![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ جاء في تفسير الميزان أنّ الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشيء وأنّ الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية .. إلاّ أنّه لا دليل واضح على هذا التفاوت .. بل ما ورد في اللغة هو ما بيّناه في المتن ..
ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبداً، ولم يرَ سواه، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه.
ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة، ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته.
توضيح ذلك .. انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة، إلاّ أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الإستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا، وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا.
ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ، لأنّه لم يحصل عن طريق الإستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته، ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.
صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته الله عزّوجلّ إلاّ أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب .. والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع
* * *
لا خلاف بين علماء الإسلام في أصل معراج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالآيات تشهد على ذلك سواءً في هذه السورة محل البحث أو في بداية سورة الإسراء، وكذلك الرّوايات المتواترة.
غاية ما في الأمر أنّ بعض المفسّرين ولأحكامهم المسبّقة لم يستطيعوا أن يتقبّلوا صعود النّبي بجسده وروحه إلى السماء، ففسّروه بالمعراج الروحاني وما يشبه حالة الرؤيا والمنام!! مع أنّ هذا الصعود أو المعراج الجسماني للنبي لا إشكال فيه عقلا ولا من ناحية العلوم المعاصرة، وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في تفسير سورة الإسراء بشكل مبسّط!.
فبناءً على هذا لا داعي للإعراض عن ظاهر الآيات وصريح الرّوايات لمجرّد الإستبعاد ..
ثمّ بعد هذا كلّه فالتعابير في الآيات هذه تشير إلى أنّ جماعة جادلوا في هذه المسألة، والتاريخ يقول أيضاً إنّ مسألة المعراج أثارت نقاشاً حادّاً بين المخالفين!
فلو أنّ النّبي كان يدّعي المعراج الروحاني وما يشبه الرؤيا لم يكن لهذا النقاش محلّ من الإعراب.
الهدف من المعراج هو بلوغ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرحلة الشهود الباطني من جهة، ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اُخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محلّ البحث: (لقد رأى من آيات ربّه الكبرى).
وفي الآية الاُولى من سورة الإسراء: (لنريه من آياتنا) والإطلاع على مسائل مهمّة ـ كثيرة ـ كأحوال الملائكة وأهل الجنّة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.
يستفاد من الآيات ـ محلّ البحث ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بالجنّة ليلة المعراج ودخلها، وسواء أكانت هذه الجنّة هي جنّة الخلد كما قال بها جماعة من المفسّرين، أو جنّة البرزخ كما إخترناه، فإنّ النّبي على أيّة حال ـ رأى مسائل مهمّة من
مستقبل الناس في هذه الجنّة، وقد جاء بيان ذلك في الرّوايات الإسلامية، وسنشير إلى قسم منها.
من جملة المسائل المهمّة في قضيّة المعراج والتي كان لها دور مهمّ في إثارة التشكيكات من قبل البعض في أصل قضيّة المعراج هو وجود روايات ضعيفة أو مدسوسة ضمن رواياته حتّى أنّ العلاّمة الطبرسي قال: يمكن تقسيم روايات المعراج إلى أربعة أقسام:
أ ـ الرّوايات القطعيّة لتواترها «كأصل مسألة المعراج».
ب ـ الرّوايات المنقولة من مصادر معتبرة، وهي مشتملة على مسائل لا مانع عقلا من قبولها كالرّوايات الحاكية عن مشاهدة النّبي لكثير من آيات عظمة الله في السماوات!
ج ـ الرّوايات التي لا يتنافى ظاهرها مع ما لدينا من الاُصول المستقاة من آيات القرآن والرّوايات الإسلامية المقطوع بها .. إلاّ أنّها مع ذلك تقبل التوجيه، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى جماعة من أهل الجنّة ينعمون في الجنّة وجماعة من أهل النار يعذّبون فيها «فينبغي أن تؤول بأنّ المراد من الجنّة والنار هو جنّة البرزخ وناره» .. حيث أنّ أرواح المؤمنين والشهداء في الاُولى متنعّمة وأرواح الكفّار والمشركين في الثانية «معذّبة»(1).
د ـ الرّوايات المشتملة على مطالب باطلة وعارية عن الصحّة ومحتواها يدلّ على أنّها مدسوسة أو مجعولة، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى الله بعينيه وبصره
1 ـ جاء في آيات القرآن «أنّ المتّقين يُساقون إلى الجنّة زمراً وأنّ الكفّار يساقون إلى النار زمراً (الزُّمُر الآيات 71 ـ 73) وجاء هذا المعنى في سورة اُخرى كالآية (70) من الزخرف، والآيتين (85) و86) من سورة مريم، والآية (47) من سورة الدخان.
