سُورَة الإنسان

(الدهر)

مَدنيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا وَاحد وَثلاثوُن آية

«سورة الإنسان»

محتوى السورة:

هذه السورة رغم قصرها، فانَّ لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة، ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام:

القسم الأوّل: يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

القسم الثّاني: يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول الخاص بأهل البيت(عليهم السلام).

القسم الثّالث: تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات قصيرة ومؤثرة.

القسم الرّابع: يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

القسم الخامس: جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

ولهذه السورة أسماء عديدة; أشهرها (إلانسان) (الدهر) و(هل أتى) وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة، وإن كانت الرّوايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها، قد ذكرت اسم (هل أتى) لهذه السورة.

* * *

[240]

هل أنَّ هذه السورة مدنية؟

هناك أقوال في أوساط المفسّرين حول مدنية هذه السورة أو مكيَّتها، فالمفسّرون ومنهم علماء الشيعة أجمعوا على أنَّ السورة بتمامها أو على الأقل ما جاء في صدرها والتي تتحدث عن الأبرار والأعمال الصالحة هي مدنية، وسيأتي فيما بعد شرح القصة التي كانت سبباً لنزول السورة، والقصة تحكي عمّا نذرهُ  أمير المؤمنين والزهراء الحسنان(عليهم السلام) وخادمتهم وفضة.

والمشهور بين علماء أهل السنة أنّها مدنية كما قال القرطبي في تفسيره: (وقال الجمهور مدنية)(1)، ونذكر هنا أسماء العلماء الذين قالوا بمدنية السورة أو بعضها:

1 ـ الحاكم أبو القاسم الحسكاني: فقد نقل عن ابن عباس عدداً من السور المكية والمدنية، ورتَّبها كما نزلت، فكانت هذه السورة عنده في قائمة السور المدنية والتي نزلت بعد سورة الرحمن وقبل سورة الطلاق(2)، وأورد صاحب كتاب الإيضاح الأُستاذ أحمد زاهر نفس المعنى وذلك عن ابن عباس(3).

2 ـ نقل في (تاريخ القرآن) لأبي عبد الله الزنجاني عن كتاب (نظم الدرر وتناسق الآيات والسور) عن كبار علماء أهل السنة أنَّ سورة الإنسان اعتبرت من السور المدنية(4).

3 ـ ونقل كذلك في كتاب (فهرست ابن النديم) عن ابن عباس أن سورة هل أتى هي السورة المدنية الحادية عشرة(5).

4 ـ نقل في (الإتقان) للسيوطي عن البيهقي في (دلائل النبوة) عن عكرمة أنَّه


1 ـ تفسير القرطبي، ج 10، ص 6909.

2 ـ تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 405.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ تاريخ القرآن، ص 55.

5 ـ المصدر السابق.

[241]

قال: إنّ سورة (هل أتي) مدنيَّة(1).

5 ـ ونقل هذا المضمون أيضاً بطرق مختلفة عن ابن عباس في (الدرر المنثور)(2).

6 ـ نقل الزمخشري في (تفسير الكشاف) ما هو مشهور في سبب نزول آيات صدر السورة وقال: هي في نذر علي وزوجته وولديه(عليهم السلام)(3).

7 ـ ونقل كذلك جمع كثير من كبار علماء أهل السنة في أنَّ سبب نزول الآيات الواردة في صدر السورة (أنّ الأبرار ...) قد نزلت في حق عليّ وفاطمة الزهراء والحسن والحسين(عليهم السلام) وهي شهادة على مدنيّة السورة (لأن ولادة الحسن والحسين(عليهما السلام) كانت في المدينة) كالواحدي في (أسباب المنزل) والبغوي في (معالم التنزيل) وسبط بن الجوزي في (التذكرة) والگنجي الشافعي في (كفاية الطالب) وجمع آخر(4).

وهذه المسألة مشهورة بكثرة لغاية أن (محمد بن إدريس الشافعي) وهو أحد الأئمة الأربعة لأهل السنة يقول في شعره:

إلام، إلام وحتى متى؟ أعاتب في حبّ هذا الفتى!

وهل زوجت فاطم غيره؟ وفي غيره هل أتى هل أتى؟!(5)

وهناك أدلَّة كثيرة في هذا الإطار وسنبيّن قسماً منها عند توضيح سبب نزول الآية: (إنّ الأبرار يشربون ...).

