![]() |
![]() |
![]() |
ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر، فبعد القسم بإدبار الليل، قال: (والصبح إذا أسفر)، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح، فما أنْ أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً، وأسفر
1 ـ مجمع البيان: ج10، ص446.
للحياة من جديد.
وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: (إنّه لقول رسول كريم).
فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم)باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.
وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي اللّه جبرائيل(عليه السلام)، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كلّ رسول جامع لشرائط الرسالة...
فالصفة الأولى: إنّه «كريم»: إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.
ومن صفاته أيضاً: (ذي قوّة عند ذي العرش مكين)(1).
«ذي العرش»: ذات اللّه المقدّسة. مع أنّ اللّه مالك كلّ عالم الوجود، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).
أمّا وصفه بـ «ذي قوّة» (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة، وعموماً... ينبغي لكل رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته، وعلى الأخلاص في مجال عدم نسيان ما يُرسل به.
«مكين»: صاحب منزلة ومكانة، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء رسالته على أتمّ وجه، فلا من كونه شخصاً جليلا، لائقاً، ومقرباً للمرسل.
وممّا لا شك فيه إنّ التعبير بـ «عند» لا يراد منه الحضور المكاني، لأنّ الباري جل شأنه لا يحده مكان، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.
وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: (مطاع ثمّ أمين).
«ثَمَّ»: إشارة إلى البعيد، ويراد بها: إنّ أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في
1 ـ «مكين»: (المكانة)، وهي المقام والمنزلة، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسّرين، إنّه اسم مكان من (الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل: (تمكن) و(تمسكن).
عالم الملائكة، ومطاع عندهم، وإنّه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.
وما نستشفّه من الرّوايات: إنّ جبرائيل(عليه السلام) ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم، وهو ما ينبغي أنْ يكون في كل أمّة تتبع رسولا، فلابدّ من طاعتها له.
وروي... أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال لجبرائيل(عليه السلام) عند نزول هذه الآيات: «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك!: ذي قوّة عند العرش مكين، مطاع ثّم أمين، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟
فقال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهّن فقلبتهّن. وأمّا أمانتي، فإنّي لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» (1).
وينفي القرآن ما نُسب إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما صاحبكم بمجنون).
«الصاحب»: هو الملازم والرفيق والجليس، والوصف هذا مضافاً الى أنّه يحكي عن تواضع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع الناس... فلم يرغب يوماً في الاستعلاء على أحد منكم، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!
وكلُّ ما في الأمر إنّه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية، فما راق لكم الإنضباط والترابط، وحبذتم الإنفلات والتراخي، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون، فراراً من هدي دعوته المباركة!
ونسبة الجنون إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بالشيء الجديد في مسير دعوة السماء
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص 446، وورد هذا المضمون في نفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.
فقد واجه جميع أنبياء اللّه(عليهم السلام) هذا الإفتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم، وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون)(1).
فالعاقل في منطق الجاهلية، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإنْ كانت فاسدة منحطة، ومَنْ يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان، ومَنْ لا يفكر بأيَّ إصلاح أو تغيير لأنّه خروج على السائد المتعارف عليه!
وبناء على هذا المقياس الأعمى... فكلُّ الأنبياء في نظر عبدة الدنيا مجانين...
ويؤكّد القرآن على الأرتباط الوثيق ما بين النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل(عليه السلام): (ولقد رآه في الأفق المبين)، وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل(عليه السلام).
وقد استدلّ بعض المفسّرين بالآية (7) من سورة النجم على التفسير أعلاه، والتي تقول: (وهو بالأفق الأعلى).
ولكننا نرى أنّ الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى، فراجع إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.
وقال بعض: إنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم)قد رأى جبرائيل(عليه السلام) في صورته الحقيقية مرّتين، الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى الشرق و الغرب حتى بُهر النبيّ بعظمة هيئته، والثّانية رآه عند معراجه إلى السماوات العُلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.
وثمّة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة اللّه عزَّوجلّ بالشهود الباطني، (ولمزيد من الإيضاح، راجع ذيل الآيات ( 5 ـ 13) من سورة النجم).
وتأتي الصفة الخامسة: (وما هو على الغيب بضنين).
1 ـ الذاريات: الآية 52.
فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة.
