاب، فلا فائدة من
1 ـ الصف، الآية 7.
2 ـ «ماكثون» من مادة (مكث)، وهو في الأصل التوقف المقترن بالإنتظار، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاءً، كما نقول ـ أحياناً ـ لمن يطلب شيئاً لا يستحقه انتظر!
3 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض: إنّ المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة، وآخرون: أربعون سنة، ومهما تكن فإنّها دليل على الإحتقار وعدم الإهتمام.
صراخهم، ولا صريخ لهم.
أمّا لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة، بل يقولون لمالك: (ليقض علينا ربّك)؟ فلأنّهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربّهم، كما نقرأ ذلك في الآية (15) من سورة المطففين: (كلا إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون) ولذلك يطلبون طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكاً ملك مقرب عند الله سبحانه.
وتقول الآية الأُخرى، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون).
وللمفسّرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن النّار، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك، أم أنّه كلام الله تعالى؟
السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك، لأنّه أتى بعد كلامه السابق، إلاّ أنّ محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى، والشاهد الآخر لهذا الكلام الآية (71) من سورة الزمر: (وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم) فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق، لا هم.
وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.
وهذا التعبير يشير ـ في الحقيقة ـ إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنّما خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.
وتعكس الآية التالية جانباً من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به، فتقول: (أم أبرموا أمراً فإنّا مبرمون)(1) فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤمرات لإِطفاء نور الإِسلام، وقتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإِسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
1 ـ «أم» في الآية منقطعة، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.
وفي المقابل أردنا أن نجازي هؤلاء في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة بأشد العذاب.
ويرى بعض المفسّرين أن سبب نزول هذه الآية هو قضية مؤامرة قتل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبل الهجرة، والتي أشير إليها في الآية (30) من سورة الأنفال: (وإذ يمكر بك الذين كفروا...)(1).
والظاهر أن هذا من قبيل التطبيق، لا أنه سبب النّزول...
والآية الأُخرى بيان لإِحدى علل التآمر، فتقول: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)؟ فإن الأمر ليس كذلك، إذ نحن نسمع ورسلنا: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون).
«السر» هو ما يضمره الإِنسان في قلبه، أو ما يودعه من أسراره لدى إخوانه وأصدقائه، و«النجوى» هي الهمس في الأذن.
نعم، فإن الله سبحانه لا يسمع نجواهم وهمسهم فيما بينهم فحسب، بل يعلم ما يضمرونه في أنفسهم أيضاً، فإن السر والعلن لديه سواء.
والملائكة المكلفون بتسجيل أعمال البشر وأقوالهم يكتبون هذه الكلمات في صحائف أعمالهم دائماً ، وإن كانت الحقائق بدون ذلك واضحة أيضاً، ليروا جزاء أعمالهم وأقوالهم ومؤامراتهم في الدنيا والآخرة.
* * *
1 ـ الفخر الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.
قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَـبِدِينَ( 81 ) سُبْحَـنَ رَبِّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ( 82 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَـقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ( 83 ) وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـهٌ وَفِى الأرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَلِيمُ ( 84 )وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـوتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 85 )
لما كان البحث في الآيات السابقة ـ وخاصة في بداية السورة ـ عن مشركي العرب واعتقادهم بأنّ لله ولداً، وأنّهم كانوا يظنون الملائكة بنات الله، ولما مر البحث في عدة آيات مضت عن المسيح(عليه السلام) ودعوته إلى الوحدانية الخالصة والعبودية لله وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة عن طريق آخر.
تقول الآية: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لأن ايماني بالله أقوى من ايمانكم جميعاً، ومعرفتي به أكبر، وعليه فيجب أن أعظّم ولده وأطيعه قبلكم.
وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية بدا معقداً لجماعة من المفسّرين، فذكروا توجيهات مختلفة له كان بعضها عجيباً جدّاً(1)، لكن لا يوجد في الواقع أي تعقيد في محتوى الآية، وهذا الأسلوب الرائع يستعمل مع الأفراد العنودين المتعصبين، كما لو قال شخص: إن فلاناً أعلم من الجميع، في حين أنّه لا يعلم شيئاً، فيقال له: إذا كان هو الأعلم فأنا أوّل من يتبعه، وذلك ليبذل القائل جهده في البحث عن دليل يدعم به مدعاه، وعندما يصطدم بصخرة الواقع يستيقظ من غفلته.
غاية ما في الأمر أنّ هناك نكتتين يجب الإِلتفات إليهما:
الأولى: أنّ العبادة لا تعني العبادة في كل الموارد، فقد تأتي أحياناً بمعنى الطاعة والتعظيم والإِحترام، وهي هنا بهذا المعنى، فعلى فرض أن لله ولداً ـ وهو فرض محال ـ فلا دليل على عبادته، لكنّه لما كان ـ طبقاً لهذا الفرض ـ ابن الله فيجب أن يكون مورد احترام وتقدير وطاعة.
![]() |
![]() |
![]() |