Untitled Normal Page

2 ـ التّفسير الأمثل الآية أعلاه من سورة الأحزاب.

[285]

الفاسقين).

وهكذا تنزل بمثل هذا الإنسان أعظم الدواهي، حيث يحرم من الهداية الإلهية وينحرف قلبه عن الحقّ(1).

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي إستعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل الله سبحانه، إلاّ أنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه، حيث يقول سبحانه: ( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وذلك ما يوضّح أنّ الخطوة الاُولى من الإنسان نفسه، ويقول سبحانه من جهة اُخرى: ( والله لا يهدي القوم الفاسقين).

فإذا صدر من الإنسان ذنب ومعصية فقد يسلب منه التوفيق والهداية الإلهية وعندئذ يصاب بالحرمان الأكبر.

وقد بحثنا مفصّلا في هذا المجال في تفسير الآية (36) من سورة الزمر، (فراجع).

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى (عليه السلام)ومخالفتهم له، حيث يضيف تعالى: ( وإذ قال عيسى بن مريم يابني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).

وهذا بيان من عيسى (عليه السلام) أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين واُمّتين، فقد سبقته رسالة موسى (عليه السلام) وكتابه، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن هنا نلاحظ أنّ عيسى (عليه السلام) لم يكن يدّعي غير الرسالة الإلهية وفي مقطع زمني خاصّ، وأنّ ما نسب إليه من الاُلوهية، أو أنّه ابن (لله) كان كذباً وإفتراء


1 ـ «زاغوا»: من مادّة (زيغ) بمعنى الإنحراف عن الطريق المستقيم.

[286]

محضاً.

وبالرغم من أنّ قسماً من بني إسرائيل قد آمنوا بالرّسول الموعود، إلاّ أنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه، ممّا دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة، وذلك ما يجسّده قوله تعالى: ( فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين).

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرّسول العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مشركي العرب، وتركوا أوطانهم شوقاً إلى لقائه والإيمان به، حيث استقرّوا في المدينة ترقّباً لظهوره ولإجابة دعوته ..، إلاّ أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الإيمان بالرّسول الموعود وبقي الكثير من اليهود على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

ذهب بعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير في ( فلمّا جاءهم) إلى رسول الإسلام (محمّد) كما أوضحناه أعلاه، إلاّ أنّ قسماً آخر يرى أنّه يعود إلى السيّد المسيح (عليه السلام)، أي عندما أتاهم المسيح بالمعاجز الواضحة أنكروها وادّعوا أنّها سحر.

ومن خلال ملاحظة الآيات اللاحقة يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أصحّ حيث يتركّز الحديث فيها على رسالة الإسلام ورسوله الكريم.

* * *

بحوث

1 ـ الصلة بين البشارة وتكامل الدين

إنّ التعبير بـ (البشارة) عن إخبار المسيح (عليه السلام) بظهور الإسلام إشارة رائعة إلى تكامل هذا الدين قياساً لما سبقه من الأديان، إنّ دراسة الآيات القرآنية والتعاليم الإسلامية في مجال العقائد والأحكام والقوانين والمسائل الإجتماعية

[287]

والأخلاقية، ومقارنتها بما جاء في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) توضّح لنا هذه الأفضلية، وتبيّن لنا بجلاء حالة التكامل المبدئي الذي جاءت به رسالة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبالرغم من أنّ الآية المتقدّمة لم توضّح لنا موضع تثبيت هذه البشارة، وهل أنّها كانت كتاب سماوي للمسيح (عليه السلام) أم لا؟ إلاّ أنّ الآيات القرآنية الاُخرى تكشف أنّ موضع هذه البشارة هو الإنجيل نفسه يقول سبحانه: ( الذين يتّبعون الرّسول النبي الاُمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ..)(1)، وكذلك في قسم من الآيات الاُخرى(2).

2 ـ بشارة العهدين وتعبير (فارقليطا):

ممّا لا شكّ فيه أنّ (التوراة والإنجيل) اللذين بأيدي اليهود والنصارى ليسا من الكتب السماوية التي نزلت على الرّسولين الإلهيين العظيمين (موسى وعيسى)(عليهما السلام). إذ أنّها (كتب) ألّفها وجمعها بعض أصحابهم أو من أتى بعدهم.

