1 ـ المصدر السابق.

2 ـ اسم الكتاب (الصوم طريقة حديثة لشفاء الأمراض).

[254]

جزء من الوجود المحمدي، وأنّ الحسنين روحه وريحانتاه وسيدا شباب أهل الجنّة، ولكن لا يعني ذلك ترك الآخرين، ومن يتبع غير هذا فهو ضال.

ولكنّنا نقول إنّنا إذا ما تغاضينا عن هذه الفضيلة، فإنّ عاقبة بقية الأحاديث ستكون بنفس المنوال، وربّما يحين يوم ينكر فيه البعض جميع فضائل  أمير المؤمنين وسيّدة النساء والحسنين(عليهم السلام)، والملاحظ أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قد احتج على مخالفيه في كثير من المواطن بهذه الآيات لتبيان حقوقه وفضائله وأهل بيته(1).

ثمّ إنّ ذكر الأسير الذي أطعموه، خير دليل على نزول الآيات بالمدينة، إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة لعدم شروع الغزوات.

والملاحظة الأخيرة التي لابدّ من ذكرها هنا هو قول بعض العلماء المفسّرين ومنهم المفسّر المشهور الآلوسي، وهو من أهل السنّة قال: إنّ كثيراً من النعم الحسية قد ذكرت في السورة إلاّ الحور العين التي غالباً ما يذكرها القرآن في نعم الجنان، وهذا إنّما هو لنزول السورة بحق فاطمة وبعلها وبنيها(عليهم السلام)وإنّ الله لم يأت بذكر الحور العين إجلالاً واحتراماً لسيدة نساء العالمين!

لقد طال الحديث في هذا الباب إلاّ أنّنا وجدنا أنفسنا مضطرين لمجابهة وإبطال إشكالات المتعصبين وذرائع المعاندين.

* * *

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم

أشارت الآيات السابقة الى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى


1 ـ احتجاج الطبرسي وخصال الصدوق طبقاً لما نقله الطباطبائي في الميزان ج 20 ص 224.

[255]

جماعتين وهي «الشكور» و«الكفور»، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم الله بها على الأبرار وتذكّر بأُمور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى: (إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً).

«الأبرار»: جمع (بر) وأصله الإتّساع، وأُطلق البر على الصحراء لاتساع مساحتها، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع، و«البِر» بكسر الباء هو الإحسان، وقال بعض: إنّ الفرق بين البر والخير هو أنّ البر يراد به الإحسان مع التوجه والإرادة، وأمّا الخير فإنّ له معنى أعمّ.

«كافور»: له معان متعددة في اللّغة، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة، وله معنىً آخر مشهور هو الكافور الطبيعي ذو الرائحة القوية ويستعمل في الموارد الطبية كالتعقيم.

على كل حال فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّاً فيلتذ به الانسان من حيث الذوق والشم.

وذهب بعض المفسّرين الى أنّ «كافور» اسم لأحد عيون الجنّة. ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة «كان مزاجها كافوراً». ومن جهة أُخرى يلاحظ أنّ «الكافور» من مادة «كفر» أي بمعنى «التغطية»، ويعتقد بعض أرباب اللغة كالراغب في المفردات أنّ اختيار هذا الاسم هو أنّ فاكهة الشجرة التي يؤخذ منها الكافور مغطاة بالقشور والأغلفة.

وقيل: هو إشارة إلى شدّة بياضه وبرودته حيث يضرب به المثل، والوجه الأوّل أنسب الوجوه، لأنّه يعد مع المسك والعنبر في مرتبة واحدة، وهما من أفضل العطور.

ثمّ يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول:

[256]

(عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً)(1)(2).

هذه العين من الشراب الطهور وضعها الله تعالى تحت تصرفهم، فهي تجري أينما شاءوا، والظريف هو ما نقل عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ قال في وصفها: «هي عين في دار النّبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

نعم فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتجري الى قلوب عباد الله الصالحين، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي، وتنحدر فروعها، إلى بيوت المؤمنين!

«يفجرون»: من مادة تفجير، وأخذت من أصل (الفجر) ويعني الشق الواسع، سواء أكان شق الأرض أو غير ذلك، و«الفجر» نور الصبح الذي يشق ستار الليل، وأُطلق على من يشق ستار الحياء والطهارة ويتعدى حدود الله (فاجر) ويراد به هنا شقّ الإرض.

والملاحظ أنّ أوّل ما ذكر من نعم الجنان في هذه السورة هو الشراب الطهور المعطّر الخاصّ. لكونه يزيل كلّ الهموم والحسرات والقلق والأردان عند تناوله بعد الفراغ من حساب المحشر، وهو أوّل ما يقدم لأهل الجنان ثمّ ينتهون إلى السرور المطلق بالإستفادة من سائر مواهب الجنان.

