4 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص162.

[502]

وجاءوا إلى القرآن بروح باحثة عن الحقّ والحقيقة، فعلى هذا كلّما إزدادت طهارة وتقوى الإنسان فإنّه مرشّح لإستيعاب المفاهيم القرآنية بصورة أعمق، ومن هنا فإنّ الآية تصدق في البعدين (المادّي والمعنوي) و (الجسمي والروحي).

وممّا لا شكّ فيه أنّ شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) والملائكة المقرّبين هم أوضح مصداق للمقرّبين الذين أدركوا حقائق القرآن الكريم بصورة متميّزة عن الجميع.

* * *

[503]

الآيات

فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنتُمْ حِينَئِذ تَنظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ( 85 ) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ ( 87 )

 

التّفسير

عندما تصل الروح إلى الحلقوم:

من اللحظات الحسّاسة التي تقلق الإنسان دائماً هي لحظة الإحتضار ونهاية العمر، في تلك اللحظة يكون كلّ شيء قد إنتهى، وقد جلس أهله وأحبّاؤه ينظرون إليه بيأس كشمعة قد إنتهى أمدها وستنطفىء رويداً رويداً، حيث يودّع الحياة دون أن يستطيع أحد أن يمدّ إليه يد العون.

نعم، إنّ الضعف التامّ للإنسان يتجسّد في تلك اللحظات الحسّاسة ليس في العصور القديمة فحسب بل حتّى في عالمنا المعاصر، فمع توفّر جميع الإمكانات الطبيّة والفنيّة والوسائل العلاجية فإنّ الضعف يتجلّى في ساعة الإحتضار.

وتكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذّبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه: (فلولا إذا

[504]

بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) ولا تستطيعون عمل شيء من أجله(1).

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الإحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة الله تعالى على كلّ شيء، حيث أنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم ـ أي أقاربه ـ سيلاقون نفس المصير(2).

ثمّ يضيف سبحانه (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون).

نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وطبيعة المخاضات الصعبة التي يعيشها في هذه اللحظة.

وبناءً على هذا فالمقصود من الآية هو: قرب الله عزّوجلّ من الشخص المحتضر، بالرغم من أنّ البعض إحتمل المقصود بالقرب (ملائكة قبض الروح) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل منسجم مع ظاهر الآية أكثر.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه ليس في هذه اللحظات أقرب إلينا من كلّ أحد، بل هو في كلّ وقت كذلك، بل هو أقرب إلينا حتّى من أنفسنا، بالرغم من أنّنا بعيدون عنه نتيجة غفلتنا وعدم وعينا، ولكن هذا المعنى في لحظة الإحتضار يتجلّى أكثر من أي وقت آخر.

ثمّ للتأكيد الأشدّ في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين).


1 ـ للآية محذوف تقديره (فلولا إذا بلغت الحلقوم لا ترجعونها ولا تملكون شيئاً) وهذا ما يستفاد من الآيات اللاحقة وقد لحقت تاء التأنيث بالفعل لأنّها متعلّقة بالنفس.

2 ـ إحتمل البعض أنّ المخاطب هنا هو الشخص المحتضر، وهذا بعيد جدّاً حسب الظاهر، لأنّ الآية اللاحقة توضّح بصورة جيّدة أنّ المخاطب هم متعلّقو المحتضر.

[505]

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد، وأنّ الجزاء بيده، وهو الذي يحي ويميت.

«مدينين»: جمع (مدين) من مادّة (دَين) بمعنى الجزاء، وفسّرها البعض بمعنى المربوبين. والمعنى هو: ياأيّها العباد، إن كنتم تحت ربوبية موجود آخر، ومالكي نواصي اُموركم، فارجعوا أرواحكم التي قبضناها، وهيهات تقدرون! وهذا دليل آخر على أنّكم في قبضة الحكومة الإلهية.

* * *

 

تعقيب

1 ـ لحظة ضعف الجبّارين

إنّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو بيان قدرة الله عزّوجلّ على مسألة الموت والحياة، كي ينتقل منها إلى مسألة المعاد وإختيار لحظات الإحتضار والموت هنا لظهور غاية الضعف الإنساني بالرغم من كلّ القوّة التي يتصوّرها لنفسه.

