![]() |
![]() |
![]() |
للقرآن الكريم منهجه المتميّز، ومن خصوصياته أنّه بعد بيان سلسلة من الاُصول العامّة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة، لكي يكون ذلك شاهداً وحجّة.
وهنا أيضاً يتجسّد هذا المنهج: حيث يشير في المقدّمة إلى إرسال الرسل مع
البيّنات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحقّ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبديّة .. ثمّ يتحدّث عن بعض الاُمم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاُسس في منهج دعوتهم.
ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحقّ، نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، حيث يقول سبحانه: ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب).
وممّا يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم، والنعم الإلهيّة الفيّاضة، والهبات والألطاف العميمة، حيث يقول عزّوجلّ: ( فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون).
نعم، لقد بدأت النبوّة بنوح (عليه السلام) توأماً مع الشريعة والمبدأ، ومن ثمّ إبراهيم (عليه السلام)من الأنبياء اُولي العزم في إمتداد خطّ الرسالة، وهكذا حلقات متواصلة على مرّ العصور والقرون، فإنّ القادة الإلهيين من ذريّة إبراهيم (عليه السلام) يتصدّون للقيام بمسؤولية الرسالة، إلاّ أنّ المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلّة أيضاً، في حين أنّ الغالبية سلكت طريق الإنحراف.
ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى (عليه السلام) آخر رسول قبل نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: ( ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا).
حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيح (عليه السلام): ( وقفّينا بعيسى ابن مريم).
«قفّينا» من (قفا) بمعنى الظهر، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضاً، وتطلق عادةً على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة، الواحد تلو الآخر، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم ..
وهذا التعبير جميل جدّاً، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة.
ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح (عليه السلام) حيث يقول: ( وآتيناه الإنجيل) ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: ( وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمة).
ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» بمعنى واحد، إلاّ أنّ قسماً آخر إعتبرهما مختلفين وقالوا: إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة.
ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً، لأنّ قصد الإنسان إبتداءً هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة.
وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه: ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)(1).
إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيح (عليه السلام) لم يذكر في هذه الآية فقط، بل ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: ( ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون)(2)
وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي» بالذات، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة، إلاّ أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.
ومن الطبيعي ألاّ يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر
1 ـ النور، الآية 2.
2 ـ المائدة، الآية 82.
الأعمال وأكثرها إجراماً وإنحطاطاً بحقّ الشعوب المستضعفة، هؤلاء الذين تلبّسوا بلباس الإنسانية، وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين بلون الدم والظلام .. ثمّ يضيف سبحانه: ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ إبتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون)(1).
وممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ هؤلاء ليسوا ممّن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيّد المسيح (عليه السلام) فقط، بل دنسوه بأنواع الشرك، ولم يراعوا أيضاً حتّى حقّ الرهبانية التي ابتدعوها باسم الزهد، حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله، وجعلوا من الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد، وأوجدوا إنحرافاً خطيراً في رسالة السيّد المسيح (عليه السلام).
ومن مفهوم الآية يتّضح لنا أنّ الرهبانية لم تكن جزءاً من رسالة السيّد المسيح (عليه السلام)، إلاّ أنّ أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده، حيث بدأت بشكل معتدل ثمّ مالت نحو الإنحراف.
وطبقاً لتفسير آخر فإنّ نوعاً من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيّد المسيح(عليه السلام)، إلاّ أنّ أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم يقرّرها الله لهم(2).
1 ـ حول تركيب ومعنى هذه الآية يوجد إختلاف كثير بين المفسّرين، حيث اعتبرها البعض عطفاً على الرأفة والرحمة، وأخذوا بنظر الإعتبار (حبّ) قبل الرهبانية تقديراً، لأنّ الرهبانية ليست شيئاً يكون في القلب، بل أنّ حبّها والتعلّق بها يكون في القلب، واعتبرها آخرون منصوبة بفعل مضمر حيث إنّ (ابتدعوها) تفسّر ذلك في تقدير: ابتدعوا رهبانية، ابتدعوها.
