![]() |
![]() |
![]() |
والحقيقة أنّها كذلك، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا اُمناء على ما إستخلفنا به من قبل الله تعالى، ولابدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.
الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.
عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.
وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة. وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل ـ أيضاً ـ العلم والهداية والسمعة الإجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.
ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير).
إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث أنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.
وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكلّ منهما، وهو بمثابة الإستدلال والبرهان، وذلك بصورة إستفهام توبيخي إبتداءاً، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم لتؤمنوا بربّكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحقّ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.
وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعاً من العهد التكويني منكم، فآمنوا به، إلاّ أنّكم ـ مع الأسف ـ لا تقيمون وزناً لعقلكم وفطرتكم، وكذلك لا تعيرون إهتماماً لتوجيهات الوحي، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.
ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة ( إن كنتم مؤمنين) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين
شاهدوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعوا دعوته مباشرةً وبلا واسطة، وشاهدوا معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.
في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه يوماً: (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟» قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟» قالوا: الأنبياء. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا: نحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها»(1).
وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاهدون آثاره في الكتب ـ فقط ـ ويؤمنون بأحقيّة دعوته، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.
إنّ التعبير بـ «الميثاق» يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضاً.
واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد إلاّ أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقاً لعالم الذرّ(2).
وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: ( هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإنّ الله بكم لرؤوف رحيم).
فسّر البعض ( آيات بيّنات) هنا بكلّ المعجزات، وقال قسم آخر: إنّه (القرآن الكريم) إلاّ أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك، بالرغم من أنّ التعبير ( ينزّل)يناسب (القرآن) أكثر، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل
1 ـ صحيح البخاري طبقاً لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.
2 ـ راجع هذا التّفسير، نهاية الآية (172) من سورة الأعراف.
والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.
أمّا التعبير بـ ( لرؤوف رحيم) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعاً، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.
وسؤال يثار هنا وهو: هل يوجد إختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟
ذكر المفسّرون في ذلك آراء، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو: أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.
قال البعض: إنّ «الرأفة» تقال للرحمة قبل ظهورها، و «الرحمة» تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.
ثمّ يأتي إستدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: ( وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.
(ميراث) في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون إتّفاق مسبق، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك، ولكن لكثرة إستعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.
وجملة ( لله ميراث السماوات والأرض) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعاً.
ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف سبحانه: ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)(1).
هناك إختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة «الفتح» التي وردت في الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وإعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.
وبالنظر إلى أنّ كلمة «الفتح» فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة: ( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضاً. إلاّ أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من «الفتح» في هذه الآية هو جنس الفتح، والذي يمثّل إنتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: ( اُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).
والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة، أو فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو «أبو بكر». في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول آية الفتح والذي إستغرق من (6 ـ 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص، طبقاً لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أنّ أعداداً كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي،
1 ـ للآية محذوف يستفاد من المذكور، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).
وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.
يجدر الإنتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد، وذلك إنسجاماً مع رأيهم السابق، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد بإعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية، تتهيّأ بواسطته. إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.
وعلى كلّ حال، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع إختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية ( وعد الله الحسنى).
وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.
وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.
ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: ( والله بما تعملون خبير).
نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم. ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله ( فيضاعفه له وله أجر كريم).
إنّه تعبير عجيب حقّاً، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا ـ هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها، إلاّ أنّه سبحانه ـ بفضل منه ـ يضاعفها لنا بالمئات أحياناً وبالآلاف أحياناً اُخرى.
وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضاً، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلاّ هو.
* * *
الشيء الجدير بالإنتباه أنّنا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحثّ على الإنفاق، أعمّ من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق الاُخرى للمحتاجين، والتي يعتبر كلّ منها عاملا أساسيّاً ومحرّكاً باتّجاه تحقيق الهدف.
وتشير الآية السابعة لمسألة إستخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى في هذه الثروة، وبما أنّ المالكية الحقيقة لله تعالى، والجميع نواباً له في هذه الأموال. فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون عاملا للحركة في هذا المجال.
أمّا في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدّث فيه عن حالة عدم إستقرار الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعاً، لذا يعبّر عنها بـ ( ميراث السموات والأرض) وأنّها لله تعالى.
وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية، حيث يعتبر الله سبحانه الإنسان هو المقرض وأنّه تعالى هو المستقرض، وليس في هذا القرض ربا، بل فيه أرباح مضاعفة، وأحياناً مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوّره.
