untitled normal page

وآيات أُخرى من هذا القبيل.

هذه الرابطة ليست رابطة معنوية، بل هناك رابطة مادية واضحة في هذا

[56]

المجال أيضاً.

الكفر وعدم الإيمان هو عين الإحساس بالمسؤولية، وهو الخروج عن القانون، وتجاهل القيم الأخلاقية، وهذه الأُمور هي التي تسبب فقدان وحدة المجتمعات، وتزلزل أعمدة الإعتماد والطمأنينة، وهدر الطاقات البشرية والإقتصادية، واضطراب العدالة الإجتماعية.

ومن البديهي أنّ المجتمع الذي تسيطر عليه هذه الأُمور سوف يتراجع بسرعة، ويتخذ طريقه إلى السقوط والفناء.

وإذا كنّا نرى أنّ هناك مجتمعات تحظى بتقدم نسبي في الأُمور المادية مع كفرهم وانعدام التّقوى فيهم، فإنّ علينا أن نعرف أيضاً أنّه لابدّ أن يكون ذلك مرهوناً بالمحافظة النسبية لبعض الاُصول الأخلاقية، وهذا هو حصيلة ميراث الأنبياء والسابقين، ونتيجة أتعاب القادة الإلهيين والعلماء على طول القرون، وبالإضافة إلى الآيات السالفة هناك روايات كثيرة أيضاً اعتمدت هذا المعنى، وهو أنّ الإستغفار وترك المعاصي يبعث على إصلاح المعيشة وازدياد الرّزق.

ففي حديث ورد عن الإمام علي(عليه السلام): «أكثر الإستغفار تجلب الرّزق»(1).

ونقل في حديث آخر عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أنعم اللّه عليه نعمة فليحمد اللّه تعالى ومن استبطأ الرّزق فليستغفر اللّه، ومن حزنه أمر فيقل: لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه»(2).

ونقرأ في نهج البلاغة أيضاً(3) : «وقد جعل اللّه سبحانه الإستغفار سبباً على الرّزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: (استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً).


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص424.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 143.

[57]

والحقيقة أنّ الحرمان في هذا العالم سببه العقوبات على الذنوب، وفي الوقت الذي يتوب فيه الإنسان ويتخذ طريق الطهارة والتقوى يصرف اللّه تعالى عنه هذه العقوبات(1).

* * *


1 ـ لنا شرح آخر في هذا الباب تحت عنوان «الذنوب وهدم المجتمعات» في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (52) من سورة هود(عليه السلام).

[58]

الآيات

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَـوَت طِبَاقاً(15) وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً(16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً(17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً(18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً(19) لِّتَسلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً(20)

التّفسير

خلقكم اللّه من الأرض كالنبات:

كان نوح(عليه السلام) يبيّن للمشركين المعندين حقائق عميقة ومستدلة، إذ كان يأخذ بهم إلى أعماق وجودهم ليرون حقائق هذه الآيات (كما مرّ في الآيات السابقة) ودعاهم إلى ما خلق اللّه من علامات في هذا العالم الكبير، فكان يسير بهم إلى تلك الآفاق(1).


1 ـ هذا الخطاب تابع لكلام نوح(عليه السلام)، أو أنّها جمل ميتقلة ومعترضة من اللّه تعالى إلى المسلمين، وهو محل بحث بين المفسّرين، والكثير منهم يرجح أن يكون ذلك تابعاً لكلام نوح(عليه السلام)، وسياق الآيات يشير أيضاً إلى ذلك، وإذا ما وردت جملة: (وقال نوح) بعد هذه الآيات فإنّها تشير إلى أنّ نوح(عليه السلام) قد انتهى من كلامه مع الناس وتوجه بعد ذلك إلى اللّه تعالى ليشكو من قومه.

[59]

يبدأ أوّلاً بالسماء فيقول: (ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سموات طباقاً)(1)

«طباقاً»: مصدر من باب (مفاعله) بمعنى «مطابقة»، وأحياناً تأتي بمعنى وضع الشيء فوق شيء آخر، وتأتي أحياناً أُخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين أحدهما مع الآخر، والمعنيان يصدقان هنا.

