![]() |
![]() |
![]() |
وبديهي أنّ الذكر والاُنثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية .. والتعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الإستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.
والقرآن يعوّل ـ في آيات متعدّدة ـ على نفي هذه العقيدة الباطلة ويحاكمهم في هذا المجال ويفضحهم(2)!!
1 ـ سُلّم يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت وقد إختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شيء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي وقال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد والشركاء لله .. وفسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) «ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني وإن كان المعنى الأوّل أجلى».
2 ـ كانت لنا بحوث مفصّلة في سبب جعل العرب الملائكة بنات الله في الوقت الذي كانوا يستاءون من البنات. وذكرنا الدلائل الحيّة التي أقامها القرآن ضدّهم فليراجع ذيل الآية (57) سورة النحل وذيل الآية (149) من سورة الصافات ..
ثمّ يتنازل القرآن إلى مرحلة اُخرى، فيذكر واحداً من الاُمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).
«المغرم» ـ على وزن مغْنَم وهو ضدّ معناه ـ أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضاً.
و «المُثقَل» مشتقّ من الأثقال، ومعناه تحميل العبء والمشقّة، فبناءً على هذا المعنى يكون المراد من الآية: تُرى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!
وقد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب، بل في شأن كثير من الأنبياء، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لاُممهم: لا نريد على إبلاغنا الرسالة إليكم أجراً .. ليثبت عدم قصدهم شيئاً من وراء دعوتهم ولئلاّ تبقى ذريعة للمتذرّعين أيضاً.
ومرّة اُخرى يخاطبهم القرآن متسائلا (أم عندهم الغيب فهم يكتبون)فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كلّ شيء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك على لسان المشركين إذ كانوا يقولون .. (نتربّص به ريب المنون)».
فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! ومن أخبرهم بالغيب؟!
ويحتمل أيضاً أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم(1).
ثمّ يتناول القرآن إحتمالا آخر فيقول: لو لم يكن كلّ هذه الاُمور المتقدّمة، فلابدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد الله أعلى
1 ـ قال بعض المفسّرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، وقال بعضهم: بل هو إشارة إلى إدّعاءات المشركين وقولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند الله مقام كريم. إلاّ أنّ هذه التفاسير لا تتناسب والآية محلّ البحث ولا يرتبط بعضها ببعض.
وأقوى من كيدهم: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون)(1).
والآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (54) من سورة آل عمران التي تقول: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
وإحتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو: «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيراً وتكون وبالا عليهم ..» وهذا المعنى يُشبه ما ورد في الآية (43) من سورة فاطر: (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله).
والجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن ولا مانع منه.
ويمكن أن يكون لهذه الآية إرتباط آخر بالآيه المتقدّمة، وهو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون: ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين .. أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّداً يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الإدّعاء أنّهم يعلمون الغيب، وأمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فالله أشدّ مكراً ويردّ كيدهم إليهم، فهم المكيدون!
وإذا كانوا يتصوّرون أنّ في إجتماعهم في دار الندوة ورشق النّبي بالتّهم كالكهانة والجنون والشعر أنّهم سينتصرون على النّبي فهم في منتهى العمى والحمق، لأنّ قدرة الله فوق كلّ قدرة، وقد ضمن لنبيّه السلامة والنجاة حتّى يبلغ دعوته العالمية.
وأخيراً فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: (أم لهم إله غير الله)؟! ويضيف ـ منزّهاً ـ (سبحان الله عمّا يشركون).
فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الله ويحميهم، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام إستجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! ويقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلى الوراء!! ويضطرهم
1 ـ الكيد على وزن صيد نوع من الحيلة وقد يستعمل في التحيّل إلى سبيل الخير، إلاّ أنّه غالباً ما يستعمل في الشرّ، وتعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحياناً ..
إلى التنزّل من الإدّعاءات ثمّ يوصد عليهم سُبُلَ الفرار كلّها ويحاصرهم في طريق مغلق!.
كم هي رائعة إستدلالات القرآن وكم هي متينة أسئلته وإستجوابه! .. فلو أنّ في أحد منهم روحاً تبحث عن الحقّ وتطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة وإستسلمت لها.
الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوى الله، وتكتفي بتنزيه الله (سبحان الله عمّا يشركون).
وذلك لأنّ بطلان اُلوهية الأصنام والأوثان المصنوعة من الأحجار والخشب وغيرهما مع ما فيها من ضعف وإحتياج أجلى وأوضح من أي بيان وتفصيل آخر، أضف إلى كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ على إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.