ثمّ تتناول الآيات الأُخرى ذكر أعمال «الأبرار» «وعباد الله» مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة: فيقول تعالى (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً).

جملة (يوفون) و(يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع


1 ـ وردت احتمالات عديدة في سبب نصب (عيناً) و أوجه الأقوال هو أنّه منصوب لنزع الخافض وتقديره (من عين) وقيل بدل من (كافوراً) أو منصوب بالإختصاص أو المدح، أو مفعول لفعل مقدر والتقدير (يشربون عيناً) ولكن الأوّل أوجه كما تقدم.

2 ـ «يشرب»: يتعدى بالباء وبدونها، ويمكن أن تكون الباء في (بها) بمعنى (من).

[257]

وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم، كما قلنا في سبب النزول فإنّ المصداق الأتم والأكمل لهذه الآيات هو أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنان(عليهم السلام)، لأنّهم وفوا بما نذروه من الصوم ثلاثة أيّام ولم يتناولوا في افطارهم إلاّ الماء في حين أنّ قلوبهم مشحونة بالخوف من الله والقيامة.

«مستطيراً»: يراد به الإتساع والإنتشار، وهو إشارة إلى أنواع العذاب واتساعه في ذلك اليوم العظيم، على كلّ حال فإنّهم وفوا بالنذور التي أوجبوها على أنفسهم، وبالأحرى كانوا يحترمون الواجبات الإلهية ويسعون في أدائها، وخوفهم من شرِّ ذلك اليوم، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثّم يتناول الصفة الثّالثة لهم فيقول: (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).

لم يكن مجرّد اطعام، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء، ومن جهة أُخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

الضمير في (على حبه) يعود إلى (الطعام) أي أنّهم أعطوا الطعام مع احتياجهم له، وهذا شبيه ما ورد في الآية من سورة آل عمران: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا ممّا تحبّون).

وقيل: إنّ الضمير المذكور يعود إلى «الله» الوارد في ما سبق من الآيات، أي أنّهم يطعمون الطعام لحبّهم الشديد لله تعالى، ولكن مع الالتفات الى ما يأتي في الآية الآتية يكون المعنى الأوّل أوجه.

ومعنى «المسكين» و«اليتيم» و «الأسير» واضح، إلاّ أنّ هناك أقوالاً متعددة فيما يراد بالأسير؟ قال كثيرون: إنّ المراد الاسرى من الكفّار والمشركين الذين يؤتى بهم إلى منطقة الحكومة الاسلامية في المدينة، وقيل: المملوك الذي يكون

[258]

أسيراً بيد المالك، وقيل هم السجناء، والأوّل أشهر.

يرد هنا سؤال: كيف جاء ذلك الأسير إلى بيت الإمام علي(عليه السلام) طبقاً لما ورد في سبب النزول والمفروض أن يكون سجيناً؟

ويتضح لنا جواب هذا السؤال بالإلتفات إلى أنّ التاريخ يؤكّد عدم وجود سجناء في عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان(صلى الله عليه وآله وسلم) يقسّمهم على المسلمين، ويأمرهم بالحفاظ عليهم والإحسان إليهم، فكانوا يطعمونهم الطعام وعند نفاذ طعامهم كانوا يطلبون العون من بقية المسلمين ويرافقونهم في الذهاب الى طلب المعونة، أو أنّ الأَسرى يذهبون بمفردهم لأنّ المسلمين كانوا حينذاك في ضائقة من العيش.

وبالطبع توسعت الحكومة الإسلامية فيما بعد، وازداد عدد الأَسرى وكذلك المجرمين، فاتخذت عندئذ السجون وصار الإنفاق عليهم من بيت المال.

على كل حال فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضاً وقد أُعْتُبِرَ إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

وقد ورد في حديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «استوصوا بالأسرى خيراً وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه»(1).

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص، فيقول: (إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً).

إنّ هذا المنهج ليس منحصراً بالإطعام، إذ أنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه الله تعالى، ولا يتوقعون من الناس شكراً وتقديراً، وأساساً فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النيّة وإلاّ فإنّ العمل اذا كان بدوافع غير الهية، سواء كان رياءً أو لهوى النفس، أو توقع شكر من الناس أو لمكافآت مادية، فليس لذلك ثمن


1 ـ كامل ابن الأثير، ج 2، ص 131.

[259]

معنوي وإلهي.

وقد أشار النّبي(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك إذ قال: «لا عمل إلاّ بالنيّة وإنّما الأعمال بالنيات».