إنّ مطالعة إجمالية لها تكشف هذه الحقيقة بوضوح، كما أنّ اليهود والمسيحيين لا ينكرون ذلك، وممّا لا شكّ فيه أنّ قسماً من تعاليم (موسى وعيسى) (عليهما السلام) قد ثبتت في هذه الكتب من خلال أقوال أتباعهم وحوارييهم، ولذا فلا يمكن إعتبار كلّ ما ورد في العهد القديم (التوراة والكتب الاُخرى المتعلّقة به)، وكذلك العهد الجديد (الإنجيل وما يرتبط به) مقبولا وصحيحاً، كما لا يمكن رفض وإنكار جميع ما ورد فيها أيضاً.

والموقف المناسب ممّا ورد فيهما هو إعتبار ما جاء فيها من التعاليم خليطاً من تعاليم النبيين (موسى وعيسى) (عليهما السلام) وأفكار أتباعهما الآخرين.


1 ـ الأعراف، الآية 157.

2 ـ الميزان، ج19، ص290.

[288]

وعلى كلّ حال فإنّنا نلاحظ تعبيرات عديدة فيها حول البشارة بظهور رجل عظيم لا تنطبق أوصافه وعلاماته إلاّ على نبيّ الإسلام الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم).

وجدير بالذكر بالإضافة إلى ما تقدّم من وجود النبؤات التي وردت في هذه الكتب والتي تنطبق على شخص الرّسول الأعظم، فقد وردت في إنجيل (يوحنا) كلمة (فارقليط)(1). ثلاث مرّات، وحينما ترجمت كانت بمعنى (المُعَزي) لنقرأ النصّ في إنجيل يوحنا: «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد»(2).

وجاء في الباب الذي بعده: «ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي»(3).

وجاء في الباب الذي يليه ما نصّه: «لكنّي أقول لكم الحقّ أنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي ولكن إن ذهبت أرسله إليكم»(4).

والجدير بالذكر أنّ في المتن السرياني للأناجيل المأخوذة من الأصل اليوناني جاء بدل (المسلّي) (پارقليطا). أمّا في المتن اليوناني فلقد جاء (پيركلتوس) وهو بمعنى الشخص (الممتدح) من منظور الثقافة اليونانية وتعادل (محمّد، أحمد).

لقد شعر أسياد المعابد والكنيسة أنّ إنتشار هذه اللفظة يوجّه ضربة قاصمة وشديدة إلى كيانهم ومؤسساتهم، لذا فقد كتبوا (پاراكلتوس) بدل (پيركلتوس) والتي هي بمعنى (المسلّي). ومع هذا التحريف الواضح الذي غيّروا فيه هذا النصّ الحيّ إلاّ أنّهم لم يستطيعوا إلغاء البشارة الصريحة بظهور نبي عظيم في


1 ـ جاء هذا التعبير في إنجيل عربي طبع في لندن في مطبعة ويليام وطسس سنة 1857م.

2 ـ إنجيل يوحنا باب 14، جملة16.

3 ـ إنجيل يوحنا، باب15، جملة26.

4 ـ إنجيل يوحنا، باب17، جملة7.

[289]

المستقبل(1).

ئوقد ذكرنا في تفسيرنا هذا شهادة حيّة لأحد القساوسة المعروفين، والذي أسلم بعد مدّة، وقد أكّد بأنّ هذه البشائر كانت حول شخص باسم (أحمد) و (محمّد)(2).

ويجدر الإنتباه إلى نصّ ما ورد في هذا الصدد في دائرة المعارف الفرنسية المترجمة حيث يقول:

(محمّد مؤسّس دين الإسلام ورسول الله وخاتم الأنبياء، إنّ معنى كلمة (محمّد) تعني المحمود كثيراً وهي مشتقّة من (الحمد) والتي هي بمعنى التجليل والتمجيد، وتشاء الصدفة العجيبة أن يذكر له إسم آخر من نفس الأصل (الحمد) ترادف لفظ (محمّد) يعني (أحمد) ويحتمل إحتمالا قويّاً أنّ مسيحي الحجاز كانوا يطلقون لفظ (أحمد) بدلا عن (فارقليطا).

