![]() |
![]() |
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الثامن عَشَر
مدنيّة
وعَدَدُ آيَاتِها تِسع وعشرون آية
نزلت هذه السورة في المدينة، وادّعى البعض الإجماع على ذلك، لذا فإنّ خصائصها هي نفس خصائص السور المدنية، فإنّها بالإضافة إلى تحكيم الضوابط العقائدية فإنّها تستعرض تعليمات عملية عديدة خصوصاً في المجالات الإجتماعية والحكومية، كما نشاهد نماذج لذلك في الآيات (10، 11، 25) من هذه السورة.
ونستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:
الأوّل: الآيات الاُولى من هذه السورة لها بحث جامع ولطيف حول التوحيد وصفات الله تعالى، وتذكّر ما يقرب من عشرين صفة من الصفات الإلهية، حيث تجعل الإنسان المدرك لها في مستوى عال من المعرفة الإلهيّة.
الثاني: يتحدّث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.
الثالث: يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، حيث أنّ القسم الأوّل يأخذ طريقه إلى الجنّة في ظلّ نور إيمانهم، والقسم الثاني يبقى في ظلمات الشرك والكفر، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الاُصول الإسلامية الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد.
الرابع: تتحدّث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك، وعن مصير الأقوام الضالّة من الاُمم السابقة.
الخامس: جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث حول الإنفاق في سبيل الله،
وخصوصاً في تقوية اُسس الجهاد في سبيل الله، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.
السادس: في قسم قصير من الآيات ـ إلاّ أنّه واف ومستدلّ ـ يأتي الحديث عن العدالة الإجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.
السابع: وفيه تتحدّث الآيات عن سلبية الرهبانية والإنزواء الإجتماعي وأنّ ذلك يمثّل إبتعاداً عن الخطّ الإسلامي.
ومن الطبيعي أنّ بين ثنايا هذه البحوث وردت نقاط اُخرى متناسبة شكلت في النهاية مجموعة إتّجاهات بنّاءة في مجال الإيقاظ والهداية.
وبالضمن فإنّ تسمية هذه السورة بـ (سورة الحديد) هو لما جاء في الآية 25 من السورة من ذكر كلمة الحديد.
* * *
وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد، وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبّر والتفكّر الذي يكون توأماً، مع العمل.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله)(1).
ونقل في حديث آخر عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يتلو (المسبّحات) قبل النوم (والمسبّحات هي السور التي تبدأ بـ (سبّح لله، أو يسبّح لله. وهي خمس سور: سورة الحديد والحشر والصفّ والجمعة والتغابن) ويقول: «إنّ فيهنّ آية
1 ـ مجمع البيان بداية سورة الحديد.
أفضل من ألف آية»(1).
وطبيعي أنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعيّن هذه الآية، إلاّ أنّ بعض المفسّرين إحتمل أن تكون آخر آية في سورة الحشر، بالرغم من عدم وجود دليل واضح على هذا المعنى(2).
ونقرأ حديثاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يرى القائم، وإن مات كان في جوار رسول الله».
* * *
1 ـ نفس المصدر إضافة إلى الدرّ المنثور ج6، ص17.
2 ـ مجمع البيان بداية سورة الحديد.
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (2) هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّـهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (3)
قلنا: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله، وتعمّق معرفته بذاته المقدّسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلّما تعمّق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة.
عندما سئل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد أجاب: «إنّ الله عزّوجلّ
علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى: ( قل هو الله أحد)، والآيات في سورة الحديد إلى قوله: ( عليم بذات الصدور) ومن رام وراء ذلك فقد هلك»(1).
يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الآيات تعطي للظمأى من طلاّب الحقيقة أقصى حدٍّ للمعرفة الممكنة.
وعلى كلّ حال فإنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ حيث يقول سبحانه: ( سبّح لله ما في السموات والأرض).
لقد إنتهت السورة السابقة بأمر التسبيح، وإبتدأت هذه السورة المباركة بالتسبيح الإلهي أيضاً. والجدير بالملاحظة أنّ في سور المسبّحات الخمس جاءت كلمة التسبيح ثلاث مرّات بصيغة الماضي (سبّح) في سور الحديد والحشر والصفّ، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبّح) في سور الجمعة والتغابن، وهذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ جميع الكائنات في العالم قد سبّحت وتسبّح لذاته المقدّسة في الماضي والمستقبل.
