وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون إنتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألماً ومرارة!.

 

3 ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين، إذ نقرأ في الآية (99) من


1 ـ بحار الأنوار، ج6، ص156.

2 ـ المصدر نفسه مع شيء من التلخيص: نقرأ في سورة مريم الآية 15 في شأن يحيى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً).

[39]

سورة الحجر (واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين). وفي الآية (47) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضاً.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لابدّ أن يُطرق بابه، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيراً.

والإلتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يُعدّ إنذاراً لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال: إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره، فأمر عمر به فحُبس، فبلغ ذلك علياً (عليه السلام)فقال: ياعمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال: ولِمَ؟ فقال علي: إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة)(1) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ (وجاءت سكرة الموت بالحقّ)(2) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر(3).

 

* * *


1 ـ التغابن، الآية 15.

2 ـ سورة ق، الآية 19.

3 ـ تفسير روح البيان، ج9، ص118.

[40]

الآيات

وَقَالَ قَرِينُهُ هَـذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( 23 ) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد( 24 ) مَّنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُّرِيب ( 25 ) الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 25 ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـكِن كَانَ فِى ضَلَـلِ بَعِيد ( 26 ) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ( 27 ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ ( 7 ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد( 28 )

 

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين:

مرّةً اُخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اُخرى عن المعاد، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاُولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

[41]

هذا الإنسان حاضر لديّ: (وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من «قرينه»؟ للمفسّرين أقوال كثيرة، إلاّ أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقاً يسوقه وشهيداً يشهد عليه، تدلّ على هذا المعنى أيضاً. زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضاً [فلاحظوا بدقّة].

إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو «الشيطان»، لأنّ كلمة «قرين» أُطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان .. فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا: «وقال الشيطان قرين الإنسان: «إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل».

إلاّ أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقاً لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله: (وقال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفاً ولا قرينة عليه أبداً، وهو أنّ المراد من «قرينه» هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما: (ألقيا في جهنّم كلّ كفّار عنيد).

كلمة «عنيد» مشتقّة من العناد، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع

[42]

للحقّ!

ومن هم المخاطَبَين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضاً، فمنهم من إختار التّفسير آنف الذكر، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم ـ أيضاً ـ من المحتمل أن يكون المخاطب واحداً فحسب، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد، فكأنّه يؤكّد مرتين: «القِ، الق» وإستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد جدّاً. وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار ـ الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية: (منّاع للخير معتد مريب).

«المنّاع» بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيراً من الاُمور، فيكون التعبير بـ «منّاع للخير» يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في «الوليد بن المغيرة» حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم: طالما كنت حيّاً فلن أعينكم في حياتكم(1).

وكلمة «معتد» معناها المتجاوز على الحدود، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة «مريب» مشتقّة من الريب، وتعني من هو في شكّ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم .. فيضلّوا عن سواء السبيل.


1 ـ روح المعاني، ج26، ص168.

[43]

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفّار فتقول: (الذي جعل مع الله إلهاً آخر).

أجل: (فألقياه في العذاب الشديد).

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيراً، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشكّ والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي «الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب» يرتبط بعضها ببعض إرتباطاً وثيقاً، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي (الذي جعل مع الله إلهاً آخر) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الاُمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اُخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين، إلاّ أنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: (قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد). فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه بإختياره

[44]

وإرادته وإختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (22) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول: (... وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكاراً كليّاً، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحداً على إغوائه، بل الإنسان بمحض إستجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (82) من سورة (ص): (لاُغوينّهم أجمعين).

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان، إلاّ أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة: (قال لا تخصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: (إذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً).(1)

ومن جهة اُخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس (لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين).(2)

وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن، وهي حاكية جميعاً عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم .. وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة: (ما يبدّل القول


1 ـ الإسراء، الآية 63.

2 ـ سورة ص، الآية 85.

[45]

لدي وما أنا بظلاّم للعبيد)(1).

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مراراً في آيات متعدّدة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير بـ «ظلاّم» وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلاّم، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق، إذ لو نال عبداً ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد، وفي المجموع يكون الظلم كثيراً.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو:

كيف يقول سبحانه (ما يبدّل القول لديّ)؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال: أنّ العفو أيضاً وفقاً لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه، وهذا أيضاً لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: (يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من


1 ـ لديّ ظرف متعلّق بـ «يبدّل» وإحتمل بعض المفسّرين أنّه متعلّق بالقول، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب ..

[46]

مزيد)(1).

والمراد من (هل من مزيد) ما هو؟ هناك تفسيران:

الأوّل: أنّه إستفهام إنكاري، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية 13 من سورة السجدة: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماماً وأنّ جهنّم تمتلىء في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني: إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار، وأساساً فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائماً، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلاّ أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة، فلا تنسجم مع الآية 13 من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين).

ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الإمتلاء لأنّه:

أوّلا: قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا، إلاّ أنّ شخصاً ما يزال يتمنّى أن لو اُضيف إليه فيكون متراكماً أكثر!

ثانياً: هذا الطلب يمكن أن يكون طلباً لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لإستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألاّ يكون واحداً من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعاً ملتزماً فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!.


1 ـ بأي كلمة متعلّق لفظ «يوم»؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلاّم، إلاّ أنّ الأوّل أولى.

[47]

وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:

الاُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية: إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (44) من سورة الإسراء(1).

والثّالثة: إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!

* * *


1 ـ يراجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء.

[48]

الآيات

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد ( 31 ) هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ ( 32 ) مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُّنِيب( 33 ) ادْخُلُوهَا بِسَلَـم ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْن هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـدِ هَلْ مِن مَّحِيص ( 36 ) إنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 )

 

التّفسير

ادخلوا الجنّة .. أيّها المتّقون!

