أو أنّ نعم الجنان لا توصف لكثرتها.

أو أنّ «الملك الكبير» هو استئذان الملائكة للدخول على أهل الجنان و يحيوهم بالسلام.


1 ـ قيل إن «السلسبيل» هو ما لا ينصرف عادة للعملية والعجمة والتنوين الموجود للإتساق مع الآيات السابقة لها.

2 ـ قيل إنّ (ثمّ) هنا ظرف مكان ولـ (رأيت) معنى فعل لازم والتقدير (إذا رميت ببصرك ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً)ويحتمل أن يكون (ثمّ) اسم إشارة للبعد ومفعولاً لرأيت.

3 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 411.

[269]

أو أنّ أهل الجنان يحصلون على ما يشاءون.

أو أنّ أقل أهل الجنان مرتبة يحصل على ملك من السعة أنّه يرى من الطريق ما يكون على بعد ألف سنة لو نظر إليه كان بينه وبين ملكه ألف سنة.

أو يراد به الملك الدائم والأبدي المقترن مع تحقيق جميع الآمال ...

«النعيم»: يراد بها في اللغة النعم الكثيرة و(ملك كبير) يخبر عن عظمة واتساع رياض أهل الجنّة، ولذا فإنّ لهما معنيين واسعين بحيث يشملان جميع ما قيل فيهما.

إلى هنا أُشير إلى قسم من نعم الجنان من قبيل المساكن والأسرة والظلال والفواكه والشراب والأواني والجماعة المستقبلة للضيوف، وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى: (عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق)(1).

«سندس»: ثوب رقيق من الحرير، و«الإستبرق» ثوب غليظ من الحرير، وقيل أنّه مشتق من الكلمة الفارسية «أستبر» أو «ستبر»، وقيل: أُخذ من أصل عربي (برق) أي التلألؤ.

ثم أضاف تعالى: (وحلوا أساور من فضة).

وهي الفضة الشفّافة اللامعة كالبلّور وأجمل من الياقوت والدّر واللؤلؤ.

«اساور»: جمع «أسورة» على وزن (مغفرة) وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) أو «سوار» على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية، (دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).

إنّ اختيار اللون الأخضر للباس أهل الجنّة هو لكونه يبعث على النشاط


1 ـ «عاليهم»: هناك احتمالان لمحله من الاعراب، الأول كونه ظرفاً ويراد به فوق، فيكون معنى الآية (فوقهم ثياب سندس) والآخر كونه لا يرجع للضمير «هم» المذكور في الآيات السابقة، بل يرجع إلى (الأبرار) فيكون المعنى (حال كونهم يعلوهم ثياب سندس خضر).

[270]

كأوراق الأشجار الجميلة، وبالطبع إنّ للّون الأخضر أنواعاً وأقساماً، ولكل منها لطافة:

وورد في بعض آيات القرآن كالآية (30) من سورة الكهف أنّ أهل الجنان يزينون بأساور من ذهب: (يحلون فيها من أساور من ذهب) وهذا لا ينافي ما جاء في الآية التي نحن بصدد بحثها، إذ يمكن أن يكون من باب التنويع، فمرّة هذا، ومرّة ذاك.

ويأتي هنا سؤال: أليس سوار الذهب والفضة من زينة النساء، فكيف ذكر زينة لرجال الجنّة؟

والجواب واضح، فهناك الكثير من المجتمعات تكون زينة الذهب والفضة للرجال والنساء (وإن حرمّ الإسلام لبس الذهب للرجال) ولكن بالطبع هناك اختلاف بين أساور الرجال وبين أساور النساء، ونقل عن لسان فرعون في الآية (53) من سورة الزخرف: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) ويظهر من هذا أنّ لبس الرجال للذهب في مصر كان من علائم العظمة. بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في السابق أنّه لا يكفي استعمال الألفاظ العادية المتداولة في هذه الدنيا لبيان نِعم الجنان، وليس هناك من حلّ إلاّ باستعمال هذه الألفاظ للإشارة إلى تلك النعم العظيمة التي لا توصف.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية مشيراً إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم:

(وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً).

