10 ـ إنّ خلقهم كان قبل خلق الإنسان: (والجان خلقناه من قبل)(5) ولهم خصائص أُخرى

بالإضافة إلى ذلك فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الإنسان هو نوع أفضل من الجن، وبخلاف ما هو مشهور على الألسن لأنّهم أفضل منّا، ودليل اختيار الأنبياء من الإنس، وإنّهم آمنوا بنبي الإسلام الذي هو من الإنس واتبعوه، وهكذا وجوب سجود الشيطان لآدم(عليه السلام) كما صرّح القرآن بذلك ،وكون الشيطان من أكابر طائفة الجن (الكهف 50) هو دليل على أفضلية بني الإنسان على الجنّ.

إلى هنا كان الحديث عن أُمور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية من كل الخرافات والمسائل غير العلمية، ولكنّنا نعلم أن السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافي مع العقل


1 ـ الجن، 9.

2 ـ الجن، 6.

3 ـ النمل، 39.

4 ـ سبأ، 12 ـ 13.

5 ـ الحجر، 27.

[118]

والمنطق، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة، وأنّهم موجودات سامة وذوات أذناب! مؤذية، ومبغضة، سيئة التصرف والسلوك إذ يمكن أن تحرق دوراً بمجرّد أن يسكب إناء ماء مغلي في بالوعة مثلاً، وأوهام أُخرى من هذا القبيل، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات قابلاً للقبول، لأننا لا نملك دليلاً على حصر الموجودات الحية بما نحن نراه، بل يقول علماء العلوم الطبيعية: إنّ الكائنات التي يستطيع الإنسان أن يدركها بحواسه ضئيلة بالنسبة للموجودات التي لا تدرك بالحواس.

وفي الفترة الأخيرة وقبل أن يكشف المجهر هذه الكائنات الحية، لم يصدق أحد أنّ هناك الآلاف المؤلفة من الموجودات الجية المتواجدة في قطرة الماء أو الدم لا يمكن للإنسان أن يراها ويقول أيضاً: إنّ أعيننا ترى ألواناً محددة، وكذا آذانناً تسمع أمواجاً صوتية محددة، والأولوان والأصوات التي لا ندركها بآذاننا وأعيننا أكثر بكثير من تلك التي تدرك، وعندما تكون الدنيا بهذا الشكل لا يبقى موضع للتعجب من وجود هذه الكائنات الحية، والتي لا يمكن لنا إدراكها بالحواس، ولم لا نتقبل ذلك عندما يخبرنا انسان صادق كالنّبي العظيم(صلى الله عليه وآله وسلم).

على أي حال فإنّ القرآن المجيد قد أخبرنا من جهة بوجود الجن وخصوصياته المذكورة سلفاً، ومن جهة أُخرى ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن، ولهذا لابدّ من الإعتقاد بهم، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

وممّا يلاحظ أيضاً أنّ لفظ الجن يطلق أحياناً على مفهوم أوسع يشمل أنواعاً من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك ولفاقدة لهما، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضاً، والدليل على ذلك روايات وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «خلق اللّه الجن خمسة أصناف: صنف كالريح في الهواء، وصنف حيات، وصنف عقارب، وصنف

[119]

حشرات الأرض، وصنف كنبي آدم عليهم الحساب والعقاب»(1).

وبالتوجه إلى هذه الرّوايات ومفهومها فسوف تحلّ الكثير من المشاكل التي تطرح في الرّوايات والقصص الخاصّة بالجن.

ففي رواية وردت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: «لا تشرب الماء من ثلمة الإناء ولا عروته، فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة».(2) لأنّ الشيطان هو من الجن، ولأنّ ثلمة الإناء وعروته محل لإجتماع المكروبات المتنوعة، فلا يستبعد أن يكون الجن والشيطان بمفهومه العام شاملاً لمثل هذه الكائنات، وإن كان المعنى الخاص له هو الكائن ذو فهم وشعور وإنّه مكلّف ومسؤول، والرّوايات كثيرة في هذا الباب.

