![]() |
![]() |
![]() |
وينقل عن الإمام الصادق في تفسير الآية محلّ البحث: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون): أنّه قال: كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها(4).
كما ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: الركعتان في جوف الليل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها(5).
كما نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لسليمان الديلمي «أحد أصحابه»: لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حُرم قيام الليل(6).
وبالطبع فإنّ الرّوايات في هذا الصدد كثيرة ويلاحظ فيها تعابير مثيرة وطريفة جدّاً ولا سيّما التعبير بأنّ صلاة الليل وسيلة «لمحو الذنوب» و «تيقّظ الفكر» و «إشراق القلب» و «جلب الرزق» و «سعة العيش» و «الصحّة»، ولو جمعنا
1 ـ وسائل الشيعة، ج5، ص273.
2 ـ وسائل الشيعة، ج5، ص275.
3 ـ وسائل الشيعة، ج5، ص277.
4 ـ وسائل الشيعة، ج5، ص279.
5 ـ بحار الأنوار، ج87، ص148.
6 ـ بحار الأنوار، ج87، ص146.
هذه الرّوايات لحصلنا على كتاب مستقل(1).
وقد كان لنا بحوث اُخر في هذا المجال ذيل الآية (79) من سورة الإسراء وذيل الآية (17) من سورة الم السجدة فلا بأس بمراجعتها.
ممّا ينبغي ذكره أنّنا قرأنا في الآيات المتقدّمة أنّ في أموال الصالحين والمحسنين حقّاً للسائل والمحروم، وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّهم يعدّون أنفسهم مدينين للمحتاجين والمحرومين، ويعدّون السائل أو المحروم ذا حقّ عليهم، حقّ ينبغي دفعه إليه دون إمتنان ولا أذى، فكأنّه دين من سائر الديون.
وكما قلنا آنفاً فإنّ هذا التعبير كما تدلّ عليه القرائن المتعدّدة لا علاقة له بالزكاة الواجبة وأمثالها، بل هو ناظر إلى النفقة المستحبّة التي يعدّها المتّقون دَيناً عليهم(2).
* * *
1 ـ للإطلاع على هذه الرّوايات يراجع الجزء الخامس من وسائل الشيعة والجزء الأوّل من مستدرك الوسائل، والجزء 87 من بحار الأنوار.
2 ـ نزول هذه الآيات بمكّة وورود هذا الحكم في خصوص أهل الجنّة الصالحين وروايات أهل البيت كلّها قرائن على أنّ الحقّ في الآية غير الزكاة ..
وَفِى الاَْرْضِ ءَايَـتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( 21 ) وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 ) فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ( 23 )
تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدّث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنّة، تأتي هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ لتتحدّث عن آيات الله ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلّها من جهة، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اُخرى، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك! تقول هذه الآية أوّلا: (وفي الأرض آيات للموقنين).
والحقّ أنّ دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حدّ لها في هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أنّ عمر أي إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها
جميعاً.
فحجم الأرض وبعدها عن الشمس وحركتها حول نفسها وحركتها حول الشمس والقوى الجاذبة والدافعة التي تنتج عن حجمها وحركتها وهي متعادلة فيما بينها تماماً ومتناسقة فجميع هذه الاُمور مجتمعةً توفّر الحياة على سطح الأرض وكلّ ذلك من آيات الله الكبرى.
في حين أن لو تغيّرت حركة من هذه الحركات وإختلفت الخصائص أقل إختلاف، لأضطربت الموازين وتبدلّت ظروف الحياة على سطح الأرض.
فالمواد التي تتشكّل منها الأرض والمنابع التي هي فوق سطح الأرض وداخلها ـ المعدّة للحياة ـ كلّ منها آية من آيات الله ودلائله.
الجبال والسهول والهضاب والأنهار والعيون التي كلّ منها له أثره في إستمرار الحياة واتّساق ظروفها دلائل اُخرى من دلائله وآياته.
