ويؤكّد مرّة اُخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمة «الميزان» ذكرت ثلاث مرّات في هذه الآيات، وكان بالإمكان الإستفادة من الضمير في المرحلة الثانية والثالثة، وهذا ما يدلّل على أنّ كلمة (الميزان) هنا قد جاءت بمعان متعدّدة في الآيات الثلاث السابقة، لذا فإنّ الإستفادة من الضمير لا تفي بالغرض المطلوب، وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحديث في المرحلة الاُولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ

[375]

عالم الوجود.

وفي المرجلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الإجتماعية.

وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر.

وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للإنسجام في الآيات المباركة، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والإنتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل(1).

إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الإضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ (الميزان): قد فسّر بوجود (الإمام)، وذلك لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحقّ من الباطل، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية(2). وهكذا في تفسير «الميزان» بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.

ونظراً إلى أنّ هذه الآيات تتحدّث عن النعم الإلهية، فإنّ وجود الميزان سواء في نظم العالم أجمع أو المجتمع الإنساني أو الروابط الإجتماعية أو مجال العمل


1 ـ يقول الفخر الرازي في تفسيره لكلمة (الميزان) في الآية الاُولى: إنّها اسم (آلة) بمعنى وسيلة للقياس، وفي الآية الثانية جاء مصدراً (يعني الوزن)، وفي الآية الثالثة أتى مفعولا بمعنى (جنس الموزون).

2 ـ رُوي هذا الحديث في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) والحديث مفصّل وقد ذكر مضمونه هنا فقط (تفسير علي بن إبراهيم، ج2، ص343).

[376]

التجاري ... فإنّها جميعاً نِعَم من قبل الله سبحانه.

ثمّ ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عزّوجلّ: (والأرض وضعها للأنام).

«الأنام» فسّرها البعض بمعنى (الناس)، وفسّرها آخرون بمعنى (الإنس والجنّ)، وفسّروها أيضاً بأنّها تشمل كلّ موجود (ذي روح).

إلاّ أنّ قسماً من أئمّة اللغة فسّرها بمطلق (الخلق) ولكن القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجنّ تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجنّ والإنس).

نعم، إنّ الكرة الأرضية التي ذكرت هنا بعنوان هبة إلهيّة مهمّة، وفي آيات اُخرى ذكرت بعنوان (مهاد) مأوى ومستقرّ للإنسان الذي لا يدرك قدرها غالباً في الحالات الإعتيادية، إلاّ أنّه في حالة حدوث تغيّر بسيط كزلزلة مدمّرة أو بركان بإمكانه أن يدفن مدينة بأكملها تحت المواد المذابة وعتمة الدخان ولهيب النار، هنا ندرك كم أنّ هدوء الأرض نعمة عظيمة، خصوصاً إذا وضعنا الأرقام التي توصّل إليها العلماء أمامنا فيما يتعلّق بسرعة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس(1)، عند ذلك يتبيّن لنا أهميّة هذا الهدوء الكامن في أعماق هذه الحركة السريعة جدّاً والتي هي ليست نوعاً واحداً، بل أنواع مختلفة.

التعبير بـ (وَضَعَ) عن الأرض في مقابل (رَفَعَ) عن السماء، إضافةً إلى الروعة البلاغية في هذا التقابل فهو إشارة إلى تسخير الأرض ومنابعها للإنسان حيث يقول سبحانه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).(2)


1 ـ سرعة الأرض حول الشمس (الحركة الإنتقالية) 35 كم في الثانية، وسرعة سيرها حول نفسها بحدود (1600) كم في الساعة (في المناطق الاستوائية).

2 ـ الملك، 15.

[377]

وبهذا الترتيب فقد ذكر لنا سبحانه النعمة العظيمة الثامنة في هذه السلسلة.

وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية، والتي تتضمّن قسماً من المواد الغذائية التي وهبها الله سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى: (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام).

«الفاكهة» تشمل كلّ نوع من الفاكهة كما يقول الراغب في المفردات، وفسّرها البعض بأنّها تشمل جميع أنواع الفاكهة باستثناء التمر، حيث ذكر «النخيل» في هذه السورة بصورة مستقلّة، ويمكن أن يكون ذكر النخيل بسبب أهميّة النخل والتمر لا إستثناءً من عموم لفظ الفاكهة.

