2 ـ وتقدير الجملة مع محذوفها: (أئذا كنّا عظاماً نخرة نرد أحياءً) أو (أئنا لمبعوثون).

[382]

ويمكن اعتبار «الحافرة» الواردة في: (أإنّا لمردودون في الحافرة) قرينة لهذا الإحتمال، بلحاظ كونها بمعنى (الحفرة).

ولكنّ المعروف بين المفسّرين هو التّفسير الأوّل.

وقد عبّرت الآية السابقة عن قولهم بصيغة المصارع «يقولون» اشارةً إلى دوام ترديدهم لما يقولون به، في حين ذكر الفعل في الآية المبحوثة بصيغة الماضي «قولوا» إشارة إلى أنّهم قليلاً ما يقولون ذلك.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة، وبلسان قاطع، يقوق: (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة).

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثّانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق، نعم.. فتشرع كلّ تلك العظام النخرة وما صار منها تراباً للتجمع على الهيئة الاُولى، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة!

«الزجرة»: بمعنى صيحة بشدّة وانتهار، ويراد بها: نفخة الصور الثّانية.

«زجرة واحدة»: إشارة إلى سهولة الأمر أمام قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإلى سرعة تنفيذ أمره سبحانه (لقيام القيامة)... فبصوت واحد من ملائكة القيامة، أو من صور إسرافيل يرتدي جميع الأموات لباس الحياة من جديد ليحضروا عرصة المحشر للحساب.

«الساهرة»: من (السهر)، وهو الأرق، وقيل: لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة. وقيل: الساهرة: اسم للصحراء، لأنّ جميع الصحاري مخيفة، وكأنّ الخوف فيها يطرد النوم من العين(1).

* * *


1 ـ لسان العرب: سهر، مجمع البيان: ج10، ص429; وتفسير القرطبي، ج10، ص6990.

[383]

الآيات

هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ مُوسَى(15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوى(16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلِى أَن تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19) فَأَرَاهُ الأَيَةَ الْكُبْرَى(20) فَكَذَّبَ وَعَصَى(21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى(22) فَحَشَرَ فَنَادَى(23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْولَى(25) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى(26)

التّفسير

إفتراء فرعون!

يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسى(عليه السلام)وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء

[384]

الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللّه أسهل من أن يتصور.. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبيّ(عليه السلام) بصيغة الإستفهام: (هل أتاك حديث موسى)ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصّة ذات العبر.

ثمّ يقول: (إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى)(1).

«طوى»: يمكن أن يكون إسماً لأرض مقدّسة، تقع في الشام بين (مدين) و(مصر)، وهو الوادي الذي كلّم اللّه تعالى فيه موسى(عليه السلام) أوّل مرّة.

وقد رود الاسم أيضاً في الآية (12) من سورة طه: (إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك إنّك بالواد المقدّس طوى).

وقد تكون «طوى» صفة من (الطي)، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض من القداسة والبركة.

أو كما يقول الراغب في مفرداته، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل، ليكون لائقاً لنزول الوحي ولكن اللّه تعالى طوى له هذا الطريق وقرّب له الهدف.

ثمّ أشار القرآن إلى تعليمات اللّه عزّوجلّ إلى موسى(عليه السلام) في الوادِ المقدّس: (اذهب إلى فرعون إنّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكّى) وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء اللّه، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات: (وأهديك إلى ربّك فتخشى).

ولمّا كانت كلّ دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: (فأراه الآية الكبرى)(2).


1 ـ اعتبر أكثر المفسّرين «إذ» ظرف زمان متعلق بـ «حديث» ويصح الإعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها.. وثمّة احتمال آخر، يقول «إذ»: ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (اذكر)، فالتقدير: (اذكر إذ ناداه...) ـ فتأمل.

2 ـ إنّ الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسى(عليه السلام) وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة، ولكنّ البيان القرآني اختصرها في هذا الموضع.

[385]

ولكن، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى(عليه السلام) التي تحولت إلى أفعى عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ (على اعتبار أنّ الألف واللام في «الآية الكبرى» إشارة إلى الجنس). وعلى أيّة حال، فالمهم في المسألة إنّ موسى(عليه السلام)استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات، هي:

1 ـ طغيان فرعون يمثل علّة الأمر الإلهي لذهاب موسى(عليه السلام) إليه... وتبيّن لنا هذه الملاحظة: إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

2 ـ راح موسى(عليه السلام) يدعو فرعون بلين ورفق واُسلوب جميل، وباُسلوب مرغّب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر، ومن الظلم والفساد) وتنقل لنا الآية (44) من سورة طه هذا المعنى: (فقولا له قولاً ليناً).

3 ـ وثمّة إشارة لطيفة رودت بخصوص رسالة الأنبياء(عليهم السلام)، فدعوتهم للحق تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.

كما وأشار البيان القرآني إلى أنّ المخاطبة قد تمّت بكلمة «تزكّي» بدلاً من (اُزكيك)، للدلالة على أنّ التزكية الحقّة إنّما هي تلك النابعة من الذات، ولا تُبنى باُسس موضوعية خارجية.

