![]() |
![]() |
![]() |
ربّنا، ياذا الجلال والإكرام، نقسم عليك بجلالك وإكرامك ألاّ تحرمنا من نعم وهبات الجنّة.
ربّاه، إنّ دائرة رحمتك واسعة جدّاً، وإنّنا لم نعمل عملا يليق برحمتك، فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيّتك.
إلهنا، نحن لا نكذّب أيّاً من نعمك، ونعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائماً، فأدم نعمك علينا.
آمين ياربّ العالمين.
نهاية سورة الرحمن
* * *
1 ـ سيرة ابن هشام، ج1، ص336.
2 ـ اُسد الغابة، ج3، ص257.
مكّية
وعَدَدُ آيَاتِها ستّ وتِسعُون آية
نقل في كتاب «تأريخ القرآن» عن ابن النديم أنّ سورة الواقعة هي السورة الرابعة والأربعين التي نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء).
هذه السورة ـ كما هو واضح من لحنها، وذكره المفسّرون أيضاً ـ نزلت في مكّة، بالرغم من أنّ بعضهم قال: إنّ الآيتين (81، 82) نزلتا في المدينة، إلاّ أنّ هذا الإدّعاء ليس له دليل، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضاً.
وسورة الواقعة ـ كما هو واضح من إسمها ـ تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.
إلاّ أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:
1 ـ بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.
2 ـ تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقرّبين).
3 ـ بحث مفصّل حول مقام المقرّبين، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.
1 ـ تأريخ القرآن لمؤلّفه أبو عبدالله الزنجاني، ص59.
4 ـ بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.
5 ـ بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.
6 ـ بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عزّوجلّ، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، إشتعال النار .. والتي تدخل أيضاً ضمن أدلّة التوحيد.
7 ـ وصف حالة الإحتضار والإنتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاُخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.
8 ـ وأخيراً نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.
وأخيراً تنهي السورة آياتها باسم الله العظيم.
حول فضيلة تلاوة هذه السورة ذكرت روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نقرأ منها حديثاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «من قرأ سورة الواقعة لم يكتب من الغافلين»(1) وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.
وحول هذا المعنى نقرأ حديثاً آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: «شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون»(2) وذلك لأنّ الأخبار التي وردت في هذه السورة أخبار مثيرة عن القيامة والحشر والحوادث المرعبة وعقاب المشركين، وذكر حالة الأقوام السابقة وما حلّ بهم من البلاء.
ونقرأ أيضاً في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة
1 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص212; وتفسير البرهان، ج4، ص273.
2 ـ خصال الصدوق، الباب الرابع، حديث 10.
الواقعة أحبّه الله وحبّبه إلى الناس أجمعين، ولم يرَ في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان في رفقاء أمير المؤمنين»(1).
وجاء في حديث آخر أنّ عثمان بن عفّان عاد عبدالله بن مسعود في مرضه الذي توفّي فيه فقال له: ماذا تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فيم ترغب؟ قال: في رحمة ربّي، قال: ألا ألتمس لك طبيباً؟ قال: أمرضني الطبيب؟ قال: ألا آمر لك بعطيّة؟ قال: لم تأمر لي بها إذ كنت أحوج إليها، وتأمر لي الآن وأنا مستغن عنها، قال: فلتكن هي لبناتك، قال: لا حاجة لهنّ بها فإنّي قد أمرتهنّ بقراءة سورة الواقعة، وإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقة يقول: «من قرأ سورة الواقعة كلّ ليلة لم تصبه أبداً»(2).
ولهذا السبب سمّيت سورة الواقعة حسب ما ورد في رواية اُخرى بسورة الغنى(3).
ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكّر والتدبّر، ومن ثمّ الحركة والعمل.
* * *
1 ـ ثواب الأعمال، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج5، ص203.
2 ـ مجمع البيان، ج9، ص212.
3 ـ روح المعاني، ج27، ص111.
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ( 3 ) إِذَا رُجَّتِ الاَْرْضُ رَجّاً ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ( 5 )فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ( 6 ) وَكُنتُمْ أَزْوَجاً ثَلَـثَةً ( 7 ) فَأَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ( 8 ) وَأَصْحَـبُ الْمَشْئَمَةِ مَآ أَصْحَـبُ الْمَشْئَمَةِ( 9 ) وَالسَّـبِقُونَ السَّـبِقُونَ ( 10 ) أُوْلَـئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ( 12 ) ثُلَّةٌ مِّنَ الاَْوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِّنَ الاَْخِرِينَ ( 14 )
إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالباً في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسيّة عظيمة قاصمة ومدمّرة، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي
تتحدّث عن القيامة.