صحيح أنّ من بين هذه النعم ورد الحديث عن الأشربة السائغة من الأكواب المترعة من عين السلسبيل، ولكنّ بينها وبين ما جاء في هذه الآية فرق كبير، لأنّ السقاة هناك هم «الولدان المخلدون» من جهة، والساقي هنا هو «الله تعالى»، يا له من تعبير عجيب! خصوصاً مع ذكر كلمة (رب) الرب الذي طالما تلطف على الإنسان برعايته المستمرة له فكان مالكهُ ومربيه والذي كان يأخذ بيده في

[271]

مراحل التكامل حتى يوصله إلى المرحلة الأخيرة التي يريدها له، ثمّ تتجلّى ربوبيته إلى أعلى المراتب والحدود فيسقي بيده عباده الأبرار بالشراب الطهور.

ومن جهة أُخرى فإنّ «الطهور» هو الطاهر والمطهر، وعلى هذا فإنّ هذا الشراب يطهر جسم الإنسان وروحه من كل الأدران والنجاسات ويهبه من الروحانية والنورانية والنشاط ما لا يوصف بوصف: حتى ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «يطهرهم عن كلّ شيء سوى الله»(1).

إنّ هذا الماء الطهور أفضل من أيّة نعمة وأعلى من كلّ موهبة، إذ أنّه يمزق ستار الغفلة، ويزيل الحجب، ويجعل الإنسان أهلاً للحضور الدائم في جوار القرب من الله تعالى، فإذا كان شراب الدنيا يزيل العقل ويبعد الإنسان عن الله، فإنّ الشراب الطهور يعطى من يد ساقي الجنّة، فيجرّد الإنسان عن ما سوى الله، ليغرق في جماله وجلاله، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الخفي الموهوب في الجنّة، ففي حديث روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله) حول عين الشراب الطهور المستقرة عند باب الجنّة قال: «فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد! ... وذلك قول الله عزَّ وجلّ (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً)(2).

والظريف في عبارة طهور أنّها لم ترد في القرآن إلاّ في موردين: أحدهما في مورد المطر (الفرقان 48) الذي يطهر كل شيء ويحيي البلاد الميتة، والآخر في مورد الآية التي نحن بصدد بحثها، وهو الشراب الخاص بأهل الجنّة.

وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثاً أخيراً في هذا الإطار فيقول: إنّه يقال لهم من قبل ربّ العزّة بأنّ هذه النعم العظيمة ما هي إلاّ جزاء أعمالكم في الدنيا (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً). لئلا يتصور أحد أنّ هذا الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل، إنّ كل ذلك جزاء السعي


1 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 411.

2 ـ نور الثقلين، ج 5، ص 485 ذيل الحديث 60.

[272]

والعمل، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي(1).

ثمّ إنّ نفس بيان هذا الموضوع فيه لذّة خاصّة، إذ أنّ الله تعالى أو«ملائكته» يخاطب الأبرار ويقدم لهم الشكر والتقدير ويقول: إنّ هذا جزاء أعمالكم وإنّ سعيكم مشكور، بل قيل: إنّها نعمة ما فوقها نعمة وموهبة أعلى من كل المواهب وهي شكر الله للإنسان.

«كان»، فعل ماضي ويخبر عن الماضي، ولعلّه إشارة إلى أنّ هذه النعم كانت موفرة لكم من قبل، لأنّ من يهتم كثيراً بضيفه يهيء وسائل الضيافة له من قبل.

* * *


1 ـ إن لهذه الآية تقدير مثل (يقال لهم) أو( يقول الله لهم).

[273]

الآيات

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً(23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْكَفُوراً(24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(25) وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً(26)

التّفسير

خمسة مباديء مهمّة في تنفيذ حكم الله:

شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثّم المعاد والبعث، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)باصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الأُخروية لا يتمّ إلاّ بالتمسك بالقرآن وإتباع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واطاعة أوامره.

ويقول في البدء: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً).

قال بعض العلماء إنّ مجيء (تنزيلاً) بصورة مفعول مطلق هو إشارة إلى النزول التدريجي للقرآن، إذ لا يخفى الأثر التربوي لذلك، وقيل هو إشارة إلى عظمة مقام هذا الكتاب السماوي وتأكيد نزوله من قبل الله تعالى، خصوصاً ما

[274]

ورد من التأكيدات الأُخرى في الآيات الآتية (التأكيد بأنّ، ونحن، والجملة الإسمية) وهو جواب لمن يتهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالكهانة والسحر والإفتراء على الله تعالى.