وبالنسبة لـ (إلاّ ابتغاء رضوان الله) توجد وجهتا نظر: الاُولى: أنّها استثناء منقطع، ومفهومه هو: (ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله). والاُخرى: أنّها استثناء متّصل ومفهومها أنّنا قرّرنا ووضعنا نوعاً من الرهبانية عليهم، والهدف من ذلك هو جلب رضى الله تعالى، ولكنّهم حرّفوا الرهبانية إلى نوع آخر كان خلافاً لرضى الله، والظاهر أنّ التّفسير الأوّل في كلا الموردين مناسب أكثر، لذا يرجى الإنتباه هنا.2 ـ طبقاً للتفسير الأوّل حسب الرأي الذي يقول بأنّه إستثناء منقطع، والتّفسير الثاني يقول بالإستثناء المتّصل.
وهذه النقطة أيضاً جديرة بالملاحظة وهي: إذا كانت الرهبانية عطف على الرأفة والرحمة كما اخترناه في المتن، فإنّ المقصود من جعلها في القلوب هو نفس الميل القلبي لهم إلى هذه المسألة، في حين أنّ المقصود من (ما كتبناها) هو أنّ مسألة الرهبانية لم تكن حكم الله في دين السيّد المسيح، بالرغم من أنّ الله تعالى قد وضع حبّها في قلوبهم، وبناءً على هذا فلا تتنافى مع جملة (ابتدعوها).والتّفسير الأوّل هو الأكثر شهرةً، والمناسب أكثر من بعض الجهات.
وعلى كلّ حال، فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح (عليه السلام)، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلاّ أنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الإنحراف ـ فيما بعد ـ وتحريف التعاليم الإلهية، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.
والتعبير القرآني بجملة: ( فما رعوها حقّ رعايتها) دليل على أنّه لو اُعطي حقّها لكانت سنّة حسنة.
وما ورد في الآية التالية التي تتحدّث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا المعنى حيث يقول تعالى: ( لتجدنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا، الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون)(1) (يرجى ملاحظة ذلك).
وهكذا يتبيّن أنّ كلمة «الرهبانية» كلّما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنّها تشكّل دليل إضافياً على صحّة الإدّعاء أعلاه، لأنّها ستكون بمعنى مستوى الرأفة والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنّها صفة حميدة.
ومختصر الكلام هو: إذا وجدت سنّة حسنة بين الناس تكون اُصولها الكليّة وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحقّ (كالزهد، مثلا، فإنّ ذلك ليس عملا قبيحاً، بل يعتبر مصداقاً من مصاديق الخطّ العام للمبدأ، خاصّة إذا لم تنسب هذه
1 ـ المائدة، الآية 82.
السنّة إلى المبدأ الإلهي .. ولسوء الحظّ فإنّ جملة من الإفراطات والتفريطات وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحوّلت إلى سنّة سيّئة.
إنّ مراسم الأعياد والتعازي والوفيّات الخاصّة بعظماء الإسلام وما يتعلّق بإحياء ذكرى الشهداء والأحبّة الراحلين ـ سواء في يوم إستشهادهم، أو اليوم السابع، أو بعد مرور أربعين يوماً من الشهادة أو الوفاة، وكذا ما يتعلّق بذكراهم السنوية ـ هو مصداق للمفاهيم الكليّة في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى، وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين، وبغضّ النظر عن الجزئيات والتفاصيل فإنّ هذه المراسم مصداق من الأصل الكلّي فقط، ولا يمكن إعتبارها مبادىء شرعية.
وكلّما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها بالخرافات والممارسات اللا شرعيّة، فإنّها ـ من المسلّم ـ مصداق لابتغاء رضوان الله، ومصداق سنّة حسنة، وفي غير هذه الصورة فإنّها ستكون بدعة الشؤم والسنّة السيّئة.