وفي سورة الواقعة حيث يدور البحث حول محور المعاد، نجد هذا واضحاً في الآيات الاُولى منها، حيث يبدأ سبحانه بقوله: (إذا وقعت الواقعة)(1).
(ليس لوقعتها كاذبة) وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كلّ ذرّات الوجود.
«الواقعة» تشير إشارة مختصرة إلى مسألة الحشر، ولأنّ وقوعها حتمي فقد عبّر عنها بـ (الواقعة) واعتبر البعض أنّها إحدى أسماء القيامة.
كلمة (كاذبة) هنا أخذت بمعناها المصدري، وهي إشارة إلى أنّ وقوع القيامة ظاهر وواضح إلى حدّ لا يوجد أي مجال لتكذيبه أو بحثه والنقاش فيه.
كما أنّ البعض فسّرها بمعناها الظاهري الذي هو اسم الفاعل، حيث قالوا بعدم وجود من يكذّب هذا الأمر(2).
وعلى كلّ حال فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة (خافضة رافعة)(3).
أجل، انّها تذلّ المستكبرين المتطاولين، وتعزّ المحرومين المؤمنين وترفع المستضعفين الصادقين بعض يسقط إلى قاع جهنّم، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنّة.
وهذه هي خاصية المبادىء الإلهيّة العظيمة.
ولذلك نقرأ في رواية الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «خافضة خفضت والله أعداء الله في النار، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى
1 ـ تعتبر (إذا) منصوبة على الظرفية والناصب له «ليس» الوارد في الآية الثانية مثل أن نقول «يوم الجمعة ليس لي شغل» ويحتمل أن تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره (ذكر) إلاّ أنّ الرأي الأوّل هو الأنسب.
2 ـ إنّ سبب كون الضمير مؤنثاً لتقديره (نفس كاذبة) أو (قضيّة كاذبة) وإعتبر البعض أنّ (اللام) في (لوقعتها) للتوقيت، إلاّ أنّ الظاهر أنّها للتعدية.
3 ـ «خافضة رافعة» خبر لمبتدأ محذوف، وفي الأصل (هي خافضة رافعة).
الجنّة»(1).
ثمّ يستعرض القرآن الكريم وصفاً أوسع في هذا الجانب حيث يقول: (إذا رجّت الأرض رجّاً).
يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى، قال تعالى: (وبسّت الجبال بسّاً فكانت هباءً منبثّاً).
(رُجّت) من مادّة (رجّ) على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشيء وتقال رجرجة للإضطراب.
«بُسّت» من مادّة (بسّ) على وزن (حجّ). والأصل بمعنى تليّين الطحين وتعجنه بواسطة الماء.
«هباءً» بمعنى غبار، و «منبث» بمعنى منتشر. قال البعض: إنّ «هباءً» هو ذرّات الغبار الصغيرة المعلّقة بالفضاء ولا ترى في الحالة الإعتيادية، إلاّ إذا دخل نور الشمس من نافذة إلى مكان مظلم.
والآن يجب التفكير بهذه الزلزلة والإنفجار، كم هو عظيم بحيث تتلاشى الجبال مع ما لها من القوّة والصلابة بحيث تتحوّل إلى غبار منتشر، والأعظم هو شدّة الصوت الذي ينتج من هذا الإنفجار الرهيب.
وعلى كلّ حال فقد نلاحظ في الآيات القرآنية تعبيرات مختلفة حول وضع الجبال قبل يوم القيامة، وتكشف لنا المراحل المتعدّدة للإنفجار العظيم الذي يطرأ على الجبال، حيث يقول عزّوجلّ في هذا الصدد:
(وتسير الجبال سيراً) الطور / 10.
(وإذا الجبال نسفت) المرسلات / 10.
(فدكّتا دكّة واحدة) الحاقّة / 14.
1 ـ الخصال طبقاً، نور الثقلين، ج5، ص204.
