(فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم) ونقرأ في الآية (72) من سورة هود قوله تعالى: (قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً)!؟

فبناءً على هذا فصراخها كان صراخ تعجّب مقرون بالسرور، وكلمة «صرّة» مشتقّة من الصرّ على وزن الشرّ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط، كما يطلق على الصوت العالي والصراخ والجماعة المتراكمة لأنّها ذات شدّة وإرتباط.

ويطلق على الريح الباردة «صرصر» لأنّها تصرّ الإنسان و «الصرورة» كلمة تطلق على من لم يحجّ رجلا كان أو امرأة! كما تطلق على من لم يرغب في الزواج [منهما] لأنّ في ذلك نوعاً من الإمتناع أو الإرتباط، والصرّة في الآية محلّ البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.

أمّا «صكّت» فمشتقّة من مادّة صكّ على وزن شكّ ـ ومعناها الضرب الشديد أو الضرب، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها ـ كعادة سائر النساء ـ تعجّباً وحياءً!

وطبقاً لما يقول بعض المفسّرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سنّ التسعين وإبراهيم نفسه كان في سنّ المئة عاماً .. أو أكثر.

إلاّ أنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: (قالوا كذلك قال ربّك إنّه هو الحكيم العليم).

فبالرغم من كونك امرأةً عجوزاً وبعلك مثلك شيخاً إلاّ أنّ أمر الله إذا صدر في شيء ما فلابدّ أن يتحقّق دون أدنى شكّ!.

حتّى خلق العالم الكبير كعالمنا هذا إنّما هو عليه سهل إذ تمّ بقوله: كن فكان!

والتعبير بـ «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك

[102]

امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فالله يعرف كلّ هذه الاُمور، وإذا لم يرزقك حتّى الآن ولداً وأراد أن يهبك في هذه السنّ ولداً فإنّما هو لحكمته!

الطريف أنّنا نقرأ في الآية (73) من سورة هود أنّ الملائكة قالوا لها: (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد).

ووجود الفرق بين هذين التعبيرين هو لأنّ الملائكة قالوا كلّ ذلك لسارة .. منتهى الأمر أنّ قسماً منه أشارت إليه سورة هود، وهنا إشارة إلى القسم الآخر، ففي سورة هود جاء الكلام عن «رحمة الله وبركاته» وهما يتناسبان مع كونه حميداً مجيداً.

أمّا هنا فالكلام على علمه بعدم إستعداد هذين الزوجين للإنجاب والولد ويأس المرأة بحسب الأسباب الطبيعية «الظاهرية» ويتناسب مع هذا الكلام أن يقال أنّه هو العلم، وإذ سئل لِمَ لم يرزقهما في فترة الشباب ولداً. فيقال: أنّ في ذلك حكمةً وهو الحكيم سبحانه.

* * *

 

ملاحظة

كَرَمُ الأنبياء:

كثيراً ما يظنّ الممسكون البخلاء أنّ السخاء والنظرة البعيدة ضرب من الإفراط والإسراف والتبذير، والتشدّد وضيق النظرة نوع من الزهد والتدبير!!

والقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في هذه الآيات والآيات التي مرّت في سورة هود، وهي أنّ الضيافة بسعتها وبشكلها المعقول ليست مخالفةً للشرع، بل طالما قام النّبي بمثل هذا العمل، فهو دليل على أنّ هذا الأمر محبوب، وبالطبع فإنّ ضيافةً كهذه الضيافة التي تستوعب الآخرين إنّما هي سنّة الكرماء الشرفاء.

والله سبحانه لم يحرّم التمتّع بمواهب الحياة وكون الإنسان ذا مال حلال كما

[103]

كان إبراهيم ـ فلا ضير أن يتصرّف بماله كما فعل إبراهيم (عليه السلام) أيضاً.

فإبراهيم مع كونه ثريّاً ذا مال لم يغفل عن ذكر الله لحظة واحدة ولم يكن قلبه أسير ثروته ولم يجعل منافعه منحصرة به وحده.

يقول القرآن في الآية 32 من سورة الأعراف: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون).

وفي هذا الصدد كان لنا بحث مفصّل ذيل الآية 32 من سورة الأعراف .. «فلا بأس بمراجعته هناك».