«الرهبانية» من مادّة (رهب) مأخوذة من معنى الخوف من الله، ويفهم أنّها كانت في البداية مصداقاً للزهد وعدم الإهتمام بشؤون الدنيا، إلاّ أنّها تعرّضت فيما بعد لإنحرافات واسعة، وإذا ما لاحظنا موقف الإسلام المناهض والمقاوم للرهبانية بشدّة فمن هذا الباب وبهذا اللحاظ. كما سنستعرض ذلك فيما يلي:
* * *
ذكرنا أنّ الرهبانية أخذت من «الرهبة» التي جاءت بمعنى الخوف من الله، وكما يقول الراغب في المفردات، الخوف الذي يكون ممزوجاً بالزهد
والإضطراب والترهّب يعني: (التعبّد والعبادة) .. والرهبانية بمعنى: (شدّة التعبّد).
وإذا فسّرنا الآية أعلاه بأي شكل، فإنّها ترينا أنّها كانت نوعاً من الرهبانية الممدوحة بين المسيحيين، بالرغم من أنّها لم تكن أصلا وإلزاماً فيما جاء به السيّد المسيح من عند الله تعالى، إلاّ أنّ أتباع السيّد المسيح (عليه السلام) أخرجوا (الرهبانية) من حدودها وجرّوها إلى الإنحراف والتحريف، ولهذا فإنّ الإسلام ندّد فيها بشدّة، حتّى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف: «لا رهبانية في الإسلام»(1).
ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والإنزواء الإجتماعي، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة، والعيش في محيط منزو عن المجتمع .. بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان، كما سنشير إلى جوانب منها في هذا البحث إن شاء الله.
وبالرغم من أنّ هؤلاء الرجال البعيدين عن الدنيا (الرهبان والراهبات) قد أدّوا خدمات إيجابية كثيرة كتمريض المصابين بأمراض خطرة كالجذام وما شابهه، بالإضافة إلى القيام بالتبليغ والإرشاد بين أقوام بدائية متوحّشة، وقيامهم ببرامج للدراسة والتحقيق .. إلاّ أنّ هذه الاُمور تعتبر قليلة الأهميّة قياساً إلى المفاسد التي إقترنت معها.
وأساساً فإنّ الإنسان مخلوق إجتماعي، وتكامله المادّي والمعنوي مبتن على هذا الأساس، وما جاءت به الأديان السماوية لا ينفي دور الإنسان في المجتمع، بل يحكم قواعده واُسسه بصورة أفضل.
1 ـ جاء هذا الحديث في مجمع البحرين في مادّة (رهب) كما ذكر ذلك في النهاية لإبن الأثير.
إنّ الله سبحانه أوجد الغريزة الجنسية في الإنسان لحفظ النسل، وكلّ مذهب أو قانون يتعارض مع هذه الغريزة فإنّه باطل.
الزهد الإسلامي الذي يعني البساطة في الحياة والإبتعاد عن الكماليات، وعدم الوقوع في أسر المال والموقع ـ لا يرتبط أصلا بمسألة الرهبانية، لأنّ الرهبانية تعني الإنفصال والغربة عن المجتمع، والزهد يعني التحرّر من الماديّات والترفّع عن المغريات لكي تتمّ المعايشة بصورة إجتماعية أفضل.
ونقرأ في قصّة «عثمان بن مظعون» في موت ولده أنّه لم يعد يخرج للعمل حزناً عليه، وإنشغل في العبادة وترك كلّ عمل سواها وجعل من بيته مسجداً ... فعندما وصل خبره للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحضره وقال له: «ياعثمان، إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية اُمّتي الجهاد في سبيل الله»(1).