مئات الآلاف من أنواع النباتات والحشرات والحيوانات .. أجل، مئات الآلاف كلّ منها بخصائصه وعجائبه عند مطالعة كتب الأحياء و «البايلوجيا» وكتب الجيولوجيا والتربة وعلم النبات وعلم الحيوان تدع الإنسان يستغرق في حيرة مذهلة!.
وفي كلّ زاوية أو جانب من هذه الكرة الأرضية أسرار مثيرة قلّ أن يلتفت إليها أحد، إلاّ أنّ الباحثين والعلماء كشفوا النقاب عن جزء منها وأظهروا عظمة الخالق وقدرته.
ولا بأس أن ننقل هنا جانباً من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد: إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلا:
«لقد روعي منتهى الدقّة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لأنعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقاً ممّا هي
عليه قليلا أو كثيراً، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض»!
ويقول في مكان آخر في الغلاف الجوّيى الذي يحيط بالأرض: لو أنّ هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض من الهواء كان رقيقاً لخرقته الشهب الثواقب التي تأتي كلّ يوم بنحو عدّة ملايين فتصيب الأرض حيث ما وقعت، إلاّ أنّ هذا الغلاف الجوّي يمنعها لكثافته فتتلاشى وتحترق عنده فلا تصل إلى الأرض.
ولو أنّ الشهب الثواقب خفّت سرعتها لما إحترقت عند إصطدامها بالهواء ولوقعت على الأرض ودمّرت الكثير.
ويقول في مكان آخر أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لأحترق به كلّ ما من شأنه الإشتعال في هذا العالم .. ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لأحترقت الغابة جمعاء»!
إنّ نسبة كثافة الهواء المحيط بالأرض إلى درجة بحيث يوصل الأشعّة المناسبة لرشد النباتات ونموّها وتعدم المكروبات الضارّة في الفضاء نفسه وتنتج الفيتامينات النافعة.
ومع وجود الأبخرة المختلفة التي خرجت من باطن الأرض خلال القرون المتمادية وإنتشرت في الهواء وأغلبها أبخرة سامّة فمع ذلك فإنّ الهواء المحيط بالأرض لم يتلوّث وما يزال باقياً على حالته الطبيعية المناسبة للحياة الإنسانية.
والجهاز الذي يوجد هذه الموازنة ويحفظ هذا التعادل هو البحر والمحيط الذي منه تستمدّ المواد الحياتية والغذاء والأمطار وإعتدال الهواء والنباتات وأخيراً فإنّ وجود الإنسان نفسه يستمدّ منه أيضاً.
فكلّ من يدرك هذه المعاني فعليه أن يطأطىء رأسه للبحر تعظيماً وأن يشكر
مواهبه وخالق البحر»(1).
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضاً؟!
ولا شكّ أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضاً، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم!
والعجب أنّ هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه وهذا الإبتداع والإبتكار والصنع العجيب كان أوّل يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها!! لكن ما أن استقرّت في الرحم حتّى تكاملت بسرعة وتبدلّت يوماً بعد يوم ولحظة بعد اُخرى فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنساناً كاملا سويّاً!
خليّة واحدة التي هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكّل بناية ضخمة متداخلة عجيبة فهي على حدّ تعبير بعض العلماء تعادل «مدينة صناعية».
يقول أحد علماء «علم الأحياء» إنّ هذه المدينة العظمى مع آلاف الأبواب أو البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات الكثيرة والإرتباطات والأعمال الحياتية المختلفة كلّ ذلك في مساحة صغيرة جدّاً بمقدار خلية من أكثر الاُمور تعقيداً وإثارة، إذ لو أردنا أن نهيىء تأسيسات مثلها ولن نستطيع أبداً ـ لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقّدة لنصل إلى مثل هذه الخطّة!! إلاّ أنّ الطريف أنّ جهاز الخلقة جعل كلّ ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر ميلونيم الميلميمتر فحسب(2).
إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصّة
1 ـ الكاتب كرسي موريسين في كتابه (أسرار خلق الإنسان) من ص33 إلى 36.
2 ـ سفرة في أعماق وجود الإنسان قسم الخلايا.
عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاُخر كلّ منها آية عظمى من آيات الله.
وأهمّ من كلّ ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس وهنا ـ ينحني الإنسان ويتمتم بالتسبيح والحمد والثناء لله دون إختياره ويترنّم بهذه الأشعار:
فيك ياأعجوبة الكو ن غدا الفكر كليلا
أنت حيّرت ذوي اللـ ـلبّ وبلبلت العقولا
كلّما قدّم فكري فيك شبراً فرّ ميلا
ناكصاً يخبط في عمـ ـياء لا يُهدى سبيلا
وقد ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(1).
أجل إنّ معرفة النفس في جميع المراحل طريق لمعرفة الله والتعبير: «أفلا تبصرون» تعبير لطيف: أي إنّ هذه الآيات حولكم وفي داخلكم وفي تمام وجودكم بحيث لو فتحتم أعينكم ولو قليلا لأبصرتم آيات الله ولارتوت أرواحكم من إدراك عظمته!.
وفي الآية الثالثة من الآيات ـ محلّ البحث ـ إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد إذ تقول: (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تفسّر «الرزق» في هذه الآية بـ
1 ـ سفينة البحار، ج2، ص603 مادّة نفس.
«المطر» الذي يمنح الحياة وهو مصدر الخير والبركة في الأرض جميعاً، والآية (5) من سورة الجاثية أيضاً توافق هذا التّفسير إذ تقول: (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) إلاّ أنّ هذا المعنى يمكن أن يكون مصداقاً جليّاً من مصاديق الآية، في حين أنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.
كلّ هذا لو أخذنا مفهوم السماء بالمعنى اللغوي أي السماء التي فوقنا، إلاّ أنّ بعضهم فسّرها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة أو اللوح المحفوظ الذي تقدّر منه أرزاق العباد!
وبالطبع فإنّ الجمع بين التّفسيرين ممكن، وإن كان التّفسير الأوّل أنسب وأوضح!.
وأمّا جملة و (ما توعدون) فيمكن أن تكون تأكيداً على مسألة الرزق ووعد الله في هذا المجال، أو أنّ المراد منها الجنّة الموعودة، لأنّنا نقرأ الآية 15 من سورة النجم (عندها جنّة المأوى) أو أنّها إشارة إلى كلّ خير وبركة أو عذاب ينزل من السماء! أو أنّ «ما توعدون» ناظر إلى جميع هذه المعاني، لأنّ مفهوم «ما توعدون» واسع جدّاً.
وعلى كلّ حال، فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف، فالآية الاُولى تتحدّث عن أسباب وجود الإنسان وحياته، والآية الثانية تتحدّث عن الإنسان نفسه، والآية الثالثة تتحدّث عن أسباب بقائه ودوامه!.
وجدير بالإلتفات أيضاً أنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق وأسرار الأرض وعجائب وجود الإنسان هو «الحرص على الرزق»، فالله سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقّق فيه قوله: (أفلا تبصرون)؟!
لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تُقسم فتقول: (فوربّ السماء
والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون).
وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئِنَ عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك(1).
والتعبير بـ (مثل ما أنّكم تنطقون) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمساً، لأنّه قد يخطىء الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى، إلاّ أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئاً مع أنّه لم يقله .. لذلك فإنّ القرآن يقول: كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك!
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الإجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وإنتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد.