* * *

[105]

 

بدايَة الجزء السابع و العشرون

 

 

 

مِنَ

القُرآن الكريم

[107]

الآيات

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قُوْم مُّجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِين ( 33 ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 ) وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ ( 37 )

 

التّفسير

مُدُنُ قوم لوط المدمّرة آية وعبرة:

تعقيباً على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفاً على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدّث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك .. إنّ إبراهيم بعد ما اُبعد إلى الشام .. واصل دعوة الناس إلى الله ومواجهته لكلّ أنواع الشرك وعبادة الأصنام .. وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويُحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالّين، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين

[108]

بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورّطهم في الإنحراف الجنسي واللواط، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلاّ أنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهمّ، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولّد إسحاق، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمّة «البشارة». أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية» مهمّة.

لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محلّ البحث تحكي بداية المحاورة فتقول: (قال فما خطبكم أيّها المرسلون)(1).

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة» ومأموريتهم فـ (قالوا إنّا اُرسلنا إلى قوم مجرمين).

إنّهم قوم متلوّثين ـ إضافةً إلى عقيدتهم الفاسدة ـ بأنواع الآثام والذنوب المختلفة المخزية القبيحة(2).

ثمّ أضافوا قائلين: (لنرسل عليهم حجارة من طين) والتعبير بـ «حجارة من طين» هو ما أشارت إليه الآية 82 من سورة هود بالقول من «سجّيل» وسجّيل كلمة فارسية الأصل مأخوذك من (سنگ + گل) ثمّ صارت في العرب سجّيل، فهي ليست صلبة كالحجر ولا رخواً كالورد، ولعلّها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات «المطر».


1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ «خطب» لا يطلق على كلّ عمل، بل هو خاصّ في الاُمور والأعمال المهمّة في حين أنّ كلمات مثل عمل، شغل، أمر، فعل، لها معان عامّة.

2 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّه في سورة هود جاء التعبير هكذا: إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط، وهذا التفاوت في التعابير بين الآيات محلّ البحث وآيات سورة هود هو لأنّ كلا من الآيات يذكر قسماً ممّا جرى وبتعبير آخر هذه المسائل كلّها واقعة، غاية ما في الأمر أنّ بعضها مذكور في الآيات محلّ البحث وبعضها في الآيات الآنفة من سورة هود ..

[109]

ثمّ أضاف الملائكة قائلين: (مسوّمة عند ربّك للمسرفين) كلمة مسوّمة تطلق على ما فيه علامة ووسم، وهناك أقوال بين المفسّرين في كيفية أنّها «مسوّمة»؟!

قال بعضهم إنّها كانت في شكل خاصّ يدلّ على أنّها ليست أحجاراً كسائر الأحجار الطبيعية، بل كانت وسيلة للعذاب.

وقال جماعة كان لكلّ واحدة منها علامة وكانت لشخص معيّن وعلامتها في نقطة خاصّة ليعلم الناس أنّ عقاب الله في منتهى الدقّة بحيث يُعلم من هذه الأحجار المسوّمة أنّ أيّ مجرم ينال واحدةً منها فيهلك بها.

كلمة «المسرفين» إشارة إلى كثرة ذنوبهم بحيث تجاوزت الحدّ وخرقوا ستار الحياء والخجل، ولو قدّر لبعض الدارسين أن يتفحّص حالات قوم لوط وأنواع ذنوبهم للاحظ أنّ هذا التعبير في حقّهم ذو مغزى كبير(1).

وكلّ إنسان من الممكن أن يقع في الذنب أحياناً، فلو تيقّظ بسرعة وأصلح نفسه يرتفع الخطر، وإنّما يكون خطيراً حين يبلغ حدّ الإسراف!.

ويكشف هذا التعبير عن مطلب مهمّ آخر، وهو أنّ هذه الحجارة السماوية التي اُعدت لتنزل على قوم لوط لا تختّص بهؤلاء القوم، بل معدّة لجميع المسرفين والعصاة المجرمين.

والقرآن هنا يكشف عمّا جرى لرسل الله إلى نبيّه لوط على أنّهم حلّوا ضيفاً عنده، وقد تبعهم قوم لوط بلا حياء ولا خجل ظنّاً منهم أنّهم غلمان نضِرون ليقضوا منهم وطرهم!! إلاّ أنّهم سرعان ما أحسّوا بخطئهم فإذا هم عُمي العيون، فيذكر قول الله فيهم(2) (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من


1 ـ يراجع ذيل الآية (81) من سورة هود.