ومع ذلك كله فإنَّ البعض يصرُّ بعصبية على أنَّ السورة مكية، وينكرون ما قيل من الرّوايات التي وردت في حق السورة ونزولها في المدينة وإنكار نزولها


1 ـ تفسير الميزان، ج 20، ص 221.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ الكشاف، ج 4، ص 670.

4 ـ إحقاق الحق، ج 3، ص 157 ـ 170 (مع ذكر أسماء وصفحات كتبهم).

5 ـ المصدر السابق.

[242]

كذلك في حق علي وأهل بيته(عليهم السلام)!

وذلك من العجب حقّاً، فأينما تنتهي الآية أو الرواية إلى فضائل علي وأهل البيت(عليهم السلام) يعلو الصراخ والعويل وتظهر الحساسيات الشديدة وكأنّ الإسلام قد وقع في خطر! رغم أنَّهم يدّعون أنَّ علياً(عليه السلام) من الخلفاء الراشدين ومن أئمة الإِسلام العظام وأنَّهم يتودَّدون إلى أهل البيت(عليهم السلام)، ونرى من نتائج حكم الروح الأُموية على أفكار هذه الجماعة ووليدة الإِعلام المضلل لتلك المرحلة المشؤومة. حفظنا الله من جميع الشبهات.

فضيلة السورة:

في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنّة وحريراً»(1).

وورد في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوجه اللّه من الحور العين مأة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)»(2).

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 402.

2 ـ المصدر السابق.

[243]

الآيات

هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَـنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً(1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـنَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـهُ سَمِيعَاً بَصِيراً(2) إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ سَلَـسِلاَْ وَأَغْلَـلاً وَسَعِيراً(4)

التّفسير

الانسان مخلوق من النطفة التافهة:

تتحدث الآيات الأُولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أنَّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونِعَمِ الجنان، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان، لأنَّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهيء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة.

فيقول تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)(1).


1 ـ «هل»: يراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الإستفهام التقريري أو الإنكاري، ولكن الظاهر فيها الإستفهام التقريري، فيكون معنى الجملة: (أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً).

[244]

نعم، كانت ذرات وجود هذا الانسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة، بين أمواج قطرات ماء البحر. في الهواء المتناثر في جو الأرض، وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة، وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقاً.

ولكن هل أنَّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ويشمل بذلك عموم البشر، أم أنَّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدم(عليه السلام)؟

الآية الأُخرى التي تقول: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة) قرينة واضحة على المعنى الأوّل، وإن كان البعض يرى أنَّ الإنسان في الآية الأُولى يراد به آدم(عليه السلام)، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده، ولكنَّ هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعدٌ جدّاً.

وهناك أقوال في تفسير (لم يكن شيئاً مذكوراً) منها: إنَّ الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً عندما كان في عالم النطفة والجنين، وإنّما أصبح ممّن يذكر عندما طوى مراحل التكامل فيما بعد; ففي حديث ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام) «كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق»(1).

وجاء في بعض التفاسير أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهوراً في حياتهم وبعد موتهم.

وقيل «إنَّ عمر بن الخطاب» قد سمع أحداً يتلو هذه السورة فقال: «ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده»(2) وهذا من عجائب القول، لاعتراضه على مسألة الخلق.

ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى (إنّا


1 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 406.

2 ـ المصدر السابق.

[245]

خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً).

«أمشاج»: جمع مَشَجْ، على وزن (نسج) أو (سبب)، أو أنه جمع «مَشِيجْ» على وزن (مريض) بمعنى المختلط.

ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث، وقد أُشير إلى ذلك في روايات المعصومين(عليهم السلام) بصورة إجمالية، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات، أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة، لأنَّها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

ويحتمل كون «الأمشاج» إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية(1).

«نبتليه»: إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإِختبار والإمتحان، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتكليف وتحمل المسؤولية، وبما أنَّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة، والعين والأُذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

وقيل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنساناً كاملاً، ولكن التمعن في عبارة «نبتليه»، وكذلك في كلمة «الإنسان» نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه.

وممّا يستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي


1 ـ يجب الإلتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد، وجاءت صفتها بصورة الجمع، وهي «أمشَاج»، باعتبار أنَّ النطفة تركبت من أجزاء مختلفة، وأنّها في حكم الجمع، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أنَّ «أمشَاج» مفرد رغم أنَّها من أوزان الجمع .

