![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ (لمن) في الآية أعلاه «بدل» عن (لكم): (تفسير الفخر الرازي، وروح المعاني، في نهاية هذه الآيات).
وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء الله يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي إلى هزيمة المسلمين، وإذا تسلّطوا عليكم فسوف لن يرحموا صغيركم وكبيركم(1).
* * *
إنّ المشاريع العملية غالباً ما تكون منبثقة عن قناعات تسبقها، لأنّ العمل عادةً يعبّر عن تجسيد حالة الإيمان العميق للإنسان بما يقوم به، ويكون مجسّداً لأقواله وأفكاره ومتبنياته، والحديث يخرج من القلب لابدّ أن يكون موضع تأثّر وتفاعل قائلة نفسه به.
وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وبقيّة الأنبياء الكرام (عليهم السلام) كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم، لذا فإنّنا حينما نتحدّث عن «السنّة»، التي هي عبارة عن (قول) المعصوم و (فعله) و(تقريره)، أي أنّ كلام وعمل وسكوت المعصوم كلّه حجّة ودليل، لابدّ من الإلتزام به، ولهذا السبب فإنّ (العصمة) شرط أساسي لكلّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) كي يكونوا لنا اُسوة وقدوة في جميع المجالات.
والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة المهمّة والأساسية حيث يعرض للمؤمنين النماذج في هذه المجالات ومن جملتها ما جاء في هذه الآيات، حيث يتحدّث عن النبي إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه مرّتين، كما يعرض القرآن الكريم في سورة الأحزاب شخص الرّسول الأكرم كقدوة واُسوة للمسلمين.
1 ـ بناءً على هذا فإنّ جملة (من يتولّ) جملة شرطية، ولها جزاء محذوف تقديره: من يتولّ فقد أخطأ حظّ نفسه وأذهب ما يعود نفعه إليه (مجمع البيان، ج9، ص272).
«الاُسوة» هنا لها معنى مصدري، بمعنى التأسّي والإقتداء العملي، بالرغم من أنّها تفهم في الإستعمالات المتداولة بأنّها تعني الشخص موضع التأسّي.
في غزوة الأحزاب الرهيبة عرض القرآن الكريم النبي محمّد كنموذج واُسوة في الإستقامة والإيمان والإخلاص والتحلّي بالهدوء والصبر في غزوة مليئة بالمخاطر، في وقت كان المسلمون موضع تمحيص، وتعرّضوا فيه إلى زلزال عصيب، وطبعاً فانّ هذه المعنى لا ينحصر في هذه المناسبة فحسب، بل إنّ شخصية رسولنا الأكرم قدوة واُسوة عظيمة لتربيتنا في كلّ زمان ومكان.
إنّ شعار: (كونوا دعاة الناس بأعمالكم، ولا تكونوا دعاة بألسنتكم)(1) المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) دليل على ضرورة أن يكون المسلمون ـ أجمع وكلّ في مجاله ـ اُسوة وقدوة للآخرين، وبلسان العمل يمكن أن يعرّف المسلمون الإسلام للعالم، وحينئذ يمكن أن يستوعب الإسلام العالم أجمع.
أكّد القرآن الكريم مراراً على نقطة مهمّة، وهي أنّ الله تعالى إذا أمر الإنسان بالإلتزام بأحكام ـ وتكاليف معيّنة، فإنّ جميع منافعها تعود بالخير والمصلحة عليه، بالرغم من المشقّة أحياناً في تطبيق هذه الأحكام والتكاليف. ذلك لأنّ الله تعالى ليس محتاجاً لأي شيء في عالم الوجود ليستعين بنا عليه، كما أنّه ليس لديه أي نقص في أي شيء، إضافة إلى أنّ الإنسان لا يملك شيئاً ليعطيه. بل كلّ ما لديه فهو لله تعالى.
وقد جاء في الأحاديث القدسية: «ياعبادي انّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ياعبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا
1 ـ سفينة البحار، ج2، ص278، مادّة عمل.
على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ياعبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
ياعبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك من عندي إلاّ كما ينقص المحيط إذا دخل البحر.
ياعبادي إنّما هي أعمالكم اُحصيها لكم ثمّ اُوفيكم إيّاها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاّ نفسه»(1).
إنّ أعمق رابطة تربط أبناء البشرية مع بعضهم هي الرابطة العقائدية، حيث تبتني عليها سائر العلاقات الاُخرى.