وذلك إشارة إلى أنّ الإعراض عن الحياة الماديّة والإنزواء الإجتماعي، وتعطيل الأعمال بصورة سلبية، يجب أن يصبّ في مسير إيجابي، وذلك بالجهاد في سبيل الله. ثمّ أنّ الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن له بعض فضائل صلاة الجماعة، والتي هي تأكيد على نفي الرهبانية في الشرع الإسلامي.
وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عندما سأله أخوه علي بن جعفر: الرجل المسلم هل يصلح أن يسيح في الأرض أو يترهّب في بيت لا يخرج منه قال (عليه السلام): «لا».
وتوضيح ذلك: إنّ السياحة التي نهي عنها في هذه الرواية، هي تلك الممارسة التي تكون على مستوى الرهبانية ويمكن أن نطلق عليها (الرهبانية السيّارة) وذلك أنّ بعض الأفراد قبل أن يوفّروا لأنفسهم المستلزمات الأساسية لحياتهم من سكن أو عمل أو مصدر عيش .. فإنّهم يقومون بالسياحة والتجوّل في ربوع الدنيا
1 ـ بحار الأنوار، ج70، ص114 باب النهي عن الرهبانية، حديث 1.
وبدون تهيئة مستلزمات الطريق من الزاد والمال .. بل يعتمدون على أخذ المساعدات من الناس عند كلّ نقطة يصلون إليها، ظانّين أنّ ذلك نوعاً من الزهد وترك الإنشغال بالدنيا.
إلاّ أنّ الإسلام كما نفى الرهبانية الثابتة، فإنّه قد نفى الرهبانية السيّارة أيضاً إنسجاماً مع التعاليم الإسلامية، فإنّ الزهد والصلاح مهمّ للإنسان المسلم، شريطة أن يكون في قلب المجتمع وليس في الإنزواء والغربة عنه والبعد منه.
لم تكن الرهبانية موجودة بشكلها الحالي في القرون الاُولى للتاريخ المسيحي، وقد ظهرت بعد القرن الميلادي الثالث في حكم الإمبراطور الروماني (ديسيوس) ـ وقتاله الشديد لأتباع السيّد المسيح (عليه السلام)، ونتيجة لما لحق بهم من الأذى من قبل هذا الإمبراطور المتعطّش للدماء، فإنّهم لجأوا إلى الجبال والصحاري(1).
وجاء هذا المعنى بصورة أدقّ في الروايات الإسلامية حيث نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لابن مسعود: «هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟
فقلت: الله ورسوله أعلم.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله، فغضبت أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات، فلم يبق منهم إلاّ القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (عليه السلام) (يعنون محمّداً) ـ فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من كفر».
1 ـ دائرة المعارف القرن العشرين مادّة (رهب).
ثمّ قال: «أتدري ما رهبانية اُمّتي؟»
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحجّ والعمرة»(1).
والمؤرّخ المسيحي المشهور (ويل دورانت) ينقل في تأريخه المعروف في ج13 بحثاً مفصّلا حول الرهبانية، حيث يعتقد أنّ إرتباط الراهبات (النساء التاركات للدنيا) بالرهبان بدأ منذ القرن العاشر الميلادي(2).
وبدون شكّ فإنّ هذه الظاهرة الإجتماعية ـ كما هو شأن كلّ ظاهرة اُخرى لها أُسساً روحية بالإضافة إلى الاُسس التأريخية، حيث يمكن الإشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة ردّ الفعل الروحي للأشخاص والأقوام تختلف فيما بينها مقابل الإندحارات والمصاعب التي يواجهوها. حيث يميل البعض نتيجة لذلك إلى الإنزواء والإنشغال بالاُمور الشخصية فقط، ويبعدون أنفسهم بصورة كاملة عن المجتمع والنشاطات الإجتماعية، في الوقت الذي يتعلّم آخرون من الإنتكاسات والمصاعب دروس الإستقامة والصلابة والقدرة على تحدّي المشاكل ومقاومتها.
