وهنالك رأي ثالث يذهب إلى أنّ المقصود بكلمة (واحداً) ليس هو الواحد العددي، بل مرادهم الواحد النوعي، أي انّه فرد من نوعنا وجنسنا ونوع البشر لا

[325]

يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية حيث مقتضى ضرورة التبليغ للرسالات السماوية ـ حسب رأيهم ـ أن يكون النّبي أو الرّسول (ملكاً).

وطبعاً يمكن الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة ..

وعلى كلّ حال، فإنّ إدّعاءات قوم صالح كانت واهية وغير منطقية.

(سعر) على وزن (حُمُر) جمع سعير، وفي الأصل بمعنى إشتعال النار وهيجانها، وفي بعض الأحيان بمعنى (جنون) لأنّ الإنسان المجنون يكون في حالة هيجان خاصّة، لذا يقال في بعض الأحيان ناقة مسعورة.

ويحتمل أنّ قوم ثمود أخذوا هذا التعبير من نبيّهم (صالح) (عليه السلام) حيث كان يقول لهم: إذا لم تتخلّوا عن عبادة الأصنام وتستجيبون إلى دعوة الله فإنّكم في «ضلال وسعر»، وكان ردّهم: (أبشراً منّا واحداً نتّبعه إنّا إذاً لفي ضلال وسُعُر)وعلى كلّ حال فإنّ ذكر كلمة (سعر) بصيغة الجمع جاءت هنا للتأكيد والإستمرار، سواء كان معناها الجنون أو إشتعال النار.

وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون: إذا اُريد نزول الوحي على إنسان، فلماذا اختّص بصالح من بيننا، مع وجود الشخصيات الأكثر مالا والأقوى إعتباراً: (أاُلقي الذكر عليه من بيننا).

وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكّة، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة النّبي بأقوال مماثلة: (ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).(1)

وتارةً يقولون: (لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).(2)

ثمّ تساءلوا: إذا قدّر لبشر أن يتصدّى لمهمّة الرسالة الإلهيّة، فلماذا كان الإختيار لأشخاص مغمورين ليس لهم ظهير من عشيرة ولا كثرة من مال ...


1 ـ الفرقان، 7.

2 ـ الزخرف، 31.

[326]

هذه الإشكالات التي تحكي السطحية في التفكير كانت تتناقلها وتتداولها أجيال المشركين جيلا بعد جيل للتشكيك في الرسالات الإلهية، وذلك لتصوّرهم أنّ من كان خلال إفتراضهم أنّ من يتصدّى لهذه المهمّة لابدّ أن يكون ذا قوّة وقوم ومال ونسب وجاه ومنصب فهو شخصية مهمّة، وهذه الاُمور تدلّ على شخصية وكرامة الإنسان، في حين أنّ أكثر العناصر الظالمة والمتجبّرة هي المتّصفة بالصفات السابقة.

ويمكن تفسير الآية أيضاً ـ كما إختاره بعض المفسّرين ـ على ضوء التساؤلات التي أطلقها قوم ثمود والتي تتركّز بما يلي: ما هي علّة نزول الوحي على صالح (عليه السلام)؟ ولماذا لم ينزل علينا جميعاً؟، وما هي المميّزات التي إختصر بها صالح (عليه السلام) ليتميّز علينا بهذا الخصوص!؟ وهذا المعنى ورد أيضاً في سورة المدثر، الآية 52 حيث يقول سبحانه في ذلك: (بل يريد كلّ امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة).

ثمّ تختتم الآية بقوله سبحانه: (بل هو كذّاب أشر) وذلك إتّهاماً لصالح (عليه السلام)بالكذب فيما ادّعاه من إختصاص من الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كلّ اُمورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته ..

(أشِر) وصف من مادّة (أشر) على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحدّ.

ويردّ الباريء عزّوجلّ عليهم بصورة قاطعة بقوله: (سيعلمون غداً من الكذّاب الأشر).

وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رماداً، وبعد أن يجازيهم الله بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء الله المقرّبين، وسيعلمون أيضاً أنّ هذه الإفتراءات هي أحقّ بهم وألصق.

