![]() |
![]() |
![]() |
كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل .نقوم بالتريج لها، وكنّا معهم
1 ـ «يتساءلون»: وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادةً في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأُخرى، ولمعنى يسألون، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و(في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو في جنات.
أين ما كانوا، وكيف ما كانوا، وكنّا نصدق أقوالهم، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.
«نخوض»: من مادة (خوض) على وزن (حوض)، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالاُمور، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.
(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات اللّه للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الواقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الإفتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الإستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.
وأخيراً يضيف: (وكنّا نكذّب بيوم الدين حتى أتانا اليقين).
من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق، خصوصاً إذا استمر إلى آخر العمر، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفّار هم مكلّفون بفروع الدين، كما هم مكلّفون بالاُصول، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكاناً للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزّكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.
باطبع فإنّ الصلاة هي عبادة اللّه، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد باللّه والتسليم لأوامره، ويمكن القول إنّ هذه الاُمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.
والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت، لأنّه يعتبر أمرٌ يقيني للمؤمن والكافر، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضاً في الآية (99) من سورة الحجر: (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين).
ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة، وهذا ما يتفق نوعاً ما مع التّفسير الأوّل.
وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين).
فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل اللّه والائمّة، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية، لايكن للماء الزلال أن يحييها، وبعبارة أُخرى كما قلنا في بحث الشفاعة، فإنّ الشفاعة من ( الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المُشفّع له يكون قد قطع قسطاً من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(1).
وهذه الآية تؤكّد مرّةً أُخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند اللّه، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطاً وأنّها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لإرتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين اللّه تعالى والأولياء.
* * *
1 ـ التّفسير الأمثل، المجلد الأوّل، ذيل الآية (48) من سورة البقرة.
نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأُخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة:
1 ـ الشفيع الأوّل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): كما نقرأ في حديث حيث قال: «أنا أوّل شافع في الجنّة»(1).
2 - الأنبياء من شفعاء يوم القيامة، كما ورد في حديث آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث قال: «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلاّ اللّه مخلصاً فيخرجونهم منها»(2).
3 ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر، كما نقل عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(3).
4 ، 5 ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام)حيث قال: «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(4)
6 ، 7 ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(5).
وورد في حديث آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يشفع الشّهيد في سبعين إنساناً
1 ـ صحيح مسلم، ج2، ص130.
2 ـ مسند أحمد، ج3، ص12.
3 ـ مسند أحمد، ج5، ص43.
4 ـ الخصال للصدوق(رحمه الله)، ص624.
5 ـ سنن ابن ماجة، ج2، ص1443.
من أهل بيته»(1).
وفي حديث آخر نقلهُ المجلسي في بحار الأنوار: «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(2).
ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.
8 ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(3).
9 ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بلغ الرجل التسعين غفر اللّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(4).
10 ـ العبادة: كما جاء في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(5).
11 ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعاً في يوم القيامة.(6)
12 - والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ اللّه تعالى أيضاً يكون شافعاً للمذنبين في يوم القيامة، كما ورد في الحديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي».(7)
والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(8)
1 ـ سنن ابي داود، ج2، ص15.
2 ـ بحار الأنوار، ج100، ص14.
3 ـ نهج البلاغة الخطبة، 176.
4 ـ مسند أحمد، ج2، ص89.
5 ـ مسند أحمد، ج2، ص174.
6 ـ مناقب ابن شهر آشوب، ج2، ص14.
7 ـ صحيح البخاري، ج9، ص149.
8 ـ للإستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن، ج4، ص288 ـ 311.
ونكرر أنّ للشفاعة شروطاً لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحاً مفصلاً في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)
* * *
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ (50)فَرَتْ مِن قَسْوَرَة(51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً(52) كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْءَخِرَةَ(53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ(55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)
تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.
فيقول اللّه تعالى أوّلاً: (فما لهم عن التذكرة معرضين)(1) لِمَ يفرّون من دواء1 ـ «ما» مبتدأ و(لهم) خبر و(معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.
القرآن الشافي؟ لِمَ يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّاً إنّه مثيرٌ (كأنّهم حمر مستنفرة فرت من قسورة).
«حمرٌ»: جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد، وبعبارة أُخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.
«قسورة»: من مادة (قسر) أي القهر والغلبة، وهي أحد أسماء الأسد، وقيل هو السهم، وقيل الصيد، ولكن المعنى الأوّل أنسب.
والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّاً من الأسد، حتى أنّه عندما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون، خصوصاً إذا ما حمل الأسد على فصيل منها، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.
وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!
على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغٌ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.
(بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة)(1)، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من اللّه تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتاباً.
وهذا نظير ما جاء في الآية (93) من سورة الإسراء: (ولن نؤمن لرقيك حتى
1 ـ «صحف»: جمع صحيفة، وهي الورقة التي لها وجهان، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.
تنزل علينا كتاباً نقرؤه).
وكذا في الآية (124) من سورة الأنعام حيث يقول: (قالوا لن نؤمن حتى تؤتي مثل ما اُتي رُسل اللّه).