ومن هنا فإنّ القسم الأوّل يلتمس طريق الرهبانية أو أي سلوك مشابه له، بعكس القسم الثاني الذي يصبح أكثر تماساً بالمجتمع وأقوى في مواجهة تحديّاته.
إنّ الإنحراف عن قوانين الخلقة غالباً ما يكون مصحوباً بإنفعالات سلبية، وبناءً على هذا فلا عجب فيمن يبتعد عن الحياة الإجتماعية التي هي جزء من
1 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص243 بتلخيص قليل، ونقل حديث آخر شبيه بهذا في الدرّ المنثور، ج6، ص177.
2 ـ تاريخ ويل دورانت، ج13، ص443.
فطرته أن يصاب بردود فعل شديدة، لذلك فإنّ الرهبانية ـ لأنّ منهجها خلافاً لطبيعة الإنسان وفطرته ـ فإنّها استبطنت مفاسد كثيرة من جملتها:
أوّلا: أنّ الرهبانية تتعارض مع طبيعة الإنسان المدنية وبالتالي فإنّها تؤدّي بالمجتمعات الإنسانية إلى الإنحطاط والتخلّف.
ثانياً: ليست الرهبانية عائقاً عن كمال النفس وتهذيب الروح والأخلاق فقط، بل تجرّ إلى الإنحرافات الأخلاقية والكسل وسوء الظنّ والغرور والعجب والتشاؤم وما إلى ذلك، وعلى فرض أنّ الإنسان إستطاع أن يصل إلى فضيلة أخلاقية في حالة الإنزواء، فإنّها في الواقع لا تعدّ كذلك، إذ أنّ الفضيلة أن يحرّر الإنسان نفسه من التلوث الأخلاقي في قلب المجتمع.
ثالثاً: إنّ ترك الزواج والإعراض عنه، والذي هو من مبادىء الرهبانية، ليس فقط يعوق عن الكمال، بل هو سبب لظهور العقد والأمراض النفسية وما إلى ذلك.
ونقرأ في دائرة المعارف أنّ بعض الرهبان كانوا يعتبرون الإهتمام بجنس المرأة عمل شيطاني، لحدّ أنّهم منعوا وجود اُنثى أي حيوان في الدير خوفاً من الروح الشيطانية لهذه الاُنثى التي قد تدنّس روحانيّتهم وتسبّب لها إنتكاسة.
ومع هذه الحالة فإنّ التأريخ يذكر لنا فضائح عديدة من الأديرة إلى حدّ أن وصفها (ويل دورانت) بأنّها بيوت للفحشاء والدعارة، ومراكز لتجمّع عبّاد البطون وطلاّب الدنيا واللاهين، بحيث أنّ أفضل المشروبات كانت توجد في الأديرة.
وطبقاً لشهادة التأريخ فإنّ السيّد المسيح (عليه السلام) لم يتزوّج أبداً، وهذا لم يكن بسبب موقف له من سنّة الزواج، بل لقصر عمره، وإنشغاله المستمر في مسؤولياته الرسالية التي كانت تستدعي منه السفر والتجوّل والتبليغ في المناطق النائية في العالم، وهي التي لم تسمح له بالزواج.
إنّ البحث حول الرهبانية يستحقّ كتاباً مستقلا، وإذا أردنا أن نستفيض في هذا البحث فإنّنا سنخرج عن بحث التّفسير.
وننهي بحثنا هذا بحديث للإمام علي (عليه السلام) تعقيباً على المفهوم الذي طرحته الآية التالية حيث تقول الآية: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)(1)
فقد قال (عليه السلام) في تفسيرها: «هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري»(2).
«الإنجيل» في الأصل مصطلح يوناني بمعنى البشارة أو تعليم جديد، وهو اسم الكتاب الذي نزّل على السيّد المسيح (عليه السلام)، وجاء هذا المصطلح إثني عشرة مرّة في القرآن الكريم، وقد استعمل بهذا المعنى.
