![]() |
![]() |
![]() |
كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمّة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان، وتمثّل الهدف الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلّقة بها.
ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعاً بقوله: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
«نودي» من مادّة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.
وجاء في الآية (58) من سورة المائدة ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون).
فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله.
وعبارة ( ذلكم خير لكم ...) إشارة إلى أنّ إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة لو كانوا يعقلون. وإلاّ فإنّ الله غني عن الجميع.
هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعاً.
من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.
أمّا لماذا سمّي يوم الجمعة بهذا الإسم؟ فهو لإجتماع الناس في هذا اليوم للصلاة، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية «إذا اُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة»(33).
وقد عبّرت الآية السابقة فيما يتعلّق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي أهميّة بالغة لصلاة الجمعة.
المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاُولى هو الصلاة، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاُخرى ومتضمّنة (لذكرالله) وهي في الحقيقة جزء من صلاة الجمعة. وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً.
تضيف الآية التي تليها قائلة: ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون).
ورغم أنّ عبارة ( ابتغوا من فضل الله) أو ما يشابهها من تعابير، وردت في القرآن الكريم للحثّ على طلب الرزق والكسب والتجارة، لكن الظاهر أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير. لهذا فسّرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة المؤمن وطلب العلم والمعرفة، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك.
من الواضح أنّ الإنتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمراً وجوبياً، ولكن ـ كما هو معلوم اُصوليّاً «أمر بعد الحظر والنهي» ـ دليل على الجواز والإباحة. مع أنّ البعض فهم من هذا التعبير أنّ المقصود هو إستحباب طلب الرزق والكسب بعد صلاة الجمعة، وإشارة إلى كونه مباركاً أكثر.
وجاء في الحديث أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة.
جملة ( واذكروا الله كثيراً) إشارة إلى ذكر الله تعالى الذي وهب كلّ تلك البركات والنعم للإنسان. وقال بعضهم: إنّ الذكر هنا يعني التفكّر كما جاء في الحديث «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة»(34).
وفسّرها آخرون بمعنى التوجّه إلى الله تعالى في الكسب والمعاملات وعدم الإنحراف عن جادّة الحقّ والعدالة.
غير أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ تلك المعاني، كما أنّه من المسلّم أنّ روح الذكر هو التفكّر. والذكر الذي لا يكون مقروناً بالتفكّر لا يزيد عن كونه لقلقة لسان، وإنّ الذكر الممزوج بالتفكّر هو سبب الفوز في جميع الحالات.
وممّا لا شكّ فيه أنّ استمرار الذكر والمداومة عليه يرسخ الخوف من الله ويعمّقه في نفس الإنسان، ويجعله يستشعر ذلك في أعماق نفسه، ويقضي نهائياً على أسباب الغفلة والجهل اللذين يشكّلان السبب الأساس لكلّ الذنوب، ويضع الإنسان في طريق الفلاح دائماً. وهناك تتحقّق حقيقة ( لعلّكم تفلحون).
في آخر الآية ـ مورد البحث ـ ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، إذ يقول تعالى: ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً).
ولكن ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين).
فمن المؤكّد، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والإستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر. فإذا كنتم تظنّون إنقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ ( الله خير الرازقين).
التعبير بـ «اللهو» إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة. فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة، إضافةً إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو، كما نشاهد ما يشابه ذلك في الغرب هذه الأيّام.
التعبير بـ «انفضّوا» بمعنى الإنتشار والإنصراف عن صلاة الجمعة والذهاب إلى القافلة. فقد ورد في سبب النزول أنّ المسلمين تركوا الرّسول في خطبة الجمعة وتجمّعوا مع باقي الناس حول قافلة (دحيّة) ـ الذي لم يكن قد أسلم بعد ـ ولم يبق في المسجد إلاّ ثلاثة عشر شخصاً أو أقل، كما جاء في رواية اُخرى.
والضمير في «إليها» يرجع إلى التجارة التي أسرعوا إليها، ولم يكن «اللهو» هو الهدف المقصود بل كان مجرّد مقدّمة للإعلان عن وصول القافلة إلى المدينة، وكذلك للترفيه والدعاية للبضاعة.
