![]() |
![]() |
![]() |
لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حدّاً ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي إختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة «في الجنّة»، والبعد المعنوي وهو القرب من الله «عندك» وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة.
ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل: ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)(141).
فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اُولي العزم).
ويضيف تعالى قائلا: ( وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه) و ( كانت من القانتين).
كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.
ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.
ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة).
وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).
على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.
والتعبير بـ ( ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. أو بعبارة اُخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى «الله» إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة «بيت» إلى «الله».
ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من إعتبارهم عائشة أفضل النساء، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله. ولقد كان حريّاً بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل. فإنّ كثيراً من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «حفصة» و «عائشة» ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة 195 ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعاً لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث.
اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد.
ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم.
اللهمّ هب لنا إستقامة لا نتأثّر معها بالضغوط، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة التحريم
* * *
مكيّة
وعدد آياتِها ثلاثُون آية
تمثّل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم، وهي من السور التي نزلت جميع آياتها في مكّة المكرّمة على المشهور، كما هو شأن غالبية سور هذا الجزء، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين(142)، بخلاف ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية.
ولكن كما سنرى لاحقاً أنّ سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية.
وتسمّى سورة الملك أيضاً بـ (المنجية)، وكذلك تسمّى بـ (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي من السور التي لها فضائل عديدة، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلاّ أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:
1 ـ أبحاث حول المبدأ، وصفات الله سبحانه، ونظام الخلق العجيب والمدهش، خصوصاً خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة .. وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاُذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاُخرى.
2 ـ وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم، بالإضافة إلى اُمور اُخرى في هذا الصدد.
3 ـ وأخيراً فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاُخروي للكفّار والظالمين.
ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها(143).
نقلت روايات عديدة عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة تبارك فكإنّما أحيى ليلة القدر»(144).
وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «وددت أن تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن»(145).
وجاء في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين»(146).
والأحاديث كثيرة في هذا المجال.
ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلاّ من خلال التدبّر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.
* * *
تَبَـرَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَت طِبَاقاً مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـنِ مِن تَفَـوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور (3)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ(4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَـهَا رُجُوماً لِّلشَّيَـطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه، وخلود ذاته المقدّسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة(147).
يقول تعالى: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير).
«تبارك»: من مادّة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير)، وعندما يقال: (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثمّ استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال، وأطلقت كذلك على كلّ نعمة باقية ودائمة، ومن هنا يقال لمحلّ خزن الماء (بركة) لأنّ الماء يبقى فيها مدّة طويلة.
وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيّاً على أنّ الذات الإلهية مباركة، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود، وقدرته على كلّ شيء، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال.
ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا).
«الموت»: حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالاُمور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً، لذا فإنّه غير مقصود.
ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الإلتفات إلى الموت، وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والإلتزام، إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة.
أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الإستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من الله سبحانه، وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق(148).
كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا» هو التأكيد على جانب (حسن العمل)، ولم تؤكّد الآية على كثرته، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير إهتماماً (للكيفية) لا (للكميّة)، فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، ونافعاً للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية.
لذا ورد في تفسير (أحسن عملا)، روايات عدّة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أتمّكم عقلا، أشدّكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلّكم تطوّعاً»(149).
حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل، ويجعل النيّة أكثر خلوصاً لله عزّوجلّ ويضاعف الأجر.
وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال حول تفسير (أحسن عملا): «ليس يعني أكثر عملا، ولكن أصوبكم عملا، وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص، أشدّ من العمل، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجلّ»(150).
وتحدّثنا في تفسير الآية: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون)(151)، وقلنا: أنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عزّوجلّ، وهنا نجد الهدف: (إختباره بحسن العمل). وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الإختبار والإمتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه، كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريم ـ والتي اُشير لها في الروايات أعلاه، أثراً في تكامل روح العبودية.
ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النيّة، وإنجاز كلّ عمل خيّر.
وإذا لاحظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك، فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي.
وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به، فيجدر به ألاّ يكون متشائماً ويائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: ( وهو العزيز الغفور).
نعم، إنّه قادر على كلّ شيء، وغفّار لكلّ من يتوب إليه.
وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم، يقول تعالى: ( الذي خلق سبع سموات طباقاً).
بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شيئاً حولها في تفسير الآية (12) من سورة الطلاق، ونضيف هنا أنّ المقصود من (طباقاً) هو أنّ السموات السبع، كلا منها فوق الاُخرى، إذ أنّ معنى (المطابقة) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر.
ويمكن إعتبار «السموات السبع» إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، حيث تبعد كلّ منها مسافة معيّنة عن الشمس أو تكون كلّ منها فوق الاُخرى.
أمّا إذا اعتبرنا أنّ جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الاُولى، فيتّضح لنا أنّ هنالك عوالم اُخرى في المراحل العليا، حيث أنّ كلّ واحد منها يكون فوق الآخر.
ثمّ يضيف سبحانه: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).
إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكلّ ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقّة متناهية، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.
وهذه الدقّة المتناهية، والنظام المحيّر، والخلق العجيب، يتجسّد لنا في كلّ شيء، ابتداء من الذرّة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات، وانتهاءً بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات الاُخرى، كالمجرّات وغيرها .. إذ أنّ جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقّة، ويسير وفق نظام خاصّ.
وخلاصة القول أنّ كلّ شيء في الوجود له قانون وبرنامج، وكلّ شيء له نظام محسوب.
ثمّ يضيف تعالى مؤكّداً: ( فارجع البصر هل ترى من فطور).
«فطور» من مادّة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.
ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه.
لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: ( ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير).
«كرّتين» من مادّة (كر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن، و (كرّة) بمعنى التكرار و (كرّتين) مثنّاها.
إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المقصود من الـ (كرّتين) هنا ليس التثنية، بل الإلتفات والتوجّه المتكرّر المتعاقب والمتعدّد.
وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأمّلوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحدّ أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن يدقّق في خلق الله سبحانه مرّات ومرّات، وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية، ممّا يؤدّي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.
«خاسىء» من مادّة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده.
«حسير» من مادّة (حسر)، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عارياً، وإذا ما فقد الإنسان قدرته وإستطاعته بسبب التعب، فإنّه يكون عارياً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز.
وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسىء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.
وفرّق البعض بين معنى الكلمتين، إذ قال: إن (خاسىء) تعني المحروم وغير الموفّق، و (حسير) بمعنى العاجز.
وعلى كلّ حال فيمكن إستنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيراً في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين، حيث أنّ هنالك أسراراً كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاُولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق.
الأمر الثّاني: الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام، هو إدراك طبيعة الإنسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل.
وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول، والأمراض، والكوارث الطبيعية الاُخرى، والتي تصيب البشر أحياناً في حياتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الاُمور هي الاُخرى تمثّل أسراراً أساسية غاية في الدقّة(152).
إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها أنّ وجود النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبداً أن تكون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث مفضّل المعروف عنه «إنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضادّ لا يأتي بالنظام»(153).
ثمّ تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث يقول سبحانه: ( ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير).
إنّ نظرة متأمّلة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جوّ السماء المليء بالنجوم كاف لإثارة الإنتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة، وخاصّة طبيعة النظم الحاكمة عليها، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم، ممّا يجعل الإنسان أمام عالم مليء بالمعرفة ونور الحقّ، ويدفعه باتّجاه عشق الباريء عزّوجلّ الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان.
وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اُخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلاّ جزء من السماء الاُولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اُخرى من السموات السبع، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السموات الاُخرى.
«الرجوم» بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى اُخرى من السماء، كما أنّ (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثّرت بحوادث معيّنة، وبناءً على هذا، فإنّ المقصود بجعل الكواكب رجوماً للشياطين، هو هذه الصخور المتبقّية.
أمّا كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير بصورة غير هادفة في جو السماء، فقد بيّناه بشكل تفصيلي في التّفسير الأمثل في تفسير الآية (18) من سورة الحجر، وكذلك في تفسير الآية (20) من سورة الصافات.
* * *
بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخّر .. إلاّ أنّنا عندما نلاحظ آياته نراها غالباً ما تدعو المسلمين إلى التفكّر والتأمّل بالأسرار العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود، الأمر الذي لم يكن مفهوماً في ذلك العصر، وهذا دليل واضح على أنّ القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر، وأنّ العلم والمعارف الإنسانية كلّما تقدّمت فإنّها تؤكّد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر.
فالكرة الأرضية التي نعيش عليها ـ مع كبر حجمها وسعتها ـ صغيرة في مقابل مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس)، بحيث أنّها تساوى مليون ومائتي ألف كرة أرضية مثل أرضنا.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ منظومتنا الشمسية جزء من مجرّة عظيمة، يطلق عليها اسم «درب التبانة»(154).
وطبقاً لحسابات العلماء الفكليين فإنّه يوجد في مجرتنا فقط (000/000/000/100) ـ مائة مليارد ـ نجمة، حيث تكون الشمس ومع ما عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة.
ومن جهة ثالثة فإنّ في هذا العالم الواسع مجرّات كثيرة إلى حدّ أنّها تخرج عن الحساب والعدد، وكلّما تطوّرت التلسكوبات الفلكية العظيمة تمّ كشف مجرّات اُخرى عديدة.
فما أعظم قدرة هذا الربّ الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام الدقيق «العظمة لله الواحد القهّار».
* * *
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِىَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـل كَبِير (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـبِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لاَِّصْحَـبِ السَّعِيرِ (11)
كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدّث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحقّ، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة، ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اُتون العذاب الإلهي.
يقول تعالى في البداية: ( وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم وبئس المصير).
ثمّ يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: ( إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور).
نعم، إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنّم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.
«شهيق» في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار، ويقال أنّه مأخوذ من مادّة (شهوق) بمعنى كونه طويلا (لذا يطلق على الجبل العالي بأنّه شاهق) ومن هنا فإنّه (شهيق) جاءت بمعنى الأنين الطويل.
وقال البعض: إنّ (الزفير) هو الصوت الذي يتردّد في الحلق، أمّا (الشهيق) فهو الصوت الذي يتردّد في الصدر، وفي كلّ الأحوال فإنّها إشارة إلى الأصوات المرعبة والمؤلمة.
ثمّ يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنّم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى: ( تكاد تميّز من الغيظ)(155).
إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فانّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب، أو كإنسان يكاد أن يتفجّر من شدّة الغضب والثورة والإنفعال، هكذا هو منظر جهنّم، مركز الغضب الإلهي.
ثمّ يستمرّ تعالى بقوله: ( كلّما اُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير).
فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة، إنّ الملائكة (خزنة جهنّم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين .. فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟
( قالوا بلى قد جاءنا نذير، فكذّبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلاّ في ضلال كبير).
وهكذا يأتي الإعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلاّ أنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم وإعتبرناهم ضالّين، وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنّا ..
ثمّ يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول: ( وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير)، أجل هكذا يأتي إعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير). وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب الحقيقي لذلك، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاُذن السامعة والعقل، ومن جهة اُخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان، أمّا لو كان للإنسان اُذن لا يسمع بها، وعين لا يبصر بها، وعقل لا يفكّر به، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافّة معاجزهم وكتبهم، لم ينتفع بشيء. وقد ورد في الحديث الشريف، أنّ بعض المسلمين ذكروا شخصاً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثنوا عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل» فقيل: يارسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنّما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم!».
«سحق» على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة، إلاّ أنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله، وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى: ( فسحقاً لأصحاب السعير) هو: فبعداً لأصحاب النار عن رحمة الله، ولأنّ لعنة وغضب الله تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلّي.
* * *
ليست هذه هي المرّة الاُولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، كما أنّها ليست المرّة الاُولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنّم .. هو عدم الإستفادة من هذه القوّة الإلهيّة العظيمة، وإغفال هذه القدرة الجبّارة، وعدم إستثمار هذه الجوهرة والنعمة الربّانية، وذلك واضح وبيّن لكل من قرأ القرآن وتدبّر آياته، حيث يلاحظ أنّ هذا الأمر مؤكّد عليه في مناسبات شتّى ..
وعلى الرغم من الأكاذيب التي يطلقها البعض بأنّ الدين هو وسيلة لتخدير العقول والإعراض عن أوامرها ومتطلّباتها، فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل.
لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كلّ مكان إلى (اُولو الألباب) و (اُولو الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.
ولقد وردت في المصادر الإسلامية روايات كثيرة في هذا الصدد، بشكل لا يمكن إحصاؤه، والطريف أنّ كتاب الكافي المعروف، والذي هو أكثر الكتب اعتباراً في مجال الحديث يحتوي على (أبواب) أو (كتب) أوّلها كتاب باسم كتاب (العقل والجهل) وكلّ من يلاحظ الروايات التي وردت بهذا الخصوص يدرك عمق النظرة الإسلامية إلى هذه المسألة.
ونحن هنا نقتطف منها روايتين:
جاء في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «هبط جبرائيل على آدم، فقال: ياآدم، إنّي اُمرت أن اُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين، فقال له آدم: ياجبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم إنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: إنصرفا ودعاه. فقالا: ياجبرئيل، إنّا اُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج)(156).
وهذا من أجمل ما يمكن أن يقال في العقل، وطبيعة علاقته مع الحياء والدين، إذ أنّ العقل إذا ما انفصل عن الدين فإنّ الدين سيكون في مهبّ الرياح ويتعرّض إلى الإنحراف بسبب الأهواء وفقدان الموازن الموضوعية الأساسية.
أمّا «الحياء» الذي هو المانع والرادع للإنسان عن ارتكاب القبائح والذنوب، فهو الآخر من ثمار شجرة العقل والمعرفة.
وهكذا نرى أنّ آدم (عليه السلام) كان يتمتّع بدرجة عالية من العقل، حيث أنّه (عليه السلام)اختار العقل ممّا خيّر به من الاُمور الثلاث، وبذلك إصطحب الدين والحياء أيضاً.
ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنّة»(157).
وبناءً على هذا فإنّ الجنّة هي مكان اُولي الألباب، ومن الطبيعي أنّ المقصود من العقل هنا: هو المعرفة الحقيقيّة الراسخة وليس ألاعيب الشياطين التي تلاحظ في أعمال وممارسات السياسيين والظالمين والمستكبرين في عالمنا المعاصر. حيث أنّ ذلك كما يقول الإمام الصادق هو (شبيهة بالعقل، وليست بالعقل)(158).
* * *
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
بعد ما بيّنا ـ في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة ـ مصير الكفّار يوم القيامة، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه ..
![]() |
![]() |
![]() |