كلّ هذا يدلّ أنّ تعابير القرآن إلى أيّ مدى عميقة وذات معنى غزير، وفي طيّات تعابيره حقائق كامنة إذا لم يقدّر لها أن تعرف في عصر نزولها فإنّها تتجلّى بمرور الزمان.

 


1 ـ دائرة المعارف الإسلامية مادّة: شعرى.

[274]

3 ـ حديث عميق المحتوى عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

جاء في بعض الأحاديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقوم يضحكون فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبرئيل فقال: إنّ الله هو أضحك وأبكى فرجع النّبي إليهم وقال ما خطوت أربعين خطوة حتّى أتاني جبرئيل فقال: ائت هؤلاء، فقل لهم: إنّ الله أضحك وأبكى(1).

وفي ذلك إشارة إلى أنّ المؤمن لا يلزمه أن يبكي دائماً، فالبكاء من خوف الله في محلّه مطلوب، والضحك في محلّه مطلوب أيضاً، لأنّهما من الله!

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه التعابير لا تنافي أصل الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان، لأنّ الهدف هو بيان علّة العلل وخالق هذه الغرائز والإحساسات!

وعندما نقرأ في الآية 82 من سورة التوبة قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) فهذا الأمر وارد في المنافقين، لأنّ الآيات التي قبل هذه الآية وبعدها تشهد بذلك!

الذي يلفت النظر أنّ القرآن يقسم في بداية السورة بالنجم فيقول: (والنجم إذا هوى) وفي الآية محلّ البحث يقول في بيان صفات الله: (وانّه هو ربّ الشعرى) فإذا جمعنا الآيتين جنباً إلى جنب فهمنا لِمَ لا يصحّ عبادة الشعرى، لأنّ كوكب الشعرى يأفل أيضاً، وهو أسير في قبضة قوانين الخلق!

 

* * *


1 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص130.

[275]

الايات

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاُْولَى ( 50 ) وَثَمُودَاًْ فَمَآ أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوح مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 )فَغَشَّـهَا مَا غَشَّى ( 54 ) فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكَ تَتََمارَى ( 55 )

 

التّفسير

ألا تكفي دروس العبرة هذه؟!

هذه الآيات ـ كالآيات المتقدّمة ـ تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاُولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين:

الأوّل: كان ناظراً إلى مسؤولية كلّ إنسان عن أعماله.

الثاني: ناظر إلى إنتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى الله سبحانه! أمّا الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن مسألة واحدة ـ وإن شئت قلت ـ تتحدّث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع اُمم من الاُمم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم، وفي ذلك إنذار لاُولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة الله ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد(1).


1 ـ ينبغي الإلتفات بأنّ هذه المسائل أو المواضيع المشار إليها في القرآن في أحَدَ عَشرَ فصلا، كلّها بدأت بأنّ: فأوّلها جاء في الآية 38 ألاّ تزر وازرة وزر اُخرى وآخرها وأنّه أهلك عاداً الاُولى.

[276]

فتبدأ الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث فتقول: (وأنّه أهلك عاداً الاُولى)وصف عاد بـ «الاُولى» إمّا لقدمها حتّى أنّ العرب تطلق على كلّ قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود اُمّتين في التاريخ باسم «عاد» والاُمّة المعروفة التي كانت نبيّها هود (عليه السلام)تُدعى بـ «عاد الاُولى»(1).

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (وثمود فما أبقى).

ويقول في شأن قوم نوح: (وقوم نوح من قبل إنّهم كانوا هم أظلم وأطغى).

لأنّ نبيّهم نوحاً عاش معهم زماناً طويلا، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم، فلم يستجب لدعوته إلاّ قليل منهم، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم وإستكبارهم وإيذائهم نبيّهم نوحاً وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

وأمّا رابعة الاُمم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى: (والمؤتفكة أهوى).

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد إقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض، وطبقاً لبعض الرّوايات كان جبرئيل قد إقتلعها بإذن الله وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميراً .. (فغشّاها ما غشى)(2).

أجل .. لقد أُمطروا بحجارة من السماء، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وبالرغم من أنّ التعبير في هذه الآية والآية السابقة لم يصرّح بقوم لوط، إلاّ


1 ـ مجمع البيان وروح المعاني، وتفسير الرازي.

2 ـ «ما» في ما غشّى يمكن أن تكون مفعولا به أو فاعلا نظير والسماء وما بناها إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية .. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يأتي للتهويل!

[277]

أنّ المفسّرين فهموا منه كما فهموا من الآية 70 من سورة التوبة والآية 9 من سورة الحاقة هذا المعنى من عبارة المؤتفكات، وقد إحتمل بعضهم أنّ هذا التعبير يشمل كلّ المدن المقلوبة والنازل عليها العذاب من السماء، إلاّ أنّ آيات القرآن الاُخر تؤيّد ما ذهب إليه المشهور بين المفسّرين!.

