التّفسير

لا قدرة لهم للدفاع ولا طريقاً للفرار

في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان، ويوضح أبعاد الفاجعة، يقول تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون)، انطلقوا إلى جهنّم التي طالما كنتم تستهزئون بها، توجهوا إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم

[301]

السيئة.

(انطلقوا): من مادة (إنطلاق) وهو الإنتقال من غير مكث، ويظهر منه كذلك الحرية المطلقة، وهذا في الحقيقة توضيح لحالهم في عرصة المحشر إذ يوقفوهم للحساب مدّة طويلة، ثمّ يتركونهم ويقال لهم: انطلقوا إلى جهنّم من غير مكث أو توقف. ومن الممكن أن يكون المتكلم هنا هو الله تعالى، أو ملائكة العذاب، وعلى كلّ حال فإنّه سياق ممزوج بالتوبيخ الشديد الذي يعتبر بحدّ ذاته عذاباً مؤلماً.

ثمّ يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب، فيقول سبحانه:(انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب): توجهوا نحو ظلّ من دخان خانق له ثلاث شعب: شعبة من الاعلى، وشعبة من الجهة اليمنى، وشعبة من الجهة اليسرى، وعلى هذا الأساس فإنّ دخان النّار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.

ثمّ يقول تعالى: (لا ظليل ولا يغني من اللهب) فليس في هذا الظل راحة، ولا يمنع من الإحتراق بالنّار لأنّه نابع من النّار.

وربّما كان التعبير بـ (ظل) سبباً لتصور وجود الظل الذي يخفف من حرارة النّار، ولكنّ هذه الآية تنفي هذا التصور وتقول: ليس هذا الظل كما تتصورون، أنّه ظل محرق وخانق، وناتج من دخان النّار الغليظ الذي يعكس حرارة اللهب بصورة كاملة(1) ويشهد على هذا الحديث قوله تعالى في سورة الواقعة حول أصحاب الشمال: (في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم).(2)

وقيل: إنّ هذه الشعب الثلاث هي انعكاس للتكذيبات الثلاثة لأساس الدين، وهي التوحيد والنبوّة والمعاد، لأنّ تكذيب المعاد لا ينفصل عن التكذيب بالنبوّة والتوحيد، وقيل، إنّهاإشارة إلى مبادىء الذنوب الثلاثة: القوّة الغضبية والشهوية


1 ـ (لا ظليل): صفة لـ (ظل) ولهذا جاء مجروراً.

2 ـ الواقعة، 42 ـ 44.

[302]

والوهمية، نعم، إنّ ذلك الدخان المظلم تجسيد لظلمات الشهوات.

ثمّ يضيف وصفاً آخر لتلك النار المحرقة: (إنّها ترمي بشرر كالقصر)(1)ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحياناً إلاّ بمقدار رأس الإبرة، التعبير بـ «القصر» هنا تعبير مليء بالمعنى، وربّما يتوهّم أحد أنّه لو قيل شررٌ كالجبل كان أنسب، ولكن لا ينبغي نسيان أنّ الجبال كما أُشير إليها في الآيات السابقة هي أساس أنواع البركات وعيون المياه العذبة والسائغة، ولكن قصور الظالمين هي التي تكون منشأ للنيران المحرقة والشرر المتطاير منها(2).

ثمّ ينتهي في الآية الأُخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النّار المحرقة، فيقول تعالى: (كأنّه جمالت صفر)(3).

«جماله»: جمع «جمل»، وهو البعير(مثل الحجر والحجارة) و«صفر» ـ على وزن قفل ـ جمع أصفر ويطلق أحياناً على اللون الداكن المائل إلى الأسود، ولكنّ الأوّل يبدو أنسب، لأنّ شرر النّار يكون أصفر مائلاً إلى الحمرة، وفي الآية السابقة شبّه حجم الشرر بالقصر الكبير، وفي هذه الآية من حيث الكثرة واللون والسرعة والحركة والتفرق لجميع الجهات شبهها بمجموعة من الجمال الصفر المتجهة إلى كل صوب.

وإذا كان الشرر هكذا، فكيف بنفس النّار المحرقة، وما جعل من العذاب الأليم في تلك النّار؟!