* * *
وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ( 44 )فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَـقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 ) يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( 46 ) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 47 )وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَـرَ النُّجُومِ ( 49 )
تعقيباً على البحث الوارد في الآيات المتقدّمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعةً لكلّ إنسان يطلب الحقّ، تميط الآيات محلّ البحث النقاب عن تعصّبهم وعنادهم فتقول: (وان يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم)(1).
1 ـ «الكِسْفُ»: على وزن فِسْق ـ معناه القطعة من كلّ شيء، ومع ملاحظة بقيّة التعبير. «من السماء»: يظهر المراد منه هنا القطعة من حَجر السماء، وقد دلّت عليه بعض كتب اللغة وهذه الكلمة تجمع على كِسَف على وزن عِنَب، إلاّ أنّ أغلب المفسّرين يرون بأنّ الكلمة هنا مفردة وظاهر الآية أنّها مفردة أيضاً، لأنّها وصفتها بالمفرد ساقطاً ..
هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسيّة وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب، مع أنّ كلّ من رأى السحاب حين ينزل ويقترب من الأرض لم يجده سوى بخار لطيف، فكيف يتراكم هذا البخار اللطيف ويتبدّل حجراً!؟
وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية!! أجل انّ ظلمة الإثم وعبادة الهوى والعناد كلّ ذلك يحجب أُفق الفكر السليم فيجعله متجهّماً حتّى تنجرّ عاقبة أمره إلى إنكار المحسوسات وبذلك ينعدم الأمل في هدايته.
و «المركوم» معناه المتراكم، أي ما يكون بعضه فوق بعض!
لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول: (فذرهم حتّى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون).
وكلمة «يُصعقون» مأخوذة من صعق، والإصعاق هو الإهلال، وأصله مشتقّ من الصاعقة، وحين أنّ الصاعقة تُهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة إستعملت بمعنى الإهلاك أيضاً.
وقال بعض المفسّرين أنّ هذه الجملة تعني الموت العامّ والشامل الذي يقع آخر هذه الدنيا مقدّمة للقيامة.
إلاّ أنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً، لأنّهم لا يبقون إلى ذلك الزمان بل الظاهر هو المعنى الأوّل، أي دعهم إلى يوم موتهم الذي يكون بدايةً لمجازاتهم والعقاب الاُخروي!
ويتبيّن ممّا قلنا أنّ جملة «ذرهم» أمر يُفيد التهديد، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعاً إذ لا يهتدون.
فبناءً على ذلك لا ينافي هذا الحكم إدامة التبليغ على المستوى العامّ من قبل
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينافي الأمر بالجهاد. فما يقوله بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نسخت آيات الجهاد غير مقبول!
ثمّ يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون).
أجل: من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى، أي القيامة العامّة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّاً من دون الله ولا نصيراً.
ثمّ تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوّروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضاً: (وانّ للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون).
أجل، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذاباً كعذاب الاُمم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما اُبتلي به قادة المشركين فيها إلاّ أن يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى الله آيبين منيبين.
وبالطبع فإنّ جماعة منهم اُبتلوا بالقحط والمحل، ومنهم من قتل في معركة بدر كما ذكرنا آنفاً ـ إلاّ أنّ طائفة كبيرة تابوا وأنابوا والتحقوا بصفوف المسلمين الصادقين فشملهم الله بعفوه(1).
وجملة (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تشير إلى أنّ أغلب اُولئك الذين ينتظرهم العذاب في الدنيا والآخرة هم جهلة، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى، إلاّ أنّه في الوقت ذاته يُصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحقّ.
1 ـ من قال بأنّ جملة فيه يصعقون تشير إلى يوم القيامة فسّر العذاب «في الآية» محلّ البحث بعذاب البرزخ في القبر، إلاّ أنّه حيث كان تفسيرها ضعيفاً فهذا الإحتمال ضعيف أيضاً.
وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول: (واصبر لحكم ربّك)(1).
فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كلّ هذه البراهين المنطقيّة فاصبر، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك: (فإنّك بأعيننا)!.
نحن نرى كلّ شيء ونعلم بكلّ شيء ولن ندعك وحدك.
وجملة (فإنّك بأعيننا) تعبير لطيف جدّاً حاك عن علم الله وكذلك كون النّبي مشمولا بحماية الله الكاملة ولطفه!
