ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول: (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الاُخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحداً من معاني القلب هو العقل، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضاً(1).

كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهذه الآية أنّه قال: إنّ القلب هو العقل(2).

والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل: التغيير والتحوّل، وإصطلاحاً معناه


1 ـ لسان العرب مادّة القلب. [ق ل ب].

2 ـ اُصول الكافي، ج1 ـ كتاب العقل والجهل، الحديث 11.

[54]

الإنقلاب، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» .. ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على إطمئنان القلب والسكينة فيقول: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)(1) كما يقول في آية اُخرى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)،(2) أجل إنّما يُهّدىء هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.

أمّا (ألقى السمع) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقّة، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اُذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة!

و «الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي: إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة .. فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل .. ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلاّ أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية 10 من سورة الملك على لسان أهل النار، إذ ورد هكذا: (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير)!

لأنّ علائم الحقّ واضحة، فأهل التحقيق يعرفونها جيّداً .. ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.

فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف .. أو يتمتّع باُذن واعية(3).

* * *


1 ـ سورة الفتح، الآية 4.

2 ـ سورة الرعد، الآية 28.

3 ـ لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحداً منهما على الأقل ضروري للإنسان!..

[55]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب ( 38 ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـرَ السُّجُودِ ( 40 )

 

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى:

تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد .. ثمّ تأمر النّبي بالصبر والإستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاُولى من هذه الآيات: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب).

«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب، إلاّ أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئاً لديه ..

[56]

فعلى هذا من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ إستراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اُخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق، وأنّه خاصّ بالله، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(1)!

إلاّ أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(2).

وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو إثنتي عشرة ساعة، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوماً، وسلّط عليهم بنو اُميّة يوماً وبنو العبّاس يوماً آخر!.. الخ».

وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواءً كانت سنّةً أو شهراً أو جيلا .. أو آلاف السنين .. فنقول مثلا: كانت الكرة


1 ـ راجع تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص110.

2 ـ راجع سورة الأعراف الآية 54; سورة يونس الآية 3; سورة هود الآية 7; سورة السجدة الآية 4; الحديد الآية 4; الفرقان الآية 59.

[57]

الأرضية قطعةً متلهّبة يوماً، وبردت يوماً فغدت مهيّأة للحياة، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاُخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».

إذاً، لا يبقى مجال للسؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول: (فاصبر على ما يقولون) إذ بالصبر والإستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر الله والإرتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلا: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب).

وكذلك: (ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود).

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كإنصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضاً يُلهم قلبك النشاط والإستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية ..

[58]

وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ (قبل طلوع الشمس) إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله: (ومن الليل) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: (وادبار السجود) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفاً.

كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح، «وقبل الغروب» بصلاة العصر، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء، فلم يذكروا شيئاً عن صلاة الظهر هنا، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) .. قال (عليه السلام): «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(1).

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى بإختلاف يسير في الآية (130) من سورة طه أيضاً إذ تقول الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى).


1 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ .

[59]

جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثراً مهمّاً في إطمئنان القلب ورضا الخاطر، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (49) من سورة الطور تقول هكذا: (ومن الليل فسبّحه وادبار النجوم)(1).

وقد ورد في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «المراد بـ (أدبار السجود)ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الإلتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد اُشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(2).

كما ورد في رواية اُخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(3).

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسباً وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفاً.

* * *

 

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح:

لم يكن تعويل القرآن وإعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مراراً بالصبر وأكّد على هذا


1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محلّ البحث ـ .

3 ـ المصدر آنف الذكر.

[60]

الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب اُولئك الذين تمتّعوا بالصبر والإستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه «ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان»: «عليك بالصبر في جميع اُمورك. ثمّ قال (عليه السلام)إنّ الله بعث محمّداً وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين).

فصبر فكذّبوه أيضاً، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك، فأنزل الله عليه تسلية قوله: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).

ثمّ يضيف الإمام (عليه السلام) أنّ النّبي واصل صبره إلاّ أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل الله عزّوجلّ: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب) .. أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب، فعليك أن تصبر، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى إنتصر على أعدائه»(1).

 

* * *


1 ـ راجع اُصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص117.

[61]

الآيات

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَان قَرِيب ( 42 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 2 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الاَْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )

 

التّفسير

يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة:

هذه الآيات محلّ البحث التي تختتم بها سورة ـ «ق» كسائر آياتها تتحدّث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور .. فتقول: (واستمع يوم ينادِ المنادِ من مكان قريب ... يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج).

والمخاطب بالفعل «استمع» هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه إلاّ أنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.

والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ

[62]

بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً، فهو منتظر لأن يسمع الصوت; أو هو الإصغاء إلى كلام الله فيكون المعنى «استمع كلام الله» إذ يقول: يوم يسمعون الصيحة الخ(1).