* * *
ينقل الزمخشري في كشّافه عن الأصمعي(2) أنّه قال خرجت من مسجد البصرة فبصرت بأعرابي من أهل البادية راكباً على دابته فواجهني وسألني: من أي القبائل أنت؟! فقلت من بني الأصمع .. فقال من أين تأتي؟ فقلت: من مكان يقرأ
1 ـ هناك كلام بين المفسّرين في أنّ مرجع الضمير في «أنّه» على أي شيء يعود؟ قال بعضهم يعود على الرزق، وقال بعضهم يعود على ما توعدون وقال بعضهم يعود على النّبي والقرآن إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
2 ـ كان يدعى «عبدالملك بن قريب» وكان يعيش في عهد هارون الرشيد وله حافظة عجيبة وإطّلاعات واسعة عن تاريخ العرب وأشعارها وتوفّي في البصرة سنة 216 الكنى والألقاب، ج2، ص27.
فيه كلام الله فقال لي: اقرأ لي منه، فقرأت له آيات من سورة الذاريات حتّى بلغت (وفي السماء رزقكم) فقال كفى. ثمّ نهض وعمد إلى بعير عنده فنحره وقسّم لحمه على المحتاجين من الذاهبين والآيبين ثمّ عمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما أيضاً وألقاهما جانباً وإستدار إلى الوراء ومضى وإنتهت هذه القصّة!.
وحين مضيت إلى حجّ بيت الله الحرام بمعيّة هارون الرشيد وكنت مشغولا في الطواف إذا أنا برجل يناديني بصوت ضعيف فنظرت فإذا هو ذلك الأعرابي وكان نحيلا مصفرّ الوجه «وكان يظهر عليه العشق الملتهب الذي لم يدع له قراراً» فسلّم عليّ وطلب منّي أن اُعيد عليه سورة الذاريات فلمّا بلغت الآية آنفة الذكر صرخ: وقال وجدنا وعد ربّنا حقّاً .. ثمّ أضاف هل هناك آية بعدها؟! فقرأت فورب السماء والأرض أنّه لحقّ: فصرخ ثانية وقال ياسبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتّى حلف ليصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين(1).
كما ذكرنا في الآيات آنفة الذكر فإنّ بعض المفسّرين يرى أنّ جملة (وما توعدون) معناها الجنّة. وقالوا: يستفاد من هذه الآية أنّ الجنّة في السماء، إلاّ أنّ هذا الكلام لا ينسجم مع الآية التي تتحدّث عن الجنّة فتقول: (عرضها السماوات والأرض).(2)
وكما قلنا ـ إنّ هذا التّفسير لجملة (وما توعدون) لا دليل عليه، بل يمكن أن يكون إشارة إلى وعد الله برزقه أو عذاب السماء.
وإذا كان في الآية (15) من سورة النجم قد ورد أنّ جنّة المأوى في السماء عند سدرة المنتهى فليس ذلك دليلا على هذا المعنى، لأنّ «جنّة المأوى» قسم من بساتين الجنّة لا جميع الجنّة .. (فلاحظوا بدقّة).
1 ـ تفسير الكشّاف، ج4، ص400.
2 ـ آل عمران، الآية 133.
حين تتحدّث آيات القرآن عن أسرار الخلق ودلائل الله في عالم الوجود تقول تارةً أنّ في ذلك (لآيات لقوم يسمعون) يونس الآية 67.
وتارةً تقول: (لقوم يتفكّرون) الرعد الآية 3.
واُخرى تقول: (لقوم يعقلون) الرعد الآية 4.
أو تقول: (لقوم يؤمنون) النحل الآية 79.
وفي مكان آخر تقول: (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى) سورة طه الآية 54.
وتارةً تقول: (إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) الحجر الآية 75.
وأخيراً تقول: (لآيات للعالمين) الروم الآية 22.
والآيات محلّ البحث تقول: (أفلا تبصرون)؟!
أي إنّ آيات الله في الأرض وفي أنفسكم واضحة جليّة لاُولئك الذين لهم بصر ثاقب.