ولقد أكّد القرآن الكريم مراراً على هذا المعنى وهذا اللون من الإرتباطات، وشجب صور الروابط القائمة على أساس الصداقة والحميّة الجاهلية والمنافع الشخصية التي تكون على حساب مرتكزات المبدأ، إذ أنّ ذلك يعني الإهتزاز والتصدّع في بناء الشخصية الرسالية ..
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ المعيار الأساس للإنسان هو الإيمان والتقوى، ولذا فإنّ إقامة العلاقات مع الأشخاص الذين يفقدون هذه المقوّمات أمر لا يقدم عليه الإنسان الملتزم ويحذّر من الوقوع في شراكه، ولابدّ من الرجوع إلى المعيار الإيماني في إقامة العلاقات وفق منهج الإسلام، وجعل العلاقة مع الله والموقف من الله هو الحكم والفصل في طبيعة هذه العلاقة.
1 ـ روح البيان، ج9، ص474.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله جلّ وعزّ فهو ممّن كمل إيمانه»(1).
ونقرأ في حديث آخر عنه (عليه السلام): «من أوثق عرى الإيمان، أن تحبّ في الله، وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله»(2).
ولمزيد من الإطّلاع في مجال «الحبّ في الله والبغض في الله» يراجع التّفسير الأمثل نهاية الآية (22) من سورة المجادلة.
* * *
1 ـ اُصول الكافي، ج2، باب الحبّ في الله حديث (1، 2).
2 ـ اُصول الكافي، ج2، باب الحبّ في الله، حديث (1، 2).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ويراجع المجلّد الثاني من كتاب اُصول الكافي، باب الحبّ في الله، حيث نقل العلاّمة الكليني في هذا الباب (16) حديثاً حول هذا الموضوع.عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لاَّ يَنْهَكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُم فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَـتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ وَظَـهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ(9)
يستمرّ الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول «الحبّ في الله والبغض في الله» وقطع العلاقة مع المشركين، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من
المسلمين، فإنّ المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه، والله تعالى بشّر هؤلاء ألاّ يحزنوا، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلا، حيث يقول سبحانه: ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودّة).
ويتحقّق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكّة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف، مصداقاً لقوله تعالى: ( يدخلون في دين الله أفواجاً) وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبّة والصداقة.
بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من (اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها «عبيدالله بن جحش»(1) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصاً إلى النجاشي وتزوّجها، ولأنّ الزواج بين القبائل العربية كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودّة بينهم، وهذه المسألة كان لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكّة.
إلاّ أنّ هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ هذه الآيات نزلت عندما كان المسلمون على أبواب فتح مكّة، ولأنّ «حاطب بن أبي بلتعة» كان يروم من إرسال رسالته إلى مشركي مكّة إحاطتهم علماً بعزم الرّسول على فتح مكّة، في الوقت الذي نعلم أنّ «جعفر بن أبي طالب» وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكّة (فتح خيبر)(2).
1 ـ عبيدالله بن جحش هو أخو عبدالله بن جحش، لم يبق على الإسلام بل إختار المسيحية في الحبشة، ولهذا السبب فإنّ اُمّ حبيبة إنفصلت عنه، أمّا أخوه (عبدالله) فقد بقي مسلماً وكان من مجاهدي أُحد، وإستشهد في تلك الغزوة.
2 ـ إنّ خلاصة هذه القصّة قد نقلها كثير من المفسّرين، ويمكن مراجعة شرحها في كتاب اُسد الغابة في معرفة الصحابة، ج5، ص573.
وعلى كلّ حال، إذا تباعد بعض الناس عن خطّ الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: ( والله قدير والله غفور رحيم).
كلمة (عسى) تستعمل عادةً في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقّق شيء ما، وبما أنّ هذا المعنى يستعمل أحياناً توأماً مع (الجهل) أو (العجز) فإنّ كثيراً من المفسّرين فسّروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس، إلاّ أنّنا لا نرى تعارضاً في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي، وذلك لأنّ الوصول إلى هدف معيّن لابدّ له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة، وإذا لم تستكمل هذه الشروط فإنّ هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.
وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودّة مع المشركين، حيث يقول سبحانه: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فاُولئك هم الظالمون).
وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم «المشركين» إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرهاً، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل .. وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الإمتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم.
والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة، وخصوصاً سادات قريش، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم، وأعانوا آخرون على ذلك.
وفئة اُخرى: مع كفرهم وشركهم ـ لا يضمرون العداء للمسلمين، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، حتّى أنّ قسماً منهم عقد عهداً معهم بالسلم وترك العداء.
إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم .. ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهداً مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.
وبناءً على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية منسوخة بما ورد في قوله تعالى: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1).
حيث أنّ هذه الآية من سورة التوبة تتحدّث عن المشركين الذين نقضوا العهد ومارسوا أدواراً عدائية ضدّ الإسلام والمسلمين بصورة علنية، ويتبيّن ذلك من خلال الإستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة(2).
وقد ذكر بعض المفسّرين في حديثه حول هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة أتت بهدايا لإبنتها «أسماء» من مكّة، إلاّ أنّ إبنتها إمتنعت عن قبولها، بل إنّها إمتنعت أيضاً حتّى من السماح لاُمّها من دخول بيتها، فنزلت الآية أعلاه وأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تلتقي باُمّها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن
1 ـ التوبة، الآية 5.
2 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تمثّل رخصة عقد الولاء بالنسبة للمؤمنين الذين كانوا قد قبلوا الإسلام، إلاّ أنّهم بقوا في مكّة، ولم يهاجروا. إلاّ أنّ لحن الآيات يبيّن لنا أنّ الحديث كان مختّصاً بغير المسلمين.
ضيافتها(1).
وتبيّن لنا هذه الرواية أنّ هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكّة أجمع، حيث أنّ أقليّة منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء المسلمين، وبشكل عام فإنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلّي وأساسي) لا يختّص بذلك الوقت فقط، بل يمثّل خطّاً عامّاً لطبيعة هذه العلاقة في كلّ الأزمنة سواء اليوم أو غداً، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.
وواجب المسلمين وفق هذه الاُسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً .. وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم.
أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.
وإذا تغيّر موقف جماعة ما، أو دولة ما، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني، فبدلّوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقاً للآيات أعلاه.
* * *
1 ـ روح البيان، ج9، ص481، جاءت هذه الرواية في صحيح البخاري وكثير من كتب التّفسير أيضاً بإختلافات.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَـتُ مُهَـجِرَت فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـت فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(10) وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَئَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآيات: إنّ رسول الله أمضى في
الحديبية مع مشركي مكّة عهداً، وكان من ضمن بنود هذا العهد أنّ من أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل مكّة ردّه عليهم، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله فهو لهم لا يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتاباً وقّعوا عليه.
في هذه الفترة جاءت (سبيعة بنت الحرث الأسلمية) مسلمة، والتحقت بالمسلمين في أرض الحديبية بعد الإنتهاء من توقيع العهد، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: يامحمّد، اُردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية أعلاه: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات ...) وأمرت بإمتحان النسوة المهاجرات.
قال ابن عبّاس: امتحانهنّ أن يستحلفنّ ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلاّ حبّاً لله ورسوله. فاستحلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك، فأعطى رسول الله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه فكان رسول الله يرد من جاءه من الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنهنّ(1) ويعطي أزواجهنّ مهورهنّ.
إستعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في الله» وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء الله .. أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في الله» وعن طبيعة العلاقة مع الذين إنفصلوا عن الكفر وإرتبطوا بالإيمان.
وينصبّ الحديث في الآية الاُولى ـ من هذه الآيات المباركات ـ عن النساء المهاجرات، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلّق بالنساء المهاجرات، كما
1 ـ جاء سبب النزول أعلاه في كثير من كتب التّفسير، ونحن إقتبسناه من مجمع البيان بتلخيص قليل، كما نقل الطبرسي هذا الحديث عن ابن عبّاس.
تناولت نقاطاً اُخرى تختّص بالنساء المشركات.
النقاط التي تختّص بالنساء المهاجرات هي:
1 ـ إمتحان النساء المهاجرات، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ). فالأمر الأوّل هو إمتحان النساء المؤمنات، وبالرغم من تسميتهنّ بالمؤمنات إلاّ أنّ إعلان الشهادتين ظاهرياً لا يكفي، فمن أجل المزيد من الإطمئنان على إنسجام الظاهر مع الباطن كان الأمر بالإمتحان للوثوق والتأكّد.