4 ـ ذكرت الهداية بعد التزكية، للدلالة على أنّ التزكية مقدّمةً وبمثابة الأرضية المهيئة للهداية.

5 ـ إنّ تعبير «إلى ربّك» في حقيقة تأكيد على أنّ مَن أهديك إليه هو مالكك ومربيك، فَلِمَ الميل عنه؟!

6 ـ «الخشية» نتيجة للهداية: (وأهديك إلى ربّك فتخشى)، وبما أنّ الخشية لا تحصل إلاّ بمعرفة حقّة، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض، ولهذا تقول الآية

[386]

(28) من سورة فاطر: (إنّما يخشى اللّه، من عباده العلماءُ).

7 ـ ابتدأ موسى(عليه السلام) اُسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثمّ تدرج إلى الهداية العقلية والمنطقية حتى أرى فرعونَ الآية الكبرى.

وقد بيّن لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد، حيث ينبغي إحاطة مَن يُراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نيّة الداعية أو المرشد، ومن ثمّ تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.

لكنّ فرعون المتجبّر قابل كلّ تلك المحبّة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى، قابل كلّ ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله: (فكذّب وعصى).

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدّمة للطاعات.

وازداد فرعون عنوّاً: (ثمّ أدبر يسعى)(1).

وقد هددت معجزة موسى(عليه السلام) كل وجود فرعون الطاغوتي، ممّا دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كلّ سحرة البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها!!: (فحشر فنادى).

مع أنّ كلمة «حشر» ذكرت بصورة مطلقة مبهمة، ولكننا نستطيع معرفة تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الاُخرى، ففي الآيتين (111 و112) من سورة الأعراف، يكمل تفصيل ذلك: (وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم).

وكذا الحال بالنسبة لكلمة «نادى»، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية


1 ـ يمكن اعتبار «ثمّ» في الآية إشارة إلى المدّة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسى(عليه السلام)، لأنّ «ثمّ» عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.

[387]

(39) من سورة الشعراء، والتي تناولت نفس الموضوع: (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون).

ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً، وافترى على اللّه وعلى نفسه بأقبح ادعاء، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته!: (فقال أنا ربّكم الأعلى).

نعم.. فحينما يقبع المتجبّر في عرش الغرور، وحينما تلّفه أمواج الأنانية المفرطة، حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية، بل ويجره فقدان بصيرته، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنّه (ربّ الأرباب)!!

وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنّه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها، لكنّه فوقها جميعاً فهو (المعبود الأعلى)!

وألطف ما في الأمر، إنّ فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام، بشهادة الآية (127) من سورة الأعراف: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)، فادعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده!..نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وقد ادعى فرعون بأكثر من (ربّ الأرباب)، ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة، حينما ورد قوله في الآية (38) من سورة القصص: (ما علمت لكم من إله غيري)!...

وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: (فأخذه اللّه نكال الآخرة والاُولى)(1)


1 ـ «نكال»: منصوب بنزع الخافض، والتقدير: (فأخذه اللّه بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ، بمعنى (نكّل)، فيكون التقدير: (نكّل اللّه ناكال الآخرة).

[388]

«النكال»: لغةً: العجز والضعف. ويقال لِمَن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل). و(النِكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.

و«نكال»: في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب،.

«نكال الآخرة»: عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه، و«عذاب الاُولى»: إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل: «الاُولى»: تشير إلى كلمة فرعون الاُولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الاُلوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.

و«الآخرة»: إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا)، فعذّبه اللّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.

وقد اُشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قوله: «إنّ الفترة ما بين قوله الاُولى والآخرة كانت أربعين عاماً، وقد أخّر اللّه تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماماً للحجّة عليه»(1).

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدُّ العذابَ عبرةً للآخرين.


1 ـ وفي مجمع البيان، ج10، ص432، رواية اُخرى تحمل نفس المضمون عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثر تفصيلاً، نور الثقلين، ج5، ص500.

[389]

ويستخلص القرآن نتيجة القصّة: (إنّ في ذلك لعبرة لِمَن يخشى).

فتبيّن الآية بكلّ وضوح، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

نعم.. فقد اُغرق فرعون، واُهلك ملكه ودولته، وصار درساً شاخصاً لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان، وعبرةً لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر، ولا يجني مَن سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه، وهي سُنّة اللّه، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.

* * *

بحث

بلاغة القرآن:

بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة، تتجلى لنا ذروة فصاحة وبلاغة القرآم الكريم، فبعبارات موجزة وسريعة، عرضت قصّه موسى(عليه السلام) مع فرعون وبتفصيل بياني محكم، حيث تناولت: بيان سبب الرسالة، هدف دعوة الرسالة، وسائل التطهير، كيفية الدعوة، اُسس مواجهة مخططات الأعداء، نماذج من الإدعاءات الباطلة، والإنتقام من الطغاة... فكل هذا وما حمل بين ثناياه من دروس حيّة للإنسانية، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!

