![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ إنّ ضمير الجمع في (فيهنّ) يمكن أن يرجع إلى قصور الجنّة أو الحدائق المختلفة لتلك «الجنّتين» أو «نعمها وهباتها».
2 ـ (لم يطمثهنّ) من مادّة (طمث)، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية، وجاءت بمعنى زوال البكارة، والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنّة لم يكنّ لهنّ أزواج قطّ.
وبناءً على هذا فإنّهن بواكر ولم يمسسهنّ أحد .. طاهرات من كلّ الجوانب.
نقل عن (أبي ذرّ) أنّ (زوجة الجنّة تقول لزوجها .. أُقسم بعزّة ربّي أنّي لم أجد شيئاً أفضل منك في الجنّة، فالشكر لله وحده، الذي جعلني زوجة لك وجعلك زوجاً لي)(1).
«طرف» على وزن (حرف) بمعنى جانب العين، وبما أنّ الإنسان عندما يريد النظر يحرّك أجفانه، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر، وبناءً على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهنّ على أزواجهنّ. ويعني أنّهنّ يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهنّ فقط، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.
وفي التعقيب على نعمة الجنّة هذه يكرّر قوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
ثمّ يتطرّق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنّة حيث يقول: (كأنّهنّ الياقوت والمرجان) حيث تكون بشرتهنّ بإحمرار وصفاء ولمعان الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان، وعندما يختلط هذان الوصفان (الأبيض والأحمر الشفّاف) فإنّه يمنحهنّ روعة الجمال التي لا مثيل لها.
الياقوت: حجر معدني ويكون غالباً أحمر اللون.
والمرجان: هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر، يكون أبيض اللون أحياناً واُخرى أحمر وألوان اُخرى، والظاهر أنّ المقصود به هنا هو النوع الأبيض(2).
ومرّة اُخرى، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وفي نهاية هذا البحث يقول عزّوجلّ: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان)(3).
1 ـ مجمع البيان، ج9، ص208.
2 ـ بيّنا شرحاً تفصيلياً حول المرجان في نهاية الآية (22) من هذه السورة.
3 ـ ورد السؤال «هل» هنا بصيغة الإستفهام الإستنكاري، وفي الحقيقة أنّ هذه الآية هي نتيجة للآيات السابقة والتي تحدّثت عن ستّ نعم من نعم الجنّة.
وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملا صالحاً في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟
وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية فسّرت «الإحسان» في هذه الآية بالتوحيد فقط، أو التوحيد والمعرفة، أو الإسلام. إلاّ أنّ الظاهر أنّ كلّ واحد في هذه التفاسير هو مصداق لهذا المفهوم الواسع الذي يشمل كلّ إحسان في العقيدة والقول والعمل.
جاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «آية في كتاب الله مسجّلة. قلت: وما هي؟ قال: قول الله عزّوجلّ: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به، وليس المكافأة أن تصنع كم صنع حتّى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل في الإبتداء»(1).
وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان في هذه الدنيا. وذلك تماشياً مع الإستدلال المذكور في الحديث أعلاه.
يقول الراغب في المفردات: الإحسان فوق العدل، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له فالإحسان زائد على العدل ..
ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم، مضافاً إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق الله ولطفه، وبركاتها تعود عليهم.
* * *
1 ـ تفسير العياشي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص199. تفسير مجمع البيان، ج9، ص208.
ما قرأناه في الآية الكريمة: (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) هو قانون عام في منطق القرآن الكريم، حيث يشمل الله سبحانه والخلق وكافّة العباد، والمسلمون جميعاً يعلمون بعمومية هذا القانون وعليهم مقابلة كلّ خير بزيادة، كما ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه أعلاه حيث يفترض أن يكون التعويض أفضل من العمل المنجز (المقدّم) وليس مساوياً له، وإلاّ فإنّ المبتدىء بالإحسان هو صاحب الفضل.