أمّا طريقة واُسلوب هذا الإمتحان فكما مرّ بنا، وهو أن يستحلفن أنّ هجرتهنّ لم تكن إلاّ من أجل الإسلام، وأنّها لم تكن بسبب بغض أزواجهنّ أو علاقة مع شخص آخر، أو حبّاً بأرض المدينة وما إلى ذلك.
كما يوجد إحتمال آخر حول كيفية إمتحان النسوة المهاجرات، وذلك كما ورد في الآية الثانية عشرة من نفس السورة قال تعالى: ( ياأيّها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينّه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف فبايعهنّ ...)(1).
ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضاً، فيقول البعض خلافاً لما يعتقد به، إلاّ أنّ التزام الكثير من الناس حتّى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف بالله كان سبباً في تقليص دائرة غير الصادقين. ومن هنا نلاحظ أنّ الإمتحان المذكور بالرغم من أنّه لم يكن دليلا قطعيّاً على الإيمان حقيقة، إلاّ أنّه غالباً ما يكون كاشفاً عن الحقيقة بصورة كبيرة.
لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية: ( الله أعلم بإيمانهنّ).
1 ـ الممتحنة، الآية 12.
2 ـ يقول سبحانه في الأمر اللاحق: ( فإن علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار).
ورغم أنّ البند المثبت في (وثيقة صلح الحديبية) يشير إلى أنّ الأشخاص الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة يجب إرجاعهم إلى مكّة، إلاّ أنّه خاصّ بالرجال ولا يشمل النساء، لذا فإنّ رسول الله لم يرجع أيّة امرأة إلى الكفّار. وإلاّ فرجوع المسلمة إلى الكفّار يمثّل خطراً حقيقيّاً على وضعها الإيماني، وذلك بلحاظ ضعفها وحاجتها إلى الرعاية المستمرّة.
3 ـ في ثالث نقطة التي هي في الحقيقة دليل على الحكم السابق يضيف تعالى: ( لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ).
فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد، لأنّ عقد الزواج المقدّس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادّين (خطّ الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اُخرى، إذ لابدّ أن يكون عقد الزواج يشكّل نوعاً من الوحدة والتجانس والإنسجام بين الزوجين، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق نتيجة الإختلاف والتضادّ التي سيكون عليها الزوجان في حالة كون أحدهما مؤمناً والآخر كافراً.
ونلاحظ في بداية صدر الإسلام حالات من هذا القبيل لزوجين أحدهما مؤمن والآخر كافر، ولم ينه عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يزل المجتمع الإسلامي قلقاً وغير مستقرّ بعد، إلاّ أنّه عندما تأصّلت جذور العقيدة الإسلامية وترسّخت مبادئها، أعطى أمراً بالإنفصال التامّ بين الزوجين بلحاظ معتقدهما، وخاصّة بعد صلح الحديبية، والآية ـ مورد البحث ـ هي إحدى أدلّة هذا الموضوع.
4 ـ كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفاً، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع: ( وآتوهم ما أنفقوا).
بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفّار فلابدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم، وذلك لأنّ الطلاق والإنفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب
إيمانها، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.
ويتساءل هنا: هل المقصود من الإنفاق هو المهر فقط، أو أنّه يشمل كافّة المصاريف التي بذلها الرجل لهذا الشأن؟
رجّح أغلب المفسّرين المعنى الأوّل، وهذا هو القدر المسلّم به، بالرغم من أنّ البعض ـ كأبي الفتوح الرازي ـ يرى وجوب تحمّل كافّة النفقات الاُخرى أيضاً(1).
وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفّار مع المسلمين، كما في صلح الحديبية.
وأمّا من الذي يدفع المهر؟ فالظاهر أنّ هذا العمل يجب أن تتبّناه الدولة الإسلامية (بيت المال) لأنّ جميع الاُمور التي لم يكن لها مسؤول خاصّ في المجتمع الإسلامي يجب أن تتصدّى الدولة لإدارتها، وخطاب الجمع في الآية مورد البحث دليل على هذا المعنى. (كما يلاحظ في آيات حدّ السارق والزاني).
5 ـ الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه، فهو قوله تعالى: ( فلا جناح عليكم أن تنكحوهنّ إذا آتيتموهنّ اُجورهنّ).