ربّنا! ألطف بنا يوم يحضر الجن والإنس في محكمة عدلك، ويوم يندم المسيؤون على ما عملوا.

اللّهم! إنّ أركان ملكك واسعة ومعرفتنا ومعلوماتنا محدودة، فاحفظنا وصنّا من المزالق والخطايا والحكم بغير الحقّ.

إلهنا! إنّ مقام رسولك الكريم من العظمة والسمو أن آمن به الجن مضافاً إلى الإنس، فاجعلنا من المؤمنين بدعوته...

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة الجن

* * *


1 ـ سفينة البحار، ج1، ص186 (مادة الجن).

2 ـ الكافي، ج6، ص385، كتاب الأشربة، باب الأواني، الحديث 5.

سُورَة المُزَّمِّل

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا عشرون آية

«سورة المزّمّل»

محتوى السورة:

يدل سياق السورة على وجود تشابه بينها وبين المكية الأُخرى، ولهذا يستبعد ما قاله البعض من أنّها مدنية، واختلاف سياق الآيات الأُولى والأخيرة منها يشير إلى نزوله في فترات متعددة وطويلة، فقد ذكر البعض: إنّه نزلت في ثمانية أشهر وقيل: سنة، وقيل: عشر سنوات.(1)

إنّ الكثير من آيات هذه السورة تشير إلى أنّها نزلت عند بدء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لدعوته العلنية، وإعتراض المخالفين وتكذيبهم له، ولكن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أمر بالمسالمة والمجازاة لهم، ولذا يبعد احتمال نزولها جميعاً في أوّل دعوته(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن احتمال ذلك في شأن الآيات الأُولى لها، وأمّا البقية فليست كذلك، لأنّ آياتها تشير إلى سعة الإسلام والدعوة، وذلك على نطاق مكّة على الأقل، وبروز مخالفة المخالفين وصراعهم مع الحق، وهذا ما لم يحصل في السنوات الثلاث الأُولى للدعوة.

ووردت روايات مختلفة ومتفاوتة في سبب نزول السورة أو بعض الآيات منها، ففي بعض الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استلم البلاغ الإلهي الأوّل رجع إلى خديجة وفؤاده يرتجف فقال: «زملوني» فنزل جبرائيل(عليه السلام) بـ (أيّها المزّمل).


1 ـ راجع تفسير الدر المنثور، ج6، ص276، ومجمع البيان، ج10، ص377.

[124]

في حين أنّه جاء في بعض الرّوايات أن شأن نزول هذه السورة يتعلق باعلان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته، فكان أن اجتمع مشركو قريش في دار الندوة ليفكروا في أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وليختاروا لمواجهته شعاراً أو عنواناً خاصّاً، فقال بعضهم: إنّه (كاهن) لكن بعضهم لم يوافق على هذه التسمية، فقال آخرون: إنّه (مجنون) إلاّ جمعاً آخر منهم لم يوافق عليه أيضاً، ورجحّ بعضهم أن يسمّى بـ (الساحر) فلم يوافق الآخرون على ذلك أيضاً.

أخيراً قالوا: إنّه يفرق بين الأحباب، فبناء على ذلك فهو ساحر ثمّ تفرق المشركون، فبلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله المشركون، فدثّر نفسه تزّمل بأثوا به وركن إلى الرّاحة... فجاءه الوحي في ذلك الحين بسورتي، يا أيّها المزّمل، ويا أيّها المدثر.(1)

والحاصل هو ما أشرنا إليه في أنّ ظاهر السورة مكّية، ونزول قسم منها بعد الدعوة العلنية ونفوذ الإسلام النسبي في مكّة أمرحتمي، وإن كان يحتمل نزول آيات من أوّل السورة في أوّل البعثة.

ويتلخص محتوى السورة في خمسة أقسام:

القسم الأوّل: الآيات الأُولى للسورة والتي تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقيام الليل والصلاة فيه، ليستعد بذلك لنقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل.

القسم الثّاني: يأمره(صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والمقاومة ومداراة المخالفين.