[327]

ومعلوم أنّ المراد من «غدا» هو المستقبل القريب، وإنّه حقّاً لتعبير رائع.

والسؤال المطروح هنا: في الوقت الذي نزلت هذه الآيات على قوم ثمود كان العذاب قد وقع عليهم مجازاة لأعمالهم، فما معنى (سيعلمون) مع أنّهم قد هلكوا؟.

هنالك إجابتان على هذا السؤال:

الاُولى: إنّ حديث الآيات الكريمة كان موجّهاً للنبي صالح (عليه السلام)، ومن المعلوم أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم حينئذ.

الثّانية: إنّ المقصود من (غداً) هو يوم القيامة الذي سيظهر فيه كلّ شيء بوضوح. (والتّفسير الأوّل هو الأنسب عند ملاحظة الآيات اللاحقة).

وهنا يطرح تساؤل آخر: لماذا قال تعالى: (سيعلمون غداً)؟ في الوقت الذي لمس مشركو قوم ثمود صدق دعوة النّبي صالح (عليه السلام) لما شاهدوه من معجزاته غير القابلة للإنكار؟

ويتّضح الجواب على هذا التساؤل إذا علمنا أنّ للعلم مراتب، ويمكن إنكاره من قبل الآخرين في بعض مراتبه، وقد يصل العلم بهم إلى مرتبة، لا يمكن إنكارها لما تمثّله من حقيقة صارخة متجسّدة للعيان، والمقصود هنا من جملة: (سيعلمون غداً) هو العلم الحقيقي الذي لا يمكن إنكاره، والذي هو حقيقة العذاب الذي سيحلّ بقوم ثمود بصورة لا ريب فيها مطلقاً.

ثمّ يشير سبحانه إلى قصّة «الناقة» التي اُرسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالح (عليه السلام) حيث يقول: (إنّا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر).

(الناقة) اُنثى البعير، وهي ليست كبقيّة النوق لما تتّصف به من خصوصيات خارقة للعادة، وطبقاً للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجّة دامغة للمنكرين والمعاندين.

معنى «الفتنة» ـ كما مرّ في بحث سابق ـ هو التمحيص والإختبار، وإكتشاف مدى الإخلاص والصفاء والإستقامة عند الإنسان.

[328]

ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جعلوا أمام إمتحان عسير، حيث يستعرض سبحانه هذا الإختبار لهم بقوله: (ونبئّهم أنّ الماء قسمة بينهم كلّ شرب محتضر)(1)يوم لهم ويوم للناقة.

ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، ولكن كما يذكر الكثير من المفسّرين فإنّ ناقة صالح (عليه السلام) كانت تشرب كلّ الماء يوم يكون شربها، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه، ولذلك فإنّهم إقترحوا حلا وهو: أن يكون الماء يوماً لهم وآخر للناقة.

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء القوم وقعوا في مضيقة من ناحية الماء، ولم يطيقوا وجود الناقة ومشاطرتها لمائهم يوماً كاملا خصوصاً ما يحتمله بعض المفسّرين من شحّة الماء في القرية (مع العلم أنّ هذا لا يتناسب مع ما ذكر في الآيات (146 ـ 148) من هذه السورة، حيث المستفاد من هذه الآيات أنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض مليئة بالبساتين والعيون).

وعلى كلّ حال فإنّ قوم ثمود المتمردّين عقدوا العزم على قتل الناقة، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم صالح (عليه السلام) من مسّها بسوء، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك.

ونظراً لإستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها) يقول الله سبحانه: (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر).

ويمكن أن يكون المراد بـ (صاحب) أحد رؤساء ثمود، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ بـ (قدارة بن سالف)(2).


1 ـ «محتضر» إسم مفعول من مادّة (حضور) و (شرب) بمعنى السهم والنوبة الخاصّة بالماء، وبناءً على ذلك فإنّ مفهوم جملة (كلّ شرب محتضر) أي أنّ نوبة كلّ شخص من الماء حاضرة له، ولا يحقّ للآخرين الحضور والتزاحم عليها.

2 ـ قدارة على وزن (منارة) ـ كان رجلا قبيح الشكل والسيرة، ومن أكثر الأشخاص شؤماً في التاريخ.