والمراد من (وجه الله) هو ذاته تعالى، وإلاّ فليس لله صورة جسمانية، وهذا هو ما اعتمده وأكّده القرآن في كثير من آياته، كما في الآية (272) من سورة البقرة: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) والآية (28) من سورة الكهف التي تصف جلساء النبي(صلى الله عليه وآله): (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).

ويقول في الوصف الأخير للأبرار: (إنا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً)(أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للإستعارة، إذ أنّها تستعمل في وصف الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوساً فحسب، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوساً أيضاً.

(قمطريراً): هناك أقوال للمفسّرين في مادته، قيل هو من (القمطر)، وقيل: مشتق من مادة (قطر) ـ على وزن فرش ـ والميم زائدة، وقيل هو الشديد، وهو الأشهر(1).

ويطرح هنا سؤال، وهو: إذا كان عمل الأبرار خالصاً لله تعالى، فلم يقولون: إنا نخاف عذاب يوم القيامة؟ وهل يتناسب دافع الخوف من عذاب يوم القيامة مع الدافع الإلهي؟


1 ـ مفردات الراغب، لسان العرب، المنجد، القرطبي، مجمع البيان.

[260]

ويتضح جواب هذا السؤال بالإلتفات إلى أنّ الأبرار يسلكون السبيل على كل حال إلى الله تعالى، وإذا كانوا يخافون من عذاب يوم القيامة فإنّما هو لأنه عذاب إلهي، وهذا هو ما ورد في الفقه في باب النية في العبادة من أنّ قصد القربة في العبادة لا ينافي قصد الثواب والخوف من العقاب أو حتى اكتساب المواهب المادية الدنيوية من عند الله (كصلاة الإستسقاء)، لأنّ كل ذلك يرجع إلى الله تعالى، كالداعي على الداعي، رغم أنّ أعلى مراحل الإخلاص في العبادة تكمن في عدم التعلّق بنعم الجنان أو الخوف من الجحيم، بل يكون بعنوان (حبّ الله).

والتعبير بـ (إنا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً) شاهد على أنّ هذا الخوف من الله.

والجدير بالذكر أنّ الوصف الثاني والخامس من الأوصاف الخمسة، يشيران إلى مسألة الخوف. غاية الأمر أنّ الكلام في الآية الأُولى عن الخوف من يوم القيامة، وفي الثانية الخوف من الله في يوم القيامة، ففي مورد وصف يوم القيامة في أنّ شرّهُ عظيم، ووصفه في مورد آخر بأنّه عبوس وشديد، وفي الحقيقة فإنّ أحدهما يصف عظمته وسعته والآخر شدّته وكيفيته.

وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإِجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً).

(نضرة): بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الانسان، أجل، إنّ لون وجودهم في ذلك اليوم يخبر عن الهدوء والإرتياح، وبما أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب، فإنّ الله تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

وتعبير «لقاهم» من التعابير اللطيفة والتي تدلّ على أنّ الله سوف يستقبل ضيوفه الكرام بلطف وسرور خاص وأنّه سوف يجعلهم في سعة من رحمته.

* * *

[261]

إشباع الجياع من أفضل الحسنات:

ليست هذه الآيات مورد البحث هي الآيات الوحيدة التي عدّت إطعام الطعام من الأعمال الصالحة للأبرار وعباد الله، بل إنّ كثيراً من آيات القرآن اعتمدت هذا المعنى وأكّدت عليه، وأشارت إلى أنّ لهذا العمل محبوبية خاصّة عند الله، وإذا ألقينا نظرة على عالم اليوم والذي يموت فيه بسبب الجوع حسب الأخبار المنتشرة ملايين الأشخاص في كل عام، والحال أنّ بقية المناطق تلقي بالغذاء الكثير في القمامة تتّضح أهمية هذا الأمر الإِسلامي من جهة، وابتعاد عالم اليوم عن الموازين الأخلاقية من جهة أُخرى.

ونورد هنا من باب المثال عدداً من الأحاديث الإسلامية التي أكّدت على هذا الجانب: قال النّبي(صلى الله عليه وآله): «من أطعم ثلاث نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السموات»(1).

وفي حديث للإمام الصادق(عليه السلام) قال: « من أطعم مؤمناً حتى يشبعه لم يَدْرِ أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلاّ الله ربّ العالمين»(2).

وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) قال: «لئن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبُّ إليَّ من أن أزوره، ولئن أزوره أحبُّ إليَّ من أن أعتق عشر رقاب»(3).

والجدير بالذكر أنّ الرّوايات لم تؤكّد على إطعام المحتاجين والجياع فحسب، بل صرّحت بعض الروايات أنّ إطعام المؤمنين وإن لم يكونوا محتاجين هو كعتق رقبة العبد، وهذا يدلّ على أنّ الهدف لا يقتصر على رفع الاحتياج، بل جلب المحبّة وتحكيم وشائج المودة بعكس ما هو السائد في عالم اليوم المادي،


1 ـ أُصول الكافي، ج 2 باب (إطعام المؤمن) الحديث 3.

