![]() |
![]() |
![]() |
هذه الآيات و هي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين والمستهزئين، يقول سبحانه: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)(1).
لا يلزم الإستدلال والموعظة أكثر من هذا، فإنّهم لا يتعضون وليس لهم الإستعداد للإستيقاظ، دعهم يخوضون في أباطيلهم وأراجيفهم كمايلعب الأطفال حتى يحين يومهم الموعود، يوم البعث ويرون كل شيء بأعينهم!
1 ـ «يخوضوا» من أصل خوض ـ على وزن حوض ـ وتعني في الأصل الحركة في الماء، ثمّ جاءت بصيغة الكناية في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.
هذ الآية وبهذا التعبير وردت في سورة الزخرف (83).
ثمّ تبيّن الآية التالية اليوم الموعود، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب فيقول تعالى: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنّهم إلى نصب يوفضون).
يا له من تعبير عجيب، إنّه وصف يوم القيامة في وقت يتجهون فيه سراعاًإلى محكمة العدل الإلهي اتجاهاً يشبه اسراعم في يوم احتفال أو عزاء باتجاه اصنام، ولكن أين ذلك من هذا؟ إنّه في الحقيقه استهزاء بعقائدهم المجونة التي كانوا يعتقدون بها في الدينا.
«الأجداث»: جمع جدث ـ على وزن (عبث) ـ وتعني القبر.
«سراع»: جمع سريع، مثل (ظراف وظريف) وتعني الحركة السريعة للشيء أو الإنسان.
«نصب»: جمع نصيب، ويقول البعض: إنّه جمع نصب ـ على وزن (سقف) ـ المراد منه هو ما ينصب كعلامة، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها في مكان ما ليعبدوها ويُقدّم لها القرابين ثمّ يلطخون دماءها عليها، واختلافه مع الصنم هو أنّ الصنم كان على هيئة صورة وشكل خاص، وأمّا النصب فهو قطعة من الحجر لا شكل له، وكانوا يعبدونه لسبب ما، ونقرأ في الآية (3) من سورة المائدة: (وما ذبح على النصب) أي أنّ من جملة اللحوم المحرّمة هي ما يذبحون من الحيوانات على النصب.
«يوفضون»: من (إفاضة) وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء المنحدر من العين، وقال البعض: إنّ المراد من النصب في الآية التي نحن بصددها هو الأعلام التي ينصبونها في وسط الجيش أو القوافل، وعلى كل منهم أن يوصل نفسه بسرعة إليها، ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب.
ثمّ تذكر الآيات حالات اُخرى لهؤلاء فتضيف: (خاشعة أبصارهم ترهقهم
ذلة)(1) من شدّة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلّة مهينة وفي آخر الآية يتابع قوله: (ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون).
نعم هذا هو اليوم الموعود الذي كان يسخرون منه ويقولون أحياناً: لنفترض أنّ هناك يوماً كهذا، فإنّ حالنا في ذلك اليوم هو أفضل من حال المؤمنين، ولكنّهم لا يجرؤون أن يرفعوا رؤوسهم في ذلك اليوم لشدّة الخوف والوحشة، وقد تعفرت وجوههم ورؤوسهم بغبار الذلّة، وغرقوا في كتل الهموم الهائلة، ومن المؤكّد أنّهم يندمون في ذلك اليوم، ولكن ما الفائدة؟
اللّهم: ألبسنا ثوب رحمتك في ذلك اليوم المهول.
ربّنا: إنّ مصائد الشيطان وحبائله قوية، وهوى النفس غالب، والآمال الطويلة والبعيدة خداعة، فترحم علينا باليقظة وعدم الإنحراف عن المسار الصحيح.
اللّهم: اجعلنا ممن آمن ووفى بعهده وبذل عمره في طاعتك.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة المعارج
* * *
1 ـ «ترهقهم» من أصل (رهق) على وزن (سقف) ويراد به غشيان الشيء بقهر.
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثمان وعشرون آية
هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، تشير إلى فصّة نوح(عليه السلام)، واُسير إلى قصّة هذا النّبي العظيم كذلك في سور متعددة في القرآن المجيد، منها: سورة الشعراء، والمؤمنون، والأعراف، والأنبياء، وبشكل أوسع في سورة هود، وتحدثت (25) آية حول هذا النّبي العظيم الذي يعتبر من اُولي العزم (من الآية 25 إلى 49).
