![]() |
![]() |
![]() |
وذهب بعض المفسّرين أنّ كلمة «ينظر» في الآية بمعنى «ينتظر»، والمراد: انتظار الإنسان يوم القيامة لجزاء أعماله.
وفسّرها بعض آخر بـ : النظر في صحيفة الأعمال.
وقيل: النظر إلى ثواب وعقاب الأعمال.
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 103.
2 ـ العنكبوت، 54.
وكل ما ذكر مبني على إهمال مسألة حضور وتجسّم الأعمال في يوم القيامة، ومعه ينتفي أيّ دور للتأويلات المذكورة.
وبنظرة إلى الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الشريفة يتبيّن لنا أنّ أعمال الإنسان تتجسم في هذا اليوم بصورة معينة، وتظهر للإنسان فينظر إليها على حقيقتها فيسّر ويفرح عند رؤيته لأعماله الصالحة، ويتألم ويتحسر عن رؤيته لأعماله السيئة.
وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.
كما نجد في الآية (49) من وسورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، وكذا في آخر سورة الزلزال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره).
في جملة «ما قدمت يداه» تغليب، لأنّ كل إنسان يؤدي أعماله غالباً بيديه، ولكنه لا يعني الحصر، بل يشمل جميع ما ارتكبته الجوارح من لسان وعين واُذن، في الحياة الدنيا.
وينبه القرآن الناس قبل تحقق ذلك اليوم: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد)(1).
وعلى أيّة حال، فحينما يرى الكفّار أعمالهم مجسمة أمامهم سيهالهم الموقف وتصيبهم الحسرة والندامة، حتى يقولون يا ليتنا لم نتجاوز منذ البداية مرحلة التراب في خلقنا، وعندما خلقنا في الدنيا، ثمّ متنا وتحولنا إلى التراب، فيا ليتنا بقينا على تلك الحال ولم نبعث من جديد!
فهم يعلمون بأنّ التراب بات خيراً منهم، لأنّه: تغرس به حبّة واحدة فيعطي سنابلاً، وهو مصدر غني للمواد الغذائية والمعدنية والبركات الاُخرى، مهد لحياة
1 ـ الحشر، 18.
الإنسان، ومع ما له من فوائد جمّة فهو لا يضرّ قط، بعكس ما كانوا عليه في حياتهم، فرغم عدم صدور أيّة فائدة منهم، فليس فيهم إلاّ الضرر والاذى!
نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه كفر وذنوب!
وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم الفزع الأكبر، فتقول الآية (56) من سورة الزمر: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللّه).
وتقول الآية (12) من سورة السجدة: (فارجعنا نعمل صالحاً).
أو ما يقوله كل فرد منهم ـ كما جاء في الآية المبحوثة ـ: (يا ليتني كنت تراباً).
* * *
تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله، وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.
ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين، يقبلون عملياً بأنّ الإنسان مختار في أفعاله.
وبعبارة اُخرى: إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان.
وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الاُصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية، ولولا الوساوس المختلفة لاتفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.
إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموماً من أوضح أدلة الإختيار، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.
وعليه.. فإذا كان الإنسان لا يقبل بالإختيار ويعتبر نفسه مجبوراً في أعماله فلماذا إذن:
1 ـ يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلاً، فإذا لم يكون مختاراً، فلماذا الندم؟!
2 ـ يلام ويُوبّخ كلّ مَن يسيء، فلماذا يلام إن كان مجبوراً في فعله؟!
3 ـ يُمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.
4 ـ يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلاً زاهراً، وإذا كانت الأعمال جبرية، فلماذا هذا التعليم.
5 ـ يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟
6 ـ يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، أو هل للجبر مِن توبة؟!
7 ـ يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟
8 ـ يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟
9 ـ تضع جميع الاُمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟
10 ـ مَن يقول بالجبر يصرخ متغنياً في وجه المحاكم لمعاقبة مَن اعتدى عليه؟
والخلاصة: إن لم يكن للإنسان اختيار، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟ أمِن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهراً؟! ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.
والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماماً، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية، فلا مفهوم لها بدون الإعتراف أولاً
بحرية الإنسان...
ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبراً، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولِمَ الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح، والأكثر ظلماً معاقبته؟!!
وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية، وهو ما ينسجم تماماً والوجدان البشري العام، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم، وكما قيل في هذا الجانب: (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون).
والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة، ونظراً لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان ـ مضافاً الى الآية المبحوثة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً) ـ سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.
ففي الآية (3) من سورة الدهر: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).
وفي الآية (29) من سورة الكهف، يقول تعالى:(فمن شاء فيؤمن ومَن شاء فليكفر).
وجاء في الآية (29) من سورة الدهر أيضاً: (إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّّخذ إلى ربّه سبيلاً).
الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّاً، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و(الوجدان)، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي: إنّ الدوافع النفسية والإجتماعية قد اختلطت مع الإستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر.
فكثير ممن اعتقدوا بالجبر، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية: أو أنّهم جعلوها غطاءً لفشلهم الناتج عن تقصيرهم
وتساهلهم في أداء وظائفهم، أو جعلوها مبرراً لإتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية.
استغل المستعمر ـ في بعض الأحيان ـ هذه المقولة، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل اللّه على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاءً وقدراً ليأمن المستعمِر من المقاومة، يكسب رضاهم وتسليمهم له!
فالإعتقاد بهذا الرأي... يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة، وتبرير جميع ذنوب المذنبين، وبالنتيجة: لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي!!...
اللّهمّ! قِنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة..
اللّهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصاداً، والجنّة للمتقين مفازاً...
اللّهمّ! يا واسع المغفرة، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا..
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة النبأ
* * *
مَكيَّة
وعدد آياتِها سِتّ وَأربَعُون آية
تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد»، وتتلخص مواضيعها عموماً بستة أقسام:
1 ـ التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.
2 ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.
3 ـ عرض سريع لقصة موسى(عليه السلام) مع الطاغي فرعون، تسلية للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين، وأنذاراً للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يتربت على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.
4 ـ طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض، للإستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.
5 ـ تعود الأيات مرّة اُخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.
6 ـ وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.
وسميت السورة بـ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية، وبها تبدأ السورة من بعد البسملة.
وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه
وحسابه يوم القيامة إلاّ كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنّة»(1).
وعن الإمام الصادق، أنّه قال: «مَن قرأها لم يمت إلاّ ريّان، ولم يبعثه اللّه إلاّ ريّان، ولم يدخله الجنّة إلاّ ريّان»(2).
وليس غربياً أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاءً من عند اللّه، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة، والمعرِّفة بوظائف الإنسان في حياته، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص428.
2 ـ المصدر السابق.
وَالنَّــزِعَـتِ غَرْقاً(1) وَالنَّـشِطَـتَ نَشْطاً (2)وَالسَّـبِحَـتِ سَبْحاً(3) فَالسَّـبِقَـتِ سَبْقاً(4) فَالمُدَبِّرَتِ أَمْرَاً(5)
جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمّة، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة «المعاد»، فيقول:
(والنازعات غرقاً....).
وقبل البدء بالتّفسير لابدّ من توضيح معاني بعض الكلمات..
«النازعات»: من (النوع)، ونزع الشيء جذبه من مقرّه، كنزع القوس عن كبده، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب(1). وبذلك تشمل الاُمور المعنوية أيضاً.
(الغَرق): بالفتح (على وزق الشفق)، هو الرسوب في الماء، (على قول كثير من أهل اللغة)، ويأتي كذلك فيمَن غمره البلاء.
1 ـ مفردات الرغب، مادة (نزع).
و«الغرْق»: (على وزن الفرْق)، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب: إنّه اسم اُقيم مقام المصدر الحقيقي، بمعنى الإغراق، والإغراق بالنزع هو: أن يباعد السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة، ويضرب مثلاً للغو والإفراط.
ومن هنا يتّضح أنّ المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.(1)
«النّاشطات»: من (النشط)، هي العُقد التي يسهل حلها، وبئر (إنشاط): هي القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن يُحدى لها (النشيطة).. فيكون المعنى عموماً: هو التحرك بسهولة.
«السابحات»: من (السبح)، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا تطلق السابحات على: السباحة في الماء، الحركة السريعة للخيل، وأيّة حركة سريعة في عمل ما.. و«التسبيح»: هو تنزيه اللّه تعالى من كل عيب ونقص، وأصله: الحركة السريعة في عبادة اللّه تعالى.