وحقيقة «التسبيح» عبارة عن نفي كلّ عيب ونقص(2) عن الذات الإلهيّة، وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كلّ عيب، حيث أنّ النظم والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات .. هذه جميعها تذكر (الله) بلسان حالها وتسبّحه وتحمده وتنزّهه وتؤكّد أنّ لخالقها قدرة لا متناهية، وحكمة لا محدودة.
ولذا جاء في نهاية هذه الآية: ( وهو العزيز الحكيم).
كما يحتمل أن تتمتّع جميع ذرّات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث
1 ـ اُصول الكافي طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج5، ص231.
2 ـ «التسبيح» في الأصل من مادّة (سبح) على وزن (مسح) بمعنى الحركة السريعة في الماء والهواء. والتسبيح أيضاً هو الحركة السريعة في مسير عبادة الله عزّوجلّ (الراغب في المفردات).
تسبّح وتحمد الله عزّوجلّ في عالمها الخاصّ، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب محدودية علمنا وإطّلاعنا.
من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية (44) من سورة الإسراء.
ويجدر الإنتباه إلى أنّ (ما) في جملة (سبّح لله ما في السماوات) لها معنى واسع بحيث تشمل كلّ موجودات العالم، أعمّ من ذوي العقول والأحياء والجمادات(1).
وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزّة والحكمة) يتطرّق إلى (مالكيّته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة، حيث يقول تعالى: ( له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير).
إنّ مالكية الله عزّوجلّ لعالم الوجود ليست مالكية إعتبارية وتشريعية، إذ أنّها مالكية حقيقيّة وتكوينيّة. وهذا يعني أنّ الله سبحانه محيط بكلّ شيء، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كلّ شيء.
إلى هنا ذُكرت في الآيتين الآنفتين ستّة أوصاف من صفاته الكريمة.
الإختلاف بين «العزّة» و «القدرة» هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).
مسألة (الإحياء والإماتة) قد ذكرت في آيات عديدة في القرآن الكريم، وفي الواقع انّهما من الموضوعات التي لم تتوضّح أسرارهما المعقّدة لأي شخص، كما
1 ـ بالرغم من أنّ (سبّح) فعل متعدٍّ بدون حرف جرّ حيث يقال مثلا سبّحوه إلاّ أنّه هنا قد عدي باللام، ومن المحتمل أن يكون ذلك للتأكيد.
لا يوجد شخص يعلم ـ بوضوح ـ حقيقة الحياة ولا حقيقة الموت، إلاّ أنّ الذي نعلمه عنهما هو آثارهما. والعجيب أنّ الحياة أقرب شيء لنا ولكنّنا لا نعرف أي شيء عن حقيقتها وأسرارها.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ جملة (يحيي ويميت) جاءت بصورة فعل مضارع ممّا يدلّل على إستمرار مسألة الحياة والموت على طول الأزمنة، وإطلاق هذين المعنيين لا يشمل حياة وموت الإنسان في هذا العالم فقط، بل يشمل كلّ حياة وممات بدءاً من الملائكة وإنتهاءاً بكلّ موجود حيّ من الحيوانات والنباتات المختلفة، كما أنّها لا تقتصر على الحياة الدنيا فقط، بل تشمل حياة البرزخ والقيامة أيضاً.
نعم، إنّ الموت والحياة بكلّ أشكالها بيد القدرة الإلهية المتعالية.
ثمّ يتطرّق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اُخرى حيث يقول: ( هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم).
الوصف هنا بـ ( الأوّل والآخر) تعبير رائع عن أزليّته وأبديّته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتّى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.
إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً.
وبناءً على هذا فإنّ التعبير بـ ( الأوّل والآخر) ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معيّنة.
والوصف بـ ( الظاهر والباطن) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية ـ أي وجود الله ـ بالنسبة لجميع الموجودات، أي أنّه أظهر من كلّ شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كلّ مكان، وهو خفيّ أكثر من كلّ شيء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.
ولقد عبّر بعض المفسّرين عن ذلك بأنّه: الأوّل بلا إبتداء، والآخر بلا إنتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.
وعبّر البعض الآخر عنه تعبيراً رائعاً آخر: الأوّل ببرّه، والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته.
وبإختصار فإنّه محيط بكلّ شيء، وإنّه (بداية ونهاية، وظاهر وباطن) عالم الوجود.
وفسّر بعض المفسّرين (الظاهر) هنا بمعنى «الغالب» (من الظهور بمعنى الغلبة) ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقول (عليه السلام) حول خلق الأرض: «هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته»(1).
ولا مانع من جمع هذين التّفسيرين.
وعلى كلّ حال فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدّمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: ( وهو بكلّ شيء عليم) إذ أنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم .. سيكون عالماً بكلّ شيء قطعاً.
