فما أعجب هذا التناقض!!

وعلى كلّ حال فالإيمان بحكمة الله تعالى من جانب، وملاحظة فلسفة أجزاء (وجود) الإنسان من جانب آخر، كلّ ذلك يدعونا إلى الإيمان أنّ وراء خلق الإنسان هدفاً كبيراً.

والآن ينبغي علينا أن نبحث عن هذا الهدف وأن نحدّده ما بوسعنا ـ وأن نسير

[138]

في منهاجه اللاحب.

إنّ ملاحظة عدّة مقدّمات ـ يمكن لها ـ أن تسلّط الأضواء على هدفنا للكشف عن هذا المجهول المظلم.

1 ـ نحن دائماً نقصد في أعمالنا إلى هدف ما، وعادةً يكون هذا الهدف إشباع حاجة ورفعها وإتمام النواقص. وحتّى الخدمة للآخرين أو إنقاذ مبتلى من بلائه .. أو قمنا بعمل إنساني وآثرنا سوانا على أنفسنا فذلك أيضاً نوع من الحاجات المقدّسة، وبرفعها نزداد معنوية وكمالا!

ولمّا كنّا نقيس أحياناً صفات الله مع أنفسنا فقد يخطر مثل هذا التصوّر وهو ما هي الحاجة عند الله حتّى ترتفع بخلقنا؟ أو إذا كانت الآيات الآنفة تقول (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدوني) فنقول ما هي حاجته إلى العبادة؟!

مع أنّ هذه التصوّرات ناشئة من المقايسة بين صفات الخالق والمخلوق والواجب والممكن؟!

وحيث أنّ وجودنا محدود فإنّنا نسعى وراء إشباع حاجاتنا، وأعمالنا جميعها تقع في هذا المسير .. إلاّ أنّ هذا غير وارد في وجود مطلق، فينبغي البحث عن هدف أفعاله في غير وجوده، فهو عين فيّاضة ومبدأ النعمة الذي يكتنف الموجودات في كنف حمايته ورعايته وإنمائه والسلوك بها إلى الكمال، وهذا هو الهدف الواقعي لعبوديتنا .. وهذه فلسفة عباداتنا وإبتهالاتنا، فهي جميعاً دروس تربوية لتكاملنا.

وأساساً فإنّ أصل الخلق هو خطوة تكاملية عظيمة، أي مجيء الشيء من العدم إلى الوجود، ومن الصفر إلى مرحلة العدد.

وبعد هذه الخطوة التكاملية العظيمة تبدأ مراحل تكاملية اُخرى .. فجميع المناهج الدينية والإلهيّة تسلك بالإنسان في هذا المسير!

2 ـ وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان الهدف من الخلق هو الجود ـ على

[139]

العباد ـ من المعبود لا النفع للخالق، وهذا الجود يتمثّل في تكامل الناس، فلِمَ لم يخلق الله (الجواد الكريم) العباد كاملين من البداية ـ ليكونوا في جواره وقربه وأن يتمتّعوا ببركات قربه وجوار ذاته المقدّسة!

والجواب على هذا السؤال واضح .. فتكامل الإنسان ليس أمراً يمكن خلقه بالإجبار، بل هو طريق طويل مديد، وعلى الناس أن يسيروه ويجوبوه ويقطّعوه بإرادتهم وتصميمهم وأفعالهم الإختيارية.

فمثلا لو أخذ مال باهظ قسراً من أحد لبناء مستشفى، فهل لهذا العمل من أثر تكاملي روحي وأخلاقي في نفسه؟! قطعاً لا! لكن لو أعطى بمحض إرادته ورغبته وميله النفسي ولو درهماً واحداً لهذا الهدف المقدّس فإنّه يخطو في طريق التكامل الأخلاقي والروحي بتلك النسبة التي ساهم فيها.

ويستفاد من هذا الكلام أنّ على الله أن يبيّن لنا هذا المسير بأوامره وتكاليفه ومناهجه التربوية بواسطة أنبيائه والعقل ليتمّ الإبلاغ بذلك، فنعرف هذا المسير التكاملي ونطويه بإختيارنا وإرادتنا.

