![]() |
![]() |
![]() |
فلا تظنوا أنّ شيئاً من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.
فما أكثر الآيات القرآنية التي تحكي عن حقيقة ضبط إحصاء كلّ ما يبدر من الإنسان، سواء كان من الأعمال الصغيرة أم الكبيرة، سرية أم علنية، بل ويخضع لذلك حتى عقائد ونيّات المرء.
وفي هذا المجال، يقول القرآن: (وكل شيء فعلوه في الزّبر وكلّ صغير وكبير مستطر)(2).. وفي موضع آخر يقول: (إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون)(3).. وفي مكان آخر يقول: (ونكتب ما قدموا وآثارهم)(4).
ولذلك يصرخ المجرمون بالقول: (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها)(5)، حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كلّ ما فعلوه في الحياة الدنيا.
وممّا لا شك فيه، أنّ إدراك حقيقة الآيات الرّبانية بكامل القلب، سوف يدفع الإنسان لأنّ يكون دقيقاً في جميع أعماله، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.
1 ـ «كلّ»: مفعول به لفعل مستتر يدل عليه الفعل «أحصيناه». و«كتاباً»: مفعول مطلق لأحصينا، لأنّه بمعنى كتبنا، واعتبره البعض: حالاً.
2 ـ القمر، 52 و 53.
3 ـ يونس، 21.
4 ـ سورة يس، 12.
5 ـ الكهف، 49.
ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر: ويهدد القرآن بنبرات غاضبة اُولئك المجرمين، ويقول: (فذوقوا فلن نزيدكم إلاّ عداباً).
فصرخاتكم بـ «ياوليتنا» وطلبكم العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدتم، لن ينفعكم، وكل ما ستنالونه هو الزيادة في العذاب ولا مِن مغيث.
وهذا هو جزاء اُولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى اللّه والإيمان والتقوى، بقولهم: (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين)(1).
وهذا هو جزاء الذين ينفرون من سماع واستماع ما تتلى عليهم من آيات اللّه، كما قال تعالى: (وما يزيدهم إلاّ نفوراً)(2).
وأخيراً.. فالعذاب الأليم جزاء كلّ مَن لا يتورع عن اقتراف الذنوب، ولا يسعى صوب الأعمال الصالحة.
حتى روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار»(3).
كيف لا.. وهي التي تحمل بين ثناياها الغضب الإلهي، وتسدّ كلّ أبواب الأمل للخلاص من جهنّم، ولا تعد أهل النّار إلاّ زيادة في العذاب.
* * *
1 ـ الشعراء، 136.
2 ـ الإسراء، 41.
3 ـ تفسير الكشّاف، ج4، ص690; وتفسير روح البيان، ج10، ص307; وتفسير الصافي في ذيل الآية المذكورة.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً(31) حَدَآئِقَ وَأَعْنَـباً(32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً(33) وَكَأْسَاً دِهَاقاً(34) لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوَاً ولاَ كِذَّاباً (35)جَزَآءً مِن رَبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً(36) رَبِّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهَمَا الرَّحْمَـنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً(37)
كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد اللّه المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كلّ من الفريقين، على ضو تفكيره بمصيره الأبدي.
وكذا هو الحال في الاُسولب القرآني، كما في بقية السور الاُخرى، فهو يضع متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد، ليتمكن الإنسان بسهولة من اكتشاف خصائص وشؤون أيّاً منها.
فيقول، مبتدءً الحديث: (إنّ للمتقين مفازاً).
«المفاز»: اسم مكان، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير بسلام، ويأتي بمعنى النجاة أيضاً وهو من لوازم المعنى الأوّل.
وقد جاءت «مفازاً» بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلاّ اللّه عزّوجلّ.
ومن مفردات الفوز والسعادة: (حدائق وأعناباً)(1).
«الحدائق»: جمع «حديقة»، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار ومحاطة بسور لحفظها، ويقول الراغب في مفرداته «الحديقة» قطقة من الأرض ذات ماء، سمّيت تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.
أمّا ذكر «العنب» دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه، ويقول علماء التغذية في هذا المجال: إضافة لكون العنب غذاءً كاملاً من حيث الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الاُم في كونه ثري بالمواد الغذائية اللازمة للإنسان، إضافة لكل هذا، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم من سعرات حرارية، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.
