إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف، إذ تغمر كلّ وجودهم بلذّة ليس لها مثيل.

ثمّ يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله


1 ـ أكواب جمع كوب بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له، وأباريق جمع إبريق وهي في الأصل أُخذت من الفارسية (أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة، ومن الاُخرى ذات أنبوب لصبّ السائل، وكلمة كأس تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه، ومعين من مادّة (معن) على وزن (صحن) بمعنى الجاري.

2 ـ (يصدّعون) من مادّة (صداع) على وزن (حباب)، بمعنى وجع الرأس، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الإنفلاق) لأنّ الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم، لذا فإنّ هذه الكلمة قد إستعملت في هذا المعنى. (وينزفون) من أصل (نزف) على وزن (حذف) بمعنى سحب جميع مياه البشر بصورة تدريجيّة، وتستعمل أيضاً حول (السُكْرُ) وفقدان العقل.

[456]

للمقرّبين في الجنّة، حيث يقول سبحانه: (وفاكهة ممّا يتخيّرون)(1) (ولحم طير ممّا يشتهون).

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصّة عند أكلها قبل الطعام.

والذي يستفاد من بعض الرّوايات أنّ غصون أشجار الجنّة تكون في متناول أيدي أهل الجنّة، بحيث يستطيعون بكلّ سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنّة. إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاصّ ولطف متميّز حيث أنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الإحترام والإكرام لأهل الجنّة، وتضفي رونقاً وبهاءً أكثر على مجالس أُنسهم. ومن المتعارف عليه إجتماعياً بيننا أنّ تقديم الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبّر عن التقدير والمحبّة والإحترام.

وخصّت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقيّة أنواع اللحوم، لذا فقد تكرّر ذكرها.

إنّ إستعمال تعبير «يتخيّرون» بالنسبة لـ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة لـ (اللحوم) لا يدلّل على وجود إختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض المفسّرين، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين، والمقصود بهما أنّ أي غذاء يشتهيه أهل الجنّة يوضع بإختيارهم من قبل (الولدان المخلّدين).

ثمّ يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث يقول سبحانه: (حور عين)(2) (كأمثال اللؤلؤ المكنون).


1 ـ (فاكهة ولحم) كلاهما معطوف على أكواب وهذه الأشياء تهدى من قبل (الولدان المخلّدون) إلى المقرّبين.

2 ـ بالرغم من تصوّر البعض أنّ (حور عين) عطف على (الولدان المخلّدون) وعلى هذا الرأي فإنّ الـ (حور عين) يطفن أيضاً حول أصحاب الجنّة، ونظراً لعدم تناسب هذا المعنى خصوصاً في المجالس الجماعية لأهل الجنّة، لذا فالظاهر أنّه مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير هكذا (ولهم حور عين).

[457]

«حور» كما قلنا سابقاً جمع حوراء و أحور، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديداً وبياضها شفافاً، و (عين) جمع (عيناء) و أعين، بمعنى العين الواسعة، لأنّ أكثر جمال الإنسان في عيونه، فقد ذكر هذا الوصف خصوصاً.

وقال البعض: إنّ «حور» أُخذت من مادّة (حيرة) يعني أنّهنّ جميلات إلى حدّ تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهنّ(1).

«مكنون» بمعنى مستور، والمقصود هنا الإستتار في الصدف، لأنّ اللؤلؤ عندما يكون مختفياً في الصدف وبعيداً عن لمس الأيدي يكون شفّافاً وناصعاً أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهنّ مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامّة، لا يد تصل إليهنّ ولا عين تقع عليهنّ.

وبعد الحديث عن هذه المنح، والعطايا المادية الستّة، يضيف سبحانه: (جزاءً بما كانوا يعملون) كي لا يتصوّر أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافاً، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها، حيث يلزم للإنسان العمل المستمرّ الخالص حتّى تكون هذه الألطاف الإلهيّة من نصيبه.

«ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الإستمرار».

ويتحدّث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنّة، وهي التي تتسّم بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً).

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس، فلا كذب، ولا تهم، ولا إفتراءات، ولا إستهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة .. وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ .. بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة والأدب والطهارة، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنّسة التي


1 ـ أبو الفتوح الرازي، ج11 نهاية الآية مورد البحث.

[458]

هي السبب في أكثر إنزعاجنا وعدم إرتياحنا في هذه الدنيا، حيث اللغو والثرثرة والكلام اللا مسؤول والتعبيرات الجارحة!