3 ـ وينقدح هنا سؤال ـ آخر أيضاً ـ وهو أنّ كلّ هذا حسن .. فالهدف من خلقنا هو التكامل الإنساني، أو بتعبير آخر القرب من الله وحركة الوجود الناقص نحو الوجود الكامل الذي لا نهاية له، إلاّ أنّه ما الهدف من هذا التكامل؟!

والجواب يتّضح بهذه الجملة أيضاً وهو أنّ التكامل هو الهدف النهائي أو بتعبير آخر «غاية الغايات».

وتوضيح ذلك: لو سألنا طالب المدرسة علام تدرس أو لم تدرس؟! فيجيب حتّى أدخل الجامعة!

ولو سألناه ثانية ما تستفيد من الجامعة؟ فيقول مثلا سأكون طبيباً أو مهندساً جديراً!

فتقول له ما تصنع بشهادة «الدكتوراه» أو الهندسة؟ فيقول: لأبرز نشاطاتي

[140]

وفعاليّاتي الإيجابية المثبتة ولكي يكون ربح وفير!

فنقول له ما تصنع بالربح الوفير؟ فيقول: لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً.

وأخيراً نوجّه إليه هذا السؤال .. لِمَ تريد الحياة المنعمة؟

وهنا نراه يجيب بلحن آخر فيقول: حَسَنٌ(1) لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً علي: أي إنّه يكرّر جواب السؤال السابق!

وهذا دليل على أنّ ذاك هو الجواب النهائي، وكما يصطلح عليه بأنّه «غاية الغايات» لعمله، وليس وراءه جواب آخر! وإنّه هو الهدف النهائي .. كلّ هذا هو في المسائل الماديّة وهكذا الحال في الحياة المعنوية، فحين يسأل علام مجيىء الأنبياء ونزول الكتب من السماء، ولِمَ هذه التكاليف الشرعية والمناهج التربوية؟ فنجيب: للتكامل الإنساني والقرب من الله!.

وإذا سألوا: ما المراد من التكامل الإنساني والقرب من الله؟ نقول: هو القرب من الله، أيّ أنّ هذا هو الهدف النهائي، وبتعبير آخر أنّنا نريد كلّ شيء للتكامل والقرب من الله .. وأمّا القرب من الله فلنفسه (أي للقرب من الله).

4 ـ وينقدح مرّة اُخرى هذا السؤال أنّه ورد في حديث قدسي قوله تعالى: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اُعرف وخلقت الخلق لكي اُعرف».

فما علاقة هذا الحديث بما ذكرتم آنفاً؟!

فنجيب على ذلك: .. إنّه بغضّ النظر عن أنّ هذا الحديث من باب خبر الواحد، ولا يُعتد بخبر الواحد في المسائل الإعتقادية، فإنّ مفهوم هذا الحديث أنّ معرفة الله هي الوسيلة لتكامل الخلق أي أنّ الله أحبّ أن يستوعب فيض رحمته كلّ مكان، فلذلك خلق الخلق وعلّمهم طريقه وسبيل معرفته ليسيروا نحو التكامل


1 ـ حسنٌ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره كلامكم أو سؤالكم حسن.

[141]

والكمال! لأنّ معرفة الله رمز تكاملهم.

أجل، إنّ على العباد أن يعرفوا أنّ ذات الله هي منبع جميع الكمالات، ويسترفدوا لأنفسهم من كمالاته ويستلهموا منه في وجودهم ليشرق في وجودهم ومض من صفات كماله وجلاله، فالتكامل والقرب من الله لا يتحقّقان إلاّ عن طريق التخلّق بأخلاقه، وهذا التخلّق فرع معرفته «فلاحظوا بدقّة».

5 ـ وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً فإنّنا نقترب من النتائج فنقول: إنّ عبادة الله والعبودية له يعينان السير في ما يرتضيه وأن نستودعه أرواحنا ونعشقه بقلوبنا وأن نتخلّق بأخلاقه!.

وإذا كانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت «العبادة» على أنّها الهدف النهائي فمفهومها هو هذا، أي أنّه بتعبير آخر هو «التكامل الإنساني»!.

أجل إنّ «الإنسان الكامل» هو العبد المخلص لله.

 

5 ـ الرّوايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان

ذكرنا آنفاً مسألة الهدف من خلق الإنسان، وعالجنا هذه المسألة عن طريقين: أحدهما عن طريق تفسير آيات القرآن، والآخر عن طريق الفلسفة، وقد أوصلنا كلّ منهما إلى نقطة واحدة.

