1 ـ لسان العرب مادّة مزن.

[487]

وهل أنّ إحياء الموتى غير هذا؟

أليس إحياء الأراضي الميتة نوعاً من أنواع إحياء الموتى؟

نعم، إنّه دليل على ذلك، وهو دليل على التوحيد وعظمة القدرة الإلهيّة، ودليل أيضاً على الحشر والمعاد.

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية إستعراض لماء الشرب ـ فقط ـ وعدم التحدّث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهميّة البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه، بالإضافة إلى أنّه قد اُشير له في الآيات السابقة في الحديث الزرع، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

والطريف هنا أنّ أهميّة الماء وتأثيره في حياة الإنسان تزداد مع مرور الزمن وتقدّم الصناعة والعلم والمعرفة الإنسانية، فالإنسان الصناعي يحتاج إلى الماء بصورة متزايدة، لذلك فإنّ كثيراً من المؤسسات الصناعية العظيمة لا تكون لها القدرة على الفاعلية إلاّ حينما تكون على ضفاف الأنهار العظيمة.

وأخيراً ـ ولإكمال البحث في الآية اللاحقة ـ يقول سبحانه: (لو نشاء جعلناه اُجاجاً فلولا تشكرون)(1).

نعم، لو أراد الله تعالى، للأملاح المذابة في مياه البحار أن تتبخّر مع ذرّات الماء، وتصعد إلى السماء معها وتشكّل غيوماً مالحة ومرّة، وتنزل قطرات المطر مالحة مرّة أيضاً كمياه البحر، فهل هنالك من قوّة تمنعه؟ ولكنّه بقدرته الكاملة لم يسمح للأملاح بذلك، ولا للمكروبات ـ أيضاً ـ أن تصعد إلى السماء مع بخار الماء، ولهذا فإنّ قطرات المطر عندما يكون الجوّ غير ملوّث تعتبر أنقى وأطهر وأعذب المياه.

«اُجاج»: من مادّة (أجّ) على وزن (حجّ) وقد أخذت في الأصل من «أجيج


1 ـ في هذه الجملة حذفت اللام وفي التقدير هكذا «لو نشاء لجعلناه».

[488]

النار» يعني إشتعالها وإحتراقها، ويقال «اُجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

نختتم حديثنا هذا بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ذكر الرواة أنّ النّبي كان إذا شرب الماء قال: «الحمد لله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً اُجاجاً بذنوبنا»(1).

وأخيراً نصل إلى سابع ـ وآخر ـ دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهميّة له في المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: (أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن).

«تورون»: من مادّة (ورى) على وزن (نفى) بمعنى الستر، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة «ورى» و «ايراء»، وخروجها يكون عن.

وتوضيح ذلك: إنّ لإشعال النار وإيجاد الشرارة الاُولى، والتي تستحصل اليوم بواسطة الكبريت والقداحات وما إلى ذلك، فإنّهم كانوا يحصلون عليها من الحديد والحجر المخصّص للقدح، حيث تظهر الشرارة بضرب الواحد بالآخر، أمّا أعراب الحجاز فكانوا يستفيدون من نوعين من الشجر الخاصّ الذي ينمو في الصحراء وهما (المرخ) و (العفار) حيث يأخذون قطعتي خشب ويضعون الاُولى أسفل والعفار فوقه فتتولّد الشرارة منها كما تتولّد من الحجر المستعمل للقدح.

وفسّر أغلب المفسّرين الآية بأنّها دليل آخر على قدرة الله البالغة في النار المخفية في خشب الأشجار الخضراء كمولّد للشرر والنار، في الوقت الذي تكون فيه الأشجار الخضراء مشبّعة بالماء، فأين الماء؟ وأين النار؟


1 ـ تفسير المراغي، ج27، ص148; وتفسير روح المعاني، ج27، ص129.

[489]

هذا الخالق العظيم الذي يتميّز بهذه القدرة، الذي وضع الماء والنار جنباً إلى جنب الواحد داخل الآخر، كيف لا يستطيع أن يلبس الموتى لباس الحياة، ويحييهم في الحشر.