* * *
من الواضح أنّ الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر، وكذا الأمر بالنسبة للموجودات الاُخرى. فمثلا: من كان في أوّل الصفّ لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في آخره، وكذلك إذا كنت ظاهراً فليس بالمقدور أن تكون
1 ـ نهج البلاغة، خطبة 186.
في نفس الوقت باطناً والعكس صحيح أيضاً. والسبب في ذلك هو محدودية وجودنا، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إلاّ أنّ الحديث عندما يكون عن صفات الله فسيتغيّر الأمر، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر والباطن، وبين البداية والنهاية، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهيّة المقدّسة اللا متناهية، ولذلك فلا عجب هنا.
وقد وردت أحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فيها توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق، ومن جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»(1).
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ليس لأوّليّته إبتداء، ولا لأزليّته إنقضاء، هو الأوّل لم يزل، والباقي بلا أجل .. الظاهر لا يقال ممّ؟ والباطن لا يقال فيم؟»(2).
ويقول الإمام المجتبى (عليه السلام) في خطبة له: «الحمد لله الذي لم يكن فيه أوّل معلوم، ولا آخر متناه ... فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفِكَرُ وخطراتها. ولا الألباب وأذهانها صفته، فتقول متى ولا بدع ممّا؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟»(3).
* * *
1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6406.
2 ـ نهج البلاغة، خطبة 163.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص236.
هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ(4) لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (5) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
تحدّثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهيّة المقدّسة، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اُخرى حيث اُشير في الآية الاُولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اُخرى من صفات جلاله وجماله.
ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام).
لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيّام) سبع مرّات في القرآن الكريم، المرّة الاُولى في الآية 54 من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد ـ الآية4).
وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلا حتّى لو بلغ ملايين السنين، وهذا التعبير يستعمل أيضاً في لغة العرب واللغات المختلفة، كما يقال مثلا: اليوم يحكم فلان، وغداً سيكون لغيره، بمعنى الدورة الزمنية.
وقد بيّنا هذا المعنى مع شرح وأمثلة في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف.
وطبيعي أنّه لا يوجد أي مانع لله عزّوجلّ من خلق جميع العالم في لحظة واحدة، ولكن في هذه الحالة سوف لا تتجلّى عظمة الله وقدرته وعلمه بشكل جيّد، وبعكس عظمة وقدرة وعلم الله بصورة أقل، ذلك خلق هذه العوالم خلال ملياردات السنين وفي أزمنة وحالات مختلفة ووفقاً لبرامج منظّمة ومحسوبة سيدلل أكثر على قدرته وحكمته، بالإضافة إلى أنّ التدرّج في الخلق سيكون نموذجاً للسير التكاملي للإنسان، وعدم السرعة والإستعجال في الوصول إلى الأهداف المختلفة.
ثمّ تتطرّق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه: ( ثمّ استوى على العرش).
إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت، وبدون شكّ فإنّ الله تعالى ليس جسماً، ولذا فليس معنى «العرش» هنا هو عرش السلطة، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.
«عرش» في اللغة بمعنى الشيء المسقوف، وتطلق أحياناً للسقف نفسه، ويعني أيضاً التخوت العالية (عرش السلاطين).
وتستعمل هذه اللفظة كناية عن القدرة أيضاً كما يقال في اللغة العربية: (فلان ثلَّ عرشه)(1).
وعلى كلّ حال ـ وخلافاً لما يتصوّره البعض ممّن أعمى الله بصيرتهم أنّه سبحانه وتعالى قد خلق العالم وتركه وشأنه ـ فإنّ زمام تدبير العالم وتسيير حكومته في كفّ قدرته، وإرتباط أنظمة العالم، بل كلّ فرد من أفراد الوجود بذاته المقدّسة، بحيث إذا أعرض لحظة واحدة عن الكائنات وقطع فيضه عنهم فإنّ الوجود سينتهي.
والتوجّه إلى هذه الحقيقة يعطي للإنسان إدراكاً وبصيرة، وهي أنّ الله تعالى في كلّ مكان ومع كلّ شيء، وهو يرى ويسمع ويراقب ويدير الوجود بحكمته ولطفه.
ثمّ يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).
وبالرغم من أنّ جميع هذه الاُمور التي ذكرت في الآيات السابقة قد جمعت في تعبير ( وهو بكلّ شيء عليم) إلاّ أنّ توضيح هذه الاُمور يعطي للإنسان توجّهاً أكثر في مجال سعة علم الله.