وقد جاء في الآية (82) من سورة هود: (فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود)!

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم أنّ المؤتفكة «المدينة المقلوبة» هي «البصرة»! لأنّه ورد في رواية أنّ أمير المؤمنين علياً خاطب أهلها بالقول: (ياأهل البصرة وياأهل المؤتفكة وياجند المرأة وأتباع البهيمة!

غير أنّه من المعلوم أنّ هذا التعبير في كلام الإمام علي (عليه السلام) هو من باب التطبيق والمصداق، لا التّفسير، لإحتمال أن يكون أهل البصرة يومئذ فيهم شبه بأهل المؤتفكة من الناحية الأخلاقية .. وما اُبتلي به قوم لوط من عذاب الله!

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدّمة ويلمح إليها بصورة إستفهام إنكاري قائلا: (فبأيّ آلاء ربّك تتمارى

فهل تشكّ وتتردّد بنعم الله، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد، أو نعمة أنّ الله هذه لا يأخذ أحداً بوزر أحد; وما جاء في الصحف الاُولى وأكّده القرآن؟!

وهل من شاكٍّ بهذه النعمة، وهي أنّ الله أبعدكم عن البلاء الذي عمّ الاُمم السابقة بكفرهم وشملكم بعفوه ورحمته؟!

أو هل هناك شكّ في نعمة نزول القرآن وموضوع الرسالة والهداية؟

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

[278]

«تتمارى»(1) مشتقّ من تماري ومعناه المحاجة والمجادلة المقرونة بالشكّ والتردّد!

«آلاء» جمع: ألأ، أو إلىء ـ على وزن فعل ـ والألىء معناها النعمة .. وبالرغم من أنّ بعض ما جاء في الآيات المتقدّمة ومن ضمنها إهلاك الاُمم السابقة وتعذيبهم ليس مصداقاً للنعمة .. إلاّ أنّه من جهة كونه درساً للعبرة «للآخرين» ولأنّ الله لم يعذّب المسلمين وحتّى الكفّار المعاصرين لهم بذلك العذاب يمكن إعتبار ذلك نعمة عظيمة.

 

* * *


1 ـ بالرغم من أنّ باب التفاعل في اللغة العربية يدلّ على إشتراك طرفين في الفعل، إلاّ أن تتمارى هنا مخاطب به شخص واحد، وهو امّا لتعدّد الحالات أو للتأكيد .. «فلاحظوا بدقّة».

[279]

الآيات

هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاُْولَى ( 56 ) أَزِفَتِ الاَْزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ ( 58 ) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 )وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنتُمْ سَـمِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )

 

التّفسير

اسجدوا له جميعاً ..

تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدّث عن إهلاك الاُمم السالفة لظلمهم، تتوجّه هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى المشركين والكفّار ومنكري دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتخاطبهم بالقول: (هذا نذير من النذر الاُولى) أي النّبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النّبي «هذا نذير من النذر الاُولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعاً لم يسبق إليه، فقد أنذر الله اُمماً بمثله في ما مضى من القرون، فعلام يكون ذلك مثار تعجّبكم؟

وقال بعض المفسّرين إنّ المراد من (هذا نذير) هو الإشارة إلى الإخبار

[280]

الوارد في الآيات المتقدّمة عن نهاية الاُمم السالفة، لأنّ هذا الإخبار بنفسه نذير أيضاً، إلاّ أنّ التّفسيرين السابقين أنسب كما يبدو.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفّار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلا: (أزفت الآزفة).

أجل، فقد إقترب وعد القيامة فأعدّوا أنفسكم للحساب، والتعبير بـ «الآزفة» عن القيامة هو لإقترابها وضيق وقتها، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نَجَف. ومعناه ضيق الوقت، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الإقتراب أيضاً ..

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محلّ البحث، واردة في الآية 18 من سورة غافر أيضاً .. وهو تعبير بليغ وموقظ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في سورة القمر (الآية الاُولى) (إقتربت الساعة)، وعلى كلّ حال فإنّ إقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الإعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح، خاصّة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير الله بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد: (ليس لها من دون الله كاشفة)(1).

«الكاشفة» هنا معناه مزيحة الشدائد. إلاّ أنّ بعضهم فسّرها بأنّها العامل لتأخير القيامة، وبعضهم فسّرها بأنّها الكاشفة عن تاريخ وقوع يوم القيامة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب ظاهراً.

وعلى كلّ حال، فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكلّ حين هو الله سبحانه، فإذا أردتم النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (أفمن هذا الحديث تعجبون).


1 ـ الضمير في لها يعود على الآزفة وتأنيث الكاشفة، لأنّها صفة للنفس المحذوفة، وقال آخرون هي تاء المبالغة كالتاء في العلامة.