وهذه التعبيرات تدلّ دلالة واضحة على أنّ الإستفادة من الآيات التي لا تحصى ـ الدالّة على وجود ذاته المقدّسة في الأرض تحتاج إلى إستعداد كاف، عين باصرة، اُذن سميعة، فكر يقظ، قلب ذكي وروح مهيّأة لقبول الحقائق متعطّشة لها .. وإلاّ فمن الممكن أن يعيش الإنسان سنين بين هذه الآيات إلاّ أنّ مثله كمثل الحيوانات التي همّها علفها.
من جملة الاُمور التي يحكمها نظام دقيق هي «مسألة الرزق» التي اُشير إليها في الآيات محلّ البحث إشارات واضحة.
صحيح أنّ الإستفادة من مواهب الحياة مشروطة بالجدّ والسعي والمثابرة
وأنّ الكسل والخنوع مدعاة للتأخّر والحرمان من الحياة .. إلاّ أنّه من الخطأ البيّن أن نتصوّر أنّ رزق الإنسان يزداد بالحرص والولع والأعمال الكثيرة وأنّ رزقه يقلّ بالتعفّف والتجلّد وما إلى ذلك.
ونلاحظ في الأحاديث الإسلامية تعابير طريفة في هذا المجال: ففي حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كره كاره»(1).
وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) جواباً على بعض أصحابه وقد طلب منه أن يعظه وينصحه فقال (عليه السلام) «... وإن كان الرزق مقسوماً فالحرص لماذا»(2)؟!
والهدف من بيان هذه الأحاديث ليس هو الوقوف بوجه الجدّ والسعي بل هو تنبيه الحريصين أن يلتفتوا إلى أنّ رزقهم مقدّر ليرتدعوا عن حرصهم!.
وهنا لطيفة جديرة بالإلتفات وهي أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت اُموراً كثيرة على أنّها مدعاة للرزق أو مانعة له، وكلّ منها مهمّ في نفسه!
نقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «والذي بعث جدّي بالحقّ نبيّاً انّ الله تبارك وتعالى يرزق العبد على قدر المروءة وأنّ المعونة تنزل على قدر شدّة البلاء»(3).
وعنه (عليه السلام) أنّه قال: «كفّ الأذى وقلّة الصخب يزيدان في الرزق»(4). كما نقل عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «التوحيد نصف الدين وإستنزل الرّزق بالصدقة»(5).
وهناك اُمور اُخر ذكرت على أنّها مدعاة لزيادة للرزق كتنظيف نواحي البيت وغسل الأواني وتنظيفها.
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص126.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ نور الثقلين، ج5، ص125 الحديث 31.
4 ـ المصدر السابق، ص126 (الحديثان 35 و37).
5 ـ المصدر السابق.
هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَـماً قَالَ سَلَـمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( 25 ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْل سَمِين ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ( 27 ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـم عَلِيم ( 28 ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالِتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 )قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 )
من هذا المقطع ـ فما بعدُ ـ يتحدّث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والاُمم المتقدّمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم (عليه السلام) على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك!
فمن جهة .. يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اُشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة.
ومن جهة اُخرى يُعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.
ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للاُمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ ـ كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.
ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)(1).
والتعبير بـ «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحقّ، وقد ورد التعبير عنهم في الآية (26) من سورة الأنبياء أيضاً بمثل هذا ـ (بل هم عباد مكرمون) أو لأنّ إبراهيم (عليه السلام) أكرمهم، أو للوجهين معاً.
ثمّ يبيّن القرآن حالهم فيقول: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون)(2).
قال بعضهم: جملة أنّهم «قوم منكرون» لم يصرّح بها إبراهيم، بل حدّث بها نفسه لأنّ هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الإحترام للضيف الكرام.
إلاّ أنّه كما هو المعتاد قد يقول المضيّف للضيف في حال الإحترام والترحيب: «لا أدري أين التقيت بك من قبل ـ أو يبدو انّك غريب ..»