ومن المفيد أن نستعرض بعض حالات الجبّارين لحظة إحتضارهم بالرغم من أنّهم كانوا في أوج القدرة حتّى يتّضح المعنى العميق لهذه الآية بصورة أفضل.

حكى المسعودي في مروج الذهب في أخبار المأمون وغزاته أرض الروم ما هذا ملخّصه: وإنصرف من غزاته إلى منزل على (عين البديدون) المعروفة بالقشيرة فأقام هنالك، فوقف على العين فأعجبه برد مائها وصفاؤه وبياضه وطيب حسن الموضع، وكثرة الخضرة فأمر بقطع خشب طويل منبسط على العين كالجسر، وجعل فوقه كالأزج من الخشب وورق الشجر، وجلس تحت الكنسية التي عقدت له، والماء تحته، وطرح في الماء درهم صحيح، فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفاء الماء، ولم يقدر أحد أن يدخل يده من شدّة برده.

[506]

فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنّها سبيكة فضّة، فجعل لمن يخرجها سيفاً فبدر بعض الفراشين فأخذها وصعد فلمّا صارت على حرف العين أو على الخشب الذي عليه المأمون إضطربت وإنفلتت من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلّت ثوبه، ثمّ إنحدر الفرّاش ثانية فأخذها ووضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب، فقال المأمون: تقلى الساعة ثمّ أخذته رعدة من ساعته، فلم يقدر يتحرّك من مكانه، فغطّي باللحف والدواويج وهو يرتعد كالسعفة ويصيح: البرد البرد، ثمّ حوّل إلى المغرب ودثّر واُوقدت النيران حوله وهو يصيح: البرد البرد، ثمّ اُتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على الذوق منها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها.

ولمّا اشتدّ به الأمر سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسوية في ذلك الوقت عن المأمون وهو في سكرات الموت، وما الذي يدلّ عليه علم الطبّ من أمره، وهل يمكن برؤه وشفاؤه، فتقدّم ابن ماسوية وأخذ إحدى يديه وبختيشوع الاُخرى، وأخذا يجسّان كلتا يديه فوجدا نبضه خارجاً عن الإعتدال منذراً بالفناء والإنحلال، والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر منه من سائر جسده كالزيت أو كلعاب بعض الأفاعي، فأخبر المعتصم بذلك، فسألهما عن ذلك فأنكرا معرفته، وأنّهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنّه دالّ على إنحلال الجسد، فأحضر المعتصم الأطباء حوله وهو يأمل خلاصه ممّا هو فيه، فلمّا ثقل قال: أخرجوني أشرف على عسكري وأنظر إلى رحالي وأتبيّن ملكي، وذلك في الليل، فاُخرج فأشرف على الخيم والجيش وإنتشاره وكثرته وما قد وقد من النيران، فقال: يامن لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، ثمّ ردّ إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلا يشهده.

ولمّا ثقل رفع الرجل صوته ليقولها (أي الشهادة) فقال له ابن ماسوية: لا تصحّ فوالله ما يفرّق بين ربّه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح عينيه من ساعته

[507]

وبهما من العظمة والكبر والإحمرار ما لم ير مثله قطّ. وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه، ورام مخاطبته فعجز عن ذلك، وقضى عن ساعته وذلك لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس فدفن بها(1).

ويحتمل أن يكون لمرضه سابقة، ويقول بعض المؤرخّين: إنّ كلّ شخص شرب من ماء تلك العين مرض، أو أنّ السمكة كانت تحتوي على رشح سامّ، وكيفما كان فإنّ الحكومة بتلك العظمة قد إنهارت في بضع لحظات، وإنحنى بطل ميادين الحرب أمام شراع الموت، ولم تكن القدرة لأي شخص أن يصنع شيئاً للمأمون، أو على الأقل ليوصله إلى مقرّه ومسكنه.

وللتاريخ خواطر وقصص كثيرة فيها دروس وعبر من هذا القبيل.