وقد ورد دليل شبيه بهذا حول المعاد في آخر آيات سورة «يس» أيضاً يقول تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون).(1)

ولكن كما ذكرنا في تفسير الآية أعلاه فإنّ تعبير القرآن يمكن أن يكون إشارة إلى دليل أظرف، وهو حشر وتحرّر الطاقات وإنطلاقها.

وبتعبير آخر: فإنّ الحديث هنا ليس فقط عن (القادحات) بل عن المواد التي لديها قابلية الإشتعال ـ كالخشب والحطب ـ حيث تولّد عند إحتراقها كلّ هذه الحرارة والطاقة.

وتوضيح ذلك: أنّه ثبت من الناحية العلمية أنّ النار التي نشاهدها اليوم عند إحتراق الأخشاب هي نفس الحرارة التي أخذتها الأشجار من الشمس على مرّ السنين وادّخرتها في داخلها، فنحن نتصوّر أنّ أشعّة الشمس طيلة إشراقها على الشجر خلال خمسين سنة قد ذهبت آثارها غافلين عن أنّ حرارتها قد ادّخرت في الشجرة، وعندما تصل شرارة النار إلى الأخشاب اليابسة تبدأ بالإحتراق وتطلق الحرارة الكامنة فيها.

وبذلك يكون هنا أيضاً معاد ومحشر وتحيا الطاقات من جديد مرّة اُخرى، ولسان حال الأشجار يقول: إنّ الخالق الذي هيّأ لنا الحشر قادر أن يهيّأ لكم حشراً يابني البشر. (ولمزيد من الإطلاع في هذا المجال راجعوا البحث المفصّل الذي بيّناه في الآية من سورة يس).

جملة (يورون) ـ بمعنى إشعال النار ـ بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد


1 ـ سورة يس، الآية 80.

[490]

منه توليد النار، إلاّ أنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب بإعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

ولا تنافي بين المعنيين، حيث المعنى الأوّل يفهمه العامّة من الناس، والثاني أدقّ، يتوضّح مع مرور الزمن وتقدّم العلم والمعرفة.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: (نحن جعلناها تذكرةً ومتاعاً للمقوين).

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة اُخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنّم.

يقول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم»(1).

أمّا تعبير (متاعاً للمقوين) فإنّه إشارة قصيرة ومعبّرة للفوائد الدنيوية لهذه النار، وقد ورد تفسيران لمعنى المقوين:

الأوّل: أنّ (مقوين) من مادّة (قواء) على وزن (كتاب) بمعنى الصحراء اليابسة المقفرة، ولهذا اُطلقت كلمة (المقوين) على الأشخاص الذين يسيرون في الصحاري، ولأنّ أفراد البادية فقراء، لذا فقد جاء هذا التعبير بمعنى «الفقير» أيضاً.

والتّفسير الثاني: أنّ (مقوين) من مادّة (قوّة) بمعنى أصحاب القوّة، وبناءً على هذا فإنّ المصطلح المذكور هو من الكلمات التي تستعمل بمعنيين متضادّين(2).

صحيح أنّ النار هي مورد إستفادة الجميع ـ ولكن المسافرين يستفيدون منها ويعتمدون عليها في الدفء والطهي وخاصّة في أسفارهم في الأزمنة القديمة أكثر من الآخرين.

وإستفادة «الأقوياء» من النار واضحة أيضاً، وذلك لإتّساع المجالات التي


1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6392; وتفسير روح المعاني، ج27، ص131.

2 ـ من الجدير بالملاحظة أنّ كلمة (متاع) تطلق على كلّ وسيلة يستفيد منها الإنسان في حياته.

[491]

يستعملون النار فيها في اُمور حياتهم المختلفة، خصوصاً مع اتّساع دائرة البحث العلمي كما في عالمنا المعاصر، حيث إنّ الحرارة الناشئة من أنواع النار تحرّك عجلة المصانع العظيمة، وإذا ما تعطّلت هذه الوسيلة المهمّة وإنطفأت شعلتها العظيمة ـ والتي جميعها من الشجر ـ بما في ذلك النار المأخوذة من الفحم الحجري أو المواد النفطية حيث ترجع إلى النباتات بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فإنّها ستتعطّل الحياة المدنية، بل وستنطفيء حياة الإنسان أيضاً.

وبدون شكّ فإنّ النار من أهمّ إكتشافات البشر، في حين أنّ الله تعالى هو الذي أوجدها ودور الإنسان فيها بسيط وعادي جدّاً.

