![]() |
![]() |
![]() |
وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه سئل الإمام الصادق عن «تزكية النفس» فقال نعم إذا اضطرّ إليه ـ أما سمعت قول يوسف أحياناً للضرورة ـ ثمّ استدلّ بموضعين من كلام الأنبياء أحدهما إقتراح يوسف على عزيز مصر أن يكون مسؤولا ومشرفاً على خزائن مصر وتعقيبه: (إنّي حفيظ عليم) .. وقول العبد الصالح: (أنا لكم ناصح أمين).(2)
* * *
1 ـ نهج البلاغة، من كتاب له برقم 28.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص166.
أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 ) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ( 36 )وَإِبْرَهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( 37 ) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى ( 39 ) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 ) ثُمَّ يُجْزَيهُ الْجَزَاءَ الاَْوْفَى( 41 )
ذكر أغلب المفسّرين أسباباً لنزول الآيات أعلاه، إلاّ أنّها لا تنسجم كثيراً مع الآيات هذه، وما هو معروف بكثرة شأنان للنّزول:
1 ـ إنّ هذه الآيات ناظرة إلى «عثمان بن عفّان» حيث كانت لديه أموال طائلة وكان ينفق منها، فقال له بعض أرحامه وإسمه «عبدالله بن سعد»: إذا واصلت إنفاقك فلا يبقى عندك شيء، فقال عثمان: لدي ذنوب واُريد أن أنال بإنفاقي رضا ربّي وعفوه. فقال له عبدالله: إن أعطيتني ناقتك بما عليها من جهاز تحمّلت ذنوبك وجعلتها في رقبتي، ففعل عثمان وأشهده على ما اتّفق عليه وإمتنع من الإنفاق بعدئذ. «فنزلت الآيات وذمّت هذا العمل بشدّة، وأوضحت أنّه لا يمكن لأحد أن
يحمل وزر الآخر وكلّ ينال جزاء سعيه»(1).
2 ـ إنّ الآية في شأن «الوليد بن المغيرة» إذ جاء إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصبا إلى الإسلام فلامه بعض المشركين وقال: تركت ما كان عليه كبراؤنا وعددتهم ضلاّلا وظننت أنّهم من أهل النار! فقال إنّي أخاف من عذاب الله. فقال له اللائم: إن أعطيتني شيئاً من مالك ورجعت إلى الشرك تحمّلت وزرك وجعلته في رقبتي! ففعل الوليد بن المغيرة ذلك إلاّ أنّه لم يُعط من المال المتّفق عليه إلاّ قليلا. فنزلت الآية ووبّخته على إرتداده من الإيمان(2).
كان الكلام في الآيات السابقة في أن يجزي الله تعالى من أساء بإساءته ويثيب المحسنين بإحسانهم .. وبما أنّه من الممكن أن يتصوّر أن يعذّب أحد بذنب غيره أو أن يتحمّل أحد وزر غيره، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهّم في المقام، وبيّنت هذا الأصل الإسلامي المهمّ أنّ كلاًّ يرى نتيجة عمله، فقالت أوّلا: (أفرأيت الذي تولّى) أي تولّى من الإسلام أو الإنفاق!؟ (وأعطى قليلا وأكدى)(3) بمعنى أنّه أنفق القليل ثمّ إمتنع وأمسك وهو يظنّ أنّ غيره سيحمل وزره يوم القيامة ..
فأيّ رجل جاءهم من الغيب و «القيامة» فأخبرهم بأنّه يمكن أخذ الرشوة وتحمّل آثام الآخرين؟ أو من جاءهم من قبل الله فأخبرهم بأنّ الله راض عن هذا
1 ـ ذكره الطبرسي في مجمع البيان ومفسّرون آخرون أمثال الزمخشري في الكشّاف والفخر الرازي في التّفسير الكبير .. ويضيف الطبرسي أنّه ذكره ابن عبّاس والسدي والكلبي وجماعة من المفسّرين!..
2 ـ ذكر هذا الشأن صاحب مجمع البيان والقرطبي وروح البيان .. وروح المعاني وبعض التفاسير الاُخر.