[246]

إدراكاته الحسية، وبعبارة أخرى إنَّ الإدراكات الحسية هي أُمُّ المعقولات، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضاً.

إنَّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين، هما: «الهداية» و«الإختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك: (إنَّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً)(1). إنّ للهداية هنا معنى واسعاً، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و«الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

توضيح:

إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الإبتلاء والإختبار والتكامل، فأوجد فيه المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف، ووهبه القوى اللازمة لذلك، وهذه هي (الهداية التكوينية)، ثمّ جعل في أعماق فطرته عشقاً لطي هذا الطريق، وأوضح له السبيل عن طريق الإلهام الفطري، فسمي ذلك بـ (الهداية الفطرية)، ومن جهة أُخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات والقوانين النيّرة السماوية، وذلك هو «الهداية التشريعية»، وجميع شعب الهداية الثلاث هذه لها صبغة عامّة، وتشمل جميع البشر.

وعلى المجموع فإنّ الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمّة مصيرية في حياة الإنسان: «مسألة التكليف»، و«مسألة الهداية»، ومسألة «الإرادة والإختيار» والتي تعتبر متلازمة ومكمّلة بعضها للبعض الآخر.

التعبير بـ (شاكراً) و(كفوراً) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية، لإنّه مَنْ قابل النِعَمِ الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكاً، فقد أدّى شكر


1 ـ «شاكراً» وكفوراً» يعتقد الكثير أنّهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبراً لـ (يكون) محذوف وتقديره (إمّا يكون شاكراً وإمّا يكون كفوراً).

[247]

هذه النعمة، وأمّا من خالف فقد كفرها.

وبما أنَّ الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي، فقد عبّر عن الشكر باسم الفاعل، والحال أنّ الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال: (كفور)، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفراناً شديداً منهم باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلّ وضع وسائل الهداية تحت تصرفهم، ولذا فإنَّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفراناً شديداً.

والجدير بالذكر أنّ كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة، وكذلك للكفر الإعتقادي، وهو ما أورده الراغب في مفرداته.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول: (إنّا اعتدنا للكافرين سلاسلاْ وأغلالاً وسعيراً).

التعبير بـ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلّة، وبالرغم من أنَّ تهيئة الشيء مسبقاً هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز العمل، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى، لأنّه إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، وفي الوقت نفسه يبيّن للكافرين أنَّ هذه العقوبات حتمية ووسائلها جاهزة.

«سلاسل»: جمع (سلسلة)، وهي القيد الذي يقاد به المجرم، و«الأغلال» جمع غل، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد(1).

على كلّ حال فإنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون، وهو ما أُشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل، إنَّ إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في


1 ـ وضّحنا شرحاً مفصلاً حول معنى الأغلال في ذيل الآية (8) من سورة يس.

[248]

الآخرة، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسَّد لهم في الإخرة لتلهب أطرافهم.

* * *

ملاحظة:

عالم الجنين الصاخب:

من الواضح أنَّ نطفة الإنسان مركّبة من ماء الرجل والمرأة، ويسمى الأوّل (الحيمن) والثّاني (البويضة) فالأصل وجود (النطفة) ثمّ تركيبها، وبعد ذلك تتمّ المراحل المختلفة للجنين، وهذا هو من العجائب العظيمة لعالم الخلق، وتطور العلم (علم الأجنَّة) قد كشف الكثير من أسراره وإن كانت هناك أسرار كثيرة لم يتمّ كشفها لحدّ الآن، ونذكر هنا قسماً من العجائب والتي تعدّ زاوية صغيرة من عالم الجنين:

1 ـ «الحيمن» وهو ما يخرج مع ماء الرجل، وهو كائن حي متحرك صغير لا يرى بالعين المجرّدة، وله رأس وعنق وذنب متحرك، وممّا يثير العجب أنّ الرجل في كلّ إنزال يضم ماؤهُ من الحيامن المليونين إلى 500 مليون حيمن، وهو ما يعادل نفوس عدّة دول، ولكن لا يدخل من هذا العدد الهائل إلى البيضة إلاّ واحد أو عدّة حيامن لإخصاب البيضة، وسبب وجود هذا العدد من الحيامن يكمن في الخسائر التي تلحق بها في طريقها إلى البيضة وتلقيحها، ولو لم يتوفر مثل هذا العدد لكان أمر الحمل صعباً.

