[1]

 

الأَمْثَلُ

 

 

 

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

 

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

 

 

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد السابع عَشَر

 

 

 

[5]

 

 

 

 

سُورَة

 

 

 

ق

 

 

 

مكّية

 

وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وأربعُون آية

 

 

[7]

 

 

 

سورة ق

محتوى السورة:

إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» وجميع هذه الآيات ـ تقريباً ـ تدور حول هذا المحور وبعض المسائل الاُخرى التي لها تعلّق به أيضاً.

ومن المسائل المرتبطة بالمعاد تمت الإشارة في هذه السورة إلى الاُمور التالية:

1 ـ إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

2 ـ الإستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصّة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

3 ـ الإستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

4 ـ الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

5 ـ المسائل المتعلّقة بالموت والإنتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاُخرى.

6 ـ جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنّة والنار.

7 ـ إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة التي تعتبر بدورها بداية العالم الآخر!

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الاُمم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجّه إلى الله تعالى .. كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة موجزة إلى عظمة القرآن!.

 

[8]

فضيلة تلاوة سورة «ق»:

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ النّبي كان يهتمّ إهتماماً كبيراً بسورة «ق» حتّى أنّه كان يقرؤها في خطبة صلاة كلّ يوم جمعة(1).

كما ورد في حديث آخر أنّه كان يقرؤها في كلّ عيد وجمعة(2) وإنّما كان ذلك فلأنّ يومي الجمعة والعيد يومان يتيقّظ فيهما الناس وينتهبون، وفيهما تكون العودة إلى الفطرة الاُولى، والتوجّه إلى الله ويوم الحساب، وحيث أنّ آيات هذه السورة تتحدّث عن مسائل المعاد والموت وحوادث يوم القيامة وأنّ لاُسلوبها تأثيراً بالغاً في إيقاظ الناس من الغفلة وتربيتهم، لذلك كانت موضع إهتمام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد ورد في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة (ق) هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته»(3).

كما ورد عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق) وسّع الله في رزقه وأعطاه كتاباً بيمينه وحاسبه حساباً يسيراً».

ولا حاجة للتذكير بأنّ كلّ هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والإنسجام مع محتوى السورة هذه.

 

* * *


1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6171.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج7، ص547.

3 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص140.

[9]

الآيات

 

ق وَالْقُرْءَانِ الَْمجِيدِ ( 1 ) بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَـفِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ ( 2 ) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( 3 ) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـبٌ حَفِيظُ( 4 ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْر مَّرِيج( 5 )

 

التّفسير

المنكرون المعاندون في أمر مريج!

مرّةً اُخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطّعة! وهو الحرف «ق»، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ .. وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير اُخر للحروف المقطّعة ويمكن مراجعتها في بدايات سور «البقرة، آل عمران، الأعراف وسور حم أيضاً».

[10]

قال بعض المفسّرين أنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

كما ورد في كثير من التفاسير أنّ «ق» اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة الأرضية!

ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما المراد منه؟ ليس هنا محلّ الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنّه من البعيد جدّاً أن يكون «ق» في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنّه ليس هذا لا يتناسب مع مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب، بل حرف «القاف» هنا كسائر الحروف المقطّعة الواردة في بدايات السور في القرآن، أضف إلى ذلك لو كان «ق» إشارة إلى جبل «قاف» لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى: والطور وأمثال ذلك، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.

ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف «ق» مفرداً، في حين أنّ جبل «قاف» يُكتب رسمه على هيئة إسمه الكامل «قاف».

ومن جملة الاُمور التي تثبت على أنّ هذا الحرف «ق» هو من الحروف المقطّعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرةً ـ بعد هذا الحرف ـ بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: (ق والقرآن المجيد).

كلمة «المجيد» مشتقّة من المجد ومعناها الشرف الواسع، وحيث أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كلّ جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ولسائل أن يسأل: ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك بين المفسّرين إحتمالات كثيرة، ولكن مع الإلتفات إلى ما بعد القسم من الآيات فإنّه يبدو أنّ المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوّة [نبوّة محمّد] أو

[11]

نشور الناس وبعثهم بعد موتهم(1).

ثمّ يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفّار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين منها .. الأوّل هو حكايته عنهم: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب).

وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن وردّ عليه، وتكرار هذا الإشكال يدلّ على أنّه من إشكالات الكفّار الأساسية التي كانوا يكرّروها دائماً!.

ولم يكن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال، فالرسل أيضاً أشكلوا عليهم أيضاً بذلك بقولهم: (إن أنتم إلاّ بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا).(2)

وكانوا يقولون أحياناً: (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).(3)

وربّما أضافوا أحياناً (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).(4)

إلاّ أنّ جميع هذه الاُمور كانت حِججاً واهية وذريعة لعدم التسليم للحقّ.