وما طبق للمعنى الأوّل أنّ السماوات بعضها فوق بعض، وكما قلنا في سابقاً حسب تفسير السموات السبع فإنّ كل ما نراه من الكواكب المتحركة والثابتة بالعين المجرّدة أو غيرها هي من السماء الاُولى، ثمّ تليها السموات الست الأُخرى متطابقة بعضها فوق الأُخرى، ولم يصل علم الإنسان إلى هذه المرتبة فعلاً، ولكن يمكن في المستقبل أن يتطور علم الإنسان فيكشف ما في السموات من عجائب الواحدة بعد الأُخرى(2).

وعلى الإحتمال الثّاني فإنّ القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات السبع في النظم والعظمة والجمال.

ثمّ يضيف: (وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشّمس سراجاً)(3).

صحيح أنّ في السماوات السبع مليارات من الكواكب المضيئة والتي هي أكثر ضياءً من الشمس، ولكن ما يهمنا وما يؤثر في حياتنا هي هذه الشمس وكذلك القمر، هذه المنظومة الشمسية التي تضيء الشمس فيها بالنهار والقمر بدوره ينير الليل.

التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أنّ نور الشمس ينشأ من ذاتها كالسراج، وأمّا نور القمر فإنّه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس، ولهذا فإنّ


1 ـ «طباقاً»: يحتمل أن يكون مفعول مطلق أو حال.

2 ـ أوضحنا الكلام في التفاسير المختلفة للسماوات السبع في ذيل الآية (29) من سورة البقرة.

3 ـ من هنا أنّ ضمير «فيهنّ» والذي يرجع في الظاهر إلى «السماوات السبع» لا يثير مشكلة لأنّ الخطاب في النور والضياء هو لنا، لأجل هذا لا يلزم أن نجعل «في» بمعنى «مع» أو نجعل الضمير «هن» بمعنى «السماء الدنيا» (فتدبّر).

[60]

كلمة نور ذات المفهوم العام هي المستخدمة في هذا المورد، ويشاهد اختلاف التعابير في آيات القرآن أيضاً، وقد أوردنا شرحاً مفصلاً في هذا الباب في ذيل الآيه (5) من سورة يونس(عليه السلام).

ثمّ يعود ذلك إلى الإنسان فيقول: (واللّه أنبتكم من الأرض نباتاً)(1).

التعبير بـ «الإنبات»، في شأن الإنسان لأسباب، أوّلاً: خلق الإنسان الأوّل من التراب.

ثانياً: إنّ المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى هي من الأرض، فهو إمّا يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة، أو بطريق غير مباشر كلحوم الحيوانات.

ثالثاً: هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات، وهناك كثير من القوانين التي يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضاً على الإنسان.

وهذا التعبير في شأن الإنسان غني بالمعاني، ويدل على أنّ التدبير الإلهي في مسألة الهداية ليس فقط كتدبير وعمل المعلم وحسب، بل هو كعمل الزارع الذي ينثر البذور في محيط جيد يساعدها على النمو، وفي الآية (37) من سورة  آل عمران يقول اللّه تعالى بشأن مريم(عليها السلام): (فأنبتها نباتاً حسناً) وكلّ هذا إشارة إلى ذلك المضمون اللطيف.

ثمّ يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين فيقول: (ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً)

كنتم في البدء تراباً، ثمّ تعودون إلى التراب ثانية، ومن كانت له القدرة على أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.

هذا الإنتقال من التوحيد إلى المعاد الذي جاء في سياق هذه الآيات بصورة


1 ـ يجب أن تلفظ هذه الكلمة حسب القاعدة «إنباتاً» لكن لهذا الآية تقدير هو: «أنبتكم من الأرض فنبتم نباتاً» تفسير (الفخر الرازي وأبو الفتوح الرازي).

[61]

لطيفة يشير إلى العلاقة القريبة بينهما، وهكذا كان نوح(عليه السلام) يوضح لمخالفيه أمر التوحيد بالإستدلال عن طريق نظام الخلقة ويستدل كذلك بها على المعاد.