والجدير بالملاحظة هنا أنّ ما يعرف باسم الإنجيل اليوم كتب كثيرة يعبّر عنها بالأناجيل، والمشهور منها أربعة وهي «لوقا» و «مرقس» و «متّى» و «يوحنّا» ويعتقد المسيحيون أنّ هذه الأناجيل كتبت بواسطة أربعة من أصحاب السيّد المسيح (عليه السلام) أو طلاّبه، وتأريخ تأليفها يرجع إلى ثمان وثلاثين سنة بعد السيّد المسيح (عليه السلام) إلى غاية قرن بعده، وبناءً على هذا فإنّ الكتاب الأصلي للسيّد المسيح ـ الذي هو كتاب سماوي مستقل ـ قد إندثر، وبقي بعضه في ذاكرة طلاّبه الأربعة، حيث مزج مع أفكارهم وحرّرت هذه الأناجيل.
ولدينا بحث مفصّل أكثر في هذا المجال في نهاية الآية (3) من سورة آل عمران.
* * *
1 ـ الكهف، الآية 103 ـ 104.
2 ـ كنز العمّال، ج2، والحديث4496.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(29) لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَب أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مِّن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)نقل كثير من المفسّرين أنّ للآيات أعلاه سبباً للنزول خلاصته ما يلي:
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه ودعاه فاستجاب له، وآمن به، فلمّا كان عند إنصرافه، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به، فقدموا مع جعفر، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا وقالوا: يانبي الله إنّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا إنصرفنا، فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها
المسلمين، فأنزل الله تعالى فيهم: ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به مؤمنون)إلى قوله تعالى: ( .. وممّا رزقناهم ينفقون)(1)
فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين.
فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن يؤمن به قوله: ( اُولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا) فخروا على المسلمين فقالوا: يامعشر المسلمين: أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجر كاُجوركم فما فضلكم علينا، فنزلت: ( ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله) الآية، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة(2).
بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة; يقول سبحانه: ( ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله).
وللمفسّرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية:
الأوّل: إنّ المخاطب هم المؤمنون، حيث يبيّن لهم سبحانه أنّ الإيمان الظاهري غير كاف للفرد، ولابدّ أن يكون الإيمان عميقاً توأماً مع التقوى والعمل، كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرّض له الآية الكريمة.
الثاني: إنّ المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب، ويعني: يامن آمنتم بالأنبياء والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام، ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم سبحانه بأنواع أجره وجزائه.
1 ـ القصص، الآية 52 ـ 54.
2 ـ مجمع البيان، ج9، ص244، ونقل نفس المعنى في تفسير أبو الفتوح الرازي وروح المعاني مع بعض الإختلاف في نهاية الآيات مورد البحث.
والذي يؤيّد الرأي الثاني هو ذكر (الأجر المضاعف) والذي ورد في نهاية الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين، وجزاء الإيمان برسول الإسلام.
إلاّ أنّ هذا التّفسير إضافة إلى أنّه لا يتناسب مع الآية اللاحقة ـ كما سنوضّح ـ فإنّه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله: ( ياأيّها الذين آمنوا).
وبناءً على هذا فلابدّ من تبنّي الرأي القائل بأنّ المقصود بالمخاطب هم جميع المؤمنين الذين قبلوا ـ بالظاهر ـ دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.
وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى: ( يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم).
«كفل» على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته، ويقال للضامن «كفيل» أيضاً بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه(1).
والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: ( ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
واحتمل أيضاً أنّ هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين، لأنّ كلّ مسلم ملزم بموجب
1 ـ يعتقد البعض أنّ هذا المصطلح مأخوذ من (كفل) على وزن «عسل» والمقصود به هو ما يضعونه على كفل ـ القسم الأخير من الظهر ـ الحيوانات كي لا يسقط الراكب، ولذلك فإنّه يقال لكلّ شيء يسبّب الحفظ (كفل)، ومن هنا أطلق على الضامن اسم «الكفيل» بسبب هذا المعنى. (أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث).