القسم الثّالث: بحوث حول المعاد، وإرسال موسى بن عمران إلى فرعون وذكر عذابه الأليم.

القسم الرّابع: فيه تحفيف لما ورد في الآيات الأُولى من الأوامر الشديدة عن قيام الليل، وذلك بسبب محنة المسلمين والشدائد المحيطة بهم.


1 ـ نور الثقلين، ج6، ص276.

[125]

القسم الخامس: هو القسم الأخير من السورة يعود ليدعو إلى تلاوة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة، والإنفاق في سبيل اللّه والإستغفار.

فضيلة السّورة:

ورد في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا والأخرة»(1).

وفي حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «من قرأ سورة المزّمل في العشاء الآخرة، أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة، وأحياه اللّه حياة طيبة وأماته ميتة طيبة»(2).

ومن الطبيعي أنّ هذه الفضائل لابدّ أن تكون ملازمة مع قيام الليل وقراءة القرآن والصبر والإستقامة والإيثار والإنفاق والعملي، وليس بالتلاوة الخالية من العمل.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص375.

2 ـ المصدر السّابق.

[126]

الآيات

يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1) قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً(2) نِّصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرءَانَ تَرْتِيلاً(4) إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)

التّفسير

يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) للإستقامة والإستعداد لقبول مهمّة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتمّ إلاّ بالبناء المسبق للذات، فيقول: (يا أيّها المزّمل (1)، قم الليل إلاّ قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً).

الطريف في هذه الآيات أنّ المخاطب هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لا بعنوان يا أيّها الرّسول، أو يا أيّها النّبي، بل بعنوان يا أيّها المزمل، إشارة إلى إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة، واختيار الليل لهذا العمل أوّلاً: لأنّ أعين الأعداء نائمة، وثانياً: تتعطل الأعمال المكاسب، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.


1 ـ «مزّمل»: أصلها متزمل، وهي من التزمل، وتعني لف الثوب على نفسه، ولهذا جاء لفظ الزميل، أي المصاحب والرفيق.

[127]

وكذلك إختيار القرآن لأنّ يكون المادة الأُولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى وتربية النفوس، والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم، والأداء الصحيح للحروف، وتبيّن الحروف، والدقّة والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر في نتائجها.

وبديهي أنّ مثل هذه القراءة تعطي الإنسان الرّشد والنمو المعنوي السريع والشهامة الخلقية وتهب التقوى، وإذا فسّره البعض بالصلاة فذلك لأنّ أحد أجزاء الصلاة المهمّة هي قراءة القرآن.

عبارة «قم الليل» تعني النهوض في مقابل النوم، وليس الوقوف فحسب، وأمّا ما جاء من العبارات المختلفة في هذه الآيات حول مقدار إحياء الليل فهو في الحقيقة لتبيان التخيير، وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مخيّر في الإستيقاظ في نصف الليل أو أقل من ذلك أو أكثر لقراءة القرآن، ففي المرحلة الأُولى يذكر الليل كلّه إلاّ قليلاً منه، ثمّ يخففه ليوصله إلى النصف، وبعدئذ إلى أقل من النصف.

وقيل: المراد هو التخيير بين الثلث الثّاني والنصف والثلث الأوّل، بقرينة الآية التي في آخر السورة: (إنّ بربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه)ويستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن وحده الذي يقوم الليل، بل معه عدّة من المؤمنين كانوا ملتزمين أيضاً بهذا النظام للبناء الذاتي والتربية والإستعداد متخذين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اُسوة لهم.

وقال البعض: إنّ المراد من «قم الليل إلاّ قليلاً»، هو القيام في الليالي كلّها إلاّ بعض الليالي، وليس الإستثناء في أجزاء الليل، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب حيث أنّ الليل جاء بصيغة مفرد «ليل»، وجاء التعبير بالنصف أو أقل النصف.

ثمّ يبيّن الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول: (إنّا سنلقي عليك

[128]

قولاً ثقيلاً.)

ذكر المفسّرين في القول الثقيل أقوالاً مختلفة، لكن الملاحظ أن ثقل القول يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.