«وقد أوردنا بحثاً مفصّلا حول فوائد التمر من الناحية الغذائية والمواد الحياتية المختلفة لدى تفسير الآية 11 من سورة النحل، والآية 25 من سورة مريم».

«أكمام» جمع (كِم) على وزن (جِن) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة. و (كُمْ) على وزن (قُمْ) القسم الخاصّ باليدين من الثوب، و (كمة) على وزن (قبة) بمعنى القبعة التي تغطّي الرأس(1).

إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل ـ والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثمّ ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب ـ يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاذ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف، فهو بالإضافة إلى كونه يقوم بمهمّة حفظ الثمرة من الآفات لحين النمو المناسب والقدرة الملائمة ويكون دوره كرحم الاُمّ الذي يحافظ على الجنين فترة زمنية مناسبة قبل خروجه إلى عالم الدنيا ... فإنّه كذلك يحوي عصارة (الأسانس) الخاصّة والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.


1 ـ لنا بحث مفصّل في هذا الموضوع في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (47) من سورة فصّلت.

[378]

كما أنّ الروعة تكمن في الوضع الخاصّ لفاكهة هذه الشجرة أيضاً، حيث تتجمّع في كميّات كبيرة منها بصورة عناقيد لتسهّل عملية قطف ثمارها، ولو إفترضنا أنّ ثمار هذه الشجرة متناثرة كما في شجرة التفاح فإنّ عملية قطف الثمار ستكون صعبة للغاية قياساً لطول شجرة النخل.

ثمّ يتحدّث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه: (والحبّ ذو العصف والريحان).

الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها، وبهذا الترتيب فلا يوجد شيء فيها غير ذي فائدة.

ومن جهة اُخرى، فإنّ الله تعالى خلق الأزاهير المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الإطمئنان والنشاط، ولذا فإنّ الله سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

(الحبّ) يقال لكلّ نوع من أنواع الحبوب.

(عَصْفْ) على وزن «حرب» بمعنى الأوراق والأجزاء التي تنفصل عن النبات وينشرها الهواء في جهات مختلفة، ويقال لها التبن أيضاً.

وذكروا أنّ «للريحان» معاني عديدة من جملتها النباتات المعطّرة، وكذلك كلّ رزق، والمعنى الأوّل هو الأنسب هنا.

وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجنّ والإنس بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) حيث يلفت نظرهم إلى كلّ هذه النعم الكبيرة التي شملت كلّ مجالات الحياة وكلّ واحدة منها أثمن وأعظم من الاُخرى ... ألا يدلّ كلّ هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟

إنّ هذا الإستفهام إستفهام تقريري جيء به في مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا

[379]

في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شيء من آلائك ربّي اُكذّب) بعد كلّ مرّة نتلو فيها الآية الكريمة: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وبالرغم من أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن الإنسان فقط، ولم يأت حديث عن طائفة (الجنّ) إلاّ أنّ الآيات اللاحقة تبيّن أنّ المخاطب في ضمير التثنية هم (الجنّ) كما سنرى ذلك.

وعلى كلّ حال، فإنّ الله تعالى يضع (الإنس والجنّ) في هذه الآية مقابل الحقيقة التالية: وهي ضرورة التفكّر في النعم الإلهيّة السابقة التي منحها الله لكم وتسألون أنفسكم وعقولكم هذا السؤال: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) فإن لم تكذّبوا بهذه النعم، فلماذا تتنكّرون لوليّ نعمتكم؟ ولماذا لا تجعلون شكره وسيلة لمعرفته؟ ولماذا لا تعظّمون شأنه؟

إنّ التعبير بـ (أي) إشارة إلى أنّ كلّ واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة؟

* * *

 

تعقيب

1 ـ معرفة النعم طريق لمعرفة الله:

إذا تأمّلنا قليلا النعم التي سبق وأن تناولتها الآيات الكريمة: (نعمة القرآن، وخلق الإنسان، وتعليم البيان، والحساب المنظّم للزمان، خلق النباتات ومختلف الأشجار، وحاكمية السماء والسنن والقوانين، وخلق الأرض بخصوصياتها المتعدّدة، وخلق الفاكهة والنخل والحبوب والورود والنباتات المعطّرة ...) مع جميع جزئياتها والأسرار الخفيّة في كلّ واحدة منها لكانت كافية لأن تبعث الإحساس بالشكر في الإنسان وتدفعه إلى معرفة مبدىء هذه النعم وهو الله سبحانه.