ويعود مرة أُخرى في آخر قسم من الآيات لينبّه بذلك التنبيه المكرر، فيقول:


1 ـ (شرر): على وزن (ضرر) جمع شرارة، وهو ما يتطاير من النّار، وأخذت من مادة (الشر).

2 ـ نقل بعض المفسّرين كالفخر الرازي عن ابن عباس في تفسير «القصر» فقال: أعواد في الصحراء كانوا يقطعونها ثمّ يجمعوها ويضعوها فوق بعض للشتاء (لا يستبعد هذا التفسير أيضاً وذلك لما كانوا يشبهون الأعواد المجموعة والمتراصة بالقصر العالي).

3 ـ لعلّ ضمير (كان) يعود على (قصر) أو إلى (الشرر) وبما أنّ (شرر) بصيغة الجمع فلا يمكن ذلك من دون تأويل إلاّ أن نجعل (شرر) اسم جمع.

[303]

(ويل يومئذ للمكذبين).

ثمّ يبدأ فصلاً آخر من علامات ذلك اليوم المهول، فيضيف تعالى: (هذا يوم لا ينطقون)(1).

نعم إنّ الله يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين والمذنبين كقوله في الآية (65) من سورة يس: (اليوم نختم على أفواههم)، وكذلك ما ورد في آخرها: (فتكلمنا أيديهم وأرجلهم) وطبقاً لآيات أُخر فإنّ جلودهم تبدأ بالتكلم وتكشف عن جميع الخفايا.

ثمّ يضيف تعالى في القول: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون)(2) ليس لهم الرخصة في الكلام، ولا في الإعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأنّ الحقائق واضحة هناك، وليس لديهم ما يقولوه، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الإستفادة من الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء، والإستهزاء بالأولياء، وإبطال الحق وإحقاق الباطل.. يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم، لإبطال مفعوله، وهذا عذاب شديد وأليم بحدّ ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو الإعتذار.

روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «الله أجل وأعدل وأعظم من أن يكون لعبده عذر ولا يدعه يعتذر به، لكنه فلج فلم يكن له عذر»(3).

وبالطبع يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ المجرمين يتحدثون أحياناً في يوم القيامة، وقد ذكرنا السبب فيما سبق أنّ ذلك لتعدد المواقف في يوم القيامة، ففي بعض المواقف يتوقف اللسان ويبدأ دور الأعضاء بالشهادة، وأحياناً أُخرى


1 ـ يجب الإلتفات إلى أن (يوم) هنا غير مُنَوَّن، لأنه أُضيف إلى مفهوم الجملة (لا ينطقون).

2 ـ قد يتساءل عن السبب في كون جملة (فيعتذرون) مرفوعة في حين أن القاعدة تنص على النصب وحذف النون، قيل: أنّهم تركوا الإعتذار، لأنّهم لا عذر لهم وليس لعدم الإذن الإلهي.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 490، الحديث 22.

[304]

ينطق اللسان بكلمات الحسرة والندم والأسف الشديد.

ثمّ يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله: (ويل يومئذ للمكذّبين).

في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عمّا يجري في ذلك اليوم فيقول تعالى: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين) جمعنا في هذا اليوم جميع البشر من دون استثناء للحساب، وفصل الخصام في هذه العرصة والمحكمة العظمى.

ويقول: والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم: (فإن كان لكم كيدٌ فكيدون)(1).

هل يمكنكم الهرب من دائرة نفوذ حكومتي؟

أو هل يمكنكم التغلّب على قدرتي؟

أو هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟

أو أنّ لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكلين بكم وبحسابكم؟

اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنّكم لا تستطيعون!!

في الحقيقة إنّه أمرٌ تعجيزي، أي أنّ الإنسان يعجز أمام هذا الأمر، كالذي جاء في شأن القرآن المجيد حيث يقول تعالى: (إن كنتم في ريب ممّا نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله).

(كيد): على وزن (صيد) يقول الراغب في مفرداته: هو نوع من الإحتيال، ويكون أحياناً مذموماً، وأحياناً ممدوحاً، وإن كان الغالب استعماله في الذم (كما هو الحال في الآية محل بحثنا).