2 ـ الجدير بالنظر أنّ في سورة هود بياناً لهذه القصّة لكنّ التعابير فيها تدلّ بوضوح أنّ لقاء الملائكة لإبراهيم كان قبل معاقبة قوم لوط وهلاكهم مع أنّ الآيات محلّ البحث فيها تعابير تشير إلى أنّ اللقاء تمّ بعد المعاقبة والجزاء، وطريق الحلّ هو أن نقول أنّ الآيات الوارد ذكرها آنفاً إلى قوله: «مسوّمة عند ربّك للمسرفين» هي كلام الملائكة، وأمّا الآيات الثلاث بعدها فقول الله يخاطب نبيّه والمسلمين يتحدّث عنها على أنّها قصّة وقعت فيما مضى «فلاحظوا بدقّة»!

[110]

المسلمين).

أجل فنحن لا نحرق الأخضر واليابس معاً، وعدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر حتّى ولو كان بين آلاف الآلاف من الكافرين رجل مؤمن طاهر لأنجيناه!

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان 59 و60 من سورة الحجر بالقول: (إلاّ آل لوط إنّا لمنجوهم أجمعين إلاّ امرأته قدّرنا أنّها لمن الغابرين).

ونقرأ في سورة هود الآية 81 مثله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك إنّه مصيبها ما أصابهم).

أمّا في سورة العنكبوت فقد وردت الإشارة في الآية (32) كما يلي: (قال إنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجيّنه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين).

كما أنّ هذا الموضوع ذاته مشار إليه في الآية (83) من سورة الأعراف: (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين).

وكما تلاحظون، أنّ هذا القسم من قصّة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدّث عن حقيقة واحدة .. إلاّ أنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعدّدة وكلّ زاوية لها بعدها الخاصّ .. فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية ـ على هذه الشاكلة ـ غالباً، والتعابير المختلفة في الآيات المتقدّمة شاهدة على هذا المعنى.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن كتاب تربوي وإنساني ـ وفي مقام التربية يلزم أحياناً أن يعول على مسألة مهمّة مراراً لتترك أثرها العميق في ذهن القارىء .. غاية ما في الأمر ينبغي أن يكون هذا التكرار بتعابير طريفة ومثيرة ومختلفة لئلاّ

[111]

يقع السأم ويملّ الإنسان، وأن يكون الاُسلوب فصيحاً بليغاً!.

«ولمزيد التوضيح في شأن ضيف إبراهيم وما دار بينهم وبينه ثمّ عاقبة قوم لوط المرّة يراجع ذيل الآيات 83 من سورة الأعراف و81 من سورة هود و59 و60 من سورة الحجر و32 من سورة العنكبوت».

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثمّ أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثراً .. حتّى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة! لتكون عبرةً لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلا في آخر آية من الآيات محلّ البحث: (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم).

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم إستعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

* * *

 

بحث

أين تقع مدن قوم لوط؟

من المسلّم به أنّ إبراهيم الخليل جاء إلى الشام بعد أن هاجر من العراق و «بابل» ويقال أنّ لوطاً كان يقطن معه إلاّ أنّه بعد فترة توجّه نحو «سدوم» ليدعو إلى التوحيد ويكافح الفساد.

و «سدوم» واحدة من مدن قوم لوط وأحيائهم التي كانت من بلاد الأردن على مقربة من البحر الميّت .. وكانت أرضها خصبة كثيرة الأشجار، إلاّ أنّ هذه الأرض بعد نزول العذاب الإلهي على هؤلاء الظالمين من قوم لوط قلب عاليها سافلها وتهدّمت مدنها وسمّين بالمؤتفكات «أي المقلوبات».

[112]

وذهب بعضهم أنّ آثار هذه المدن الخربة غرقت في الماء ويزعمون أنّهم رأوا في زاوية من البحر الميّت أعمدتها وآثارها وخرائبها الاُخرى.