[380]

ولهذا السبب فإنّ الله تعالى يأخذ الإقرار من عباده بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم، وتتكرّر الآية في الآيات اللاحقة أيضاً، وبعد ذكر نعم اُخرى، بحيث يصبح عددها 31 مرّة.

إنّ هذا التكرار ليس فقط لا يتنافى مع الفصاحة، بل إنّه فنّ من فنونها، ويشبه هذا الأمر التكرار الذي يؤكّده الأب لإبنه الذي يغفل عن وصاياه بصورة مستمرّة، فيخاطبه بصيغ مختلفة تأكيداً لعدم الغفلة والنسيان حيث يقول له: أنسيت ياولدي ضعفك وطفولتك؟ أتعرف كم من الجهد بذلت من أجل تنميتك وتربيتك.

أنسيت ياولدي كم أحضرت من الأطباء الأخصائيين يوم مرضك، وكم بذلت سعياً وجهداً في ذلك.

أنسيت ياولدي حينما بلغت سنّ الشباب ما بذلته من جهد في زواجك حيث إنتخبت لك زوجة من أكثر النساء عفّة وطهراً؟

أنسيت ياولدي جهدي في مسألة إعداد بيتك ومستلزماته؟ ... فإذا لم تنس كلّ هذا فلماذا العناد والطغيان والقسوة وعدم الوفاء إذاً؟

إنّ الله تعالى يذكّر عباده الغافلين بصورة مستمرّة بنعمه المختلفة، وهكذا يسألهم بعد كلّ نعمة من هذه النعم (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان)، فلماذا هذا العصيان والطغيان في حين أنّ طاعتي هي رمز لتكاملكم وتقدّمكم، وإنّ هذا ينفعكم ولن ينفع الله شيئاً؟!

 

2 ـ مسألة النظم والحساب في الحياة:

يوجد في جسم الإنسان أكثر من عشرين عنصراً معدنياً، وكلّ واحد منها بكيفية خاصّة وكمية معيّنة، وإذا ما حصل أقل تغيّر في مقاديرها ونسبها فإنّ حياتنا تكون في خطر، فمثلا في فصل الصيف إذا تعرّق الإنسان أكثر من اللازم عندئذ يصاب بالصدمة التي قد تؤدّي إلى الموت والسبب في ذلك بسيط جدّاً،

[381]

وهو نقص ماء الجسم وأملاح الدم وعلاجه لا يكون إلاّ بشرب الماء وتناول الأملاح الإضافية.

هذا نموذج بسيط من النظم والحساب في تركيب جسمنا، كما نلاحظ أحياناً أنّ دقّة المقاييس في تركيب مخلوقات أدقّ وأظرف كالخلايا، وأدقّ منها عالم الذرّات تكون إلى درجة من الدقّة بحيث تقاس بـ (واحد على الألف) وأحياناً بـ (واحد على المليون) من الملمتر أو الملغرام، حيث أنّ العلماء اضطرّوا لحساب هذه الموازين الدقيقة إلى الإستعانة بالعقول الألكترونية.

هذا في النظام الكوني، والأمر كذلك في الاُمور الإجتماعية، حيث أنّ أي إنحراف في تطبيق قوانين العدل قد يؤدّي إلى فناء شعب.

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً وذكر كلّ ما يستحقّ الذكر بهذا الصدد حيث يقول سبحانه: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان).

لقد جعل الله سبحانه الطغيان والتمرّد على القوانين الشرعية، مقارناً مع الطغيان والتمرّد على القوانين الكونية التي تحكم الوجود كلّه، إنّه تصوير رائع إستعمله القرآن الكريم عن عالم الوجود تارةً، وعالم الإنسان اُخرى، كما ورد في الآيات الكريمة. وليس هذا فحسب، بل إنّه سبحانه شمل بوصفه هذا عالم الآخرة (يوم الحساب) ونصب الموازين، بل وحتّى طبيعة الحساب والموازين حيث إنّها من الدقّة على قدر عجيب!... ولهذا السبب فقد اُمرنا ـ كما ورد ذلك في الرّوايات الإسلامية ـ أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب وأن نزنها قبل أن توزن.

«وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».

* * *

[382]

الآيات

خَلَقَ الإنسَـنَ مِن صَلْصَـل كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِج مِّن نَّار ( 15 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 )

 

التّفسير

الصلصال وخلق الإنسان:

إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها (خَلق الإنسان)، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجنّ كدليل على قدرته العظيمة، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اُخرى، فيقول سبحانه: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار).

«صلصال» في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردّد الصوت في الأجسام الصلبة) ثمّ اُطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً، كما تطلق (الصلصلة) على الماء المتبقّي في الوعاء، لأنّه يخرج صوتاً عند حركته في الوعاء.

ويفسّر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأشهر والأعرف.

[383]

«فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها(1).

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان، أنّه كان من التراب إبتداءً، قال تعالى: (فإنّا خلقناكم من تراب).(2) ثمّ خرج مع الماء وأصبح طيناً. (هو الذي خلقكم من طين).(3) ثمّ أصبح بصورة طين خبيث الرائحة (إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون).(4) ثمّ أصبح مادّة في حالة لاصقة، (إنّا خلقناهم من طين لازب).(5) ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة يابسة ويكون من (صلصال كالفخار)كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدّة التي يتوقّف فيها الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل؟، وفي أي ظروف تحدث هذه التطوّرات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، والله وحده هو العالم بها فقط.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط إرتباطاً وثيقاً مع الاُمور التربوية للإنسان، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها، ومن أحقر المواد على الأرض، إلاّ أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقاً ذا شأن، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربّانية) فيه، والتي ذكرت في الآيات


1 ـ المفردات للراغب.

2 ـ الحجّ، 5.

3 ـ الأنعام، 2.

4 ـ الحجر، 28.

5 ـ الصافات، 11.

[384]

القرآنية الاُخرى (كما في سورة الحجر / 29) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره.

ثمّ يتطرّق سبحانه لخلق الجنّ حيث يقول: (وخلق الجانّ من مارج من نار).

«مارج» في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج، والمقصود هنا إختلاط شعل النيران المختلفة، وذلك لأنّ النيران أحياناً تكون بألوان مختلفة الأحمر، الأصفر، الأزرق، وأخيراً اللون الأبيض.

ويقول البعض: إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضاً، وذلك من (أمرجت الدابة) يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع.

ولكن كيف خلق الجنّ من هذه النيران المتعدّدة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة، كما أنّ الخصوصيات الاُخرى عن هذا المخلوق، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الربّاني وكتاب الله الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصّة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي.

(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مفصّل حول خلق الجنّ وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجنّ).

وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي: الماء والتراب والهواء والنار، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار، وهذا الإختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر إختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اُخرى حيث يقول سبحانه: (ربّ المشرقين

[385]

وربّ المغربين).

بما أنّ الشمس في كلّ يوم تشرق من نقطة وتغرب من اُخرى، وبعدد أيّام السنة لها شروق وغروب، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقيّة بينهما(1).

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع إستفادة الإنسان.

ويرى البعض أنّ المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس، وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة (والشمس والقمر بحسبان) إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب، خصوصاً وأنّ الرّوايات الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.

ومن جملة هذه الرّوايات حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية حيث يقول: «إنّ مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدّه، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟»(2).

ويتّضح بذلك معنى قوله تعالى: (فلا اُقسم بربّ المشارق والمغارب)،(3) حيث


1 ـ توضيح: لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود 23 درجة، والأرض بهذه الصورة تدور حول الشمس، لذا فإنّ شروق الشمس وغروبها متغيّر دائماً أيضاً كما يبدو من 23 درجة والتي تمثّل أعظم الإنحراف باتّجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى 23 درجة في قمّة الإنحراف باتّجاه الجنوب (بداية الشتاء)، ويسمّى المدار الأوّل لها مدار «رأس السرطان» والمدار الثاني مدار «رأس الجدي»، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس، وبقيّة المدارات في داخل هذين المدارين.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص190 (المقصود هو إرتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).