«السابقات»: من (السبق)، وهو التقدم في السير، وبما أنّ السبق لا يتمّ إلاّ بالحركة الأسرع فهو يتصمّن معنى الشرعة كذلك.
«المدبرات»: من (التدبير)، وهو التفكير في عاقبة الاُمور، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.
وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:
إنّ القسم بهذه الاُمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير، وأي شيء تقصد؟
وقد عرضت تفاسير مختلفة، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع، إلاّ أنّ
1 ـ راجع: لسان العرب، تفسير مجمع البيان، تفسير الكشّاف، ومجمع البحرين.
معظمها تدور حول ثلاثة محاور:
الأوّل: إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.
ويتعلق كذلك، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر، وسرعة في إتمام الأمر.
والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.
ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.
وأخيراً، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.
الثّاني: تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من اُفق لتنتقل إلى اُفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون.
فبعض منها تمشي الهوينا، والبعض الآخر واسعة الخطوات.
وتراها سابحة في السماء.
وتتسابق فيما بينها.
وأخيراً، تشترك في تدبير اُمور الكون، بما لها من تأثيرات، (كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).
الثّالث: تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل اللّه، أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.
و... تتسابق فيما بينها... مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير اُمور الحرب.
وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء، فبعضها مقتبس من الأوّل، والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث، لمعنى خاص، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى
التّفاسير الثّلاثة المذكورة(1).
ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذُكر، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني... وعموماً يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره، للأسباب التالية:
أوّلاً: تناسبه مع يوم القيامة.. هو ممّا تدور السورة حوله عموماً.
ثانياً: نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات.
ثالثاً: ملائمة تفسير: (فالمدبّرات أمراً) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر اللّه، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به، كما تشير الآية (27) من سورة الأنبياء إلى ذلك: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)، وخصوصاً أنّ (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط.
وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل، ومن جملتها:
ما روي عن علي(عليه السلام) في تفسير (النّازعات غرقاً)، إنّه قال: «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد)(2).
وروي عنه(عليه السلام) في تفسير: «والناشطات» و«السابحات» و«فالمدبرات» ما
1 ـ وثمّة رأي يقول: المقصود بهذا القسم، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات، فمثلاً: تتحرك النطفة حركة طبيعية، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الاُم، ثمّ تديم مسيرها بهدوء، ولتسرع بعد ذلك، ثمّ تبدأ المواد الحياتية بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد اُولى خطوات التنفيذ، ثمّ يسرع الخطوات، ويتسابق مع الآخرين، ويقوم بكلّ ذلك لتدبير أمره وحياته الإجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في مسيرها. (إلاّ أنّ هذا التفسير يفتقد الدليل).
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص497، الحديث 4.
يشبه ذلك(1).
ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه، وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة، ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل: الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي.. الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة.. الإسراع في خطوات التنفيذ.. فالتسابق.. ومن ثمّ يكون تدبير الأمر.
وعلى أيّة حال، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي، ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد».
* * *
ويبقى، بعد كلّ ما تقدم، سؤالان:
الأوّل: ما سبب مجيء «النازعات» و«الناشطات» بصيغة المؤنث؟
الثّاني: كان القسم في الآيات الثلاثة الاُولى بـ «الواو»، وفي الآيتين الرابعة والخامسة استعملت «الفاء» عوضاً عن «الواو».. فهل هي للعطف أم للتفريع؟
الجواب الأوّل: «النازعات» جمع (نازعة)، وهي الطائفة أو المجموعة من الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما اُمرت به، وكذا الحال بالنسبة لـ «الناشطات» وبقية صيغ الجمع الاُخرى... وبما أنّ (الطائفة) مؤنث لفظي، فقد جاء الجمع بصيغة المؤنث السالم.
الجواب الثّاني: يمكننا القول: أنّ التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة
1 ـ المصدر السابق، الحديث 7 ـ 8 ـ 12.
المقصودة في «السابحات»، وتدبير الاُمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.
وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال: إنّ القسم الوارد في الآيات الخمسة الاُولى من السورة، إنّا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم)، ولكنّ قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبيّن البعث والحشر والقيامة، وحتمية تحققها، فيكون التقدير لجواب القسم: (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرنّ ولتحاسبن).