[329]

و (تعاطى) في الأصل بمعنى تناول الشيء، أو تبنّى الموضوع وتقال أيضاً عند إنجاز الأعمال المهمّة والخطيرة وكذلك الأعمال الشاقّة، أو العمل المقابل بعوض.

كلّ هذه التفاسير تجمّع في الآية مورد البحث، لأنّ الإقدام على القتل يستدعي جرأة وخسارة كبيرة، كما أنّه عمل شاقّ، وكذلك يستلزم اُجرة في الغالب.

(عَقَرَ) من مادّة (عقر) على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر، وإذا إستعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.

والجدير بالذكر أنّ قتل الناقة نسب لشخص واحد في هذه الآية، في الوقت الذي يلاحظ نسبة القتل في سورة (الشمس) لقوم ثمود جميعاً حيث يقول سبحانه: (فعقروها)، ويمكن تعليل هذا الأمر بأنّ فعل الشخص القاتل كان نيابة عن الجميع وبرضاهم، وكما نعلم فإنّ الذي يرضى بفعل قوم يكون شريكاً لهم فيه(1).

وجاء في بعض الرّوايات أنّ (قدارة) كان قد شرب مسكراً، وقد أقدم على هذا العمل القبيح والجناية الكبيرة وهو في هذه الحالة.

وفي طريقة قتل الناقة أقوال كثيرة، حيث يذهب البعض إلى أنّ قتلها كان بالسيف، ويقول البعض الآخر: إنّ (قدارة) قد نصب لها كميناً وراء صخرة وضربها بالسهم أوّلا ثمّ هجم عليها بالسيف.

وتأتي الآية الكريمة اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم، حيث يقول سبحانه: (فكيف كان عذابي ونذر) ثمّ وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردّين المعاندين حيث يضيف سبحانه: (إنّا أرسلنا عليهم


1 ـ كما بيّنا شرح هذا الموضوع تحت عنوان (الإرتباط الرسالي) في الآية 65 سورة هود.

[330]

صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر).

«الصيحة» هنا تعني الصوت العظيم الذي يأتي من السماء، ويحتمل أن يكون إشارة للصاعقة المخيفة التي ضربت قريتهم، حيث يقول سبحانه: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).(1)

(الهشيم) من مادّة (هشم) على وزن «حسم» وفي الأصل بمعنى إنكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات، وتطلق عادة على النباتات اليابسة المتكسّرة التي يهيؤها الرعاة لمواشيهم بعد سحقها، كما تطلق أحياناً على النباتات اليابسة المسحوقة بأرجل الحيوانات في الحضيرة.

(محتظر) في الأصل من مادّة (حظر) على وزن (حفز) بمعنى المنع، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها، ومفردها (الحظيرة)، و «محتظر» على وزن محتسب ـ هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.

والإستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّاً ومعبّر للغاية، حيث لم يرسل الله لهم جيوشاً من السماء أو الأرض للتنكيل بهم، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة، فكانت صاعقة رهيبة، أخمدت الأنفاس، وكان إنفجاراً هائلا حطّم كلّ شيء في قريتهم، فأصبحت بيوتهم وقصورهم كحظيرة المواشي، وأجسادهم المحطّمة كالنبات اليابس المرضوض المهشّم.

إنّ إستيعاب هذا اللون من العذاب كان صعباً وعسيراً للأقوام السالفة، ولكنّه يسير بالنسبة لنا، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات، حيث أنّها تحطّم كلّ شيء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.


1 ـ فصّلت، 13.

[331]

ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة العذاب الإلهي التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدّين، وعلى بيوتهم وقصورهم، عسى أن يكون عبرة ودرساً للآخرين، حيث يقول سبحانه: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر).

وهكذا تنهي الآيات الكريمة هذا المشهد المثير بالتأكيد على ضرورة الإستفادة من هذه الدروس البليغة، حيث التعابير الحيوية الواضحة، والقصص المعبّرة، والإنذارات المحفّزة والتهديدات القويّة.

