![]() |
![]() |
![]() |
وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير، معتدية وآثمة.
وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: ( عتل بعد ذلك زنيم).
«عتل» كما يقول الراغب في المفردات: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كلّ شيء، ويمنع الآخرين منه.
وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخُلُق، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سيء الخُلُق عديم الحياء.
«زنيم» تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم، وهي في الأصل من (زنمة)، (على وزن عظمة) وتقال للجزء المتدلّي من اُذن الغنم، فكأنّها ليست من الاُذن مع أنّها متصلة بها.
والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسّرين.
وخلاصة البحث أنّ الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذّبين، وبيّن صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه، وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب، وفي الحقيقة أنّنا لا نتوقّع أن يقف بوجه النور الرسالي إلاّ أمثال هؤلاء الأشرار.
ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم: بقوله: ( أن كان ذا مال وبنين).
وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً، وهذه الآيات ما هي إلاّ تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع، ولن تنفع جميع الإغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.
وبناءً على هذا فإنّ الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة: ( ولا تطع كلّ حلاّف مهين).
إلاّ أنّ البعض اعتبر ذلك بياناً وعلّة لظهور هذه الصفات السلبية، حيث الغرور الناشىء من الثروة وكثرة الأولاد جرّهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية. ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير المؤمنين. إلاّ أنّ لحن الآيات يتناسب مع التّفسير الأوّل أكثر، ولهذا اختاره أغلب المفسّرين.
وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين).
وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عزّوجلّ، فيضلّ ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال، ولهذا يجب عدم الإستجابة لهؤلاء وعدم السماع لهم في مثل هذه الاُمور، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم، وهذا تأكيد للنهي عن طاعتهم الذي تعرّضت إليه الآيات السابقة.
وتوضّح لنا آخر آية ـ من هذه الآيات ـ مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: ( سنسمّه على الخرطوم).
وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أوّلا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.
وثانياً: أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة، كما يقال للفارس حين إذلاله: مرّغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزّته.
وثالثاً: أنّ وضع العلاّمة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتّى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها ـ خصوصاً اُنوفها ـ أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.
ومع كلّ ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر واف وواضح أنّ الله تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل، وتجاوزهم على الرّسول والرسالة .. سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدّثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.
إنّ التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيراً من صور الإذلال والإمتهان لأمثال هذه المجموعة المخالفة للحقّ المعاندة في ضلالها، المكابرة في تمسّكها بالباطل، بالرغم من تقدّم الرسالة الإسلامية وقوّتها وإنتصاراتها، كما أنّ فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى وأمرّ.
قال بعض المفسّرين: إنّ أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها (الوليد بن المغيرة) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرّض لرسوله الأمين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذا القصد، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم الآيات الكريمة وشموليته(199).
* * *
بالرغم من أنّ الآيات أعلاه تحدّثت عن الصفات الأخلاقية الرذيلة للمخالفين والمعاندين لرسول الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّها في الوقت نفسه تعكس لنا نماذج ومفردات للصفات السلبية التي تبعد الإنسان عن الله عزّوجلّ، وتسقطه في وحل الشقاء والبؤس، ممّا يستدعي من المؤمنين الملتزمين أن يكونوا على حذر منها ويراقبوا أنفسهم بدقّة من التلوّث بها، ولذا فقد أكّدت الروايات الإسلامية كثيراً على هذا المعنى. ومن جملة ذلك ما يلي:
1 ـ نقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ألا اُنبئّكم بشراركم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباعثون للبرءاء المعايب»(200).
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد كثيراً على البناء الأخلاقي للشخصية الإسلامية، حتّى أنّه قال: «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر»(201).
2 ـ وأخيراً نقرأ في حديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يدخل الجنّة جواظ، ولا جعظري، ولا عتل زنيم».
يقول الراوي: قلت: فما الجواظ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلّ جمّاع منّاع، قلت: فما الجعظري؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفضّ الغيظ؟ قلت: فما العتل الزنيم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): رحب الجوف سيء الخُلُق أكول شروب غشوم ظلوم»(202).
إنّ من جملة الخصائص التي يتميّز بها تجّار السياسة، والأشخاص والمجاميع غير الرسالية، أنّهم يتلوّنون ويتصرّفون بالشكل الذي يتماشى مع مصالحهم، فلا ضوابط ولا ثوابت تحكمهم، بل هم على إستعداد دائم للتنازل عن كثير من الشعارات المدعاة من جانبهم، مقابل تحقيق بعض المكاسب أو الحصول على بعض الإمتيازات. أمّا متبنّياتهم المدعاة فلا تشكّل شيئاً مقدّساً بالنسبة إليهم، ويحوّرونها بما تقتضيه مصالحهم، وهذا المفهوم هو ما تشير إليه الآية الكريمة حيث يقول تعالى: ( ودّوا لو تدهن فيدهنون).