ومن الطبيعي أنّهم لم يستطيعوا شيئاً في ذلك اليوم، لأنّ ذلك اليوم تنقطع فيه جميع الأسباب والوسائل أمام الإنسان، كما ورد في الآية (166) من سورة


1 ـ النون في (فكيدون) مكسورة وجاءت الكسرة محل ياء المتكلم، وأصلها (فكيدوني) فحذفت الياء وبقيت الكسرة لتدل على الياء، وضمير المتكلم يعود إلى ذات الله المقدّسة طبقاً لظاهر الآيات، واحتمال رجوعه إلى شخص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعيد جدّاً.

[305]

البقرة: (وتقطعت بهم الإسباب).

والملاحظ أنّه يقول من جهة: ذلك اليوم (يوم الفصل) ومن جهة أُخرى يقول: ذلك اليوم (يوم الجمع) وكلاهما يتحققان في وقت واحد، فيجمعون أوّلاً في تلك المحكمة العظيمة، ثمّ يفصلون كل حسب عقيدته وعمله في صفوف مختلفة، حتى الذين ينطلقون إلى الجنان فإنّ لهم صفوفاً ودرجات، والمتوجهون جهنّم أيضاً لهم صفوف ودركات مختلفة، نعم إنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحق عن الباطل، والظالم عن المظلوم.

ثمّ أنّه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبّهة مرّة أُخرى، وقال: (ويل يومئذ للمكذبين).

* * *

[306]

الآيات

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـل وَعُيُون(41) وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيـئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ(44) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ(46) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ(48) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(49) فَبِأىِّ حَدِيث بَعْدَه يُؤْمِنُونَ(50)

التّفسير

إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأيّ حديث يؤمنون؟!

من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة، والتهديد بالترغيب، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة، أشارت بصورة مختصرة وبليغة إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى: (إنّ المتقين في ظلال وعيون).

[307]

والحال أنّ المجرمين كما علم من الآيات السابقة هم في ظل الشرر وحرقة الدخان المميت.

(ظلال): جمع «ظل» سواء كان ظلاً كظل الأشجار في النهار، أو الظل الحاصل من ظلام الليل، والحال أنّ «الفيء» يقال فقط للظل الحاصل من النور، كظل الأشجار المقابل للشمس.

ثمّ يضيف: (وفواكه ممّا يشتهون).

من الواضح أنّ ذكر «الفواكه» و«الظلال» و«العيون» إشارة إلى جانب من المواهب الإلهية العظيمة المعطاة إلى أهل الجنان.. جانب يمكن بيانه ورسمه بلسان أهل الدنيا، وأمّا ما لا يمكن حصره بالبيان، ولم يخطر ببال أهل الدنيا فهو أعلى من هذه المراتب وأفضل.

والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه، كما هو الحال في الآية التالية إذ يقول لهم: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) هذه الجملة سواء كانت خطاباً من الله بشكل مباشر، أو بوسيلة الملائكة تقال لهم مشفوعة باللطف والمحبّة التي هي غذاء لروحهم.

وعبارة (بما كنتم تعملون) إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل، ولا يمكن حصولها بالإِدعاء والتخيل والتصور، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.

(هنيء): على وزن (صبيح) ويقول الراغب في مفرداته: هو كل شيء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق، ولذا يقال للماء والغذاء السائغ (هنيء)، ويطلق أحياناً على الحياة السعيدة.

وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنّة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحياناً آثاراً سيئة في البدن، أو تترك أعراضاً غير مُرْضية.

وهناك اختلاف بين المفسّرين في أنّ هذه الآية تبيان لإباحة الإستفادة من

[308]

هذه النعم، أم أنّه أمرٌ من الله تعالى؟ ولكن يجب أن يلاحظ أنّ مثل هذه الأوامر التي تقال عند الإستقبال هو نوع من الطلب للشخص المضيّف، وأنّها تقال لتعظيم الضيوف واحترامهم، والمضيّف يحب أن يُؤكل طعامه أكثر لإكرام ضيفه أكثر.

ثمّ تؤكد الآية الأُخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطاً فيضيف: (إنا كذلك نجزي المحسنين).

