![]() |
![]() |
![]() |
وقيل المراد من «الفجور» و«التكذيب»، فيكون المعنى، يريد أن يكذب بالبعث الذي سوف يقع أمامه، ولكن التفسير الأوّل أنسب.
ثمّ يضيف بعد ذلك : (يسأل أيّان يوم القيامة).
أجل، إنّه يستفهم مستنكراً عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كُلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه، والجدير بالذكر أنّ سؤالهم هذا عن وقت حدوث القيامة لا يعني أنّهم يؤمنون بأصل القيامة، بل هو مقدّمة لإنكار أصل القيامة كالذي يقول: (فلانٌ سوف يقدم من السفر) وإذا ما تأخر فترة من الزمن يعترض من ينكر قدوم ذلك المسافر فيقول: (متى سوف يأتي المسافر)؟
نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل:
1 ـ النفس الامارة: وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار، وتزيّن له الشهوات، وهذا ما أشارت إليه امرأة عزيز مصر حينما نظرت إلى عاقبة أمرها فقالت: (وما ابريء نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء).(1)
2 ـ النفس اللوامة: وهي ما اُشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها، وهي نفس يقظة وواعية نسبياً، فهي تزل أحياناً لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب، وتقع في شبك الآثام إلاّ أنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة، وانحرافها ممكن، إلاّ أنّ ذلك يكون مؤقتاً وليس دائماً ولا يمضي عليها كثير وقت حتى تعود إلى الملامة والتوبة.
وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قوياً جدّاً عند بعض الأفراد، وضعيفاً وعاجزاً عند آخرين، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي انسان.
3 ـ النفس المطمئنة: وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الإطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها، وهذا ما ورد في وقوله تعالى: (يا أيّها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية)(2).
1 ـ يوسف، 53.
2 ـ الفجر، 27 ـ 28.
على كل حال فإنّ النفس اللوامة كما قلنا هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان، ولذا تحس أحياناً بالهدوء والإستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتليء بالسرور والفرح والنشاط.
وبالعكس فإنّها تبتلي أحياناً بكابوس الرذائل والجرائم الكبيرة وأمواج الغم والحيرة، ويحترق بذلك باطن الإنسان حتى يتنفر من الحياة، وربّما يبلغ ألم الوجدان أنّه يقدم على تسليم نفسه إلى المحاكم القضائية ليرتقي منصة الإعدام لخلاص نفسه من قبضة هذا الكابوس.
هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شَبَهٌ عجيب بمحكمة القيامة.
1 ـ إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد، كما في يوم القيامة: (عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين العبادك)(1).
2 ـ إنّ هذه المحكمة ترفض كلّ توصية ورشوة وواسطة كما هو الحال في محكمة يوم القيامة، فيقول تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون)(2).
3 ـ إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت، فلا استئناف في ذلك، ولا إعادة نظر، ولا تحتاج في ذلك شهوراً وسنين، وهذا هو ما نقرأهُ أيضاً في محكمة البعث: (واللّه يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب)(3).
4 ـ مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية، فإنّ
1 ـ الزمر، 46.
2 ـ البقرة، 48.
3 ـ الرعد، 41.
شرر النيران تتقد في الوهلة الاُولى في أعماق القلب والروح، ثمّ تسري إلى الخارج، فتعذب روح الإنسان أوّلاً، ثمّ تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله: (نار اللّه الموقدة التي تطّلع على الأفئدة)(1).
5 ـ عدم إحتياج هذه المحكمة إلى شهود، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه، نافعة كانت لهُ أم ضارة! كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث فيقول تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم)(2).
وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لايصدق.
إنّ قسماً مهمّاً من معارف القرآن ومسائله العقائدية يدور حول محور القيامة والبعث، لأنّ له تأثيراً مهمّاً في تربية الإنسان وتكامل سلوكه، ولهذا اليوم العظيم أسماء كثيرة في القرآن، وكل منها تبيّن بعداً من أبعاد ذلك اليوم، يمكن أن تكون هذه الأسماء بحدّ ذاتها انعكاس للكثير من المسائل المعتلقة بهذا الجانب.
