Untitled Normal Page

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء، وذلك لوقوع مسؤولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال، كما أنّ «حقّ الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء، وإلاّ فهنّ ملزمات أيضاً في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعاً إلى التقوى واجتناب المعاصي، حيث يقول تعالى: ( اتّقوا الله ربّكم) فهو ربّكم الحريص على سعادتكم، فلا تعظوا له أمراً ولا تتركوا له طاعة، وخاصّة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثمّ يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلّق بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلّق بالزوجات، يقول تعالى: ( لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن).

ورغم أنّ كثيراً من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرّد إجراء صيغة الطلاق، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرّد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة، فهو بالإضافة إلى إسداء الإحترام إلى المرأة، يهيىء أرضية جيّدة للإنصراف والإعراض عن الطلاق، ويؤدّي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الإلتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم، يسبّب كثيراً من حالات الطلاق التي تؤدّي إلى الفراق الدائم، بينما كثيراً ما يؤدّي الإلتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدّداً.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الإحتفاظ بها في البيت، فيجيىء الحكم الخامس الإستثنائي إذ يقول تعالى: ( إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة).

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقاً، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد، وإلاّ ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام)(85).

ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يشمل كلّ بادرة للخلاف وعدم الإنسجام، فإنّ التعبير بـ «الفاحشة» يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح، وخاصّة حينما وصفها بأنّها «مبيّنة».

وربّما كان المقصود «بالفاحشة» عملا يتنافى مع العفّة، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشابه ذلك المعنى، وأنّ الغرض من «الإخراج» هنا هو الإخراج لإجراء الحدّ، ومن ثمّ الرجوع والعودة إلى البيت.

ويمكن الجمع بين هذين المعنيين.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم ـ مرّة اُخرى ـ بقوله: ( وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه). لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو إسعاد الناس أنفسهم، والتجاوز على هذه الأحكام ـ سواء من قبل الرجل أو المرأة ـ يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة، والحكمة من تشريعها، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت، يقول: ( لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً).

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت، وإظهار ندم ومحبّة كلّ واحد منهما إلى الآخر، وكذلك التفكير مليّاً في عواقب هذا العمل القبيح، خاصّة مع وجود الأطفال، كلّ هذه الأمور قد تهيىء أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدّر سماء العلاقة الزوجية.

وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)«المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب، لأنّ الله عزّوجلّ يقول: ( لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً) لعلّها تقع في نفسه فيراجعها»(86).

نعود إلى القول بأنّ التصميم على الإنفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت تأثير الهيجان والإنفعالات العابرة، التي قد تنتهي وتتبدّد بمرور الزمن (أي أثناء فترة العدّة) فإنّ التفكير جيّداً في هذا الأمر قد يؤدّي إلى رجوع أحدهما إلى الآخر، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة، ولكن بشرط أن تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدّة بشكل دقيق.

وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أنّ ذلك كلّه يرتبط بحالة «الطلاق الرجعي».

* * *

ملاحظات

1 ـ أبغض الحلال إلى الله الطلاق

ممّا لا شكّ فيه أنّ عقد الزوجية من جملة العقود والمواثيق القابلة للفسخ، فهناك حالات من الخلاف لا يمكن معها استمرار العلاقة الزوجية، وإلاّ فإنّها ستؤدّي إلى مشاكل ومفاسد خطيرة وعديدة. ولهذا نجد الإسلام قد شرّع أمر الطلاق من الناحية المبدأية.

بينما نلاحظ المجتمعات المسيحية التي منعت الطلاق ـ بأي شكل من الأشكال ـ تعيش مشاكل متعدّدة نتيجة لذلك، فغالباً ما يعيش الزوجان المختلفان حالة إنفصال وتباعد، أو حالة طلاقة من الناحية العملية، رغم عدم الإعتراف بذلك من الناحية الرسمية. وكثيراً يلجأ الزوجان إلى إختيار زوج آخر غير رسمي.