وهنا تؤكّد الآية الكريمة على ضرورة إعطاء النساء المهاجرات مهورهنّ في حالة الرغبة بالزواج منهنّ، شاجبة التصوّر الذي يدور في خلد البعض بأنّ النساء المهاجرات لا يستحققن مهوراً جديدة بسبب إستلامهنّ المهور من أزواجهنّ السابقين، وقد تحمّل بيت المال مبالغها ودفعها لأزواجهنّ السابقين.
إنّ زواجكم من هؤلاء النسوة لا يمكن أن يكون مجانيّاً، ولابدّ أن يؤخذ بنظر الإعتبار مهر يتناسب مع حرمة المرأة المؤمنة.
ومن الضروري ملاحظة أنّ إنفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق، إلاّ أنّه لابدّ من إنتهاء العدّة.
1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص126.
وقد ذكر الفقيه «صاحب الجواهر» في شرحه لكلام «المحقّق الحلّي» «وأمّا في الزوج والزوجة غير الكتابين، فالحكم فيهما انّ إسلام أحد الزوجين موجب لإنفساخ العقد في الحال ان كان قبل الدخول وان كان بعده وقف على إنقضاء العدّة بلا خلاف في شيء من ذلك ولا إشكال نصّاً وفتوى، بل لعلّ الإتّفاق نقلا وتحصيلا عليه»(1).
6 ـ أمّا إذا كان الأمر على العكس، وكان الزوج قد آمن بالإسلام، وبقيت المرأة كافرة، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية، فتنقطع صلة زواجهما، كما في قوله تعالى في تكملة الآية: ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر).
«عصم»: جمع عصمة، وهي في الأصل بمعنى المنع، وهنا ـ بمعنى النكاح والزوجية ـ لوجود القرائن ـ وصرّح البعض بأنّه النكاح الدائم ـ والتعبير بالعصمة أيضاً مناسب لهذا المعنى، لأنّه يمنع المرأة من الزواج من أيّ شخص آخر إلى الأبد.
«الكوافر»: جمع كافرة، بمعنى النساء الكافرات.
وقد بحث الفقهاء في أنّ هذا الحكم هل هو مختّص بالنساء المشركات فقط، أم أنّه يشمل أهل الكتاب أيضاً كالنسوة المسيحيات واليهوديات؟ وتختلف الروايات في هذا المجال، حيث يجدر متابعتها في كتب الفقه. إلاّ أنّ ظاهر الآية مطلق ويشمل جميع النساء الكافرات، كما أنّ سبب النزول لم يحدّد ذلك.
أمّا مسألة «العدّة» فهي باقية بطريق أولى، لأنّها إذا أنجبت طفلا فسيكون مسلماً لأنّ أباه مسلم.
7 ـ أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقنّ بالكفّار فانّ لكم الحقّ في المطالبة بمهورهنّ مثلما للكفّار
1 ـ جواهر الكلام، ج30، ص54.
الحقّ في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين، حيث يقول تعالى: ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) وهذا ما توجبه العدالة والإحترام المتقابل للحقوق.
وفي نهاية الآية ـ وتأكيداً لما سبق ـ يقول سبحانه: ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم).
إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي، الممتزجة بحكمته تعالى، والتي لاحظت في تشريعاتها كافّة الحقوق، تنسجم مع مبادىء العدل والمرتكزات والاُصول الإسلامية، ولابدّ من الإلتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهيّة يُعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.
وإستعرضت ثاني وآخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم، بعض الاُمور في هذا الصدد يقول تعالى أنّه في كلّ مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفّار، ثمّ حدثت معركة بينكم وبين الكفّار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فاعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفّار: ( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا).
وتمشّياً مع النصّ القرآني فإنّ بإمكان المسلمين الذين فقدوا زوجاتهم اللواتي التحقن بمعسكر الكفر أن يأخذوا مهورهنّ من الكفّار، كما كان يحقّ للكفّار إستلام مهور زوجاتهم اللواتي إعتنقن الإسلام وهاجرن إلى المدينة.
وتحدّثنا بعض الروايات أنّه في الوقت الذي طبّق المسلمون هذا الحكم العادل، فإنّ مشركي مكّة إمتنعوا عن الإلتزام به وتنفيذه، لذا فقد اُمر المسلمون بصيانة حقّ هولاء الأفراد وذلك بإعطائهم ما يعادل المهور التي دفعوها لزوجاتهم اللواتي التحقن بالمشركين من الغنائم التي حصلوا عليها قبل تقسيمها على الآخرين.