ومن خواص وفوائد العنب، أنّه: مقاوم للسموم، مفيد لتصفية الدم، يقي من الروماتيزم والنقرس، مضاد فعّال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم، مقو للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوّة والقدرة الكافية لما فيه من كميات مناسبة لأنواع (الفيتامينات).
وقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص العنب أنّه قال: «خير فواكهكم العنب».
ويتطرق القرآن إلى نعمة اُخرى ممّا وعد اللّه به المتقين في الجنّة، فيقول: (وكواعب أتراباً).
1 ـ «الحدائق»: بدل «مفازة»، أو عطف بيان لها.
«الكواعب»: جمع «كاعب»، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنّة.
«الأتراب»: جمع «ترب»، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر، واستعماله في الإناث أكثر، قيل: إنّها من «الترائب» وهي: اضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.
ويحتمل أن يكون المراد من «أتراب» التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهن من المؤمنين، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك مشاعر الطرف الآخر.. إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر تناسباً.
وتأتي النعمة الرابعة: (وكأساً دهاقاً).
شراب ليس كأي شراب، فلا يُهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات الحيوانية، بل هو مُذك للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.
«الكأس»: هو القدح المملوء بالشراب، وقد يطلق على القدح دون الشراب أو على شراب القدح.
«دهاقاً»: بمعنى الإمتلاء، عند أكثر المفسّرين وأهل اللغة، لكنّ (ابن منظور) قد ذكر معنيين آخرين هما: التتابع على شاربيها، صافية.
وعليه.. فيمكن حمل معنى الآية، على ضوء ما ذكر من معان، على أنّ لأهل الجنّة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.
ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول القرآن: (لا يسمعون فيها لغواً ولا كذّاباً).
إنّ شراب الدنيا..يُذهب العقل، يفقد الإحساس، يوقع شاربه بالهذيان واللغو.. وأمّا شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نوراً وصفاء.
وثمّة احتمالات بخصوص ضمير «فيها».
الأوّل: إنّه يعود إلى الجنّة.
الثّاني: إنّه يعود إلى الكأس.
فعلى الإحتمال الأوّل، يكون معنى الآية إنّ أهل الجنّة لا يسمعون فيها لغواً، كما جاء في الإيتين (10 و 11) من سورة الغاشية: (في جنّة عالية لا تسمع فيها لاغية).
وعلى الإحتمال الثّاني، يكون معنى الآية: إنّه سوف لا يصدر اللغو والهذيان والكذب من أهل الجنّة بعد شرابهم ما في كأس الجنّة من شراب، كما جاء في الآية (23) من سورة الطور: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم).
وعلى أيّة حال، فالجنّة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الإفتراءات، تبرير الباطل، بل وكلّ ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا.. إنّها الجنّة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: (لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً).
وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كلّ النعم علوّاً: (جزاءً من ربّك عطاءً حساباً).(1)
وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع ألطاف وإكرام اللّه جلّ وعلا، فيطعمني ويكسوني ويغرف عليّ بنعمه التي لا تحصى عدداً ولا تضاهى حبّاً وكرماً، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم منعمون بكل ما لذّ وطاب.
والتعبير بكلمة «ربّ» مع ضمير المخاطب، وكلمة «عطاء»، لتبيان ما اُودع من لطف خاص في النعم التي وعِدَ بها أهل التقوى.
1 ـ «جزاء»: حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة، فيكون التقدير: أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربّك، واحتمل البعض: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف. واعتبره آخرون: إنّه مفعول لأجله، لكنّ التّفسير الأوّل أقرب.
«حساباً»: يعتقد الكثير من المفسّرين إن معناها هنا (كافياً): من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي(1).
وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه عزّوجلّ: (جزاء من ربّك عطاءً حساباً)»(2).
ونستفيد من الرواية المذكورة أنّ نعم اللّه في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل. واللطف والزيادة، إلاّ أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا، وعليه.. فيمكن تفسير «حساباً» في الآية بمعنى (الحساب)، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين ـ فتأمل.
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: (ربّ السموات والأرض وما بينهما الرحمن).
نَعم: إنّه مالك العالم، ومدبّر ما فيه، وموجه كلّ حركاته وسكناته، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.
وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة اللّه العامّة لكلّ خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.
وذيل الآية، يقول: (لا يملكون منه خطاباً).
ويمكن شمول «لا يملكون» جميع أهل السماوات والأرض، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.
وعلى أيّ القولين.. فالآية تشير إلى عدم القدرة على الإعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة
1 ـ تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص495، ح29.
والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.
بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيٍّ كان إلاّ بإذن خاص منه جلّت عظمته، وهو ما تشير إليه الآية (255) من سورة البقرة: (مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه).
* * *
يلاحظ ثمّة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات.. فقد تحدثت الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكلّ من المجرمين والمؤمنين، فالآيات محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم، وفيما تقدمها من آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.
فهنا تحدثت عن «المفاز» وهناك عن «المرصاد»...
وهنا تحدثت عن «حدائق وأعناباً» وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدّة لا متناهية «أحقاباً»...
وهنا كان الحديث عن «الشراب الطهور» وهناك عن الماء الحارق «حميماً وغساقاً»...
وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب «الرحمان»، وهناك عن الجزاء العادل «جزاءً وفاقاً»...
وهنا الحديث عن زيارة «النعمة» وهناك زيادة «العذاب»...
والخلاصة: إنّ هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كلّ الجهات نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.
أوردت الآيات الشريفة أوصافاً متنوعة لأشربة الجنّة، ويظهر أنّ لشاربيها من اللذّة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطّه بقلم.
فالآية (21) من سورة الدهر، تصفه بالطهور: (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً).
والآيات (45 ـ 47) من سورة الصافات، تصفه بالزلال واللذّة والصفاء، وأنّه لا يؤدي لأذىً ولا يذهب بالعقول: (يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).
والآية (5) من سورة الدهر، تصفه بأنّه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور): (يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً).
والآية (17) من سورة الدهر، تقول عنه بأنّه مخلوط بالزنجبيل: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً).
وجاء في الآيات المبحوثة: (وكأساً دِهاقاً) أي: زلالاً صافياً.
وفوق كلّ هذا وذاك، فمن هو الساقي... إنّه اللّه تعالى!! يسقيهم بيد قدرته وعلى بساط رحمته، تقول الآية (21) من سورة الدهر: (وسقاهم ربّهم..).
اللّهمّ! اشملنا بعفوك، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين...
* * *
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـئِكَةُ صَفَّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَقَالَ صَوَاباً(38) ذَلِكَ الْيَومُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً(39) إِنَّآ أَنْذَرْنَـكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَـلَيْتَنِى كُنْتُ تُرَاباً(40)
رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت، وبعض المواهب والنعم والمتعلقة بالصالحين في يوم القيامة، وتتناول الآيات أعلاه بعض الصفات وحوادث يوم القيامة، وتشرع بالقول بـ (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلاّ مَن أذِنَ له الرحمن وقال صواباً)(1).
وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلاّ بإذنه سبحانه، إنّما هو مثولاً للأوامر الإلهية وطاعة، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم
1 ـ «يوم» ظرف متعلق بفعل «لا يملكون» ـ حسب اعتقاد كثير من المفسّرين ـ، وثمّة احتمال آخر: إنّه متعلق بكل ما جاء في الآيات السابقة، فيكون التقدير: (كل ذلك يكون يوم يقوم الروح).
بأمره يعملون ولكنّ في يوم القيامة سيتجلّى أمتثالهم للّه أكثر وبشكل أوضح.
أمّا عن المقصود بكلمة «الروح» فقد بسط المفسّرون في كتبهم تفاسير كثيرة، حتى وصل معناها في بعض التفسير إلى ثمانية احتمالات(1).. وإليك أهم ما قيل فيه:
1 ـ هو مخلوق من غير الملائكة وأعظم منها.
2 ـ هو أمين الوحي الإلهية جبرائيل أشرف الملائكة.
3 ـ هو أرواح اُناس يقومون مع الملائكة.
4 ـ هو ملك عظيم الشأن، وأشرف من جميع الملائكة قاطبة (حتى جبرائيل): وهو الذي يصاحب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) على الدوام.
وقد جاءت كلمة «الروح» في القرآن الكريم بصور شتى.. فتارة تأتي مجرّدة عن أيّة قرينة، وغالباً ما تأتي في قبال الملائكة، كقوله تعالى في الآية (4) من سورة المعارج: (تعرج الملائكة والروح إليه)، وفي الآية (4) من سورة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر).
ونلاحظ أنّ ذكر كلمة «الروح» في الآيتين أعلاه قد جاء بعد ذكر «الملائكة»، في حين جاء ذكرها في الآيات المبحوثة قبل «الملائكة»... ويمكن حمل هذا التغاير على باب ذكر العام بعد الخاص، أو ذكر الخاص قبل العام.