 

ثانياً: هل أنّ قبض الروح يكون تدريجيّاً؟

إنّ التعبير بوصول الروح إلى الحلقوم كما في قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) كناية عن آخر لحظات الحياة، كما أنّه من المحتمل أن يكون منشؤها هو أنّ غالبية أعضاء جسم الإنسان كالأيدي والأرجل تتعطّل عند الموت قبل بعض الأعضاء الاُخرى، والحلقوم هو العضو الأخير الذي يتوقّف عن العمل. قال تعالى: (كلاّ إذا بلغت التراقي)،(2) (والترقوة) هي العظام التي تحيط بأطراف الحلق.

 

* * *


1 ـ مروج الذهب، طبق لنقل سفينة البحار، ج1، ص44.

2 ـ القيامة، 26.

[508]

الآيات

فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم ( 89 )وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـبِ الَْيمِينِ ( 90 ) فَسَلَـمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـبِ الَْيمِينِ( 91 ) وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيم ( 94 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 )فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )

 

التّفسير

مصير الصالحين والطالحين:

هذه الآيات في الحقيقة نوع من الخلاصة للآيات الاُولى والأخيرة من هذه السورة، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الإحتضار، وكيف أنّ قسماً منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية، ويسيطر عليهم الخوف والإضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية: (فأمّا إن كان من المقرّبين فروح وريحان وجنّة نعيم).

[509]

«روح»: على وزن (قول) ـ كما ذكر ذلك أئمّة اللغة ـ في الأصل بمعنى التنفّس.

«الريحان»: بمعنى النبات أو الشيء ذي العطر، ثمّ إصطلح على كلّ شيء باعث للحياة والراحة، كما أنّ الريحان يطلق على كلّ نعمة ورزق كريم.

وبناءً على هذا فإنّ الروح والريحان الإلهيين يشملان كلّ وسائل الراحة والطمأنينة للإنسان، وكلّ نعمة وبركة إلهيّة.

وبتعبير آخر: يمكن القول أنّ الروح إشارة إلى كلّ الاُمور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

وقد ذكر المفسّرون الإسلاميون تفاسير متعدّدة لهذين المصطلحين قد تصل إلى عشرة تفاسير:

فقالوا: «الروح» بمعنى الرحمة، و «الريحان» يشمل كلّ فضيلة وشرف.

وقالوا: إنّ الروح هي النجاة من نار جهنّم، والريحان دخول الجنّة.

وذكروا أيضاً أنّ الروح بمعنى الهدوء في القبر، والريحان دخول الجنّة.

وفسّر آخرون الروح بمعنى كشف الكروب، والريحان بمعنى غفران الذنوب.

وقال آخرون: الروح بمعنى النظر إلى وجه الله سبحانه، والريحان الإستماع إلى كلام الله. وما إلى ذلك.

ويمكن القول أنّ جميع هذه التفاسير مصاديق لهذا المفهوم الكلّي والجامع، والذي ذكر في تفسير الآية أعلاه.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «جنّة النعيم» جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الإحتضار والقبر والبرزخ، وأمّا الجنّة ففي الآخرة، كما نقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية حيث قال: (فأمّا إن كان من المقرّبين فروح

[510]

وريحان) يعني في قبره (وجنّة نعيم) يعني في الآخرة(1)(2).

ثمّ يضيف سبحانه: (وأمّا إن كان من أصحاب اليمين) وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح (فسلام لك من أصحاب اليمين).

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة الله المختصّين بقبض الروح في لحظات الإنتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى في وصف أهل الجنّة وكلامهم: (إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(3)

ويوجد إحتمال آخر أيضاً في تفسير هذه الآية وهو أنّ السلام يكون من قبل الملائكة حين يقولون له: سلام عليك أيّها العبد الصالح، يامن هو من أصحاب اليمين، أي يكفيك من الإفتخار والوصف أن تكون في صفّ هؤلاء(4).