و (أحمد) يعني: الممدوح والمجلّل كثيراً وهو ترجمة لفظ: (پيركلتوس) والذي وضع بديلا عنه لفظ (پاراكلتوس) إشتباهاً، ولهذا فإنّ الكتاب المسلمين الملتزمين قد أشاروا مراراً إلى أنّ المراد من هذا اللفظ هو البشارة بظهور نبي الإسلام، وقد أشار القرآن الكريم ـ أيضاً ـ بوضوح إلى هذا الموضوع في سورة الصفّ (الآية، 2)(3).

وخلاصة الحديث أنّ المقصود بـ (فارقليطا) ليس روح القدس أو المسلّي، بل هو معادل لمفهوم (أحمد)، لذا يرجى الإنتباه إلى ذلك.


1 ـ الفرقان في تفسير القرآن، ج27، وج28، ص306، في تفسير الآية مورد البحث، وجاء في هذا الكتاب المتن السرياني للجمل أعلاه بصورة دقيقة.

2 ـ راجع تفسير الآية41، من سورة البقرة.

3 ـ دائرة المعارف الكبيرة الفرنسية، ج23، ص4176.

[290]

3 ـ هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد)

إنّ الإسم المعروف للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو (محمّد) والسؤال الذي يطرح هنا أنّ الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد). فكيف يمكن التوفيق بين هذين الإسمين؟

وللإجابة على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى النقاط التالية:

أ ـ جاء في كتب التأريخ أنّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إسمين منذ الطفولة، حتّى أنّ الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (حمد) والآخر (محمّد)، الأوّل إختاره له جدّه عبدالمطلّب والآخر إختارته اُمّه آمنة.

وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيلية في سيرة الحلبي.

ب ـ والمعروف أنّ من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)باسم (أحمد) هو عمّه أبو طالب، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعاراً كثيرة يذكر فيها الرّسول الكريم بهذا الإسم كما في الأبيات التالية:

أرادوا بقتل أحمد ظالموهم وليس بقتله فيهم زعيم

وقال:

وإن كان أحمد قد جاءهم بحقّ ولم يأتهم بالكذب(1)

ولأبي طالب شعر آخر في مدح رسول الله نقله ابن عساكر في تاريخه:

لقد أكرم الله النبي محمّداً فأكرم خلق الله في الناس أحمد(2)

ج ـ كما يلاحظ هذا التعبير في شعر (حسّان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر الرّسول كقوله:

مفجعة قد شفها فقد أحمد فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد(3)

والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلا عن (محمّد) كثيرة، ولا يوجد مجال لذكرها جميعاً لذا فإنّنا سننهي بحثنا بما ورد من شعر علي بن أبي طالب(عليه السلام).

أتأمرني بالصبر في نصر (أحمد) ووالله ما قلت الذي قلت جازعاً

سأسعى لوجه الله في نصر (أحمد) نبي الهدى المحمود طفلا ويافعاً(4)

د ـ إنّ المتتبع للرّوايات التي جاءت حول معراج الرّسول كثيراً ما يلاحظ أنّ الله سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة بـ (أحمد) ومن هنا يمكن القول أنّ النبي قد إشتهر في السماء بـ (أحمد) وفي الأرض بـ (محمّد).

وجاء في حديث عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) في هذا الشأن «إنّ  لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أسماء، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن، محمّد، وأحمد، وعبدالله، ويس، ون»(5).

هـ ـ عدم إعتراض أهل الكتاب ـ وخاصّة النصارى منهم ـ على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الناحية، حيث لم يقولوا له: بعد سماع المشركين وسماعهم آيات سورة الصفّ: إنّ الإنجيل قد بشّر بمجيء (أحمد) وأنت اسمك (محمّد) وعدم الإعتراض هذا دليل على شهرة هذا الإسم بينهم، ولو وجد مثل هذا الإعتراض لنقل لنا، خاصّة أنّ مختلف الإعتراضات قد دوّنت في كتب التأريخ صغيرها وكبيرها.

لذا نستنتج من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان أحد الأسماء المعروفة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)(6).

* * *

الآيات

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلَـمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ (8) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

التّفسير

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم:

لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم ما بشّر به المسيح (عليه السلام) حول ظهور رسول الإسلام، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة.

وتبيّن الآيات ـ مورد البحث ـ عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب.

فيقول تعالى: ( ومن أظلم ممّن افترى على الله الكذب وهو يعدى إلى الإسلام).