يقول المرحوم الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء: «إنّ تحت كلّ اسم من هذه الأسماء سرّ خفي، ولكل نعت معنىً مهم لابدّ من السعي الجاد لإدراك هذه
1 ـ الهُمزة، 6 ـ 7.
2 ـ سورة فصلت، 20.
المعاني ومعرفة أسرارها، فقد ذكر أكثر من فئة اسم ليوم القيامة يمكن الإستفادة منها أو من أكثرها في القرآن المجيد، كيوم الحسرة، يوم القيامة، يوم المحاسبة، يوم المسألة، يوم الواقعة، يو القارعة، يوم الراجفة، يوم الرادفة، يوم الطلاق، يوم الفراق، يوم الحساب، يوم التناد، يوم العذاب، يوم الفرار، يوم الحق، يوم الحكم، يوم الفصل، يوم الجمع، يوم الدين، يوم تبلى السرائر، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً، يوم يفر المرء من أخيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم التغابن...»(1).
ولكن أشهر أسماء ذلك هو اليوم «يوم القيامة» الذي ذكر سبعين مرّة في القرآن، ويحكي عن قيام عامّة العباد والبعث والعظيم للناس، والتوجه إلى ذلك اليوم يدفع الناس لأداء وظائفهم وتكاليفهم في هذه الدنيا.
وباعتقادنا أنه يكفي للانتباه من نوم الغفلة والغرور والأخذ بعنان وزمام النفس العاصية وتربيتها وتعليمها أن نتفكر في هذه الأسماء ونتصور حالنا في ذلك اليوم، يوم يحضر الجميع أمام اللّه العظيم وترفع الستائر وتظهر الأسرار وتتزين الجنان وتتوقد جهنم، ويحضر الجميع عند ميزان العدل الإلهي.
«اللّهم اجعل لنا عندك ملجأ في ذلك اليوم»
* * *
1 ـ المحجة البيضاء، ج8، ص331.
فَإِذَا بَرَقَ الْبَصَرُ(7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ(8) وَجُمِعَ الْشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9) يَقُولُ الإِنسَـنُ يَوْمَئِذ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10) كَلاَّ لاَ وَزَرَ(11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمُسْتَقَرُّ(12) يُنَبَّؤُا الإِنسَـنُ يَوْمَئِذ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13) بَلِ الإِنسَـنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَىْ مَعَاذِيرَهُ(15)
أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.
فتشير أوّلاً إلى الحوادث السابقة للبعث، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين الحاصل في الأنظمة الكونية فيقول تعالى: (فاذا برق(1) البصر) بمعنى1 ـ «برق»: من مادة برق ـ على وزن فرق ـ وهو الضوء الظاهر من بين السحب ويطلق على كل ما هو وضاء، و«برق البصر» في هذه الآية إشارة إلى الحركة الشديدة، والإضطراب الشديد للبصر من شدة الهول والخوف، وقيل هو سكون حدقة العين والنظر بدهشة إلى نقطة وغالباً ما تكون علامة الرعب، وهناك شواهد كثيرة على هذا المعنى في أشعار العرب تشير إلى إبراق البصر يُراد به التحير، والتفسير الأول أوجه.
اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب (وخسف القمر وجمع الشمس والقمر).
ذكرت معان متعددة للمفسّرين في ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر، فقيل هو اجتماعهما، أو طلوعهما كليهما من المشرق وغروبهما من المغرب، وقيل اجتماعهما بعد زوال نوريهما(1) ويحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس وباتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك، وينتهي بالتالي ضياؤهما.
على كلّ حال فقد أُشير هنا إلى ظاهرتين من أهم الظواهر الإِنقلابية لأواخر الدنيا، أي إلى زوال نور القمر واجتماع الشمس والقمر مع البعض، وهو ما أُشير إليه في الآيات القرآنية الأُخرى أيضاً، فيقول تعالى في سورة التكوير: (إذا الشمس كورت) أي إذا أظلمت الشمس، ونعلم أن ضوء القمر من الشمس، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس و عتمة مرعبة.
وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة) فيقول الإِنسان في ذلك اليوم: (يقول الإِنسان يومئذ أين المفر)(2) .