لقد قفز إكتشاف النار بالإنسانية مرحلة مهمّة حيث بدأت تسير من ذلك الوقت في مراحل جديدة من التمدّن والرقي.

نعم هذه الحقائق جميعاً عبّر عنها القرآن الكريم بجملة قصيرة: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين).

وممّا يجدر ذكره أنّ الآية أعلاه إستعرضت في البداية الفوائد المعنوية للنار، والتي تذكّرنا بيوم القيامة، والتي هي محور الحديث في هذا البحث، ثمّ إنتقلت إلى ذكر تفاصيل الفوائد الدنيوية لها، لأنّ للناحية الاُولى أهميّة أكثر، بل تمثّل الأصل والأساس في البحث.

بعد ذكر النعم الثلاث (الحبوب الغذائية، والماء، والنار) والتي روعي ترتيب أهميّتها وفق تسلسل طبيعي ـ لأنّ إهتمام الإنسان يبدأ أوّلا بالحبوب الغذائية ثمّ يمزجها بالماء ومن ثمّ يطهوها ويهيّؤها للغذاء بواسطة النار ـ يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى بإعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم .. فيقول سبحانه في آخر آية مورد

[492]

البحث: (فسبّح باسم ربّك العظيم)(1).

نعم، إنّ الله الذي خلق كلّ هذه النعم، والتي كلّ منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده، لائق للتسبيح والتنزيه من كلّ عيب ونقص.

إنّه ربّ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

* * *

 

تعقيب

من المناسب هنا الإشارة إلى بعض الأحاديث الشريفة ـ حول الآيات  أعلاه ـ عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عن الإمام علي (عليه السلام).

أوّلا: نقرأ في تفسير روح المعاني حديثاً للإمام علي (عليه السلام) أنّه في إحدى الليالي كان الإمام يصلّي ويقرأ سورة الواقعة ـ ولمّا وصل إلى الآية: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) قال ثلاث مرّات: ـ بعد إنتهاء صلاته «بل أنت ياربّ» وعندما وصل إلى الآية: (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) قال ثلاث مرّات «بل أنت ياربّ» وعندما وصل إلى قوله تعالى: (أأنتم أنزلتموه من المُزن أم نحن المنزلون)قال ثلاث مرّات أيضاً «بل أنت ياربّ» ثمّ تلا قوله تعالى: (أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون) قل ثلاث مرّات «بل أنت ياربّ»(2).

وموضع العبرة في هذا الحديث هي ضرورة ملاحظة هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعنوان إستفهام تقريري وأن يعطي الإنسان جواباً إيجابياً لله


1 ـ الباء في (باسم ربّك) يمكن أن تكون للتعدية (حيث إنّ الفعل المتعدّي سبّح يؤخذ بمنزلة اللازم) وإحتمل البعض أيضاً أنّ الباء هنا جاءت للإستعانة أو زائدة أو ملابسة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

2 ـ تفسير روح المعاني، ج27، ص130.

[493]

سبحانه الذي يتحدّث معه لتركيز هذه الحقائق في روحه ونفسه، وعليه أن يتعمّق في ذلك من خلال القراءة المتدبّرة الواعية، ولا يقتنع بالتلاوة الفارغة.

ثانياً: جاء في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا تمنعوا عباد الله فضل ماء ولا كلأ ولا نار فإنّ الله تعالى جعلها متاعاً للمقوين، وقوّة للمستضعفين»(1).

ثالثاً: ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حينما نزلت الآية الكريمة: (فسبّح باسم ربّك العظيم): «اجعلوها في ركوعكم»(2).، أي قولوا في ركوعكم: سبحان ربّي العظيم وبحمده.

* * *


1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص161.

2 ـ ذكر هذا الحديث المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بكونه حديثاً صحيحاً، ج9، ص224، وجاء أيضاً في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مطابقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص225، وكذلك في تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص168.

[494]

الآيات

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 )إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِى كِتَـب مَّكْنُون ( 78 ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ( 79 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ ( 80 ) أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ( 81 ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ( 82 )

 

التّفسير

المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن:

إستمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلّة السبعة الخاصّة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهميّة القرآن الكريم بإعتباره يشكّل مع موضوع النبوّة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية، فبالإضافة إلى أنّ للقرآن الكريم أبحاثاً عميقة حول أصلي التوحيد والمعاد، فإنّه يعتبر تحكيماً لهذين الأصلين.

يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه: (فلا اُقسم بمواقع النجوم).

يعتقد الكثير من المفسّرين أن (لا) التي جاءت هنا ليست بمعنى النفي حيث إنّها زائدة وللتأكيد، كما جاء نفس هذا التعبير في الآيات القرآنية الاُخرى حول

[495]

القسم بيوم القيامة والنفس اللوامة وربّ المشارق والمغارب والشفق، وما إلى ذلك.

في الوقت الذي اعتبر البعض الآخر أنّ (لا) هنا جاءت للنفي، حيث قالوا: إنّ المطلب (مورد القسم) أهمّ من أن يقسم به، كما نقول في تعبيراتنا اليوميّة: نحن لا نقسم بالموضوع الفلاني، أي نفي القسم وأنّ (لا) هنا جاءت إشارة لذلك.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، لأنّه قد ورد في القرآن الكريم القسم بالله صراحة، فهل أنّ النجوم أفضل من الذات الإلهيّة حتّى لا يقسم بها؟

وحول (مواقع النجوم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لها:

الأوّل: هو المعنى المتعارف عليه من حيث مداراتها وأبراجها ومسيرها.

والآخر: هو أنّ المقصود بذلك مواقع طلوعها وغروبها.

والثّالث: هو سقوط النجوم في الحشر والقيامة.

وفسّرها آخرون: بأنّ معناه هو غروب النجوم فقط.

وإعتبرها آخرون إشارة وإنسجاماً مع قسم من الرّوايات حول نزول آيات وسور القرآن الكريم في فواصل زمنية مختلفة، وذلك لأنّ «النجوم» جمع نجمة تستعمل للأعمال التي تنجز بصورة تدريجيّة.

وبالرغم من أنّ المعاني لا تتنافى حيث يمكن جمعها في الآية أعلاه، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، وذلك لأنّ أكثر الناس كانوا لا يعلمون أهميّة هذا القسم عند نزول الآيات، بعكس الحالة اليوم، والتي توضّح لنا أنّ لكلّ نجمة من النجوم مكانها المخصّص ومدارها ومسارها المحدّد لها بدقّة وحساب، وذلك طبقاً لقانون الجاذبية، وإنّ سرعة السير لكلّ منها محدّدة أيضاً وفق قانون معيّن وثابت.

وهذه المسألة بالرغم من أنّها غير قابلة للحساب بصورة دقيقة في الأجرام

[496]

السماوية البعيدة، إلاّ أنّ المجاميع الموجودة في المنظومة الشمسية التي تشكّل النجوم القريبة لنا، قد درست بدقّة وتبيّن أنّ نظام مداراتها دقيق إلى حدّ مدهش.

وعندما يلاحظ الإنسان ـ طبقاً لتصريحات العلماء ـ أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة، وكلّ واحدة منها لها مسار خاصّ، عندئذ ستتوضّح لنا أهميّة هذا القسم القرآني.

ونقرأ في كتاب (الله والعلم الحديث) ما يلي:

«يعتقد العلماء الفلكيون أنّ هذه النجوم التي تتجاوز الملياردات، والتي نرى قسماً منها بالعين المجرّدة، والقسم الكثير منها لا يمكن رؤيته إلاّ بالتلسكوبات بل إنّ قسماً منها لا نستطيع مشاهدته حتّى بالتلسكوبات، اللهمّ إلاّ بوسائل خاصّة نستطيع أن نصوّرها بها.

كلّ من هذه النجوم تدور في مدارها الخاصّ، ولا يوجد أي إحتمال أنّ واحدة منها تكون في حقل الجاذبية لنجمة اُخرى. أو أنّ بعضها يصطدم بالبعض الآخر، وفي الواقع أنّ حالة التصادم المفترضة مثل ما لو إفترضنا أنّ سفينة في المحيط الهاديء تصطدم مع سفينة اُخرى تجري في البحر الأبيض المتوسّط وكلّ منها سائرة بموازاة الاُخرى وبسرعة واحدة ... إنّ هذا الأمر لو لم يكن محالا فهو بعيد جدّاً. كذلك الأمر بالنسبة للنجوم حيث أنّ كلا منها لها مدارها الخاصّ بها ولن تصطدم بالاُخرى رغم السرعة الهائلة لكلّ منها»(1).