أجل، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادراً كبيراً ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع.
وحيث أنّ الحاجة لله وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والإلتجاء إلى ذاته المقدّسة كلّ هذه الاُمور تمنح الإنسان الدّعة والإطمئنان والقوّة، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول: (وسبّح بحمد ربّك حين تقوم).
سبّحه حين تقوم سحراً للعبادة وصلاة الليل.
... وحين تنهض من نومك لأداء الصلاة الواجبة.
... وحين تقوم من أي مجلس ومحفل، فسبّحه واحمده.
وللمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ الجمع بين هذه الأقوال ممكن أيضاً، سواءً كان الحمد التسبيح سحراً، أو عند صلاة الفريضة، أو عند القيام من أي مجلس كان.
1 ـ قد يكون المراد من «حكم ربّك» هو تبليغ حكم الله الذي اُمر النّبي به، فعليه أن يُصبر عند إبلاغه، أو أنّه عذاب الله الذي وُعد أعداؤه به أي: اصبر يارسول الله حتّى يعذّبهم الله، أو المراد منه أوامر أي بما أنّ الله أمرك فاصبر لحكمه، والجمع بين هذه المعاني وإن كان ممكناً إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب خاصّة بملاحظة فإنّك بأعيننا.
أجل، نوّر روحك وقلبك بتسبيح الله وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء .. وعطر لسانك بذكر الله .. واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك!.
وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان يقوم من مجلسه كان يسبّح الله ويحمده ويقول: «إنّه كفّارة المجلس»(1).
ومن ضمن ما كان يقول بعد قيامه من مجلس كما جاء في بعض الأحاديث عنه: «سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك!».
وسأل بعضهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الكلمات فقال: «هنّ كلمات علمنيْهنّ جبرئيل كفّارات لما يكون في المجلس»(2).
ثمّ يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث قائلا: (ومن الليل فسبّحه وإدبار النجوم).
وقد فسّر كثير من المفسّرين جملة (ومن الليل فسبّحه) بصلاة الليل، وأمّا إدبار النجوم فقالوا هي إشارة إلى «نافلة الصبح» التي تؤدّى عند طلوع الفجر وإختفاء النجوم بنور الصبح.
كما ورد في حديث عن علي (عليه السلام) أنّ المراد من «إدبار النجوم» هو «ركعتان قبل الفجر» نافلة الصبح اللتان تؤدّيان قبل صلاة الصبح وعند غروب النجوم، أمّا «إدبار السجود» الوارد ذكرها في الآية 40 من سورة «ق» فإشارة إلى «ركعتان بعد المغرب» «وبالطبع فإنّ نافلة المغرب أربع ركع إلاّ أنّ هذا الحديث أشار إلى ركعتين منها فحسب»(3).
وعلى كلّ حال، فإنّ العبادة والتسبيح وحمد الله في جوف الليل وعند طلوع الفجر لها صفاؤها ولطفها الخاصّ، وهي في منأى عن الرياء، ويكون الإستعداد
1 ـ تفسير الميزان، ج19، ص24.
2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص120.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآية (40)، سورة ق، ج9، ص150.
الروحي لها أكثر في ذلك الوقت، لأنّ الإنسان يكون فيه بعيداً عن اُمور الدنيا ومشاكلها، والإستراحة في الليل تمنح الإنسان الدّعة، فلا صخب ولا ضجيج، وفي الحقيقة هذه الفترة تقترن بالوقت الذي عُرج بالنّبي إلى السماء، فبلغ قاب قوسين أو أدنى يناجي ربّه ويدعوه في الخلوة!
ولذلك فقد عوّلت الآيات محلّ البحث على هذين الوقتين، ونقرأ حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها(1).
اللهمّ وفّقنا للقيام في السحر ومناجاتك طوال عمرنا.
اللهمّ اجعل قلوبنا بعشقك مطمئنة ونوّرها بمحبّتك وأمّلها بلطفك.
اللهمّ منّ علينا بالصبر والإستقامة بوجه قوى الشياطين ومؤامرات أعدائك وكيدهم لنتأسّى برسولك فنعيش على هديه ونموت على سنّته.
آمين ربّ العالمين.
إنتهاء سورة الطّور
* * *
1 ـ تفسير القرطبي ج9 ص6251 ذيل الآيات محلّ البحث.