2 ـ إنّ حجم «الرحم» قبل الحمل يكون بحجم الجوزة الواحدة، وعند انعقاد النطفة ونمو الجنين يتسع الرحم بشكل ملحوظ ليشغل مكاناً واسعاً، والعجب أنّ جدار الرحم يكون مطاطياً إلى حد يكون قادراً على استيعاب حجم الطفل وحركاته.

3 ـ إنَّ الدم لا يجري في الرحم بواسطة العروق والشرايين، بل يجري بين

[249]

عضلات الرحم بصورة ميزاب، لأنَّ الرحم في اتساع مستمر فإذا ما وجد العِرقْ فإنّه لن يتحمل السحب والتمدد الكبير.

4 ـ يعتقد بعض العلماء أنّ لبيوض المرأة شحنة موجبة، وإنَّ للحيمن شحنة سالبة، ولذا يجذب أحدهما الآخر، ولكن عند تخصيب الحيمن للبيضة فإنَّ شحنة النطفة المتشكلة تكون سالبة. وتطرد بذلك بقية الحيامن الموجودة، وقال آخرون: عندما يدخل الحيمن في البيضة تترشح مادة كيميائية خاصّة لتطرد بقية الحيامن.

5 ـ إنّ الجنين يسبح في كيس كبير فيه ماء غليظ يدعى بـ «آمني بوس» له خاصية مقاومة ما يقع على بطن المرأة من الضربات، وتحمل ما يقع من حركات الأم الشديدة، بالإضافة إلى ذلك فإنّه يحفظ الجنين بمعدل حراري ثابت، ولا تؤثر فيه تغيرات الحرارة الخارجية بسرعة، والجدير بالذكر أنّ الكيس يجعل الجنين عديم الوزن، ويمنع من حدوث الضغط على أعضاء الجنين بعضها على بعض ممّا يسبب ذلك ضرراً على الجنين!

6 ـ تتمّ تغذية الجنين عن طريق المشيمة وحبل السرّة، أي أنّ دم الأُم والمواد الغذائية والأوكسجين يدخل إلى المشيمة ثمّ يبدأ حبل السرّة بتصفية هذه المواد لتدخل إلى قلب الجنين وتتوزع منه إلى بقية أعضاء البدن، والطريف أنّ البطين الأيسر والأيمن لقلب الجنين مترابطان مع بعضهما الآخر، لأنّ التصفية هنا لا تتمّ إلاَّ عن طريق الرئة، وذلك لأنّ الجنين لا يتنفّس ولكنّه عند تولده تنفصل الأوعية بعضها عن البعض الآخر، ويبدأ جهاز التنفس عندئذ بالعمل.

* * *

[250]

الآيات

إِنَّ الاَْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْس كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً(5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً(9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً(10) فَوَقَـهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً(11)

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النّبي:

قال ابن عباس: إنَّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إنْ برئا مّما بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام (طبقاً لبعض الرّوايات أنَّ الحسن والحسين أيضاً قالا نحن كذلك ننذر أن نصوم) فشفيا وما كان معهم شيء،

[251]

فاستقرض علي(عليه السلام) ثلاث أصواع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزته، فوضعوا الأرغفة بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل، وقال: السلام عليكم، أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثزوه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً.

فلما أمسوا ووضعوا الصعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه (وباتوا مرة أُخرى لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً) ووقف عليهم أسير في الثّالثة عند الغروب، ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم» فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عنياها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل(عليه السلام) وقال: خذها يا محمد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

وقيل: إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من: (إنّ الأبرار) حتى (كان سعيكم مشكوراً) ومجموعها (18) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب «الغدير» بشيء من الاختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب، وذكر في الغدير أنّ الرّواية المذكورة قد نقلت عن طريق (34) عالماً من علماء أهل السنّة المشهورين (مع ذكر اسم الكتاب والصفحة).

وعلى هذا، فإنّ الرّواية مشهورة، بل متواترة عند أهل السنة(1).