وما جاء في سورة نوح عن قصّته(عليه السلام) هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل ممّا ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها، والتخطيط الدقيق الماهر في هذا الأمر الهام، وذلك مقابل قوم معاندين ومتكبرين يأنفون من الإنقياد إلى الحقّ.
بلحاظ أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف عصر نوح(عليه السلام) وأعوانه، فإنّها تعلمهم أُمور كثيرة، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصّة، ومنها:
1 ـ أنّها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الإستدلال المنطقي المقترن بالمحبّة والمودّة، واستخدام كلّ طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في الدعوة.
2 ـ أنّها تعلّمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى اللّه وعدم التكاسل مهما طالت الأعوام، ومهما وضع الأعداء العوائق.
3 ـ أنّها تعلّمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارةً، وتكون لديهم عوامل
الإنذار والرّهبة تارةً اُخرى والإستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى اللّه جلّ وعلا.
4 ـ الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين، بأن عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق، وتخلّفوا عن أمر اللّه.
5 ـ بالاضافة إلى ذلك، فإنّ هذا السورة جاءت لتهدئة مشاعر النّبي والمؤمنين الأوائل ومن يعيش مثل ظروفهم، ليصبروا على الصعوبات، ويطمئنوا في مسيرهم بلطف من اللّه.
وبعبارة أُخرى فإنّ هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم إتّباعه.
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».(1)
وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام) قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة: (إنّا أرسلنا نوحاً) فأي عبد قرأها محتسباً صابر في فريضة أو نافلة، أسكنه اللّه مساكن الأبرار وأعطاء ثلاث جنان من جنّته كرامة من اللّه».(2)
ولا يخفى أنّ الهدف من قراءة السورة هو الاقتباس من منهج وسلوك هذا النّبي العظيم من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى اللّه تعالى ليدركوا دعوة النّبي، وليس المراد القراءة الخالية من التفكير، ولا التفكر الخالي من العمل.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص359.
2 ـ المصدر السّابق.
إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحَاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(1) قَالَ يَـقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جَآءَ لاَ يُؤخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4)
قلنا: إنّ هذه السورة تبيّن من أحوال نوح(عليه السلام) وما يرتبط بأمر دعوته، وتعلم السائرين في طريق اللّه تعالى أُموراً مهمّة في إطار الدعوة إلى الحق وبالخصوص في قابل الأُمم المعاندة، وتبدأ أوّلاً بذكر في بعثته(عليه السلام) فيقول تعالى: (إنّا ارسلنا نوحاً الى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم).
من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، والأنسب أن يكون الإثنان معاً، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة تشير إلى أن هذا العذاب هو عذاب الدنيا.
التأكيد على الإنذار والترهيب غالباً ما يؤثر تأثيراً بالغاً، مع أنّ الانبياء كانوا
منذرين تارةً ومبشرين تارةً آُخرى، كما يتمّ الإعتماد في سائر الدينا على التحذيرات والعقوبات لضمان تطبيق القوانين.
نوح(عليه السلام) الذي كان هو من أُولي العزم، وصاحب أوّل شريعة إلهية، وله دعوة عالمية، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال: (قال يا قوم إنّي لكم نذير مبين).
الهدف هو أن تعبدوا اللّه الذي لا إله إلاّ هو، وتتركوا من دونه، وتتقوا وتطيعوا أمري الذي هو أمر اللّه: (أن اعبدوا اللّه واتقوا وأطيعون).
في الحقيقة أنّ نوحاً(عليه السلام) قد لخّص مضمون دعوته في ثلاث جمل: عبادة اللّه الواحد، والحفاظ على التقوى، وطاعة القوانين والأوامر التي جاء بها من عند اللّه والتي تمثل مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام.
ثمّ ذكر النتائج المهمّة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم فقال: (يغفر لكم من ذنوبكم).(1)
في الحقيقة أنّ القاعدة المعروفة «الاسلام يجب ما قبله» هي قانون موجود في كل الأديان الإلهية والتوحيدية وليست منحصرة بالإسلام.