نعم، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرّسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي الرّسول به من إعجاز سحراً، وما يتحدّث به من مبادىء إلهية سامية ضلالا وباطلا .. فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحقّ والهداية والنجاة، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: ( والله لا يهدي القوم الظالمين).

إنّ عمل الله سبحانه هو الهداية للحقّ، وإنّ ذاته المقدّسة الطاهرة هي النور والضياء السامي: ( الله نور السماوات والأرض) ولابدّ للهداية من إستعداد وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثّر فيها، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يجانبون الحقّ ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها.

والآية الكريمة تؤكّد مرّة اُخرى على حقيقة أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّها من الله سبحانه، إلاّ أنّ مقدّماتها وأرضيتها لابدّ أن تبدأ من الإنسان نفسه، ولذا فلا جبر هنا.

جملة «وهو يدعى إلى الإسلام» إشارة إلى أنّ دعوة النبي الأكرم تتضمّن السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطّم أساس سعادته بيده.

لقد تكرّرت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرّة في القرآن الكريم وكانت آخرها في الآية مورد البحث، بالرغم من أنّ ذكرها كان في موارد مختلفة حسب الظاهر.

ولعلّ هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل، وهو: هل من الممكن أن يكون (أظلم الناس) يمثّل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة، وأنّها جاءت متكرّرة بلحاظ تعدّد أقسام الظالمين؟

إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبيّن لنا أنّ السبب الأساس لذلك يرجع إلى مسألة منع الناس عن طريق الحقّ، وتكذيب الآيات الإلهية، وهذا هو منتهى الظلم، كما أنّ الصدّ عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير، يمثّل أسوأ عمل وأعظم ظلم، حيث المنع عن الخير كلّه وفي كافّة المجالات.

ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اُخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادىء السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة، حيث يقول سبحانه: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون).

وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثاً إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهاراً بعيداً عن نورها، والظهور في ظلمة الليل وعتمته.

وتأريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا .. فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح .. وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القذرة ضدّ الإسلام:

فتارةً اتّبعوا اُسلوب الأذى والسخرية.

واُخرى عن طريق الحصار الإقتصادي والإجتماعي ..

وثالثة فرض الحروب، كـ (أُحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك.

ورابعة عن طريق التآمر الداخلي، كما كان عمل المنافقين.

وأحياناً عن طريق إيجاد الإختلافات في داخل الصفّ الإسلامي.

وأحياناً اُخرى الحروب الصليبية.

وتارةً إحتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاُولى.

وأحياناً إعتماد اُسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءاً.

وتارةً التأثير على شباب هذه الاُمّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيداً عن الإلتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.

وتارةً تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والإنحراف خاصّة بين الشباب.

وتارةً السيطرة الإستعمارة عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً.

إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.

إلاّ أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية .. بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين).

نعم، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأناً غير ذلك. وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم، ولكن مع قليل من الإختلاف، حيث جاء في الآية (32) من سورة التوبة كالتالي: ( يريدون أن يطفئوا) وهنا جاء بعبارة: ( يريدون ليطفئوا).

يقول: الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الإختلاف: إنّ الآية الاُولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة، إلاّ أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.

وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام، سواء هيّأوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية ـ مورد البحث ـ حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزّوجلّ: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون).

إنّ التعبير بـ ( أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وإنتصاره، لأنّ طبيعة «الهداية» و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الإنتصار، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ. وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئاً، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة.

ومن الظريف أيضاً أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير:

الاُولى: كانت في سورة التوبة الآية (33).

والثانية: في سورة الفتح الآية (38).

والأخيرة: في هذه السورة «الصفّ».

ويجب ألاّ ننسى أنّ هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد ثبت واستقرّ في الجزيرة العربية بعد، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعاً مختلفة؟

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاُخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدّم مستمر، وقوّة يخشى منها عالميّاً.

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه. إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصّلة في تفسير الآية (23) من سورة التوبة حول المقصود من هذه الآية المباركة، وهل هو الغلبة والإنتصار المنطقي، أم غلبة القدرة والقوّة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى إرتباط هذا الإنتصار وتلك الغلبة بظهور الحجّة (عليه السلام).