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمة(عليهما السلام)، وأوردوا هذه الرّواية في كتبهم العديدة واعتبروها من


1 ـ نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير، ج 3، ص 107 إلى 111 وفي كتاب إحقاق الحق، ج 3، ص 157 إلى 171 عن 36 نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

[252]

مفاخر الرّوايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، واشتهارها كان مدعاة لذكرها في الأشعار حتى أنّها وردت في شعر (الإمام الشافعي) وتثار عند المتعصبين هنا حساسيات شديدة بمجرّد سماعهم رواية تذكر فضائل أمير المومنين(عليه السلام) فيعمدون إلى اثارة العديد من الاشكالات بهذا الشأن، ومنها:

1 ـ إدعاؤهم مكّية السورة، والحال أنّ القصّة حدثت بعد ولادة الإمامين الحسن والحسين(عليهما السلام)، وما كانت ولادتهما إلاّ بالمدينة! وفي أيدينا دلائل واضحة كما بينّا في شرح صدر السورة، إذ أنّ السورة تشير إلى أنّها مدنّية، وإن لم تكن بتمامها فإنّ (18) آية منها مدنيّة.

2 ـ قولهم: إنّ لفظ الآية عام، فكيف يمكن تخصيص ذلك بأفراد معيّنين، ولكن عمومية مفهوم الآية لا ينافي نزولها في أمر خاص، وهناك عمومية في كثير من آيات القرآن، والحال أنّ سبب نزولها الذي يكون مصداقاً تامّاً لها في أمر خاص، والعجب لمن يتخذ من عمومية مفهوم آية ما دليلاً على نفي سبب النزول لها.

3 ـ نقل بعضهم أسباباً أُخرى لنزول هذه السورة لا تتفق مع السبب الذي ذكرناه في نزول الآية، منها ما نقله السيوطي في الدرّ المنثور قال: إنّ رجلاً أسود كان يسأل النّبي عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «مه يا عمر» وأنزلت على رسول الله هل أتى(1).

وفي الدرّ المنثور عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله فقال له رسول الله: «سل واستفهم»، فقال: يا رسول الله فُضِّلتم علينا بالألوان والصور والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إنّي


1 ـ الدر المنثور، ج 6، ص 297.

[253]

لكائن معك في الجنّة؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده، إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام» ثمّ بيّن ما يترتب من الثواب لمن يقول لا إله إلا الله وسبحان الله وبحمده. ونزلت عليه السورة (هل أتى)(1).

إنّ ما ذكر في هذه الرّوايات لا يتناسب مع مضمون آيات السورة، والمتوقع هو وضع هذه الرّواية من قبل عمال بني اُميّة وتزويرها لدحض ما تقدم وما قيل في سبب النزول في حق علي(عليه السلام).

4 ـ الإحتجاج الآخر الذي يمكن ذكره هنا: كيف يمكن لإنسان أن يصوم ثلاثة أيّام ولا يفطر إلاّ بالماء؟!

إنَّ هذا الإشكال مدعاة للعجب، لأنّنا نرى تطبيق ذلك عند بعض الناس، إذ أنّ بعض المعالجات الطبية تستدعي الإمساك لمدة(40) يوماً، ولا يتناول خلال الأربعين يوماً إلاّ الماء، ممّا أدّى ذلك إلى شفاء الكثير من الأمراض بهذه الطريقة، حتى أنَّ طبيباً من الأطباء غير المسلمين يدّعى (ألكسي سوفورين) كتب كتاباً في باب الآثار المهمّة في الشفاء من جراء الإمساك مع ذكر أُسلوب دقيق لذلك(2)حتى أنّ بعض زملاؤنا المشتركين معنا في تأليف كتاب التفسير الأمثل قضى إمساكاً لمدّة (22) يوماً.

5 ـ البعض الآخر أراد الإستهانة بهذه الفضيلة فجاء من طريق آخر كالآلوسي إذ يقول: إن قلنا إنّ هذه السورة لم ترِد في حق علي وفاطمة لم ينزل من قدرهم وشأنهم شيء، لأنّ اتصافهم بالأبرار أمرٌ واضح للجميع، ثمّ يبدأ بتبيان بعض فضائلهم فيقول: ماذا يمكن أن يقوله الإنسان في حقّ هذين العظيمين غير أنّ علياً(عليه السلام) أمير المؤمنين ووصي رسول الله، وأنّ فاطمة بضعة رسول الله، وأنّها