ثمّ يضيف سبحانه: (إلاّ قيلا سلاماً سلاماً)(1).

ويسأل هنا: هل أنّ هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنّه من قبل الملائكة؟ أو هو سلام متبادل بين أهل الجنّة، أو كلّ هذه الاُمور؟

الظاهر أنّ الرأي الأخير هو الأنسب، كما أشارت الآيات القرآنية الاُخرى إلى ذلك(2).

نعم إنّهم لا يسمعون شيئاً إلاّ السلام، سلام وتحيّة من الله، ومن الملائكة المقرّبين، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاُخوّة والصدق.

إنّ محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم، وإنّ أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاُخوّة والصفاء، وأساساً فإنّ الجنّة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان، كما نقرأ في قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربّهم)(3)(4).

 

* * *


1 ـ سلاماً مفعول به لـ (قيلا) والذي هو مصدر، والمقصود أنّ كلامهم هنالك هو (السلام) ويحتمل أن تكون (سلاماً) صفة لـ (قيلا) أو مفعول به (أو مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره; (يسلّمون سلاماً) إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأرجح، وسلاماً (الثانية) للتأكيد.

2 ـ سورة يس 58 ـ الرعد 24 ـ يونس 10.

3 ـ يجب الإنتباه إلى أنّ الإستثناء في الآية (إلاّ قيلا سلاماً سلاماً) هو إستثناء منقطع ويفيد للتأكيد.

4 ـ الأنعام، 127.

[459]

الآيات

وَأَصْحَـبُ الَْيمِينِ مَا أَصْحَـبُ الَْيمِينِ ( 27 ) فِى سِدْر مَّخْضُود ( 28 )وَطَلْح مَّنضُود ( 29 ) وَظِلٍّ مَّمْدُود ( 30 ) وَمَآء مَّسْكُوب ( 31 )وَفَـكِهَة كَثِيرَة ( 32 ) لاَّ مَقْطُوعَة وَلاَ مَمْنُوعَة ( 33 ) وَفُرُش مَّرْفُوعَة( 34 ) إِنَّآ أَنشَأْنَـهُنَّ إِنشَآءً ( 35 ) فَجَعَلْنَـهُنَّ أَبْكَاراً ( 36 )عُرُباً أَتْرَاباً ( 37 ) لاَِّصْحَـبِ الَْيمِينِ ( 38 ) ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ ( 39 )وَثُلَّةٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ ( 40 )

 

التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم:

بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الإمتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

[460]

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول عزّوجلّ: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين)(1).

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد  لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول: (في سدر مخضود)(2). وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة: شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين متراً أحياناً وعمره يقرب من ألفي سنة، ولها ظلّ ظليل ولطيف، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلاّ أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً، فقال: يارسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وما هي» قال: السدر، فإنّ لها شوكاً.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أليس يقول الله: في سدر مخضود، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة، إنّها تنبت ثمراً يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر»(3).

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: (وطلح منضود).

«الطلح»: شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنّها شجرة الموز


1 ـ إنّ الحديث عن تركيب هذه الجملة جاء في نهاية الآية (8) من نفس هذه السورة.

2 ـ الجار والمجرور متعلّق بعامل مقدّر والخلاصة أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم في سدر مخضود).

3 ـ روح المعاني ج27 ص120، والدرّ المنثور ج6 ص156.

[461]

التي تتميّز بأوراق عريضة جدّاً وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود»: من مادّة (نضد) بمعنى متراكم.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما، حتّى أنّ البعض قال: إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين: بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّاً، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّاً، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين(1).

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: (وظلّ ممدود).

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث إنتشاره في كلّ مكان، وقد نقل حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى في روضة الكافي(2).

والمقصود هنا أن لا حَرَّ في الجنّة، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعة تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه: (وماء مسكوب).

«مسكوب» من مادّة (سكب) على وزن «حرب» وتعني في الأصل الصبّ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلاّل فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهداً رائعاً حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح. ويبهر العيون، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته


1 ـ الفخر الرازي في التّفسير الكبير نهاية الآية مورد البحث، ج29، ص162.

2 ـ روضة الكافي، مطابق نقل نور الثقلين، ج5، ص216.

[462]

الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة).

نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك، أو العلو مثل النخيل، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم .. كلاّ، لا يوجد شيء من هذا القبيل، فالمتقضي موجود بشكل كامل، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اُخرى حيث يقول: (وفرش مرفوعة) أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش»: جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية، وإعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة. ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة، فسيقطع إرتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى: (إنّا أنشأناهنّ إنشاءً).

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى

[463]

المعنيين أيضاً.

ثمّ يضيف تعالى: (فجعلناهنّ أبكاراً).

وإحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك، واُشير له في الرّوايات الإسلامية أيضاً، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكاراً(1).

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى: (عُرُباً).

(عُرُباً) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها، (إعراب): على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن (أتراباً) أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

(أتراب) جمع (ترب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه، وقال البعض: إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاُخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وإنسجاماً، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع إختلاف العمر أحياناً، إلاّ أنّ الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى: (لأصحاب اليمين).


1 ـ روح المعاني، ج27، ص123 وبالضمن يجدر الإنتباه إلى أنّ هذه الحالة، مع فاء التفريع عطفت على الآية السابقة.

[464]

وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة (إنّا أنشأناهنّ إنشاءً)(1).

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: (ثلّة من الأوّلين وثلّة من الآخرين).

«ثلّة»: في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ اُطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الاُمم السابقة، ومجموعة عظيمة من الاُمّة الإسلامية، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الاُمّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الاُمم السابقة، وذلك لكثرة تلك الاُمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض: إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الاُمّة الإسلامية، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.

 

* * *


1 ـ في الصورة الاُولى عبارة (أصحاب اليمين) خبر لمبتدأ محذوف، وفي التقدير تصبح هكذا: (هذه كلّها لأصحاب اليمين) وفي الصورة الثانية جار ومجرور متعلّق بأنشأناهنّ، والتّفسير الأوّل أصحّ.

[465]

الآيات

وَأَصْحَـبُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَـبُ الشِّمَالِ ( 41 ) فِى سَمُوم وَحَمِيم ( 42 )وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم ( 43 ) لاَّ بَارِد وَلاَ كَرِيم ( 44 ) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 ) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( 46 )وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُراباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 47 )أَوَ ءَابَاؤُنَا الاَْوَّلُونَ ( 48 ) قُلْ إِنَّ الاَْوَّلِينَ وَالاَْخِرِينَ ( 49 )لََمجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـتِ يَوْم مَّعْلُوم ( 50 )

 

التّفسير

العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال:

بعد الإستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها الله سبحانه للمقرّبين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرّق الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيّئة التي حلّت بهم، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة حيث يقول الباريء: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال).

[466]

أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب، وممّن تكون النار مصيراً لهم، ويستعمل هذا التعبير عادةً لبيان (حسن) أو (سوء) نهاية الإنسان كما في قولنا: السعادة أقبلت علينا يا لها من سعادة!. أو المصيبة داهمتنا يا لها من مصيبة. وكذلك في قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال).

ثمّ يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق القاتل من جهة (سموم) والماء المغلي المهلك من جهة اُخرى (وحميم)، وظلّ الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة (وظلّ من يحموم) هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة ... إنّها آلام وعذاب لا يطاق، ولو لم يكن غيره من جزاء لكفاهم.

«سموم»: من مادّة (سمّ) بمعنى الهواء الحارق الذي يدخل في مسام الجلد فتهلكهم، (ويقال للسمّ سمّاً لأنّه ينفذ في جميع خلايا الجسم).

و «حميم»: بمعنى الشيء الحارّ، وهنا جاء بمعنى الماء الحارق والذي اُشير له في آيات قرآنية سابقة كما في قوله تعالى (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم).(1)

«يحموم»: من نفس المادّة أيضاً، وهنا بمناسبة الظلّ فسّرت الكلمة بمعنى الظلّ الغليظ الأسود والحارّ.

ثمّ يضيف الباريء مؤكّداً فيقول: (لا بارد ولا كريم).

المظلّة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اُخرى، والظلّ المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شيء يذكر.

والتعبير بـ (كريم) من مادّة (كرامة) بمعنى مفيد فائدة، ولذلك فإنّ المتعارف بين العرب إذا أرادوا أن يعرفوا شيئاً أو شخصاً بانّه غير مفيد يقولون (لا كرامة


1 ـ الحجّ، 19.

[467]

فيه).

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلاّ الشرّ والضرر (لا كرامة).