[281]

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفاً، أو أنّها إشارة إلى القرآن، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية 34 من سورة الطور، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الاُمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطباً: (وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل، بل ينبغي أن يُبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة، والمعاصي المرتكبة، وأخيراً فلابدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والإنشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّراً وغروراً، وهي في أصل إستعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخَطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضاً ـ بعد أن بيّن أبحاثاً متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك: (فاسجدوا لله واعبدوا).

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب، إذ لله وحده تنتهى الخطوط في عالم الوجود، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الاُمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عندما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعاً.

[282]

ووفقاً لبعض الرّوايات أنّ الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتّى المشركون وعبدة الأصنام، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة، ومحتواها المؤثّر من جهة اُخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرحلة الاُولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة .. كلّ هذه الاُمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلاّ اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه أستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتاً ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن إعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأن نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاُولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون إختيارهم، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناءً على هذا، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية: (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى) بسطوا ألسنتهم وقالوا: تلك الغرانيق العُلى!! ولذلك إنجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضاً عند تلاوة النّبي آية السجدة!

[283]

لأنّنا كما أشرنا آنفاً في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين 19 و20 من هذه السورة].

وينبغي الإلتفات أيضاً إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها، ولحن الآية التي جاءت مبتدئةً بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب، أي هي بعد سورة الم السجدة، وحم السجدة .. وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلاّ نعبد سواك شيئاً ولا نسجد إلاّ لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك، أي رضاك ياربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العِبَر ـ لنعتبر بالاُمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الإقتفاء على آثارهم.

آمين ياربّ العالمين.

* * *

إنتهت سورة النّجم

[284]

 

[285]

سُورَة

 

 

 

القَمَر

 

 

مكّية

 

وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وخمسُون آية

 

 

 

[286]

 

[287]

 

 

 

«سورة القمر»

محتوى السورة:

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد، وخصوصاً العقوبات التي نزلت بالاُمم السالفة، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد.. ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاُخرى إلى الإبتلاء بالعذاب الإلهي الشديد، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالاُمم لكي يكون درساً وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي:

1 ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة، وموضوع شقّ القمر، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

2 ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز وإختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهية، وهم قوم نوح، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

3 ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

4 ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالح (عليه السلام) وبيان معجزة الناقة، وأخيراً إبتلاؤهم بالصيحة السماوية.

5 ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

[288]

لإنحرافهم الأخلاقي ... ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وإبتلائهم بالعقاب الربّاني.

6 ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

7 ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الاُمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاُولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

 

فضيلة تلاوة سورة القمر:

ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:

«من قرأ سورة إقتربت الساعة في كلّ غبّ بُعِثَ يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(1).

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيراً عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيداً عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج9 (بداية سورة القمر).

[289]

الآيات

 

 

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 ) وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( 2 ) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْر مُّسْتَقِرٌّ ( 3 )

 

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاُولى حادثتين مهمّتين:

أحدهما: قرب وقوع يوم القيامة، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا وإستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة إنشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة الباريء عزّوجلّ المطلقة، وكذلك تدلّ ـ أيضاً ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: (اقتربت الساعة وانشقّ القمر).

[290]

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة (أزفت الآزفة) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضاً، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة، ومن جهة اُخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ إقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة: «إنشقاق القمر وإقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود ... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بعثت أنا والساعة كهاتين»(1) مشيراً إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اُخرى، فإنّ إنشقاق القمر دليل على إمكانية إضطراب النظام الكوني، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد، إستناداً إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس: إجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فلقتين، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي: «يافلان يافلان، اشهدوا»(2).

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية: (إنشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص29.

2 ـ ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اُخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

[291]

الشمسية، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اُخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة، وأنكروا كلّ معجزة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدا القرآن الكريم، عندما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال، واجهوا عناءاً في توجيه هذه المعجزة الربّانية، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث ...

والحقيقة أنّ مسألة «إنشقاق القمر» كانت معجزة، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديراً بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك، ليعلموا أنّ للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزات عديدة أيضاً.

وإذا اُريد الإستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الإطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

يقول سبحانه: (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر).

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)معجزات عديدة، وشقّ القمر هو إستمرار لهذه المعاجز، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الإستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم: إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

[292]

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا: (حبل مرير) أي: محكم، والبعض فسّرها بمعنى: الطارىء وغير الثابت، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى: (وكذّبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقر) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تكذيب معاجزه ودلائله، وكذلك تكذيب يوم القيامة، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالإستسلام للحقّ، ومن جهة اُخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيداً عن ضوابط المسؤولية، وذلك إشباعاً لرغباتهم وشهواتهم، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون إستجابتهم لدعوة الحقّ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسؤوليات الإيمان والإستجابة للتكاليف ...

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ ...