![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ الزخرف، 23.
2 ـ يجب الإنتباه هنا إلى تكرار حرف الإستفهام والتعبير بـ (أنّ) كلّها للتأكيد.
3 ـ الهمزة في (أو آبائنا الأوّلون) إستفهامية، والواو واو عطف وهنا قدّمت الهمزة الإستفهامية عليها.
ولكن، كما قيل مفصّلا في نهاية سورة ياسين، فإنّ هذه التساؤلات وغيرها ليست سوى حجج واهية أمام الدلائل القويّة المتوفّرة حول مسألة المعاد.
ثمّ إنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم: (قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)(1).
«ميقات» من مادّة (وقت) بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد. والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرّر للقيامة، حيث يجتمع كلّ البشر للحساب، ويأتي أحياناً كناية عن المكان الذي عين لإنجاز عمل معيّن، مثل مواقيت الحجّ، التي هي أسماء أماكن خاصّة للشروع بالإحرام.
ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر، مثل: (إنّ، اللام، «مجموعون» التي جاءت بصيغة إسم مفعول، ووصف «يوم» بأنّه معلوم) ممّا يكون واضحاً ومؤكّداً أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد، وجاء هذا المعنى في آيات قرآنية اُخرى أيضاً(2).
ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ الذين كانوا يتصوّرون أنّ القيامة تقع في أزمنة متعدّدة حيث إنّ لكلّ اُمّة قيامة، هم غرباء عن آيات الله تماماً.
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند الله فقط، وإلاّ فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقرّبون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.
* * *
1 ـ إستعملت (إلى) في هذه الجملة إشارة إلى أنّ القيامة تكون في نهاية هذا العالم، ويمكن أن تكون هنا بمعنى بـ «لام» كما هو في الكثير من الآيات القرآنية وردت (لميقات).
2 ـ هور، الآية 103; مريم، الآية 95.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ( 51 ) لاََكِلُونَ مِن شَجَر مِّن زَقُّوم( 52 ) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 53 ) فَشَـرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ( 54 ) فَشَـرِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( 55 ) هَـذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ( 56 )
هذه الآيات إستمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال، حيث يخاطبهم بقوله: (ثمّ إنّكم أيّها الضالّون المكذّبون لآكلون من شجر من زقّوم)(1).
كان الحديث في الآيات السابقة حول الأجواء التي تحيط بـ (أصحاب الشمال) وينتقل الحديث في الآيات أعلاه إلى مشربهم ومأكلهم مقارناً بمأكل ومشرب المقرّبين وأصحاب اليمين.
والجدير بالذكر أنّ المخاطبين في هذه الآيات هم «الضالّون المكذّبون»
1 ـ (من) في (من شجر) تبعيضية، و (من) في (زقّوم) بيانية.
الذين يتّسمون مضافاً إلى الضلال والإنحراف بأنّ لديهم روح العناد والإصرار على الباطل في مقابل الحقّ.
(زقّوم) كما ذكرنا سابقاً: نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم، وتقال أحياناً لكلّ نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار(1).
وللمزيد حول (الزقّوم) يراجع نهاية الآية (62) سورة الصافات، وكذلك نهاية الآية (43) سورة الدخان.
والتعبير بـ (فمالئون منها البطون) إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّاً فيملؤون بطونهم.
وعند تناولهم لهذا الغذاء السيء يعطشون. ولكن ما هو شرابهم؟!
يتبيّن ذلك في قوله تعالى: (فشاربون عليه(2) من الحميم فشاربون شرب الهيم).
إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدّة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتّى يهلك، وهذا هو نفس مصير (الضالّون المكذّبون) في يوم القيامة.
«حميم»: بمعنى الماء الحارّ جدّاً والحارق، وتطلق عبارة (وليّ حميم) على طبيعة العلاقة الصادقة الوديّة الحارّة، و «حمّام» مشتقّ من نفس المادّة أيضاً.
(هيم) على وزن (ميم) جمع هائم، وإعتبرها البعض جمع أهيم وهيماء، وهي في الأصل من (هيام) على وزن (فرات) بمعنى مرض العطش الذي يصيب البعير،
1 ـ مجمع البحرين ومفردات الراغب، ولسان العرب، وتفسير روح المعاني.
2 ـ الجدير بالذكر أنّ في الآية السابقة كان الضمير مؤنثاً (منها) يعود على (شجر من زقّوم) وفي هذه الآية كان الضمير مذكراً (عليه) يعود على الشجر، وذلك لأنّ الشجر اسم جنس يستعمل للذكر والمؤنث، وكذلك ثمر، (مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث).
ويستعمل هذا التعبير للعشق الحادّ أو للعشّاق الذين لا يقرّ لهم قرار.
ويعتبر بعض المفسّرين أنّ معنى (هيم) هي الأراضي الرملية والتي كلّما سقيت بماء تسرّب منها فتظهر الظمأ دائماً.
وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول: (هذا نزلهم يوم الدين).
فأين نزلهم ونزل أصحاب اليمين الذين ينعمون بالإستقرار في ظلال الأشجار الوارفة، ويتناولون ألذّ الفواكه وأطيب الأطعمة، وأعذب الشراب الطهور، ويطوف حولهم الولدان المخلّدون وحور العين، وهم سكارى من عشق الباريء عزّوجلّ؟
أين اُولئك؟ وأين هؤلاء؟
مصطلح (نزل) كما قلنا سابقاً بمعنى الوسيلة التي يكرمون بها الضيف العزيز، وتطلق أحياناً على أوّل طعام أو شراب يؤتى به للضيوف، ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفاً، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم. بل هو نوع من الطعن فيهم، وأنّه إذا كان كلّ هذا العذاب هو مجرّد إستقبال لهم، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم؟
* * *
نَحْنُ خَلَقْنَـكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ ( 57 ) أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ( 58 )ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَـلِقُونَ ( 59 ) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 60 ) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ( 61 ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاُْولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( 62 )
بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تكذيب الضالّين ليوم المعاد، فإنّ الآيات اللاحقة إستعرضت سبعة أدلّة على هذه المسألة المهمّة، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهيّة التي وردت في الآيات السابقة حول «المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال»، وأساساً فانّ أبحاث هذه السورة تتركّز على بحث المعاد بشكل عامّ.
يقول سبحانه في المرحلة الاُولى: (نحن خلقناكم فلولا تصدّقون) أي لِمَ لا
تصدّقون بالمعاد(1)؟!
لماذا تتعجّبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم تراباً؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحداً؟
هذه الإستدلالات في الحقيقة شبيهة بما جاء في قوله تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم).(2)
وفي الآية اللاحقة يشير البارىء إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول: (أفرأيتم ما تمنون(3) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون).
من الذي يجعل من هذه النطفة الحقيرة التي لا قيمة لها في كلّ يوم بخلق جديد وشكل جديد، وخلق بعد خلق؟! هذه التطورات العجيبة التي بهرت العقول واُولي الألباب من المفكّرين، هل كانت من خلقكم أم من خلق الله تعالى؟
وهل أنّ القادر على الخلق المتكرّر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟
إنّ المفاهيم التي وردت في هذه الآية تحكي نفس المفاهيم التي جاءت في قوله تعالى: (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثمّ نخرجكم طفلا).(4)
وإذا تجاوزنا ذلك وأخذنا بنظر الإعتبار ما يقوله علماء اليوم حول قطرة الماء هذه (النطفة) التي في ظاهر الأمر لا قيمة لها، سوف يتّضح لنا الحال أكثر،
1 ـ (لولا) في الإصطلاح تستعمل للحضّ والتحريك لإنجاز عمل ما، وكما يقول البعض فإنّها في الأصل مركّبة من (لِمَ) و (لا) والتي تعطي معنى السؤال والنفي ثمّ تبدّلت الميم إلى واو، ويستعمل هذا المصطلح في مكان يتسامح فيه فرد أو أفراد في إنجاز عمل ما، ويقال لهم: لماذا لا تعملون هكذا وهكذا؟
2 ـ سورة يس، 78 ـ 79.
3 ـ جاءت «رأيتم» هنا من الرؤية بمعنى العلم وليست المشاهدة بالعين المجرّدة.
4 ـ الحجّ، 5.
حيث يقولون: إنّ الحيمن (الأسبر) هو حيوان مجهري صغير جدّاً وإنّ منيّ الرجل يحتوي على عدد هائل من الحيامن في كلّ إنزال تقدّر بين (2 ـ 5) مليون حيمن وهذا يمثّل مقدار مجموع سكّان عدّة (بلدان في العالم)(1) هذا الحيوان المنوي يتّحد مع بويضة المرأة (أوول)، فتتكوّن البيضة المخصّبة التي تنمو بسرعة وتتكاثر بصورة عجيبة، حيث تصنع خلايا جسم الإنسان، ومع أنّ الخلايا متشابهة في الظاهر، إلاّ أنّها تتوزّع بسرعة إلى مجاميع عديدة، فقسم منها يختص بالقلب، والآخر بالأطراف، والثالث بالاذن والحنجرة، وكلّ مجموعة مستقرّة في مكانها المحدّد له، فلا خلايا الكلية تنتقل إلى خلايا القلب، ولا خلايا القلب تتحوّل إلى خلايا العين، ولا العكس.
والخلاصة أنّ «النطفة المخصّبة» في المرحلة الجنينيّة تمرّ بعوالم عديدة مختلفة حتّى تصبح جنيناً، وكلّ هذا في ظلّ خالقية إلهيّة مستمرّة، في حين أنّ دور الإنسان في هذه العملية بسيط جدّاً، ويقتصر على وضع النطفة في الرحم، والذي ينجز بلحظة واحدة.
أليست هذه المسألة دليلا حيّاً على مسألة المعاد؟
أو ليست هذه القدرة العظيمة تدلّل على قدرة إحياء الموتى أيضاً(2).
ثمّ يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه: (نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين).
نعم، إنّنا لن نغلب أبداً، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي، بل أنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم. وأخيراً نعيدكم خلقاً جديداً في عالم لا تعلمون عنه شيئاً (على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون).
1 ـ كتاب أوّل جامعة، ج1 (بحث معرفة الجنين)، ص241.
2 ـ في هذا الموضوع ذكرنا توضيحات اُخرى في نهاية الآية (5) من سورة الحجّ.
وفي تفسير هاتين الآيتين هناك وجهة نظر اُخرى وهي: أنّ الآية الثانية لم تأت لبيان هدف الآية الاُولى ولكن تكملة لها، حيث يريد سبحانه أن يبيّن المعنى التالي وهو: أنّنا لسنا بعاجزين ومغلوبين على أن نذهب بقسم ونأتي بآخرين مكانهم(1).
ويوجد تفسيران لجملة (على أن نبدّل أمثالكم).
الأوّل: هو نفس التّفسير المذكور أعلاه، والذي هو المشهور بين المفسّرين، وطبقاً لهذا الرأي تكون عملية تبديل الأقوام في هذه الدنيا.
والثاني هو: أنّ المقصود من (أمثال) هم نفس البشر الذين يبعثون في يوم القيامة، والتعبير بـ (مثل) لأنّ الإنسان لا يبعث مرّة اُخرى بكلّ خصوصياته التي كان عليها، إذ أنّه سيكون في وقت جديد وكيفيات جديدة من حيث الروح والجسم.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر.
وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف هو الإستدلال على المعاد من خلال مسألة الموت، ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية: إنّ الله الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون بإستمرار، من البديهي أنّ له هدف.
فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالداً وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.
وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبّراً وليست منزلا وأنّها جسر وليست مقصداً، لأنّها لو كانت مستقرّاً ومقصداً للزم أن تدوم الحياة فيها.
جملة (وننشئكم فيما لا تعلمون) ظاهراً إشارة إلى خلق الإنسان يوم القيامة،
1 ـ طبقاً للتفسير الأوّل فإنّ الجار والمجرور في (على أن نبدّل) متعلّق بـ (قدّرنا) والذي جاء في الآية السابقة. طبقاً للتفسير الثاني فإنّها متعلّقة بـ (مسبوقين) (يرجى الإنتباه).
والتي هي الهدف لحياة وفناء هذه الدنيا، ومن البديهي لأي شخص لم يرَ الدار الآخرة أنّه لن يستطيع إدراكها ومعرفة قوانينها والأنظمة المسيطرة عليها من خلال الألفاظ والصور التي تنقل لنا عنها، نعم إنّنا نستطيع أن نرى شبحها وظلالها فقط من التصوير اللفظي لها، ولذا فإنّ الآية أعلاه تعكس هذه الحقيقة، حيث تذكر أنّ الله سيخلقنا في عالم جديد وبأشكال وظروف جديدة لا ندرك أسرارها(1).
وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يتحدّث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول: (ولقد علمتم النشأة الاُولى أفلا تذكّرون).
هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين:
الاُولى: في المثال التالي: إذا كنا نسير في صحراء وشاهدنا قصراً مهيباً عظيماً مثيراً للإعجاب في محتوياته ومواد بنائه وهندسته، وقيل لنا: إنّ الهدف من هذا القصر هو إستعماله كمحطّة للراحة والهدوء لعدّة ساعات فقط لقافلة صغيرة .. فإنّنا سنحكم في أنفسنا بصورة قاطعة على عدم الحكمة في هذا العمل، إذ من المناسب لمثل الهدف المتقدّم ذكره أن تُعد خيمة صغيرة فقط.
وعلى هذا فإنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها من أجرام سماوية وشمس وقمر وأنواع المخلوقات الأرضية الاُخرى، هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيّام؟ كلاّ ليس كذلك، وإلاّ فانّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف ـ مثل الإنسان ـ ليعرف الله سبحانه من خلالها، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة، فالهدف إذن هو الدار الآخرة، وهذا دليل آخر على المعاد.
وهذا البيان هو ما نجده في الآية الشريفة: (وما خلقنا السماء والأرض وما
1 ـ إعتبر البعض أنّ الآية هي إشارة إلى مسخ الأقوام السابقين في هذا العالم، حيث إنّ الله سبحانه قد مسخهم بأشكال لا يعلمونها، إلاّ أنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية.
بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا).(1)
الثانية: هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرّر أمامنا في كلّ سنة وفي كلّ زاوية وكلّ مكان، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة قال تعالى: (إنّ الذي أحياها لمحيّ الموتى)،(2) وقد اُشير إلى هذا المعنى كذلك في الآية 6 من سورة الحجّ.
* * *
إنّ هذه المسألة تطرح عادةً في اُصول الفقه، وهي أنّنا لا نستطيع إثبات الحكم الشرعي عن طريق القياس كقولنا مثلا: (إنّ المرأة الحائض التي يجب أن تقضي صومها يجب أن تقضي صلاتها كذلك) ـ أي يجب أن تكون إستنتاجاتنا من الكلّي إلى الجزئي، وليس العكس ـ وبالرغم من أنّ علماء أهل السنّة قد قبلوا القياس في الغالب كأحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، فإنّ قسماً منهم يوافقوننا في مسألة (نفي حجيّة القياس).
والظريف هنا أنّ بعض مؤيّدي القياس أرادوا أن يستدلّوا بمقصودهم بالآية التالية: (ولقد علمتم النشأة الاُولى) أي قيسوا النشأة الاُخرى (القيامة) على النشأة الاُولى (الدنيا).
إلاّ أنّ هذا الإستدلال عجيب، لأنّه أوّلا: إنّ المذكور في الآية هو إستدلال عقلي وقياس منطقي، ذلك أنّ منكري المعاد كانوا يقولون: كيف تكون لله القدرة على إحياء العظام النخرة؟ فيجيبهم القرآن الكريم بالمفهوم التالي: إنّ القوّة التي
1 ـ سورة ص، 37.
2 ـ فصّلت، 39.
كانت لها القدرة على خلقكم في البداية هي نفسها ستكون لها القدرة لخلقكم مرّة ثانية، في الوقت الذي لا يكون القياس الظنّي بالأحكام الشرعية بهذه الصورة أبداً، لأنّنا لا نحيط بمصالح ومفاسد كلّ الأحكام الشرعية.
وثانياً: إنّ من يقول ببطلان القياس يستثني قياس الأولوية، فمثلا يقول تعالى: (ولا تقل لهما اُف ولا تنهرهما) ونفهم بطريق أولى ألاّ نؤذيهما من الناحية البدنية. والآية مورد البحث من قبيل قياس الأولوية وليس لها ربط بالقياس الظنّي مورد الخلاف والنزاع، لأنّه لم يكن شيء من المخلوقات في البداية، والله عزّوجلّ خلق الوجود من العدم وخلق الإنسان من التراب، ولذا فإنّ إعادة الإنسان إلى الوجود مرّة اُخرى أيسر من خلقه إبتداءاً، وتعكس الآية الكريمة التالية هذا المفهوم حيث يقول تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه).(1)
وننهي حديثنا هذا بالحديث التالي: «عجباً كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الاُخرى وهو يرى النشأة الاُولى، وعجباً للمصدّق بالنشأة الاُخرى وهو يسعى لدار الغرور»(2).
* * *
1 ـ الروم، 27.
2 ـ ذكر هذا الحديث في تفسير روح البيان وروح المعاني والقرطبي والمراغي بإختلاف مختصر بعنوان خبر، وبدون تصريح باسم الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ ظاهر تعبيراتهم أنّ الحديث للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي كتاب الكافي أيضاً نقل القسم الأوّل من هذا الحديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام).
أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( 63 ) ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّرِعُونَ ( 64 )لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَـهُ حُطَـماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( 65 ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 )بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 67 )
إستعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلّة من الأدلّة السبعة التي جاء ذكرها في هذه السورة حول المعاد، والآيات ـ مورد البحث واللاحقة لها ـ تستعرض الأدلّة الاُخرى المتبقّية والتي كلّ منها مصداق لقدرة الله اللا متناهية.
فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية، والثاني يرتبط بخلق الماء، والثالث يتعلّق بالنار. وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسيّة في الحياة الإنسانية، فالحبوب النباتية أهمّ مادّة غذائية للإنسان، والماء أهمّ عنصر للحياة، والنار أهمّ وسيلة لإصلاح المواد الغذائية وسائر اُمور الحياة الاُخرى.
يقول سبحانه في البداية: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون).
الملفت للنظر هنا أنّ الآية إستعملت تعبير (تحرثون) من مادّة (حرث) على وزن (درس) وهو يعني الزراعة ونشر الحبوب وتهيئتها للإنبات، وفي الآية الثانية كان التعبير بـ (تزرعونه) من مادّة «زراعة» بمعنى النمو والنضج.
ومن البديهي أنّ عمل الإنسان هو الحرث فقط، أمّا النمو فهو من عمل الله سبحانه فقط، ولذا نقل في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت، فإنّ الزارع هو الله»(1).
شرح هذا الدليل هو أنّ عمل الإنسان في الزرع كعمله في الإنجاب حيث ينثر البذرة ويتركها، والله سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة، فعندما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء، فإنّها تستفيد إبتداءاً من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعماً وتولّد جذراً، ثمّ تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض حيث تعمل أجهزة عظيمة وتحدث تغييرات عميقة في داخل النبات، تتمخّض عن أغصان وسيقان وأوراق وثمار .. وأحياناً تنتج البذرة الواحدة عدّة آلاف من البذور(2).
يقول العلماء: إنّ التركيبات الموجودة في بناء نبات واحد أعجب وأعقد بمراتب من التشكيلات الموجودة في مدينة صناعية عظيمة مع معاملها المتعدّدة.
هل أنّ القوّة التي لها مثل هذه القدرة تعجز عن إحياء الموتى مرّة اُخرى؟
وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول: (لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون).
نعم، يستطيع الباريء أن يرسل رياحاً سامّة تقتل البذور قبل الإنبات
1 ـ القسم الأوّل من الحديث جاء في تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل القسم الثاني في روح البيان كإضافة عليه.
2 ـ بالرغم من أنّ الحبّة الواحدة من الحنطة لا تنبت سوى عدّة مئات من الحبوب، إلاّ أنّه كما قلنا في ج2 من هذا التّفسير: أنّه قد وجد في بعض مزارع القمح في إحدى المحافظات الجنوبية لإيران أنّ سنبلة واحدة تحوي على أربعة آلاف حبّة وذلك طبقاً لما أعلنته منشورات صحفية.
وتحطّمها، أو يسلّط عليها آفة تتلفها بعد الإنبات كالجراد، أو تنزل عليها صاعقة كبيرة بحيث لا تبقي ولا تذر إلاّ شيئاً من التبن اليابس، وعند ذلك تضطربون وتندمون عند مشاهدتكم لمنظرها.