«ضنين»: من (ضنّة) على وزن (مِنَّة)، أيْ: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء(عليهم السلام) منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.
وتقول آخر الآيات المبحوثة: (وما هو بقول شيطان رجيم).
فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها معها، حيث أنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.
والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين، حين اتهموا النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّه كاهن وكلّ ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أنْ يكون باطلا و ضلالا في حين أنّ الآيات الرّبانية كلّها نور وهداية، وهذا ما يشعر به كلُّ مَنْ يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.
«رجيم»: من (الرجم)، و(رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة، وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات، ويستعار الرجم للرمي بـ :الظّن، التوهم، الشتم والطرد، و«الشيطان الرجيم» بمعنى المطرود من رحمة اللّه.
* * *
الصفات الخمسة التي ذكرتها الآيات المباركة جبرائيل(عليه السلام)باعتباره رسول الوحي الإلهي إلى النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، هي ذات الصفات التي ينبغي توفرها في كلّ رسول، وبما يناسب نوع ودرجة رسالته.
فلكي يكون الرسول لائقاً لحمل الرسالة، لابدّ من تحلِّيه بركائز أخلاقية ونفسية عالية، أيْ يكون «كريماً» محترماً.
ولابدّ من كونه قادر متمكن «ذي قوّة»، حتى يتمكن من إبلاغ رسالته بكل ما تحمل، ومن دون أنْ يصيبه أيّ ضعف أو فتور أو هوان.
وينبغي أنْ تكون ذو منزلة رفيعة ومقام مرموق عند المرسل، «مكين»، لكي يكون طبيعياً مستقراً في استلامه الرسالة، ولا يناله أيّ خوف أو ارتباك في حال إيصاله لأجوبة الرسالة إلى أيٍّ كان.
ومن المؤهلات اللازمة، أنْ يكون له أعوان ويطيعونه بأمر الرسالة، ولا يتخاذلون عن طاعته، «مطاع».
وأخيراً، لابدّ من كونه «أميناً» في النقل، ليعتمد المرسل عليه فيما يريد أنْ يوصله إليه من الرسالة، فلابدّ من الأمانة بكلَّ معناها والإبتعاد عن الخيانة ولو بأدنى زواياها.
فمتى ما توفرت المؤهلات اللازمة للرسول فيه كان جديراً بأداء حق الرسالة، ولذلك نرى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتخب رسله بدقة من بين أصحابه، وأفضل نموذج حي لذلك، إرساله أمير المؤمنين(عليه السلام) بإيصال الآيات الأولى من سورة براءة إلى مشركي مكّة، في ظروف قد شرحناها عند تفسيرنا لتلك السورة.
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك»(1).
* * *
1 ـ نهج البلاغة: الكلمات القصار (301).
فَأَيْنَ تُذْهَبُونَ(26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلعَـلَمِينَ(27) لِمَن شَآءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللّهُ رَبُّ العَـلَمِينَ(29)
أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام اللّه... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يبخل في البلاغ في شيء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما اُرسل به.
فيما توبخ الآيات أعلاه اُولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: (فأين تذهبون).
لم تركتم طريق الهداية؟! أوَ مِن العقل أنْ تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟! ألاَ ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!...
وتأتي الآية الثّانية لتقول: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين)
فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أنْ يستيقظ مَن تملكه نوم غفلته.
لا يمكن للهداية والتربية أنْ تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: (لمن شاء منكم أنْ يستقيم).
فالآية الاُولى: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: (لمن شاء منكم أن يستقيم) عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.
وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامّة التمكين، خاصّة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللّه ونعمه.
والآية الثّانية من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)تدخل في سياق هذا المعنى.
وعلى أيّة حال، فالآية تؤكّد مرّة اُخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه، سواء كا طريق حقّ، أمْ طريق باطل.
ويفهم من «يستقيم»، أنّ طريق السعادة الحقّة، طريق مستقيم، وما دونه لا يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال.. لسار الإنسان على هذه السبل المنجيَة، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.
ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللّه عزّوجلّ، وجاءت
الآية التالية ولتقول: (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين)
والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق(عليه السلام)، فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اُخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء اللّه ربّ العالمين... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.
فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكنْ... كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض الأمر بين الامرين»، فكلّ ما للإنسان من: عقل، فهم قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كلّ ذلك من اللّه عزّوجلّ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولو شاء اللّه لتوقف كلّ شيء وانتهى، وهو من جهة اُخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.
ويفهم من «ربّ العالمين»، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات، فاللّه لا يريد أنْ يضل أو يذنب أحد من الخلق، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.
والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاُولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاُولى مفصولة عن الآية الثانية لها.. والفصل فيما بين آيات القرآن كثيراً ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلٌّ مترابط، لا آيات فرادى.
وقيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: (لمن يشاء منكم أنْ يستقيم)، قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إنْ شئنا استقمنا وإنْ شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: (وما
تشاؤون إلاّ أنْ يشاء اللّه ربّ العالمين)(1).
اللّهمّ! لا توفيق إلاّ منك، فوفقنا للسير على طريق رضوانك...
اللّهمّ! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا في هذا الطريق...
اللّهمّ! إنّا نخاف أهوال الحشر والقيامة، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات، فعاملنا بعفوك ولطفك، ولا تشدد علينا بعدلك...
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة التّكوير
* * *
1 ـ روح المعاني، ج30، ص62; وفي روح البيان، ج10، ص354.
مَكيَّة
وعددُ آياتِها تِسع وَعشرَة آية
لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة، تتضمّن مجموع آياتها المواضيع التالية:
1 ـ أشراط الساعة، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.
2 ـ التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كلّ وجود الإنسان، وكسر حالة غرور الإنسان، وتهيئته المعاد.
3 ـ الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.
4 ـ بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.
5 ـ لمحات سريعة عمّا سيجري في ذلك اليوم العظيم.
روي عن الإملام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ قرأ هاتين السورتين: (إذا السماء انفطرت) و(إذا السماء انشقت) وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من اللّه حجاب، ولم يحجزه من اللّه حاجز، ولم يزل ينظر إلى اللّه وينظر
اللّه إليه حتى يفرغ من حساب الناس»(1).
ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ وضعهما في أعماق روحه، وبنى على اُسسها أركان نفسه وعمله، ولا لمن يلوكهما في لسانه ولا غير!
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص447; نور الثقلين، ج5، ص520 (عن ثواب الأعمال: ص121).
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ(1) وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ(2) وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ(3) وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ(4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5)
تقدّم لنا الآيات (مرّة اُخرى) مشاهداً مروعة من يوم القيامة، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة: (إذا السماء انفطرت).
ثمّ تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها: (وإذا الكواكب انتثرت).
فسينهدم العالم العلوي، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كلِّ النجوم السماوية، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالاُخرى وتتلاشى... فينتهي عمر العالم، ويتناثر كلُّ شيء ليُبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.
«انفطرت»: من (الإنفطار)، بمعنى الإنشقاق، وقد ورد التعبير في آيات اُخرى كالآية الاُولى من سورة الإنشقاق: (إذا السماء انشقت)، والآية (18) من
سورة المزمل: (السماء منفطر به).
«انتثرت»: من (النثر) على وزن (نصر)، بمعنى نشر الشيء وتفريقه، و«الإنتثار»: هو الإنتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدّي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسّرين بـ (سقوط النجوم)، وهو من لوازم معنى الإنتثار.
«الكواكب»: جمع (كوكب)، وله معان كثيرة، منها: النجوم بشكل عام، والزهرة بشكل خاص، النبت إذا طال، البياض الذي يظهر في سواد العين، لمعان الحديد: بريقه وتوقده و«غلام كوكب»: ممتليء إذا ترعرع وحسن وجهه، وكوكب كلّ شيء: معظمه، مثل كوكب العشب وكوكب السماء وكوكب الشمس.
والكوكب أيضاً: الماء، السيف، سيد القوم... الخ.
وعلى ما يبدو أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلأليء)، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.
ولكن، ما هي العوامل التي ستؤدي بالكواكب إلى التناثر والتفرق في الفضاء مع فقدانها لنظامها الذي يحكمها؟
هل بسبب فقدان التعادل الموجود في الجاذبية فيما بينها؟ أم ثمّة قوّة هائلة ستفعل ذلك؟ أم بسبب التوسع المستمر الحاصل في العالم ـ كما يقول ذلك العلم الحديث؟...