3 ـ أكدى مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة، ثمّ أطلق على من يمسك والبخيل.
التعامل إلاّ ما تدور في أذهانهم من أوهام؟ فهم يتّبعون ما يتوهّمون فراراً من تحمّل المسؤولية.
وبعد هذا تأتي الآية الاُخرى لتبيّن إعتراض القرآن الشديد على ذلك، وبيان لأصل كلّي مطّرد في الأديان السماوية كلّها فتقول: تُرى أهذا الذي إمتنع عن الإنفاق أو الإيمان بالوعود الخيالية. ويريد أن يخلص نفسه من عذاب الله بإنفاقه اليسير والزهيد من أمواله، أتغنيه هذه الخيالات والتصوّرات: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى)(1).
«إبراهيم»: هو ذلك النّبي العظيم الذي أدّى حقّ رسالة الله، وبلّغ ما أمره به ووفى بجميع عهوده ومواثيقه، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه، ذلك الإنسان الذي امتُحن بمختلف الإمتحانات حتّى بلغ به أن يقدّم ولده ليذبحه بأمر الله، وخرج منتصراً مرفوع الرأس من جميع هذه الإمتحانات ونال المقام السامي لقيادة الاُمّة .. كما نقرأ هذا المعنى في الآية (124) من سورة البقرة إذ تقول: (وإذا إبتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً).
وقال بعض المفسّرين في توضيح معنى الآية: أنّه بذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للاُخوان(2).
ثمّ تأتي الآية الاُخرى لتقول: (ألاّ تزرُ وازرة وزر اُخرى).
«الوِزْرُ» في الأصل مأخوذ من «الوَزَرِ» ـ على زنة خطر ـ ومعناه المأوى أو الكهف أو الملجأ الجبلي، ثمّ استعلمت هذه الكلمة في الاعباء الثقيلة! لشباهتها الصخور الجبلية العظيمة، وأطلقت على الذنب أيضاً، لأنّه يترك عبئاً ثقيلا على ظهر الإنسان.
1 ـ وفّى مصدره توفية معناه البذل والأداء التامّ ..
2 ـ روح البيان، ج9، ص246.
والمراد من «الوازرة» من يتحمّل الوزر(1).
ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلا: (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)(2).
«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض، إلاّ أنّه يستعمل غالباً في الجدّ والمثابرة، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواءً كان ذلك في الخير أو الشرّ!
والذي يسترعي الإنتباه أنّ القرآن لا يقول: وان ليس للإنسان إلاّ ما أدّى من عمل .. بل يقول: إلاّ ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه، فالعبرة بالنيّة، فإذا نوى خيراً أعطاه الله ثوابه، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.
أمّا الآية التالية فتقول: (وأنّ سعيه سوف يُرى) فالإنسان لا يرى غداً نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب، كما نجد التصريح بذلك في الآية (30) من سورة آل عمران: (يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً).
كما ورد التصريح بمشاهدة الأعمال الصالحة والطالحة عند القيامة في سورة الزلزلة الآيتين (7) و8): (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره)!
أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول: (ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى)(3).
والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقاً للعمل. وبالطبع هذا
1 ـ أتت لفظ الوازرة لكونه وصفاً للنفس المحذوفة في الآية ومثلها تأنيث اُخرى.
2 ـ كلمة «ما» في «ما سعى» مصدرية.
3 ـ نائب الفاعل في يُجزاه ضمير يعود على الإنسان والهاء في يجزاه تعود على العمل (مع حذف حرف الجرّ) وتقدير الآية هكذا ثمّ يجزى الإنسان بعمله أو على عمله الجزاء الأوفى .. يقول الزمخشري في الكشّاف: يمكن أن لا يكون هناك حرف مقدّر لأنّه يقال يُجزى العبد سعيه .. إلاّ أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّه يقال مثلا جزاه الله على عمله ويندر أن يقال جزاه الله عمله، والجزاء الأوفى يمكن أن يكون مفعولا ثانياً أو مفعولا مطلقاً.
لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله! وما فسّره بعضهم بأنّ «الجزاء الأوفى» معناه الجزاء الأكثر في شأن الحسنات، لا يبدو صحيحاً، لأنّ كلام هذه الآية يشمل الذنوب والأعمال الطالحة، بل الكلام فيها أساساً على الوزر والذنب «فلاحظوا بدقّة»!
* * *
اُشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اُصول من الاُصول الإسلامية، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي:
أ ـ كلّ إنسان مسؤول عن ذنبه ووزره.
ب ـ ليس للإنسان في آخرته إلاّ سعيه.
ج ـ يُجزي الله كلّ إنسان على عمله الجزاء الأوفى.
وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامّة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي!
والقرآن لا ينفي ـ عن هذا الطريق ـ عقيدة العرب المشركين الذين يعتقدون أنّ بإمكان الإنسان أن يتحمّل وزر الآخر فحسب! بل ينفي الإعتقاد الذي كان سائداً ـ ولا يزال ـ بين المسيحيين، وهو أنّ الله أرسل إبنه المسيح ليصلب ويذوق العذاب والألم ويحمل على عاتقه ذنوب المذنبين!.
وكذلك يحكم على جماعة من القسسة والرهبان بقبح عملهم لما كانوا يبيعونه من صكوك الغفران ومنح قطع الأراضي في الجنّة لمن يشاؤون، والعفو عن المخطئين!! فكلّ هذه الاُمور باطلة.
ومنطق العقل أيضاً يقتضي أنّ كلاّ مسؤول عن عمله، ويعود عليه عمله بالنفع أو الضرر.
وهذا المبدأ الإسلامي يؤدّي إلى أن يسعى الإنسان إلى الخير وأن يجتهد بدلا من الإلتجاء إلى الخرافات أو أن يتحمّل آثامه غيره! وأن يتجنّب الذنب ويتّقي الله، وإذا ما اتّفق له أن عثرت قدمه في معصية، فعليه أن يبادر إلى التوبة ويجبر ذلك بالإستغفار والعمل الصالح!
وتأثير هذه العقيدة التربوية في الناس واضح تماماً ولا يقبل الإنكار، كما أنّ أثر تلك المعتقدات الجاهلية الفاسدة ـ المخرّب لا يخفى على أحد.
وصحيح أنّ هذه الآيات ناظرة إلى السعي والمثابرة والعمل للآخرة ورؤية الثواب في الآخرة! إلاّ أنّ الملاك والمعيار الأصلي له يتجلّى في الدنيا أيضاً .. أي أنّ الأفراد المؤمنين لا ينبغي لهم أن يتوقّعوا من الآخرين أن يعملوا لهم ويحلّوا مشاكلهم الإجتماعية، بل عليهم أنفسهم أن ينهضوا ويجدّوا ويثابروا أبداً.
ويستفاد من هذه الآيات أصل حقوقي في المسائل الجزائية أيضاً، وهو أنّ الجزاء أو العقاب إنّما ينال المذنب الحقيقي، وليس لأحد أن يجعل إثم غيره في ذمّته!
كما بيّنا آنفاً، فإنّ هذه الآيات بقرينة الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ناظرة إلى سعي الإنسان لاُمور الآخرة، إلاّ أنّه مع هذه الحال ـ لما كان ذلك على أساس حكم عقلي مسلّم به فيمكن تعميم السعي والجدّ حتّى يشمل السعي لاُمور الدنيا ويشمل أيضاً الجزاء الدنيوي. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أن يتأثّر بعضهم بالمذاهب الإشتراكية فيقول: إنّ مفهوم الآية أنّ المالكية إنّما تحصل عن طريق العمل فحسب، وبذلك يخطّي قانون الإرث والمضاربة والإجارة وأمثالها!