الظريف أنّ في الآية الأُولى تأكيد على «التقوى»، وفي الآية التي تليها تأكيد على «العمل»، وأمّا في هذه الآية فقد أكّد على «الإحسان».

(التقوى): هي اتّقاء واجتناب الذنوب والفساد والشرك والكفر، و«الإحسان» هو أداء كل عمل حسن، و«العمل» يتعلق بالأعمال الصالحة، ليتضح أنّ منهج النعم الإلهية مرتبط بهذه الجماعة فقط، وليس بمن يدعي الإيمان الكاذب، والملوثين بأنواع الفساد، وإن كانوا في الظاهر من أهل الإيمان.

وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية: (ويل يومئذ للمكذبين) الويل لمن يُحْرَم من كل هذه النعم والألطاف، إذ أنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!

وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الإهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للإنتفاع بهذه اللذّات، ويتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول: كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل، ولكن اعلموا أن العذاب الإلهي ينتظركم، لأنّكم مجرمون: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنّكم مجرمون).

وقد يكون التعبير بـ (قليلاً) إشارة إلى مدّة عمر الإنسان القصيرة في الدنيا، وكذا المواهب الدنيوية التافهة مقابل النعم الأُخروية اللامتناهية، إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الخطاب هو للمجرمين في الآخرة، ولكن الإلتفات إلى أنّ الآخرة ليس فيها متع من مواهب الحياة للمجرمين ليتمتعوا بها، فينبغي القول بأنّ

[309]

هذا الخطاب موجّه لهم في الدنيا.

في الحقيقة أنّ المتقين يستضافون في الآخرة بكامل الإحترام والتقدير، ويخاطبون بهذه الجملة المليئة باللطف والحنان: (كلوا واشربوا هنيئاً) وأمّا عبيد الدنيا فإنّهم يخاطبون بجملة تهديدية في هذه الدنيا: (كلوا وتمتعوا قليلاً).

يقول للمتقين: (بما كنتم تعملون) ويقول لهؤلاء أيضاً: (إنّكم مجرمون)(1).

وعلى كل حال فإنّها تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه، الناشيء من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.

ثمّ يكرر التهديد بجملة: (ويل يومئذ للمكذّبين) هم أُولئك الذين غُرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب الله.

وأشار في الآية الأُخرى إلى عامل آخر من عوامل الإنحراف والتعاسة والتلوث، وقال: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).

قال كثير من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في «ثقيف» حين أمرهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنّ ذلك سبّة علينا، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود»(2).

إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب، بل إنّ روح الغرور والكِبَر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم، فما كانوا يسلّمون لله، ولا لأوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يقرّون بحقوق الناس، ولا يتواضعون لله تعالى وللناس.

في الحقيقة أنّ هذين العاملين (الغرور وحب الشهوة) من أهم عوامل


1 ـ لهذه الآية حذف وتقديره على قول مجمع البيان: (كلوا وتمتعوا قليلاً فإن الموت كائن لا محالة) ولكن يبدو أن التقدير الأنسب هو (كلوا وتمتعوا قليلاً وانتظروا العذاب فإنّكم مجرمون).

2 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 419 ونقل هذا المعنى أيضاً الآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره والزمخشري في الكشّاف وروح البيان ذيل الآية التي هي مورد البحث.

[310]

الإجرام والذنب والكفر والظلم والطغيان.

واحتمل البعض أنّ خطاب (اركعوا) يقال لهم في القيامة، ولكن هذا الإحتمال بعيد، خصوصاً بعد التمعن في الآيات السابقة والآتية.

ثمّ يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول: (ويل يومئذ للمكذبين).

وفي آخر آية من آيات البحث ـ وهي آخر آية من السورة ـ يأتي السياق ممزوجاً بالعتاب ومليئاً بالملائمة، فجاءت الآية بصيغة الإستفهام التعجبي، إذ يقول (فبأي حديث بعده يؤمنون) إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو أُنزل على الجبال لتصدعت وارتجفت، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي، ولا يقبل بأي منطق عقلائي، وهذ يدّل على روح العناد والتعصب.