* * *

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَرَة تُنجِيكُم مِّنْ عَذَاب أَلِيم(10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَمَسَـكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـتِ عَدْن ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

التّفسير

التجارة الرّابحة:

قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمّة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله، وما الآيات مورد البحث إلاّ تأكيد على هذين الأصلين، من خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهيّة في روح الإنسان، والتي هي شرط إنتصار الإسلام على كلّ الأديان، وقد اُشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية.

يقول تعالى في البداية: ( ياأيّها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم).

بالرغم من أنّ الإيمان والجهاد من الواجبات المفروضة، إلاّ أنّ الآيات هنا لم تطرحها بصيغة الأمر. بل قدّمتها بعرض تجاري مقترن بتعابير تحكي اللطف اللامتناهي للباريء عزّوجلّ، وممّا لا شكّ فيه فإنّ (النجاة من العذاب الأليم) من أهمّ اُمنيات كلّ إنسان.

ولذا فإنّ السؤال المثار هو: هل تريدون من يدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ وهو سؤال مثير لإنتباه الجميع، وقد بادر في نفس الوقت وبدون إنتظار للإجابة متحدّثاً عن هذه التجارة المتعدّدة المنافع، حيث يضيف تعالى: ( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)(7).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين، لذا يقول في نهاية الآية: ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب هم المؤمنون بقرينة قوله تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا) لكنّه في الوقت نفسه يدعوهم إلى الإيمان والجهاد.

وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى أنّ الإيمان يلزم أن يكون عميقاً وخالصاً لله سبحانه، حتّى يستطيع أن يكون منبعاً لكلّ خير، وحافزاً للإيثار والتضحية والجهاد، وبذا لا يعتدّ بالإيمان الإسمي السطحي.

أو أنّ التأكيد على الإيمان بالله ورسوله هنا، هو شرح لمفهوم الإيمان الذي عرض بصورة إجمالية في بداية الآية السابقة.

وعلى كلّ حال فإنّ الإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم وجود الوسائل والإمكانات المالية، ومن هنا فإنّنا نلاحظ أنّ البعض قادر على الجهاد بكلا النوعين (النفس والمال) وآخرين قادرون على الجهاد بالمال فقط وفي المواقع الخلفية للجبهة، وبعض آخر مستعدّ للجهاد بالنفس والجود بها في سبيل الله لأنّهم لا يملكون سواها.

إلاّ أنّ الضرورة تستلزم أن يكون هذان النوعان من الجهاد توأمين متلازمين كلّ منهما مع الآخر لتحقيق النصر، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّه تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلاّ عند توفّر الإمكانات الماديّة.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو الله سبحانه، و (البائع) هم المؤمنون، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى: ( يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيّبة في جنّات عدن ذلك الفوز العظيم)(8).

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاُخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان، وعندما يتحقّق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والإطمئنان تنشر ظلالها عليه.

ومن هنا نلاحظ أنّ أوّل هدية يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة الذنوب جميعاً ولكن هل أنّ المقصود من غفران الذنوب الذي ورد في الآية الكريمة هي الذنوب التي تختّص بحقّ الله فقط، أم تشمل ما يتعلّق بحقوق الناس أيضاً؟

ويتبيّن لنا في هذا الشأن أنّ الآية مطلقة والدليل هو عموميتها، ونظراً إلى أنّ الله سبحانه قد أوكل حقّ الناس إليهم لذا تردّد البعض في القول بعمومية الآية الكريمة، وشكّكوا في شمولها الحقّين.

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ الآيات أعلاه قد تحدّثت عن مرتكزين أساسين من مرتكزات الإيمان وهما: (الإيمان بالله والرّسول) وعن مرتكزين أساسين أيضاً من مرتكزات الجهاد وهما: (الجهاد بالمال والنفس) وكذلك عن مرتكزين من الجزاء الاُخروي وهما: (غفران الذنوب والدخول في جنّة الخلد).

كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها الباريء على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول: ( واُخرى تحبّونها نصر من الله وفتح قريب)(9).

يالها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة، ولذلك عبّر عنها الباريء سبحانه بقوله: ( الفوز العظيم) ونصر كبير. ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى: ( وبشّر المؤمنين).