 

* * *

[332]

الآيات

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطِ بالنُّذُرِ ( 33 ) إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ ءَالَ لُوط نَّجَّيْنَـهُم بِسَحَر ( 34 ) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ( 35 ) وَلَقَدْ أَنَذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتََمارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 ) وَلَقَدْ رَوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ ( 37 )وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌ ( 38 ) فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ( 39 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانِ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر ( 40 )

 

التّفسير

المصير الأكثر شؤماً:

نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقويّة حول قصّة «قوم لوط» والعذاب الشديد الذي حلّ بهم، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي إستعرضتهم هذه السورة المباركة ... حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه: (كذّبت قوم لوط بالنذر).

و«نذر» كما ذُكِرَ سابقاً جمع (إنذار) وتعني التهديد والتخويف، ومن المحتمل

[333]

أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النّبي لوط (عليه السلام)لقومه، والتي كذّب بها أجمع، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوط (عليه السلام) والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية لله.

وتستعرض الآيات التالية بجمل قصيرة مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه: (إنّا أرسلنا عليهم حاصباً).

و«حاصب» تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء، والحصباء هي الحصى، ويكون المقصود: إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتّى علت أجسادهم ودفنوا تحتها، (إلاّ آل لوط نجّيناهم بسحر).

وتتحدّث الآيات القرآنية الاُخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها، وبذلك اُصيبت بكارثة الدمار الماحق ... وتتحدّث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدّة، فيقول سبحانه في ذلك: (فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود).(1)

ويثار السؤال التالي وهو: هل أنّ العذاب الذي نزّل بقوم لوط كان على نوعين: الأوّل: العاصفة التي حملت الحجارة وحصى الصحراء وقذفتهم بها. والثاني: الأحجار السماوية من السجّيل المنضود. أو أنّهما كانا نوعاً واحداً؟ حيث العواصف العظيمة المحمّلة بالحصى والحجارة المأخوذة من الصحراء ترفعه العواصف العاتية نحو السماء ليعود مرّة اُخرى إلى الأرض بعد إنخفاض العواصف باتّجاهها.

ولذا فليس من المستبعد أن تأخذ العاصفة قسماً من الحصى والحجارة


1 ـ هود، 82.

[334]

وترفعها إلى السماء بأمر من الله تعالى لتسقط مرّة اُخرى على مدنهم بعد أن أصابها الزلزال العظيم، فتطمس معالمها المدمّرة، وتمحو آثار خرائبها من على وجه الأرض، وتدفن أجسادهم وتنهي كلّ أثر لهم، كي يكونوا إلى الأبد عبرة وعظة للآخرين(1).

والذي يفهم من الآية السابقة أنّ نجاة آل لوط كان في وقت السحر، والسبب في ذلك أنّ الوعد بالإنتقام الإلهي من قوم لوط كان وقت الصبح، لذلك ـ بأمر من الله ـ قد نجت هذه العائلة المؤمنة بخروجها من المدينة آخر الليل ـ بإستثناء زوجته التي تنكّبت وأعرضت عن دعوته ـ حيث لم يمض وقت طويل حتّى نزل العذاب عليهم زلزالا وعاصفة عاتية تمطرهم بالحصى والحجارة، كما يتحدّث القرآن الكريم عن هذا المشهد المثير في سورة هود ويقول: (فأسرِ بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك إنّه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب).(2)

ومن هنا يتّضح عدم تناسب أقوال المفسّرين الذين اتّبعوا أقوال أئمّة اللغة وذلك باعتبارهم «السَحَر» ما بين الطلوعين في الآية أعلاه(3).

ويضيف الباريء عزّوجلّ بقوله: (نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر)(4).

إنّ لوطاً (عليه السلام) قد أتمّ الحجّة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم، حيث يوضّح الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر).

(بطش) على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشيء بالقوّة، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلاّ بالقوّة ليلقي جزاءه، لذلك فإنّها تعني المجازاة.


1 ـ توجد أبحاث اُخرى حول هذا الموضوع في الآية (82) من سورة هود.

2 ـ هود، 81.

3 ـ يقول الراغب في المفردات: السحر إختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار.