* * *

ملاحظة:

كما أشرنا سابقاً في بداية السورة إلى تكرار الآية: (ويل يومئذ للمكذبين)عشر مرّات، وهذا تأكيد لواقع مهم، وشبيه ذلك كثيرٌ في حديث العظماء والبلغاء، إذ أنّ القسم الذي يعتنون به ويؤكّدون عليه يظهر مكرراً في نثرهم وأشعارهم.

ولكن بعض المفسّرين يرى أنّ لكل آية من هذه الآيات العشر معنى خاصّاً، وتشير كل منها إلى تكذيب مواضيع سابقة لها، ولذا فإنّها لا تعد مكررة.

ونختم هذه السورة بجملة من تفسير روح البيان، يقول: إنّ هذه السورة نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غار قرب مسجد (خيف) بمنى وهو معروف، وأنا شخصياً قد زرت ذلك الغار.

اللّهم! جنّبنا أبداً التلوث بتكذيب آياتك.

[311]

ربّنا! جنّبنا الغرور والهوى فإنّهما رأس كلّ خطيئة.

إلهنا! احشرنا مع المتّقين الذين ينالون رضاك وضيافتك في ذلك اليوم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة المرسلات

* * *

بدايَة الجزء الثلاَثونَ مِنَ القُرآنِ الكرِيمِ

سُورَة النَّبإِ

مكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا أربَعُون آية

«سورة النبأ»

محتويات السورة:

تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكّة، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة:

المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار، وتتّبع أُسلوب الإثارة في الحديث، وتتعامل مع الأوتار الموقظة للضمير الإنساني، وتمتاز معظم آياتها بقصر العبارة المتضمنة لإشارات جمة، حيث تبث الحياة في الأجساد الخالية من الروح، وتنقلها من عالم الغفلة واللامبالاة إلى عالم الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على العواتق، وإلى البناء الجاد الملتزم للشخصية الإنسانية الحقة.

ومع كل ذلك.. فلآياتها عالماً خاصّاً مليء بالتفاعلات والحركية.

وسورة النبأ لا تشذُّ عن الإطار العام لطبيعة السور المكيّة، حيث تستهل السورة بسؤال يستوقف الانسان، وتختتم بجملة زاخرة بالعبرة...

ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:

1 ـ السؤال عن «النبأ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.

2 ـ الاستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الإِستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإِنسانية والنعم الرّبانية.

3 ـ بيان بعض علامات بدء البعث.

4 ـ تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.

5 ـ التشويق للجنّة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.

[318]

6 ـ وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.

واشتق اسم السورة من الآية (2).. ويطلق عليها أيضاً اسم سورة (عَمَّ) نسبة إلى أوّل كلمة وردت في السورة بعد البسملة.

فضل تلاوتها:

روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في فضل تلاوتها ـ أنّه قال: «مَنْ قرأ سورة عمّ يتسائلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة»(1).

وفي حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «مَنْ قرأها وحفظها كان حسابه يوم القيامة بمقدار صلاة واحدة»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ قرأ عمّ يتسائلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام»(3).

* * *


1 ـ مجمع البيان، 10، 420.

2 ـ تفسير البرهان، 4، 419.

3 ـ مجمع البيان، 10، 420.

[319]

الآيات

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2) الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ(5)

التّفسير

خبر هام!

تأتي الآية الأُولى لتستفهم بتعجب: (عمّ يتسائلون)(1)!

ودون انتظار للجواب، تجيب الآية الثّانية ما سُئِل عنه في الآية الأُولى: (عن النبأ العظيم).

ذلك الخبر: (الذي هم فيه مختلفون).

أورد المفسّرون آراءً متباينة في المقصود من «النبأ العظيم»، فمنهم مَنْ اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم مَنْ قال بأنّه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم مَنْ اعتبره إشارة إلى أُصول الدين من التوحيد حتى المعاد.

وقد فسّرته الرّوايات بالولاية والإمامة (وسنشير إلى ذلك في البحوث الآتية).


1 ـ «عمّ»: مخفف (عمّا)، وهي مركبة من (عن) و(ما) الإستفهامية.

[320]

وبنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض، وبعد هذا العرض تؤكّد إحدى الآيات، (إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً) ثمّ مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ «المعاد»، كل ذلك يدعم التّفسير الأوّل القائل: بأنّ النبأ العظيم هو يوم القيامة.