التعبير بـ «قائماً» يكشف عن أنّ الرّسول كان واقفاً يلقي خطبة الجمعة، كما جاء في حديث عن جابر أنّه قال: (لم أر رسول الله قطّ يخطب وهو جالس، وكلّ من قال يخطب وهو جالس فكذّبوه)(35).
وجاء في رواية اُخرى أنّه سئل عبدالله بن مسعود يوماً: هل كان الرّسول يخطب واقفاً؟ قال: ألم تسمعوا قوله تعالى: ( وتركوك قائماً)(36).
وجاء في «الدرّ المنثور» أنّ معاوية كان أوّل شخص ألقى خطبة الجمعة وهو «قاعد».
* * *
جاء في بعض الرّوايات أنّ مسلمي المدينة كانوا يتحدّثون مع بعضهم ـ قبل هجرة الرّسول إليهم ـ أنّ لليهود يوماً يجتمعون فيه هو (السبت) وللنصارى يوماً يجتمعون فيه هو (الأحد) فلماذا لا نتّخذ نحن يوماً معيّناً نذكر الله فيه كثيراً ونشكره؟ وانتخبوا يوماً قبل السبت وكان يسمّى (يوم العروبة) وذهبوا إلى (أسعد بن زرارة) ـ أحد وجهاء المدينة وقد صلّى بهم جماعة ووعظهم وسمّي ذلك اليوم بيوم الجمعة لإجتماع المسلمين به. ثمّ أمر (أسعد) أن يذبحوا كبشاً ليصنعوا منه غداءً وعشاءً لجميع المسلمين الذين كان عددهم من القلّة بحيث كفاهم الكبش لهاتين الوجبتين. وكانت هذه أوّل جمعة تقام في الإسلام.
أمّا أوّل جمعة أقامها الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه فكانت بعد وصوله إلى المدينة بأربعة أيّام، وكان وصوله يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل، بقي بعدها أربعة أيّام في قبا فبنوا (مسجد قبا) وتحرّكوا بعدها إلى المدينة، وكان ذلك يوم الجمعة، ولم تكن المسافة بين قبا والمدينة طويلة (وتعتبر قبا اليوم من ضواحي المدينة). وكان الرّسول قد وصل ضاحية (بني سالم) عند أذان الجمعة فاُقيمت صلاة الجمعة هناك. وهذه هي أوّل جمعة أقامها الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسلام، وقد ألقى فيها خطبة كانت هي بدورها أوّل خطبة لرسول الله في المدينة المنوّرة)(37).
نقل أحد المحدّثين عن عبدالله بن كعب قوله: (إنّ أبي كان يترحّم على أسعد بن زرارة كلّما سمع أذان صلاة الجمعة، وعندما سألته عن سبب ذلك أجابني: (لأنّه كان أوّل رجل أقام صلاة الجمعة)، فقلت: كم كان عددكم ذلك اليوم؟ قال: أربعون رجلا فقط)(38).
إنّ أفضل دليل على أهميّة هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرّد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكلّ ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة، إلى الحدّ الذي نهتهم عن الذهاب إلى تلك القافلة رغم حاجتهم الماسّة إلى ما فيها من طعام إذ كانوا يعيشون القحط والمجاعة. ودعتهم إلى الإستمرار في صلاة الجمعة حتّى النهاية.
ورد في أحاديث اُخرى في هذا المجال ـ أيضاً ـ منها الخطبة التي نقلتها جميع مصادر المسلمين عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جاء فيها قوله: «إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إستخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتّى يتوب»(39).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): «صلاة الجمعة فريضة والإجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلاّ منافق»(40).
وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل»(41). أي استغفر ذنوبه ويبدأ العمل من جديد.
والرّوايات كثيرة في هذا المجال ولا يتّسع المجال لذكرها جميعاً، لذا نحاول أن ننهي هذا البحث بحديث آخر، حيث جاء رجل إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله، إنّي تهيّأت عدّة مرّات للحجّ ولكنّي لم اُوفّق. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين»(42). وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يتضمّنه هذا المؤتمر الإسلامي الكبير (أي الحجّ) من بركات، موجودة في إجتماع صلاة الجمعة.
ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة، حتّى عدّ التاركون للجمعة في صفّ المنافقين عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم (عليه السلام)) وأمّا في زمن الغيبة ـ وبناءاً على أنّه واجب مخيّر بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ـ فإنّه لا يكون مشمولا بهذا الذمّ والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميّتها في هذا الوقت أيضاً (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهيّة).