نعم، إنّ جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله، سواء قطرات المطر والسيول.
ومن بذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات.
ومن جذور الأشجار التي تنفذ ـ بحثاً عن الماء والغذاء ـ إلى أعماق الأرض.
ومن أنواع المعادن والذخائر التي كانت يوماً على سطح الأرض ثمّ دفنت فيها.
من أجساد الموتى وأنواع الحشرات ... نعم انّه يعلم بكلّ ذلك.
1 ـ لقد ذكرنا توضيحات أكثر حول حقيقة العرش في نهاية الآية (54) من سورة الأعراف، وفي نهاية الآية (255) من سورة البقرة.
ثمّ انّه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض.
وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور.
وبالمعادن والكنوز التي تظهر.
وبالبشر الذين ظهروا ثمّ ماتوا.
وبالبراكين التي تخرج من أعماقها.
وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها.
وبالغازات التي تتصاعد منها.
وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية .. الله تعالى يعلم بذلك جزءاً جزءاً وذرّة ذرّة.
وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعّة الشمس الباعثة للحياة.
ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية.
ومن أشعّة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض، إنّه عالم بأجزاء كلّ ذلك.
وكذلك ما يصعد إلى السماء، أعمّ من الملائكة، وأرواح البشر، وأعمال العباد، وأنواع الأدعية، وأقسام الطيور، والأبخرة، والغيوم وغير ذلك، ممّا نعلمه وممّا لا نعلمه، فإنّه واضح عند الله وفي دائرة علمه.
وإذا فكّرنا قليلا بأنّ في كلّ لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من الموجودات المختلفة، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها، وملايين الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها، حيث تخرج عن العدّ والحصر والحدّ، ولا يستطيع أي مخلوق أن يحصيها .. إذا فكّرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى إتّساع علمه سبحانه.
وأخيراً في رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمّة حيث يقول:
( وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير).
وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب بل في البقاء لحظة بلحظة ـ أيضاً ـ ونستمدّ منه العون، إنّه روح عالم الوجود، بل هو أعلى من ذلك وأسمى.
فالله معنا في كلّ الحالات وفي كلّ الأوقات، فهو معنا يوم كنّا ذرّة تراب مهملة، وهو معنا يوم كنّا أجنّة في بطون اُمّهاتنا، وهو معنا طيلة عمرنا، وفي عالم البرزخ ... فهل بالإمكان ـ مع هذا ـ ألاّ يكون مطّلعاً علينا؟
الحقيقة أنّ الإحساس بأنّ الله معنا في كلّ مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالا من جهة، ومن جهة اُخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية، لأنّ الله حاضر معنا في كلّ مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الإعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.
أجل: إنّ مسألة أنّ الله تعالى معنا دائماً وفي كلّ مكان هي حقيقة وليست كناية ومجازاً، حقيقة مقبولة للنفس ومربّية للروح، ومولّدة للخوف والمسؤولية.
ولذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ من أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله تعالى معه حيث كان»(1).
ونقرأ في حديث آخر أنّ موسى (عليه السلام) قال: «أين أجدك ياربّ، قال عزّوجلّ: ياموسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ»(2).
وفي الأساس فإنّ هذه (المعيّة) أي كون الله عزّوجلّ مع عباده، ظريفة ودقيقة بحيث أنّ كلّ إنسان مؤمن متفكّر يدركها بقدر فكره وإيمانه.
وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في
1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص171.
2 ـ روح البيان، ج9، ص351.
كلّ عالم الوجود، حيث يقول: ( له ملك السموات والأرض).
وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيّته فيقول تعالى: ( وإلى الله ترجع الاُمور).
نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبّر معنا في كلّ مكان، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.
نحن سلكنا طريق عشقه ومحبّته، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة العدم باتّجاهه، وقد سلكنا شوطاً طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود .. نحن من الله سبحانه، وإليه نرجع، لماذا؟ لأنّه هو المبدىء وإليه المنتهى.
والجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف أيضاً: ( له ملك السماوات والأرض).
ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أنّ الحديث كان ـ فقط ـ عن مسألة حياة وموت الموجودات الحيّة، وهنا نلاحظ توسّع البحث وشموليّته في رجوع كلّ شيء لله سبحانه.
وفي تلك الآيات مقدّمة عن بيان قدرة الله عزّوجلّ على كلّ شيء، وهنا مقدّمة لرجوع كلّ شيء إليه، وهاتان القضيّتان تستلزمان مالكيّة الله عزّوجلّ للأرض والسماء.