أمّا أهل المبادىء والإلتزام فإنّهم لا يضحّون بأهدافهم المقدّسة مطلقاً ولا يساومون عليها أو يداهنون أبداً، ولن يتخلّوا عن متبنّياتهم ويقوموا بعمل أو صلح على خلاف ما تمليه عليهم مبادئهم العقائدية، خلافاً لما عليه تجّار السياسة ..
إنّ هذا المقياس من أفضل الدلائل لتشخيص السياسيين المنحرفين عن غيرهم من المبدئيين، والأشخاص الذين يسايرون هؤلاء المنحرفين لا شكّ أنّهم بعيدون عن طريق الله وأوليائه.
* * *
إِنَّا بَلَوْنَـهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ(21) أَنِ اغْدوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـرِمِينَ (22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَـفَتُونَ (23) أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْد قَـدِرِينَ (25)
في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم ـ بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة ـ قصّة أصحاب الجنّة كنموذج لذوي المال الذين غرقوا في أنانيتهم، فأصابهم الغرور، وتخلّوا عن القيم الإنسانية الخيّرة، وأعماهم حبّ المال عن كثير من الفضائل .. فالآيات الكريمة تذكر لنا قصّة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلاّ أنّهم فقدوها فجأة، وذلك لعتوّهم وغرورهم وكبرهم على فقراء زمانهم.
ويبدو أنّها قصّة معروفة في ذلك الزمان بين الناس، ولهذا السبب استشهد بها القرآن الكريم.
يقول في البداية: ( إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة).
لقد تعدّدت الرّوايات في مكان هذه الجنّة، فقيل: إنّها في أرض اليمن بالقرب من صنعاء، وقيل: هي في الحبشة، وهناك قول بأنّها في أرض الشام، وذهب آخرون إلى أنّها في الطائف .. إلاّ أنّ المشهور أنّها كانت في أرض اليمن.
وموضوع القصّة هو: أنّ شيخاً مؤمناً طاعناً في السنّ كان له بستان عامر، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين، وقد ورثه أولاده بعد وفاته، وقالوا: نحن أحقّ بحصاد ثمار هذا البستان، لأنّ لنا عيالا وأولاداً كثيرين، ولا طاقة لنا بإتّباع نفس الاُسلوب الذي كان أبونا عليه .. ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعاً، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه ..
يقول تعالى: ( إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين)(203).
( ولا يستثنون) أي لا يتركون منها شيئاً للمحتاجين.
وعند التدقيق في قرارهم هذا يتّضح لنا أنّ تصميمهم هذا لم يكن بلحاظ الحاجة أو الفاقة، بل إنّه ناشىء عن البخل وضعف الإيمان، واهتزاز الثقة بالله سبحانه، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئاً ممّا أعطاه الله.
وقيل: إنّ المقصود من عدم الإستثناء هو عدم قولهم (إن يشاء الله) حيث كان الغرور مسيطراً عليهم، ممّا حدا بهم إلى أن يقولوا: غداً سنذهب ونفعل ذلك، معتبرين الأمر مختصّاً بهم، وغافلين عن مشيئة الله، ولذا لم يقولوا: (إن شاء الله).
إلاّ أنّ الرأي الأوّل أصحّ(204).
ثمّ يضيف تعالى استمراراً لهذا الحديث: ( فطاف عليهم طائف من ربّك وهم نائمون).
لقد سلّط الله عليها ناراً حارقة، وصاعقة مهلكة، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء ( فأصبحت كالصريم)، ولم يبق منها شيء سوى الرماد.
«طائف» من مادّة (طواف)، وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شيء معيّن، كما تستعمل أحياناً كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل، وهذا المعنى هو المقصود هنا.
«صريم» من مادّة (صرم) بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود) لأنّ الليل يقطع عند مجيء النهار، كما أنّ النهار يقطع عند مجيء الليل، ولذا يقال أحياناً لليل والنهار (صريمان)، والمقصود بذلك هو: البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة ـ فيما يبدو ـ أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود، وهكذا فعل الصواعق غالباً.
وعلى كلّ حال فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر، جاهزة للقطف: ( فتنادوا مصبحين)(205).
وقالوا: ( أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين).
«(أغدوا» من مادّة (غدوة) بمعنى بداية اليوم، ولذا يقال للغذاء الذي يؤكل في أوّل اليوم ـ وجبة الإفطار ـ غداء، بالرغم من أنّ (غداء) تقال في التعابير المستعملة حالياً لوجبة الأكل المتناولة في وقت الظهر.
