وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قرأها عرّف الله بينه وبين محمد»(2) لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها، لذا روي في حديث أنّ أحد أصحاب النّبي قال: أسرع الشيب إليك يا رسول الله! فقال: «شيبتني سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون»(3).

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة، وهذه هي التي تركت أثراً في روح النّبي المقدّسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

* * *


1 ـ مجمع البيان ج 10 ص 414.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ الخصال للشيخ الصدوق باب الأربعة حديث 10.

[287]

الآيات

وَالْمُرْسَلَـتِ عُرْفاً(1) فَالْعَـصِفَـتِ عَصْفاً(2) وَالنَّـشِرَتِ نَشْراً(3) فَالْفَـرِقَـتِ فَرْقاً(4) فَالْمُلْقِيَـتِ ذِكْراً(5) عُذْراً أَوْ نُذْراً(6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَقِعٌ(7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ(9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ(10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ(11) لاَِيِّ يَوْم أُجِّلَتْ(12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ(13) وَمَآ أَدْرَكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ(14) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(15)

التّفسير

الوعود الإلهية وجزاء المكذبين:

ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أيمان، وذلك في خمس آيات. الحديث وافر في تفسير معانيها:

يقول تعالى: (والمرسلات عرفاً)(1) أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.


1 ـ «عرفاً»: بمعنى متتابعاً، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.

[288]

(فالعاصفات عصفاً) التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.

(والناشرات نشراً)... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

(فالفارقات فرقاً)... التي تفرق وتفصل.

(فالملقيات ذكراً) التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

(عذراً أو نذراً)(1) إمّا لاتمام الحجة أو للانذار.

والآن لِنَرَ ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمّة، ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمّة:

1 ـ إنّ هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ في كثير من مسائل الطبيعة في العالم، فيصبح معنى الآيات حينئذ: أُقسم بالريح المتوالية الهبوب.

وأُقسم بالأعاصير السريعة.

وأُقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.

وأُقسم بالرياح التي تفرّق السحاب بعد هطول المطر.

وأُقسم بالرياح المذكّرة بالله بهذه المعطيات النافعة.

(وقيل أنّ (فالعاصفات عصفاً) إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سبباً للتذكر واليقظة).

2 ـ إنّ هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء): أي أُقسم بالملائكة المرسلة تباعاً إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة)، وأُقسم بأولئك المسرعين كالأعصار لتنفيذ مهامهم، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء، وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل، والذين يلقون ذكر الحق وأوامر الله على الأنبياء.


1 ـ «عذراً أو نذراً»: محله من الإعراب النصب على أنّه (مفعول لأجله) وقيل (حال).

[289]

3 ـ القسم الأوّل والثّاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثّالث والرّابع والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثمّ فصل الحق عن الباطل، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

وما يمكن أن يكون شاهداً على التفسير الثّالث هو:

أوّلاً: فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو)، والحال أنّ البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.

ثانياً: إنّ هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة، أي أحقيّة البعث والمعاد وواقعيته، ونعلم أنّ تغيّراً عظيماً يحصل في الدنيا عند البعث حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة، ثمّ تشكيل محكمة العدل الإلهية من جهة أُخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال وتفصل بين المؤمنين والكافرين، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.

وطبقاً لهذا التّفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له، ولهذا فإنّ التّفسير الأخير أفضل.

«الذكر» في جملة: (فالملقيات ذكراً) أمّا أن يكون بمعنى العلوم الملقاة على الأنبياء، أو الآيات النازلة عليهم، ونعلم أنّ القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما في الآية (6) من سورة الحجر: (وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنّك لمجنون).

كلمة «الملقيات» بصيغة الجمع مع أنّ ملك الوحي ـ أي جبرئيل(عليه السلام) ـ واحد ليس إلاّ لما يستفاد من الرّوايات أنّ جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون جبرئيل(عليه السلام) عند نزول الآيات القرآنية، كقوله تعالى في الآية (15) من سورة عبس: (بأيدي سفرة).

والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى، فتقول: (إنّما توعدون لواقع).

إنّ البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب

[290]

فيه.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية، وتشمل وعود الصالحين والطالحين، في الدنيا كانت أو في الآخرة، ولكنّ الآيات التالية توحي أنّ المراد هو الوعد بالقيامة(1).

وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تُعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحاً ومفهوماً إلاّ بوجود المعاد، وهذا يُشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.

وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (23) من سورة الذاريات إذ يقول الله

تعالى: (فوربّ السماء إنّه لحق) القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.

ثمّ ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقّق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفيء وتمحى (فإذا النجوم طمست).

(وإذا السماء فرجت) أي انشقت.

(وإذا الجبال نسفت) أي زالت وانقلعت من مكانها.

(طمست): من مادة (طمس) ـ على وزن شمس ـ وهو محو وزوال آثار الشيء، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها، ولكن التفسير الأول أنسب، كقوله في الآية (2) من سورة التكوير: (وإذا النجوم انكدرت).