* * *

[390]

الآيات

ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَـهَا(27) رَفَعَ سَمْكَـهَا فَسَوَّاهَا(28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـهَا(29) وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـهَا(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـهَا(31) وَالْجِبَالَ أَرْسَـهَا(32) مَتَـعاً لَّكُمْ وَلاِءَنْعَـمِكُمْ(33)

التّفسير

اللمسات الرّبانية في عالم الطبيعة ونظام الكون:

ينتقل البيان القرآني مرّة اُخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصّة موسى(عليه السلام) مع فرعون، فيعرض صوراً من قدرة اللّه المطلقة في عالم الوجود، ليستدل به على إمكان المعاد، ويشرح بعض النعم الإلهية على البشرية (التي لا تعدّ ولا تحصى)، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله يتوصلون لمعرفة اللّه.

وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: (أأنتم أشدُّ خلقاً أم

[391]

السماء بناها)(1).

والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من وقولهم في الآيات السابقة: (أإنّا لمردودون في الحافرة) ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاُولى ـ فكلّ إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان... وإذاً فَمَن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اُخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحاً بتفصيل: (رفع سمكها فسواها).

«سمك»: ـ على وزن سقف ـ لغةً: بمعنى الإرتفاع، وجيئت بمعنى (السقف) أيضاً، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره: إنّ الشيء المرتفع لو قيس ارتفاعه من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمّى (عمق)، أمّا لو قيس الإرتفاع من الأسفل إلى الأعلى فهو (سمك)(2).

«سواها»: من (التسوية)، بمعنى التنظيم، وهي تشير إلى دقّة التنظيم الحاكمة على الأجرام السماوية، وإذا اعتبرنا «سمكها» بمعنى «سقفها»، فهي إشارة إلى الغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء، والذي يحفظها من شدّة آثار الأحجار السماوية، والشهب، والأشعة الكونية والمميتة والمتساقطة عليها باستمرار.

وقيل: إنّ «سواها» إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض، حيث أنّ التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي (الأرض)، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).


1 ـ في الآية حذف، والتقدير: (أم السماء أشدّ خلقاً). و«بناها»: جملة استئنافية، وهي مقدّمة للآيات التالية.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، الآية المبحوثة.

[392]

وقيل أيضاً: إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.

وعلى أيّة حال، فالآية قد نهجت بذاتِ سياق الآية (57) من سورة المؤمن: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

ثمّ تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير، الكبير، (نظام النور والظلمة)،: (وأغطش ليلها وأخرج مرعاها)

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش»: من (الغطش)، بمعنى الظلام، ولكنّ الراغب في مفرداته يقول: وأصله من «الأغطش» وهو الذي في عينه شبه عمش.

«الضحى»: إنبساط الشمس وامتداد النهار(1).

وتنتقل بنا الآية الاُخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: (والأرض بعد ذلك دحاها).

«دحاها»: من «الدحو» بمعنى الإنبساط، وفسّرها بعضهم: (والأرض بعد ذلك دحاها).

وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما.

ويقصد بدحو الأرض، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة، ثمّ استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفظات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت


1 ـ يرجع ضميرا «ليلها» و«ضحاها» إلى السماء، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أنّ لهما منشأ سماوياً.

[393]

تدريجياً، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض)(1).

وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً: (أخرج منها ماءها ومرعاها).

ويظهر من التعبير القرآني، إنّ الماء قد نفذ إلى دخل الأض باديء ذي بدء، ثمّ خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى»: اسم مكان من (الرعي)(2)، وهو حفظ ومراقبة اُمور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها.

ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الاُمور، وكلّ مَن يسوس نفسه أو غيره يسمّى (راعياً)، ولذا جاء في الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ثمّ ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال»، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المدّ والجزر، والزلازل.. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل اللّه عزّوجلّ «الجبال» تثبيتاً للأرض، ولهذا تقول الآية: (والجبال أرساها)(3).

«أرسى»: من (رسو)، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد، أي، ثَبَّتَ الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: (متاعاً لكم ولأنعامكم).


1 ـ فسّر بعض المفسّرين «بعد ذلك» في الآية، بمعنى (إضافة لهذا)، فيكون معنى الآية: (إضافة إلى ما في الآيات السابقة فالأرض دحاها).

2 ـ واعتبره البعض: مصدراً ميمياً، بمعنى الحيوانات السائمة، ولكنّ المعنى المذكر أعلاه أقرب.

3 ـ بحثنا مفصلاً موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض، في ذيل الآية (3) من سورة الرعد ـ فراجع.

[394]

نعم.. فالسماء رفعها.

خلق نظام النور والظلمة.

دحى الأرض.

أخرج من الأرض ماءً ونباتاً.

أرسى الجبال لحفظ الأرض.

هيأ مستلزمات عيش الإنسان، وسخر له كلّ شيء.

كلّ ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللّه، ولكي لا يغفل عن طاعة اللّه والوصول لساحة رضوانه جّل شأنه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة اُخرى على وجود اللّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللّه وتوحيده.

* * *

[395]

الآيات

فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَةُ الْكُبْرَى(34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الاِْنْسَـنُ مَا سَعَى(35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى(36) فَأَمَّا مَن طَغى (37)وَءَاثَرَ الْحَيـوةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هَىَ الْمَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى الْنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى(41)

التّفسير

التنزّه عن الهوى:

وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا: (فإذا جاءت الطامة الكبرى)(1).