وبناءً على ذلك فإنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلاّ في الحالات التي يتعذّر فيها مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة.

ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى الله).

ففي رواية عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما من شيء أبغض إلى الله عزّوجلّ من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة، يعني الطلاق»(87).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من شيء ممّا أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق»(88).

وفي آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش»(89).

وكيف لا يكون كذلك؟! والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء، وأكثر منهم بالأطفال والأولاد، ويمكن تقسيم تلك المآسي إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ المشاكل العاطفية: ممّا لا شكّ فيه أنّ انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق والفراق، بعد حياة مشتركة عاشها الزوج والزوجة معاً، ستترك آثاراً سيّئة على الصعيد العاطفي على كلا الطرفين. وإذا أقدم أحدهما على الزواج مرّة اُخرى فسيبقى ينظر بشيء من القلق والإرتياب إلى الطرف الآخر، وربّما أعرض بعضهم عن الزواج نهائياً تحت تأثير التجربة الاُولى الفاشلة.

2 ـ المشاكل الإجتماعية: غالباً ما تحرم النساء المطلّقات من الحصول على الزوج المؤهّل والكفوء مرّة اُخرى، كما قد يواجه الرجال نفس المسألة حينما يبدأون يفكّرون بالزواج مرّة اُخرى، وقد يضطرّ هؤلاء إلى الزواج رغم عدم قناعاتهم، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان السعادة والراحة إلى الأبد. خصوصاً مع وجود أطفال من الزواج الأوّل.

3 ـ مشاكل الأطفال: وهذه أهمّ المشاكل حيث يحرم الأطفال من حنان ورعاية الاُمّ، ويعيشون في كنف زوجة أبيهم التي لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال أو تعاملهم كما تعامل أطفالها الحقيقيين. وبهذا سيعيش الأبناء فراغاً عاطفياً من هذا الجانب لا يعوّضه شيء.

وتتكرّر نفس الصورة فيما إذا حملت المرأة أطفالها معها إلى الزوج الجديد، فإنّ هذا الزوج الجديد لا يحلّ غالباً محلّ الأب الحقيقي.

وهذا لا يعني أنّه لا يوجد نساء أو رجال يمتلكون المحبّة والشفقة التي تمتلكها الاُمّهات أو الآباء تجاه أطفالهم، ولكن مثل هؤلاء الناس قليلون في المجتمع ويندر الحصول عليهم.

وبناءً على ذلك سيعيش هؤلاء الأطفال المحرومون من حبّ الاُمّ والأب عقداً معيّنة على الصعيد الروحي والعاطفي، وربّما يؤدّي إلى فقدانهم السلامة الروحية. ولهذا سيعاني المجتمع بأجمعه ـ وليس العائلة فقط ـ من هؤلاء الأطفال الذين قد يشكّلون في بعض الأحيان ظاهرة خطيرة عندما يعيشون حالة النقص وحبّ الإنتقام من المجتمع.

وعندما وضع الإسلام كلّ تلك الموانع والصعوبات بوجه الطلاق، فإنّما أراد أن يجنّب المجتمع الإسلامي الوقوع بتلك المشاكل. ولهذا السبب أيضاً نلاحظ القرآن الكريم قد حثّ بشكل صريح كلا من الرجل والمرأة على أن يتّجها إلى العائلة والأقرباء لحلّ الإختلاف والمشاكل التي قد تنشأ بينهما، عن طريق تشكيل محكمة صلح عائلية تعرض عليها الإختلافات والنزاعات بدل عرضها على المحاكم الشرعية وحصول الطلاق والإنفصال. (وضّحنا هذا الأمر ـ أي محكمة الصلح العائلية في ذيل الآية 35 سورة النساء).

وفي نفس الوقت نجد أنّ الإسلام شجّع كلّ ما من شأنه تقوية الأواصر العائلية وتقويتها، وشجب كلّ محاولة لإضعافها وتفكيكها.

2 ـ أسباب الطلاق:

لا يختلف الطلاق عن الظواهر الإجتماعية الاُخرى التي تمدّ جذورها في المجتمع وتشارك في تكوينها أسباب واُمور عديدة متشابكة. وعمليّة منعها والوقوف بوجهها تبقى بدون جدوى ما لم يتمّ النظر إليها بشكل دقيق يتناول جميع العوامل التي تقف وراءها، وهي كثيرة جدّاً منها:

أ ـ التوقّعات والآمال المفرّطة التي يبنيها كلّ واحد منهما على الطرف الثاني، فلو أنّهما جعلا توقّعهما في دائرة محدودة ومعقولة وتجنّبا التوغّل في عالم الخيال، وأدرك كلّ واحد منهما الطرف الآخر جيّداً، وحصر التوقّع في المجالات الممكنة، فحينئذ يمكن الحيلولة دون وقوع الكثير من حالات الطلاق.

ب ـ إستحكام روح طلب الماديّات ووسائل الرفاه المختلفة يجعل الإنسان ـ وخاصّة النساء ـ في حالة عدم قناعة مستمرّة، ممّا يسهّل حصول عملية الطلاق والإنفصال عند مواجهة أبسط الحوادث تحت ذرائع وحجج متنوّعة.

ج ـ تدخّلات الأقرباء في الشؤون الخاصّة للزوجين، وخاصّة تلك التدخلات في موارد الإختلافات بين الزوجين. ويعدّ ذلك من العوامل المهمّة التي تساعد على الطلاق.

ونلاحظ من خلال التجربة أنّ خلافات الزوجين إذا ما تركت لشأنها دون تدخّل من الأقارب فسوف تتلاشى وتنطفىء شيئاً فشيئاً. أمّا إذا تمّ دخول طرف من الأقارب والمتعلّقين دخولا متحيّزاً متعصّباً، فإنّه سيؤدّي إلى إشعال هذه الخلافات وتعقيدها أكثر.

ولكن هذا لا يعني أن يبعد الأقرباء أنفسهم عن هذه الإختلافات دائماً ودون إستثناء، فإنّ دخولهم حينما تكبر المشكلة وتخرج عن كونها خلافاً جزئيّاً جانبيّاً يكون لصالح العلاقة الزوجية ودوامها، خصوصاً إذا كان تدخّلا خالياً من التعصّب والإنحياز.

د ـ عدم التفات كلّ من الزوجة والزوج إلى رغبات وطلبات أحدهما من الآخر، ففي الوقت الذي يحبّ الزوج أن تكون زوجته دائماً جذّابة نظيفة، كذلك تحبّ الزوجة لزوجها أن يكون كذلك. ولكن هذه الرغبات غالباً ما تكون مكبوتة لا يحاول كلّ منهما إبرازها والإعلان عنها.

وهكذا فإنّ عدم إهتمام الأزواج بهندامهم وترك التزيين والترتيب، وعدم الإهتمام بالنظافة، كلّ تلك الاُمور تمنع الزوج أو الزوجة من الإستمرار بمشروع الزواج، خاصّة إذا كان هناك من يهتمّ بهذه المسائل في المحيط الذي يعيش فيه هؤلاء الزوجان.

لهذا نجد الروايات الإسلامية أعطت أهميّة خاصّة لهذا الجانب، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها»(90).

وجاء في حديث آخر عنه أيضاً (عليه السلام): «ولقد خرجن نساء من العفاف إلى الفجور ما أخرجهنّ إلاّ قلّة تهيئة أزواجهنّ»(91).

هـ ـ عدم تناسب المستوى الثقافي للعوائل، وكون الزوج يعيش نوعاً من الثقافة العائلية لا تنسجم مع ثقافة الزوجة العائلية. ولهذا ينبغي التدقيق في هذا الأمر قبل الإقدام على الزواج، فالمطلوب ليس فقط «الكفاءة الشرعية» أي الإلتزامات الإسلامية، وإنّجا يجب أن تتوفّر ـ أيضاً ـ «الكفاءة الفرعية» أي التماثل والتشابه في الاُمور الاُخرى بين الطرفين. وإلاّ فحدوث تصدع في العائلة غير مستبعد.