ثمّ يضيف: (ويؤخركم إلى أجل مسمّى إنّ أجل اللّه إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون)، يستفاد جيداً من هذا الآية أنّ «الأجل» وموعد عمر الإنسان قسمان، هما: الأجل المسمّى، والأجل النهائي، أو بعبارة أُخرى الأجل الأدنى، والأجل الأقصى أو الأجل المعلق، والأجل الحتمي، القسم الأوّل للأجل قابل للتغير والتبديل، فقد يتدنى ويقل عمر الفرد كثيراً بسبب الذنوب والاعمال السيئة
1 ـ «من» في هذه الجملة زائدة وللتأكيد، لأنّ الإيمان باللّه يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة، هذا ما يرتبط بحق الناس، وأمّا من باب الذنوب وحكم الحرمة أيضاً يكون مشمولاً بالمغفرة، وما احتمل بعض المفسّرين (كالفخر الرازي في التّفسير الكبير والعلاّمة الطباطبائي(قدس سره) في الميزان) من أنّ (من ) هنا تبعيضية وهي تخص الذنوب السابقة لا الآتية يبدو بعيداً، لأنّ الذنوب الآتية غير مذكورة في سياق الآية.
وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي، وبالعكس فإنّ التقوى وحسن العمل والتدبير يمكن أن تكون سبباً لتأخير الأجل، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من الأحوال، ويمكن توضيح هذا الموضوع بمثال واحد، وهو أنّه ليس باستطاعة الإنسان أن يبقى خالداً، وإذا كانت جميع الأجهزة البدنية تعمل جيداً ففي النهاية سوف يصل شيئاً فشيئاً إلى زمن ينتهي عمره بعجز في القلب، ولكن تطبيق الأوامر الصحية ومجابهة الأمراض يمكن أن يطيل في عمر الإنسان، وفي حالة عدم مراعاة هذه الأُمور فإنّ من المحتمل أن يقلل ذلك من عمر وينهي عمره بسرعة.(1)
* * *
النقطة الأُخرى التي يمكن إستفادتها من هذه الآية هو تأثير الذنوب في تقصير العمر، لأنّه يقول: «إنّ كنتم تؤمنون باللّه وتتقوه يهب لكم عمراً طويلاً ويؤخر موتكم» وهذا يعني أنّ الذنوب توجّه ضربات مهولة للجسم والروح بحيث تساعد في القضاء عليه.
وفي الرّوايت الإسلامية أيضاً تأكيد كبير على هذا المعنى، منها ما ورد في حديث غني المحتوى عن الامام الصادق(عليه السلام) قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار».(2)
* * *
1 ـ كان لنا بحث آخر حول الأجل النهائي والأجل المعلق وذلك في ذيل الآية (2) من سورة الأنعام.
2 ـ سفينة البحار، ج1، ص488، مادة (ذنب).
قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيلاًَ وَنَهَارَاً(5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً(6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَـبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاستَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً(7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً(8) ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُم إِسْرَاراً(9)
تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطباً ربّه وشاكياً إليه أمره معهم بعبارة مأثرة بليغة.
خطاب نوح(عليه السلام) في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكلّ المبلغين الرساليين، فيقول: (ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً).
وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثمّ يقول: (فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً).
ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً لفرارهم، ولكن بما أنّ كلّ دعوة تحتاج
إلى نوع من الإستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة، وبمعنى آخر أنّ أعداء الحق المعاندين عندما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على العناد، وهذا ما يبعدهم عن اللّه بصورة أكثر، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق.
وهذا ما أُشير إليه في سورة الإسراء (82): (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً).
وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنّه سبب لهداية المتقين: (...هدى للمتقين).(1) ولهذا لابدّ أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود الإنسان وإن كانت ضعيفة، حتى يتهيأ لقبول الحقّ، هذه المرحلة هي مرحلة (الروح الباحثة عن الحقيقة) والإستعداد لتقبل كلمات الحق.
ثمّ إنّ نوحاً(عليه السلام) يضيف: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).
ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النّبي العظيم، وفي الحقيقة كانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر!
وهذا في الواقع أمر مدهش أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من العداوة للحق إلى حدّ لا يعطي لنفسه فرصة النظر والسماع والتفكر.
وقد ورد في بعض التفاسير أنّ بعض اُولئك المعاندين كان يذهب بابنه إلى نوح(عليه السلام) فيقول له: إحذر هذا لا يغوينك، فإنّ أبي قد جاء بي إليه وأنا صغير مثلك
1 ـ البقرة، 3.
فحذّرني مثل ما حذّرتك(1)، (حتى أكون ممّا وفى بحق الوصية وحبّ الخير).
هذا يدل على أنّ نوحاً(عليه السلام) كان مستمراً في دعوته الإلهية طوال عمره الشريف ولعدّة أجيال وكان لا يعرف التعب أبداً.