لكن من هو هذا المنادي؟ يحتمل أن يكون الذات المقدّسة جلّ وعلا، ولكن الإحتمال الأقوى هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور .. وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصّة.

عبارة (من مكان قريب) إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في أُذن كلّ أحد، وجميعهم يسمعونها بدرجة واحدة من القرب.

نحن اليوم نستطيع أن نسمع كلام أي إنسان وفي أيّة نقطة كان بوسائل مختلفة فكأنّ المتكلّم على مقربة منّا، ويتحدّث معنا، إلاّ أنّ يوم القيامة يسمع الناس كلّهم الصيحة دون حاجة إلى مثل هذه الوسائل وهي قريبة منهم(2).

وعلى كلّ حال، فليست هذه الصيحة هي الصيحة الاُولى التي تقع مؤذنة بنهاية العالم، بل هي الصيحة الثانية، أي الصيحة للنشور والحشر، وفي الحقيقة أنّ الآية الثانية توضيح للآية السابقة وتفسير لها إذ تقول: (يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج) من القبور والبعث والنشور.

ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإنّ القرآن يضيف قائلا: (إنّا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير).


1 ـ بناءً على التّفسير الأوّل فإنّ «يوم» مفعول استمع، وبناءً على التّفسير الثّاني فإنّ مفعول استمع محذوف وتقديره استمع حديث ربّك فيكون نصب كلمة يوم على فعل مقدّر من الخروج وتقديره يخرجون يوم ينادي المنادي من مكان قريب.

2 ـ يرى جماعة من المفسّرين أنّ المكان القريب يُحتمل أن تكون صخرة بيت المقدس ـ تلك الصخرة الخاصّة التي عرج منها الرّسول الأكرم(عليه السلام) نحو السماء فيقف المنادي على طرفها ويصيح أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطّعة واللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء وما أعدّ الله لكم من الجزاء .. لكن لا دليل بيّن على ذلك.

[63]

والمراد من «نحيي» هو الحياة الاُولى في الدنيا، والمراد من «نميت» هو في نهاية العمر، وجملة «إلينا المصير» إشارة إلى الأحياء في يوم القيامة.

وفي الحقيقة أنّ الآية تشير إلى هذه الحقيقة وهي كما أنّ الحياة والموت في الدنيا بأيدينا، فكذلك المعاد وقيام الساعة بأيدينا أيضاً.

ثمّ يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: (يوم تشقّق الأرض عنهم سراعاً) أي يخرجون مسرعين من القبور(1) ويضيف مختتماً: (ذلك حشر علينا يسير).

و «الحشر» معناه الجمع من كلّ جهة ومكان.

وواضح أنّ خالق السماوات والأرض وما بينهما من اليسير عليه أن ينشر الموتى ويحشرهم للحساب والثواب أو العقاب.

وأساساً، فإنّ موضوع الصعوبة واليُسر يقال في من يتمتع بقدرة محدودة، إلاّ أنّ القادر على كلّ شيء ولا حدّ لقدرته فكلّ شيء عليه سهل ويسير.

الطريف هنا أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات: أنّ أوّل من يبعث ويخرج من قبره ويرد المحشر هو النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي معه(2).

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث وهي آخر آية من سورة ق ذاتها فهي تخاطب النّبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار).

فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحقّ والبشارة والنذارة: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)(3).


1 ـ «سراعاً» منصوب على أنّه حال للفاعل في «يخرجون» المحذوف والتقدير «يخرجون سراعاً» وهو جمع لكلمة «سريع» كما في «كرام» جمع «كريم» والبعض يرى أنّ «سراع» مصدر في موضع الحال.

2 ـ كتاب الخصال: طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج5، ص119.

3 ـ كلمة وعيد أصلها وعيدي وحذفت ياؤها وأبقيت الكسرة لتدلّ عليها وهي مفعول للفعل يخاف.

[64]

وقد ورد في تفسير القرطبي عن ابن عبّاس أنّه قال جاء جماعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا انذرنا يارسول الله وبشّرنا، فنزلت الآية محلّ البحث وقالت: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)(1).

وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كاف للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكلّ صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدّث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنّة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل الله هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.

والحقّ أن تذكر مشهد تشقّق الأرض وولوج الأرواح في الموتى وخروجهم من القبر وإكتسائهم ثوب الحياة وتحركهم في حال من الوحشة والإضطراب من القرن حتّى القدم وهم يساقون إلى محكمة عدل الله هذا المشهد مثير جدّاً.

ولا سيّما أنّ بعض القبور يضمّ في لحده على تقادم الزمان ومرور الأعوام أجساداً متعدّدة من الناس بعضهم صالح وبعضهم طالح وبعضهم مؤمن وبعضهم كافر وكما يقول المعرّي:

ربّ قبر قد صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين في طويل الآجال والآماد!

ربّنا اجعلنا من الذي يخافون وعيدك ويتّعظون بالقرآن.