وحول أعمالنا في حضرة الباري عزّوجلّ فإنّ المسألة تأخذ بعداً آخر، حيث أنّ أحد الطرفين هو الله العظيم الكريم الذي شملت رحمته وألطافه كلّ عالم الوجود، وإنّ عطاءه وكرمه يليق بذاته وليس على مستوى أعمال عباده، وبناءً على هذا فلا عجب أن نقرأ في تأريخ الاُمم بصورة متكرّرة أنّ أشخاصاً قد شملتهم العناية الإلهيّة الكبيرة بالرغم من إنجازهم لأعمال صغيرة، وذلك لخلوص نيّاتهم ومن ذلك القصّة التالية:
نقل بعض المفسّرين أنّ شخصاً مسلماً شاهد امرأة كافرة تنثر الحبّ للطيور في الشتاء فقال لها: لا يقبل هذا العمل من أمثالك، فأجابته: إنّي أعمل هذا سواء قبل أم لم يقبل، ولم يمض وقت طويل حتّى رأى الرجل هذه المرأة في حرم الكعبة. فقالت له: ياهذا، إنّ الله تفضّل عليّ بنعمة الإسلام ببركة تلك الحبوب القليلة(1).
* * *
1 ـ روح البيان، ج9، ص310.
وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 )مُدْهَامَّتَانِ( 64 ) فَبأَىِّ ءَالإءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 ) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 ) فِيهِمَا فَـكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 )
بعد بيان صفات جنّتي الخائفين وخصوصياتهما المتميّزة، وإستمراراً للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنّتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفاً وإيماناً بالله تعالى من الفئة الاُولى، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.
يقول سبحانه في البداية: (ومن دونهما جنّتان).
ذكر تفسير أنّ لهذه الآية الأوّل: أحدهما ما بيّناه أعلاه.
والتّفسير الآخر هو أنّه توجد جنّتان اُخريان غير تلكما الجنّتين لهؤلاء
الأشخاص أنفسهم حيث يتجوّلون ويتنقّلون بين حدائق هذه الجنان، لأنّ طبع الإنسان ميّال للتنوّع والتبدّل.
وبالنظر إلى لحن هذه الآيات والرّوايات التي وردت في تفسيرها فانّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
ونقرأ حديثاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «وجنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، جنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» (أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون كناية عن إختلاف مرتبة ودرجة كلّ من الجنّتين)(1).
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: «لا تقولنّ الجنّة الواحدة، إنّ الله تعالى يقول: «ومن دونهما جنّتان»، ولا تقولنّ درجة واحدة، إنّ لله تعالى يقول «درجات بعضها فوق بعض» إنّما تفاضل القوم بالأعمال»(2).
وفي نفس الموضوع ورد حديث للرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): «جنّتان من ذهب للمقرّبين، وجنّتان من ورق لأصحاب اليمين»(3) أي من فضّة.
ثمّ يضيف سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
ثمّ ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنّتين التي تشبه ـ إلى حدّ ما ـ ما ذكر حول الجنّتين السابقتين، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاُخرى حيث يقول سبحانه: (مدهامتان).
«مدهامتان»: من مادّة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل، ثمّ اُطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار، ممّا يعكس منتهى السرور
1 ـ مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص146 وكما ذكرنا أنّ التعبير بالذهب والفضّة يمكن أن يكون إشارة إلى إختلاف درجة هاتين الجنّتين.
والإنشراح، لهذا فقد إستعمل لهذا المعنى.
ويضيف سبحانه مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وفي الآية اللاحقة يصف الجنّة وصفاً إضافياً حيث يقول سبحانه: (فيهما عينان نضّاختان).
«نضّاختان» من مادّة (نضخ) بمعنى فوران الماء.
ومرّة اُخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجنّ سؤالا إستنكارياً فيقول: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وتتحدّث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنّتين حيث تقول: (فيهما فاكهة ونخل ورمّان).
لا شكّ أنّ للفاكهة مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواعها، إلاّ أنّ التمر والرمّان خصّا بالذكر هنا لأهميّتهما الخاصّة، لا كما يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ذكرهما هو لأنّهما لا يدخلان ضمن مفهوم الفاكهة، إذ أنّ هذا التصوّر خاطىء، لأنّ علماء اللغة أنكروا ذلك، بالإضافة إلى أنّ عطف الخاصّ على العام في الموارد التي لها إمتيازات أمر معمول به وطبيعي. قال تعالى: (من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدو للكافرين).(1)
وهنا جاءت عبارة (جبريل وميكال) وهما من الملائكة العظام بعد ذكر لفظ الملائكة بصورة عامّة.
ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
* * *
1 ـ البقرة، 98.
الشيء الجدير بالذكر أنّ الآيات أعلاه خصّت الفاكهة بالذكر من بين مختلف أنواع أغذية الجنّة كما خصّت فاكهتي (الرطب والرمّان) بالذكر من بين جميع فواكه الجنّة أيضاً.
والغريب هنا ذكر النخل بدلا من الرطب، أمّا الرمّان فقد ذكر بإسمه، ولابدّ أن يكون لكلّ واحد من هذه الفواكه خصوصية.
أمّا ذكر الفاكهة بالخصوص من بين عموم الأغذية الموجودة في الجنّة فذلك لأهميّة الفاكهة في تغذية الإنسان: حتّى قيل: أنّ الإنسان موجود آكل للفاكهة، وللفاكهة دور مهمّ في وجود الإنسان ودوام حياته لا على الصعيد العلمي فقط، بل من الناحية التجريبيّة لعموم الناس أيضاً.
أمّا ذكر شجرة النخيل بدل فاكهتها فيمكن أن يكون للحاظ أنّ هذه الشجرة موضع إستفادة من جهات عديدة، في حين أنّ شجرة الرمّان ليست كذلك.
فالنخلة يستفاد من ورقها في صنع وسائل عديدة من لوازم الحياة كالفرش والقبّعات والملابس ووسائل الحمل والنقل والأسرّة، ويستفاد من أليافها في اُمور شتّى كذلك، كما أنّ البعض منها له خواص طبية، وحتّى أنّ جذعها يستخدم كأعمدة في البناء أو جسور لعبور الأنهار.
أمّا إختيار هاتين الفاكهتين من بين جميع فواكه الجنّة فهو بسبب تنوّعهما: فأحدهما: ينمو في المناطق الحارّة (النخيل). والاُخرى: تنمو في المناطق الباردة (الرمّان). أحدهما تتميّز بالمادّة السكرية، والاُخرى تتميّز بالمادّة الحامضية، واحدة حارّة من حيث طبيعتها والاُخرى باردة، إحداهما مغذّية والاُخرى مرويّة.
كما أنّ التمر يتمتّع بالكثير من المواد الحياتية وأنواع الفيتامينات، وقد إكتشفت ثلاث عشرة مادّة حياتية فيه، وخمس أنواع من الفيتامينات بالإضافة
إلى بقيّة خواصها الاُخرى، (وقد بحثناها في نهاية الآية رقم (5) من سورة مريم في هذا التّفسير تحت عنوان: التمر غذاء مقوٍّ وباعث للنشاط).
وأمّا «الرمّان» الذي عرّف في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّه سيّد الفواكه(1)، فقد ذكر العلماء تفاصيل كثيرة حول فوائد هذه الفاكهة ومنها تنقية الدم، واحتوائها على مقادير كبيرة من فيتامين (سي). كما ذكرت في الكتب فوائد كثيرة اُخرى للرمّان (الحلو والحامض) كتقوية المعدة، ودفع الحمى الصفراء، واليرقان، والجرب (مرض جلدي) وتقوية البصر، ورفع التقيّحات المزمنة، وتقوية اللثة، ودفع الإسهال ... كما نقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في التأكيد على هذه الفاكهة: «أطعموا صبيانكم الرمّان فإنّه أسرع لشبابهم»(2).
وجاء في حديث آخر: «فإنّه أسرع لألسنتهم»(3).
وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) أنّهما قالا: «وما على وجه الأرض ثمرة كانت أحبّ إلى رسول الله من الرمّان»(4).
* * *
1 ـ نقل هذا التعبير في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (بحار الأنوار، ج66، ص163).
2 ـ بحار الأنوار، ج66، ص164 حيث جاء في حديث آخر أنّه أسرع لألسنتهم.
3 ـ المصدر السابق، ص165.
4 ـ الكافي، ج6، ص352.