ويستفاد من الراغب أنّ لهذا المصطلح معنيين: الأوّل هو المعنى أعلاه، والمعنى الثاني يطلق على الشيء الرديء الذي لا قيمة له، والتشبيه بكفل الحيوانات يكون بلحاظ أنّ كلّ شخص يركب على كفلها فاحتمال سقوطه وارد (يرجى ملاحظة ذلك).إعتقاده أن يؤمن بكلّ الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها.
وذكر البعض أنّ المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف.
إلاّ أنّ الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.
وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: ( ويجعل لكم نوراً تمشون به) قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة، ويبدّد ظلمات الحشر، حيث يتقدّمون إلى الجنّة والسعادة الأبديّة. كما جاء في الآية الكريمة: ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)(1).
في الوقت الذي إعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشعّ على المؤمنين في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(2).
إلاّ أنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب، وبتعبير آخر فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرّم غير المؤمنين منها.
جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المقصود بالنور في الآية أعلاه هو: «إمام تأتمون به»، وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة(3).
وأخيراً فإنّ ثالث جزاء للمؤمنين المتّقين هو (غفران الذنوب) لأنّ بدونه لا يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه، حيث يجب أن يكون في البداية في
1 ـ الحديد، الآية 12.
2 ـ المائدة، الآية 15.
3 ـ نقلت هذه الروايات في تفسير نور الثقلين، ج5، ص252، 253.
مأمن من العذاب الإلهي ثمّ ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال الرحمة الإلهية المضاعفة.
وفي الآية اللاحقة ـ والتي هي آخر آيات هذه السورة ـ بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: ( لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شيء من فضل الله، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(1).
إنّه جواب لهؤلاء الكتابيّين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقيّة المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّا الذين آمنوا بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.
فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكلّ الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في إختيارهم حتّى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.
وهذه الآية تتضمّن كذلك جواباً لما ورد من ادّعاءات واهية من بعض اليهود والنصارى الذين اعتبروا الجنّة والرحمة الإلهية منحصرة بهم، ظانّين أنّ غيرهم
1 ـ في (لا) في (لئلاّ) يعلم أهل الكتاب زائدة أو أصلية، يوجد نقاش بين المفسّرين حول هذه المسألة، حيث اعتبر الكثيرون أنّ (لا) زائدة وتفيد التأكيد (كما ذكرنا أعلاه) وبناءً على أنّ (لا) أصلية، فقد وردت معاني مختلفة للآية من جملتها أنّ المقصود سيكون كالتالي وهو: أن يعلم أهل الكتاب بأنّه إذا قبلوا الإيمان والإسلام فإنّهم يستطيعون أن يهيّؤوا الفضل الإلهي لهم. وبتعبير آخر فإنّ نفي النفي هنا بمعنى (الإثبات) أو يكون المقصود كالتالي: نحن الذين أعطينا كلّ هذه الهبات للمسلمين حتّى لا يتصوّروا أهل الكتاب أن لا نصيب للمسلمين في الفضل الإلهي.
إلاّ أنّه بملاحظة نهاية الآية التي تقول: (وإنّ الفضل بيد الله) وكذلك بملاحظة سبب نزولها الذي مرّ بنا سابقاً فإنّ كون (لا) زائدة هو الأنسب ظاهراً، بل وحسب إعتقاد البعض أنّه في الكثير من الموارد التي تشتمل الجملة على نفي، فإنّ: (لا) تكون زائدة كما في قوله تعالى: (ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك) الأعراف / 12. وفي قوله تعالى أيضاً: (وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون) الأنعام، الآية 109 (يرجى ملاحظة ذلك).محروم منها، حيث يقول سبحانه: ( وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)(1)
![]() |
![]() |
![]() |