![]() |
![]() |
![]() |
والواقع أنّ المنافقين مجموعتان:
المجموعة الاُولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً.
والثانية: كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثمّ ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.
والظاهر أنّ الآية ـ مورد البحث ـ تتعرّض للمجموعة الثانية.
وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: ( وكفروا بعد إسلامهم).
على كلّ حال فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.
ومن الواضح أنّهم غير مجبرين على ذلك، لأنّهم قد هيّأوا مقدّماته بأنفسهم.
وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً، إذ يقول تعالى: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) فهم يتمتّعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة.
( وإن يقولوا تسمع لقولهم) لأنّه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة.
وفي الوقت الذي يتأثّر الرّسول بحديث بعضهم ـ كما يبدو من ظاهر التعبير ـ فكيف بالآخرين؟!
هذا فيما يخصّ ظاهرهم، أمّا باطنهم فـ ( كأنّهم خشب مسنّدة).
فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاو منخور من الداخل، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتّعون بأيّة إستقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.
روى بعض المفسّرين في صفة رئيس المنافقين (عبدالله بن أُبي) «كان عبدالله بن اُبي رجلا جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم»(53).
وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكّل والإعتماد على الله ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اُخرى: ( يحسبون كلّ صيحة عليهم).
يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظنّ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة .. تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتّى اعتبر ذلك علامة مميّزة لهم (الخائن خائف).
وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا: ( هم العدو فاحذرهم) أي هم الأعداء الواقعيون.
ويضيف ( قاتلهم الله أنّى يؤفكون) أي كيف ينحرفون عن الحقّ.
ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار، وإنّما يريد لعنهم وذمّهم بشدّة، وهو أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذمّ بعضهم البعض.
* * *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَلَـكِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاَْعَزُّ مِنْهَا الاَْذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8)
ذكرت كتب التاريخ والتّفسير سبباً مسهباً لنزول هذه الآيات، وجاء في الكامل في التاريخ: أنّه بعد غزوة بني المصطلق إزدحم الناس على الماء، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه، فازدحم هو و «سنان الجهني» حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يامعشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يامعشر المهاجرين.
فغضب عبدالله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم «زيد بن أرقم» غلام حدث السنّ فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل) ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يارسول الله مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله: كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً قتل أصحابه؟ ولكن ائذن بالرحيل.
فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال: يارسول الله، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك ما قال عبدالله بن أُبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت، فإنّك العزيز وهو الذليل.
ثمّ قال: يارسول الله، ارفق به فوالله لقد منّ الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً.
وسمع عبدالله بن اُبي أنّ زيداً أعلم النبي قوله فمشى إلى رسول الله فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلّمت به، وكان عبدالله في قومه شريفاً، فقالوا: يارسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ.
وأنزل الله: ( إذا جاء المنافقون) تصديقاً لزيد. فلمّا نزلت أخذ رسول الله باُذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله باُذنه، وبلغ ابن عبدالله بن سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي فقال: يارسول الله، بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنّفوه)(54).
* * *
تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها، يقول تعالى: ( إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون).
لقد وصل بهم الكبر والغرور مبلغاً حرمهم من إستثمار الفرص والإستغفار والتوبة والعودة إلى طريق الحقّ والصواب. وكان «عبدالله بن اُبي» هو النموذج البارز لهذا التكبّر والطغيان، وقد تجسّد ذلك في جوابه على من طلب منه الذهاب إلى رسول الله للإستغفار، عندما قال «لقد أمرتموني أن اُؤمن فآمنت، وقلتم: أعط الزكاة فأعطيت، لم يبق بعد إلاّ أن تأمروني بأن أسجد لمحمّد».
إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والإستسلام الكامل للحقّ.
«لووا» من مادّة (لي) وهي في الأصل بمعنى برم الحبل، وتأتي أيضاً بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضاً واستكباراً.
«يصدّون» لها معنيان كما أوضحنا ذلك سابقاً، (المنع) و (الإعراض) وهذا المعنى أكثر إنسجاماً مع الآية ـ مورد البحث ـ بينما يكون الأوّل أي (المنع) منسجماً مع الآية الاُولى.
ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى: ( سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين).
بعبارة اُخرى: إنّ استغفار النبي ليس علّة تامّة للمغفرة، بل هي مقتض تؤثّر حينما تكون الأرضية مهيّأة، أي عندما يتوبون بصدق وإخلاص ويتّخذون طريقاً آخر، ويهجرون الكذب والغرور، ويستسلمون للحقّ، هنالك يؤثّر استغفار الرّسول وتقبل شفاعته.
وعبّرت الآية (80) من سورة التوبة بما يشبه ذلك حينما وصفت قسماً آخر من أهل النفاق، إذ قال تعالى: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين).
ومن الواضح أنّ العدد (سبعين) ليس هو المقصود، بل المقصود أنّ الله لن يغفر لهم مهما استغفر لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وليس كلّ المذنبين من الفسّاق، فقد جاء الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقاذ المذنبين، فالمقصود إذن هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.
والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّاً، هو قوله تعالى: ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا) فلا تعطوا المسلمين شيئاً من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرّقوا عن رسول الله.
( ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون).
إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة، ولم يعرفوا أنّ كلّ ما لدى الناس إنّما هو من الله، وكلّ الخلق عياله. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من دواعي الإفتخار والإعتزاز، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد.
ثمّ يقول تعالى في إشارة اُخرى إلى مقالة اُخرى سيّئة من مقالاتهم ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل).
وهذا نفس الكلام الذي أطلقه «عبدالله بن اُبي»، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرّسول وأصحابه من المهاجرين، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها.
ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد، لكنّه كان لسان حال المنافقين جميعاً، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي «يقولون ...» فيردّهم ردّاً حازماً إذ يقول: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا: (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم إقتصادياً أو أخرجناهم من مكّة).
وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها، فان لم تخضع لها تحاصر اقتصادياً لتركيعها.
وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجاً واحداً على مدى التاريخ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق، ولم يعلموا أنّ الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.
وهذا النمط من التفكير (رؤية أنفسهم أعزّاء والآخرين أذلاّء وتوهّم أنّهم أصحاب النعمة والآخرون محتاجون إليهم) هو تفكير نفاقي متولّد من التكبّر والغرور من جهة، وتوهّم الإستقلال عن الله عزّوجلّ من جهة اُخرى، فلو أنّهم أدركوا حقيقة العبودية ومالكية الله لكلّ شيء فمن المحال أن يقعوا في ذلك التوهّم الخطير ..
وقد عبّرت عنهم الآية السابقة بقولها: ( لا يفقهون) وهنا قالت: ( لا يعلمون). ويمكن تفسير الإختلاف في التعبير إلى ضرورات البلاغة، أو أنّه إشارة إلى صعوبة تفهّم أنّ الله مالك خزائن السموات والأرض بالشكل الحقيقي، في الوقت الذي لا يحتاج إدراك أنّ لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين إلى شيء من التعمّق والدقّة.
* * *
يمكن أن نجمل علامات المنافقين التي ذكرتها الآيات الكريمة بعشر علامات:
1 ـ الكذب الصريح والواضح ( والله يشهد أنّ المنافقين لكاذبون).
2 ـ الإستفادة من الحلف الكاذب لتضليل الناس ( اتّخذوا أيمانهم جنّة).
3 ـ عدم إدراك الواقع بسبب إعراضهم عن جادّة الصواب وطريق الهداية بعد تشخصيه ( لا يفقهون).
4 ـ تمتّعهم بظواهر مغرية وألسنة ناعمة تخفي وراءها بواطن مظلمة خاوية، فارغة، منخورة ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم).
5 ـ الحياة الفارغة في المجتمع، ورفضهم الخضوع لمنطق الحقّ، فهم كالخشبة اليابسة ( كأنّهم خشب مسنّدة).
6 ـ يغلب عليهم سوء الظنّ والخوف والترقّب لما ينطوون عليه من نزعة خيانية ( يحسبون كلّ صيحة عليهم).
7 ـ استهزاؤهم بالحقّ واستهتارهم به ( لووا رؤوسهم).