وبالرغم من أنّ أجزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلاّ أنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقيّة الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل، يقول في البداية: (إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين).

«مترف»: كما ورد في لسان العرب من مادّة ترف ـ على وزن (سبب) ـ بمعنى التنعّم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكران، وجرّته إلى الطغيان(1).

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين، إلاّ أنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

والملاحظ في عصرنا الحاضر أنّ فساد المجتمعات وعوامل الإنحراف ورأس الحروب والدمار ونزيف الدم وأنواع الظلم ومركز الشهوات والفساد في العالم أجمع بيد «الزمرة» المترفة المغرورة، ولهذا فالقرآن الكريم قد شخصّهم وحدّد موقفه منهم إبتداءً.

وهنالك رأي ثان وهو: إنّ نعم الله سبحانه واسعة وعديدة ولا تنحصر بالأموال فقط، بل تشمل الصحّة والشباب والعمر .. فإذا كانت هذه النعم أو بعضها مبعثاً للغرور والغفلة، فإنّها ستكون مصدراً أساسياً للذنوب، وهذا المفهوم يسري على أصحاب الشمال.


1 ـ لسان العرب، ج9، ص17.

[468]

ثمّ يشير سبحانه إلى العامل الثاني الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال، فيقول سبحانه: (وكانوا يصرّون على الحنث العظيم).

«الحنث» في الأصل يعني كلّ نوع من الذنوب، وقد إستعمل هذا المصطلح في كثير من الموارد بمعنى نقض العهد ومخالفة القسم، لكونه مصداقاً واضحاً للذنب، وبناءً على هذا فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها، لأنّ الذنب يمكن صدوره من أصحاب اليمين أيضاً، إلاّ أنّهم لا يصرّون عليه أبداً، ويستغفرون ربّهم ويعلنون التوبة إليه عند تذكّره.

وفسّر البعض «الحنث العظيم» بمعنى الشرك، لأنّه لا ذنب أعظم من الشرك. قال تعالى: (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(1).

وفسّر (الحنث) بالكذب، لأنّه أعظم الذنوب، ومفتاح المعاصي، خصوصاً حينما يكون الكذب توأماً لتكذيب للأنبياء (عليهم السلام) والمعاد.

والظاهر أنّ هذه جميعاً تعتبر مصاديق للحنث العظيم.

وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: (وكانوا يقولون أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون).

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم. وتعبير (كانوا يقولون)يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.

وهنا مطلبان جديران بالملاحظة وهما:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم في معرض حديثه عن (المقرّبين) و (أصحاب اليمين) لم يعط توضيحاً عن أعمالهم التي سبّبت لهم تلك النعم وذلك الجزاء، إلاّ ضمن إشارة عابرة. أمّا عندما جاء دور الحديث عن أصحاب الشمال فقد وضّحت


1 ـ النساء، آية 48.

[469]

أفعالهم بصورة كافية، وذلك ليكون إتماماً للحجّة عليهم من جهة، وإظهار أنّ جزاءهم هذا كان إنسجاماً مع مبادىء العدالة تماماً من جهة اُخرى.

والمسألة الاُخرى: أنّ الذنوب الثلاثة التي اُشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اُصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاُولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).(1)

والتعبير بـ (تراباً وعظاماً) لعلّه إشارة إلى أنّ لحومنا تتحوّل إلى تراب، وعظامنا إلى رميم، ومع ذلك فكيف نكون خلقاً جديد؟

ولمّا كانت عودة الحياة إلى التراب أبعد من عودتها إلى العظام لذا ذكر في البداية حيث يقول تعالى: (تراباً وعظاماً).

والعجيب أنّ هؤلاء يرون مشاهد المعاد بأعينهم في هذه الدنيا ومع ذلك فإنّهم ينكرونها(2). ألم يروا إلى الكثير من الموجودات الحيّة كالنباتات تموت وتجفّ وتصبح تراباً ثمّ تلبس لباس الحياة مرّة اُخرى، وأساساً فإنّ الذي خلق الخلق أوّل مرّة لن يعييه إعادة الخلق ثانية، ولن يكون عليه ذلك صعباً وعسيراً ولكنّهم مع ذلك يصرّون على إنكار المعاد.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجّب: (أو آباؤنا الأوّلون)(3) الذين لم يبق منهم أثر وتناثرت كلّ ذرّة من تراب أجسادهم في جهة، أو أصبحت جزءاً من بدن كائن آخر؟