والآن علينا أن نتابع هذه المسألة في المسير الثالث، أي عن طريق الرّوايات الإسلامية لنعرف نتيجتها من هذه الرّوايات.

والتدقيق أو التأمّل في الرّوايات التالية التي هي بعض ما ورد في هذا الباب يمنحنا العمق في النظر!

ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه لمّا سئل ما معنى قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اعملوا فكلّ ميسّر لما خُلق له. قال (عليه السلام): إنّ الله عزّوجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزّوجلّ: (وما خلقت الجنّ

[142]

والإنس إلاّ ليعبدون) فيسّر كلا لما خلق له، فويل لمن إستحبّ العمى على الهدى»(1).

وهذا الحديث إشارة ذات معنى غزير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله لمّا خلق الناس لهدف تكاملي هيّأ له وسائله التكوينية والتشريعية وجعلها في إختياره.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال: «إنّ الله عزّوجلّ ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه»(2).

 

6 ـ الإجابة على سؤال

ويرد هنا سؤال آخر، وهو إذا كان الله قد خلق العباد ليعبدوه، فعلام يختار قسم منهم طريق الكفر؟ وهل يمكن أن تتخلّف إرادة الله عن هدفه؟!

وفي الحقيقة إنّ الذين يوردون هذا الإشكال خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعيّة. لأنّ الهدف من العبادة لم يكن إجبارياً، بل العبادة توأم الإرادة والإختيار. وبهذا يتجلّى الهدف بصورة تهيأة الأرضية أو المجال .. فمثلا لو قلت إنّي بنيت هذا المسجد ليصلّي الناس فيه، فمفهومه أنّني هيّأته لهذا العمل! لا أنّني اُجبر الناس على الصلاة فيه! وكذلك في الموارد الاُخر كبناء المدرسة للدرس، والمستشفى للتداوي، والمكتبة للمطالعة!

وهكذا فإنّ الله هيّأ هذا الإنسان للطاعة والعبادة، ووفّر له كلّ وسائل المساعدة من قبيل والعقل والعواطف والقوى المختلفة في الداخل، وإرسال الأنبياء والكتب السماوية والمناهج التشريعية في الخارج الخ.

ومن المسلّم به أنّ هذا المعنى في المؤمن والكافر واحد، إلاّ أنّ المؤمن أفاد


1 ـ توحيد الصدوق طبقاً لما نقل في الميزان، ج18، ص423.

2 ـ علل الشرائع للصدوق ـ طبقاً للمصدر الآنف.

[143]

من هذه الإمكانات، والكافر لم يُفِدْ!

لذلك فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه حين سئل عن الآية (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) .. قال (عليه السلام): «خلقهم للعبادة».

قال الراوي: فسألته: خاصّةً أم عامّة؟!

فقال (عليه السلام): «عامّة»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام نفسه (عليه السلام) أنّه لمّا سئل عن تفسير هذه الآية قال: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة»(2).

وهي إشارة إلى أنّ الهدف لم يكن الإجبار على العبادة بل الإعداد والتهيأة له، وهذا المعنى يصدق في حقّ عموم الناس(3).

* * *


1 ـ بحار الأنوار، ج5، ص314 الحديث 7.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ يتّضح ممّا ذكرنا آنفاً أنّ الألف واللام في «الجنّ والإنس» للإستغراق، وتشمل الآية جميع الأفراد، لا أنّ الألف واللام للجنس، بحيث تشمل جماعة منهم كما ورد في بعض التفاسير والله العالم.

[144]

الآيتان

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـبِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ( 59 ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( 60 )

 

التّفسير

هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله:

الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات، وهما في الحقيقة نوع من الإستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيّما الآيات التي تتحدّث عن الاُمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد، وكذلك الآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن الهدف من الخلق والإيجاد.

فالآية الاُولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد إنحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: (فإنّ للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون)(1)..


1 ـ الفعل فلا يستعجلون مجزوم بلا الناهية كما هو واضح، والنون هنا للوقاية وقد كسرت للدلالة على أنّ ياء المتكلّم محذوفة لفظاً أو رسماً ومقدرة معنىً ..