والعجب أنّه ينادي بالإسلام ويستدلّ بآيات القرآن أيضاً مع أنّ مسألة الإرث من الاُصول الإسلامية القطعية، وكذلك الخمس والزكاة! علماً بأنّه لم يسع الوارث إلى إرثه ولا مستحقّو الزكاة أو الخمس إليهما، ولم يقع سعي في مواطن النذر والوصايا ومع كلّ ذلك فإنّ القرآن الكريم ذكر هذه الاُمور.
وبتعبير آخر أنّ هذا هو الأصل، إلاّ أنّه غالباً ما يوجد إستثناء أمام كلّ أصل، فمثلا الولد يرث أباه هذا أصل إسلامي، لكن متى قتل الولد أباه أو خرج عن الإسلام حُرم حقّ الإرث.
وكذلك نتيجة سعي كلّ شخص تعود عليه أو إليه، هذا هو الأصل، إلاّ أنّه لا مانع من أن يعطي مقدار من المال للآخر طبقاً لقرار الإجارة بين الطرفين، وهو أصل قرآني(1) كذلك، أو أن ينتقل المال عن طريق النذر أو الوصية، كما صرّح به القرآن الكريم.
يرد هنا سؤالان وينبغي أن نجيب عليها:
أوّلا: إذا كان ما يناله الإنسان يوم القيامة هو نتيجة سعيه، فما معنى الشفاعة إذاً؟!
والثّاني: إنّنا نقرأ في الآية (21) من سورة الطور في شأن أهل الجنّة: (الحقنا بهم ذريّتهم)! مع أنّ الذريّة لم تسع في هذا المضمار، ثمّ إنّنا نجد في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان إذا عمل عملا صالحاً فإنّ نتيجة ذلك تنعكس على أبنائه أيضاً.
والجواب على هذه الأسئلة جملة واحدة وهي أنّ القرآن يقول أنّ الإنسان
1 ـ جاء هذا الأصل في قصّة موسى وشعيب في سورة القصص الآية (27).
ليس له أن يأخذ أكثر من سعيه وعمله، إلاّ أنّه لا يمنع أن ينال بعض الناس اللائقين نعماً اُخر عن طريق اللطف والتفضّل الإلهي.
فالإستحقاق شيء، والتفضّل شيء آخر! كما أنّ الله يضاعف الحسنات عشرات المرّات بل مئات المرّات وآلافها أحياناً.
ثمّ ـ الشفاعة ـ كما ذكرنا في محلّه ـ ليست إعتباطاً .. ـ بل هي بحاجة إلى السعي والجدّ وإيجاد العلاقة بالشافع أيضاً، وكذلك الأمر في شأن ذريّة الأشخاص الصالحين، فإنّ القرآن يقول أيضاً: (واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان)!.
«الصحف» جمع صحيفة، وتطلق هذه الكلمة على كلّ شيء واسع كما يقال مثلا صحيفة الوجه، ثمّ استعملوا هذه الكلمة على صفحات الكتاب.
فالمراد من صحف موسى هي التوراة النازلة عليه وأمّا صحف إبراهيم فما نزل عليه من كتاب سماوي أيضاً.
ينقل المرحوم الطبرسي في مجمع البيان حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير سورة الأعلى وخلاصته ما يلي.
يسأل أبو ذرّ النبي: يارسول الله كم عدد الأنبياء؟
فيجيبه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم مائة الف نبي وأربعة وعشرون ألفاً.
فيسأله ثانيةً عن الرسل منهم: كم المرسلون؟
فيجيبه النبي: ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء .. «والرّسول هو المأمور بالإنذار والإبلاغ في حين أنّ النّبي أعمّ منه مفهوماً».
ويسأل أبو ذرّ مرّة اُخرى: كان آدم نبيّاً؟!
فيجيب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، كلّمه الله وخلقه بيده.
فيسأله أبو ذرّ: كم أنزل الله من كتاب؟ فيجيب النبي: مئة وأربعة كتب أنزل الله
منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو «إدريس» ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خطّ بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان»(1).