وجاء في الحديث أنّه في «ليلة العقبة» ـ الليلة التي التقى بها رسول الله سرّاً بأهل المدينة قرب مكّة وأخذ منهم البيعة ـ قال «عبدالله بن رواحة» لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشترط لربّك ونفسك ما شئت.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.

قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجنّة).

قال عبدالله: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، أي لا نفسخ ولا نقبل الفسخ(10).

* * *

بحوث

1 ـ أي فتح هو «الفتح القريب»!؟

من المعروف أنّ النصر الموعود في هذه الآيات قد تحقّق مرّات عدّة، ليس في الجوانب العقائدية والمنطقية فحسب. بل في الميادين الحربية أيضاً.

وقد ذكر المفسّرون إحتمالات عديدة حول المقصود من (الفتح القريب)، فقال البعض: إنّ المراد من الفتح القريب في الآية هو (فتح مكّة). وقال آخرون: إنّ المقصود بها هو (فتح بلاد إيران والروم). وقال البعض الآخر: إنّها تشمل جميع الفتوحات الإسلامية التي منّ الله بها على المسلمين بعد الإيمان بالإسلام والجهاد من أجله بفترة وجيزة.

ولأنّ المخاطب في هذه الآية لا ينحصر بصحابة رسول الله. بل يشمل جميع المؤمنين وعلى مدى التأريخ، لذا فإنّ جملة: ( نصر من الله وفتح قريب) لها معنى واسع، وتمثّل بشارة للمؤمنين جميعاً، بالرغم من أنّ المصداق الواضح لهذه الآية كان في عصر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي وقت نزول هذه الآيات إبان فتح مكّة.

2 ـ ما هي خصائص المساكين الطيّبة؟

أكّدت الآيات الكريمة على أنّ من ضمن أنواع النعم الإلهية في الجنّة مسألة المسكن الهاديء، موضع إستقرار النفس، الذي تحيط به الحدائق من كلّ جانب في جنّات الخلد، وسبب التأكيد هنا على المسكن لأنّه يشكّل أحد العوامل الأساسية لراحة الإنسان وهدوئه، خصوصاً إذا تميّز بالطهر والنظافة من كلّ أنواع التلوّث المادّي والمعنوي، حيث يستطيع الإنسان أن يستقرّ به وينعم بطمأنينة الروح وراحة البال.

يقول (الراغب) في المفردات: معنى (الطيب) في الأصل هو الشيء الذي تلتذّ به الحواس الظاهرية والباطنية، وهذا المعنى جامع شامل لكلّ الشروط المناسبة لسكن ما.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم يرى أنّ ثلاثة اُمور أساسية توجب السكينة والطمأنينة للإنسان وهي:

ظلام الليل: ( وجعل الليل سكناً)(11).

الزوجة الصالحة: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها)(12).

البيوت السكنية قال تعالى: ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً)(13).

3 ـ الدنيا موضع تجارة أولياء الله

جاء في نهج البلاغة أنّ الإمام علي (عليه السلام) قال لرجل كثير الإدّعاء والتملّق كان يذمّ الدنيا كثيراً: «أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها المخدوع بأباطيلها أتغترّ بالدنيا ثمّ تذمّها ... إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار موعظة لمن اتّعظ بها .. إلى أن قال: ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة ..»(14).

وإذا شبّهت الدنيا بأنّها مزرعة الآخرة، فقد شبّهت أيضاً هنا بأنّها تجارة، حيث أنّ الإنسان يبيع البضاعة (رأس المال) التي أخذها من الله سبحانه يبيعها عليه تعالى شأنه بأغلى الأثمان ويستلم منه سبحانه أعظم الأرباح المتمثّلة بالنعم والهبات الإلهية المختلفة مقابل متاع حقير.

إنّ جانب الإغراء في هذه الصفقة التجارية النافعة كان من أجل تحريك وإثارة المحفّزات الإنسانية في طريق الخير وجلب النفع للإنسان ودفع الضرر، لأنّ هذه التجارة الإلهية لا تنحصر أرباحها في جلب النفع والخير فحسب، بل إنّها تدفع العذاب الأليم أيضاً.

ونظير هذا المعنى قوله تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة)(15).

وتقدّم شرح آخر في تفسير الآية الآنفة من سورة التوبة(16).

* * *

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّنَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَـهِرِينَ (14)