3 ـ فلسفة ضبط وإحصاء العدّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ للعدّة حكمتين أساسيتين اُشير إليهما في القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

الاُولى: مسألة حفظ النسل واتّضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه.

والاُخرى: توفير فرصة جيّدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الاُولى، والقضاء على عوامل الإنفصال التي تمّت الإشارة إليها في الآية أعلاه، علماً أنّ الإسلام يؤكّد على بقاء النساء في بيوت الأزواج أثناء العدّة، ممّا يسمح بالبحث مرّة اُخرى عن وسائل للعودة، وترك الإنفصال عن بعضهما.

وخصوصاً في حالة الطلاق الرجعي(92) حيث لا يحتاج الرجوع إلى الزوجة إلى أيّة مراسيم أو اُمور رسمية. وكلّ عمل يعتبر عودة عن هذا الطريق ولو بمجرّد وضع الرجل يده على جسم المرأة، حتّى لو كان بدون شهوة، فإنّه يعتبر رجوعاً عن الطلاق.

وإذا ما مرّت هذه الفترة (أي فترة العدّة) دون أن تظهر أي بادرة للصلح والتوافق، فهذا يعني أنّهما غير مستعدّين للإستمرار في الحياة الزوجية.

أوردنا شرحاً لهذا الموضوع في ذيل الآية (228) سورة البقرة.

* * *

الآيات

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْل مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَـدَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَـلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْء قَدْراً (3)

التّفسير

فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف:

يشير في الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة، إلى عدّة أحكام اُخرى، إذ يقول تعالى في البداية: ( فإذا بلغن أجلهنّ فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف).

المراد ببلوغ الأجل «الوصول إلى نهاية المدّة» وليس المقصود أن تنتهي العدّة تماماً، بل تشرف على الإنتهاء، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدّة غير جائز، إلاّ أن يكون إبقاؤهنّ عن طريق صيغة عقد جديدة، ولكن هذا المعنى بعيد جدّاً عن سياق ومفهوم الآية.

على أي حال فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالإنفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى اُصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديّات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الإستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الإنفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ومن اللطيف حقّاً أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والإحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضاً بإحسان ودون مشاكل، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الإنتصار والموفّقية لكلا الطرفين.

ويتّضح ممّا سبق أنّ (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة.

ثمّ يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: ( وأشهدوا ذوي عدل منكم).

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وبعض المفسّرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين: الطلاق والرجوع، غير أنّ الإشهاد ليس واجباً قطعاً في التزويج فضلا عن الرجوع. وعلى فرض أنّ المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الإستحباب.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول: ( وأقيموا الشهادة لله) حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحقّ، وينبغي أن تتمّ الشهادة لله ولإظهار الحقّ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انّه معصوم من الذنب، ولهذا يحذّرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلاّ ينحرفوا عن جادّة الحقّ بعلم أو بغير علم.

وينبغي أن يشار إلى أنّ تعبير ( ذوي عدل منكم) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً تقول الآية الكريمة: ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر).

ربّما اعتبر البعض «ذلكم» إشارة ـ فقط ـ إلى مسألة التوجّه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود، غير أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير يشمل كلّ الأحكام السابقة حول الطلاق.

وعلى أيّة حال فإنّ هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر.

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادّة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة:

( ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً) ويساعده حتماً على إيجاد الحلّ لمشكلاته.

( ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله.

( ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من اُموره.

( إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّوجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته ...

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الإعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويزرقهم من حيث لا يحتسبون.

لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد.

ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم.

وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: ( قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء.

وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم ـ وليس فقط في مسألة الطلاق ـ بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الاُمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم.

* * *

ملاحظات

1 ـ التقوى والنجاة من المشاكل

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث ـ أكثر من غيرها ـ الأمل في النفوس، وتمنح القلب صفاءً خاصّاً، وتمزّق حجب اليأس والقنوط، وتنير الأرواح بنور الأمل، إذ تعدّ كلّ المتّقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل اُمورهم.