الذي يلفت النظر أنّ التّوراة الحالية أوردت المضمون الذي ذكرته الآيات محلّ البحث في كتاب حزقيل إذ جاء فيه:
«الجاني الذي يذنب سيموت، والإبن لا يحمل عبء أبيه والأب لا يحمل ذنب إبنه»(2).
وجاء هذا المعنى ذاته أيضاً في مورد القتل في سفر التثنية من التوراة.
«لا يقتل الآباء عوضاً عن الأبناء ولا يقتل الأبناء عوضاً عن الآباء، فكلّ يقتل بذنبه»(3).
وبالطبع فإنّ كتب الأنبياء الأصلية ليست في متناول اليد، وإلاّ لكان من الممكن أن نعثر على موارد أكثر في شأن هذا الأصل وأمثاله.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص476 وذكر هذا الحديث في روح البيان أيضاً، ج9، ص246.
2 ـ كتاب حزقيل، الفصل 18 ص20.
3 ـ التوراة، سفر التثنية، باب 24 الرقم 16.
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ( 42 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 )وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 ) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى( 45 ) مِن نُّطْفَة إِذَا تُمْنَى ( 46 ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاُْخْرَى( 47 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى( 49 )
في هذه الآيات تتجلّى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضاً.
ففي هذه الآيات وإكمالا للبحوث الواردة في شأن جزاء الأعمال يقول القرآن: (وأنّ إلى ربّك المنتهى).
وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدّسة، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته، وأخيراً فإنّ إبتداء هذا العالم والموجودات وإنتهاؤها
كلّها منه وإليه، وتعود إلى ذاته المقدّسة.
ونقرأ في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»(1).
أي لا تتكلّموا في ذات الله فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا لله أن يكون محدوداً.
وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يبيّن مفهوماً آخر لهذه الآية ولا ينافي ما ذكرناه آنفاً ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.
ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية الله في أمر ربوبيته وإنتهاء اُمور هذا العالم إليه فيقول: (وانّه هو أضحك وأبكى وأنّه هو أمات وأحيا وأنّه خلق الزوجين الذكر والاُنثى(2) من نطفة إذا تمنى)!
وهذه الآيات الأربع وما قبلها في الحقيقة هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة إنتهاء الاُمور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنّها تقول: إنّ موتكم وحياتكم بيده وإستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكلّ ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو يضحك، وهو يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتّى النهاية هو ذاته المقدّسة.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه: أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات(3).
وقد أورد بعض الشعراء هذا المضمون في شعره فقال:
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما جاء في نور الثقلين، ج5، ص170.
2 ـ هذه الأفعال وإن جاءت بصيغة الماضي إلاّ أنّها تعطي معنى الفعل المضارع أيضاً والدلالة على الدوام .. (فلاحظوا بدقّة).
3 ـ نور الثقلين، ج5، ص172.
انّ فَصل الربيع فصل جميل تضحك الأرض من بكاء السماء
وما يسترعي النظر أنّ القرآن أشار إلى صفتي الضحك والبكاء دون سائر أفعال الإنسان، لأنّ هاتين الصفتين خاصّتان بالإنسان وغير موجودتين في الحيوانات الاُخر أو نادرتان جدّاً.
أمّا تصوير إنفعالات الإنسان عند الضحك أو البكاء وعلاقتهما بالتغيّرات في نفس الإنسان وروحه فانّها غريبة وعجيبة جدّاً، وكلّ هذه الاُمور في مجموعها يمكن أن تكون آية واضحة من آيات المدبّر الحقّ، بالإضافة إلى التناسب الموجود بين الضحك والبكاء والحياة والفناء!
وعلى كلّ حال، فإنتهاء جميع الاُمور إلى تدبير الله وربوبيته لا ينافي أصل الإختيار وحرية إرادة الإنسان، لأنّ الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان أيضاً من قِبَلِ الله وتدبيره وتنتهي إليه!.
وبعد ذكر الاُمور المتعلّقة بالربوبية والتدبير من قِبَل الله يتحدّث القرآن عن موضوع المعاد فيقول: (وأنّ عليه النشأة الاُخرى).