* * *
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ(6) تَتْبَعُهَا الرِّادِفَةُ(7) قُلُوبٌ يَومَئِذ وَاجِفَةٌ(8) أَبْصَـرُهَا خَـشِعَةٌ(9) يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ(10) أَءِذَا كُنَّا عِظَـماً نَّخِرَة(11) قَالُواْ تِلْكَ إِذَاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12) فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ(13) فإِذَا بِالسَّاهِرَةِ(14)
بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث، فتقول: (يوم ترجف الرّاجفة)، أي: يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.
ثمّ: (تتبعها الرّادفة).
«الراجفة»: من (الرجف)، بمعنى الإضطراب والتزلزل، ولذا يقال للأخبار التي توقع الإضطراب بين أوساط الناس بـ (الأراجيف).
«الرادفة): من (الردف)، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعاً،
ولذا يقال لمن يركب خلف آخر، (رديفه).
ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ «الراجفة»: هي الصيحة ونفخة الصور الاُولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق، و«الرادفة»: هي الصيحة ونفخة الصور الثّانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اُخرى ليعيشوا يوم القيامة(1).
وعليه، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (68) من سورة الزمر: (ونفخ في الصور فصعق مَن في السماوات ومَن في الأرض إلاّ مَن شاء اللّه ثمّ نفخ فيه اُخرى فإذا هم قيام ينظرون).
وقيل: «الراجفة»: إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر الأرض، و«الرّادفة»: إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر السماوات..
والتّفسير الأوّل كما يبدو أقرب للصواب.
وتأتي الآية الاُخرى لتقول: (قلوب يومئذ واجفة).
فقلوب العاصين شديدة الإضطراب خوفاً من الحساب والجزاء.
«واجفة»: من (الوجف)، بمعنى سرعة السير، و(أوجفت البعير): حملته على الإسراع، وتستعمل أيضاً للإضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.
ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كلّ المذنبين، ولذا يقول القرآن: (أبصارها خاشعة)(2).
فيبدو الإضطراب والخوف ظاهراً على أعين المذنبين، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.
وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا:
1 ـ ينبغي ملاحظة أنّ فعل (رجف) قد يأتي متعدياً وقد يأتي لازماً، فعلى الحالة الاُولى تكون «الراجفة» بمعنى الزلزلة العظيمة التي تزلزل كلّ الأرض والموجودات، وعلى الحالة الثّانية تعني الأرض دون غيرها ـ فتأمل.
2 ـ يعود ضمير «أبصارها» إلى القلوب، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح)، وترجع الإضافة إلى أنّ مركز تأثيرات حواس الإنسان إنّما من روحه، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.
(يقولون أإنّا لمردودون في الحافرة).
«الحافرة»: من (الحفر)، بمعنى شقّ الأرض، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة)، يقال: حافر الفرس، تشبيهاً لحفرة الأرض في عَدوِه، و«الحافرة»: كناية لمن يُرد من حيث جاء، كما لو سار إنسان على أرض، فيترك فيها حفراً لتحمل آثار قدمه، ثمّ يعود إلى نفس تلك الحفر، فالحافرة: تعني الحالة الاُولى(1).
وتستمر الآية في سرد كلامهم: (أإذا كنّا عظاماً نخرة)(2).
فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد، وبقولهم المعروف: كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اُخرى جسماً كاملاً، والأكثر من هذا.. أن تسري فيه الحياة ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئاً؟
«نخرة»: صفة مشبهة، من (النخر)، بمعنى الشجرة المجوفة البالية، والتي إذا دخل فيها الهواء أعطت صوتاً معيناً، مثله (النخير)، وعمم الإستعمال ليشمل كلّ شيء بال في حال تآكل وتلاش.
ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الإعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه، بل وتحولوا إلى حال الإستهزاء بأحد اُصول دين اللّه!: (قالوا تلك إذاً كرّة خاسرة).
وثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية يقول: إنّهم جادون في قولتهم غير مستهزئين، لأنّهم يعتقدون أن لو كان ثمّة عود ورجعة فهي عبث زائد وخاسر، إذ لو كانت الحياة الطيبة هي التي نعيشها، فلماذا لا تخلد؟ وإن كانت سيئة فما فائدة العود؟
1 ـ اسم فاعل هنا بمعنى اسم المفعول، فالحافرة إذاً بمعنى المحفورة.
![]() |
![]() |
![]() |