إلاّ أنّ مثل هذا التّفسير لا يدعمه دليل، حيث صرّح البعض بأنّ اللؤلؤ والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.

وإستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام).

«جوار»: جمع جارية، وهي وصف للسفن، وحذفت للإختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن، لذا إعتمد هذا الوصف.

كما تطلق جارية على (الأمة)، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات، وتطلق أيضاً على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ.

«منشآت» جمع (منشأ) وهو إسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة، وهذا ما عبّر


1 ـ دائرة المعارف فريد وجدي وكتب اُخرى.

[392]

عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضاً، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره).(1)

وفسّر البعض «منشأ» من مادّة (إنشاء) بمعنى إرتفاع الشيء، وإعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة، وذلك بسبب دفع الرياح لها.

«أعلام»: جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على «الراية».

وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختّص بعصر الماكنة والبخار، بل لقد إستفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم.

ومرّة اُخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

* * *

 

بحوث

1 ـ البحر مركز النعم الإلهيّة

لاحظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميّته في الحياة البشرية، وكما نعلم فإنّ مياه البحار والمحيطات تشكّل ثلاثة أرباع سطح الكرة


1 ـ إبراهيم، 32.

[393]

الأرضية، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية، والطبية، وأدوات الزينة، ووسيلة مهمّة لنقل البشر وحمل البضائع، والأهمّ من ذلك فإنّ نزول الأمطار وإعتدال الهواء، وحتّى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار، فإذا كان سطح البحار أقلّ أو أكثر ممّا هو عليه، فإنّ الكرة الأرضية إمّا أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن العيش فيها.

لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد ذكّر الإنسان ـ لعدّة مرّات وبتعبيرات مختلفة بهذه النعمة العظيمة، ودعاه للتفكير بها، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم البحر)الجاثية / 12.

ويقول مرّة اُخرى: (وسخّر لكم الفلك) إبراهيم / 32.

وقال سبحانه: (سخّر لكم ما في الأرض) الحجّ / 65.

وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات المجهرية، وكذلك أطول أشجار العالم، وفيه أيضاً أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها وأضخمها.

كما أنّ الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أنّ الشخص لا يملّ من مطالعتها والإطلاع عليها، وكلّما تعرف الإنسان على شيء منها إزداد شغفاً بها، والعجيب أيضاً أنّ قسماً من الحيوانات هنالك تشعّ أضواءً وتُصنع مادّتها الغذائية على سطح البحر ومن ثمّ تترسّب، كما أنّ أطرافها محكمة ومقاومة إلى درجة أنّها تتحمّل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في حالته الطبيعيّة هناك فانّ عظامه تتحوّل إلى طحين.

 

2 ـ الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين

من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات بحرية كبيرة، وأقوى هذه الأنهار يسمّى (گلف استيرين). إنّ هذا النهر العظيم

[394]

يتحرّك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتّى يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية.

والمعروف أنّ مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خطّ الإستواء تكون حارة بل حتّى أنّ لونها يختلف عن لون المياه المجاورة، والعجيب أنّ عرض هذا النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (150) كم، كما أنّ أعمق نقطة فيه تبلغ مئات الأمتار، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد بـ 160كم.

إنّ إختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود 10 ـ 15 درجة مئوية، لذا فإنّ ساحله الغربي يسمّى بالجدار البارد.

والكلف أستيرين يسبّب رياحاً حارّة ويدفع قسماً كبيراً من حرارته باتّجاه مدن أوروبا الشمالية، حيث يؤثّر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا للغاية، ويحتمل أن يكون العيش صعباً للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا المجرى العظيم.

ونكرّر مرّة اُخرى أنّ (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات، وهناك أنهار اُخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم.

إنّ السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو إختلاف حرارة المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار.

ويمكن إستيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة:

فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية، وفي الجهة الاُخرى قطعة حديدية حارّة، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن، فإنّنا سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرّك الماء ببطء من المنطقة الحارّة باتّجاه المنطقة الباردة.

إنّ مثل هذه الحالة تحصل في كلّ بحار العالم، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار

[395]

البحرية.

والعجيب أنّ هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلاّ قليلا، وتسير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة، وبذلك تعبّر عن مصداقية الآية الكريمة (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان).

والملفت للنظر أنّ في نقطة التقاء هذه المياه الحارّة مع المياه الباردة، تحدث ظاهرة مفيدة جدّاً للإنسان، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي للحيوانات المجهرية المعلّقة في الماء وذلك في نقطة التماس والإلتقاء بين المياه الحارّة والمياه الباردة وبهذا تتوفّر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها وتكون سبباً في جذب قطعان الأسماك الكبيرة، حيث يقصد الصيادون هذه المناطق للإستفادة من صيد هذه الحيوانات، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل المناطق في العالم لصيد الأسماك(1).