ثقيل بلحاظ حمل على القلوب له لما يقوله القرآن: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللّه)(1). ثقيل بلحاظ الوعد والوعيد وبيان المسؤوليات.

ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.

وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة، وبالتالي ثقيل بلحاظ تخطيطه وتنفيذه بشكل تام.

نعم، وإن قراءة القرآن وأن كانت سهلة وجميلة ومؤثرة، ولكن تحقق مفاده ليس باسهل اليسير بالخصوص في أوائل الدعوة النّبوية في مكّة حيث الظلام والجهل وعبادة الأصنام والخرافات، إذ أنّ الأعداء المتعصبين القساة كانوا قد تكاتفوا ضد الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه القلائل استطاعوا أن يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن، والإستعانة بصلاة الليل، وبالإستفادة من قربهم من ذات اللّه المقدسة، واستطاعوا بذلك حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.

* * *

بحوث

1 ـ قيام الليل بتلاوة القرآن والدعاء

قلنا إنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان هو المخاطب في هذه الآيات، ولكن آخر السورة يشير إلى وجود مؤمنين كانوا معه في هذا العمل، والسؤال هو هل أنّ


1 ـ سورة الحشر، 21.

[129]

إحياء الليل كان واجباً على الجميع في أوائل دعوته أم لا؟ قال البعض: إنّ هذا الأمر كان واجباً في البدء ثمّ نسخ بالآية الأخيرة للسورة ومدّة ذلك حوالي السنة، حتى وأنّ البعض ذهب إلى أنّ هذا الحكم كان قبل تشريع الصلوات الخمس، ثمّ نسخ هذا الحكم بعد تشريعها، ولكن المرحوم الطبرسي(رحمه الله) كما ذكر في تفسيره «مجمع البيان» أنّ ظاهر آيات هذه السورة لا يشير إلى النسخ، الأفضل هو القول بأنّ هذه العبادة مستحبة وسنّة مؤكّدة، ولم يكن لها طابع الوجوب إلاّ لشخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما في بعض الآيات الأُخرى للقرآن، ولا مانع ذلك من وجوبها على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)واستحبابها على المؤمنين، ومضافاً إلى أنّ الآيات المذكورة لا تنحصر بصلاة الليل، لأنّها لم تشغل نصف ممن الليل أو ثلثي الليل بل وحتى ثلثه، وما ذكر في الآية هو النهوض لترتيل القرآن.

فعلى هذا كان الحكم في البدء مستحبّاً مؤكّداً ثمّ خفف، وبما أنّ بداية كلّ عمل بالخصوص بداية الثورة العظيمة، يحتاج إلى قدره وقوّة أكثر من أي وقت، فلا عجب في أن يصدر مثل الأمر العظيم للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وذلك أن يقوموا لقسط وافر من الليل ليتعرفوا ويتفهموا محتوىْ هذا العمل الجديد وعلى تعاليمه الثورية، ولتطبيق ذلك لابدّ أن يروضوا أرواحهم بالعلم والمعرفة.

2 ـمعنى التّرتيل

إنّ ما أكّدت على الآيات المذكورة هو الترتيل وليس قراءة القرآن، ووردت روايات عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) في معنى الترتيل كلّ منها يشير إلى بعد من أبعاد هذه الكلمة الواسعة.

فقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «بينه بياناً ولا تهذَّه هذَّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن اقرع به القلوب القاسية، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر

[130]

السورة»(1).

ونقرأ في حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فأسأل اللّه الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النّار فتعوذ باللّه من النار»(2).

وفي رواية اُخرى عنه(عليه السلام): «هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك»(3)، وعنه أيضاً: «أنّ القرآن لا يقرأ هذرمةً، ولكن يرتل ترتيلاً وإذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوذت باللّه من آلنّار»(4).