ثمّ يأمر النّبي بأمور خمسة، أولها الدعوة إلى الصبر والإستقامة فيقول: (فاصبر لحكم ربّك).

أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم. والجدير بالإنتباه أنّ الأمر بالصبر (مع ملاحظة (فاء التفريع) في (فاصبر) متفرع على نزول القرآن من الله تعالى، أي إذا كان الله قد أيّدك وحماك فيجب عليك أن تصبر في هذا الطريق، والتعبير بـ (الرب) إشارة لطيفة أُخرى إلى نفس هذا المعنى.

والأمر الثّاني الموجّه للنّبي(صلى الله عليه وآله) هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين، فيقول تعالى: (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً).

في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النّبي وجرّه إلى طريق الباطل، كما نقل أنّ «عتبة بن ربيعة» و«الوليد بن المغيرة» قالا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إن تركت دعوتك، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى، ونزوجك أجمل بنات العرب، وعروض أُخرى من هذا القبيل، فما كان على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلاّ أن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.

صحيح أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد استسلم، ولكن هذا التأكيد يشير الى أهمية الموضوع ليكون نموذجاً خالداً لسائر مرشدي طريق الله عزَّ وجلّ رغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا الى أنّ (آثماً) هو عتبة بن ربيعة، و«كفور» هو الوليد بن المغيرة أو أبو جهل، وهم من مشركي العرب، ولكنّ الواضح أنّ كل من (آثم) أي

[275]

(العاصي) و«كفور» أي (المبالغ في الكفر) له معنى واسع إذ يشمل جميع المجرمين والمشركين وإن كان هؤلاء الثلاثة من مصاديقها الواضحة، والملاحظ أنّ (آثماً) له مفهوم عام يستوعب بذلك (الكفور) أيضاً، لذا فإنّ ذكر (كفور) كذكر الخاص بعد العام للتأكيد.

ولكن بما أنّ الصبر والإِستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالامر اليسير، كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد، لذا يضيف القرآن في الآية الأُخرى: (واذكر اسم ربّك بكرة وأصيلاً) أي في كل صباح ومساء،. ويقول تعالى أيضاً: (ومن الليل فاسجد له وسبّحه ليلاً طويلاً).

لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.

(بكرة) على وزن (نكتة) يعني بداية اليوم، و(أصيل) نقيض بكرة، أي آخر اليوم.

وقيل إنّ إطلاق هذه اللفظة على آخر اليوم مع أنّها مشتقة من مادة (أصل) هو كون آخر اليوم يشكل الأصل والأساس للّيل.

ويستفاد من بعض التعابير أنّ (أصيل) تطلق أحياناً على الفترة ما بين الظهر والغروب (مفردات الراغب الأصفهاني).

ويظهر من آخرين أنّ (أصل) يقال لأوائل الليل، لأنّهم فسروا ذلك  بـ «العشي» والعشي هو بداية الليل كما يقال لصلاتي المغرب والعشاء بالعشائين، حتى أنّه يستفاد من بعض الكلمات أنّ «العشي» هو من زوال الظهر حتى صباح الغد(1) ولكنّ بالإلتفات إلى أنّ كلمة (أصيل) وردت في الآية الشريفة في مقابل «بكرة» ثمّ تحدثت الآية بعد ذلك عن العبادة الليلية. يتّضح أنّ المراد هو الطرف الآخر للنهار.


1 ـ مفردات الراغب.

[276]

على كل حال فإنّ هاتين الآيتين في الحقيقة تأكيد لضرورة التوجّه الدائم والمستمر لذات الله المقدسة.

وقال آخرون: إنّ المراد هو الصلوات الخمس، أو بإضافة صلاة الليل، أو خصوص صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء ولكنّ الظاهر هو أنّ هذه الصلوات مصاديق من هذا الذكر الإلهي المستمر والتسبيح والسجدة لمقامه المقدس.