مع الإلتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والاُمور التي تتعلّق به، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدّث عن كيفية القاء الكفّار المعاندين في نار جهنّم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنّم! ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في

[49]

الجنّة، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة.

فتبدأ الآيات بالقول: (وأُزلفت الجنّة للمتّقين غير بعيد).

«اُزلفت»: من مادّة زُلفى ـ على زنة كُبرى ـ ومعناها القرب، أي قُرّبت.

والطريف هنا أنّ القرآن لا يقول: وقُرّب المتّقين إلى الجنّة، بل يقول واُزلفت أي وقرّبت الجنّة للمتّقين، وهذا أمر لا يمكن أن يتصوّر تبعاً للظروف الدنيوية وشروطها، ولكن حيث إنّ الاُصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف إختلافاً بالغاً عمّا هي في هذه الدنيا، فلا ينبغي التعجّب إطلاقاً أن يُقرّب الله الجنّة للمتّقين بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.

كما أنّنا نقرأ في الآيتين (90) و91) من سورة الشعراء: (واُزلفت الجنّة للمتّقين وبُرّزت الجحيم للغاوين).

وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصوّر فوقه لطف آخر!.

والتعبير بـ (غير بعيد)(1) تأكيد على هذا المعنى أيضاً.

وعلى كلّ حال، فمفهوم الآية أنّ هذه القضيّة تقع في القيامة رغم أنّه عبّر عنها بالماضي «أزلفت» لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيراً ما يعبّر عنها بالماضي ـ لأنّ وقوعها سيتحقّق حتماً ـ .

وقيل: إنّ إزلاف الجنّة للمتّقين يتحقّق في الدنيا، لأنّه لا يفصلهم شيء عن الجنّة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في الجنّة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدّث عن مشاهد القيامة يبدو أنّ هذا المعنى بعيد، والمناسب هو التّفسير الأوّل.

ثمّ تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنّة فتقول: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب


1 ـ غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية، فيحتمل أن تكون ظرفاً، كما يحتمل أن تكون حالا، ويحتمل أن تكون صفةً لمحذوف تقديره إزلافاً غير بعيد ..

[50]

حفيظ).

وقد اُشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما «أوّاب» .. «وحفيظ».

وكلمة «الأوّاب»: من مادّة [أوب] ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة، ولعلّها تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

أو أنّها تعني العودة إلى الطاعة، ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنّة رجال متّقون بحيث إنّ أيّ عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فوراً، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» معناه الحافظ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألاّ يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (60) من سورة يس، أم هو الحافظ لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكّر لها ممّا يستلزم التوبة والجبران، أو يعني جميع ما تقدّم من إحتمالات؟

ومع ملاحظة أنّ هذا الحكم ورد بصورة مطلقة، فإنّ التّفسير الأخير الجامع لهذه المعاني يبدو أقرب.

وإستدامةً لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتّفسير لما سبق ذكره، إذ تقول الآية: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).

عبارة (من خشي الرحمن بالغيب) إشارة إلى أنّهم رغم عدم رؤيتهم الله بأعينهم، إلاّ أنّهم يؤمنون به عن طريق آثاره والإستدلال بها. فيؤمنون إيماناً مقروناً بالإحساس بتحمّل المسؤولية.

ويحتمل أنّ المراد من «الغيب» هو ما غاب عن أعين الناس، أي أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وإبتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سبباً للإنابة، فيكون قلبهم متوجّهاً إلى الله

[51]

ويقبل على طاعته دائماً ويتوب من كلّ ذنب، وأن يواصلوا هذه الحالة حتّى نهاية العمر ويردّوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.

ثمّ تضيف الآية الاُخرى بأنّ اُولئك الذين يتمتّعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنّة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام (إدخلوها بسلام).

«السلام» من كلّ أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يُضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و (ذلك يوم الخلود).

وإضافةً لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام، وبشرى الخلود في الجنّة، يبشّرهم الله بشريين اُخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعاً كما أنّهم يتّصفون بأربع صفات يقول: (لهم ما يشاءون فيها).

وإضافةً إلى كلّ ذلك فإنّه (لدينا مزيد) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

ولا يمكن أن يتصوّر تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس، إذ يقول القرآن أوّلا: (لهم ما يشاءون فيها) على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ لا إستثناء فيها، ثمّ يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد، حيث أنّ الله الذي أنعم على المتّقين فشملهم بألطافه الخاصّة وهم يتنعمّون فيها، وهكذا فإنّ نعم الجنّة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأيّ بيان.

كما يستفاد من هذا التعبير ضمناً أنّه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب الله، بل هو أعلى وأسمى منها كثيراً، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو عدله! ونجازى بعدله!

وبعد الإنتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والإستنتاج فيقول: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء

[52]

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلاّ أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم .. فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي (هل من محيص)؟!

«القرن» و «الإقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحياناً كما يطلق على مئة سنة أيضاً، فإهلاك القرون معناه إهلاك الاُمم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «نقّبوا»: فعل من مادّة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعمّ وأوسع.

وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضاً.

«المنقبة»: من المادّة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنّها تشقّ له الطريق في الإرتقاء والسمو!

و «النقيب»: هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.

و «المحيص»: كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف»، ومعناها الإنحراف والعدول عن الشيء، ومن هنا فقد إستعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للإعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين

[53]

.. الذين كانوا اُمماً وأقواماً أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً» وهذا المعنى ورد مراراً في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً).

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضاً.

أمّا جملة (هل من محيص) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي هل إستطاع مَن كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!