وقد نقل عن حالات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يقطع قراءته آية آية، ويمدُ صوته مدّاً(5)، هذه الرّوايات والرّوايات الأُخرى المنقولة بنفس المضمون في كتاب الكافي ونور الثقلين والدر المنثور وبقية الكتب الأُخرى من كتب الحديث والتّفسير تشير إلى ضرورة التمعن في كلمات القرآن، والتدبّر فيها وتذكر بأنّ القرآن هو خطاب اللّه تعالى للإنسان.

ولكن وللأسف إنّ الكثير من المسلمين ابتعدوا عن هذا الواقع، واكتفوا بالتلفظ وغدا همّهم ختمه، من دون الإهتمام بمعرفة سبب نزوله ومحتواه! صحيح أنّ ألفاظ القرآن عظيمة ولقراءتها فضيلة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الألفاظ وتلاوتها هي مقدمة لبيان المحتوى.

3 ـ فضيلة صلاة الليل

هذه الآيات تبيّن أهمّية إحياء الليل بالعبادة وقراءة القرآن عندما يكون


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص378، .ذكر ذلك في كتاب الكافي، ج2، باب (ترتيل القرآن بالصوت الحسن) وكذا في كتب اُخرى مع الإختصار.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السّابق.

4 ـ نور الثقلين، ج5، ص447.

5 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات التي بصدد البحث.

[131]

الغافلون نياماً، وكما أشرنا من قبل فإنّ العبادة في الليل وبالخصوص عند السحر لها الأثر البالغ في تصفية الروح وتهذيب النفوس والتربية المعنوية للإنسان وطهارة القلب وإيقاظه، وكذا في تقوية الإيمان والإرادة، وتوكيد اركان التقوى في الروح والقلب، ويمكن لمس ذلك بمجرّد الإختيار مرّة واحدة، وقد أكّدت الرّوايات على ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات القرآنية.

منها ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ من روح اللّه تعالى ثلاثة، التهجد بالليل، وإفطار الصّائم، ولقاء الإخوان»(1).

وعنه أيضاً(عليه السلام) في تفسير: (إنّ الحسنات يذهبن السيئات) قال: «صلاة الليل تذهب بذنوب النهار»(2).

ولنا بحث مفصل في هذا الباب في ذيل الآية (79) من سورة الإسراء، وقد نقلنا بهذا الشأن عشرة أحاديث رائعة في أهمية صلاة الليل.

* * *


1 ـ بحار الانوار، ج87، ص143.

2 ـ المصدر السّابق.

[132]

الآيات

إنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً(6) إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً(7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)رَّبُّ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً(10)

التّفسير

تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل:

تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة قراءة القرآن في الليل، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة، فيقول تعالى: (إنّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطأً وأقوم قيلاً)(1).

«الناشئة»: من مادة (نشأ)، على وزن نثر، وتعني الحادثة، وقد ذكر هنا ثلاثة تفاسير لما يراد منها.

الأوّل: المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي، أو أنّها تخصّ الساعات


1 ـ «الناشئة»: اسم فاعل واحتمل كونها مصدراً كالعاقبة.

[133]

الأخيرة لليل والسحر.

والآخر: إنّ المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن كما ورد في حديث عن الإمامين الصادق والباقر(عليهما السلام) حيث قالا: «هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية، قال: «قيامه عن فراشه لا يريد إلاّ اللّه».(2)

والثّالث: الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصّة بالليل، والتي تكون آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر، والتّفسيران الثّاني والثّالث متلازمان، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.

«وطأً»: تعني في الأصل وضع القدم، وتعني كذلك الموافقة.

والتعبير بـ (أشدّ وطأً): العناء والمشقّة الحاصلة في عبادة الليل، أو أنّه يعني التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح الإنسان، والمعنى الثّاني أوجه.

ويحتمل أن يراد له التوافق الحاصل بين قلب الإنسان وعينه وأُذنه وبالتالي تعبئتها في طريق العبادة.

«أقوم»: من القيام، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.

«قيلاً»: تعني القول، وتشير هنا إلى ذكر اللّه وقراءة القرآن.

ومحصلة ذلك أنّ هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث حول العبادة الليلية، ورمز إظهار المحبّة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص378.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص448، الحديث، 16.