4 ـ نعمة مفعول به لفعل مقدّر من نفس جنسه، أو أنّه مفعول له لـ (نجّينا) الذي ورد في الآية السابقة.

[335]

(تماروا) من (تمارى) بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشكّ وإلقاء الشبهة مقابل الحقّ، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النّبي العظيم «لوط» (عليه السلام).

ولم يكتفِ هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّاً أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النّبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوط (عليه السلام)بصورة شباب وسيمين، حيث يقول سبحانه: (ولقد راودوه عن ضيفه) أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرّفهم.

لقد بلغ الألم الذي اعترى «لوطاً» (عليه السلام) حدّاً لا يطاق نتيجة هذا التصرّف القبيح والمخجل لقومه، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء. بل وأبدى إستعداده (عليه السلام) لتزويج بناته لهم ـ إن أعلنوا توبتهم ـ وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرّض لها هذا النّبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة، كما في قوله سبحانه: (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين).(1)

ولم يمض وقت طويل حتّى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه: (فطمسنا أعينهم فذقوا عذابي ونذر).

إنّ يد القدرة الإلهيّة إمتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين، وذلك بأن طمست على أعينهم، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد اُمر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا بصرهم حالا، وقيل أنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.


1 ـ الحجر، 71.

[336]

ومع أنّ القرآن الكريم لم يبيّن من هم الأشخاص الذين راودوا (الملائكة) ضيوف النّبي الكريم لوط (عليه السلام)، إلاّ أنّ من الواضح أنّه لم يكن جميع القوم، بل أوباشهم الأكثر وقاحة وإجراماً الذين تسابقوا للقيام بهذا الجرم المشين، ولذا فإنّ العذاب الذي لحقهم في طمس عيونهم يفترض أن يكون عبرة للآخرين من قومهم. وللأسف الشديد لم يكن هنالك من يتّعظ ويعتبر بهذا الدرس الإلهي البليغ، والذي كان مقدّمة للعذاب الإلهي المحتوم عليهم جميعاً.

ويقال: أنّ سبب تأخير العذاب على قوم لوط إلى الصبح، هو أنّ هذه الحادثة كانت قد وقعت قبل يوم، لذا فقد اُعطي لهؤلاء المعاندين مهلة ليلة اُخرى عسى أن يفكّروا في مصيرهم قبل نزول البلاء عليهم، ويعتبروا بهذه الثلّة السيّئة الحظّ ممّن فقدوا بصرهم.

وتذكر الرّواية أنّ الجناة الذين فقدوا بصرهم لم يتّعظوا أيضاً بما أصابهم، فقد توعّدوا آل لوط أن لا يبقوا منهم أحداً، وذلك في طريق عودتهم إلى بيوتهم وهم يتلمّسون الجدران ليهتدوا بواسطتها إلى أهليهم(1).

وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر الله بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأساً على عقب وصُبّ عليهم العذاب صبّاً مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحوّل إلى أنقاض وخرائب، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كلّ معالم الحياة لديهم حتّى لم يبق أي أثر لهم.

وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى بإختصار وتركيز (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر).

نعم، وفي لحظات قصار انتهى كلّ شيء ولم يبق لهم أثر!!


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص185.

[337]

كلمة (بكرة) تعني (أوّل اليوم) لأنّ (صبّحهم) واسع المعنى ويشمل كلّ الصباح، في الوقت الذي يقصد في الصباح هنا (أوّله).

وهل كان وقت العذاب الإلهي بداية طلوع الفجر، أو أنّه حصل في بداية طلوع الشمس؟ إنّ هذا الأمر لم يعرف بالضبط ولكن تعبير (بكرة) يتناسب أكثر مع بداية طلوع الشمس.

كلمة (مستقرّ) تعني الثبوت والإحكام، أي بمعنى (ثابت الحكم) ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو: أنّ العذاب الإلهي كان شديداً إلى حدّ أنّ أي قوّة لم تكن قادرة على مواجهته.

ويقال أنّ العذاب الدنيوي لهؤلاء القوم متّصل مع عذاب البرزخ، لذا اُطلق عليه أنّه (مستقرّ).