هل كان بالإمكان حدوث مثل هذه الاُمور إذا كنتم أنتم الزارعون الحقيقيون؟ إذاً فاعلموا أنّ كلّ هذه البركات من مصدر آخر.
«حطام»: من مادّة (حطم) على وزن (حتم) تعني في الأصل كسر الشيء، وغالباً ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة، والمقصود هنا هو التبن.
ويحتمل أيضاً أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها(1).
«تفكّهون»: من مادّة (فاكهة) بمعناها المتعارف، كما تطلق فكاهة على المزاح وذكر الطرائف التي هي فاكهة جلسات الاُنس، ويأتي هذا المصطلح أحياناً للتعجّب والحيرة، والآية مورد البحث من هذا القبيل.
في بعض الأحيان يضحك الإنسان في الحالة العصبية وتسمّى هذه الضحكة بـ (ضحكة الغضب) كما في المزاح الذي يكون عند الظروف الصعبة والمصائب الثقيلة، وبناءً على هذا فالمقصود: بالفكاهة ـ أحياناً ـ هو المزاح المقترن بالألم.
نعم تتعجّبون وتغمركم الحيرة وتقولون (إنّا لمغرمون(2) (3) بل نحن محرمون).
وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدّي يؤكّد لنا أنّ جميع اُمور الخلق من الله سبحانه، وكذلك فإنّه هو الذي ينبت من بذرة لا قيمة لها
1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث.
2 ـ لجملة (إنّا لمغرمون) محذوف، تقديره (وتقولون إنّا لمغرمون).
3 ـ «مغرمون»: من مادّة (غرامة) بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.
نباتات طريّة وأحياناً مئات أو آلاف البذور منها، تلك النباتات التي يتغذّى عليها الإنسان بشكل أساسي ويستفيد من أغصانها وأوراقها وأحياناً جذورها وبقيّة أجزائها غذاء للحيوان ودواء للأمراض والأسقام.
* * *
أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ ( 78 ) ءَأَنتُمْ أَنزَلُْتمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ( 69 ) لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ( 70 )أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ ( 71 ) ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ( 72 )نَحْنُ جَعَلْنَـهَا تَذْكِرَةً وَمَتَـعاً لِّلْمُقْوِينَ ( 73 )فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ( 74 )
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة، التي تبيّن قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، بل في كلّ شيء.
(أفرأيتم الماء الذي تشربون).
(أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون).
«مزن»: على وزن (حزن) كما يقول الراغب في المفردات تعني (الغيوم
البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة)(1).
إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام إستفسارات عدّة كي تأخذ إقراراً منه، حيث يسأل الله سبحانه: هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه بإستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟
وهل تدبّرتم من الذي يأمر الشمس بالشروق على صفحات المحيط حيث تفصل جزئيات الماء الخالص الحلو والطاهر من بين المياه المالحة؟
وهل علمتم من الذي يحمل هذا البخار نحو السماء؟
ومن الذي يأمر البخار بالتجمّع وتشكيل غيوم الأمطار؟
ومن الذي يأمر الرياح بالتحرّك وحمل الغيوم إلى الأراضي القاحلة والميتة؟
ومن الذي يمنح للطبقات العليا في الجوّ هذه الخاصيّة من البرودة بحيث تمنح إستمرار صعود البخار نحو الأعلى، كي يتحوّل البخار إلى قطرات صغيرة وملائمة تسقط على الأرض بهدوء وتعاقب؟
وهل نعلم ماذا سيحدث لو إنقطعت الشمس عن الشروق لمدّة سنة واحدة؟
أو توقّفت الرياح عن التحرّك؟
أو رفضت الطبقات العليا حفظ البخار من الصعود إلى الأعلى؟
أو حبسته من النّزول إلى الأرض؟
لا شكّ أنّ الذي سيحدث يمثّل كارثة، حيث يموت الزرع والنخيل وتهلك مزارعكم وحدائقكم وحيواناتكم، بل ستهلكون أنتم من الظمأ أيضاً.
إنّ القوّة التي أعطت هذه القدرة ومنحت كلّ هذه النعم والبركات العظيمة، بما أودعته من قوانين ونظم في عالم الخلق، أتظنّون أنّها غير قادرة على إحياء الموتى؟
![]() |
![]() |
![]() |