وعلى هذا فإنّ كلاًّ منهم يتنظر أن يكون نبيّاً من اُولي العزم! وينزل عليه كتاباً خاصّاً من اللّه بأسمائهم، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.
وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين، ويأتي الأمر علناً بإتباعك والإيمان بك.(1)
ولذا يضيف في الآية الأُخرى: (كلاّ) ليس كما يقولون ويزعمون، فإنّ طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية، والحقيقة (بل لا يخافون الآخرة).
إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع، ما كانوا ليكذبوا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما كانوا ليستهزئوا بآيات اللّه تعالى، ولا بعدد ملائكته، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنساناً متكبراً ومغروراً وظالماً إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.
ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطىء: (كلاّ إنّه تذكرة فمن شاء ذكره).
فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق، ودعانا إلى التبصر فيه، وأنار لنا السبيل
1 ـ تفسير القرطبي، والمراغي، وتفاسير اُخرى.
ليرى الإنسان موضع أقدامه، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلاّ بتوفيق من اللّه وبمشيئته تعالى، وما يذكرون إلاّ ما يشاء اللّه.
ولهذا الآية عدّة تفاسير:
إحداها: مكا ذكرناه سابقاً، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلاّ بالتوسل باللّه تعالى وطلب الموفقية منه.
وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلاّ بوجود أرضية مساعدة لنزوله.
والتّفسير الآخر: ما جاء في الآية السابقة: (فمن شاء ذكره) يمكن أن يوجد وهماً وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الإشتباه، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية، وإن هذه الآية مختاراً حرّاً وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود، وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته، ويمكن سلبها أنّى شاء.
وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول: إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلاّ أن يشاء اللّه ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ اللّه لا يجبر أحداً على الإيمان أو الكفر، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.
وفي النهاية يقول: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة).
فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكاً له تعالى شأنه، وأن يأملوا مغفرته، وفي الحقيقة، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة، لذا نقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «قال اللّه: أنا أهل
أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئاً وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئاً أن اُدخله الجنّة»(1).
وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي، وقالوا إنّ اللّه تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية، ولكن هناك احتمالاً آخر، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي، أي أن اللّه أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة، وما عند العباد من التقوى هو قبسٌ ضعيف من ما عند اللّه، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يُقصد به اللّه تعالى قليل الإستعمال، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف، وإنتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.
ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى:
ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.
اللّهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا، فامنن علينا بعنايتك.
اللّهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة، وأعنا على الشيطان المتهيء لإغوائنا، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.
آمين يا ربّ العالمين.
نهاية سوره المدّثّر
* * *
1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص405.
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا أربَعُونَ آية
كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلاّ بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور:
1 ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.
2 ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.
3 ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والإنتقال إلى العالم الآخر.
4 - الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.
في حديث روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمناً بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(1).
ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) قال: «من أدمن قراءة (لا اُقسم) وكان يعمل بها، بعثها اللّه يوم القيامة معه في قبره، في أحسن صورة
1 ـ مجمع البيان، 10-، ص393.
تبشّره وتضحك في وجهه، حتى يجوز الصراط والميزان»(1).
والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول: «من أدمن قراءة لا اُقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.
* * *
1 ـ المصدر السّابق.
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـمَةِ(1) وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)أَيَحْسَبُ الاِْنْسَـنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ(3) بَلَى قَـدِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ(4) بَلْ يُرِيدُ الاِْنْسَـنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ(5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيـمَةِ(6)
تبدأ هذه السورة بقَسَمَين غزيرين بالمعاني، فيقول تعالى: (لا أُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة)
وهناك أقوال للمفسّرين في ذلك، فقيل أنّ (لا) زائدة للتأكيد وأنّها لا تنفي القسم، بل تؤكّده، وقيل وربّما نافية، والغاية في ذلك هو أن يقول لا أقسم بذلك لأهمية هذا الموضوع (كالقول لا أقسم بحياتك لأنّها أعلى من القسم).
وأخذ أغلب المفسّرين بالتّفسير الأوّل، ولكن البعض الآخر بالتّفسير الثّاني حيث قالوا إنّ (لا) الزائدة لا تأتي في أوّل الكلام بل في وسطه، والأوّل هو الأصح ظاهراً. لأنّ القرآن الكريم قد أقسم بأُمور هي أهم من القيامة، كالقسم بذات اللّه
المقدّسة، لذا ليس هناك دليل على عدم القسم هنا بيوم القيامة، وهناك مثال لإتّخاذ لا الزائدة في أوّل الكلام، وهو ما ورد في أشعار «امريء القيس» حيث استعمل «لا» الزائدة في بداية قصائده الشعرية
لا وأبيك ابنة العامر لا يدعي القوم أني أفر ولكن ما نعتقده أنّ البحث ليس مهمّاً حول ما إذا كانت (لا) نافية أو زائدة، وذلك لأنّ نتيجة القولين هي واحدة وهي بيان أهمية الموضوع الذي أقسم لأجله.
المهم أنّ نرى ما هي العلاقة والرّابطة الموجودة بين القسمين.
الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح، وبهذه الطريقة تثبت صاحبها وتكافئه، وعند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الإنتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.