والقرآن في هذه الآيات محلّ البحث لا يردّ على هذا الإشكال، لأنّه أجاب عليه مراراً، وهو إن أردنا أن نرسل ملكاً لجعلناه على صورة بشر .. أي أنّ قادة الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم، وليكونوا اُسوة لهم من الناحية العملية ولئلاّ يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلّوا طاهرين أنقياء!

فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم:


1 ـ وتقدير الكلام هكذا «ق والقرآن المجيد إنّك لرسول الله» أو .. لتُبعثنّ أو أنّ البعث حقّ إلخ..

2 ـ سورة ابراهيم، 10.

3 ـ سورة المؤمنون، 33.

4 ـ سورة الفرقان، 7.

[12]

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كيف يكون النّبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اُخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي (أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجع بعيد)(1).

وعلى كلّ حال، كانوا يتصوّرون أنّ العودة للحياة مرّة اُخرى بعيدة لا يصدّقها العقل، بل كانوا يرونها محالا ويعدّون من يقول بها ذا جنّة! كما نقرأ ذلك في الآيتين 7 و8 من سورة سبأ إذ: (قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنّة).

ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النّبي هنا فحسب، بل أشكلوا عليه به عدّة مرّات وسمعوا ردّه عليهم، إلاّ أنّهم كرّروا عليه ذلك عناداً.

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعدّدة! فتارةً يشير إلى علم الله الواسع فيقول: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم .. فالله الذي أحاط بكلّ شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم، وكلّ شيء ـ حتّى أعمالكم ـ سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.


1 ـ جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها: «أإذا متنا وكنّا تراباً نرجع ونردّ أحياء ذلك رجع بعيد».

[13]

(الكتاب الحفيظ) معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها، وهو إشارة إلى «اللوح المحفوظ» الذي بيّنا معناه بتفصيل في ذيل الآية (39) من سورة الرعد.

ثمّ يردّ القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: (بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم).

أي إنّهم جحدوا الحقّ مع علمهم به، وإلاّ فإنّه لا غبار على الحقّ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشكّ والتردّد!

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: (فهم في أمر مريج)! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يعبّرون عن كلماته بأنّها «أساطير الأوّلين».

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وتارةً يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.

وتارةً يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.

وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ، إلاّ أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

وكلمة «مريج» مشتقّة من مرج ـ على زنة حرج ـ ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

 

* * *

[14]

الآيات

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـهَا وَزَيَّنَّـهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج ( 6 ) وَالاَْرْضَ مَدَدْنَـهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج( 7 ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْد مُّنِيب( 8 ) وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَـرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـت وَحَبَّ الْحَصِيدِ( 9 ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَـت لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( 10 ) رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 )

 

التّفسير

انظروا إلى السماء لحظةً!

هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارةً تتحدّث عن قدرة الله المطلقة لإثبات المعاد، واُخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد.

فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها).

[15]

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وجمال وإستحكام ونظم ودقّة.

جملة (وما لها من فروج) أي لا إنشقاق فيها، إمّا أن يكون بمعنى عدم وجود النقص والعيب وإرتباك كما ذهب إليه بعض المفسّرين، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في سورة الأنبياء الآية (32) إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشُهب التي تهوي بإستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل إلى شعلة فرماد، كما أنّها تحجب الأشعّة الضارّة للشمس وغيرها من الأشعّة الكونية، وإلاّ فإنّ السماء معناها الفضاء الواسع الذي تسبح فيه الأجرام الكروية المعروفة بالنجوم.

وهنا إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّ الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود «الأثير» .. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ جميع عالم الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ما بين النجوم ـ مليء من مادّة عديمة اللون والوزن تُدعى بـ «الأثير» وهي تحمل أمواج النور وتنقلها من نقطة لاُخرى، وطبقاً لهذه النظرية فإنّه لا وجود لأيّة فُرجة ولا فجوة ولا إنشقاق في عالم الإيجاد والخلق، وجميع الأجرام السماوية والكواكب السيارة تموج في الأثير!

وبالطبع فإنّه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي تعتمد على فرضية الأثير لا يعوّل عليها ولا يمكن الركون إليها، لأنّ موضوع الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعيّة عند جميع العلماء لحدّ الآن!

ثمّ تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج).

[16]

أجل، خلق الأرض من جهة، ثمّ اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اُخرى، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة .. ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللاّ محدودة(1).

والتعبير بـ (من كلّ زوج) إشارة إلى مسألة الزوجية في عالم النباتات التي لم تكن معروفة كأصل كلّي حين نزول الآيات محلّ البحث، وبعد قرون وسنين متطاولة إستطاع العلم أن يميط النقاب عنها. أو أنّه إشارة إلى إختلاف النباتات وأنواعها المتعدّدة، لأنّ التنوّع والإختلاف في عالم النبات عجيب ومذهل.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول: (تبصرةً وذكرى لكلّ عبد منيب)(2).

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اُخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اُخرى!؟

ترى أليست هذه القدرة المذهلة العظيمة دليلا واضحاً على إمكان المعاد؟!

أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: (ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد).

«الجنّات» هنا إشارة إلى بساتين الثمار، أمّا (حبّ الحصيد) فإشارة إلى الحبوب التي تعدّ مادّة أساسيّة لغذاء الإنسان كالحنطة والشعير والذرّة وغيرها.


1 ـ كنّا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتّساع الأرض وبسطها وزوجية النباتات بحثاً مفصّلا في سورة الرعد ذيل الآية (3).

2 ـ يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقاً .. إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب، ومثل هذا يقع الكلام على كلمة «ذكرى».

[17]

ثمّ تضيف الآية: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) كلمة: «باسقات» جمع باسقة بمعنى الشجرة المرتفعة العالية و «الطلع» ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ، وكلمة «النضيد» معناها المتراكم بشكل دقيق، والمعروف أنّ عذق النخل قبل أن ينشقّ، يحمل داخله طلعاً متراكباً متراكماً وحين ينشقّ هذا الطلع يكون مذهلا وعجيباً.

والآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقول: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج)(1).

وهكذا فانّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلا للمعاد كلّ سنة في حياتهم في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة: «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ باريء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اُخرى، لأنّ وقوع الشيء أقوى دليل على إمكانه!.

* * *


1 ـ بحثنا هذا الموضوع في آيات اُخرى أيضاً فراجع ذيل الآية (9) من سورة فاطر وذيل الآيات الأخيرة من سورة (يس).

[18]

الآيات

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَأَصْحَـبُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعُوْنُ وَإِخْوَنُ لُوط ( 13 ) وَأَصْحَـبُ الاَْيْكَةِ وَقَوْمُ تُبّع كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 ) أَفَعَيَينَا بِالْخَلْقِ الاَْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْس مِّنْ خَلْق جَدِيد ( 15 )

 

التّفسير

لست وحدك المبتلى بالعدوّ

تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعدّدة! ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفّار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: (كذّبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود)!.

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النّبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز.

أمّا «أصحاب الرسّ» فهناك أقوال عند المفسّرين، فالكثير من المفسّرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه.

[19]

وألقوه في البئر في آخر الأمر «من معاني الرسّ هو البئر» والمعنى الآخر الأثر اليسير الباقي من الشيء، وقد بقي من هؤلاء القوم الشيء اليسير في ذاكرة التاريخ!.

ويرى بعض المفسّرين أنّهم «قوم شعيب» لأنّهم كانوا يحفرون الآبار، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ «أصحاب الأيكة» المذكورين في الآيات التالية هم قوم شعيب أنفسهم ينتفي هذا الإحتمال أيضاً.

وقال بعض المفسّرين: هم بقايا قوم ـ صالح ـ أي ثمود، ومع الإلتفات إلى ذكر ثمود على حدة في الآية فإنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً أيضاً.

فعلى هذا يكون التّفسير الأوّل هو الأنسب، وهو ما إشتهر على أقلام المفسّرين وألسنتهم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (وعاد وفرعون وإخوان لوط) والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم: (وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع). والأيكة: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض ـ أو الملتفّة أغصانها ـ و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة(1)!

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية اُخرى منه (37 ـ الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن إسمه (أسعد أبو كرب) كما نصّت عليه بعض الرّوايات، ويعتقد جماعة من المفسّرين بأنّه كان رجلا صالحاً


1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآيات (78) من سورة الحجر و (176) من سورة الشعراء.

[20]

مؤمناً يدعو قومه إلى اتّباع الأنبياء، إلاّ أنّهم خالفوه(1).

ثمّ إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: (كلٌّ كذّب الرسل فحقّ وعيد).

وما نراه في النصّ من أنّ جميع هؤلاء كذّبوا الرسل والحال أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم فحسب لأنّ الفعل الصادر منهم جميعاً [التكذيب] نال الأنبياء جميعاً وإن كان كلّ قوم قد كذّبوا نبيّهم وحده في زمانهم.

أو لأنّ تكذيب أحد النّبيين والرسل يعدّ تكذيباً لجميع الرسل، لأنّ محتوى دعوتهم سواء.

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء الاُمم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالا عليهم، فمنهم من اُبتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة!! فكن مطمئناً يارسول الله أنّه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من السابقين.

ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: (أفعيينا بالخلق الأوّل)(2).

ثمّ يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: (بل هم في لبس جديد).

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلاّ أنّهم من جهة اُخرى


1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآية (37) من سورة الدخان.

2 ـ في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال «أفعيينا بالخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني».

[21]

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله، في حين أنّ الأمرين متماثلان: «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة، فتارةً عن طريق علم الله، واُخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيراً عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عُدنا إلى آيات القرآن الاُخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة اُخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والاُسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه .. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمراً ملتوياً وعسيراً.

 

* * *

[22]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الَْيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( 18 )

 

التّفسير

كتابه جميع الأقوال:

يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه).