![]() |
![]() |
![]() |
إلاّ أنّ هذه الريح حين تحمل الأمر بالعذاب، فبدلا من أن تهب الحياة تكون عاملا على الهلاك، وكما يعبّر القرآن في الآية (20) من سورة القمر التي تتكلّم على عاد فتقول: (تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر)!
* * *
وَالسَّمَآءَ بَنَيْنـهَا بِأَيْيْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 ) وَالاَْرْضَ فَرَشْنَـهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 ) وَمِن كُلِّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( 49 ) فَفِرَّوا إِلَى اللهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذيرٌ مُّبِينٌ ( 50 ) وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 51 )
مرّة اُخرى تتحدّث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق، وهي في الحقيقة تتمّة لما ورد في الآيتين (20) و21) من هذه السورة في شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده ـ وهي ضمناً دليل على قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أوّلا: (والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون).
«الأيد» على وزن الصيد، معناه القدرة والقوّة ـ وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات!
ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جليّة في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً(1).
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من (وإنّا لموسعون):
فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قِبَلِ الله على العباد بواسطة نزول الغيث، وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات، وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته، لأنّ خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه!
إلاّ أنّه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم عن طريق المشاهدات الحسّية المؤيّدة، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافةً لهذه الآية، وهو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائماً.
والعلم الحديث [المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم، أي أنّ بعض النجوم المستقرّة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتّى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع!.
ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» بقلم الكاتب «فِرد هويل»: أنّ أقصى سرعة لإبتعاد النجوم عن مركزها حتّى الآن 66 ألف كيلومتر في الثانية، والمجرّات التي هي أبعد منها ـ في نظرنا ـ ومض نورها قليل جدّاً حتّى أنّه من الصعب تحديد سرعتها، والصور الملتقطة من السماء تدلّ على أهميّة هذا الكشف وأنّ الفاصلة ما
1 ـ وقع خطأ أو إشتباه عند بعض المفسّرين وغيرهم هنا وينبغي التنويه إليه.
أ ـ قال بعض المفسّرين أنّ للأيد «معنيين»: «القدرة» و «النعمة» مع أنّ الأيد تعني القدرة لغةً. إلاّ أنّ اليد تُجمع على أيدي وجمع جمعها أياد تأتي بمعنى القدرة والنعمة، وقد ذكرنا المعنيين أيضاً في الآية (17) من سورة ص تبعاً للمرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان ونصحّحه هنا .. ب ـ جاء في المعجم المفهرس لمحمّد فؤاد عبدالباقي ذكر اليد في الآية محلّ البحث بيائيين (أييد) ويظهر أنّ هذا الإشتباه ناشىء من بعض الرسم في كتابة المصاحف وإلاّ فإنّ المفسّرين ذكروا معنى القدرة لليد.بين هذه المجرّات تتّسع أكثر من المجرّات القريبة منّا بسرعة(1).
ثمّ يتحدّث المؤلّف عن سرعة هذه المجرّات «السنبلة والأكليل والشجاع وغيرها» فيبيّن سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب(2).
ولنصغ إلى بعض العبارات للاُستاذ «جان الدر» إذ يقول:
«إنّ أحدث وأدقّ تقدير طول الأمواج التي تبثّها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيّرة أي أنّها تكشف لنا أنّ مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائماً وكلّما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها إزدادت سرعتها.
فكأنّ جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثمّ تفرّقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتّجه كلّ منها إلى اتّجاه خاصّ».
ويستنتج العلماء من ذلك أنّ العالم كانت له نقطة بداية وشروع(3).
ويقول «جورج جاموف» في كتاب خلق العالم في هذا الصدد «إنّ فضاء العالم المتشكّل من ملياردات المجرّات في حالة إنبساط سريعة، والحقيقة هي أنّ عالمنا ليس في حالة من السكون، بل إنبساطه مقطوع به .. والإذعان إلى أنّ عالمنا منبسط يهيؤ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنّه إذا كان العالم الآن في حالة الإنبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة إنقباض شديد(4).