التعبير بـ (ليلاً طويلاً) إشارة إلى ضرورة التسبيح لفترة طويلة من الليل، ففي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لمّا سئل عن المقصود من التسبيح في هذه الآية؟ قال(عليه السلام): «هو صلاة الليل»(1).

ولا يستبعد أن يكون هذا التفسير من باب تبيان المصداق الواضح لما تترك صلاة الليل من الأثر البالغ في تقوية روح الإيمان، وتهذيب النفوس. والحفاظ على حيوية إرادة الإنسان في طريق طاعة الله.

ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كلّ من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة، وهي كذلك دائماً، ولم تثمر الرسالة إن لم يمتلك قادتها الصبر والإستقامة.

وفي المرحلة الأُخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع


1 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 413.

[277]

الحيل والمكائد، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد، ويذكروا الله تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوة الإرادة والعزم الراسخ، والإستمداد من العبادات الليلية، والمناجات مع الله، فإذا ما روعيت هذه الاُمور فالنصر حتميٌ، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الأُصول، ومنهج الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق.

* * *

[278]

الآيات

إِنَّ هَـؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً(27) نَّحْنُ خَلَقْنَـهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـلَهُمْ تَبْدِيلاً(28) إِنَّ هَـذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(29) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30) يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّـلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(31)

التّفسير

تحذير مع بيان السبيل!!

رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين، والتاريخ يشهد أنّهم كانوا يستعينون لسذاجتهم بالمال والجاه والنساء للنفوذ في إرادة النبي(صلى الله عليه وآله) وعزمه على ادامة الدعوة.

الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت: (إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً). لا تتعدى أُفق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة، وتمثل هذه اللذائذ المادّية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة.

[279]

والعجيب أنّهم قاسوا روح النّبي(صلى الله عليه وآله) العظيمة بهذا المقياس! ولم ينتبه هؤلاء الغافلين إلى اليوم الثقيل الذي ينتظرهم، ثقيل من حيث العقوبات، ثقيل من حيث المحاسبة، وثقيل من حيث طول الزمان وشدّة الفضيحة.

وقد جاء التعبير بـ (وراءهم) مع أنّ المفروض أن يقال (أمامهم) لأنّهم نسوا ذلك اليوم، وكأنّهم تركوه وراءهم، ولكن على قول بعض المفسّرين أنّ كلمة (وراء) تستعمل أحياناً بمعنى «خلف» وأحياناً بمعنى «أمام»(1).

الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوتهم وقدرتهم، إذ أنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء، فيقول تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً)(2).

(أسر) على وزن (عصر) وأصلهُ الربط بالقيد، ولهذا سمي الأسير بهذا الاسم لربطه وشدّه، وهنا إشارة إلى استحكام خلقة الإنسان بحيث يقدر على مزاولة مختلف النشاطات والفعاليات المهمّة.

هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة، وهي الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الانسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان واحد مهيأ للقيام بأية فعالية، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.

وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات الله المقدّسة، عنهم، وعن طاعتهم وإيمانهم، ليعلموا أنّ الاصرار على إيمانهم في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.


1 ـ جاء في تفسير (روح البيان) أن كلمة (وراء) إذا أُضيفت إلى الفاعل فإنّها تعني الخلف، وإذا أُضيفت إلى المفعول فإنّها بمعنى «الأمام» روح البيان، ج 8، ص 439.

2 ـ في هذه الآية حذف، وفي التقدير (بدلناهم أمثالهم) كلمة (تبديل) غالباً ما تأخذ مفعولين وهنا الضمير (هم) مفعول أوّل و(أمثالهم) مفعول ثان.

[280]

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (133) من سورة الأنعام اِذ يقول: (وربّك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء).

ثمّ أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملاً للحياة السعيدة، فيقول تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)(1).

إن علينا إيضاح الطريق، لا اجباركم على اختيار الطريق، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم، وهذا في الحقيقة تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله: (إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).

وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: (وما تشاءُون إلاّ أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً)(2).

وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين)، إذ يقول من جهة: (إنا هديناه السبيل) فعليكم أن تختاروا ما تريدون، ويضيف من جهة أُخرى: (وما تشاءُون إلا أن يشاء الله) أي ليس لكم لإستقلال الكامل، بل إن قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.