1 ـ «الضيف» له معنى وصفي، ويطلق على المفرد كما يطلق على الجمع أيضاً .. ولذلك فقد وصف بالمكرمين، وما قاله بعضهم إنّه مصدر ولا يثنّى ولا يجمع فلا يبدو صحيحاً. ولكن كما يقول الزمخشري في الكشّاف حيث إنّه كان في الأصل مصدراً وبعد أن أصبح ذا معنى وصفي فإنّه إستعمل في المفرد والجمع معاً، فلاحظوا بدقّة.
2 ـ سلاماً منصوب بفعل محذوف وتقديره: نسلّم عليكم سلاماً: أمّا سلامٌ فهو مبتدأ وخبره محذوف وأصله عليكم سلام أو سلام عليكم فكأنّ إبراهيم أراد أن يحيّهم بأحسن من تحيّتهم، لأنّ الجملة الإسمية تدلّ على الثبات والدوام تفسير الكشّاف، ج4، ص401.
فبناءً على هذا يمكن التمسّك بظاهر الآية وأنّ إبراهيم قال هذا الكلام صراحةً وإن كان الإحتمال الأوّل غير بعيد. خاصّة أنّ «الضيف» لم يردّوا على هذا الكلام، ولو كان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحةً، فلابدّ أن يجيبوه.
وعلى كلّ حال فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حقّ الضيافة (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين).
والفعل «راغ» كما يقول الراغب في مفرداته مشتقّ من «روغ» ـ على وزن «شوق» ـ ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفيّة، لأنّ إبراهيم فعل «كذلك» وقام بذلك خفاء لئلاّ يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلاّ أنّه لِمَ هيّأ إبراهيم طعاماً كثيراً؟ مع أنّ ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسّرين «ثلاثة» وقال بعضهم: كانوا إثني عشر ـ وهذا أقصى ما قاله بعض المفسّرين(1)ـ .
فذلك لأنّ الكرماء لا يهيّؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب، بل يهيّؤون طعاماً يستوعب حتّى العمّال ليشاركوهم في الأكل، وربّما أخذوا بنظر الإعتبار حتّى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعدّ مثل هذا الطعام الذي هيّأه إبراهيم إسرافاً، ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها القديمة.
و «العجل» على وزن «طفل» معناه ولد البقر «وما يراه بعضهم أنّه الخروف فلا ينسجم مع متون اللغة»!.. وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة، لأنّ هذا الحيوان في هذه السنّ وفي هذه المرحلة يتحرّك حركة عجلى، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً.
و «السمين» معناه المكتنز لحمه، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلّقين والأكلة الآخرين!
1 ـ إقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محلّ البحث.
وفي الآية التاسعة والستّين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنّه «حنيذ» أي مشويّ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث لم تذكر شيئاً عن هذا العجل، إلاّ أنّه لا منافاة بين التعبيرين.
ثمّ تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه (فقرّبه إليهم) إلاّ أنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجّب و (قال ألا تأكلون).
وكان إبراهيم يتصوّر أنّهم من الآدميين (فأوجس منهم خيفةً) لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه .. ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظنّ السيء بأنّه جاء لأمر محذور، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب: من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك»!
و «الإيجاس» مشتقّ من وجس ـ على وزن مكث ـ ومعناه في الأصل الصوت الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي، فكأنّ الإنسان يسمع صوتاً داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه الإحساس بالخوف.
وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنةً له فـ (قالوا لا تخف).
ويضيف القرآن: (وبشّروه بغلام عليم).
وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً .. والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.
وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسّرين وإن كان المشهور أنّه إسحاق وإحتمال كونه إسماعيل ـ مع ملاحظة الآية (71) من سورة هود التي تقول فبشّرناها بإسحاق ـ يبدو غير صحيح، فبناءً على ذلك ليس
من شكٍّ أنّ المرأة التي يأتي ذكرها في الآيات التالية هي سارة زوج إبراهيم وولدها هذا هو إسحاق!
![]() |
![]() |
![]() |