وعلى ضوء المقدّمات السابقة: ( فانطلقوا وهم يتخافتون).
لقد كانوا يتكلّمون بهدوء حتّى لا يصل صوتهم إلى الآخرين، ولا يسمعهم مسكين، ويأتي لمشاركتهم في عملية جني الثمر أو تناول شيء من الفاكهة.
ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام، لأنّهم تعوّدوا في كلّ سنة أن ينالهم شيء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن، إلاّ أنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم، لم تدع أحداً يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان .. حيث يطّلع الفقراء على الأمر بعد إنتهائه، وبهذا تكون النتيجة: ( وغدوا على حرد قادرين).
«حرد» على وزن «فرد» بمعنى الممانعة التي تكون توأماً مع الشدّة والغضب، نعم إنّهم كانوا في حالة عصبية وإنفعالية من حاجة الفقراء لهم وإنتظار عطاياهم، ولذا كان القرار بتصميم أكيد على منعهم من ذلك.
وتطلق كلمة (حرد) أيضاً على السنوات التي ينقطع فيها المطر، وعلى الناقة التي ينقطع حليبها.
* * *
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَـنَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَـلِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَلَـوَمُونَ (30) قَالُوا يَـوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَـغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
الآيات الشريفة ـ أعلاه ـ إستمرار لقصّة أصحاب الجنّة، التي مرّت علينا في الآيات السابقة .. فلقد تحرّكوا في الصباح الباكر على أمل أن يقطفوا محصولهم الكثير، ويستأثروا به بعيداً عن أنظار الفقراء والمحتاجين، ولا يسمحوا لأي أحد من الفقراء بمشاركتهم في هذه النعمة الإلهية الوافرة، غافلين عن تقدير الله ... فإذا بصاعقة مهلكة تصيب جنّتهم في ظلمة الليل فتحوّلها إلى رماد، في وقت كان أصحاب الجنّة يغطّون في نوم عميق.
يقول القرآن الكريم: ( فلمّا رأوها قالوا إنّا لضالّون).
المقصود من (ضالّون) يمكن أن يكون عدم الإهتداء إلى طريق البستان أو الجنّة، أو تضييع طريق الحقّ كما احتمل البعض، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.
ثمّ أضافوا: ( بل نحن محرومون) أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلاّ أنّنا حرمنا أكثر من الجميع، حرمنا من الرزق المادّي، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن طريق الإنفاق في سبيل الله للفقراء والمحتاجين.
( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون).
ألم أقل لكم اذكروا الله بالتعظيم وتجنّبوا مخالفته واشكروا نعمته وامنحوا المحتاجين شيئاً ممّا تفضّل الله به عليكم؟! لكنّكم لم تصغوا لما قلته لكم، وأخيراً وصلتم إلى هذه النتيجة البائسة في هذا اليوم الأسود.
ويستفاد ممّا تقدّم أنّ أحدهم كان شخصاً مؤمناً ينهاهم عن البخل والحرص، إلاّ أنّهم كانوا لا يسمعون كلامه، ولقد أفصح عن رأيه بقوّة بعد هذه الحادثة، وأصبح منطقه أكثر حدة وقاطعية. وقد وبّخهم كثيراً على موقفهم من الفقراء، ووجّه لهم ملامة عنفية.
وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و ( قالوا سبحان ربّنا إنّا كنّا ظالمين).
إنّ التعبير بـ (أوسطهم) في الآية السابقة يمكن أن يكون بلحاظ حدّ الإعتدال في العقل والفكر والعلم وقيل: إنّه الوسط في السنّ والعمر. إلاّ أنّه مستبعد جدّاً، وذلك لعدم وجود إرتباط بين العمر وهذه المقالة الوافية المعبّرة. والإرتباط يكون عادة ـ بمثل هذا الكلام بين العقل والفكر.
والتعبير بـ ( لولا تسبّحون) مأخوذ بلحاظ أنّ أصل وجذر كلّ الأعمال الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.
وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.
لقد سبق تسبيحهم (الإعتراف بالذنب)، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيداً عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم، وكأنّ لسان حالهم يقول: ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.
كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضاً ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونس (عليه السلام) عندما أصبح في بطن الحوت، وذلك قوله: ( لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)(206).
والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.
إلاّ أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ، حيث يقول تعالى: ( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون).
والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر، ويوبّخه بشدّة، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة، وكلّ منهم ـ أيضاً ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريباً عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.
نعم، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي. ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم، ويسعى جاهداً لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين.
ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسؤولية ما حصل، وذلك كأن يقترح شخص شيئاً، ويؤيّده الآخر في هذا الإقتراح، ويتبنّى ثالث هذا العمل، ويظهر الرابع رضاه بسكوته .. ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.
ثمّ يضيف تعالى: ( قالوا ياويلنا إنّا كنّا طاغين).
لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلاّ أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.
ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو: (ظلم النفس)، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).
وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عندما يواجهون مكروهاً ويعبّرون عن إنزعاجهم منه، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحياناً، وأحياناً اُخرى (ويل) وعادةً يكون إستعمال الكلمة الاُولى في المصيبة البسيطة، والثانية للأشدّ، والثالثة للمصيبة الكبيرة، وإستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.
وأخيراً ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل وإعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى الباريء عزّوجلّ داعين، وقالوا: ( عسى ربّنا أن يبدلنا خيراً منها إنّا إلى ربّنا راغبون)(207) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انقاذنا ممّا تورّطنا فيه ..
والسؤال المطروح هنا: هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلاّ ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقاً من ممارسات مريضة؟
اختلف المفسّرون في ذلك، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل، بلحاظ عدم إكتمال شروطها وشرائطها، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم، لأنّها كانت عن نيّة خالصة، وعوضهم عن جنّتهم باُخرى أفضل منها، مليئة بأشجار العنب المثمرة.
ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به: ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والإستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين .. بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة، وما إلى ذلك، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.
* * *
جبل الإنسان وطبع على حبّ المال، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه، لأنّ له فوائد شتّى، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الإعتدال، وجعل نصيب منه للمحتاجين، وهذا لا يعني الإقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.
وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة: ( وآتوا حقّه يوم حصاده)(208)، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(209).
إلاّ أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفاً وأنانياً، وقد لا يكون بحاجة إليه، فحرمان الآخرين والإستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.
وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم .. ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اُعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة ..
وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجآت وثورات، ويشاهدون آثارها المدمّرة باُمّ أعينهم، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الإستئثارية، ولات ساعة متاب.
ممّا يستفاد ـ ضمناً ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الرجل ليذنب الذنب، فيدرأ عنه الرزق، وتلا هذه الآية: ( إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون)(210).
ونقل عن ابن عبّاس أيضاً أنّه قال: إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق، أوضح من الشمس، كما بيّنها الله عزّوجلّ في سورة ن والقلم(211).
* * *
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالُْمجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَـبٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَـنٌ عَلَيْنَا بَـلِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ(41)
إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، وإستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الاُسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية .. فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم .. ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين، ويجعل كلا منهما في ميزان، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة، للوصول إلى الحقيقة.
وتماشياً مع هذا المنهج وبعد إستعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة، يستعرض الباريء عزّوجلّ حالة المتّقين فيقول: ( إنّ للمتّقين عند ربّهم جنّات النعيم).
«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.
ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول: ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون).
هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم، المطيع والمجرم، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عندما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.
وتستعرض الآية (50) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم، حيث يقول تعالى: ( ولئن أذقناه رحمةً منّا من بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ هذا ليّ، وما أظنّ الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى).
نعم، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها .. تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.
ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون: ( أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيّرون)(212)أي ما اخترتم من الرأي ..
إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم ...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع إعتبار.
ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل أخذتم عهداً من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد: ( أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إنّ لكم لما تحكمون).
وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من الله سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام، وبدون موازين أو ضوابط، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الإستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(213).
ويضيف سبحانه ـ استمراراً لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات، فيقول: ( سلهم أيّهم بذلك زعيم) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.
وفي آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى: ( أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين).
فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).
ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول: إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات إدّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة، بل أفضليتهم أحياناً كما يذهب بعضهم لذلك، لابدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة التالية: إمّا دليل من العقل، أو كتاب من الكتب السماوية، أو عهد من الله تعالى، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي، لذا فإنّ هذا الإدّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.
* * *
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ(42) خَـشِعَةً أَبْصَـرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـلِمُونَ (43) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (45)
تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها، والمكثرة للإدّعاءات، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.
يقول تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(214).
جملة ( يكشف عن ساق) كما قال جمع من المفسّرين، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمراً صعباً أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.
ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عندما سئل عن تفسير هذه الآية قال: كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، ألم تسمعوا قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق.
إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.
وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء، كساق الشجرة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.
وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباريء عزّوجلّ، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.
وهنا يثار سؤال: إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال، فلِمَ السجود؟
يمكن إستنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) قال: «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّداً وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(215).
![]() |
![]() |
![]() |