[145]

ويقولوا إن كان عذاب الله حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير بـ «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهمّ مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقّون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

«الذنوب»: ـ على وزن قبول ـ في الأصل معناه «الفرس التي لها ذنب طويل»، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.

وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيّؤا دلاءً عظيمة متّصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.

وحيث كانت هذه الدلاء تقسّم أحياناً على الجماعات حول البئر، فتنال كلّ مجموعة دلواً أو أكثر، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضاً، وهي في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضاً، غاية ما في الأمر أنّها هنا تشير إلى السهم الكبير(1).

وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ قال جماعة من المفسّرين بالمعنى الأوّل، وقال آخرون بالمعنى الثاني.

ونرى أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا العذاب هو العذاب الدنيوي، لأنّ العجلة لدى بعض الكفّار هي أنّهم كانوا يقولون للنبي: متى هذا الوعد .. وأين عذاب الله .. ولِمَ لا يأتينا .. الخ. فمن الواضح أنّه إشارة إلى عذاب الدنيا(2) هذا أوّلا.

وثانياً إنّ التعبير بـ (مثل ذنوب أصحابهم) الظاهر أنّه إشارة إلى عاقبة الاُمم


1 ـ يقول بعض الشعراء العرب:

لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب.

2 ـ تراجع الآيتان (57) و58) من سورة الأنعام، والآية (72) من سورة النمل وأمثالها، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل في شأن القيامة أيضاً.

[146]

المتقدّم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلاًّ منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعاً.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلِمَ  لا يتحقّق الوعد الإلهي في شأنهم؟!

وهذا السؤال له جوابان:

1 ـ إنّ هذا الوعد تحقّق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في غزوة بدر وغيرها.

2 ـ نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة من الشرك، ولمّا آمن معظمهم في فتح مكّة .. فإنّ هذا الشرط أصبح منتفياً فلم ينزل عذاب الله.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون).

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك(1)!.

كلمة «الويل» تستعمل في لغة العرب عندما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك .. كما تعني العذاب والشقاء، وقال بعضهم في الويل معنى أشدّ من العذاب.

وكلمات الويل والويس والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسّف والتأثّر، غاية ما في الأمر .. تستعمل كلمة «ويل» لمن يعمل أعمالا قبيحة، أمّا «ويس» فتستعمل في مقام التحقير، وكلمة «ويح» تستعمل في موضع الترحّم.

قال بعضهم أنّ «وَيْلا» بئر من آبار جهنّم أو باب من أبوابها، غير أنّ مراد القائلين لا يعني بأنّ هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب، بل هي في


1 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أنّ مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالباً ..

[147]

الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.

وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة، منها في شأن الكفّار والمشركين والكاذبين والمكذّبين والمجرمين والمطفّفين والمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، إلاّ أنّ أكثر إستعمالها في القرآن في شأن المكذّبين، وقد تكرّرت الآية (ويل يومئذ للمكذّبين) في سورة المرسلات وحدها عشر مرّات!.

ربّنا، نجّنا من عذاب ذلك اليوم العظيم ومن خزيه.

اللهمّ ارزقنا قبول الطاعة والتوفيق للعبودية والفخر بأن نكون عبيدك!

اللهمّ لا تبتلنا بعاقبة المكذّبين المؤلمة الذين كذّبوا رسلك وآياتك وأيقظنا من نومة الغافلين برحمتك ياأرحم الراحمين.

آمين ربّ العالمين

إنتهاء سورة الذّاريات

* * *

[148]

 

[149]

سُورَة

 

 

 

الطُّور

 

 

 

مكّية

 

وعَدَدُ آيَاتِها تسع وأربعُون آية

 

 

[150]

 

 

[151]

«سورة الطور»

محتوى السورة:

تتركز بحوث هذه السورة ـ أيضاً ـ على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتّقين من جهة، والمجرمين والمفسدين في ذلك اليوم العظيم من جهة اُخرى رغم أنّ فيها مواضيع اُخر في مجالات مختلفة من الاُمور العقائدية أيضاً ـ .

ويمكن على الإجمال ـ أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

1 ـ الآيات الاُولى من السورة التي تبدأ بالقَسَم تلو القَسَم، وهي تبحث في عذاب الله. ودلائل القيامة وعلاماتها ـ وعن النار وعقاب الكافرين [من الآية 1 إلى 16].