وبالنظر إلى هذه الإكتشافات العلمية عن وضع النجوم، تتوضّح أهميّة القسم أعلاه، ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: (وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم).

التعبير بـ (لو تعلمون) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان


1 ـ الله والعلم الحديث، ص33.

[497]

لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه: (إنّه لقرآن كريم).

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن ـ والعياذ بالله ـ أو أنّه حديث جنوني أو شعر، أو أنّه من قبل الشيطان .. فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله، وأنّ هذا الموضوع واضح بحيث لا يحتاج لبيان المزيد.

إنّ وصف القرآن بـ «الكريم» (بما أنّ الكرم بالنسبة لله هو: الإحسان والإنعام، ويستعمل للبشر بمعنى اتّصاف الشخص بالالاخلاق والإحسان، وبصورة عامّة فهو إشارة إلى المحاسن العظيمة)(1) إشارة للجمال الظاهري للقرآن من حيث الفصاحة وبلاغة الألفاظ والجمل، وكذلك فإنّها إشارة لمحتواه الرائع، لأنّه نزل من قبل مبدأ ومنشأ كلّه كمال وجمال ولطف.

نعم، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثمّ يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى: (في كتاب مكنون).

إنّه في «لوح محفوظ» في علم الله، محفوظ من كلّ خطأ وتغيير وتبديل، وطبيعي أنّ الكتاب الذي يستلهم مفاهيمه وأفكاره من المبدأ الأعلى وأصله عند


1 ـ الراغب في المفردات مادّة (كريم).

[498]

الله، فإنّه مصون من كلّ تحريف وخطأ وإشتباه.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(1).

ذكر الكثير من المفسّرين ـ تماشياً مع بعض الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين ـ بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

في الوقت الذي إعتبر بعض آخر أنّها إشارة إلى الملائكة المطهّرين الذين لهم علم بالقرآن، ونزلت بالوحي على قلب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل قول المشركين الذين كانوا يقولون: إنّ هذه الكلمات قد نزلت بها الشياطين على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

كما إعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلاّ المطهّرون، كما في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين).(2)

وبتعبير آخر فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

إنّ التفاسير الثلاثة المارّة الذكر لا تتنافى مع بعضها البعض أبداً ويمكن جمعها في مفهوم الآية مورد البحث.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: (تنزيل من ربّ العالمين)(3) إنّ الله المالك والباريء لجميع الخلق، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر، وقد أنزله سبحانه على قلب النّبي الطاهر، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى ربّ العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكلّ نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.


1 ـ «لا يمسّه» جملة خبرية يمكن أن تكون بمعنى النهي أو النفي.

2 ـ البقرة، 2.

3 ـ تنزيل هنا مصدر بمعنى اسم مفعول أي (منزل) وهو خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّه خبر بعد خبر.

[499]

ثمّ يضيف سبحانه: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدّمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلّة الصادقة والحقّة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام الله سبحانه بكلّ جديّة، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشكّ فيها.

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم، و «مدهنون» في الأصل من مادّة (دهن) بالمعنى المتعارف عليه، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة واُمور اُخرى، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة، لذا إستعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية.

والأصل في الإنسان أن يتعامل بجديّة مع الشيء الذي يؤمن به، وإذا لم يتعامل معه بجديّة فهذا دليل على ضعف إيمانه به أو عدم تصديقه.

وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يقول سبحانه إنّكم بدلا من أن تشكروا الله تعالى على نعمه ورزقه وخاصّة نعمة القرآن الكبيرة، فانّكم تكذّبون به: (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون)(1).

قال البعض: إنّ المقصود أنّ إستفادتكم من القرآن هي تكذيبكم فقط، أو أن التكذيب تجعلونه وسيلة لرزقكم ومعاشكم(2).

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل مناسب للآيات السابقة ولسبب النّزول أكثر من التّفسيرين الأخيرين.