نسفت: من مادة (نسف) ـ على وزن حذف ـ وفي الأصل، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت


1 ـ العطف بالفاء أيضاً يقوي هذا المعنى.

[291]

الجبال ثمّ نسفها في الريح، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله. وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما فيها من الرعب والعجب، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟! وكما يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الحوادث عظيمة للغاية بحيث أنّ أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للّعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.

وعلى أي حال فإنّ هذه التعابير القرآنية تشير إلى الإختلاف الكبير بين أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.

ثمّ أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم: (وإذا الرسل أقِّتَتْ)(1) وهو كقوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين).(2) ثمّ يضيف تعالى: (لأي يوم أُجِّلَتْ)(3)، أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول: (ليوم الفصل) يوم فصل الحق عن الباطل، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم الله المطلق على الجميع، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم، ويا لهُ من تعبير بليغ عميق لذلك اليوم، .. إنّه «يوم الفصل»!!.

ثمّ يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً، فيقول تعالى: (وما أدراك ما يوم الفصل)


1 ـ (أقّتت) أصلها (وقِّتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى، وهذا واضح إذ لا يُعين لهم وقت بل يتعيّن لعملهم، أي لشهادتهم على الأُمم، ولذا قيل إن في الآية حذفاً.

2 ـ الأعراف، الآية 6.

3 ـ طبقاً لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأُمم، وهو ما يستفاد منه في الآية السابقة، وقيل إنّه يعود إلى جميع الأُمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها، وقيل: إنّها إشارة إلى جميع الأُمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها، ولكن من الواضح أن التّفسير الأوّل أنسب، لأنّ مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.

[292]

إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس: وقد قلنا مراراً إنّنا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن سجناء قفص الدنيا، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلاّ شبحاً وخيالاً يحكي عن مجريات الآخرة.

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال: (ويل يومئذ للمكذبين).

ويل: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو واد في جهنّم مليء بالعذاب، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم(1).

المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة، ونعلم أنّ من لا يؤمن بيوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب الذنوب والظلم والفساد، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنّه يهب الإنسان التقوى والإحساس بالمسؤولية.

* * *

ملاحظات

1 ـ محتوى هذه الأيمان

في الآيات السابقة ذكر أولاً بالرياح والأعاصير لما لها من الدور الهام في عالم الخلقة، فإنّها تحرك السحاب لتقودها إلى الأراضي اليابسة والميتة، وتصريفها بعد نزول الأمطار، وتنقل بذور النباتات من مكان إلى آخر وبذلك تنمو الغابات والمراتع، وتلقّح الرياح أيضاً كثيراً من الأزهار والثمار، وتنقل الحرارة


1 ـ ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و(ريح) في ذيل الآية (60) من سورة الذاريات.

[293]

والبرودة من مناطق الأرض المختلفة إلى نقاط أُخرى فتساعد بذلك على تعديل المناخ، وتأخذ الهواء الطازج المليء بالأوكسجين من المزارع والصحاري إلى المدن، ثم ترسل الهواء الملوث إلى الصحاري والبحار لغرض التصفية. ثم إنّها تثير مياه البحار وتجعلها أمواجاً متلاطمة، وتدخل الأوكسجين إلى الموجودات المائية الحيّة، نعم إنّ للرياح والنسيم خدمات عظيمة وحياتية في الكون.

القسم الآخر من الأيمان يتحدث عن منهج نزول الوحي بوسيلة الملائكة، فإنّ في عالم المعنى أيضاً شبهاً مع النسيم في عالم المادة، الملائكة يهبطون بكلمات الوحي على قلوب أنبياء الله تعالى كما تنزل قطرات المطر المباركة فتنمو أزهار وثمار المعارف الإلهية في القلوب.

وعلى هذا الأساس فإنّ الله تعالى قد أقسم بمربّي عالم المادة وبمربّي عالم المعنى، والظريف أنّ جميع هذه الأقسام هو من أجل بيان حقيقة ذلك اليوم الذي تثمر فيه جميع المساعي وهو يوم القيامة، يوم الفصل.

* * *

[294]

الآيات

أَلَمْ نُهْلِكِ الاَْوَّلِينَ(16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاَْخِرِينَ(17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْـمُجْرِمِينَ(18) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآء مَّهِين(20) فَجَعَلْنَـهُ فِى قَرَار مَّكِين(21) إِلَى قَدَر مَّعْلُوم (22)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـدِرُونَ(23) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(24) أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ كِفَاتاً(25) أَحْيَآءً وَأَمْوَتاً(26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَسِىَ شَـمِخَـت وَأَسْقَيْنَـكُم مَّآءً فُرَاتاً(27) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(28)

التّفسير

جزاءِ المكذبين بالمعاد

هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق; فتأخذ بأيديهم أوّلاً إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين، فيقول تعالى: (ألم نهلك الأولين).

[295]

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب، أقوام ـ كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون ـ عوقبوا جزاءاً لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة، وجماعة بقوة الرياح، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.