أجل، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب، كما كانوا يبحثون عن طريق الفرار في الدنيا عندما كانوا يواجهون حادثةً خطيرة،
1 ـ يقول الطبرسي في «مجمع البيان» الجمع ثلاثة أنواع: جمعٌ في المكان، وجمعٌ في الزمان، وجمع الأوصاف في الشيء الواحد (كاجتماع العلم والعدالة في الإنسان) ولكن الجمع الذي يراد به اشتراك شيئين في الصفة كزوال نوريّ القمر والشمس معاً هو تعبير مجازي (إذ لابدّ من الإستفادة من القرينة) مجمع البيان، ج 10، ص 395.
2 ـ «المفر»: اسم مكان من الفرار، واحتملهُ البعض الآخر مصدراً ولكنه بعيد.
فيقيسون ذلك اليوم بهذا! ولكن سرعان ما يقال لهم: (كلاّ لا وزر)(1).
فلا ملجأ إلاّ إلى الله تعالى: (الى ربّك يومئذ المستقر) و ذكرت لهذه الآية تفاسير أُخرى غير التفسير المذكور أعلاه منها: إن الحكم النهائي لذلك اليوم هو بيد الله تعالى.
أو إن المقر النهائي للإنسان في الجنّة أو النّار هو بيد الله.
أو أن الإِستقرار للمحاكمة والحساب يومئذ يكون عنده، ولكن بالتوجه إلى الآية التي تليها نرى أن ما قلناه هو الأنسب والأوجه.
ويعتقد البعض أن هده الآية هي من الآيات التي تبين خط مسير التكامل الأبدي للإنسان، وهي من جملة الآيات التي تقول: (وإليه المصير)(2) و(يا أيّها الإِنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه)(3) و(إن إلى ربّك المنتهى)(4)(5).
وبعبارة أوضح أنّ الناس في حركة دائبة في هذا الطريق الطويل من حدود العدم إلى إقليم الوجود، ولا يزالون في حركة في هذا الإِقليم نحو الوجود المطلق، والوجود الأزلي، وأن هذه الحركة والسلوك التكاملي في استمرار الى الأبد ما داموا لا ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم حيث يدخلون في كل يوم مرحلة جديدة من التقرب إلى الله تعالى، وإذا انحرفوا عن مسيرهم فإنهم سوف يسقطون وينتهون
عندئذ يضيف في إدامة هذا الحديث: (ينبؤ الإِنسان يومئذ بما قدّم وأخر)أمّا عن معنى هاتين العبارتين فقد ذكرت لهما تفاسير عديدة:
1 ـ «وزر»: على وزن قمر، وتعني في الأصل الملاجىء الجبلية وأمثالها، ومنها يطلق على الوزير لما يلتجأبه في الأُمور، وعلى كل حال فإنّها تعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.
2 ـ التغابن، 3.
3 ـ الإنشقاق، 6.
4 ـ النجم، 42.
5 ـ هناك نظرات أُخرى في تفسير هذه الآيات وضحنا ذلك في تذييلها.
أوّلاً: المراد هو ما قدم من الأعمال في حياته، أو الآثار الباقية منه بعد موته، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه. أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.
والثّاني: يمكن أن يراد به الأعمال الأُولى التي أتى بها. والأعمال الأخيرة التي أتى بها في عمره، وبعبارة أُخرى أنّه يُنبّأ بجميع أعماله.
والثّالث: أنّ المراد هو ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته، وقيل: ما قدم من الذنوب، وما أخر من طاعة الله أو بالعكس.
والوجه الأوّل هو الأنسب، لما ورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير «(ينبّؤ) بما قدم من خير و شرّ، .ما أخر من سنّة ليس بها من بعده فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم، ولا ينقص من وزرهم شيئاً، وإن كان خيراً كان له مثل أجورهم، ولا ينقص من أجورهم شيئاً»(1).
ثم يضيف في الآية الأُخرى ويقول: إنّ الله وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم، فيقول تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره).
سياق هذه الآيات في الحقيقة هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصلت حيث يقول الله تعالى: (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون).
والآية (5) من سورة يس: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).
وعلى هذا فإنَّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة
1 ـ تفسير البرهان، ج 4، ص 406 ومثله في تفسير القرطبي، ج 10، ص 6891.