إنّ صلاة الجمعة ـ قبل كلّ شيء ـ عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموماً، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب، خاصّة وأنّها تكون دائماً مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم، والحثّ على التقوى وخوف الله.
أمّا من الناحية السياسيّة والإجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنوي، لهذا نجد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في الرواية التي نقلناها سابقاً من أنّ الجمعة حجّ من لا يملك القدرة على المشاركة في الحجّ.
ويعطي الإسلام في الحقيقة أهميّة خاصّة لثلاثة مؤتمرات كبيرة:
التجمّعات التي تتمّ يومياً لصلاة الجماعة.
التجمّع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.
ومؤتمر الحجّ الذي يعقد في كلّ سنة مرّة.
ودور صلاة الجمعة مهمّ جدّاً خاصّة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والإجتماعية والإقتصادية وبذلك سيكون هذا التجمّع العظيم والمهيب منشأً للبركات والنعم التالية:
أ ـ توعية الناس على المعارف الإسلامية والأحداث السياسية والإجتماعية المهمّة.
ب ـ توثيق الإتّحاد والإنسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء.
ج ـ تجديد الروح الدينية وتصعيد معنويات المسلمين.
د ـ إيجاد التعاون لحلّ المشكلات العامّة التي تواجه المسلمين.
ولهذا فإنّ أعداء الإسلام يخافون دائماً من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط.
ولهذا أيضاً ـ كانت صلاة الجمعة مصدر قوّة سياسية في أيدي حكومات العدل كحكومة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي إستثمرها أحسن إستثمار لخدمة الإسلام، وكذلك كانت مصدر قوّة أيضاً لحكومات الجور كدولة بني اُميّة الذين استغلّوها لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس.
وعلى مدى التأريخ نلاحظ أنّ أي محاولة للتمرّد على النظام تبدأ أوّلا بالإمتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم، فقد جاء في قصّة عاشوراء أنّ بعض الشيعة اجتمعوا في دار (سليمان بن صرد الخزاعي) ثمّ بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها (.. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله»(43).
وفي الصحيفة السجادية عن الإمام السجّاد (عليه السلام): «اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع اُمنائك، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها»(44).
وفي خطبة الجمعة يتمّ تبديد جميع الإشاعات التي كان الأعداء قد بثّوها خلال الاُسبوع، وتدبّ بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد بالتدفّق.
ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ فقه أهل البيت (عليهم السلام) ينصّ على عدم جواز إقامة أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ، كما يمكن أن يشارك في صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كم).
كلّ هذا يعني أنّه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة أو كبيرة، مع أطرافها وضواحيها، وبناءً على هذا فسيكون هذا التجمّع هو أوسع تجمّع يقام في تلك المنطقة.
ولكنّنا نجد مع الأسف أنّ هذه المراسم العبادية السياسية التي تستطيع أن تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلامية، نجدها بسبب سيطرة الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلامية قد فقدت روحها ومعناها، إلى الحدّ الذي لا تترك أي أثر إيجابي، وأصبحت تقام بإعتبارها مراسم حكومية رسمية لا أكثر، وذلك ممّا يحزّ بالنفس ويؤلم كثيراً.
إنّ أهمّ صلاة جمعة تقام على طول العام هي الصلاة التي تقام قبل الذهاب إلى عرفات في مكّة، حيث يشارك فيها عدد غفير من الحجّاج الذين تجمّعوا من مختلف أنحاء العالم. ويكون هناك تمثيل حقيقي لكلّ فئات المسلمين في الكرة الأرضية، ومن اللائق أن يهيّأ لمثل هذه الصلاة الحسّاسة خطبة عظيمة يشارك في إعدادها أئمّة الجمع ليعرضوا فيها اُمور المسلمين المختلفة.
ومن الطبيعي أن تعطي مثل هذه الخطبة اُكلها، وتفيض بالبركات والوعي بين المسلمين وتحلّ مشاكلهم الخطيرة.
ولكن مع شديد الأسف نرى أنّ خطبة الجمعة في هذه الأيّام لا تتناول سوى الاُمور الهامشية، أو يتمّ التحدّث عن اُمور معروفة للجميع، ولا يتمّ التحدّث عن الاُمور الأساسية التي تهمّ المسلمين!!