اللهمّ ارحمنا يوم يستوحش الناس ويضطربون فيه وألق في نفوسنا السكينة والطمأنينة.

إلهنا .. إنّ أيّام العمر مهما طالت فهي تمضي سراعاً وما هو خالد فذاك اليوم الآخر والدار الآخرة، فارزقنا حسن العاقبة والنجاة في الآخرة!

آمّين يارب العالمين

انتهاء سورة ق

* * *


1 ـ القرطبي، ج9، ص6198.

[65]

سُورَة

 

 

 

الذّاريات

 

 

 

مكّية

 

وعَدَدُ آيَاتِها ستّون آية

 

 

[66]

 

[67]

 

 

 

 

«سورة الذّاريات»

محتوى السورة:

يدور محور هذه السورة في الدرجة الاُولى حول المسائل المتعلّقة بالمعاد ويوم القيامة والثواب والعقاب لكلّ من المؤمنين والكافرين، ولكنّها ليست كسورة (ق) محورها المعاد، بل فيها محاور اُخر كما يلاحظها القارىء.

ويمكن أن يقال بشكل إجمالي أنّ مباحث هذه السورة تدور حول خمسة محاور وهي:

1 ـ كما قلنا آنفاً إنّ القسم المهمّ منها يتكلّم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها أيضاً هما حول المعاد.

2 ـ القسم الآخر من هذه السورة ناظر إلى مسألة توحيد الله وآياته في نظام الخلق والوجود، وهي تكمل مبحث المعاد طبعاً.

3 ـ وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما أُمروا به من تدمير مدن قوم لوط!

4 ـ والآيات الاُخر من هذه السورة فيها إشارات قصيرة إلى قصّة موسى (عليه السلام)وبعض الاُمم كعاد وثمود وقوم نوح، وبهذا فهي تنذر الكفّار الآخرين بما آل إليه السابقون.

5 ـ وأخيراً فإنّ قسماً من هذه السورة ـ يتحدّث عن مواجهة الاُمم المعاندين لأنبيائهم وتأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والإستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسرّي عنه وتسلّي قلبه.

[68]

فضيلة تلاوة هذه السورة:

ورد عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الذاريات في يومه أو ليلته أصلح الله له معيشته وأتاه برزق واسع ونور له قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة»(1).

وقد قلنا مراراً أنّ مجرّد التلاوة باللسان غير كافية لبلوغ هذا الثواب العظيم، بل الهدف هو التلاوة بتفكّر ... التفكّر الباعث على العمل.

وتسمية «الذاريات» ـ ضمناً ـ تعود إلى ورود الآية الاُولى من هذه السورة (والذاريات ذرواً).

* * *


1 ـ مجمع البيان ـ بداية سورة الذاريات ـ وثواب الأعمال طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص120.

[69]

الآيات

 

وَالذَّرِيَتِ ذَرْواً ( 1 ) فَالْحَـمِلَـتِ وِقْراً ( 2 ) فَالْجَـرِيَـتِ يُسْراً( 3 ) فَالْمُقَسِّمَتِ أَمْراً ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَقِعٌ ( 6 )

 

التّفسير

قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات:

هذه السورة هي الثانية بعد سورة «الصافات» التي تبدأ بالقسم المتكرّر، القسم العميق والباعث على التفكّر، القسم الذي يوقظ الإنسان ويمنحه الوعي والإطّلاع!

وكثير من سور القرآن التي سنواجهها ـ في المستقبل إن شاء الله ـ بالبحث والتّفسير ـ هي على هذه الشاكلة .. والطريف في الأمر أنّ هذا القسم غالباً ما يوطِّىءُ للمعاد، سوى بعض المواطن التي يمهّد فيها للتوحيد والمسائل المتعلّقة به.

كما أنّ ممّا يلفت النظر أنّ هذا القسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور .. وهو يتابع بظرافة ورونق خاصّ هذا البحث المهمّ من جوانب متعدّدة:

[70]

والحقيقة أنّ كلّ قسم في القرآن هو بنفسه ـ وإن كثرت الأقسام ـ أو الأيمان ـ وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهو من أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كلّ ذلك في موقعه.

وفي مستهلّ السورة يقسم الله سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، وقد جاء القسم بأربعة أشياء متوالية سرداً وجاء القسم بخامسها فرداً.

فيقول الله في البداية: (والذاريات ذرواً)(1) أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذروا البذور على الأرض في كلّ مكان ...

ثمّ يضيف: (فالحاملات وقراً)(2) قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..

(فالجاريات يُسراً)(3) «والجاريات هنا هي السفن» أي قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة ..

(فالمقسمات أمراً) «والمقسمات «هنا» معناها الملائكة الذين يقسّمون الاُمور.

ونقرأ حديثاً نقله كثير من المفسّرين ذيل هذه الآية أنّ «ابن الكوا»(4) سأل مرّة علياً (عليه السلام) وهو على المنبر خطيباً: ما (الذاريات ذرواً)؟ فقال (عليه السلام): هي الرياح.