وهذا يمثّل أحد التفاسير للآيات أعلاه، وهو لا يتنافى مع التفاسير الاُخرى، ولذا يمكن الجمع بينهما.

 

3 ـ تفسير من أعماق الآيات

نقل في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية (مرج البحرين يلتقيان) أنّه قال: «وعلي وفاطمة (عليهما السلام) بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه. (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال: الحسن والحسين»(2).

ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الدرّ المنثور(3).

ونقله العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان مع إختلاف يسير.


1 ـ دائرة المعارف (الثقافية) ج12 ص1228، وكذلك مجلة الميناء والبحر عدد 4 ص100 بالإضافة إلى مصادر اُخرى.

2 ـ تفسير القمّي، ج2، ص344.

3 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص142.

[396]

ومن هنا نعلم أنّ القرآن الكريم له بطون، وأنّ آية واحدة يمكن أن تكون لها معان متعدّدة بل عشرات المعاني. والتّفسير الأخير هو من بطون القرآن، ولا يتنافى مع المعاني الظاهرية له.

* * *

[397]

الآيات

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـلِ وَالإكْرَامِ( 27 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْئَلُهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلَّ يَوْم هُوَ فِى شَأْن ( 29 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ( 30 )

 

التّفسير

كلّ شيء هالك إلاّ وجهه:

إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: (كلُّ من عليها فان) وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألاّ يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.

أو أنّ النعم الإلهيّة الكثيرة ـ المذكور سابقاً ـ يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير

[398]

ذلك. ممّا يستلزم تحذيراً إلهيّاً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقرّ، فالحذر من التعلّق بها، ولابدّ من الإستفادة من هذه النعم في طاعة الله .. إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.

الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة، بالإضافة إلى القرائن الاُخرى الموجودة، لذا فهو واضح.

كما أنّ المقصود (من عليها) هم الجنّ والإنس مع العلم أنّ بعض المفسّرين إحتملوا أنّ الحيوانات والكائنات الحيّة جميعاً مشمولة بهذا المعنى.

وبما أنّ كلمة (من) تستعمل غالباً للعاقل، لذا فالمعنى الأوّل هو الأنسب.

صحيح أنّ مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجنّ فقط، ولا تختّص بالكائنات الموجودة على الأرض فحسب، حيث يصرّح القرآن الكريم بأنّ أهل السماء والأرض جميعاً يفنون، وذلك في قوله: (وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه)،(1) ولكن لمّا كان الحديث يدور حول أهل الأرض، لذا فهم المقصودون.

ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام).

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدّسة).

فسّر البعض (وجه ربّك) بمعنى الصفات الإلهية المقدّسة، التي عن طريقها تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.

ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله، وبناءً على هذا فالجميع يفنى، والشيء الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله


1 ـ القصص، 88.

[399]

تعالى ..

إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

أمّا (ذو الجلال والإكرام) والذي هو وصف لـ (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه، لأنّ (ذو الجلال) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي: إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدّسة لله سبحانه، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزّهة عن الصفات السلبية.

كما فسّر البعض أنّ (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي تفضّل الله بها وأكرمها لخاصّة أوليائه، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني المختلفة للآية أعلاه.

ونقرأ في حديث أنّ رجلا كان يصلّي في محضر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث دعا الله سبحانه كذلك: «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، ياحيّ ياقيّوم».

فقال الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لأصحابه: «أتدرون بأي اسم دعا الله؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «والذي نفسي بيده، لقد دعا الله بإسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(1).

ثمّ يخاطب الخلائق مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول


1 ـ تفسير روح المعاني، ج27، ص95.

[400]

سبحانه: (يسأله من في السموات والأرض).

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه، وليس هذا في نهاية العالم فقط، وإنّما الآن أيضاً فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!

التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنّما في البقاء أيضاً.

ثمّ يضيف سبحانه: (كلّ يوم هو في شأن).

نعم إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له. وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم ـ وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.

والإلتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح إحتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة، ومن جهة اُخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.

نعم، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسماً من هذا المعنى الواسع تفسيراً للآية، إلاّ أنّ البعض ذكر في تفسيرها، أنّها مغفرة الذنوب، وذهاب الحزن، وإعزاز

[401]

أقوام وإذلال آخرين فقط.

والبعض الآخر قال: إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال: إنّ لله جيوشاً ثلاثة: جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الاُمّهات، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال في أحد خطبه: «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن»(1).

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسيره الآية الكريمة: «من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين»(2).