2 ـ القسم الآخر من هذه السورة يذكر بتفصيل نعم الجنّة ومواهب الله في القيامة وما اُعدّ للمتّقين، وينبّه على ذلك على نحو متتابع! .. وفي الحقيقة أنّ في هذه السورة إشارةً إلى أغلب نعم الجنّة من الآية 17 ـ 28.

3 ـ وفي القسم الثّالث من هذه السورة يقع الكلام عن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما وجّه إليه الأعداء من التّهم، ويردّ عليها بنحو موجز من الآية 29 إلى 34.

4 ـ وفي القسم الرّابع بحث عن التوحيد بإستدلالات واضحة من الآية 35 ـ 43.

5 ـ وفي القسم الخامس من هذه السورة عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة من الآية 44 ـ 47.

[152]

6 ـ وأخيراً فإنّ القسم الأخير من هذه السورة الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الاُمور المذكورة آنفاً بأمر نبي الإسلام بالصبر والإستقامة والتسبيح والحمد لله .. ووعده بأنّ الله حاميه وناصره.

وهكذا تتشكّل السورة من مجموعة منسجمة منطقية وعاطفية تنشدّ إليها قلوب السامعين.

وتسمية هذه السورة بـ «الطو» تناسباً لما ورد في الآية الاُولى من ذكر كلمة الطور فيها.

 

فضيلة تلاوة هذه السورة:

ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة الطور كان حقّاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته»(1).

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة»(2)!

وواضح أنّ كلّ هذا الأجر والثواب العظيم في الدنيا والآخرة هو لاُولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكّر والتفكّر بدوره وسيلة للعمل.

 

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج9، ص162 ـ تفسير البرهان، ص240.

2 ـ المصدر السابق.

[153]

الآيات

 

وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَب مَّسْطُور ( 2 ) فِى رَقٍّ مَّنشُور ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 ) إِنَّ عَذَابَ رِبِّكَ لَوَقِعٌ ( 7 ) مَّا لَهُ مِن دَافِع ( 8 )

 

التّفسير

هذه السورة ـ هي الاُخرى ـ من السور التي تبدأ بالقسم .. القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمّة، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

وأهميّة هذه المسألة إلى درجة بحيث أنّ الله أقسم في آيات مختلفة من القرآن بأنواع كثيرة من المقدّسات لتتجلّى عظمة ذلك اليوم ووقوعه حتماً.

وتلوح في بداية السورة خمسة آيات تبدأ بالقَسم، وفيها معاني مغلقة تدعو إلى التفكير ممّا جعلت المفسّرين يبحثون فيها من جميع الوجوه.

يقول سبحانه وتعالى:

(والطور).

«الطور» ـ في اللغة معناه الجبل ـ ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت

[154]

في عشر آيات من القرآن الكريم، تسع منها كانت في الكلام على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى، فيُعلم أنّ المراد منه هنا في الآية محلّ البحث (الطور ذاته) خاصّة لو أنّنا لاحظنا أنّ الألف واللام في هذه الكلمة هي للعهد.

فبناءً على ذلك، فإنّ الله يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدّسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى: (وكتاب مسطور) إحتمالات متعدّدة أيضاً، إذ قال بعضهم: المراد به اللوح المحفوظ. وقال آخرون: بل هو القرآن الكريم، ومضى بعض إلى أنّه «صحيفة الأعمال»، وذهب آخر إلى أنّه «كتاب التوراة» النازل على موسى (عليه السلام).

ولكن بتناسب القسَم المذكور آنفاً فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كلّ كتاب سماوي.

(في رقٍّ منشور).

كلمة «الرقّ» مشتقّة من الرقّة، وهي في الأصل الدقّة واللطافة، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه و «المنشور»: معناه الواسع، ويعتقد بعضهم أنّ هذه الكلمة تحمل في مفهومها معنى اللمعان أيضاً.

فبناءً على ذلك .. وقع القسم على كتاب نُشر على صفحاته أحسن ما يُكتب وهو في الوقت ذاته مفتوح وواسع غير ملتو.

(والبيت المعمور).