ثمّ يضيف سبحانه مؤكّداً ومكرّراً مرّة اُخرى قوله: (فذوقوا عذابي ونذر).

لكي لا يكون مجال للشكّ والتردّد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا، ورغم أنّ هذه الجملة ذكرت مرّتين في القصّة: (فذوقوا عذابي ونذر) إلاّ أنّه من الواضح هنا أنّ الجملة الاُولى تشير إلى العذاب الذي حلّ بالمجموعة التي إقتحمت بيت لوط (عليه السلام) وما نتج من إصابتهم بالعمى مقدّمة للعذاب العامّ، والثانية إشارة إلى العذاب الذي نزل بقوم لوط أجمع من الزلازل والدمار ومطر الحجارة.

وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر).

نعم، لم يتّعظ قوم لوط من النذر، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم؟!..

* * *

[338]

الآيات

وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 ) كَذَّبُوا بآيَـتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَـهُمْ أَخْذَ عَزِيز مُّقْتَدِر ( 42 ) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَــئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ ( 43 ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( 44 )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 ) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ( 46 )

 

التّفسير

هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة؟!

المجموعة الخامسة التي يتحدّث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصّة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الإستفادة من العبر التي جاءت فيها والإتّعاظ منها...

[339]

يقول سبحانه: (ولقد جاء آل فرعون النذر)(1).

المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلّقيه فقط، بل يشمل كلّ أتباعه بصورة عامّة، لأنّ كلمة (آل) وبالرغم من أنّها تستعمل في الغالب لأهل البيت والعائلة، إلاّ أنّ معناها أوسع من ذلك، حيث تأتي بالمعنى الذي ذكر، والقرائن العامّة في هذا المورد تؤيّد هذا المعنى الواسع لها.

(نذر) على وزن (كتب) وهي جمع نذير، وبمعنى «المنذر» سواء كان هذا المنذر إنساناً أو حادثة من الحوادث التي تحذّر الإنسان من عاقبة أعماله، وفي الحالة الاُولى يمكن أن يكون المقصود في الآية أعلاه (موسى وهارون) (عليهما السلام)، وفي الصورة الثانية إشارة إلى المعجزات التسع لموسى (عليه السلام). ومن خلال ملاحظة الآية التي بعدها تشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.

والآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين (عليهما السلام)، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول الله سبحانه: (كذّبوا بآياتنا كلّها).

نعم إنّ هؤلاء المغرورين من الجبابرة والمعاندين قد أنكروا كلّ الآيات الإلهيّة وبدون إستثناء، وحسبوها سحراً وكذباً وصدفة.

(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية، وعند ملاحظة قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات) يتبيّن لنا أنّ المقصود بـ (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى (عليه السلام)(2).


1 ـ (نذر) بالإضافة إلى كونها جمع (نذير)، فإنّها تعطي أيضاً معنى المصدر أو اسم المصدر، ولكون المصدر يطلق على المعنى الوصفي أيضاً، لذا يمكن جمع الإثنين في مفهوم واحد.

2 ـ المعجزات التسع لموسى (عليه السلام) وبالنظر إلى الآيات القرآنية المختلفة فهي عبارة عن: «تبديل العصا لثعبان عظيم» (طه / 20) (2) «يد بيضاء» ولمعان يد موسى (عليه السلام) كمصدر نور (طه / 22) (3) الطوفانات المحطّمة الأعراف / 133 (4) (الجراد) الذي سلّط على المزارع، (5) (والقمل) (وهو نوع من الآفات الزراعية)، (6) (الضفادع) التي خرجت من نهر النيل وبعد مدّة قصيرة غطّت سطحه (7) (الدم) حيث أصبح لون نهر النيل بلون الدم (الأعراف / 133)، (8)، (9) عدم نزول الأمطار ونقص الثمرات (الأعراف / 130).

[340]

إنّ الإنسان إذا كان صادقاً في البحث عن الحقيقة فانّه يكفيه أن يرى واحدة منها، وخاصّة تلك التي يسبقها إنذار، ثمّ بلاء، ثمّ زوال هذا البلاء عند دعاء النّبي الإلهي، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان، فحتّى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات لله، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى: (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) تكملة للآية مورد البحث.