(وكانت الجبال كثيباً مهيلا) المزمل / 14 أي كالرمل المتراكم.
(فكانت هباءً منثوراً) الواقعة / 6 الآية محلّ البحث.
وأخيراً (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) القارعة / 2 أي كالصوف المنفوش حيث لا يرى منها إلاّ لونها.
ومن الواضح أن لا أحد يعلم إلاّ الله بحقيقة حصول هذه التغيّرات التي لا تحملها الألفاظ، ولا تجسّدها العبارات، اللهمّ إلاّ إشارات معبّرة تحكي عظمة وهول هذا الإنفجار العظيم.
وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقول سبحانه: (وكنتم أزواجاً ثلاثة).
لفظ (الزوج) لا يقال دائماً لجنس المؤنث والمذكّر، بل تطلق هذه اللفظة على الاُمور المتقارنة مع بعض، ولكون أصناف الناس في القيامة والحشر والنشر تكون متقارنة مع بعضها، لذا يطلق عليها لفظ أزواج.
وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة)(1).
المقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة، كما ذكر هذا مراراً في الآيات القرآنية.
أو أنّ كلمة (ميمنة) من مادّة (يمن) التي أخذت من معنى السعادة، وعلى هذا التّفسير فإنّ القسم الأوّل هم طائفة السعداء وأهل الحبور والسرور.
1 ـ في تركيب هذه الجملة توجد إحتمالات عديدة وأنسبها أن نقول: «أصحاب الميمنة» مبتدأ، و «ما» إستفهامية مبتدأ ثان، وأصحاب الميمنة الثانية خبرها، والخلاصة أنّ جملة (ما أصحاب الميمنة) خبر للمبتدأ الأوّل، والفاء في بداية الجملة تفريعيّة وتفسيرية.
وبالنظر إلى أنّ الآية اللاحقة تعرّف المجموعة الثانية بـ (أصحاب المشئمة)والتي هي مأخوذة من مادّة (شؤم) فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب(1).
عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين، وهذه قمّة الروعة في الوصف لمثل هذه الحالات، ويمكن تشبيه ذلك بقولنا: فلان إنسان يا له من إنسان!
ثمّ يستعرض الله تعالى المجموعة الثانية بقوله: (وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة) حيث الشؤم والتعاسة، وإستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال.
والتعبير بـ «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.
وأخيراً يصف المجموعة الثالثة أيضاً بقوله سبحانه: (والسابقون السابقون(2)اُولئك المقرّبون).
(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص، فهم اُسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من المقرّبين إلى الحضرة الإلهيّة.
وبناءً على هذا، فما نرى من تفسير أسبقية السابقين بالسبق في طاعة الله، أو
1 ـ جاء في الآيات اللاحقة إستعمال أصحاب الشمال بدلا من أصحاب المشئمة.
2 ـ في تركيب هذه الآية والآيات اللاحقة إحتمالات عديدة: الأوّل: أنّ (السابقون) الاُولى مبتدأ، والثانية وصف أو تأكيد له، (واُولئك المقرّبون) مبتدأ وخبر والتي هي في المجموع خبر لكلمة (السابقون) الاُولى. ويحتمل البعض الآخر أنّ (السابقون السابقون) مبتدأ وخبر. وشبّه بشعر أبي النجم المعروف حين يقول: (أنا أبو النجم وشعري شعري) والذي هو في الواقع نوع من الوصف العالي.
وهناك إحتمال آخر وهو أنّ (السابقون) الاُولى هي بمعنى السابقين في الإيمان، والسابقون الثانية بمعنى السابقين إلى الجنّة والتي ستكون كذلك مبتدأ وخبر.أداء الصلوات الخمس، أو الجهاد والهجرة والتوبة فإنّ كلّ واحد من هذه التفاسير تمثّل جانباً من هذا المفهوم الواسع، وإلاّ فإنّ هذه الكلمة (السابقون) تشمل جميع هذه الأعمال، والطاعات وغيرها.
وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الرّوايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل»، و «مؤمن آل فرعون»، و «حبيب النجّار» الذين تميّز كلّ منهم بأسبقيته في قومه، وكذلك «أمير المؤمنين» (عليه السلام) الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال، فإنّ هذا التّفسير في الحقيقة هو بيان للمصاديق الواضحة، وليس تحديداً لمفهوم الآية(1).