هو نفسهُ، لأنهُ أعرف بنفسه من غيره، وإن كان الله تعالى قد أعطاه شواهد أُخرى كثيرة لإتمام الحجّة عليه.
«بصيرة»: لها معنى مصدري بمعنى (الرؤيا والإطلاع)، ومعنى وصفي (الشخص المطّلع) ولذا فسّره البعض بمعنى(الحجة والدليل والبرهان) والذي هو واهب للمعرفة(1).
«معاذير»: جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية، وأُخرى صورية وظاهرية.
وقيل: المعاذير جمع معذار، وهو الستر، والمعنى وإن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه، والأوّل أوجه.
على كل حال فإن الحاكم على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم هو المطّلع على الأسرار الداخلية والخارجية، وكذلك نفس الإنسان المحاسب لنفسه، كما جاء في الآية (14) من سورة الإسراء: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).
إنّ الآيات مورد بحثنا وإن كانت تتحدث كلّها عن المعاد والقيامة، فإنَّ مفهومها واسع، ولذا فإنَّها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجههُ الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراءات.
لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسرّ سيئاً أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك، والله سبحانه يقول: (بل الإِنسان على نفسه بصيرة) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية» (2).
1 ـ «التاء»: مصدرٌ على الإحتمال الأوّل، وتاء التأنيث على الإحتمال الثّاني، لأنّه يراد بالإنسان هنا الجوارح أو النفس، فالتأنيث مجازي، وقيل إن التاء تاء المبالغة للأخبار بشدّة معرفة الإنسان بنفسه.
2 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 396 (وأورد الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه في كتاب الصيام، ج 2، ص 133 باب حد المرض الذي يفطر صاحبه الحديث 1941).
وورد أيضاً في حديث صيام المريض عن الصادق (عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه: ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ فأجاب الإمام: « بل الإِنسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق»(1)
* * *
1 ـ المصدر السّابق.
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17)فَإِذَا قَرَأْنـَهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ(19)
هذه الآيات بمثابة الجملة الإِعتراضية التي تتداخل أحياناً في كلام المتحدث. كمن يكون مشغولاً بالخطابة في مجلس ما والناس مجتمعون في آخر المجلس، والحال أنَّ صدر المجلس خال، فيقطع حديثه مؤقتاً، ويدعو الحاضرين للتقدم لينفتح الطريق للقادمين، ثم يستأنف حديثه مجدداً، أو كالأستاذ الذي يقطع حديثه لينبه طالباً، وبعد ذلك يكمل حديثه.
فعندما يسمع شخص ما حديث الأستاذ عن طريق شريط كاسيت يرى إشكالاً في استمراريّة الحديث، ويتعجب لما يرى من عدم الترابط بين الجمل، ولكن مع التمعن في شرائط المجلس الخاصّة يتّضح فلسفة هذه الجمل المعترضة.
بعد هذه المقدمة البسيطة نتّجه إلى تفسير الآيات التي يراد بحثها، حيث يترك الله تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتاً، ليعطي
تذكرة مختصرة للنّبي(صلى الله عليه وآله) حول القرآن فيقول: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)لهذه الآية أقوال متعددة للمفسّرين، وعلى المجموع ذكرت لها ثلاثة تفاسير:
الأوّل: هو التفسير المشهور الذي نقل عن ابن عباس في كتب الحديث، وهو أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن، تعجَّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبه الشديد للقرآن، فنهاه الله عن ذلك وقال: (إنّ علينا بيانه).
الثّاني: نعلم أن للقرآن نزولين هما: نزولٌ دفعي، أي نزوله بتمامه على قلب النبي(صلى الله عليه وآله) في ليلة القدر، ونزولٌ تدريجي والذي كان أمده 23 عامّاً، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعجل في إبلاغ الرسالة أحياناً قبل النزول التدريجي للآيات أو قراءة ما يرافق تلك الآيات، فنهاهُ الله عن ذلك. وأمره أن يبلّغ ويتلو ما ينزل عليه في حينه، وعلى هذا يكون مضمون هذه الآية كالآية (114) من سورة طه: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه).