وليس العلماء المذكورون آنفاً يعترفون بهذه الحقيقة فحسب .. فإنّ هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرّنا نقل كلماتهم إلى الإطالة.
وممّا يستجلب النظر أنّ التعبير بـ (إنّا لموسعون) دالّة على الدوام
1 ـ حدود النجوم، ص338 إلى ص340.
2 ـ حدود النجوم، ص338 ـ 340.
3 ـ بداية العالم ونهايته، الصفحات 74 ـ 77 بتلخيص.
4 ـ المصدر السابق.
والإستمرار، فهي جملة إسمية ذات إسم فاعل، كما أنّها تدلّ على أنّ هذا الإتّساع موجود دائماً وكان ولا يزال، وهذا يؤيّد تماماً ما وصل إليه العلم الحديث أنّ جميع النجوم والمجرّات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد «بوزن خاصّ له ثقل خارق» ثمّ إنفجرت إنفجاراً عظيماً مثيراً (مرعباً) وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الإتّساع والإبتعاد (عن المركز).
وأمّا التعبير الوارد في شأن خلق الأرض (فنعم الماهدون) ففي كلمة «ماهدون» لطافة تدلّ على أنّ الله مهّد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان، لأنّ «الماهد» مأخوذ من المهد، ومعناه ما يعدّ للطفل من الفراش أو أي محل للإستراحة، فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئاً محفوظاً ليّناً دافئاً مطمئناً، وجميع هذه الاُمور متوفّرة في الأرض!.
وبأمر الله أضحت الحجارة ليّنة وتبدلّت إلى تراب هذا من جهة، وصلابة الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمدّ، ومن جهة ثالثة فإنّ الغلاف الجوّي المحيط بالأرض يخفّف من وطأة حرارة الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنّه يصدّ النيازك والأحجار العظيمة التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحوّل رماداً.
وهكذا فإنّ الله هيّأ جميع وسائل الراحة لإستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله في هذه الكرة الأرضية.
وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون).
ويعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة «الزوجين» هنا معناها الأصناف المختلفة
وأنّ الآية تشير إلى أصناف الموجودات المختلفة في هذا العالم التي تبدو على شكل زوج زوج كالليل والنهار، والنور والظلمة، والبحر واليابسة، والشمس والقمر، والذكر والاُنثى وغيرها.
إلاّ أنّه كما ذكرنا سابقاً ذيل الآيات المشابهة لهذه الآيات أيضاً أنّ الزوجية في مثل هذه الآيات يمكن أن تكون إشارة إلى معنى أدقّ، لأنّ كلمة «الزوج» تطلق عادةً على جنسي الذكر والاُنثى، سواءً في عالم الحيوانات أو النباتات، وإذا ما توسّعنا في إستعمال هذه الكلمة فإنّها ستشمل جميع الطاقات الموجبة والسالبة (- و +) ومع ملاحظة ما جاء في القرآن (ومن كلّ شيء) ويشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحيّة فحسب. فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرّات موجبة وسالبة، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرّات مؤلّفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.
فبناءً على ذلك لا داعي أن نفسّر الشيء بالحيوان أو النبات حتماً أو أنّ نفسّر الزوج بمعنى الصنف «لمزيد الإيضاح ذكرنا شرحاً مفصّلا ذيل الآية 7 من سورة الشعراء» وينبغي الإلتفات أنّه في الوقت ذاته يمكن الجمع بين التّفسيرين.
وجملة (لعلّكم تذكّرون) ـ تشير إلى أنّ الزوجية والتعدّد في جميع أشياء العالم تذكّر الإنسان بأنّ الله خالق هذا العالم واحد أحد، لأنّ التثنية والتعدّد من خصائص المخلوقات.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال: «بمضادته بين الأشياء عُرف أن لا ضدّ له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، واليبس باللبل والخشن باللين، والصرد بالحرور مؤلّفاً بين متعادياتها مفرقاً بين متدانياتها دالّة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلّفها وذلك قوله: (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم
تذكّرون)»(1).
ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً ممّا تقدّم من الأبحاث التوحيدية قائلا: (ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين).
والتعبير بـ «الفرار» هنا تعبير لطيف وبليغ، لأنّ الفرار يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أو حادثاً مخيفاً من جهة، وهو من جهة اُخرى يعرف مكاناً يلتجىء إليه فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجىء إلى نقطة الأمن والأمان .. فالآية تقول: فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.
ففرّوا من عذاب الله وتوجّهوا نحو رحمته!
فرّوا من عصيانه وعناده وتوسّلوا بالتوبة إليه.
والخلاصة: فرّوا من السيّئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحقّ وسعادته الأبدية.
ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول: (ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر).
ويحتمل أنّ الآية السابقة ـ تدعو إلى أصل الإيمان بالله! وهذه الآية تدعو إلى وحدانية ذاته المقدّسة فيكون تكرار جملة: «إنّي لكم منه نذير مبين» في المورد الأوّل على أنّه إنذار على ترك الإيمان بالله، وفي المورد الآخر إنذار على الشرك وعبادة الأصنام، وهكذا فإنّ كلّ جملة وإن تكرّرت تشير إلى موضوع مستقلّ!
وجاء في بعض الرّوايات عن الإمام الصادق أنّ المراد من قوله: (ففرّوا إلى الله) هو الحجّ وزيارة بيت الله(2) وواضح أنّ المراد هنا ذكر مصداق واحد من المصاديق الواضحة للفرار إلى الله، لأنّ الحجّ يعرّف الإنسان حقيقة التوحيد
1 ـ توحيد الصدوق طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج5، ص130.
2 ـ نقل في تفسير نور الثقلين في هذا الصدد بضعة أحاديث عن الإمامين الباقر والصادق الجزء الخامس ص130 ـ 131.
والتوبة والإنابة إلى الله ويمنحه الإلتجاء إلى ألطاف الله سبحانه.
* * *
كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 ) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم ( 54 ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )
قرأنا في الآية 39 من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى (عليه السلام) عندما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتّهام ورد على لسان المشركين في زمان النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآيات محلّ البحث ومن أجل تسلية النّبي والمؤمنين تقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون)(1).
كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» .. لأنّه لم يكن على
1 ـ كذلك خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الكلام: الأمر كذلك.
غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للاُمور الماديّة.
فبناءً على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والإستقامة، لأنّ مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يارسول الله من رجال الحقّ وأهله.
ثمّ يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التّهمة إلى جميع الأنبياء: (أتواصوا به)؟!
وكان عملهم هذا إلى درجة من الإنسجام، وكأنّهم إجتمعوا في مجلس ـ في ما وراء التاريخ ـ وتشاوروا وتواصوا على أن يتّهموا الأنبياء عامّةً بالسحر والجنون ليخفّفوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!
ولعلّ كلاًّ منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه بذلك!
ويعقّب القرآن على ذلك قائلا: (بل هم قوم طاغون)(1).
وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكلّ كذب واتّهام لإخراج أهل الحقّ من الساحة، وحيث أنّ الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإنّ خير ما يلصقونه بهم من التّهم أن يَسِموهم بالسحر أو الجنون، فبناءً على ذلك يكون عامل «وحدة عملهم» هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.
ولمزيد التسرّي عن قلب النّبي وتسليته يضيف القرآن: (فتولّ عنهم).
وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة (فما أنت بملوم).
وإذا لم يستجب اُولئك للحقّ فلا تحزن فهناك قلوب متعطّشة له جديرة بحمله وهي في إنتظاره.
وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدلّ على أنّ النّبي كان يتحرّق لقومه حتّى يؤمنوا ويتأثّر غاية التأثّر لعدم إيمانهم حتّى كاد يهلك نفسه من
1 ـ بل في الآية الآنفة للأضراب.