[134]

ويضيف في الآية الأُخرى: (إنّ لك في النهار سبحاً طويلاً).

أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والإنقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.

وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقه أيضاً هو: أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.

«سبح»: على وزن مدح، وتعني في الأصل الحركة والذهاب والإيّاب، ويطلق على السباحة لما فيها من الحركة المستمرة، وكأنّه يشبه المجتمع الإنساني بالمحيط اللامتناهي الذي يغرق فيه الكثير من الناس، وأمواجه المتلاطمة تتحرك في كل الجهات، وفيها من السفن المضطربة التي تبحث عن الملجأ الأمين، والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنجي الوحيد للغريق ، وقرآنه سفينة النجاة الوحيدة في هذا المحيط، فعلى هذا السبّاح العظيم أن يهيء نفسه يومياً بالعبادة الليلة لإتمام هذه المهمّة والرسالة العظيمة.

وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية، والإشارة الإجمالية إلى الآثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اُخرى مكملة لتلك فيقول: (واذكر اسم ربّك).

والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الاسم فحسب، بل التوجه إلى المعنى، لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.

المراد بـ «الربّ» هو الإشارة إلى التوجه إلى النعم اللامتناهية وذلك عند الإتيان بذكره المقدس، وأن يكون ذكره ملازماً مع التوجه إلى تربيته تعالى شأنه لنا، ويبيّن بعض المفسّرين مراحل لذكر الربّ تعالى.

المرحلة الاُولى: ذكره تعالى كما أشير إلى ذلك.

المرحلة الثّانية: الذكر القلبي لذاته المقدسة، كما هو في الآية (205) من

[135]

سورة الأعراف: (واذكر ربّك في نفسك تضرعاً وخيفة).

ثمّ تبدأ المرحلة الثّالثة، وفيها يتعدى الذكر مقام الرّبوبية ليصل إلى مقام مجموعة الصفات الجمالية والجلالية المجتمعة في اللّه تعالى، كما هو في الآية (41) من سورة الأحزاب حيث يقول: (يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً) وعلى هذا الأساس يستمر هذا الذكر ليتكامل في مراحلة ليوصل الذاكر نفسه إلى أوج الكمال.(1)

ويقول في الأمر الثّاني: (وتبتّل إليه تبتيلاً).(2)

«التبتل»: من (البتل) على وزن (حتم)، وتعني في الأصل الإنقطاع، ولهذا سمّيت «مريم العذارء»(عليها السلام) بالبتول، لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزّهراء(عليها السلام) بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك، وكانت بالغة درجة الإنقطاع إلى اللّه تعالى.

فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى اللّه تعالى، والإنقطاع عن غيره إليه تعالى، والإتيان بالأعمال الخالصة للّه، وكذا الخلوص له تعالى.

وما روي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «لا رهبانية، ولا تبتل في الإسلام»(3)، فهو اشارة لما هو حاصل في أوساط المسيحيين في تركهم للدنيا، إذ أنّهم اعتزلوا الزواج لاعتزالهم الدينا، واعتزلوا بذلك الوظائف الإجتماعية، وهذا ما لم يكن حاصلاً عند المسلمين، إذ أن أحدهم يعيش في أوساط المجتمع الإنساني وهو في نفس الوقت متوجّه إلى اللّه تعالى.


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج30، ص177 (مع الاقتباس).

2 ـ «التبتل»: يجب أن يكون التبتل هنا حسب القاعدة مفعول مطلق وهو مصدر من باب (تفعل) ولكنّه جاء على وزن تفعيل، لحفظ توافق أواخر الآيات، ويمكن أن يكون مصدر إشارة إلى أن الإنقطاع إلى اللّه لا يكون كلّه اكتسابياً، ولا يكون هبة بتمامه أيضاً، بل يكون ذلك بشروط السعي والعمل الجاد للعبد المتقي من جهة، وبلطف اللّه وعنايته من جهة اُخرى.

3 ـ المفردات، ومجمع البحرين باب البتل.