الظاهري أو تكلّم معه أو شاهده، فهذه الرّوايات وأمثالها مجعولة قطعاً، إلاّ أن تفسّر بالشهود الباطني.
بعد ملاحظة هذا التقسيم نلقي الضوء على روايات المعراج، حيث يستفاد من مجموع هذه الرّوايات أنّ النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.
1 ـ المرحلة الاُولى: وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد اُشير إليها في الآية الاُولى من سورة الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى).
وتقول بعض الرّوايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها(1).
كما صلّى أيضاً في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامهم في الصلاة، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع(2) فجابهنّ سماءً بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهدَ جديدة، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها، والجنّة وأهلها في بعضها، والنار وأهلها في بعضها، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسرّ من أسراره، وبعد عودته ذكرها لاُمّته صراحةً أحياناً وبالكناية أو المجاز أحياناً، وكان يستلهم منها لتربية اُمّته وتعليمه بكثرة.
وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحداً من أهداف هذا السَفَر السماوي الإستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات، والتعبير القرآني الغزير (لقد رأى من آيات ربّه الكبرى) في هذه الآيات محلّ البحث يمكن أن يكون إشارة إجمالية
1 ـ بحار الأنوار، ج18، ص319.
2 ـ طبقاً لبعض آيات القرآن كالآية السادسة من سورة الصافات: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب) ما نراه من العالم العلوي من النجوم والمجرّات هو في السماء الاُولى فحسب أمّا السماوات الستّ الاُخرى فهي فوقها ..
لجميع هذه الاُمور.
وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الجنّة والنار اللتين رآهما النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه والأشخاص الذين كانوا منعّمين أو معذّبين فيهما لم تكونا جنّة القيامة ونارها، بل هما جنّة البرزخ وناره، لأنّه كما أشرنا سابقاً طبقاً لآيات القرآن فإنّ الجنّة والنار تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدّتين للمتّقين والمسيئين.
وأخيراً وصل النّبي إلى السماء السابعة ورأى حجُباً من النور هناك حيث «سدرة المنتهى» و «جنّة المأوى» وبلغ النّبي هناك وفي العالم النوراني أوج الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى ... وخاطبه الله هناك وأوحى إليه تعاليم مهمّة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الرّوايات الإسلامية تحت عنوان الأحاديث القدسيّة، وسنعرض قسماً منها بإذن الله في الفصل المقبل.
الطريف هنا هو أنّ الرّوايات الكثيرة تصرّح بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أخاه وابن عمّه علياً في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة، وما نجده من التعابير في هذه الرّوايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى الرغم من كثرة الرّوايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات أسرار ليس من الهيّن كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الرّوايات المتشابهة .. أي الرّوايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!
(لمزيد الإطلاع تراجع الرّوايات في هذا الصدد بالجزء 18 من بحار الأنوار من الصفحة 282 إلى 410).
وقد ذكرت كتب أهل السنّة روايات المعراج بشكل موسّع بحيث نقل ثلاثون راوية من رواتهم حديث المعراج(1).
وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه
1 ـ تفسير الميزان، ج13، ص29 (ذيل الآيات الاُولى من سورة الإسراء بحث روائي).
المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة، بل في جزء منها؟!
ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفراً بسيطاً كالمعتاد حتّى يقاس بالمعايير المعتادة! فلا السفر كان طبيعيّاً ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضية فكلّ شيء كان في المعراج خارقاً للعادة! وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.
فبناءً على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الاُمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس ـ الكرة الأرضية ـ الزمانية [فلاحظوا بدقّة].
وردت في كتب الأحاديث رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن «المعراج» وهي مفصّلة وطويلة نذكر جانباً منها وفيها مطالب تكشف عن أحداث وأحاديث تلك الليلة التأريخية وكيف إنّها بلغت أوج السمو والرفعة.
ونقرأ في بداية الحديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل الله سبحانه: ياربّ أيّ الأعمال أفضل؟!
فقال تعالى: «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت، يامحمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية.
وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبّة، المحبّة الشاملة والواسعة، وأساساً فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور!
وجاء في جانب آخر: «ياأحمد(1) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نَظَر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اُعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به، فقال: ياربّ دُلّني على عمل أتقرّب به إليك قال: اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلا قال: ربّ وكيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.