أجلهم.
كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: (فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً).
.. وبالطبع فإنّ القائد الحقّ ينبغي أن يكون كذلك.
قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن النّبي والمؤمنون لأنّهم تصوّروا أنّ هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأنّ وحي السماء قد إنقطع ويوشك أن يحيق بهم العذاب .. إلاّ أنّه لم تمض فترة قصيرة حتّى نزلت الآية بعدها لتأمر النّبي بالتذكير: (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين)(1).
فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان!
والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يارسول الله وتبليغك .. فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحقّ مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحقّ من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين!
* * *
لاحظوا المزارع والفلاّح الذي ينثر البذور، فقد تقع بعض هذه البذور على الأحجار، ومن الواضح أنّ ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!
وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطّي الصخر، فتثبت هذه البذور وتمدّ جذورها، إلاّ أنّ المكان حيث كان حرجاً لا يساعد على إمتداد الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجفّ البراعم وتموت الجذور.
1 ـ مجمع البيان، ج9، ص161.
ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة، إلاّ أنّ نبات الشوك والعلف تنمو إلى جانبها، فحتّى لو أورقت تلك البذور إلاّ أنّها ما أسرع أن تغلبها الأشواك وتلتفّ عليها فتموت.
وأحسن هذه البذور حظّاً تلك البذور التي تستقرّ في تربة صالحة ولا تعوقها نباتات اُخرى .. فلا يمضي زمن حتّى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها وتعطي ثمارها.
فكلمات الحقّ التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين كهذه البذور، فالقلوب الصخرية لا تتقبّل هذه الكلمات من الأساس، والقلوب الضعيفة تتقبّلها مؤقتاً ثمّ تعرض عنها، وهناك قلوب مهيّأة للقبول، لكن الأهواء والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها، وهذه الاُمور تبطل تأثير تلك الكلمات الحقّة.
القلوب ـ الوحيدة ـ التي تتقبّل كلمات هؤلاء الأئمّة العظام وتنمو فيها وتثمر هي القلوب التي تطلب الحقّ ويحكم عليها البحث عن الحقّ! وخالية من الصفات السلبية والدوافع الدنيوية أيضاً .. وتلك هي قلوب المؤمنين.
أجل .. (فذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين)!
* * *
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( 56 ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْق وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( 57 ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 )
من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كلّ إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيىء إلى هذه الدنيا؟!
فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدّمة حول تذكير المؤمنين، لأنّ ذلك من أهمّ الاُصول التي ينبغي على النّبي أن يتابعها .. كما توضّح ـ ضمناً ـ معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.
تقول الآيات حاكيةً عن الله سبحانه: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون).
وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً (ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون) بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته .. (إنّ الله هو الرزّاق
ذو القوّة المتين).
فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والإختصار تكشف ستاراً عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم.
لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن، وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة، بل لا ينبغي قياسه بأي أحد، فينقدح هذا السؤال وهو لِمَ خلق الله الإنسان؟! هل كان يشعر بنقص فإرتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجاً إلى شيء فإرتفع الإحتياج بخلقنا؟
ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات (ولا محدود في اللاّ محدود) وهو غني بالذات!
إذاً، فطبقاً للمقدّمة الاُولى يجب القبول على أنّه كان له هدف، وطبقاً للمقدّمة الثانية ـ ينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئاً يعود إلى ذاته المقدّسة.
فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته، هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم .. هذا من جانب!
ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه!
فنقرأ في إحدى آياته: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)،(1) وهنا يبيّن مسألة الإمتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف (من أهداف خلق الإنسان).
1 ـ سورة الملك، الآية 6.
وجاء في آية اُخرى (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً)!.(1)
وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض (وما بينهما).