جاء في حديث عن أبي ذرّ الغفاري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّي لأعلم آية لو أخذها بها الناس لكفتهم ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) فما زال يقولها ويعيدها»(93).

وفي حديث آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة».

وهذا التعبير دليل على أنّ تيسير اُمور المتّقين ليس في الدنيا فقط وإنّما يشمل القيامة أيضاً.

وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أكثر الإستغفار جعله الله له من كلّ هم فرجاً ومن كلّ ضيق مخرجاً»(94).

قال بعض المفسّرين: إنّ أوّل الآية السابقة نزلت بحقّ (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أُسر إبنه فجاء يشكو هذا الحادث وفقر حاله وضيق ذات يده إلى الرّسول فنصحه رسول الله بقوله: «اتّق الله واصبر، وأكثر من قول «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» ففعل ذلك وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل عليه ولده، فتبيّن أنّه قد استغفل الأعداء وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم.

لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تيسير معضلة هذا الرجل المتّقي من حيث لا يحتسب(95).

ولا يعني هذا إطلاقاً أنّ الآية تحثّ على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس في البيت والركون إلى الله وأن يردّد الإنسان قول «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» لينزل عليه الرزق من حيث لا يحتسب. إنّ ما تريد الآية الكريمة أن تركّز عليه هو أنّ السعي لابدّ أن يكون معه وإلى جانبه تقوى، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كلّ هذا حينئذ يتدخّل الباريء لفتح هذه الأبواب.

لهذا نجد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) (عمر بن مسلم) إنقطع فترة عن الإمام، قال الإمام (عليه السلام) ما فعل عمر بن مسلم (عليه السلام) قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة فقال: ويحه! أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا نزلت: ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليهم قال: «ما حملكم على ما صنعتم به» فقالوا: يارسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»(96).

2 ـ روح التوكّل

المقصود من التوكّل على الله هو أن يسعى الإنسان لأن يجعل عاقبة عمله وكدحه على الله ويوكّلها إليه، ويدعوه لتسهيل أمره، فإنّه لطيف بعباده رحيم بهم وعلى كلّ شيء قدير.

والشخص الذي يعيش حقيقة «التوكّل على الله» لا يجد اليأس إليه منفذاً، ولا يدبّ في عزمه الضعف، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت، ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوّة وإيمان راسخين. ويعطيه هذا الإيمان والتوكّل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب.

ومن جانب آخر تنهمر عليه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده الله.

ففي حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت من جبرائيل: ما التوكّل؟ قال «العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله، ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل»(97).

فالتوكّل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير على جميع أعماله. لذا نقرأ في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سأل الله عزّوجلّ في ليلة المعراج: إلهي أي الأعمال أفضل؟ قال تعالى: «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت»(98).

ومن الطبيعي أنّ التوكّل بهذا المعنى سيكون توأماً مع الجهاد والسعي وليس مع الكسل والفرار من المسؤوليات.

وقد أوردنا بحثاً آخر في هذا المجال في ذيل الآية 12 سورة إبراهيم.

* * *

الآيات

وَالَّـئِى يَئِسْنَ مِنَ الَْمحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـثَةُ أَشْهُرِ وَالَّـئِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَـتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً(5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ  وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَـتِ حَمْل فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوف وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءَاتَـهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءَاتَـهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْر يُسْراً (7)

التّفسير

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ:

من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدّة بعد الطلاق، ولمّا كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدّة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها. فقد ذكرت الآيات محلّ البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معيّنة، أو الحوامل لتكمل بحث العدّة.

يقول تعالى في بداية الأمر: ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر) فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدّة حينئذ ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهنّ العادة الشهرية بعد ( واللائي لم يحضن).

ثمّ يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا: ( واُولات الأحمال أجلهنّ حتّى يضعن حملهنّ).