إنّ هذا كلّه لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد وحبّ الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق، لتكوين مجتمع على اُسس ودّية وتعاون عميق وروح إجتماعية بنّاءة.
إنّ التعبير بـ ( قرضاً حسناً) في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إعطاء القرض بحدّ ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضاً حسناً، والآخر قرضاً قليل الفائدة، أو حتّى عديم الفائدة أيضاً.
والقرآن الكريم يبيّن شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضّح ذلك في الآيات المختلفة، وبعض المفسّرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإنفاق، وهي كما يلي:
الشرط الأوّل: إنتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأناً وقيمة، قال سبحانه: ( ياأيّها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم، وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ الله غني حميد)(1).
ثانياً: يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة الشخص المنفق، حيث يقول سبحانه: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(2).
ثالثاً: يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه، وتؤخذ بنظر الإعتبار الأولويات في إنفاقه، قال تعالى: ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)(3).
رابعاً: الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطاً بالسّرية والكتمان قال تعالى: ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)(4).
1 ـ البقرة، الآية 267.
2 ـ الحشر، الآية 9.
3 ـ البقرة، الآية 273.
4 ـ البقرة، الآية 271.
خامساً: أن لا يقترن الإنفاق منّ ولا أذى أبداً، قال تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى)(1).
سادساً: أن يكون توأماً مع خلوص النيّة قال تعالى: ( ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله)(2).
سابعاً: الشعور بضئالة العطاء وأنّه صغير لا قيمة له حتّى وإن كان كثيراً ومهمّاً، وذلك تلبية لأمر الله وإنتظاراً للجزاء الذي أعدّه للمنفقين. قال تعالى: ( ولا تمنن تستكثر)(3)(4).
ثامناً: أن يكون الإنفاق ممّا تعلّق قلبه به من الأموال، وخاصّة تلك التي تكون موضع تعلّق وشغف، قال تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)(5).
تاسعاً: أن لا يرى المنفق أنّه هو المالك للأموال، حيث أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق، قال تعالى: ( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه)(6).
عاشراً: أن يكون الإنفاق من المال الحلال، لأنّه هو الذي يقبل فقط من قبل الله سبحانه، قال تعالى:( إنّما يتقبّل الله من المتّقين)(7).
وجاء في حديث أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يقبل الله صدقة من غلول»(8).
والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهمّ من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق، ولا
1 ـ البقرة، الآية 264.
2 ـ البقرة، الآية 265.
3 ـ لهذه الآية تفاسير متعدّدة، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحاً أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.
4 ـ المدثر، الآية 6.
5 ـ آل عمران، الآية 92.
6 ـ الحديد، الآية 7.
7 ـ المائدة، الآية 27.
8 ـ ذكر الطبرسي (قدس سره) هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التّفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني وقد أدرجناها بإختصار.
تنحصر به، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمّل في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية أن نتعرّف على شروط اُخرى أيضاً.
ثمّ إنّ ما قيل من الشروط بعضها واجب كـ (عدم الأذى والمنّ والإعلان في العطاء) والبعض الآخر مستحبّ ومن شروط الكمال كـ (الإيثار على النفس) حيث إنّ عدمه لا يقلّل من قيمة الإنفاق، بالرغم من أنّ الإنفاق في هذه الحالة لا يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.
ومع أنّ ما قيل هنا خاصّ في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلاّ أنّه أيضاً يصدق في كثير من القروض العادية، لأنّ هذه الشروط من الاُمور اللازمة أو من شروط الكمال للقرض الحسن.
وحول أهميّة الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحاً مفصّلا تفسير الآيات من (261 ـ 267) من سورة البقرة.
الأشخاص الذين يتقدّمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شكّ، ولذا فإنّ درجات المؤمنين غير متساوية عند الله، والآية الكريمة إعتمدت هذا المفهوم وميّزت بين الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح: (سواء كان فتح مكّة أو الحديبية أو مطلق الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضاً، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.
نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنّه قال: «خرجنا مع رسول الله في عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتّى إذا كان بعسفان ـ مكان قريب من مكّة ـ قال رسول الله: «يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: من يارسول الله؟ أقريش؟ قال: «لا، ولكنّهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوباً» قلنا: أهم خير منّا يارسول الله؟ قال: «لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك
مُدّ(1) أحدكم ولا نصفيه، ألا إنّ هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يتسوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل»(2).
والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضاً وهي: أنّ الإقراض لله تعالى هو كلّ إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمّة الدعم الذي يقدّم للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.
لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله لم يسأل خلقه ممّا في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه»(3).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حول نهاية الآية مورد البحث: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ...) أنّه قال: «نزلت في صلة الإمام»(4).
* * *
1 ـ الظاهر أنّ المقصود من (المدّ الواحد من الطعام) هو أقلّ من الكيلو.
2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص172.
3 ـ تفسير الصافي، ص522.
4 ـ تفسير الصافي، ص522.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـنِهِم بُشْرَيـكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالْمُنَـفِقَـتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْـتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَـكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الاَْمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَيـكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم،
وإستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر، يقول سبحانه: ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).
وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضاً، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الاُمور اللازمة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتفقدهم فكانت هذه العلامة: ( نورهم الذي يسعى بين أيديهم ...) دالّة عليهم، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.
وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا إحتمالات متعدّدة لهذا «النور إلاّ أنّ المقصود منه ـ في الواقع ـ تجسيم نور الإيمان، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية. كما نقرأ في الآية الكريمة: ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم)(1).
وجاء في الآيات القرآنية الاُخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور: ( يخرجهم من الظلمات إلى النور).
التعبير بـ «يسعى» من مادّة (سعى) ـ بمعنى الحركة السريعة ـ دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.
والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى
1 ـ التحريم، الآية 8.
قسمين مختلفين من المؤمنين:
قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.
والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.
كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.
ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف بإختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث: «يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم»(1).
وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: ( بشراكم اليوم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم).
أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي. كما في قوله تعالى: ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم)(2).
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص241، حديث60.
2 ـ انظرونا من مادّة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شيء، وتأتي أحياناً بمعنى التأمّل والبحث، وكلّما تعدّت بـ (إلى) فإنّها تأتي بمعنى النظر إلى شيء، وكلّما تعدّت بـ (في) فإنّها تأتي بمعنى التأمّل والتدبّر، وعندما لا تتعدّى بدون حرف جرّ كأن نقول: (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنّها تأتي بمعنى التأخير أو الإنتظار (من المفردات للراغب).
«إقتباس» في الأصل من مادّة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار، ثمّ استعملت على أخذ نماذج اُخرى أيضاً.
المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم لنجد طريقنا، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبّة واعطونا سهماً من نوركم، كما يحتمل أنّ المقصود هو أنّ (انظرونا) مشتقة من (الإنتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتّى نصل إليكم وفي ظلّ نوركم نجد الطريق.
وعلى كلّ حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً).
كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلاّ أنّ الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.
( فضرب بينهم بسور له باب) وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد، حيث إنّ كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً، حيث: ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب).
«السور» في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن ـ كما كان في السابق ـ للمحافظة عليها، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقرّ بها الحرّاس للمحافظة ورصد الأعداء تسمّى بالبرج والأبراج.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى: ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) حيث أنّ المؤمنين كسكّان المدينة داخل البستان، والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي، فهم في جوّين مختلفين وعالمين متفاوتين، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنباً إلى جنب ولكن يفصل بينهم
حاجز عظيم من الإعتقادات والأعمال المختلفة، ففي يوم القيامة يتجسّد نفس المعنى أيضاً.
ولماذا هذا «الباب»، ولأي الأهداف؟
للجواب على هذا التساؤل نقول: من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنّة ويتحسّرون عليها، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.
غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين ( ينادونهم ألم نكن معكم) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟
( قالوا: بلى) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا أحياناً جيراناً أو في بيت واحد .. نعم كنّا معاً، إلاّ أنّ إختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الاُصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا. ثمّ يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:
1 ـ ( ولكنّكم فتنتم أنفسكم) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.
2 ـ ( وتربّصتم) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.
3 ـ ( وارتبتم) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..
4 ـ وخدعتكم الآمال ( وغرّتكم الأماني حتّى جاء أمر الله).
نعم هذه الأماني لم تعطكم مجالا ـ حتّى لحظة واحدة ـ للتفكّر الصحيح، لقد
كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم أُمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.
5 ـ ( وغرّكم بالله الغرور) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزّوجلّ، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واُخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع. وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.
هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.
«فتنتم» من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الإمتحان والإنخداع، والبلاء والعذاب، والضلالة والإنحراف، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.
«تربّصتم» من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الإنتظار، سواء كان إنتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو إنتظار موت الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنتكاسة الإسلام، أو أنّ الإنتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.
«وارتبتم» من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.
![]() |
![]() |
![]() |