ويحتمل أن يكون هذا الحكم خاصّاً بالجماعات التي لم يكن لها عهد مع
المسلمين، حيث من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء لم يكونوا مستعدّين لدفع مهور أمثال هؤلاء النسوة للمسلمين، كما يمكن الجمع بين الرأيين أيضاً.
«عاقبتم» من مادّة معاقبة، وهي في الأصل من عقب (على وزن كدر) بمعنى: (كعب القدم) ولهذا السبب فإنّ كلمة «عقبى» جاءت بمعنى الجزاء والعقوبة، أي بمعنى عقاب لعمل فيه مخالفة. لذا فإنّ المعاقبة تستعمل بمعنى القصاص، كما يستعمل هذا المصطلح أيضاً (معاقبة) بمعنى (التناوب) في أمر ما، لكون الأشخاص الذين ينجزون عملا ما بشكل متناوب، يعقب كلّ منهم الآخر.
ولذا فإنّ كلمة (عاقبتم) في الآية أعلاه جاءت بمعنى إنتصار المسلمين على الكفّار وعقابهم، وأخذ الغنائم منهم، كما جاءت أيضاً بمعنى «التناوب» أي يوم ينتصر فيه الكفّار على المسلمين ويوم بالعكس.
ويحتمل أيضاً المقصود من هذه العبارة هو: الوصول إلى نهاية وعاقبة عمل ما، والمراد من نهاية العمل هنا هو أخذ الغنائم الحربية.
وأي من هذه المعاني كان، فإنّ النتيجة واحدة، إلاّ أنّ طرق الوصول إلى هذه النتيجة متفاوتة.
وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الإلتزام بالتقوى حيث يقول تعالى: ( واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون).
والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقّة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحقّ إلاّ أقوال الزوجين، ولإحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الإدّعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر، لذا يوصي بالتقوى.
وجاء في التواريخ والروايات أنّ هذا الحكم الإسلامي قد شمل ستّ نسوة ـ فقط ـ انفصلنّ عن أزواجهنّ المسلمين والتحقن بالكفّار، وقد أعطى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أزواجهنّ مهورهنّ من الغنائم الحربية.
من خلال إستعراضنا الآيات الكريمة أعلاه نلاحظ عمق الدقّة وروعة الظرافة واللطف في طبيعة الأحكام التي وردت فيها، موضّحة إلى أي حدٍّ يهتمّ الإسلام بأصل العدالة والقسط في تشريع أحكامه حتّى في أحرج الظروف وأصعبها، لأنّه يسعى لتعميم الخير وإبعاد الأذى والضرر حتّى عن الكفّار.
في الوقت الذي نلاحظ أنّ العرف العامّ في حياتنا العملية يتعامل في الظروف والأوقات العصيبة بخصوصية معيّنة وإستثناء خاصّ ويتخلّى عن الكثير من قيم الحقّ والعدل ويدّعي أن لا مكان لإحقاق الحقّ فيها .. في حين تؤكّد التشريعات الإلهية على تحمّل كلّ صعوبة حتّى في أدقّ الظروف وأشدّها ضيقاً منعاً لهدر أيّ حقّ، لا للقريبين فقط. بل حتّى للأعداء، إذ يجب أن يحافظ على حقوقهم وترعى حرماتهم.
إنّ مثل هذه الأحكام الإسلامية هي في الحقيقة نوع من الإعجاز، ودليل على حقّانية دعوة الرّسول الأعظم حيث السعي بمنتهى الجهد لإقامة العدل حتّى في أسوأ حالات الإنتهاك للحرمات الإسلامية في مجال النفس والمال كما كان عليه فعل المجتمع الجاهلي.
* * *
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَـتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلَـدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَـن يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوف فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12)
إستمراراً للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي إستعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات، تتحدّث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكّة عندما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على جبل (الصفا) يأخذ البيعة من الرجال، وكانت نساء مكّة قد أتين إلى رسول الله من أجل البيعة فنزلت الآية أعلاه، وبيّنت كيفية البيعة معهنّ،
ويختّص خطاب الآية برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول تعالى: ( ياأيّها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله ... إلى قوله:... إنّ الله غفور رحيم).
![]() |
![]() |
![]() |