8 ـ الفسق والفجور وارتكاب المعاصي والذنوب ( إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين).
9 ـ يتملكّهم شعور بأنّ لهم كلّ شيء، وكلّ الناس في حاجة ماسّة إليهم ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا).
10 ـ يتصوّرون ويتخيّلون دائماً أنّهم أعزّاء، بينما الآخرون أذلّة ( ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل).
هذا علماً بأنّ علامات المنافقين لا تنحصر بهذه العلامات، فقد وردت علامات اُخرى في القرآن الكريم ونهج البلاغة ويمكن اكتشاف علامات اُخرى من خلال معاشرتهم. ويمكن إعتبار العلامات العشر المذكورة أهمّ تلك العلامات.
وصفهم أمير المؤمنين في إحدى خطب نهج البلاغة بقوله: «اُوصيكم عباد الله بتقوى الله واُحذّركم أهل النفاق، فإنّهم الضالّون المضلّون، والزالّون المزلّون، يتلوّنون ألواناً ويفتنون افتناناً ويعمدونكم بكلّ عماد، ويرصدونكم بكلّ مرصاد. قلوبهم دويّة وصفاحهم نقيّة، يمشون الخفاء ويدبّون الضراء، وصفهم دواء وقولهم شفاء وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء ومؤكّدو البلاء ومقنطو الرجاء، لهم بكلّ طريق صريع وإلى كلّ قلب شفيع ولكلّ شجو دموع، يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء، وإن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، ولكلّ قائم مائلا، ولكلّ حي قاتلا، ولكلّ باب مفتاحاً، ولكلّ ليل مصباحاً، يتوصّلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم، يقولون فيشبهون ويصفون فيموهون، قد هونوا الطريق وأضلعوا المضيق، فهم لمّة الشيطان وحمة النيران:
( اُولئك حزب الشيطان ألا انّ حزب الشيطان هم الخاسرون)».
1 ـ يمثّل المنافقون ـ كما ورد في مقدّمة البحث ـ الخطر الأعظم الذي يواجه المجتمع، وذلك لكونهم يعيشون داخل المجتمعات، وعلى إطّلاع بكافّة الأسرار.
2 ـ لا يمكن التعرّف عليهم بسهولة، ويظهرون من الحبّ والصداقة بحيث لا يستطيح الإنسان أن يرى ما خلفها من البغض والأحقاد.
3 ـ عدم افتضاح وجوههم الحقيقة للناس، الأمر الذي يجعل مواجهتهم بشكل مباشر عملا صعباً.
4 ـ امتلاكهم ارتباطات عديدة بالمؤمنين (إرتباطات سببية ونسبية وغيرها).
5 ـ يطعنون المجتمع بشكل مباغت ومن الخلف.
كلّ ذلك وغيره يجعل الخسائر التي تلحق بالمجتمع الإسلامي بسببهم كثيرة إلى الحدّ الذي لا يمكن تلافيها أحياناً. لهذا ينبغي وضع خطط حكيمة ودقيقة لدفع شرّهم، وإنقاذ الاُمّة من أحقادهم.
جاء في حديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي لا أخاف على اُمّتي مؤمناً ولا مشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المشرك فيخزيه الله بشركه، ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون»(55).
مرّت بحوث مفصّلة حول المنافقين في التّفسير الأمثل ذيل الآيات 8 ـ 16 ـ سورة البقرة.
وذيل الآيات 60 إلى 85 سورة التوبة.
وذيل الآيات 12 ـ 17 سورة الأحزاب.
وذيل الآية 43 ـ 45 سورة التوبة.
والخلاصة أنّ القرآن الكريم اهتمّ بهذه المجموعة اهتماماً خاصّاً أكثر من إهتمامه بأيّة فئة اُخرى.
تهبّ العواصف على مدى الحياة وتتلاطم الأمواج العاتية، ويتمسّك المؤمنون بإيمانهم، ويضعون الخطط الحكيمة للنجاة من ذلك، فمرّة بالكرّ والفرّ واُخرى بالهجمات المتتالية، ويبقى المنافق معرّضاً للعواصف لا يقوى على مصارعتها فينكسر ويتلاشى.