مكّية
وعَدَدُ آيَاتِها اثنان وَسَبعُون آية
هذه السورة كما يقول بعض المفسّرين هي أوّل سورة تلاها النّبي جهراً وبصوت عال في حرم مكّة بعد أن أضحت دعوته علناً .. وأصغى إليها المشركون وسجد لها جميع المسلمين حتّى المشركون(1).
وهذه السورة كما يعتقد بعض المفسّرين نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة للبعثة(2)!
وقال بعضهم إنّ هذه السورة هي السورة الاُولى التي نزلت فيها سجدة واجبة بمكّة(3). لكن مع ملاحظة أنّ سورة العلق كما هو معروف نزلت قبلها وفي آخرها آية سجدة واجبة فإنّ هذا القول يبدو بعيداً.
وعلى كلّ حال، فإنّ هذه السورة ـ لكونها مكيّة ـ تحمل بين ثناياها بحوثاً في الاُصول الإعتقادية خاصّة «النبوّة والمعاد» وفيها تهديد ووعيد وإنذارات مكرّرة لإيقاظ الكفّار وردعهم عن غيّهم!.
ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام:
1 ـ بداية السورة تتحدّث بعد القَسَم العميق المغزى. عن حقيقة الوحي وإتّصال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرةً بمُنزل الوحي «جبريل» وتبيّن ذلك بجلاء، وتبرىء ساحة النّبي المقدّسة عن كلّ شيء سوى الوحي المنزل عليه.
1 ـ تفسير روح البيان، ج9، ص208.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ تفسير المراغي، ج27، ص41.
2 ـ وفي قسم آخر من هذه السورة يجري الكلام على معراج الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وجوانب منه بعبارات موجزة وغزيرة المعنى، له علاقة مباشرة بالوحي أيضاً.
3 ـ ثمّ يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة الملائكة واُمور اُخر ليس لها أي أساس إلاّ الهوى والهوس، ويعنّف المشركين في هذا المجال ويحذّرهم من عبادة الأوثان ويثبت هذا المعنى بمنطق قوي متين.
4 ـ وفي قسم آخر منها يفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامّة المذنبين، ويؤمّلهم بمغفرة الله الواسعة، ويؤكّد على أنّ كلاًّ مسؤول عن عمله، ولا تزر وازرة وزر اُخرى.
5 ـ وإكمالا لهذه الأهداف يأتي القسم الخامس من هذه السورة ليبيّن جوانب من مسألة ـ المعاد ـ ويقيم دليلا واضحاً على هذه المسألة بما هو موجود في النشأة الاُولى ـ الدنيا ـ .
6 ـ وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب الاُمم المؤلمة لعداوتهم للحقّ وعنادهم ـ كما حدث لقوم نوح وثمود وعاد وقوم لوط ليتيقّظ الغافلون من نومتهم عن هذا الطريق.
7 ـ وأخيراً فإنّ السورة تختتم بالأمر بالسجود لله وعبادته، ومن إمتيازات هذه السورة قِصَرُ آياتها وإيقاع آياتها الخاصّ الذي ينفذ ـ بمفاهيمها ـ نفوذاً عميقاً، فيوقظ قلوب الغافلين ويحملها معه إلى السماوات العلى.
وتسمية هذه السورة بـ «النجم» هي لورود هذا اللفظ في الآية الاُولى من السورة ذاتها.
وردت في الرّوايات الإسلامية فضائل مهمّة لتلاوة هذه السورة، ففي حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة النجم اُعطي من الأجر عشر حسنات
بعدد من صدّق بمحمّد ومن جحد به»(1).
ونقرأ في بعض الرّوايات عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: «من كان يدمن قراءة «والنجم» في كلّ يوم أو في كلّ ليلة عاش محموداً بين الناس وكان مغفوراً له وكان محبّباً بين الناس»(2).
ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الثواب العظيم هو لاُولئك الذين يتّخذون تلاوة هذه السورة وسيلة للتفكير، ثمّ العمل، وأن يطبّقوا تعليمات هذه السورة على أنفسهم في حياتهم.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج9، ص170.
2 ـ بحار الأنوار، ج92، ص305.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ( 4 )
ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة «الطور» ختمت بكلمة «النجوم» وهذه السورة بُدئت بـ «والنجم» ـ إذ أقسم به الله قائلا: (والنجم إذا هوى)!