وجاء في حديث آخر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله في يوم القيامة؟ فقال أصحابه: الله ورسوله أعلم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم»(2).
وجاء في بعض الرّوايات أيضاً أنّ المقصود بـ (السابقون) هم الأنبياء المرسلون وغير المرسلين(3).
«ونقرأ في حديث لابن عبّاس أنّه قال: «سألت رسول الله حول هذه الآية فقال: «هكذا أخبرني جبرائيل، ذلك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنّة، المقرّبون من الله لكرامته لهم»(4).
وكما تقدّم إنّه بيان للمصاديق الواضحة من المفهوم الذي ذكر أعلاه، الذي يشمل جميع (السابقين) في كلّ الاُمم والشعوب.
ثمّ يوضّح ـ في جملة قصيرة ـ المقام العالي للمقرّبين حيث يقول سبحانه:
1 ـ نقل هذا الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) في مجمع البيان، ج9، ص215.
2 ـ تفسير المراغي، ج27، ص134.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص206.
4 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص209.
(في جنّات النعيم)(1).
التعبير بـ (جنّات النعيم) يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية، ويمكن إعتبار هذا التعبير إشارة إلى أنّ بساتين الجنّة هي وحدها مركز النعمة والراحة في مقابل بساتين الدنيا التي تحتاج إلى الجهد والتعب، كما أنّ حالة المقربين في الدنيا تختلف عن حالة المقرّبين في الآخرة، حيث أنّ مقامهم العالي في الدنيا كان توأماً مع المسؤوليات والطاعات في حين أنّ مقامهم في الآخرة سبب للنعمة فقط.
ومن البديهي أنّ المقصود من «القرب» ليس «القرب المكاني» لأنّ الله ليس له مكان، وهو أقرب إلينا من أنفسنا، والمقصود هنا هو «القرب المقامي».
ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الاُمم السابقة وفي هذه الاُمّة أيضاً حيث يقول سبحانه:
(ثلّة من الأوّلين) أي أنّهم جماعة كثيرة في الاُمم السالفة والأقوام الاُولى.
(وقليل من الآخرين).
(ثلّة) كما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ تحوّلت إلى معنى مجموعة من الأشخاص.
وأخذها البعض أيضاً من (ثلّ عرشه) بمعنى سقط وإنهار، يقال (سقط عرشه وإنقلعت حكومته) وإعتبرها البعض (قطعة)، وذلك بقرينة المقابلة بـ (قليل من الآخرين) يكون المعنى القطعة العظيمة.
وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقرّبين هم من الاُمم السابقة، وقسم قليل منهم فقط هم من اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويثار سؤال هنا وهو: كيف يتناسب العدد القليل من مقرّبي اُمّة محمّد مع الأهميّة البالغة لهذه الاُمّة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها من أفضل الاُمم؟ قال
1 ـ الجار والمجرور الموجود في الآية (جنّات النعيم) ممكن أن يكون متعلّق بما قبله يعني (المقرّبين)، أو مرتبطة بحال محذوف جاء للمقرّبين وتقديره (كائنين في جنّات النعيم)، أو يكون خبراً بعد خبر.
تعالى: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس ..).(1)
وللجواب على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى نقطتين:
الاُولى: إنّ المقصود من المقرّبين هم السابقون في الإيمان، ومن المسلّم أنّ السابقين لقبول الإسلام في الصدر الأوّل منه كانوا قلّة، أوّلهم من الرجال الإمام علي (عليه السلام)، ومن النساء خديجة (رض)، في الوقت الذي نعلم أنّ كثرة الأنبياء السابقين وتعدّد اُممهم، ووجود السابقين في كلّ اُمّة يؤدّي إلى زيادتهم من الناحية العددية.
والنقطة الثانية: أنّ الكثرة العددية ليست دليلا على الكثرة النوعية; حيث يمكن أن يكون عدد السابقين في هذه الاُمّة قليلا، إلاّ أنّ مقامهم أفضل كثيراً، كما هو المعروف بين الأنبياء أنفسهم، إذ يختلفون بإختلاف درجاتهم: (تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض).(2)
وممّا يلزم ذكره أنّ قسماً من المؤمنين لم يندرجوا في زمرة السابقين في الإيمان، مع توفّر الصفات والخصوصيات فيهم والتي تجعلهم بنفس درجة السابقين من حيث الأجر والجزاء، لذلك فقد نقل في بعض الرّوايات عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «نحن السابقون السابقون ونحن الآخرون»(3).