جاء في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتزّ حتّى تستحصد»(56).
وتعني «العزّة» في اللغة العربية القدرة والسلطان غير القابل للتصدّع والتدهور، وقد جعل القرآن الكريم العزّة من الاُمور التي يختصّ بها الله تعالى، كما في الآية العاشرة من سورة فاطر حيث يقول: ( من كان يريد العزّة فلله العزّة جميعاً).
ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين).
فأولياء الله وأحبّاؤه يقتبسون نوراً من نور الله فيأخذون عزّاً من عزّته، ولهذا فإنّ روايات إسلامية عديدة حذّرت المؤمنين من التنازل عن عزّتهم ونهتهم عن تهيأة أسباب الذلّة في أنفسهم، ودعتهم بإلحاح إلى الحفاظ على هذه العزّة.
فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين).
قال (عليه السلام) «المؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا .. المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستفلّ من دينه شيء»(57).
وفي حديث آخر له (عليه السلام) قال فيه: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال (عليه السلام): يتعرّض لما لا يطيق»(58).
وفي حديث ثالث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن اُموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم تر قول الله سبحانه وتعالى هاهنا: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين). والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا»(59).
كنّا قد تطرّقنا إلى بحث هذا الموضوع في ذيل الآية (10) سورة فاطر، في هذا التّفسير.
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـلِحِينَ (10)وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمّة التي تدفع باتّجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة ( ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاُولئك هم الخاسرون).
ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه، لكنّها يمكن أن تتحوّل إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلّق به الإنسان بشكل مفرط.
جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يجسّد هذا المعنى بأوضح وجه «ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أوّلها وهذا في آخرها، بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن»(60).
اختلف المفسّرون في معنى «ذكر الله» ففسّرها البعض بأنّه الصلوات الخمس، وقال آخرون: إنّه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضى بالقضاء، وقيل: إنّه الحجّ والزكاة وتلاوة القرآن، وقيل أنّه كلّ الفرائض.
ويبدو أنّ لـ (ذكر الله) معنى واسعاً يشمل كلّ تلك المصاديق.
ولهذا وصف القرآن الكريم اُولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنّهم «الخاسرون» فقد خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والاُمور الزائلة التي لا بقاء ولا دوام لها.
بعد هذا التحذير الشديد يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول: ( وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين)(61).
والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبّة، رغم قول البعض بأنّها تعني التعجيل في دفع الزكاة.
والطريف أنّه جاء في ذيل الآية ( فأصدّق وأكن من الصالحين) لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان، وإن فسّره البعض بأنّه أداء «مراسم الحجّ» كما عبّرت بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز.
وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد الموت، بل عند الموت والإحتظار، إذ قال: ( من قبل أن يأتي أحدكم الموت).
وقال ( ممّا رزقناكم) ليؤكّد أنّ جميع النعم ـ وليس الأموال فقط ـ هي من عند الله، وأنّها ستعود إليه عمّا قريب، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير.
على أي حال فإنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كلّ ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة. عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً، ليعوّضوا ما فات، ويأتيهم الجواب ( ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها).
وفي الآية 34 من سورة الأعراف ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
ثمّ تنتهي الآية بهذه العبارة ( والله خبير بما تعملون) فقد سجل كلّ شيء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب.
* * *
جاء في أحوال الشيخ والعالم الكبير «عبدالله الشوشتري» وهو من معاصري العلاّمة «المجلسي» أنّه كان يحبّ ولده كثيراً، فاتّفق أنّه مرض مرضاً شديداً، فلمّا حضر أبوه المرحوم الشيخ عبدالله إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة كان مشدوه البال مشتّت الشعور ـ وحينما بلغ قوله تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) في سورة المنافقون أخذ يكرّرها مرّات عديدة، وحينما سئل بعد الفراغ عن سبب ذلك قال: لقد تذكّرت ولدي حينما بلغت هذا المقطع من السورة، فجاهدت نفسي وروّضتها بتكرار هذه الآية إلى الحدّ الذي اعتبرته ميّتاً وكأنّ جثمانه أمامي فانصرفت من الآية(62).