ولابدّ من الإنتباه لهذه النقطة أيضاً: إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة، وكذلك الساعات واللحظات، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأناً نزولياً للآية، وهو أنّها نزلت ردّاً على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت، ولا يصدر أي حكم(3). فالقرآن الكريم يقول: إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اُخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لإحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

* * *


1 ـ اُصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين، ج5، ص193.

2 ـ مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل هذا الحديث أيضاً في روح المعاني من صحيح البخاري.

3 ـ مجمع البيان، ج9، ص202.

[402]

بحوث

1 ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلاّ الله» ليس بمعنى الفناء المطلق، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضاً أو أنّ التراب الناشيء من بدنه بعد الموت سينعدم أيضاً. إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(1).

ومن جهة اُخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(2).

ويذكر سبحانه في آية اُخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اُخرى بأمر الله(3).

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاُخرى بمعنى إضطراب نظام الجسم والروح وقطع الإرتباط بينهما وإضطراب عالم الخلقة كذلك، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

 

2 ـ إستمرار الخلق والإبداع

قلنا: إنّ الآية الكريمة: (كلّ يوم هو في شأن) تدلّ على دوام الخلقة وإستمرارالخلق، وأنّها مبعث أمل من جهة، ونافية للغرور من جهة اُخرى، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيراً لبعث الأمل في النفوس، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبي ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياً (عليه السلام)جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة، ثمّ أعقبه إبنه الإمام الحسن (عليه السلام) حيث


1 ـ المؤمنون، 100.

2 ـ سورة يس، 51.

3 ـ سورة يس، 79.

[403]

خاطب آباذر(رضي الله عنه) بقوله «ياعمّاه» تكريماً له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله لأبي ذرّ: «ياعمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(1)...

ونقرأ أيضاً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمام (عليه السلام) عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسين (عليه السلام): (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(2).

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي آية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اُخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الاُمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد، ورجع إلى البيت محزوناً، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة، فسأله عمّا به، فحدّث غلامه بالقصّة، فأجابه: إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك ... فطلبه الأمير وسأله، فأجابه الغلام: ياأمير، شأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحيّ، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعزّ ذليلا، ويذلّ عزيزاً، ويفقر غنيّاً، ويغني فقيراً ..

فقال الأمير: «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(3).

 


1 ـ الغدير، ج8، ص301.

2 ـ الكامل لإبن الأثير، ج4، ص40.

3 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6337.

[404]

3 ـ الحركة الجوهرية

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة: (كلّ يوم هو في شأن).

التوضيح: يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي: (أين، كيف، كم، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بإنتقاله، وهذه هي مقولة (الأين)، أو بنموّه أو زيادة كيمّته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف»، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائداً أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبداً، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة، إلاّ أنّ عوارضه قد تتغيّر، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية، وقالوا: إنّ أساس الحركة هي الذات، الجوهر، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي إستدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال: إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة، أو بتعبير آخر: إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائماً، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئاً واحداً، وبناءً على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجوداً جديداً، إلاّ أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة، أو بتعبير آخر: إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلاّ مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّداً.

[405]

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّاً تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا، إلاّ أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه، ونحن مرتبطون به دائماً ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى (كلّ يوم هو في شأن).

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءاً من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

 

* * *

[406]

الآيات

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ ( 31 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 )يَـمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَـن ( 33 )فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 ) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّار وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ( 35 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 )

 

التّفسير

التحدّي المشروط:

النعم الإلهيّة التي إستعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم، إلاّ أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة، وخصوصيات المعاد، وفي الوقت الذي تحمل تهديداً للمجرمين، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

[407]

يقول سبحانه في البداية: (سنفرغ لكم أيّه الثقلان)(1)(2).

نعم، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حساباً دقيقاً على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالباً بالتوجّه الجادّ لعمل ما، والإنصراف الكلّي له، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلاّ أنّه إستعمل هنا لله سبحانه، تأكيداً على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيراً أو شرّاً، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير، وعلينا أن نتصوّر كم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضاً، إلاّ أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادةً لمتاع وحمل المسافرين، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعوراً وعلماً ووعياً له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضاً كما قال تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها)،(3) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة، إلاّ أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.


1 ـ يجب الإلتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريتين (النور آية 31، والزخرف آية 49) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاُخرى بالألف الممدودة، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

2 ـ مع كون «الثقلين» تثنية فالضمير في لكم أتى جمعاً وذلك إشارة إلى مجموعتين.

3 ـ الزلزلة، 2.

[408]

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).

وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اُخرى بقوله: (يامعشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) للفرار من العقاب الإلهي (فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان) أي بقوّة إلهية، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل بن زياد المربي للروح: (ولا يمكن الفرار من حكومتك).