وما نقرؤه في بعض التفاسير الإسلامية هو أنّ المراد من جملة «وتركنا فيها آية» هو المياه العفنة والمستنقعات التي غطّت أماكن هذه المدن، ولعلّه إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّه بعد الزلازل الشديدة وإنشقاق الأرض إنفتح طريق من البحر الميّت نحو هذه الأرض فغرقت جميع آثارها تحت الماء.

في حين أنّ بعضهم يعتقد أنّ مدن لوط لم تغرق بعدُ وما تزال على مقربة من البحر الميّت منطقة مغطّاة بالصخور السود ويحتمل أن تكون هي محلّ مدن قوم لوط!

وقيل أنّ مركز إبراهيم كان في مدينة «حبرون» على فاصلة غير بعيدة من «سدوم» وحين نزل العذاب والصاعقة من السماء أو الزلزلة في الأرض واحترقت «سدوم» كان إبراهيم واقفاً قريباً من حبرون وشاهد دخان تلك المنطقة المتصاعد في الفضاء باُمّ عينيه(1)!.

ومن مجموع هذه الكلمات تتّضح الحدود التقريبية لهذه المدن وإن كانت جزئياتها ما تزال وراء ستار الإبهام باقية.

* * *


1 ـ مقتبس من كتاب القاموس المقدّس.

[113]

الآيات

وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَـهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـن مَّبِين ( 38 ) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَـحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 ) فَأَخَذْنَـهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 ) وَفِى عَاد إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِن شَىْء أتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 ) وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِين ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( 44 ) فَمَا اسْتَطَـعُوا مِن قِيَام وَمِا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( 45 ) وَقَوْمَ نُوح مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَـسِقِينَ ( 46 )

 

التّفسير

دروس العبرة من الأقوام السالفة:

يتحدّث القرآن في هذه الآيات محلّ البحث ـ تعقيباً على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة ـ عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة.

فيقول أوّلا: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين).

[114]

«السلطان» ما يكون به التسلّط، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القويّ أو كلاهما، وقد واجه موسى فرعون بهما.

والتعبير بـ (سلطان مبين) جاء في آيات القرآن المتعدّدة والمختلفة كثيراً .. وغالباً ما يراد منه الدليل المنطقي البيّن والواضح إلاّ أنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهداً على إرتباطه بالله ولم يطأطىء رأسه للدلائل المنطقية .. بل بقي مصرّاً لما كان فيه من غرور وتكبّر (فتولّى بركنه وقال ساحر أو مجنون).

«الركن» في الأصل القاعدة الأساسية أو الاُسطوانة(1) والقسم المهمّ من كلّ شيء، وهو هنا لعلّه إشارة إلى أركان البدن، أي أنّ فرعون أدار ظهره لموسى تماماً!

وقال بعضهم المراد بالركن هنا جيشه، أي أنّه اعتمد على أركان جيشه وتولّى عن رسالة الحقّ. أو أنّه صرف نفسه عن أمر الله وصرف أركان حكومته ـ وجيشه جميعاً عن ذلك أيضاً(2).

والطريف أنّ الجبابرة المتكبّرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والإفتراء كانوا يتناقضون تناقضاً عجيباً. فتارةً يتّهمونهم بأنّهم سحرة، واُخرى بأنّهم مجانين، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّاً وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتّى يسحرهم ويخدعهم بها .. والمجنون بخلافه تماماً.

إلاّ إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبّار وأعوانه بقوله: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مليم).

«اليمّ»: كما هو مذكور في كتب اللغة وكتب الأحاديث يطلق على البحر، كما


1 ـ الاُسطوانة معربة عن كلمة ستون الفارسية.

2 ـ فتكون الباء في بركنه حسب التّفسير الأوّل للمصاحبة، وحسب التّفسير الثاني للسببية، وحسب التّفسير الثالث للتعدية ..

[115]

يطلق على الأنهار العظيمة كالنيل مثلا(1).

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة الله بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

والتعبير بـ (وهو مليم) إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يَمحُهُ فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكلّ ما يشينه ويلعنه .. ويفضح غروره وتكبّره بإماطة النقاب عنهما.

ثمّ يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد» فيقول: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم).

وكون الريح عقيماً هو عندما تأتي الريح غير حاملة معها السحب الممطرة، ولا تلقح النباتات ولا تكون فيها أيّة فائدة ولا بركة وليس معها إلاّ الدمار والهلاك!.