ونقرأ في آية اُخرى (ولو شاء ربّك لجعل الناس اُمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم).(2)
وطبقاً لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله.
والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب، وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس!
وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا إختلاف بين هذه الآيات، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي، وبعضها هدف متوسّط، وبعضها هدف نهائي، وبعضها نتيجة!.
فالهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما اُشير في هذه الآيات محلّ البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله.
وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!
فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم، أو هو حقيقة وراء هذه الاُمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضاً واجدة للأهميّة!؟
1 ـ سورة الطلاق، الآية 12.
2 ـ هود الآيتان 118 و119.
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة «العبد» والعبودية وتحليلهما!
«العبد»: لغةً هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه!.. وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وإبتغائه، فلا يملك في قباله شيئاً وليس له أن يقصّر في طاعته.
وبتعبير آخر: إنّ العبودية ـ كما تبيّن معناها كتب اللغة ـ هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه!
فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوجُ بلوغ الإنسان وإقترابه من الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة!
والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والإمتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات!.
وأخيراً فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلاّ في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى (نفسه وشخصه).
وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الإمتحان والإختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان.
* * *
إنّ جملة: (ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون) هي في الحقيقة إشارة إلى إستغناء الله عن كلّ أحد وعن كلّ شيء، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته
فليس ذلك ليستفيد منهم، بل يريد أن يجود عليهم، وهذا على العكس من العبودية بين الناس، لأنّهم يطلبون الرقّ والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش، أو أن يخدموهم في البيت، فيقدّموا لهم الطعام والشراب، وفي كلتا الحالين فإنّما يعود نفعهم على مالكيهم، وهذا الأمر ناشىء عن إحتياج الإنسان، إلاّ أنّ جميع هذه المسائل لا معنى لها في شأن الله، إذ ليس غنيّاً عن عباده فحسب، بل هو يضمن لعباده الرزق بلطفه وكرمه «ورزق الجميع على الله».
«المتين» كلمة مشتقّة من متن، وهو في الأصل ما يكتنف العمود الفقري من لحم وعصب التي تشدّ الظهر وتجعله مهيّأً لتحمّل الأعباء، ولذلك فقد استعمل «المتن» بمعنى القوّة الكاملة والطاقة والقدرة، فبناءً على ذلك فإنّ ذكر «المتين» بعد ذكر كلمة «ذو القوّة» إنّما هو للتأكيد، لأنّ «ذو القوّة» إشارة إلى أصل قدرة الله! «والمتين» إشارة إلى كمال القدرة، وحين تقترن هذه الكلمة بـ «الرزّاق» وهو صيغة مبالغة أيضاً تدلّ على هذه الحقيقة، وهي أنّ الله له منتهى القدرة والتسلّط في إيلاء الرزق وإعطائه لمن يشاء، وهو يوصل الرزق إلى أيّة جهة كانت وأي مكان كان .. في أعماق البحار، وفي قمم الجبال، وفي سفوح التلال وعلى ضفاف الأنهار، وفي الوديان والصحاري والبراري .. وجميع ما في الوجود ومن في الوجود مجتمعون على مائدته الكريمة، إذاً فخلق الله للإنسان وسائر الموجودات لم يكن لحاجته إليهم، بل ليفيض عليهم من لطفه العميم.
مع أنّه يُستفاد من آيات القرآن بشكل واضح أنّ الإنس أفضل من الجنّ، إلاّ أنّه قدّم ذكر الجنّ على الإنس في الآية الآنفة، ولعلّ الظاهر منه أنّ الجنّ خلقوا قبل
أن يُخلق آدم كما نقرأ ذلك في الآية (27) من سورة الحجر إذ تقول: (والجانّ خلقناه من قبلُ(1) من نار السموم).
ذكرنا آنفاً أنّه قلّ أن نجد من لا يسأل نفسه أو غيره عن الهدف من خلق الإنسان! فدائماً تولّد جماعة وتمضي جماعة اُخرى وتنطفىء إلى الأبد، فما المراد من هذا المجيء والذهاب؟!