وكذلك تتضمّن الآية الإشارة إلى أحد الأسباب المهمّة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر، لأنّهم كانوا يرون أنفسهم أكبر من أن يتنازلوا لإنسان مثلهم، وإن كان ممثلاً عن اللّه وتقيّاً، ومهما كان قلبه عامراً بالعلم، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمّة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة اُناس لا إنمان لهم.
واستمر نوح(عليه السلام) في حديثه عند المقام الإلهي، فقيول: (ثم إنّي دعوتهم جهاراً).
دعوتهم إلى الإيمان في حلقات عامّة وبصوت جهور، ثمّ لم أكتفي بهذا: (ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً) قال بعض المفسّرين: إنّ نوحاً(عليه السلام) اتّبع في دعوته ثلاثة أساليب مختلفة حتى يستطيع من النفوذ في هذا الجمع المعاند والمتكبر: كان يدعو أحياناً في الخفاء فواجه أربعة أنواع من الرفض (وضع الأصابع في الآذان، تغطية الوجوه بالملابس، الإصرار على الكفر، والاستكبار).
وكان يدعو أحياناً بالإعلان، وأحياناً اُخرى يستفيد من طريق التعليم العلني والسري ولكن أيّاً من هذه الاُمور لم يكن مؤثراً(2).
من المعلوم أنّ الإنسان إذا ما نهج طريق الباطل إلى حدّ تتعمق في وجوده جذور الفساد وتنفذ في أعماق وجوده حتى تتحول إلى طبيعة ثانية فيه، فإنّه سوف لا تؤثر فيه دعوة الصالحين ولا ينفع معه خطابات رسل اللّه.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص361.
2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج30، ص136.
ما جاء في هذا الآيات حول دعوة نوح يمثل برنامج عام لجميع المبلغين في طريق اللّه، وفي نفس الوقت تسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه المؤمنين القلائل الذين كانوا قد التفوا حوله في مكّة.
إنّه(عليه السلام) لم يكن يتوقع أن يستجيب الناس لدعوته، ولم يكونوا يجتمعون في وسط المدينة ليلقي فيهم خطابه الإلهي بهدوء واطمئنان، والناس يصغون إليه، ويشخصون إليه أعينهم، بل يستفاد من سياق الآيات (كما جاء أيضاً في بعض الرّوايات) أنّه كان أحياناً يذهب إلى بيوتهم، أو أنّه يدعوهم في الأزقة والأسواق على إنفراد، ويبلغهم المفاهيم ويتحدّث إليهم بتودد وتحبب وتصبر، وأحياناً كان يخاطبهم بأوامر اللّه تعالى علناً وبصوت عال، وذلك باغتنامه فرص انعقاد المحافل أو مجالس العزاء، فكان يقابل بالإهانة والإستهزاء وأحياناً بالضرب المبرح، ولكنّه مع ذلك كان لا ينتهي عن ذلك ويواصل مسيره.
كان صبره عجيباً، والأعجب ما فيه رأفته، وكانت همته واستقامته الفريدة رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.
والأعجب من ذلك هو أنّ طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلاّ ثمانون شخصاً، ولو قسمنا هذه المدّة على عدد الأنفار يتّضح لنا أنّ مدّة هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريباً!!
لو كان المبلّغون يتعاملون بمثل هذه الإستقامة والهمة لأصبح الإسلام عالمياً غني المحتوى.
يتعجب الإنسان أحياناً ويتساءل هل يمكن أن يكون هناك أُناس يعيشون
تحت هذه السماء ليس لديهم الإستعداد لسماع كلمة الحق بل يفرون منه؟
والسؤال عن السماع فقط وليس عن قبول الكلمة.
ولكن التاريخ يتحدّث عن كثرة أمثال هؤلاء، ليس فقط قوم نوح هم الذين وضعوا أصابعم في آذانهم وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم عند دعوته لهم، بل هناك فئة في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبصريح القرآن كانوا يستعينون بالصفير والتهريج والصراخ العالي ليحولوا بين صوت النّبي وهو يتلو آيات اللّه وبين الناس: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)(1).