وذكرت كذلك كلمة «الروح» مع الإضافة، أو صيغة الوصف المقارن كـ «روح القدس» كما جاء في الآية (102) من سورة النحل: (قل نزّله روح القدس من ربّك بالحق)، وكـ «الروح الأمين» كما جاء في الآية (193) من سورة الشعراء (نزل به الروح الأمين).
وقد أضاف سبحانه وتعالى صفة «الروح» إلى ذاته المقدسة، كما في الآية
1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ذيل الآية المبحوثة.
(29) من سورة الحجر: (ونفخت فيه من روحي)، والآية (17) من سورة مريم: (فأرسلنا إليها روحنا).
وكما هو ظاهر أنّ لكلمة «الروح» في القرآن معان متفاوتة، وقد تطرقنا لمعانيها حسب ورودها في الآيات.
وأقرب ما يمكن التعويل عليه من معاني «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة اللّه العظام، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «هو ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل»(1).
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: «الروح ملك أعظم من جبرائيل ومكائيل وكان مع ريسول اللّه وهو مع الأئمّة»(2).
وجاء في تفاسير أهل السنة، إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «الروح جند من جنود اللّه ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيدي وأرجل، ثمّ قرأ: (يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً)، قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند»(3).
(وقد بحثنا موضوع روح الإنسان وتجردّها واستقلالها بشكل مفصل في ذيل الآية (85) من سورة الإسراء ـ فراجع).
وعلى أيّة حال، فسواء كان «الروح» من الملائكة أو من غيرهم، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه، والذين سيتكلمون أو يشفعون لا يقومون بذلك إلاّ بعد إذنه جلّ شأنه، وما واقع الكلام إلاّ حمد اللّه وثناؤه أو التشفع لمن هم أهلاً للشفاعة.
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص427.
2 ـ تفسير علي بن إبراهيم، ج2، ص402
3 ـ تفسير الدر المنثور، ج6، ص309.
وقد روي أنّه حينما سُئِل الإمام الصادق(عليه السلام) عن هذه الآية، قال: «نحن واللّه المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».
فقال الراوي: وأيّ شيء تقولون؟
فقال(عليه السلام): «نُمجد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربّنا»(1).
ونستفيد من هذه الرواية: إنّ الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة، وسيكون حديثهم منصبّاً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزّوجلّ.
ثمّ إنّ وصف قولهم بكملة «صواباً» للدلالة على أنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ملك مقدمات الشفاعة والتي لا تتعارض والحساب(2).
ويشير القرآن واصفاً ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل، يوم عقاب العاصين وثواب المتقين، يشير بقوله: (ذلك اليوم العظيم).
«الحقّ»: هو الأمر الثابت واقعاً، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماماً على يوم القيامة، لأنّه سيعطي كلّ إنسان حقّه، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وتتكشف كلّ الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين.. فانّه بحق: يوم الحقّ، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللّه عزّوجلّ للحصول على رضوانه سبحانه بإمتثال أوامره تعالى.. ولهذا يقول القرآن مباشرة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً).
فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو اللّه متوفرة بعد أن بيّن طريق الحقّ
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص427.
2 ـ بحثنا مسألة «الشفاعة» من حيث: شروطها، خصائصها وفلسفتها، مع الإجابة على الإشكالات الواردة بشأنها في تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
وأشار إلى معالم سبل الشيطان، بلغ اللّه أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي، أودع في الإنسان العقل (النّبي الباطن)، رغّب للمتقين بالمفاز، أنذر المجرمين عذاباً أليماً، عيّن يوماً لمحكمة العدل الإلهي بيّن اُسلوب المحاكمة، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآباً، وبمحض إرادته.
و«المآب»: هو محل رجوع، ويأتي أيضاً بمعنى «الطريق».
ثمّ يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة، يقول القرآن... إنّ عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: (إنّا أنذرناكم عذاباً قربياً).
وما عمر الدنيا بكامله إلاّ ساعة من زمن الآخرة الخالد، وكما قيل: (كل ما هو آت قريب)، وتقول الآيات (5 ـ 7) من سورة المعارج، في هذا المجال: (فاصبر صبراً جميلاً إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً).
ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «كل آت قريب دان»(1).
ولِمَ لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)(2).
وبعد أن وجّه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلاّ مَن أتى اللّه بقلب سليم: (يوم ينظر المرء ما دمت يداه يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).
![]() |
![]() |
![]() |