التعبير بـ «الاُمور» جاء ـ هنا ـ بصيغة الجمع، أي: أنّ جميع الموجودات ـ وليس الإنسان فحسب ـ تتحرّك باتّجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقّف.
وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية لا ينحصر ـ فقط ـ برجوع البشر إليه في الآخرة، بالرغم من أنّ موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العامّ.
وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين اُخريين بقوله تعالى: ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(1).
1 ـ «يولج» من مادّة (إيلاج) وهي الاُخرى مأخوذة من مادّة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ، والإيلاج بمعنى الإدخال والإنفاذ.
نعم، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعاً لذلك يتغيّر طول النهار والليل في السنة، وهذا التغيّر يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كلّ البركات التي تكون مختّصة في هذه الفصول لبني الإنسان.
وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو: إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات حتّى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات الحيّة الاُخرى، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجيّة، وتنتقل الموجودات رويداً رويداً من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار، ويعلن كلّ منهما وصولهما قبل مدّة حتّى يتهيّأ الجميع لذلك.
والجمع بين التّفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضاً.
ويضيف سبحانه في النهاية: ( وهو عليم بذات الصدور).
فكما أنّ أشعّة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضيء كلّ مكان، فإنّ الله عزّوجلّ ينفذ كذلك في كلّ زوايا قلب وروح الإنسان، ويطّلع على كلّ أسراره.
والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أنّ الحديث كان عن علم الله سبحانه بأعمالنا ( والله بصير عليم) وهنا الكلام عن علم الله عزّوجلّ بأفكارنا وعقائدنا وما تكنّه صدورنا، ( وهو عليم بذات الصدور).
كلمة (ذات) في الإصطلاح الفلسفي تعني (عين الشيء وحقيقته) إلاّ أنّها في اللغة بمعنى (صاحب الشيء) وبناءً على هذا فإنّ (ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والإعتقادات التي إستولت على قلوب البشر.
وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكلّ هذه الصفات الإلهيّة من أعماق نفسه، ويحسّ حضوره سبحانه في كلّ أعماله ونيّاته وعقائده، إحساساً لا يخرجه عن جادّة الطاعة وطريق العبودية، إحساساً يبعده عن طريق العصيان والسوء والإنحراف ..
* * *
قسّم الفلاسفة والمتكلّمون الصفات الإلهيّة إلى قسمين:
أحدهما: «صفات الذات» والتي تبيّن أوصاف جلاله وجماله. والاُخرى: «صفات الفعل» التي تبيّن الأفعال الصادرة من ذاته المباركة، كما جاء في الآيات الستّ في بداية هذه السورة المباركة، والتي يجدر أن تسمّى: بـ (آيات المتعمّقين) تماشياً مع حديث في هذا الصدد.
وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهيّة والأفعال بدءاً من علمه وقدرته وحكمته وأزليّته وأبديّته سبحانه، إلى خلقه وتدبيره ومالكيّته وإحاطته عزّوجلّ بكلّ الموجودات وحضوره في كلّ مكان، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا عمقاً أكثر في التوجّه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا المحدودة ليكون عوناً أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله سبحانه.
وجاء في حديث «براءة بن عازب» أنّه قال: قلت لعلي (عليه السلام): ياأمير المؤمنين، أسألك بالله ورسوله ألا خصّصتني بأعظم ما خصّك به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واختصّه به جبرائيل، وأرسله به الرحمن، فقال (عليه السلام): «إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم، فاقرأ من أوّل سورة الحديد إلى آخر ستّ آيات منها عليم بذات الصدور، وآخر سورة الحشر يعني أربع آيات ثمّ ارفع يديك فقل: يامن هو هكذا أسألك بحقّ هذه الأسماء أن تصلّي على محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا ـ ممّا تريد ـ فوالله الذي لا إله غيره لتنقلبنّ بحاجتك إن شاء الله»(1).
1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص171.
وفي عظمة هذه الآيات وأهميّة محتواها نكتفي بهذا الحديث، ويجب ألاّ ننسى أنّ إسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط، إذ يجب التخلّق بمعانيه أيضاً.
* * *
ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَـت بَيِّنَـت لِّيُخْرجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَثُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَـتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَـعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ..
يقول سبحانه في البداية ( آمنوا بالله ورسوله) إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو ـ أيضاً ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.
ثمّ يدعو إلى أحد الإلتزامات المهمّة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى: ( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه).
إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة، وهي أنّ المالك الحقيقي هو الله عزّوجلّ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة، كما وضعت كذلك بإختيار الأقوام السابقة.
![]() |
![]() |