وتبيّن بعض الآيات القرآنية الاُخرى أيضاً أنّ المؤمنين وهم في حالة الإحتضار يتلقّون سلاماً من الملائكة كما في قوله تعالى: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(5)

وعلى كلّ حال فإنّ تعبير (سلام) تعبير ذو معنى، سواء كان من الملائكة أو من أصحاب اليمين، فالسلام يعبّر عن الروح والريحان وكلّ أنواع الهدوء والنعمة


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص228، حديث 103، 104.

2 ـ «روح»: من الممكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (فجزاؤه روح)، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره (فله روح)، وجملة (فروح وريحان وجنّة نعيم) تكون جزاء (أمّا) وانّ الشرطية مع وجود هذا الجزاء مستغنية من الجزاء الآخر (يرجى الإنتباه).

3 ـ الواقعة، 26.

4 ـ وبناءً على هذا فللآية تقديران: الأوّل بلحاظ أنّ (من) بيانية، وعندئذ تكون الصورة كما يلي: يقال له: سلام لك من أصحاب اليمين. أمّا الصورة الثانية فبلحاظ أنّ (من) إبتدائية فتكون بالشكل التالي: سلام لك انّك كنت من أصحاب اليمين. إلاّ أنّه بملاحظة التّفسير الأوّل فإنّ له تقديراً واحداً وهو: (يقال له ..).

5 ـ النمل، 32.

[511]

والسلامة(1).

وينبغي الإنتباه إلى أنّ التعبير بـ «أصحاب اليمين» سببه أنّ الإنسان في الغالب يتصدّى لإنجاز أعماله الأساسية والمهمّة بيده اليمنى، لذلك فإنّ اليد اليمنى دلالة القدرة، والمهارة والقابلية والنجاح.

ونقرأ في حديث للإمام الباقر (عليه السلام) في تعقيبه على نهاية هذه الآية أنّه قال: «هم شيعتنا ومحبّونا»(2).

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر وإصطلح عليهم بـ (أصحاب الشمال) حيث يقول تعالى: (وأمّا إن كان من المكذّبين الضالّين فنزل من حميم وتصلية جحيم)(3).

نعم، إنّهمن على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ، ولأنّ الحديث عن حال المحتضر فإنّ جملة (فنزل من حميم) من الأنسب أن يكون المراد منها هو عذاب البرزخ، (وتصلية جحيم) إشارة إلى عذاب يوم القيامة.

ونقل في هذا المعنى روايات عديدة لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)(4).

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمتي (المكذّبين الضالّين) ذكرت الواحدة تلو الاُخرى، حيث أنّ الاُولى تشير إلى تكذيب القيامة ووحدانية الله سبحانه ونبوّة الرّسول، والثانية تشير إلى الأشخاص الذين إنحرفوا عن طريق الحقّ.

وهذا التعبير بالإضافة إلى أنّه يؤدّي معنى التأكيد، فإنّه يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسماً من الأشخاص الضالّين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة


1 ـ حول التحيّات التي تقدّم لأصحاب الجنّة، جاء بحث مفصّل عنها في نهاية الآية (58) من سورة يونس.

2 ـ تفسير البرهان، ج4، ص285.

3 ـ نُزل خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه نزل من حميم، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره: فله نزل من حميم.

4 ـ نور الثقلين، ج5، ص229.

[512]

القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهيّة. أمّا المكذّبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

«حميم»: بمعنى الماء الحارق أو الرياح الحارة والسموم. و (تصلية) مأخوذة من مادّة (صلى) على وزن (سعى) بمعنى الإحتراق والدخول في النار.

أمّا (تصلية) المتعدية فتأتي بمعنى الإحراق فقط.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه: (إنّ هذا لهو حقّ اليقين فسبّح باسم ربّك العظيم).

والمعروف بين المفسّرين أنّ «حقّ اليقين» من قبيل الإضافة البيانية، يعني أنّ الذي تقدّم ذكره حول الأقسام الثلاثة وهم (المقرّبون وأصحاب اليمين والمكذّبون) فهو عين الحقيقة والحقّ واليقين.