ألا ينبغي البكاء على ذهاب هذه الفرص الذهبية وضياع هذه الثروة المعنوية؟! ألا يدعو ذلك إلى الأسف ويتطلّب الإسراع في الإصلاح؟!
تجب صلاة الجمعة ـ مع توافر الشروط اللازمة ـ على الرجال البالغين والأصحاء الذين لهم القدرة على حضورها والمشاركة فيها، ولا تجب على المسافرين والمسنّين رغم جواز الحضور فيها للمسافر. وكذلك يمكن للنساء المشاركة في صلاة الجمعة رغم أنّها غير واجبة عليهنّ.
أقلّ عدد يمكن إنعقاد الجمعة به هو خمسة رجال.
صلاة الجمعة ركعيتن وتقام بدلا عن صلاة الظهر، وتحسب الخطبتان اللتان يتمّ إلقاؤهما قبل صلاة الجمعة بدل الركعتين الأخيرتين.
وصلاة الجمعة كصلاة الصبح يستحبّ أن يقرأ فيها الحمد والسورة جهراً، ويستحبّ كذلك أن تقرأ سورة الجمعة في الركعة الاُولى والمنافقون في الركعة الثانية.
وهناك قنوتان في صلاة الجمعة: أحدهما قبل ركوع الركعة الاُولى، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية.
يجب إلقاء الخطبتين قبل الصلاة، كما يجب أن يقوم الخطيب واقفاً لإلقاء الخطبة، ومن يلقي الخطبة يجب أن يكون إمام صلاة الجمعة. ويجب أن يرفع الخطيب صوته ليسمعه جميع من يحضر الصلاة ويطّلع على مضمون الخطبة. وينبغي السكوت والإنصات إلى الخطيب والجلوس في مقابله.
ومن اللائق أن يكون الخطيب فصيحاً وبليغاً ومطّلعاً على أحوال المسلمين وعارفاً بشؤون المجتمع الإسلامي، وشجاعاً وصريح اللهجة ولا يتردّد في إظهار الحقّ، ويجب أن تكون سيرته مدعاة للتأثير على الناس، وكذلك حديثه ينبغي أن يربط الناس أكثر بالله جلّ شأنه.
ومن اللائق أن يرتدي الإمام أنظف الملابس، ويستخدم العطر، ويمشي بوقار وسكينة. وعندما يرتقي المنبر يبدأ بالسلام على الناس ويقف مقابلهم ويتكىء على سيف أو عصى. ويجلس على المنبر متى ينتهي الأذان. ويبدأ بخطبته بعد تمام الأذان.
ويحمد الله ويثني عليه ويصلّي على رسوله في بداية الخطبة الاُولى (ويقرأ هذا القسم باللغة العربية احتياطاً، وما تبقّى بلسان الحاضرين).
وعليه أن يوصي الناس بتقوى الله، ويقرأ سورة من السور القصيرة، ويراعي هذا الأمر في الخطبتين. وفي الخطبة الثانية، بعد الصلاة على النبي وأئمّة المسلمين، يدعو ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
ومن المناسب أن يناقش الخطيب في خطبته شؤون المسلمين وما يتعلّق بدينهم ودنياهم مع التركيز على الأولويات. وينبغي أن ينبّههم إلى مؤامرات الأعداء ويحثّهم ضمن برنامج طويل أو قصير المدّة.
خلاصة القول يجب أن تتوفّر في الخطيب عناصر الوعي والتفكير الصحيح والمتابعة لشؤون المسلمين، ليستثمر الخطبة في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا، ويدفع المسلمين نحوها(45).
جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عام، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق، من الأهوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة ... وإنّما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس لله عزّوجلّ، والاُخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء ولما يريد أن يعلّمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد»(46).
لا شكّ في وجوب أن يكون إمام الجمعة ـ ككل إمام جماعة ـ عادلا إضافة إلى شروط إضافية وقع خلاف فيها وفي وجوب توفّرها.
وقد ذهب البعض أنّ هذه الصلاة من وظائف الإمام المعصوم ونائبه الخاصّ، أو بتعبير آخر أنّها ـ أي صلاة الجمعة ـ من شؤون عصر حضور الإمام المعصوم.