وهناك إحتمالات كثيرة في المراد من «النجم» هنا، فكلّ من المفسّرين يختار تفسيراً. إذ قال بعضهم بأنّ المراد منه هو «القرآن المجيد» لأنّه يتناسب والآيات التي تلي الآية محلّ البحث، وهي في شأن الوحي، والتعبير بالنجم هو لأنّ العرب يستعملون هذا اللفظ في ما يتمّ في مراحل أو فواصل مختلفة ويسمّونها (أي الفواصل) «نجوماً» (وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين واُمور اُخر من هذا القبيل أيضاً).
وحيث أنّ القرآن نزل خلال 23 سنةً في مراحل ومقاطع مختلفة على
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد سمّي نجماً والمراد من «إذا هوى» نزوله على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفسّره آخرون ببعض الكواكب في السماء كالثريا(1) أو الشعرى(2) لأنّ لكلّ منهما أهميّته الخاصّة!.
وقال بعضهم بأنّه الشهاب الثاقب» الذي ترمى به الشياطين لئلاّ تصعد في السماء والعرب يسمّون الشهاب نجماً.
إلاّ أنّه لا دليل مقبول على أيّ من هذه التفاسير الأربعة بل الظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة «والنجم» القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة الله ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.
وليست هذه هي المرّة الاُولى التي يقسم القرآن فيها بموجودات عظيمة من عالم الخلق والإيجاد، ففي آيات اُخر أيضاً أقسم القرآن بالشمس والقمر وأمثالها!
والتعويل على غروبها واُفولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل (عليه السلام) (فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لا اُحبّ الآفلين)(3)/
وينبغي الإلتفات إلى هذا المعنى، وهو أنّ «الطلوع» في اللغة يعبّر عنه بـ «النجم» لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته: أصل النجم هو الكوكب الطالع، ولذلك فإنّهم يعبّرون عن ظهور النبات على الأرض والسنّ في اللثّة ووضوح النظرية في الذهن بـ نَجَمَ!
1 ـ الثريا مجموعة النجوم السبعة التي ستّة منها واضحة وواحد منها خافت النور وعادةً يختبر بها قوّة البصر فيمتحن الناس بالنظر إليها، والقسم بهذه المجموعة من النجوم لعلّه لمسافتها البعيدة عنّا ..
2 ـ «الشعري»: واحد من نجوم السماء واللامعة وسيأتي البحث عن هذا النجم ذي ذيل الآية (49) من هذه السورة ذاتها بإذن الله، والقسم بهذا النجم لعلّه لإشراقه الشديد ولخصائصه المتميّز بها.
3 ـ الأنعام، الآية 76.
وهكذا فإنّ الله أقسم بطلوع الكواكب وغروبها أيضاً، لأنّ ذلك دليل على حدوثها وأسارتها في قبضة قوانين الخلق(1).
لكن لنعرف لِمَ أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: (ما ضلّ صاحبكم وما غوى).
فهو يخطو في مسير الحقّ دائماً، وليس في أقواله ولا في أعماله أيّ إنحراف!
والتعبير بـ «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة!
والكثير من المفسّرين لم يفرّقوا بين «ضلّ» و «غوى» بل عدّوا كلاًّ منهما مؤكّداً للآخر، إلاّ أنّ بعضهم يعتقد أنّ بينهما فرقاً وتفاوتاً! فالضلال هو أن لا يجد الإنسان طريقاً إلى هدفه، والغواية هي أن لا يخلو طريقه من إشكال أو لا يكون مستقيماً. فالضلال كالكفر مثلا والغواية كالفسق والذنب .. إلاّ أنّ «الراغب» يقول في الغي: انّه الجهل الممزوج بالإعتقاد الفاسد.
فبناءً على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة، إلاّ أنّ الغواية جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة.
وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه يريد بهذه العبارة الموجزة أن ينفي كلّ نوع من أنواع الإنحراف والجهل والضلال والخطأ عن نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يحبط ما وجّهه أعداؤه إليه من التّهم في هذا الصدد.
ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من الله فإنّ القرآن يضيف قائلا: (وما ينطق عن الهوى).
وهذا التعبير مشابه التعبير الإستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع
1 ـ وما ورد في بعض الرّوايات من أنّ المراد بالنجم هو شخص النّبي والمراد من هوى هو نزوله من السماء في ليلة المعراج، فهذا التّفسير في الحقيقة يعدّ من بطون الآية لا من ظاهرها!
الهوى.
![]() |
![]() |
![]() |