والحقّ أنّنا ـ كاُناس لو لم نكن نعيش على وجه هذه الكرة الأرضية فماذا سيحدث؟ وهل يجب علينا أن نعرف لِمَ نأتي ولِمَ نمضي؟ ولو أردنا أن نعرف السرّ فهل نستطيع ذلك؟! وهكذا تترى الأسئلة الاُخر على فكر الإنسان وتحيط به ...
وعندما يطرح هذا السؤال من قبل الماديين فالظاهر أنّهم لا جواب لهم عليه، لأنّ المادّة أو الطبيعة ليس لها عقل ولا شعور حتّى يكون لها هدف لذلك، فقد أراحوا أنفسهم من هذا السؤال وهم يعتقدون بعبثيّة الخلق وأنّه لا هدف من ورائه! وكم هو مثير ومقلق أن يتّخذ الإنسان لجزئيات حياته سواءً أكانت للعمل أم الكسب أو الصحّة أو الرياضة أهدافاً منظّمة وأن يعتقد أنّ الحياة بمجموعها ضرب من العبث واللغو!؟
لذلك فلا مجال للعجب أنّ جماعة من الماديين حينما يفكّرون في هذه المسائل يتركون هذه الحياة التي لا هدف ورائها ويقدّمون على الإنتحار!
إلاّ أنّ هذا السؤال حين يلقيه معتقد بالله، فإنّه لا يواجه طريقاً مسدوداً، لأنّه يعلم أنّ خالق هذا العالم حكيم وقد خلق هذا العالم عن حكمة حتماً وإن جهلناها، وهذا من جانب، ومن جانب آخر حين يرى أعضاءه عضواً عضواً يجد لكلّ
1 ـ قبل بني على الضمّ وإن سبقه الخافض لأنّه مضاف ـ والمضاف إليه محذوف لفظاً وتقديره من قبلِ خلق الإنسان.
فلسفة وحكمة وهدفاً، لا الأعضاء المهمّة ظاهراً كالقلب واللسان والعروق والأعصاب بل حتّى الأظفار وخطوط اليد والبنان وتقوّس القدم أو هيأة اليد وفسلجتها كلّ له فلسفة يعرفها العلم الحديث المعاصر!
فإلى أيّ درجة من السذاجة أن يُرى لجميع هذه الأعضاء أهدافاً إلاّ أنّ المجموع يكون بلا هدف!!
وأي قضاء متهافت أن نجد لكلّ بناء في المدينة فلسفة خاصّة ـ إلاّ أنّنا نقضي على المدينة بأنّها لا فلسفة فيها ولا هدف من ورائها!!
ترى هل من الممكن أن يبني مهندس ما بناءً عظيماً فيه الغرف والأبواب والنوافذ والأحواض والحدائق و «الديكورات» وكلّ من هذه الاُمور هو لأمر خاصّ ولهدف معيّن، إلاّ أنّ مجموع البناء لا هدف من ورائه؟!
هذه الاُمور هي التي تمنح المؤمن بالله والمعتقد به الإطمئنان بأنّ خلقه له هدف عظيم، وعليه أن يسعى ويجدّ حتّى يكتشفه بقوّة العقل والعلم.
والعجيب أنّ أصحاب نظرية العبث (في الخلق) حين يردون أيّة زاوية من زوايا العلوم الطبيعية ـ يبحثون عن الهدف لتفسير الظواهر المختلفة ولا يهدأون حتّى يجدوا الهدف! حتّى أنّهم لا يرتضون أن تبقى غدّة صغيرة في بدن الإنسان دون عمل وغاية، ولربّما يقضون سنوات بالبحث عن الحكمة من وجود مثل هذه الغدّة .. إلاّ أنّهم حين يبلغون أصل خلق الإنسان يقولون بصراحة: لا هدف من ورائه.
![]() |
![]() |
![]() |