هناك تفاسير مختلفة في «البيت المعمور» كذلك .. إذ قال بعضهم المراد منه البيت الذي في السماء محاذياً للكعبة، وهو معمور بطواف الملائكة وزيارتهم إيّاه، ويلاحظ هذا المعنى في روايات إسلامية مختلفة وردت في مصادر

[155]

متعدّدة(1). وطبقاً لبعض الرّوايات فإنّ سبعين ألف ملك يزورون ذلك البيت كلّ يوم ولا يعودون إليه أبداً.

وذهب البعض أنّ المراد منه «الكعبة» وهي بيت الله في الأرض المعمور بالحجّاج والزوّار، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

وقال بعضهم المراد من البيت المعمور هو «قلب المؤمن» الذي يعمره الإيمان وذكر الله.

إلاّ أنّ ظاهر الآية هو واحد من المعنيين الأوّلين المذكورين آنفاً، وبملاحظة التعابير المختلفة في القرآن عن الكعبة بالبيت يكون المعنى الثاني أكثر إنسجاماً.

أمّا المقصود بـ (السقف المرفوع) فهو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (32) من سورة الأنبياء: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً).

كما نقرأ في الآيتين (27) و28) من سورة النازعات (أأنتم أشدّ خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها) فالله هو الذي أعلى سقفها وجعلها متّسقة ومنتظمة.

ولعلّ الوجه ـ في التعبير ـ بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف، ويمكن أن يكون إشارة إلى الجوّ الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

(والبحر المسجور).

«للمسجور»: في اللغة معنيان: الأوّل الملتهب، والثّاني المملوء. ويقول الراغب في مفرداته: سجر على وزن فجر معناه إشعال النار، ويعتقد أنّ الآية تعطي


1 ـ ورد في بحار الأنوار أكثر من عشر روايات في هذا المجال، ج58، ص55 وما بعدها.

[156]

هذا المعنى .. ولم يتحدّث عن المعنى الثاني، إلاّ أنّ العلاّمة الطبرسي يذكر أنّ المعنى الأوّل هو ما تقدّم، وكذلك تشير بعض كتب اللغة إلى ذلك.

والآيات الاُخر في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل أيضاً كما هي الحال في الآيتين (71) و72) إذ قال سبحانه: (يسحبون في الحميم، ثمّ في النار يسجرون).

ونقرأ في نهج البلاغة عن «أمير المؤمنين» في شأن «الحديدة المحماة» إذ يقول لأخيه «عقيل»: «أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ..»(1).

ولكن أين هو هذا «البحر المسجور»؟ قال بعضهم هو البحر المحيط بالأرض «أو البحار المحيطة بها» وسيلتهب قبل يوم القيامة، ثمّ ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (6) من سورة التكوير (وإذا البحار سُجّرت) ونقرأ في الآية (3) من سورة الإنفطار (وإذا البحار فجّرت).

إلاّ أنّ بعضهم فسّر ذلك بالبحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلّف من مواد منصهرة مذابة، وما ورد في حديث عن الإمام الباقر الذي نقله «العياشي» شاهد على هذا المعنى، وقد ورد في هذا الحديث أنّ قارون يعذّب في البحر المسجور(2)مع أنّ القرآن يقول في شأنه: (فخسفنا به وبداره الأرض).(3)

وهذان التّفسيران لا يتنافيان، ويمكن أن تكون الآية قَسَماً بهما معاً، إذ كلاهما من آيات الله ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وممّا يلفت النظر أنّ المفسّرين لم يتناولوا بالبحث علاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاُوَل بينها إرتباط وعلاقة، لأنّها جميعاً تتحدّث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محلّ نزول الوحي،


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 224.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص138.

3 ـ سورة القصص، الآية 81.

[157]

والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً، سواءً كان التوراة أو القرآن، والبيت المعمور هو محلّ ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسِل وحي الله.

أمّا القَسَمان الآخران فيتحدّثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدّث عن الآيات التشريعيّة».

وهذان القَسَمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها، والآخر يشير واحد من علائم المعاد المهمّة ودلائله، وهو الواقع بين يدي القيامة!.

فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوّة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان] الخمسة.

وبعض المفسّرين يرون أنّ هذه الآيات جميعها تشير إلى موسى وسيرة تأريخه وحياته، وذكروا إرتباط الآيات على النحو التالي:

الطور .. هو الجبل الذي نزل الوحي على موسى عنده.

والكتاب المسطور: هو التوراة.