للنفاق معنى واسع يشمل كلّ أنواع إختلاف الظاهر عن الباطن، ومصداقه البارز هو النفاق العقائدي الذي تتحدّث عنه سورة المنافقون.
أمّا النفاق العملي فهو وصف لحالة بعض الناس المؤمنين بالإسلام حقّاً، ولكنّهم يرتكبون أعمالا تناقض إعتقادهم، كالكذب ونقض العهد وخيانة الأمانة.
جاء في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف»(63).
وفي حديث آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق»(64).
وفي حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) «إنّ المنافق ينهى ولا ينتهى، ويأمر بما لا يأتي»(65).
اللهمّ، إنّ دائرة النفاق واسعة، ولا نجاة لنا منه دون لطفك ورحمتك فأعنّا على ذلك.
ربّنا، اجعلنا من الذين لا تأكلهم الحسرة عند توديعهم لهذه الدنيا.
اللهمّ، إنّ العزّة لك ولأوليائك، وخزائن السموات والأرض لك لا لغيرك. فأنزل علينا من بركاتك، ولا تحرمنا من فيض خزائنك.
أمين ياربّ العالمين.
نهاية سورة المنافقين
* * *
مَدَنِيّة
وعَدَدُ آيَاتِها ثماني عشرة آية
هناك خلاف شديد بين المفسّرين في مكان نزول هذه السورة، هل هو المدينة أو مكّة؟ علماً بأنّ الرأي المشهور هو أنّ السورة مدنية. وقال آخرون: إنّ الآيات الثلاث الأخيرة مدنيّة والباقي مكيّة.
ومن الواضح أنّ سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور المدنية، وصدرها أكثر إنسجاماً مع السور المكيّة، ولكنّنا نرى أنّها مدنية طبقاً للمشهور.
نقل «عبدالله الزنجاني» في كتابه القيّم (تأريخ القرآن) عن فهرس «ابن النديم» أنّ سورة التغابن هي السورة المدنية الثالثة والعشرون. ونظراً لأنّ مجموع السور المدنية يبلغ 28 سورة فستكون هذه السورة من أواخر السور المدنية.
ويمكن تقسيم هذه السورة من حيث المواضيع التي احتوتها إلى عدّة أقسام:
1 ـ بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال الله تعالى.
2 ـ حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين.
3 ـ في قسم آخر من السورة يجري الحديث عن المعاد، وأنّ يوم القيامة «يوم تغابن»، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة، واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم.
4 ـ الأمر بطاعة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحكيم قواعد النبوّة.
5 ـ ويأمر الله تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله، ويحذّر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات. وتختم السورة بذكر صفات الله تبارك وتعالى.
في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة»(66).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) «من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة»(67).
* * *
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (6)
تبدأ هذه السورة بتسبيح الله، الله المالك المهيمن على العالمين القادر على كلّ شيء ( يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض) ويضيف ( له الملك) والحاكمية على عالم الوجود كافّة، ولهذا السبب: ( وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير).
ولا حاجة للحديث عن تسبيح المخلوقات جميعاً لله الواحد الأحد بعد أن تطرّقنا إلى ذلك في مواضع عديدة، وهذا التسبيح ملازم لقدرته على كلّ شيء وتملّكه لكلّ الأشياء، ذلك لأنّ كلّ أسرار جماله وجلاله مطوية في هذين الأمرين.
ثمّ يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: ( هو الذين خلقكم) وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار ( فمنكم كافر ومنكم مؤمن).
وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له في هذا الجو مبرّراً كافياً ومعنى عميقاً ( والله بما تعملون بصير).
ثمّ يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية اللاحقة: ( خلق السموات والأرض بالحقّ).
فإنّ هذا الخلق الحقّ الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة، حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة ص: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا).
ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس، يقول تعالى: ( وصوّركم فأحسن صوركم). لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه. وأخيراً تنتهي الاُمور إليه تعالى ( وإليه المصير).
![]() |
![]() |
![]() |