(ثم نُتبعُهُم الآخرين) لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى في الآية الأُخرى: (كذلك نفعل بالمجرمين).

هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأُمم الأُولى ويستتبعه هلاك الأُمم الأُخرى، لأنّ العذاب الإِلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإِنتقام الشخصي. بل إِنّه تابع لأصل الإِستحقاق ومقتضى الحكمة.

وقال البعض: إنّ المراد من (الأولين) هم الأُمم المتوغلة في الماضي البعيد كقوم نوح وعاد ثمود، و(الآخرين) اللاحقون بهم من الأُمم الغابرة أمثال قوم لوط وقوم فرعون ولكنّنا نلاحظ أنّ (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع، والحال أنّ عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي، فيتضح من ذلك أنّ (الأولين) هم الأُمم السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و(الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنّبي(صلى الله عليه وآله)أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم والفساد.

ثمّ يضيف مستنتجاً: (ويل يومئذ للمكذبين).

(يومئذ): إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب، وما احتمله البعض من أنّ هذه الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقاً ناظرة إلى العذاب الأُخروي يبدو بعيداً جدّاً.

ثمّ يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله

[296]

وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أُخرى، فيقول تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين) أي تافه وحقير (فجعلناه في قرار مكين)(1).

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثمّ يضيف تعالى: أنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة: (إلى قدر معلوم).

مدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثمّ يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر: (فقدرناه فنعم القادرون)(2)(3) وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة الحج: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبيّن لكم ونقرّ في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثمّ نخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدكم .... ذلك بأنّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وأنّه على كل شيء قدير).


1 ـ (قرار): هو محل الإستقرار و(مكين) يعني محفوظ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحياناً بمعنى المنزلة).

2 ـ للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن)أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.

3 ـ قال بعض المفسّرين إن معنى الآية هكذا: (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة، وخصوصيات في جسم الإنسان وروحه، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيداً لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا بعيداً وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير، ولكن في الاستعمالات العادّية لا تستعمل كلمة (قادر) بهذا المعنى.

[297]

ثمّ يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: (ويل يومئذ للكذبين) الويل لأُولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثمّ ينكرونها، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام):

«أيّها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف الأستار، بُدئت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم، تمور في بطن أُمّك جنيناً لا تحير دعاء، ولا تسمع نداءً، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لإِجترار الغذاء من ثدي أُمّك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟!»(1).

ثمّ يقول تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتاً(2)، أحياءً وأمواتاً)(3).

«كفات»: ـ على وزن كتاب ـ و(كفت) ـ على وزن كشف ـ هو جمع وضم الشيء للآخر، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر: إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيء لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

نعم، إنّ الأرض هي كالأُم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت أجنحتها، وتغذيهم، وتلبسهم، وتسكنهم، وتقضي جميع حوائجهم، وتحفظ أمواتهم في قلبها أيضاً، وتمتصهم وتزيل مساويء آثارهم.

وفسّر بعضهم «الكفات» بالطيران السريع، والآية تشير إلى حركة الأرض


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 163.

2 ـ «كفاتاً»: مفعول ثاني لـ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.

3 ـ «أحياءً وأمواتاً»: حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتاً لكم أحياءً أمواتاً).

[298]

حول الشمس والحركات الأُخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.

ولكن بملاحظة الآية الأُخرى أي (أحياءً وأمواتاً) يتضح أنّ التفسير الأوّل أنسب، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عند رجوعه من صفين ووصوله قرب الكوفة، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة: «هذه كفات الأموات» أي مساكنهم. ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال: «هذه كفات الأحياء» ثم تلا هذه الآيات: (ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً)(1).

ثمّ يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف: (وجعلنا فيها رواسي شامخات)(2) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء، واتصلت أُصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة أُخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة على الإستقرار لأهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأُخرى للجبال فيضيف تعالى: (وأسقيناكم ماء فراتاً) ماءاً سائغاً لكم وباعثاً للحياة، ولحيواناتكم ولبساتينكم. صحيح أنّ كل ماء مستساغ هو من المطر، ولكن للجبال الدور الأهم في الإيفاء بهذا الغرض، فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان، إنّ قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح الأرض، ولهذا فأنّها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر


1 ـ تفسير البرهان، ج 4، ص 417 (نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم).

2 ـ «رواسي»: جمع راسية، وهي الثابتات، و(شامخات) جمع شامخ، أي عال، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

[299]

بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.

ثمّ يقول في نهاية هذا القسم: (ويل يومئذ للمكذبين).

أُولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثمّ ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

* * *

[300]

الآيات

انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(29) انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـثِ شُعَب(30) لاَّ ظَلِيل وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ(31) إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَر كَالْقَصْرِ(32) كَأَنَّهُ جِمَـلَتٌ صُفْرٌ(33) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(34) هَـذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ(35) وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ(36) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(37) هَـذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَـكُمْ وَالاَْوَّلِينَ(38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ(39) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(40)