فِيهِنَّ خَيْرَتٌ حِسَانٌ ( 70 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 )حُورٌ مَّقْصُورَتٌ فِى الْخِيَامِ ( 72 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 )لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ( 74 ) فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ( 75 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَف خُضْر وَعَبْقَرِىٍّ حِسَان ( 76 )فَبأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 ) تَبَرَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـلِ وَالإكْرَامِ ( 78 )
إستمرار لشرح نِعْم الجنّتين التي ذكرت في الآيات السابقة، تتحدّث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان الله التي أعدّها للصالحين من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: (فيهنّ خيرات حسان)(1).
1 ـ الضمير في (فيهنّ) والذي هو جمع مؤنث يمكن أن يرجع إلى مجموع الجنّات الأربع، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجنّتين اللتين ذكرتا أخيراً، بلحاظ ما فيهما من حدائق عديدة وقصور مختلفة، وهذا أنسب لأنّه في هذا فصل بين الجنّتين.
تستعمل كلمة (خير) غالباً للصفات الجيّدة والجمال المعنوي، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود بـ (خيرات حسان) اُولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.
وجاء في الرّوايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنّة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة، وعدم الإيذاء، وعدم النظر للرجال الأجانب .. والخلاصة أنّ جميع صفات الخير والجمال التي يجب أن تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهنّ، وهذه الصفات إشارة للصفات العالية التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا ويجسّدن الاُسوة بذلك لجميع الناس والقرآن الكريم يعبّر عنهنّ بإختصار رائع أنهنّ (خيرات حسان)(1).
ثمّ يضيف مستمرّاً في وصف الزوجات في الجنّة: (حور مقصورات في الخيام).
«حور»: جمع حوراء وأحور، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتماً وبياضها ناصعاً، وأحياناً تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههنّ أبيض.
والتعبير بـ «مقصورات» إشارة إلى أنهنّ مرتبطات ومتعلّقات بأزواجهنّ ومحجوبات عن الآخرين.
«خيام»: جمع خيمة، وكما ورد في الرّوايات الإسلامية، فإنّ الخيم الموجودة في الجنّة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها وجمالها.
و «الخيمة» كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسّرين لا تطلق على الخيم المصنوعة من القماش المتعارف فحسب. بل تطلق أيضاً على البيوت الخشبية وكذلك كلّ بيت دائري. وقيل أنّها تطلق على كلّ بيت لم يكن من الحجر
1 ـ قال البعض: إنّ خيرات جمع (خيّرة) على وزن (سيّدة)، وقيل لها خيرات للتخفيف، وإعتبرها آخرون أنّها جمع (خيرة) على وزن (حيرة) وعلى كلّ حال فإنّها تعطي معنى الوصف، وليس بمعنى (أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع.
وأشباهه(1).
ومرّة اُخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
ويضيف سبحانه وصفاً آخر لحوريات الجنّة حيث يقول: (لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ)(2).
ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنّة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات(3).
ويستفاد أيضاً من الرّوايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنّة(4) وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة الله سبحانه.
ثمّ يضيف تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان).
«رفرف» في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثمّ اُطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.
«عبقري» في الأصل بمعنى كلّ موجود قلّ نظيره، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية إسماً لمدينة (بريان) إنتخبه العرب لها، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر. لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال «عبقري». وذكر البعض أنّ «عبقر» كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية(5).
1 ـ لسان العرب ومجمع البحرين والمنجد.
2 ـ حول معنى الطمث أعطينا توضيحاً كافياً في نهاية الآية رقم (56) من نفس السورة.
3 ـ الرعد، 23; والمؤمن، 8.
4 ـ الدرّ المنثور، ص151.
5 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.
والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر وتستعمل كلمة «عبقري» ككلمة مستقلّة بمعنى نادر الوجود، وتأتي جمعاً في بعض الأحيان، كما في الآية مورد البحث.
و (حسان) جمع (حسن) على وزن «نسب» بمعنى جيّد ولطيف.
وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة: الفاكهة، الغذاء، القصور، الأفرشة .. والخلاصة أنّ كلّ شيء فيها لا نظير له ولا شبيه في نوعه، ولابدّ من القول هنا أنّ هذه التعبيرات لا تستطيع أبداً أن تعكس تلك الإبداعات العظيمة بدقّة، وإنّها تستطيع ـ فقط ـ أن ترسم لنا صورة تقريبية من الصورة الحقيقيّة للموجودات في الجنّة.
وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجنّ والإنس هذا السؤال: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنّة؟ إنّ كلّ هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم .. إلاّ أنّه ـ مع الأسف ـ قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة، ومصدر عطائها وهو الله سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل .. فأيّاً منها تنكرون وتكذّبون؟
ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام).
«تبارك» من أصل (برك) على وزن (درك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلا، ومن هنا إستعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والإستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة بإعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات.
وإستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة ـ سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق ـ فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.
والمقصود من (اسم) هنا هو صفات الله تعالى خصوصاً الرحمانية التي هي منشأ البركات، وبتعبير آخر فإنّ أفعال الله تعالى مصدرها من صفاته، وإذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه ونظام خلقه، وإذا وضع كلّ شيء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته، وإذا وضع قانون العدالة حاكماً على كلّ شيء فإنّ (علمه وعدالته) توجبان ذلك. وإذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ (إنتقامه يقضي ذلك، وإذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات والنعم العظيمة الماديّة والمعنوية ـ في هذا العالم وفي الآخرة ـ فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك، وبناءً على هذا فإنّ اسمه يشير إلى صفاته وصفاته هي نفس ذاته المقدّسة.
والتعبير بـ (ذي الجلال والإكرام) إشارة إلى كلّ صفات جماله وجلاله. (ذي الجلال) إشارة إلى الصفات السلبية، و (ذي الإكرام) إشارة إلى الصفات الثبوتية.
والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم الله (الرحمن) وإنتهت باسم الله ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.
* * *
1 ـ في الآية رقم (37) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهيّة المختلفة المعنوية والماديّة في الدنيا يقول سبحانه: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام).
وفي نهاية السورة وبعد ذكر أنواع النعم الاُخروية يقول سبحانه: (تبارك اسم ربّك ذو الجلال والإكرام).
إنّ هاتين الآيتين توضّحان حقيقة مهمّة وهي أنّ جميع الخطوط تنتهي إلى ذاته المقدّسة، وأنّ جميع ما في الوجود مصدره الله سبحانه، فالدنيا منه، والعقبى كذلك، وإنّ جلاله وإكرامه قد شمل كلّ شيء.
2 ـ ونقرأ في حديث للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ رجلا كان يدعو الله في حضرته حيث قال: «ياذا الجلال والإكرام فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد استجيب لك فسل(1).
وجاء في حديث آخر أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا بعد الركوع والسجود والتشهّد بهذا الدعاء: اللهمّ انّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، المنّان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام ياحي ياقيّوم انّي أسألك ... فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(2).
3 ـ نقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية: (تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام) أنّه قال: «نحن جلال الله وكرامته التي أكرم العباد بطاعتنا»(3).
ومن الواضح أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يدعون لغير الله، ولا يأمرون بغير طاعته وهم هداة الطريق إليه، وسفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم. وبناءً على هذا، فإنّهم يمثّلون مصاديق جلال الله وإكرامه، لأنّ الله تعالى قد شمل الناس بنعمة الهداية بواسطة أوليائه.
4 ـ ذكر البعض أنّ أوّل آيات قرئت في مكّة على قريش علناً هي الآيات الأوائل لهذه السورة يقول عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: إجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ. فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلا
1 ـ تفسير الدرّ المنثور ج6 ص153.
2 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص153.
3 ـ تفسير البرهان، ج4، ص272.
له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإنّ الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتّى أتى المنام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتّى قام عند المقام ثمّ قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) رافعاً بها صوته: (الرحمن علّم القرآن) قال: ثمّ إستقبلها يقرؤها قال: فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن اُمّ عبد؟ قال: ثمّ قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثمّ إنصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه. فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأُغادينّهم بمثلها غداً، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون(1).
ولهذا السبب فقد إعتبر ابن مسعود أوّل مسلم جهر بالقرآن في مكّة أمام المشركين(2).
![]() |
![]() |
![]() |