وهنا يوجد إحتمال أيضاً وهو: بما أنّ لليقين درجات متعدّدة، فإنّ أعلى مرحلة له هي (حقّ اليقين) أي يقين واقعي كامل وخال من كلّ شكّ وشبهة وريب(1).

وممّا قلنا يتّضح أنّ (هذا) في هذه الآية إشارة إلى أحوال الأقسام الثلاثة الآنفة الذكر، كما إحتمل البعض أيضاً أنّها إشارة إلى كلّ محتويات سورة الواقعة أو القرآن أجمع، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

وهنا نقطة جديرة بالذكر أيضاً وهي أنّ التعبير بـ (فسبّح) ـ الفاء تفريعيّة ـ هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة، وبناءً على هذا إعتبر (ربّك) منزّهاً من كلّ ظلم، وإذا ما اُريد الإبتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كلّ شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.


1 ـ طبقاً لهذا التّفسير فإنّ إضافة حقّ إلى كلمة (يقين) جاءت للإختصاص والتقييد، وإعتبرها البعض ـ أيضاً ـ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وقالوا بمعنى (اليقين) الحقّ.

[513]

ونقل كثير من المفسّرين حول نهاية آخر الآية بعد ما نزلت على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اجعلوها في ركوعكم» (أي قولوا: سبحان ربّي العظيم) وعندما نزلت: سبّح (اسم ربّك الأعلى) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اجعلوها في سجودكم»، أي قولوا: سبحان ربّي الأعلى(1).

وفي تفسير الآية 74 من نفس السورة نقلنا ما هو شبيه بهذه الرّواية عن بعض المفسّرين.

* * *

 

تعقيب

عالم البرزخ:

أشارت الآيات أعلاه إلى عالم البرزخ، وقد بيّنا عند تفسيرها أنّ الإنسان ـ في حالة إحتضاره وهو على مشارف الموت يتهيّأ للإنتقال من دار الدنيا إلى عالم الآخرة ـ سيواجه واحدة من هذه الحالات، أمّا النعم والهبات الإلهيّة والجزاء الربّاني بـ الروح والريحان، أو العقاب والجزاء المؤلم، والعاقبة البائسة.

كما أنّ القرائن الموجودة في الآيات ترينا أنّ قسماً ممّا يثاب به أو يعاقب عليه مرتبط بيوم القيامة، والقسم الآخر مرتبط بالقبر والبرزخ، ويعدّ هذا دليلا على وجود عالم البرزخ.

وفي حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ ما يلي: «إنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن عند الوفاة بروح وريحان وجنّة نعيم، وإنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن في قبره أن يقال له: أبشر برضا الله تعالى والجنّة قدمت خير مقدم، وقد غفر الله لمن يشيّعك إلى قبرك،


1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، وروح المعاني، وروح البيان، القرطبي، والدرّ المنثور، وتفسير المراغي، في نهاية الآيات مصدر البحث.

[514]

وصدّق من شهد لك، واستجاب لمن إستغفر لك»(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أنّه قال: «إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مَثُلَ له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهد، وإن كنت عليّ لثقيلا، فماذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك، قال: فإن كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً، وأحسنهم رياشاً، فيقول: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة»(2).

وقد سبق لنا بحث مفصّل حول عالم البرزخ في نهاية الآية (100) من سورة (المؤمنون).

اللهمّ، إجعلنا في صفّ المقرّبين وأصحاب اليمين، وخاصّة أوليائك وأحبّتك، واشملنا بروح وريحان وجنّة نعيم عند مشارف الموت.

اللهمّ، إنّ عذاب الحشر عذاب أليم لا يطيقه أحد، وثوابك الاُخروي عظيم لا يستوجبه أي شخص بأعماله، وإنّ رأسمالنا في ذلك اليوم هو لطفك وكرمك ياكريم.

إلهي، أيقظنا قبل وصول القيامة الكبرى والقيامة الصغرى ـ والذي هو الموت ـ لنعدّ أنفسنا للسفر العظيم الذي يواجهنا ..

آمين ياربّ العالمين.

نهاية سورة الواقعة

* * *


1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص166.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص228، حديث 106.