ثمّ يذكر القرآن سرعة الريح المسلّطة على عاد فيقول: (ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم).

«الرميم» مأخوذ من الرمّة على زنة (المنّة) ـ وهي العظام النخرة البالية. والرُمَّة ـ على وزن القُبّة ـ هي الحبل المتآكل أو الخيط البالي والرِّم(2) على وزن الجنّ ـ ما يسقط من الخشب أو التبن على الأرض و «الترميم» معناه إصلاح الأشياء المتآكلة(3)!

وهذا التعبير يدلّ على أنّ سرعة الريح المسلّطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعيّة، بل إضافةً إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم


1 ـ المراد بالمليم ذو الملامة ـ فهو اسم فاعل من اللوم وبابه الأفعال [الام يُليم] أي هو الشخص الذي يرتكب عملا يكون بنفسه ملامة مثل المُغرب الذي يأتي بالعجيب الغريب .. ولمزيد التوضيح في قصّة موسى وفرعون يراجع ذيل الآية 136 من سورة الأعراف.

2 ـ راجع: المفردات للراغب مادّة رمّ.

3 ـ راجع: لسان العرب والمفردات مادّة رمّ.

[116]

ممّا جعلت كلّ شيء رميماً.

أجل، هذه قدرة الله التي تدمّر القوم الجبّارين بسرعة الريح المذهلة فلا تبقي منهم ومن ضجيجهم وصخبهم وغرورهم إلاّ أجساداً تحوّلت رميماً.

وهكذا أشارت الآية آنفة الذكر إشارة عابرة عن عاقبة قوم «عاد» الأثرياء الأقوياء الذين كانوا يقطنون الأحقاف وهي منطقة «ما بين عمان وحضرموت».

ثمّ تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم الله قليلا ليتلقوا العذاب بعد ذلك .. فيقول الله فيهم: (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتّعوا حتّى حين).

والمراد بـ (حتّى حين) هو الأيّام الثلاثة المشار إليها في الآية (65) من سورة هود إمهالا لهم: (فعقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب).

ومع أنّ الله قد أنذرهم بواسطة نبيّهم «صالح» (عليه السلام) مراراً .. إلاّ أنّه إتماماً للحجّة أمهلهم ثلاثة أيّام فلعلّهم يتداركون ما فرطوا في ماضيهم الأسود ويغسلوا صدأ الذنوب ـ بماء التوبة ـ عن قلوبهم وأرواحهم.

بل كما يقول بعض المفسّرين: ظهرت خلال الأيّام الثلاثة بعض التغيّرات في أبدانهم إذ صارت صفراً ثمّ حمراً ثمّ تحوّلت سوداً .. لتكون نذيراً لهؤلاء القوم المعاندين، إلاّ أنّهم وللأسف لم يؤثّر فيهم أي شيء من هذه الاُمور ولم ينزلوا عن مركب غرورهم.

أجل: (فعتوا عن أمر ربّهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون).

كلمة «عتوا» مشتقّة من العتوّ ـ على وزن غلوّ ـ ومعناه الإعراض «بالوجه»، والإنصراف عن طاعة الله، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيّام الثلاثة فحسب، وبدلا من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

[117]

والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين).(1)

والصاعقة والصاقعة كلاّ اللفظين بمعنى واحد تقريباً، وأصلهما الهوّي المقرون بالصوت الشديد، مع تفاوت بينهما، وهو أنّ الصاعقة تطلق على ما يقع في الأشياء السماوية والصاقعة في الأشياء فوق الأرض.

وكما يقول بعض أهل اللغة فإنّ «الصاعقة» تعني الموت حيناً أو العذاب أو النار حيناً آخر، وهذه الكلمة تطلق غالباً على الصوت الشديد الذي يسمع في السماء مقروناً بالنار المهلكة.

وقد أشرنا من قبل أنّ السحب ذات الشحنات الموجبة إذا إقتربت من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة، يحدث وميض كهربائي شديد من هذين مقروناً بصوت مرعب ونار محرقة يهتزلها مكان الحادث.

وفي القرآن الكريم إستعملت هذه الكلمة في الآية (19) من سورة البقرة بهذا المعنى بجلاء، لأنّه بعد أن يتحدّث القرآن عن الصيّب والبرق والرعد يضيف قائلا: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت).