كما جاء في مكان آخر منه: ياأحمد محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك اُدنِكَ وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.
وجاء في موضع آخر أيضاً: ياأحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال ياربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من إعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس فيهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساويء الناس ويخفون حسناتهم..
قال: ياربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا، قال: ياأحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم، الجهل والحمق، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء..
ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول:
ياأحمد إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم،
1 ـ ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ إسم النّبي في كلّ مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلاّ في بدايته، أجل فاسم النّبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد ولِمَ لا يكون كذلك مع أنّ أحمد بالإضافة إلى أنّه اسم تفضيل مبين للحمد والتكريم أكثر، وقد كان على النّبي في تلك الليلة التاريخية أن يتجاوز من «محمّد» إلى «أحمد» لأنّ الفاصلة بين أحمد واحد غير بعيدة.
كثير نفعهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، الناس (الغَفلَة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم «وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلاّ إليه» قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة «ويحيا حياةً جديدة» من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.
وإن قاموا بين يدي كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلا لمخلوق .. فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيبةً إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أُسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ.
ياأحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذاً طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.
وجاء في مكان آخر منه: ياأحمد هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ أبقى؟ قال اللهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يغترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي، يطلب رضاي في ليله ونهاره.
وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حقّ عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً .. فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه لي وفراغه وإشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبّتي من خلقي .. وافتح عين قلبه
وسمعه حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي «وحقائق الغيب».
وأخيراً فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة! .. ياأحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين»(1).
هذه الأحاديث القدسيّة «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.
ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النّبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اُخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة إستيعابها ... ولذلك بقيت في نفس النّبي طيّ الكتمان فلم يَبُحْ بها لأحد إلاّ لخلصائه المختصّين به.
* * *
1 ـ بحار الأنوار، ج77، ص21 ـ 30 بشيء من التلخيص .
أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاُْخْرَى ( 20 ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُْنثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَـن إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )
بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء، يتناول القرآن أفكار المشركين، فينقضها ويتحدّث عن معتقداتهم الخرافية .. فيقول: بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم: (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى)(1)؟!
1 ـ سنتحدّث عن الأصنام الثلاثة المشار إليها في الآيات محلّ البحث بإذن الله، لكن ممّا ينبغي الإلتفات إليه هو التعبير بمناة الثالثة الاُخرى فقد ذكر لهذه الآية تفاسير عديدة أغلبها عار من الصحّة ولا أساس له ولكن المناسب من هذه التفاسير أنّ أهميّة هذه الأصنام عند مشركي العرب كانت بحسب ما ذكره القرآن فالتعبير بمناة الثالثة أي ثالث الأصنام (في الأهميّة) عند العرب والتعبير بالاُخرى هو لتأخّر رتبتها عندهم!
مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم!!
(تلك إذاً قسمة ضيزى)(1) فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!
وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئاً بها! ويقول لهم: إنّكم ترون البنت عاراً وذلّةً وتئدونها وهي حيّة في القبر، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات الله، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسيّة! وتسجدون لها وتلتجئون إليها لحلّ مشاكلكم وتطلبون حوائجكم منها، وذلك مثار للسخرية والإستهزاء حقّاً!.
ومن هنا يبدو واضحاً أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة، الملائكة التي يسمّون كلاًّ منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات الله!!
فحين تقرن هذه الخرافات إلى خرافة اُخرى وهي نظرتهم عن البنت فإنّ التضادّ العجيب الواقع بين هذه الخرافات بنفسه خير شاهد على سخافة هذه المعتقدات، وكم هو طريف أن يبطل القرآن جميع تلك الخرافات بعدّة جُمل قصيرة وموجزة ويفضحها ساخراً بها.
ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والاُنثى، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل)، وإلاّ فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والاُنثى من حيث القيمة الإنسانية، ولا
1 ـ ضيزى أي ناقصة وغير منصفة.
الملائكة فيهم ذكر واُنثى، ولا هم بنات الله، وليس عند الله من ولد أساساً، فهذه إفتراضات لا أساس لها .. إلاّ أنّ هذا الردّ خير جواب لمن يعتقد بهذه الخرافات.
وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يقول القرآن بضرس قاطع: (إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)(1).
فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم، وليس لديكم إلاّ حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.