ثمّ يعود مرّة أُخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول: (واللّه جعل لكم الأرض بساطاً)(1).

ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الإنتقال والإستراحة عليها، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها، وتفقدون القدرة على الحركة، ليست حارقة وساخنة بحيث تلقون مشقّة من حرّها، وليست باردة بحيث تتعسر حياتكم فيها، مضافاً إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.

وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق البعض والتي يمكن العبور من خلالها.

(لتسكنوا فيها سُبلاً فجاجاً).

«فجاج» على وزن (مزاج)، وهو جمع فج، وبمعنى الوادي الفسيح بين الجبلين، وقيل الطريق الواسعة(2).

وبهذا فإنّ نوح(عليه السلام) يشير في خطابه تارةً إلى العلامات الإلهية في السماوات والكواكب والسماوية، وتارةً أُخرى إلى النعم الإلهية الموجودة في البسيطة، وثالثة الى وجود الإنسان الذي يعتبر بحدّ ذاته دليل على معرفة اللّه تعالى وإثبات المعاد، ولكن لم تؤثر أي من هذه الإنذارات والبشائر والرغائب والإستدلالات المنطقية في قلوب هؤلاء القوم المعاندين الذين استمروا


1 ـ بساط من أصل بسط بمعنى وبسط الشيء، ولهذا فإنّ كلمة «بساط» تطلق على كل شيء واسع وأحد مصاديقها «البساط».

2 ـ مفرادت الراغب، مادة (فج).

[62]

مخالفتهم وكفرهم، وأخذتهم الأنفة عن الإنقياد لحميد العاقبة، وسنرى عاقبة هذا العناد في الآيات القادمة.

* * *

[63]

الآيات

قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَونِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لِّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً(21) وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً(22) وَقَالُواْ  لا َتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدَّاً ولاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23) وَقَدْ أَضَلَّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّـلِمِينَ إِلاَّ ضَلَـلاً (24) مِّمَّا خَطِئتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً(25)

التّفسير

لطف اللّه معك:

عندما رأى نوح(عليه السلام) عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلاّ فساداً وضلالاً، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث، (قال نوح ربّ إنّهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلاّ خساراً).

[64]

تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون للّه تعالى، وهذه الإمتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.

وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أنّ الكثير من رؤساء القبائل هم من هذا القبيل، من الذين يجمعون المال الحرام، ولهم ذرّية فاسدة، ويفرضون في النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة، ويكبّلونهم بقيود الظلم.

ثمّ يضيف في قوله تعالى: (ومكروا مكراً كبّاراً).

«كبّار» صيغة مبالغة من الكبر، وذكر بصيغة النكرة، ويشير إلى أنّهم كانوا يضعون خططاً شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح(عليه السلام)، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقاً للرّوايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح(عليه السلام) وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها، وذكر أنّ في المدّة الزمنية بين آدم ونوح(عليهما السلام) كان هناك اُناس صالحون أحبّهم الناس، ولكن الشيطان «أو الأشخاص الشيطانيين» عمد إلى استغلال هذه العلاقة، وترغّبهم في صنع تماثيل أُولئك الصالحين بحجّة تقديسهم وإجلالهم، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية، وتصورت أنّ هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها، وهكذا شُغلوا بعبادة الأصنام، وعمد الظلمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم بحبائل الغفلة، وهكذا تحقق المكر الكبير.

وتدل الآية الأُخرى على هذا الأمر، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم).

ولا تقبلوا دعوة نوح إلى اللّه الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام، وقالوا: (ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً).

[65]

ويستفاد من القرائن أنّ لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص، وأنّها لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.

وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام، وهى:

1 ـ قال البعض: إنّها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوح(عليه السلام) وعندما رحلوا من الدينا اتّخذوا لهم تماثيل لتبقى ذلكرى، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس، فوقّروها حتى عبدت تدريجياً بمرّ العصور.

2 ـ قيل أنّها أسماء خمسة أولاد لآدم(عليه السلام) كان كلّما يموت أحدهم يضعون له تمثالاً وذلك لتخليد ذكراه، وبمرور الزمن نُسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون عبادتها بكثرة في زمن نوح(عليه السلام).