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهنّ ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة ـ أي النساء الحوامل ـ تنتهي عدتهنّ بوضع الحمل، سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلا.

وقد ذكرت ثلاثة إحتمالات في معنى عبارة ( إن ارتبتم):

1 ـ الشكّ في وجود «الحمل» بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات، وستّون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الإحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر(99).

2 ـ النساء اللائي لا يعلم بأنّهنّ وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا.

3 ـ المراد هو الشكّ في حكم هذه المسألة، فحكمها كما ورد في هذه الآية.

ويبدو أنّ الأنسب والأقرب هو التّفسير الأوّل فإنّ التعبير بـ ( واللائي يئسن ...) يوحي أنّ هؤلاء النساء قد بلغن سنّ اليأس.

ويشار إلى أنّ حكم النساء اللائي غابت عنهنّ العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات، أي يعدّدن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية)(100).

جملة ( واللائي لم يحضن) يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سنّ البلوغ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية. وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية، سواءً بلغن سنّ اليأس أم لا. غير أنّ المشهور بين فقهائنا أن لا عدّة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهنّ سنّ البلوغ. ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلّوا على ذلك ببعض الروايات، كما أنّ ظاهر الآية يوافقهم. (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية)(101).

وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أنّ «أُبي بن كعب» سأل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أنّ القرآن لم يذكر عدّة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات «اليائسات» والحوامل فنزلت السابقة تبيّن أحكامهنّ(102).

ويذكر أنّ العدّة في هذا المورد إنّما تكون في حقّ النساء اللائي يحتمل في حقّهنّ الحمل، لأنّهنّ ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات، ومعنى ذلك أنّ حكمهنّ واحد(103).

وأخيراً يؤكّد مرّة اُخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى: ( ومن يتقّ الله يجعل له من أمره يسراً).

ييسّر اُموره ويسهّلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضيّة الطلاق أو في قضايا اُخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدّة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا: ( ذلك أمر الله أنزله إليكم).

( ومن يتّق الله يكفّر عنه سيّئاته ويعظم له أجراً).

قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من «السيّئات» هنا «الذنوب الصغيرة» والمقصود من «التقوى» إجتناب الذنوب الكبيرة.

وبناءً على ذلك فإنّ تجنّب الكبائر يؤدّي إلى غفران الصغائر، كما جاء في الآية 31 من سورة النساء. ولازم هذا أنّ مخالفة الأحكام في هذا المجال ـ أي في الطلاق والعدّة ـ يعدّ من الذنوب الكبيرة(104).

ورغم أنّ السيّئات تطلق أحياناً على الذنوب الصغيرة، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم، ولكنّها تطلق في آيات اُخرى على كلّ الذنوب أعمّ من الصغيرة والكبيرة، نقرأ في الآية 65 من سورة المائدة: ( ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا لكفّرنا عنهم سيّئاتهم) «وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات اُخر».

ومن المسلّم أنّ الإيمان والإسلام يؤدّيان إلى غفران الذنوب السابقة.

وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من حيث «السكن» و «النفقة» واُمور اُخرى.

يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات: ( أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم).

«وجد» على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكّن، وذكر المفسّرون تفاسير اُخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى، إذ يقول الراغب في المفردات: إنّ التعبير بـ ( من وجدكم) يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه، وبمعنى اختاروا مسكناً مناسباً قدر الإمكان للنساء المطلّقات.

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإنّ الاُمور الاُخرى من الإنفاق ستقع هي الاُخرى على عاتق الزوج، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدّث عن نفقة النساء الحوامل.

ثمّ يتطرّق تعالى لذكر حكم آخر ( ولا تضاروهنّ لتضيّقوا عليهن).

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، ممّا يؤدّي إلى إخراجكم عن جادّة الحقّ، فتحرمونهنّ حقوقهنّ الطبيعية في السكن والنفقة، وتجعلوهنّ تحت ضغوط لا يستطعن معها إلاّ الهرب وترك كلّ شيء.