ثمّ يختتم القرآن الآية بالقول: (إن يتّبعون إلاّ الظنّ وما تهوى الأنفس(2))فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى) ..
إلاّ أنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات!
* * *
كان لمشركي العرب أصنام كثيرة، إلاّ أنّ ثلاثةً منها كانت ذات أهميّة خاصّة عندهم، وهي «اللات» و «العزّى» و «مناة».
وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة التي تعبدها، ونكتفي بما ورد في كتاب «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» هنا فحسب.
فأوّل صنم معروف إختاره العرب كان (مناة)، حيث انّه بعد أن نقل «عمرو بن لحي» عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز، صُنع هذا الصنم في منطقة قريبة من
1 ـ السلطان: معناه السلطة والغلبة، ويطلق على الدليل القاطع أنّه سلطان أيضاً، لأنّه أساس الغلبة على الخصم.
2 ـ «ما» في «ما تهوى الأنفس» موصولة، ويحتمل أن تكون مصدرية، ولا فرق كبير بينهما .
البحر الأحمر بين المدينة ومكّة، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم ويقدّمون له القرابين، إلاّ أنّ أكثر القبائل إهتماماً بهذا الصنم قبيلتا الأوس والخزرج .. حتّى كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ـ وكان النّبي متّجهاً من المدينة إلى مكّة ـ فأرسل أمير المؤمنين علياً فكسره.
وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة، عمدوا فصنعوا صنماً آخر، هو اللات من صخر ذي أربع زوايا، وجعلوه في الطائف، في المكان الذي توجد فيه اليوم منارة مسجد الطائف الشمالية، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم، وحين أسلمت ثقيف أرسل النّبي المغيرة، فكسر ذلك الصنم، والصنم الثالث الذي إختاره العرب هو العزّى وكان في محلّ قريب من ذات عرق في طريق مكّة باتّجاه العراق وكانت قريش تهتمّ بهذا الصنم كثيراً.
وكان العرب يهتّمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنّهم كانوا يقولون عند الطواف حول البيت: واللات والعزّي ومناة الثالثة الاُخرى فإنّهم الغرانيق العُلى وإنّ شفاعتهم لترتجى(1).
وكانوا يزعمون بأنّ هذه الأصنام بنات الله «ويظهر أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنّها بنات الله!!».
العجب أنّ تسميتها مستقاة من أسماء الله .. غالباً غاية ما في الأمر كانت أسماؤها مؤنثة لتدلّ على إعتقادهم .. فاللات(2) أصلها اللاهة، ثمّ سقط حرف الهاء فصارت الكلمة اللات، و العزّى مؤنث الأعز، و مناة من منى الله الشيء أي قدّره، ويعتقد بعضهم أنّ مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها المزن وبعضهم قالوا بأنّ مناة مأخوذة من «مَنَى» على وزن «سعى»، ومعناه سفك
1 ـ بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، ج2، ص202 و203.
2 ـ كلمة «اللات» كان ينبغي أن تكتب اللاة بالتاء القصيرة ولكنّها لمّا كانت في الوقف تبدّل هاءً فتصير اللاه ويوهم لفظها بالاسم الكريم الله كتبت بالصورة الآنفة اللات.
الدم، لأنّ دماء القرابين كانت تسفك(1) عندها وعلى كلّ حال فإنّ العرب كانوا يحترمون هذه الأصنام حتّى أنّهم سمّوا كثيراً من رجالهم بعبد العزّى وعبد منات وربّما سمّوا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء(2).
إنّ واحداً من أقدم اُسس الشرك هو تنوّع الموجودات في العالم حيث أنّ ذوي الفكر القصير والنظر الضيّق لم يستطيعوا تصديق أنّ كلّ هذه الموجودات المتنوّعة في السماء والأرض مخلوقة لله الأحد «لأنّهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا يتسنّى لهم التسلّط إلاّ على أمر واحد أو عدّة اُمور» لذلك كانوا يزعمون أنّ لكلّ نوع من الموجودات ربّاً يعبّر عنه «بربّ النوع» كربّ نوع البحر، وربّ نوع الصحراء، وربّ نوع المطر، وربّ نوع الشمس، وربّ الحرب، وربّ الصلح ...
وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمّونها الملائكة أحياناً كانت حسب إعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى ربّ نوعها وحيث أنّ أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها!