هذا في وقت يرى عدد كبير من المحقّقين أنّ حضور الإمام المعصوم شرط للوجوب التعييني لصلاة الجمعة، وليس شرطاً في الوجوب التخييري، حيث يمكن إقامة صلاة الجمعة في زمان الغيبة بدلا عن صلاة الظهر، وهذا هو الحقّ، بل إنّه إذا قامت الحكومة الإسلامية بشرائطها من قبل النائب العامّ للإمام المعصوم (عليه السلام). فالإحتياط هو أن يُنصَب إمام الجمعة من قبل نائب الإمام ويشارك المسلمون في هذه الصلاة.
ثمّة كلام كثير في هذا الصدد وفي باقي الاُمور المرتبطة بصلاة الجمعة، غير أنّ بعضها خارج عن موضوع التّفسير ويدخل في إطار البحوث الفقهية والحديث(47).
اللهمّ، وفّقنا لأن ننتفع كأحسن ما يكون الإنتفاع لتزكية النفوس بهذه الشعائر الإسلامية العظيمة. وإنقاذ المسلمين من قبضة الأعداء.
ربّنا، اجعلنا من المشتاقين للقائك، الذين لا يخافون من الموت، اللهمّ لا تسلبنا نعمة الإيمان بأنبيائك والتعلّم منهم والإقتداء بهم أبداً.
آمين ربّ العالمين.
نهاية سورة الجمعة
* * *
مَدَنِيّة
وعَدَدُ آيَاتِها إحدى عشَرة آية
احتوت سورة «المنافقون» على مضامين عديدة، لكن المحور الأصلي لها هو صفات المنافقين وبعض الاُمور الاُخرى المرتبطة بهم. وقد جاء في ذيل السورة بعض الآيات التي حملت مواعظ ونصائح للمسلمين في مجالات مختلفة.
ويمكن تلخيص تلك الآيات في أربعة اُمور:
1 ـ صفات المنافقين وتتضمّن نقاطاً مهمّة وحسّاسة.
2 ـ تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الإنتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق.
3 ـ حثّ المؤمنين على عدم الإستغراق في الدنيا وزخرفها والإنشغال بذلك عن ذكر الله.
4 ـ حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، والإنتفاع من الأموال قبل الموت وقبل إشتعال الحسرة في نفوسهم.
والسبب في تسمية هذه السورة بسورة «المنافقون» واضح لا يحتاج إلى شرح.
وما يجدر بالملاحظة هو أنّ من آداب صلاة الجمعة أن تقرأ سورة المنافقين في الركعة الثانية، ليتذكّر المسلمون على طول الأسبوع مؤامرات المنافقين وخططهم، ويكونوا على حذر دائم من تحرّكاتهم.
جاء في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق»(48).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكإنّما يعمل بعمل رسول الله وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنّة»(49).
من الواضح أنّ فضائل كلّ سورة وآثارها، ومنها هذه السورة، لا يمكن أن تكون من ثمار التلاوة الخالية من التفكّر والعمل فحسب، والروايات أعلاه خير شاهد على ذلك، فإنّ المرور على هذه السور دون الإستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجاً للحياة، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق وإجتثاث جذورها من نفس الإنسان.
* * *
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَـفِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لَكَـذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَـنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (3) * وإِذَا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَـتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
نذكر مقدّمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اُسس الإسلام وظهور عزّه. فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكّة، لأنّ الأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر. ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
لكن عندما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكّة.
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة ـ أي مسألة النفاق ـ غير محصورة بعصر الرّسول، بل إنّ جميع المجتمعات ـ وخاصّة الثورية منها ـ تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال إعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.
كذلك لابدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم.
وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اُخرى.
ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.
ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر ـ أي معسكر النفاق. ولهذا ـ أيضاً ـ نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم، ووجّه إليهم ضربات عنيفة لم يوجّهها إلى غيرهم.
وبعد هذه المقدّمة نرجع إلى تفسير الآيات.
إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامّة للنفاق، حيث يقول تعالى: ( إذا جاءك المنافقون وقالوا نشهد إنّك لرسول الله)(50) ويضيف ( والله يعلم أنّ المنافقين لكاذبون).
وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث إختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً. وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الصدق والكذب على نوعين: «صدق وكذب خبري» و «صدق وكذب مخبري»، يكون المعيار والمقياس في القسم الأوّل هو موافقته وعدم موافقته للواقع، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للإعتقاد، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنّه غير مطابق لإعتقاده، فهذا من الكذب المخبري، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق.
وبناءً على هذا فإنّ شهادة المنافقين على رسالة الرّسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنّها مطابقة للواقع، ولكنّها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف إعتقاد المنافقين. لذلك جاء التعبير القرآني: ( والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون).
بعبارة اُخرى: إنّ المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض.
ومن الملاحظ أنّ المنافقين استخدموا كلّ الطرق لتأكيد شهادتهم، غير أنّ الله كذّبهم بشدّة وبنفس اللهجة التي أكّدوا فيها شهادتهم. وهذه إشارة إلى أنّ المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدّة التي يؤكّدون فيها على صدقهم.
ونشير هنا إلى أنّ «المنافق» في الأصل من مادّة (نفق) على وزن «نفخ» بمعنى النفوذ والتسرّب و «نفق» «على وزن شفق» أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتستغل للتخفّي والتهرّب والإستتار والفرار.
وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارين: الأوّل واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرّة، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمّى «النفقاء»(51).
والمنافق هو الذي إختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريق آخر.
وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: ( اتّخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله إنّهم ساء ما كانوا يعملون).
ذلك لأنّهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء.
«جنّة» من مادّة (جنّ) (على وزن فنّ) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شيء من الحسّ، ويطلق هذا الإسم على (الجنّ) لأنّه مخلوق غير واضح، ويقال للدرع الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب (جُنّة) ويقال أيضاً للبساتين المكتّظة بالشجر بسبب إستتار أراضيها فتسمّى (جَنّة).
على كلّ حال فإنّ من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدّس، وإيقاع الأيمان المغلّظة لإخفاء وجوههم الحقيقيّة، وإلفات أنظار الناس نحوهم. وبذلك يصدّونهم عن الرشد (الصدّ عن سبيل الله).
وبهذا يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضدّ المؤمنين، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً.
وقد يضطرّ الإنسان أحياناً إلى اليمين، أو أنّ هذا اليمين سيساعده على إظهار أهميّة الموضوع، بيد أنّه لا ينبغي أن يكون يميناً كاذباً أو بدون ضرورة ولا موجب.
جاء في الآية (74) من سورة التوبة: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر).
ذكر المفسّرون مفهومين لمعنى التعبير بـ ( صدّوا عن سبيل الله) الأوّل: الإعراض عن طريق الله، والآخر: منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق. وقد لا يتعذّر الجمع بين المعنيين في إطار الآية (مورد البحث) غير أنّ لجوءهم إلى الحلف بالله كذباً يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة، لأنّ الهدف من القسم هو صدّ الآخرين وتضليلهم.
فمرّة يقيمون مسجد (ضرار)، وعندما يسألون ما هو هدفكم من ذلك؟ يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية (107) من سورة التوبة.
ومرّة اُخرى يعلنون إستعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي يحتمل الحصول على غنائم فيها، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة تبوك الصعبة والشاقّة تجدهم يختلقون الحجج ويلفّقون الأعذار، ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ( يهلكون أنفسهم والله يعلم إنّهم لكاذبون)(52).
وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الاُسلوب في الحلف، كما جاء في الآية 18 من سورة المجادلة.
وبذلك يتّضح أنّ هذا السلوك صار جزءاً من كيانهم، فهم لا يمتنعون عنه حتّى في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى.
وتتطرّق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيّئة، حيث يقول تعالى: ( ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
والمقصود بالإيمان ـ كما يعتقد بعض المفسّرين ـ هو الإيمان الظاهري الذي يخفي وراءه الكفر.
ولكن يبدو أنّ الآية تريد أن تقول: إنّهم كانوا مؤمنين حقّاً وذاقوا طعم الإيمان ولمسوا حقّانية الإسلام والقرآن، ثمّ انتهجوا منهج الكفر مع إحتفاظهم بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري. وقد سلب الله منهم حسّ التشخيص وحرمهم إدراك الحقائق، لأنّهم أعرضوا عن الحقّ، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخّصوه وعرفوه حقّاً.
![]() |
![]() |
![]() |