«النشأة»: معناها الإيجاد والتربية، و «النشأة الاُخرى» ليست شيئاً سوى القيامة!
والتعبير بـ «عليه» من جهة أنّ الله لمّا خلق الناس وحمّلهم الوظائف والمسؤوليات وأعطاهم الحرية وكان بينهم المطيعون وغير المطيعون والظلمة والمظلومون ولم يبلغ أي من هؤلاء جزاءه النهائي في هذا العالم، إقتضت حكمته أن تكون نشأة اُخرى لتتحقّق العدالة.
أضف إلى ذلك فإنّ الحكيم لا يخلق هذا العالم الواسع لأيّام أو سنوات محدودة بما فيها من مسائل غير منسجمة، فلابدّ أن يكون مقدّمة لحياة أوسع تكمن فيها قيمة هذا الخلق الواسع، وبتعبير آخر إذا لم تكن هناك نشأة اُخرى فإيجاد هذا العالم لا يبلغ هدفه النهائي!
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الله سبحانه جعل هذا الوعد لعباده وعداً محتوماً على نفسه، وصدق كلام الله يوجب أن لا يخلف وعده.
ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (وأنّه هو أغنى وأقنى) فالله سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب، بل أولاه غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من اُمور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.
«وأغنى»: فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة.
«وأقنى»: فعل مشتقّ من قنية على وزن جِزيَة، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان(1).
فيكون معنى الآية على هذا النحو: هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الاُمور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها، أو الاُمور المعنوية كرضا الله سبحانه الذي يُعدّ أكبر «رأس مال» دائم!
وهناك تفسير آخر لأقنى، وهو أنّه ما يقابل أغنى، أي أنّ الغنى والفقر بيد قدرته، نظير ذلك ما جاء في الآية (26) من سورة الرعد: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدّر).
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ما ورد عن «أقنى» من معنى في كتب اللغة والآية المذكورة في هذا الصدد لا يمكن أن تكون «شاهداً» على هذا التّفسير.
أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتقول: (وأنّه هو ربّ الشعرى).
والتعويل في القرآن على «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعاناً ويطّلع عند السحر في مقربة من الجوزاء ممّا يلفت النظر
1 ـ راجع المفردات للراغب، مادّة قني.
تماماً .. هذا التعويل والتصريح به لأنّ طائفةً من المشركين العرب كانت تعبده، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو الله لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».
وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ أنّ هناك نجمين معروفين باسم الشعرى أحدهما إلى الجنوب ويُدعى بنجم الشعرى اليماني «لأنّ اليمن جنوب الجزيرة العربية» والآخر نجم الشعرى الشامي الواقع في الجهة الشمالية «والشام شمال الجزيرة أيضاً» إلاّ أنّ المعروف والمشهور هو الشعرى اليماني.
وهناك لطائف ومسائل خاصّة في هذا النجم «الشعرى» سنتحدّث عنه بعد قليل.
* * *
إنّ ما تثيره هذه الآيات في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنّ أي نوع من أنواع التدبير في هذا العالم إنّما يعود إلى ذات الله المقدّسة، بدءاً من مسألة الموت والحياة، إلى خلق الإنسان من نطفة لا قيمة لها، وكذلك الحوادث المختلفة التي تقع في حياة الإنسان فتضحكه تارةً وتبكيه اُخرى، كلّ ذلك من تدبير الله سبحانه.
والنجوم والكواكب المشرقة في السماء تطلع وتغيب بأمره وتحت ربوبيته.
وفي الأرض الغنى وعدم الحاجة وما يقتنيه الإنسان كلّ ذلك يعود إلى ذاته المقدّسة.
وبالطبع فإنّ النشأة الاُخرى بأمره أيضاً، لأنّها حياة جديدة وإمتداد لهذه الحياة وإستمرارها.
هذا البيان ـ يبرز خطّ التوحيد من جهة .. ومن ـ جهة اُخرى ـ خطّ المعاد،
لأنّ خالق الإنسان من نطفة لا قيمة لها في الرحم قادر على تجديد حياته أيضاً.