وفي الحقيقة أنّ الضمير هو الذي أصدر حكم الإعدام، وتمّ تنفيذ ذلك بنفسه، إنّ دوي النفس اللوامة في وجود الإنسان واسع جدّاً، وهي قابلة للتمعن والمطالعة في كلّ الأحوال وفي بحث الملاحظات نشير إلى ذلك بشكل واسع.
عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى؟
فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القَسَمَين، وبعبارة أُخرى فإنّ القسم الثّاني هو دليل على القسم الأوّل.
وأمّا ما يراد بـ «النفس اللوامة»(1) فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت1 ـ اللوامة: صيغة مبالغة وتعني كثيرة اللوم.
للمفسّرين، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو ما ذكرناه آنفاً، وهو أنّ أنّها «الوجدان الا خلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.
والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة، فإذا كان مؤمناً فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة، وإن كان الكافراً فإنّها تلوم على كفره وشركه وفجوره.
وأمّا الآخر: فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.
والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاماً ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم اللّه بها، ويستعظم قدرها، وهي بحقّ عظيمة القدر، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص لإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.
وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى: لا اُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس الوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.
ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.
ثمّ يستفهم تعالى في الآية الأُخرى للتوبيخ فيضيف: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين أن نسوّي بنانه).
ورد في رواية أنّ أحد المشركين وهو «عدي بن أبي ربيعة» كان جاراً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل النّبي عن أمر القيامة فأخبره به، فقال عدي: لو عاينت ذلك اليوم لم اُصدقك، أوَ يَجمع اللّه هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات وأجابتهُ على
ذلك، ولذا قال فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «اللّهم اكفني شر جاري سوء»(1).
وهناك نظائر لهذا المعنى في الآيات القرآنية الاُخرى، منها الآية (78) من سورة (يس) حيث إنّ منكراً من منكري المعاد كانت بيده عظاماً، فقال للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم):(من يحيى العظام وهي رميم)؟
والتعبير بكلمة «يحسب» التي هي من الحسبان وتعني الظن، إشارة إلى أنّ المنكرين لا يؤمنون بما يقولون، بل يعتمدون على ما يظنون من الوهم.
ولكن نرى أنّه قد اعتمد على العظام خاصّة، وهذا لكون دوام بقاء العظام أكثر من غيرها من أجزاء الجسد، ولذا تكون اعادتها تكون ترباً متاثراً بعيداً في نظر عديمي الإيمان.
ثمّ إنّ العظام من الأركان المهمّة في بدن الإنسان، لأنّها تشكل أعمدة البدن، وكلّ الحركات والتغيرات المهمّة الحاصلة في البدن وكذلك فعاليات المختلفة تتمّ بواسطة العظام، وكثرة وتنوع أشكال ومقاييس العظام في جسم الإنسان من عجائب الخلقة الإلهية، تتّضح أهميتها عندما تتعطل فقرة واحدة من فقرات الظهر عن العمل وتسبب في شلّ حركة البدن.
«البنان»: أطراف الأصابع، وقيل الأصابع، وفي المعنيين إشارة إلى أنّ اللّه تعالى ليس القادر على جمع العظام وإرجاعها إلى صورتها الأُولى فحسب، بل إنّه تعالى يسوي العظام الصغيرة والظريفة والدقيقة للأصابع على ما كانت عليها في الخلق الأوّل، والأعجب من ذلك يمكنهُ تعالى اعادة بصمات الأصابع كما كانت عليه أيضاً.
ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادراً ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.
1 ـ أورد هذه الرواية المراغي، وكذلك ذكرت في روح المعاني، وتفسير الصافي بتفاوت يسير.
وبتعبير آخر إنّ هذ الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع هي المعرّفة لشخص الإنسان، ولذا صار بصم الأصابع في عصرنا هذا أمراً علمياً، وبهذه الطريقة يمكن كشف الكثير من السراق والمجرمين، فيكفي في كشف السارق وضعه أصابعه على مقبض الباب، أو زجاجة الغرفة، أو قفل الصندوق وبقاء أثر خطوط أنامله عليها، ثمّ يؤخذ من ذلك الطبع نموذج وتتمّ مقابلته مع آثار أصابع اللصوص السابقين التي أخذت منهم سلفاً، وهكذا يعرف المجرم والسارق.
وفي الآية الأُخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق، وذلك لأنّ الإيمان بالمعاد والقيامة ومحكمة العدل الإلهية بمثابة سدّ عظيم في مقابل المعاصي والذنوب والنس الأمارة تريد كسر هذا السدّ وهذا الطوق ليفجر الإنسان مدى عمره ويعمل ما يشاء، وهذا ليس منحصراً بالأزمنة السابقة، بل إنّ إحدى علل الميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد في عهذا العصر هو كسب الحرية للفجور والهروب من المسؤولية، وتحطيم كل القوانين الإلهية، وإلاّ فإنّ دلائل المبدأ والمعاد واضحة، وقد ورد في تفسير علي بن ابراهيم في توضيح معنى هذه الآية حيث قال: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة ويقول سوف أتوب.
![]() |
![]() |
![]() |