من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين الأمرين، أو بعبارة أُخرى: إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة


1 ـ قيل أن في الآية حذف، والتقدير: (فمن شاء اتخذ إلى رضى ربّه سبيلاً) ولكن الحق عدم احتياج الآية للتقدير، لأن جميع طرق التكامل تنتهي إلى الله تعالى.

2 ـ جمع من المفسرين قالوا أن جملة (إن يشاء الله) محلها من الإعراب منصوبة على الظرفية فيكون المعنى: (ما تشاءُون إلا وقت مشيئة الله) ويحتمل أن التقدير هنا (شيئاً) فيكون المعنى: (وما تشاءُون إلا شيئاً يشاء الله).

[281]

الإلهية، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة، ومن جهة أُخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى.

والخلاصة، أنّ هذه الآية تدعو الانسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه. وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه.

ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة، فيقول: واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر!(1) نعم، إذا فَصَلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم. ولكن بالإلتفات إلى ما ورد من تأثير الإختيار في آية، وفي آية أُخرى تأثير المشيئة الإلهية، يتّضح بصورة جيدة مفهوم (الأمر بين الأمرين).

وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الإختيار المطلق فقط، وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط، ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية، والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي (أو أي كلام آخر) يستوجب ضمّ الآيات جنباً إلى جنب، وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة.

ولعلّ آخر الآية: (إن الله كان عليماً حكيماً). يشير حكمه إلى هذا المعنى، لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل، وإلاّ فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملاً، بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أُناس وفرض الأعمال الشريرة على أُناس آخرين، ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأُولى ويعاقب الثانية.

ثمّ تشير الآية الأُخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين في جملة


1 ـ تفسير الفخر الرازي ج 30 ص 262.

[282]

قصيرة غنية المحتوى إذ تقول الآية: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً) والظريف أنّ صدر الآية يقول: (يدخل من يشاء في رحمته)ويقول ذيلها:(والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً) وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الانسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلاّ من حكيم.

والعجيب أنّ مع هذه القرينة فهناك أفراد كالفخر الرازي ممن يتخذ صدر هذه الآية دليلاً على مسألة الجبر من دون الإلتفات إلى آخر الآية التي يتحدث عن حرية الإرادة في أعمال الظالمين(1).

اللهم! ادخلنا في رحمتك ونجّنا من العذاب الأليم الذي ينتظر الظالمين.

ربّنا! إنّك أوضحت السبيل إليك. وقد عزمنا على سلوكه، فأعنّا على ذلك.

ربّنا! إنّنا إن لم نكن من الأبرار ولكنّا نحبّهم، فاحشرنا معهم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الدهر

* * *


1 ـ لمزيد من التوضيح حول آيات (المشيئة) راجع تفسير الآية 37 سورة الزمر.

[283]

سُورَة المُرسَلات

مكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا خَمسُونَ آية

«سورة المرسلات»

محتوى السورة:

المشهور أنّ هذه السورة مكيّة، ولكن صرح البعض أنّ الآية (48) (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) مدنية، ولكن لم يذكروا لذلك دليلاً واضحاً، وإذا كانت مسألة الركوع والصلاة سبباً لهذا الإستنباط فإنّ ذلك يبدو بعيداً. إذ كثيراً ما كان المسلمون يقيمون الصلاة مع الركوع في مكّة، على كلّ حال فإنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: (ويل يومئذ للمكذبين)عشر مرات بعد كل موضوع جديد، وتنبىء السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث، ثمّ تذكر عقب ذلك هذه الآية: (ويل يومئذ للمكذبين):

وتتحدث السورة أولاً عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثمّ تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإِنسان.

وفي المرحلة الثّالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرّابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثمّ تأكيد تلك الآية بعد ذكر كلّ موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.

[286]

على كل حال فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام يدور عن النعم، أمّا في السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة هو لتناسبه مع الآية الأُولى لهذه السورة.

فضيلة السورة:

روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من قرأ سورة المرسلات كتب أنّه ليس من المشركين»(1).