وليس في هذين التفسيرين اختلاف واسع، ويكون المعنى: لا ينبغي للنّبي أن يعجل في استلام الوحي.
الثّالث: ولم يذهب اليه إلاّ القليل، وهو أنَّ المخاطبين في هذه الآيات هم المذنبون، وذلك في يوم القيامة حيث يأمرون بمحاسبة أنفسهم وذكر أعمالهم، ويقال لهم: لا تعجلوا في ذلك، ومن الطبيعي أنّهم سوف يتضجرون عند ذكرهم لسيئاتهم ويمرون عليها باستعجال، فيأمرون بالتأني في قراءتها واتباع الملائكة عند ذكر الملائكة لأعمالهم، وطبقاً لهذا التفسير لا تكون هذه الآية كجملة معترضة، بل مرتبطة مع الآيات السابقة واللاحقة لها. لأن جميعها تتحدث عن أحوال القيامة والمعاد، وأمّا التفسير الأوّل والثّاني فيناسبان شكل الجملة المعترضة.
ولكن التفسير الثّالث بعيدٌ وخاصّة مع الالتفات الى ذكر اسم القرآن في الآيات اللاحقة، ويشير سياق الآيات إلى أن المراد هو أحد التفسيرين السابقين.
ولا إشكال في الجمع بينهما بالرغم من أنَّ سياق الآيات اللاحقة يؤيّد التفسير الأول أي المشهور (فتدبّر).
ثمّ يضيف: (إنّ علينا جمعهُ وقرآنه)(1) وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.
ثم يقول تعالى: (فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه)، ثمَّ يضيف: (ثم إنّ علينا بيانه).
فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا، فلا تقلق على شيء، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه، وأمّا ما يُعهد إليك هو اتباعك له وإبلاغك الرسالة للناس، وعن بعضهم أنَّ المراد من الجمع ليس الجمع في لسان الوحي، بل جمعه في صدر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته على لسانه أي لا تعجل إنَّ علينا أن نجمعه في صدرك ونثبت قراءتهُ في لسانك بحيث تقرأه متى شئت.
على كل حال فإن هذه العبارات تؤيد التفسير الأوّل، وهو أن الوحي النازل بواسطة جبرئيل(عليه السلام) عندما كان يهبط على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليقرأ عليه القرآن كان(صلى الله عليه وآله وسلم)يكررالآيات بسرعة لئلا ينساها. وهنا جاء الأمر من الله أن أهدأ واطمئن فإنّه تعالى هو الذي يجمع الآيات ويبيّنها. وهذه الآيات تبيّن ضمنياً أصالة القرآن، وحفظه من أي تغّير وانحراف، لأنّ الله تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.
وورد في أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعد نزول هذه الآيات إذا أتاه جبرئيل(عليه السلام)أطرق، فإذا ذهب قرأ كما وعده الله(2).
* * *
1 ـ يجب الإنتباه إلى أن «القرآن» في هذه الآية والآية التي تليها هو مصدرٌ ويراد به القراءة.
2 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 397.
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20) وَتَذَرُونَ الاَْخِرَةَ(21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذِ بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)
ترجع هذه الآيات مرّة أُخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد. وخصوصيات أُخرى من القيامة، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى (كلاّ بل تحبّون العاجلة)(1) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطلاع عليها، بل إنّكم عَشِقَتْكُمُ الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة (وتذرون الآخرة).
إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار
1 ـ قال البعض إن (كلاّ) إشارة الى نفي تدبرهم للقرآن المجيد، وليس هذا المعنى صحيحاً لأن المخاطب هو نفس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات المتعلقة بالقرآن، وأمّا الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنّها تتميم للآيات السابقة حول القيامة.
المعاد، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم الى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون الآخرة بتمامها.
وكما ذكرنا سابقاً أنَّ إحدى العلل المهمّة للميول الى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.
وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) وقال أيضاً: (يسأل أيّان يوم القيامة).
ثمّ ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفّار المسيئين في ذلك اليوم، فيقول تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة).
«ناضرة»: من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية، أي أنَّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية، وهذا شبيه لما جاء في الآية (24) من سورة المطفّفين: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم).
![]() |
![]() |
![]() |