3 ـ المعارج، 40.

[386]

يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيّام السنة. في الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنّزولي لها فقط.

وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجنّ بقوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

 

* * *

[387]

الآيات

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 )فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَـمِ( 24 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 )

 

التّفسير

البحار وذخائرها الثمينة:

إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع إستفادة البشرية.

يقول تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: (بينهما برزخ لا يبغيان).

مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الإختلاط، أو إرسال الشيء وتركه، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنباً إلى جنب بقرينة الآية: (بينهما برزخ لا

[388]

يبغيان).

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالإستدلال بقوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اُجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).(1)

والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما، وما هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة، إلاّ أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم إطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان، منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح، ولا يوجد بينهما برزخ.

أو قولهم: إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض، والذي يكون الأوّل عذباً والثاني مالحاً، في الوقت الذي نعلم أيضاً بعدم وجود بحر في السماء بإستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات.

وقالوا أيضاً: إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.

في الوقت الذي نعلم أيضاً أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحراً.

نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّاً، وتخرج عندما يحفر بئر في نقطة معيّنة. وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.

إذاً ما هو المقصود من هذين البحرين؟

لقد أشرنا سابقاً إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان، وهي أنّ الأنهار


1 ـ الفرقان، 53.

[389]

العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب إختلاف درجة الكثافة. وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة، حيث المياه العذبة تمثّل بحراً منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها، وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.

والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبإرتفاع سطح المحيط إلى الأعلى، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ بإستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسماً من اليابسة، لذلك فكثيراً ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.

إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلىء وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.

ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين، حيث قالوا: إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله.

ومرّة اُخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وإستمراراً لهذا الحديث يقول عزّوجلّ: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

اللؤلؤ والمرجان: وسيلتان للتجميل والزينة، ويستفاد منهما أيضاً في معالجة

[390]

بعض الأمراض، كما أنّهما ثروة تجارية أيضاً ووسيلة جيّدة للربح الوفير، ولهذه الموارد اُشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.

أمّا «اللؤلؤ» فهو حبّة شفّافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها، ولها إستعمالات واسعة في الطبّ، حيث كان الأطباء سابقاً يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب، وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان، ومعالجة الخوف والوحشة، ورفع الرائحة النتنة من الفمّ، وكذلك الحصى في الكلية ولمثانة، ويستفاد منهما أيضاً في علاج بعض أمراض العين.

«المرجان»: فسّر البعض المرجان بأنّه اللؤلؤ الصغير، إلاّ أنّه في الحقيقة شيء آخر، فهو كائن حيّ يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان العلماء يتصوّرون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلاّ أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات، بالرغم من أنّه يلتصق بالصخور الموجودة في أعماق البحر ويغطّي مساحات واسعة أحياناً وينمو تدريجيّاً بحيث يشكّل جزراً تعرف بالجزر المرجانية، وينمو المرجان غالباً في المياه الراكدة، ويصطاده الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط وفي مناطق اُخرى.

وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن، وهو مادّة خصبة لتشبيهات الشعراء، كما أنّ أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة، وما بين النوعين هو المرجان الأسود.

وإضافة إلى إستعمال المرجان كحليّ وزينة، فإنّ له إستعمالات طبيّة حيث ذكروا له خواصاً كثيرة منها أنّه يصنع منه بعض الأدوية الخاصّة بتقوية القلب، وكذلك دفع سمّ الأفعى، وتقوية الأعصاب، ومعالجة الإسهال، ونزيف الرحم،

[391]

وعلاج الصرع(1).

والنقطة الاُخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أنّ بعض المفسّرين صرّحوا بأنّ اللؤلؤ والمرجان ينشآن فقط في المياه المالحة، ممّا أوقعهم في إشكال في تفسير الآية (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) فذهبوا إلى أنّ المقصود هو أحدهما كما في الآية (31) من سورة الزخرف.