وجاء في تاريخ كربلاء الدامية كذلك أنّه عندما كان سيّد الشّهداء الإمام الحسين(عليه السلام) يدعو الأعداء المنحرفين إلى الرشاد ويوقظهم كانوا يستخدمون هذا الاُسلوب من الصراخ والتهريج حتى لا يسمع الناس تصوته(2)، وهذه الخطة مستمرة إلى يومنا هذا، ولكن بأشكال وصور أُخرى; فلقد وفّر أصحاب الباطل جواً من المسليات المفسدة كالموسيقى الراقصة والمواد المخدرة وغير ذلك يبغون بذلك الفصل بين الناس ـ بالخصوص الشباب ـ وبين سماع أصوات أهل اللّه تعليماتهم.
* * *
1 ـ فصلت، 26.
2 ـ بحار الأنوار، ج45، ص8.
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَل وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـت وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـراً(12) مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً(14)
يستمر نوح(عليه السلام) في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: (فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً).
ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل: (يرسل السماء عليكم مدراراً)(1).
والخلاصة: إنّ اللّه تعالى يفيض عليكم بأمطار الرحمة المعنوية، وكذلك
1 ـ «مدراراً»: من أصل (درّ) على وزن (جرّ) وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي الاُم ويعطي معنى هطول الأمطار، ومدراراً صيغة للمبالغة.ژ
بالامطار المادية المباركة.
ومن الملاحظ في سياق هذه الآية أنّه يقول «يرسل السماء» فالسماء تكاد أن يهبط من شدّة هطول الأمطار! وبما أنّها أمطار رحمة وليست نقمة، فلذا لا تسبب خراباً وأضراراً، بل تبعث على الإعمار والبركة والحياة.
ثمّ يضيف: (ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم أُخرى مادية كبيرة، والنعمة المعنوية الكبيرة هي غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.
نعم، إنّ الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن المجيد، وورد في بعض الرّوايات انّ قوم نوح المعاندين لما امتنعوا من قبول دعوته حلّ عليهم القحط وهلك كثير من أولادهم، وتلفت أموالهم، وأصاب نساءهم العقم، وقلّ عندهنّ الإنجاب، فقال لهم: نوح(عليه السلام): إن تؤمنوا فسيدفع عنكم كل هذه البلايا والمصائب، ولكنّهم ما اتعظوا بذلك واستمروا في غيّهم وطغيانهم حتى حلّ العذلب النهائي.
ويعود نوح(عليه السلام) مرّة أُخرى لينذرهم، فيقول: (ما لكم لا ترجون للّه وقاراً)(1)، ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة: ويقول أيضاً: (وقد خلقكم أطواراً).
كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها، ثمّ صوركم علقة ثمّ مضغة، ثمّ وهبكم الشكل الإنساني، ثمّ ألبسكم لباس الحياة، فوهب لكم الروح والحواس والحركة، وهكذا طويتم المراحل الحنينية المختلفة الواحدة بعد الاُخرى، حتى
1 ـ «الوقار»: الثقل والعظمة، و«ترجون» من أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف، ومعنى الآية لماذا لا تخضعون لعظمة اللّه تعالى.
ولدتكم أُمهاتكم بهيئة الإنسان الكامل، وهكذا تستمر المراحل الأُخرى والمختلفة للمعيشة في الحياة، وأنتم خاضعون دائماً لربوبيته تعالى، وتتجددون دائماً، وتخلقون خلقاً جديداً، فكيف لا تطأطئوا رؤوسكم أمام خالقكم؟
ولستم تتخذون أشكالاً مختلفة من جهة الجسم، بل أنّ الروح هي أيضاً في تغيّر مستمر، لكلّ منكم استعداده الخاص، ففي كل رأس ذوق خاصّ، وفي كل قلب جحّ خاصّ، وكلكم تتغيرون باستمرار، فتنتقل مشاعر وأحاسيس الطفولة إلى أحاسيس الشبيبة، وهذه بدورها إلى الكهولة والشيخوخة، وعلى هذا فإنّه معكم في كلّ مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشملكم بلطفه وعنايته، فلم كل هذا الكفران والإستهانة؟!
* * *
نستفيد من الآيات المختلفة في القرآن، ومنها الآيات التي هي محل بحثنا، أنّ الإيمان والعدالة سبب لعمران المجتمعات، والكفر والظلم والخطايا سبب للدمار، نقرأ في الآية (96) من سورة الأعراف: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). وفي الآية (41) من سورة الروم نقرأ: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) وفي الآية (30) من سورة الشورى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وفي الآية (66) من سورة المائدة: (ولو أنّهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).
![]() |
![]() |
![]() |