3 ـ البعض الآخر يعتقد أنّها أسماء لأصنام في زمن نوح(عليه السلام)، وذلك لأنّ نوحاً(عليه السلام) كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدم(عليه السلام) فاتخذوا مكانه تماثيل بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها(1).

وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت إليهم، بل إنّ الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثمّ صنعهم التماثيل لها، ولكن بعض المفسّرين نقلوا عن اين عباس أنّ هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان نوح(عليه السلام)، ثمّ أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها(2).

وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية، قال البعض: إنّ الصنم (ود) قد اتّخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل، وهي مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف، واتّخذت قبيلة هديل (سواعاً) وكانت


1 ـ مجمع البيان، تفسير علي بن ابراهيم، تفسير أبوالفتوح الرازي، وتفاسير اُخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6787.

[66]

في بقاع رهاط، واتّخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث)، وأمّا همدان فاتّخذت (يعوق)، واتّخذت قبيلة ذي الكلاع (نسراً)، وهي قبائل حمير(1).

وعلى كل حال، فإنّ ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن ولكنّها اندثرت عندما سيطر ذو نؤاس على اليمن، واعتنق أهلها اليهودية(2).

يقول المؤرخ الشهير الواقدي: كان الصنم (ود) على صورة رجل، و (سواع) على صورة امرأة و(يغوث) على صورة أسد و(يعوق) على صورة فرس و(نسر) على صورة نسر (الطائر المعروف).(3)

وبالطبع أنّ هناك أصنام أُخرى كانت لعرب الجاهلية، منها «هبل» الذي كان من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة، وكان طوله 18 ذراعاً، والصنم (أساف) المقابل للحجر الأسود، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني (الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و (العزى).(4)

ثمّ يضيف عن لسان نوح(عليه السلام): (وقد أضلوا(5) ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً)المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم: ليكون سبباً في تعاستهم، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم اللّه بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان، ولتحلّ محله ظلمة الكفر.

أو أنّ هذ هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى اللّه تعالى، وذلك لأنّ كل


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص364، وأعلام القرآن، ص131.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ مجمع البيان، ج10، ص364.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ الضمير في «أضلوا» يعود إلى أكابر قوم نوح(عليه السلام) بقرينة الآية السابقة: (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم) واحتمل بعض المفسّرين أنّ الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنّها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (36) من سورة ابراهيم(عليه السلام)وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر، وهذا الإحتمال بعيد.

[67]

موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من اللّه تعالى، وليس هناك ما ينافي الحكمة الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الإختيار.

وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث، يقول اللّه تعالى فيها:

(ممّا خطيئاتهم اُغرقوا فأُدخلوا ناراً فلم يجدوا من دون اللّه أنصاراً).(1)

تشير الآية إلى ورودهم النّار بعد الطوفان، وممّا يثير العجب هو دخولهم النّار بعد الدخول في الماء! وهذه النّار هي نار البرزخ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية، وكذا ذكرت الرّوايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران.

وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنّار هو يوم القيامة، ولكن بما أنّ وقوع يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد، فإنّها ذكرت بصورة الفعل الماضي.(2)

واحتمل البعض أنّ المراد هي النّار في الدنيا، حيث يقولون أنّ ناراً قد ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من اللّه تعالى وابتلعتهم.(3)

* * *


1 ـ «من» في (خطيئاتهم) بمعني باء السببية أو (لام التعليل) و (ما) زائدة للتأكيد.

2 ـ الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج30، ص145.

3 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص380.

[68]

الآيات

وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَتَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَـفِرِينَ دَيَّاراً(26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً(27) رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِولِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّـلِمِينَ إلاَّ تَبَاراً(28)

التّفسير

على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا:

هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح(عليه السلام) في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى: (وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً).

دعا نوح(عليه السلام) بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والنعاء في دعوته إيّاهمه، فلم يؤمن إلاّ قليل منهم.

والتّعبير بـ «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوح(عليه السلام) كانت تشمل العالم، وكذا مجيء الطوفان والعذاب بعده.

«ديار»: على وزن سيار، من أصل دار، وتعني من سكن الدّار، وهذه اللفظة تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول: ما في الدار ديّار، أي ليس في الدار أحد.(1)


1 ـ قال البعض أنّ الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثمّ بدلت الواو بـ (ياء) واُدغمت في الباء الاُولى وصارت ديار (البيان في غرائب القران، ج2، ص465، تفسير الفخر الرازي، ذيل هذه الآيات).

[69]

ثمّ يستدل نوح(عليه السلام) للعنه القوم فيقول: (إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجر كفّاراً)، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح(عليه السلام) لم يكن ناتجاً عن الغضب والإنتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي، وأنّ نوحاً(عليه السلام)ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الاُمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم. بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاماً من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.

ولكن كيف عرف نوح(عليه السلام) أنّهم لن يؤمنوا أبداً وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولاداً فجرة وكفّاراً.

قال البعض: إنّ ذلك ممّا أعطاه اللّه تعالى من الغيب، واحتُمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول اللّه تعالى: (وأوحى إلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من آمن).(1)(2)

ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوح(عليه السلام)تسعمائة وخمسين عاماً بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس، مثل أُولئك  لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً ويمكن الجمع بين هذه الإحتمالات الثّلاثة.

«الفاجر»: يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً.

«كفّار»: المبالغ في الكفر.


1 ـ هود، 36.

2 ـ ورد هذا المعنى أيضاً في الرّوايات كما في تفسير الثقلين، ج5، ص428.

[70]

والإختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية.

ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة، فمن يكن فاسداً ومضللاً ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوح(عليه السلام) تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأُمة الشريرة، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين، فإنّ العذاب الإلهي لابدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض.

ويمكن أن يكون المراد بـ (يضلّوا عبادك) الجماعة القليله المؤمنة التي كانت مع نوح(عليه السلام)، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.

ثمّ يدعو نوح(عليه السلام)، لنفسه ولمن آمن به فيقول: (ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً).(1)

طلب المغفرة هذا من نوح(عليه السلام) كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا اُبريء نفسي أمام اللّه تعالى.

هذا هو حال أولياء اللّه، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على اللّه تعالى، ويطلب نوح(عليه السلام) المغفرة لعدّة أشخاص وهم:


1 ـ «تبار»: تعني الهلاك، وقيل الضرر والخسارة.

[71]

الأوّل: لنفسه، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأُمور المهمّة مروراً سريعاً، ولم يعتن بها.

الثّاني: لوالديه، وذلك تقديراً لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة.

الثّالث: لمن آمن به، وإن كانوا قلائل، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار له(عليه السلام).

الرّابع: للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور، ومن هنا يوثق نوح(عليه السلام)العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.

* * *

بحث

نوح (عليه السلام) أوّل أنبياء اُولي العزم

ذكر نوح(عليه السلام) في كثير من الآيات القرآنية، ومجموع السور التي ذكر فيها(عليه السلام)(29) سورة، وأمّا اسمه(عليه السلام) فقد فقد ورد 43 مرّة.

وقد شرح القرآن المجيد أقساماً مختلفة من حياته(عليه السلام) شرحاً مفصلاً، وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ، وذكر المؤرخون أنّ اسمه كان «عبد الغفار» أو «عبد الملك» أو « عبد الأعلى»، ولقب بـ «نوح» لأنّه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه، وكان اسم أبيه «لمك» أو « لامك»، وفي مدّة عمره(عليه السلام) اختلاف، فقال البعض: 1490 عاماً، وجاء في بعض الرّوايات أنّ عمره 2500 عام، وأمّا عن أعمار قومه الطويلة فقد قالوا 300 عام، والمشهور هو أن عمره كان طويلاً، وصرح القرآن بمدّة مكثه في قومه وهي 950 عاماً، وهي مدّة التبليغ في قومه، كان لنوح(عليه السلام) ثلاثة أولاد، وهم (حام) (سام) (يافث) ويعتقد المؤرخون بأنّ انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة، فمن