وجاء في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه خاطب مجموعة من أصحابه فقال لهم: «أنتم السابقون الأوّلون والسابقون الآخرون، والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا، وفي الآخرة إلى الجنّة»(4).
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض المفسّرين فسّر «الأوّلين والآخرين» بـ
1 ـ آل عمران، 110.
2 ـ البقرة، 253.
3 ـ تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
4 ـ تفسير الصافي نهاية الآية مورد البحث.
(الأوّلين في الاُمّة الإسلامية والآخرين فيها) وإنسجاماً مع هذا الرأي فإنّ جميع المقرّبين هم من الاُمّة الإسلامية.
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب مع ظاهر الآيات والرّوايات التي وردت في ذيل هذه الآيات، حيث أنّها عرّفت أشخاصاً من الاُمم السابقة بالخصوص بعنوان أنّهم من السابقين الأوّلين.
* * *
عَلَى سُرُر مَّوْضُونَة ( 15 ) مُّتَكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَـبِلِينَ ( 16 ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ ( 17 ) بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْس مِّن مَّعِين( 18 ) لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ( 19 ) وَفَـكِهَة مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ( 20 ) وَلَحْمِ طَيْر مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( 21 ) وَحُورٌ عِينٌ ( 22 )كَأَمْثَـلِ اللَّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( 23 ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 ) لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( 25 ) إلاَّ قِيلا سَلَـماً سَلَـماً ( 26 )
هذه الآيات تتحدّث عن أنواع نعم الجنّة التي أعدّها الله سبحانه للقسم الثالث من عباده المقرّبين، والتي كلّ واحدة منها أعظم من اُختها وأكرم ..
وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام:
يقول تعالى في البداية: (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين).
«سرر» جمع سرير من مادّة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه
المنعّمين في مجالس الاُنس والسرور(1).
(موضون) من مادّة (وضن) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج الدرع، ثمّ اُطلقت على كلّ منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي الأسرة الموضوعة جنباً إلى جنب بصورة متراصّة. أو أنّ لهذه الأسرة حياكة مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك، كما قال بعض المفسّرين.
وعلى كلّ حال، فإنّ بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها، ومجلس الاُنس الذي يتشكّل عليها، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها، لا نستطيع وصفه بأي بيان.
ونلاحظ إستمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنّة، ومجالس أهلها، ومنتديات أحبّتها ممّا يدلّ على أنّ من أهم نعم وملذّات هؤلاء هي جلسات الاُنس هذه ..
أمّا أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها، فهل هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن اُصول المعرفة وأسماء الله وصفاته الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن اُمور اُخرى لا نستطيع إدراكها ...؟ هذا هو سرّ لا يعلمه إلاّ الله.
ثمّ يتحدث سبحانه عن نعمة اُخرى لهم حيث يقول: (يطوف عليهم ولدان مخلّدون).
التعبير بـ «يطوف» من مادّة (طواف) إشارة إلى إستمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.
والتعبير بـ «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم، والأصل أنّ جميع أهل الجنّة مخلّدون وباقون.
1 ـ مفردات الراغب مادّة (سر).
أمّا من هم هؤلاء الولدان؟
قال البعض: إنّهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفّوا قبل البلوغ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنّس بعد، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه، وخدمتهم للمقرّبين تقترن بإرتياح عظيم ورغبة عميقة ولذّة من أفضل اللذّات، لأنّهم في خدمة المقرّبين من الحضرة الإلهيّة.
وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام علي (عليه السلام).
إلاّ أنّنا نقرأ في تفسير آخر أنّهم أطفال المشركين ولأنّهم لم يرتكبوا ذنباً فقد حصلوا على هذه المرتبة; وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم واُمّهاتهم.
ونقرأ في تفسير ثالث أنّهم خدّام الجنّة، حيث إنّ الله سبحانه قد أعدّهم لهذه المهمّة بشكل خاصّ.
ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنّة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنّة (بأكواب وأباريق وكأس من معين)(1)وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر، حيث يقول تعالى: (لا يصدّعون عنها ولا ينزفون)(2).
![]() |
![]() |
![]() |