وإنسجاماً مع هذا الرأي فقد نقل كثير من المفسّرين عن ابن عبّاس قوله:


1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فإنّ كلمة (شكر) هنا محذوفة وتقديرها كالتالي: «وتجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون»، أو أنّ الرزق كناية عن (شكر الرزق).

2 ـ طبقاً لهذين التّفسيرين فلا يوجد شيء مقدّر.

[500]

أصاب الناس عطش في بعض أسفاره (صلى الله عليه وآله وسلم) فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت الآية (لأنّ العرب كانوا يعتقدون في الجاهلية بالأنواء وأنّ لها الأثر في نزول المطر، ويقصد بها النجوم التي تظهر بين آونة واُخرى في السماء، وأنّ ظهورها يصاحبه نزول المطر، كما يعتقدون، ولهذا يقولون: مطرنا بنوء كذا، أي ببركة طلوع النجم الفلاني، وهذا بذاته أحد مظاهر الشرك الجاهلي وعبادة النجوم)(1).

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّه جاء في بعض الرّوايات عن  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قلّما كان يفسّر الآيات، وإجمالا كان يتصدّى للتفسير عندما تستلزم الضرورة، كما في هذا المورد حيث أخبر (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ المقصود من (وتجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون) «وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون»(2).

* * *

 

تعقيب

أوّلا: خصوصية القرآن الكريم

يستنتج من الأوصاف الأربعة ـ التي ذكرت في الآيات أعلاه ـ حول القرآن، أنّ عظمة القرآن هي في عظمة محتواه من جهة، وعمق معناه من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّ القداسة القرآنية لا يستوعبها إلاّ الطاهرون والمؤمنون، ومن جهة رابعة: في الجانب التربوي المتميّز فيه، لأنّه نزل من ربّ العالمين، وكلّ واحدة من هذه الصفات تحتاج إلى بحث مفصّل أوضحناه في نهاية الآيات المناسبة لكلّ موضوع.


1 ـ نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ونقل أيضاً في الدرّ المنثور، ج6، ص163; والقرطبي، ج9، ص6398; والمراغي، ج27، ص152; وروح المعاني، ج27، ص153 في نهاية الآيات مورد البحث بإختلاف يسير.

2 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص163; ونور الثقلين، ج5، ص227.

[501]

ثانياً: القرآن والطهارة

نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون) وقلنا: إنّ المسّ يفسّر بالمسّ الظاهري وبالمعنوي كذلك، ولا تضادّ بينهما، وهما مجموعان في المفهوم الكلّي للآية.

وفي القسم الأوّل نقلت روايات لأهل البيت (عليهم السلام) عن أبي الحسن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (المصحف لا تمسّه على غير طهر، ولا جنب، ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه، إنّ الله تعالى يقول: (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)(1).

ونقل نفس المعنى في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) مع إختلاف مختصر(2).

وجاء في مصادر أهل البيت (عليهم السلام) من طرق مختلفة أنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «لا يمسّ القرآن إلاّ الطاهر»(3).

وحول اللمس المعنوي نقل عن ابن عبّاس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون» قال: «عند الله في صحف مطهّرة» (لا يمسّه إلاّ المطهّرون)قال: «المقرّبون»(4).

وهذا المعنى يمكن الإستدلال عليه بواسطة العقل أيضاً، لأنّه رغم أنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية لعموم الناس، ولكنّنا نعلم أنّ الكثير ممّن سمعوا القرآن من فم النّبي الأكرم، ورأوا هذا الماء الزلال في عين الوحي الصافية، إلاّ أنّهم بسبب تلوّثهم بالعصبية والعناد والغرور لم يؤثّر فيهم أي تأثير ولم ينتفعوا به أقلّ إنتفاع، وهناك أشخاص اهتدوا به لمجرّد أنّهم سعوا ولو قليلا لتطهير أنفسهم وتهذيبها


1 ـ وسائل الشيعة، ج1، ص269، الحديث (3) وطبقاً لهذا الحديث فإنّ النفي في الآية أعلاه كناية عن النهي.

2 ـ وسائل الشيعة، ج1، ص270، الحديث 5.

3 ـ نقل هذا الحديث في الدرّ المنثور عن عبدالله بن عمر ومعاذ بن جبل وابن حزم الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ج9; ص162.