لا يستطيع أيِّ أحد أنْ يتكهن السبب بدّقة... وكلُّ ما نعلمه أنّ هذه الاُمور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام؟!
فالآيات تحذر الإنسان من أن يتخذ العالم الفاني هدفاً لوجوده، فيتصوره محل خلوده، لأنّ ذلك سيؤول إلى تلوث قلب الإنسان (شاء أم أبى)، وما ينتج عن التلوث سوى الذنوب المؤدّية إلى عذاب الجحيم...
وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض، فيقول: (وإذا البحار فجّرت)أي اتصلت.
مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات)، لكنّ اتصالها سيكون بشكل آخر، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحراً واحداً لتشمل كلّ الأرض، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار... هذا أحد تفاسير الآية السادسة من سورة التكوير (الآنفة الذكر) (وإذا البحار سجّرت).
وثمّة احتمال آخر بخصوص الآية المبحوثة والآية (6) من سورة التكوير، يقول: يراد بـ «فجّرت» و«سجّرت» الإنفجار والإحتراق، لأنّ مياه البحار والمحيطات ستتحول إلى قطعة من نار لاهب.
وكما أشرنا سابقاً، فالماء يتكون من عنصرين شديدي الإشتعال (الأوكسجين والهيدروجين) فلو تحلل الماء إلى عنصريه فسيكفيه شرارة صغيرة لجعله قطعة ملتهبة من النيران.
وتتناول الآية التالية عرضاً لمرحلة القيامة الثانية، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى، فتقول: (إذا القبور بعثرت)... واُخرج الموتى للحساب.
«بعثرت»: قلب ترابها وأثير ما فيها.
واحتمل (الراغب) في مفرداته: إنّ «بعثرت» تكونت من كلمتين، (بعث) و(اُثيرت)، فجاء المعنى منهما، كقولنا: «بسملة» من «بسم» ولفظ الجلالة «اللّه».
وعلى آيّة حال، فإننا نرى شبيه هذا المعنى قد ورد في سورة الزلزال: (وأخرجت الأرض أثقالها) أي الأموات (بناءً على المشهور من تفاسيرها)، وفي الآيتين (13 و14) من سورة النّازعات: (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة).
وتوضح الآيات إنّ إحياء الموتى وإخراجهم من القبور سيكون مفاجئاً وسريعاً.
وبعد ذكر كلّ تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده، تأتي النتيجة القاطعة: (علمت نفس ما قدّمت وأخّرت).
نعم، فستتجلى حقائق الوجود، وسيصير كلّ شيء بارز إنّه «يوم البروز» وسيرى الإنسان كلّ أعماله محضرة بخيرها وشرّها، لأنّه يوم إزالة الحجب، ورفع مبررات الغرور والغفلة، وعندها... سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها، مثل: الصدقة الجارية، فعل الخير، عمارة الأبنية، الكتب التي ألفها، ما سنّ من السنن... فإن كان ما خلّفه خالصاً للّه فسينال حسناته، وإنْ كانت نيّة أفعاله غير خالصة للّه فستصل إليه سيئات تبعاته.
وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت، وهو: المراد من «وأخّرت».
صحيح أنّ الإنسان يعلم بما عمل في دنياه بصورة إجمالية، لكنّ حبّ الذات والإشتغال بالشهوات والنسيان غالباً ما ينسيه ما قدّمت يداه، فيتغافل عن النظر إلى ما بدّ منه، أمّا في ذلك اليوم الذي سيتحول ويتغير فيه كلّ شيء حتى روح الإنسان فسيلتفت إلى ما قام به من عمل بكلّ دقّة وتفصيل، كما تشير إلى ذلك الآية (30) من سورة آل عمران: (يوم يجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء)، فكلٌّ سيرى كلَّ أعماله حاضرة مجسمة أمام عينه.
وقيل: «ما قدّمت»، إشارة إلى أعمال أوّل عمر الإنسان، و«أخّرت»، إشارة إلى أعمال آخر عمره.
ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب من جميع الجهات.
ويراد بـ «نفس» الواردة بالآية، كلُّ نفسِ إنسانية.
* * *
المستفاد من الرّويات الشريفة، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطاً بذات الفاعل الأصلي، فإنْ كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره، وإنْ كانت شريرة فلا يجني منها سوىْ الهون والعذاب.
![]() |
![]() |
![]() |