هذه العقائد الخرافية إنتقلت من اليونان إلى المناطق الاُخرى حتّى وصلت إلى الحجاز، ولكن حيث أنّ التوحيد الإبراهيمي كان سائداً لدى العرب فلم يمكنهم إنكار وجود الله، فمزجت هذه العقائد واحدة بالاُخرى، ففي الوقت الذي يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته، وعبدوا الأحجار التي صنعوا منها التماثيل.
فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فلم يك أي شيء صادراً
1 ـ الإحتمال الأوّل جاء في الكشّاف والثاني في بلوغ الإرب.
2 ـ بلوغ الإرب، ج2، ص202 و203.
من ربّ المطر الذي سمّيتموه أنتم، ولا من ربّ الشمس المزعوم، ولا البحر، ولا الحرب، ولا الصلح.
فكلّ شيء صادر عن الله، وعالم الوجود كلّه طوع أمره، وإتّساق جميع هذه الموجودات المختلفة في السماء والأرض وإنسجامها بعضها مع بعض دليل على وحدة الخالق، ولو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا.
عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلاّ أنّ لها دوافع ومباديء نفسيّة وفكرية أيضاً، وقد اُشير إليها في الآيات المتقدّمة، وذلك هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء، ومن ثمّ تنتقل إلى مقلّديهم من المتحجّرين، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل.
وبالطبع فإنّ معبوداً كالصنم يتلاءم جيّداً مع أهوائهم، لأنّه ليس له سلطة على العباد، ولا معاد، ولا جنّة، ولا نار، ولا كتاب، ويعطيهم الحرية الكاملة، وإنّما يأتونه في المشاكل فحسب، ويتصوّرون أنّه سينفعهم وأنّهم إنّما يستمدّون منه العون.
وأساساً فانّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل لظهور الأصنام الاُخرى.
من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتّمون بها «أي اللات والعزّى ومناة» ويعبدونها ـ من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أنّ هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.
و «الغرانيق» جمع غُرنوق على زنة عصفور وبُهلول .. والغرنوق نوع من
الطيور الرمادية أو السوداء، ولذلك كان العرب أحياناً إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد ذكرها: تلك الغرانيق العُلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.
وقد وردت هنا قصّة خرافية نقلتها بعض الكتب، وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قرأ الآية: (أفرأيتم اللات والعزّى) أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين: تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى .. فكان سبباً لإرتياح المشركين وعدوّه إنعطافاً من قِبَلِ النّبي إلى عبادة الأصنام، وحيث أنّ ختام السورة يدعو الناس للسجود .. فإنّ المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضاً، فكان هذا الخبر مدعاةً لإشاعة إسلام المشركين في كلّ مكان! حتّى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين وسُرّ جماعة منهم إلى درجة أنّهم أحسّوا بالأمان فعادوا من مهجرهم إلى مكّة(1).
ولكن كما فصّلنا ذلك في تفسير الآية 52 من سورة الحجّ فإنّ هذا الإدّعاء كذب مفضوح، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء.
فاُولئك المفتعلون لهذه الكِذبة لم يفكّروا أنّ القرآن في ذيل هذه الآيات محلّ البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة، ويعدّها اتّباعاً لما تهوى النفس وظنونها، كما أنّه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنّف عبادة الأصنام بصراحة وبِشدّة، ويعدّها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة، ويأمر النّبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم ويعرض عنهم.
فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفّظ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين الجملتين، أو أن يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى الآيات بعدها التي تعنّف المشركين على عبادة الأصنام .. ويفرحوا ويسجدوا في آخر ما يُتلى مِن هذه السورة مع الساجدين.
1 ـ نقل الطبري هذه القصّة الخرافية في تاريخه، ج2، ص75 فما بعد.
والحقيقة أنّ ناسجي هذه الاُسطورة سذّج للغاية وسطحيّون، ويمكن أن يكون عند قراءة النّبي للآية (أفرأيتم اللات والعزّى) تلا الشيطان بعدها أو الإنسان المتّصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين «لأنّ هاتين الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام» فاشتبه جماعة مؤقتاً بأنّهما تتمّة للآية!!
إلاّ أنّه لا معنى لسجود المشركين في إنتهاء السورة، ولا لإنعطاف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)نحو عبادة الأصنام، لأنّ جميع آيات القرآن وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته كلّ ذلك يكشف عن أنّه لم يظهر أيّ إنعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة، ولم يقبل بأيّ إقتراح في هذا الصدد، لأنّ الإسلام بأجمعه كان يتلخّص في التوحيد: لا إله إلاّ الله!
![]() |
![]() |
![]() |