وأخيراً فإنّ آخر جملة تتحدّث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين تقول: (فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين).

أجل: هكذا تدمّر الصاعقة حين تقع على الأرض بصورة مفاجئة، فلا يستطيع الإنسان أن ينهض من الأرض، ولا يقدر على الصريخ والإستنصار، وعلى هذه الحال هلك قوم صالح وكانوا عبرةً للآخرين.

أجل: إنّ قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة


1 ـ الأعراف، الآية 77.

[118]

وعمّروا طويلا في قصور مشيّدة .. اُهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم، وبقيت آثارهم درساً بليغاً من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة قصيرة إلى عاقبة خامس اُمّة من الاُمم، وهي قوم نوح فتقول: (وقوم نوح من قبل إنّهم كانوا قوماً فاسقين)(1).

و «الفاسق» يُطلق على من يخرج على حدود الله وأمره، ويكون ملوّثاً بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

والتعبير بـ «من قبل» لعلّه إشارة إلى أنّ قوم فرعون وقوم لوط وعاداً وثمود كان قد بلغهم ما انتهى إليه قوم نوح من عاقبة وخيمة، إلاّ أنّهم لم يتنبهوا، فابتلوا بما ابتلي به من كان قبلهم من قوم نوح!

* * *

 

تعقيب

1 ـ أوجه عذاب الله!

ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّه ورد في الآيات الآنفة الإشارة إلى قصص خمس اُمم من الاُمم المتقدّمة «قوم لوط، فرعون، عاد، ثمود، وقوم نوح» وقد اُشير إلى جزاء أربع من هذه الاُمم وما عوقبت به، إلاّ أنّه لم ترد الإشارة في كيفية عقاب قوم نوح.

وحين نلاحظ بدقّة نجد كلّ اُمّة من الاُمم الأربع المتقدّم ذكرها عوقبت بنوع من العناصر الأربعة المعروفة! فقوم لوط عوقبوا بالزلزلة والحجارة (من السماء) أي أنّهم أهلكوا بالتراب، وقوم فرعون أهلكوا بالماء غرقاً ـ وعاد أُهلكوا بريح صرصر عاتية (سريعة) وثمود أُهلكوا بالصاعقة و «النار».


1 ـ هناك حذف في الجملة المتقدّمة وتقديره كما يقول «الزمخشري» في «الكشّاف» وأهلكنا قوم نوح من قبل، بالرغم من أنّ أهلكنا لم تكن في الآيات المتقدّمة إلاّ أنّ هذه الكلمة تستفاد منها بصورة جيّدة ..

[119]

وصحيح أنّ هذه الأشياء الأربعة لا تعدّ اليوم (عنصراً) أي جسماً بسيطاً، لأنّ كلاًّ منها مركب من أجسام اُخر، إلاّ أنّه لا يمكن الإنكار أنّها تمثّل أربعة أركان حياة الإنسان المهمّة، ومتى ما حذف أي منها فلا يمكن أن يواصل الإنسان حياته فكيف بحذف جميعها؟!

أجل إنّ الله سبحانه أهلك هذه الاُمم بشيء يعدّ عامل البقاء والحياة الأصيل ولم يستطيعوا بدونه أن يواصلوا الحياة .. وهذه قدرة (غائية) عجيبة!

وإذا لم نجد بياناً عن ما عوقب به قوم نوح (عليه السلام) خلال السياق، فلعلّه لأنّهم عوقبوا بمثل ما عوقب به قوم فرعون أي اُهلكوا بالغرق (والطوفان) ولم تكن حاجة هنا للتكرار!

 

2 ـ الرياح اللواقح والرياح العقيم!

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ عاداً أهلكوا بالريح العقيم، ونقرأ في الآية (22) من سورة الحجر (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً)! وبالرغم أنّ هذه الآية ناظرة إلى تلقيح الغيوم واتّصال بعضها ببعض لنزول الغيث .. إلاّ أنّها وبشكل عام تبيّن أثر الرياح في حياة الإنسان .. أجل إنّ أثرها وعملها التلقيح، تلقيح الغيوم وتلقيح النباتات، وحتّى أنّها تؤثّر أحياناً على تهيأة مختلف الحيوانات للتلاقح!