وبتعبير آخر، إنّ جميع هذه الاُمور كاشفة عن توحيد أفعال الله وتوحيد ربوبيته .. أجل كلّ هذي الأصداء من إيحائه!
«نجم الشعرى» كما أشرنا إليه آنفاً من أشدّ النجوم في السماء لمعاناً وإشراقاً وهو معروف بنجم الشعرى اليماني، لأنّه يقع في جهة جنوب الجزيرة العربية، وحيث أنّ اليمن في جنوب الجزيرة أيضاً فقد أطلق عليه «باليماني»!
وكانت طائفة من العرب كقبيلة «خزاعة» تقدّس هذا النجم وتعبده وتعتقد أنّه مبدأ الموجودات على الأرض .. فتأكيد القرآن على أنّ الله ربّ الشعرى هو لإيقاظ هذه القبيلة وأمثالها من غفوتها، لئلاّ يُشتبه المخلوق بالخالق ويُجعل المربوب مكان الربّ كما كانت القبيلة آنفة الذكر عليه.
هذا النجم العجيب الخلقة لإشراقه الكثير عُدّ ملك النجوم وله أسرار وعجائب نشير إليها في هذا البحث مع ملاحظة أنّ هذه الحقائق كانت في ذلك العصر مجهولة عند العرب وغيرهم عن الشعرى فإنّ تأكيد القرآن على هذا الموضوع ذو معنى غزير!
أ ـ طبقاً للتحقيقات التي اُجريت في المراصد المعروفة في العالم عن «الشعرى» ظهر أنّ حرارة هذا النجم تبلغ 120 ألف درجة سانتيغراد!.
مع العلم أنّ حرارة سطح الشمس لا تتجاوز 6500 درجة سانتيغراد وهذا التفاوت بين الحرارتين يبيّن مدى حرارة الشعرى بالنسبة إلى الشمس.
ب ـ الجرم المخصوص لهذا النجم أثقل وزناً من الماء بمقدار خمسين ألف مرّة تقريباً، أي أنّ وزن الليتر من الماء على الشعرى يعادل خمسين طنّاً على سطح الأرض! مع أنّ من بين مجموع المنظومة الشمسية يعدّ كوكب عطارد أكثر الأجرام
في وزنه النوعي ولا يتجاوز وزنه النوعي ستّة أضعاف الوزن النوعي للماء!
فينبغي أن نعرف بهذا الوصف كم هذا النجم مثير للدهشة والعجب، ومن أي عنصر يتألّف حتّى صار مضغوطاً بهذا المستوى؟!
ج ـ يظهر نجم الشعرى ـ في قرننا ـ عند فصل الشتاء إلاّ أنّ هذا النجم أو الكوكب كان يظهر في عصر منجمّي مصر في الصيف! وهو كوكب كبير يعادل عشرين ضعفاً من كوكب الشمس، ومسافته تبعد عن الأرض أكثر من مسافة الشمس بمقدار كبير وقد ذكروا أنّ مسافة بين الشعرى والأرض تعادل مليون مرّة المسافة بيننا وبين الشمس.
ونعرف أنّ سرعة النور في الثانية 300 ألف ألف متر (ثلاثمائة ألف كيلومتر) وأنّ نور الشمس يصل إلينا خلال ثماني دقائق وثلاث عشرة ثانية مع أنّها تبعد عنّا مسافة خمسة عشر مليون كيلو «متراً» .. في حين أنّ شعاع الشعرى لا يصلنا إلاّ بعد عشر سنين، والآن قدّروا كم هي الفاصلة بين الشعرى والأرض!
د ـ لكوكب الشعرى نجم تابع له يدور حوله وهو من نجوم السماء الغامضة. وأوّل من إكتشفه عالم يدعى بسل besell عام 1844م إلاّ أنّه رؤي عام 1862 بالمجهر «التلسكوب» ويكمل هذا النجم دورته حول الشعرى في 50 عاماً(1).
![]() |
![]() |
![]() |