2 ـ المصدر السابق، الحديث 6.

3 ـ المصدر السابق، الحديث 18.

[262]

كدخول صديقين إلى المطعم ودفعهما حساب الطعام كلّ على انفراد وكأنّ استضافة الأفراد سيما إذا كثروا مدعاةً للعجب في تلك المجتمعات!!

وورد في بعض الرّوايات أنّ إطعام الجياع بصورة عامّة من أفضل الأعمال (وإن لم يكونوا مسلمين ومؤمنين) كما جاء في الحديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) إذ قال: «من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارة وإشباع الكباد الجائعة والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعان وأخوه ـ أوقال جاره ـ المسلم الجائع»(1).

بالرغم من أنّ ذيل هذا الحديث الشريف ذكر اشباع الإنسان المسلم. ولكنه صدره يشمل كل عطشان وجائع، ولا يبعد اتساع مفهوم الحديث لـ يشمل حتى الحيوانات.

وهناك روايات عديدة في هذا الباب(2)

* * *


1 ـ بحار الأنوار، ج 74، ص 369 والملاحظ أن العلاّمة المجلسي أورد عنواناً في هذا الباب وذكر فيه 113 حديث يتعلق بإطعام المؤمن وإشباعه ولبسه وأداء دينه. ولبعض منها عمومية.

2 ـ المصدر السابق.

[263]

الآيات

وَجَزَهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً(12) مُّتَّكِئِيِنَ فِيهَا عَلَى الاَْرَآئِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً(13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً(14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـَانِيَة مِّن فِضَّة وَأَكْوَاب كَانَتْ قَوَارِيرَاً(15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّة قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً(16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً(17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً(18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً(19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً(20) عَـلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُس خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة وَسَقـَهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً(21) إِنَّ هَـذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً(22)

التّفسير

مكافئات الجنان العظيمة

بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم

[264]

يوم القيامة، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة، تتناول هذه الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان، وعددها في هذه على الأقل خمسة عشرة نعمة، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول:

(وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً).

أجل، في مقابل كل ذلك الإيثار والإستقامة في وفائهم بالنذر وصيامهم، وإنفاق طعام الإفطار على المسكين واليتيم والأسير جعلهم الله في رياض خاصّة في الجنان، وألبسهم أفضل الألبسة، وليس فقط في هذه الآية، بل صرح بهذه الحقيقة في آيات أُخرى من القرآن، وهو أنّ مكآفات القيامة إنَّما تعطى للإنسان لصبره (صبرٌ في الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ عند المشكلات والمصائب).

فتجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (24) من سورة الرعد: (سلام عليكم بما صبرتم).

وجاء في الآية (111) من سورة المؤمنون: (إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون).

ثمّ يضيف سبحانه في الآية التالية: (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً) ذكر حالة (الإتكاء على الأرائك) إشارة إلى اطمئنانهم وارتياحهم الكاملين، لأنّ الانسان لا يجلس متكئاً عادة إلاَّ عند الراحة والإطمئنان والهدوء.

ويشير ذيل الآية إلى الإعتدال الكامل في الجنان، ولا يعني هذا انعدام الشمس والقمر في الجنان، بل بسبب ظلال أشجار الجنان لا تكون أشعة الشمس مؤذية.

(زمهرير): من مادة (زمهر) وهو البرد الشديد، أو شدّة الغضب أو احمرار العين من أثر الغضب، والمراد هنا هو المعنى الأول، وورد في الحديث: أنّ في

[265]

جهنّم نقطة تتلاشى فيها الأعضاء من شدّة البرد(1).

(أرائك): جمع «أريكة»، وتطلق في الأصل على الأسرّة التي توضع في غرفة العروس، والمراد هنا الأسرّة الجميلة والفاخرة.

نقل المفسر المشهور الآلوسي في روح المعاني في حديث عن ابن عباس قال: قال النبي(صلى الله عليه وآله): «بينا أهل الجنّة في الجنّة إذ رأوا ضوءاً كضوء الشمس، وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنّة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربّنا لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس، ولا قمر، ولكن علي وفاطمة ضحكا، وأشرقت الجنان من ثغريهما»!

وتضيف الآية الأُخرى متمّمة لهذه النعم:

(ودانية عليهم ظلالها وذلّلت قطوفها تذليلاً)(2).

ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار، ولا شوكة لتدخل في اليد، ولا تحتاج ذلك إلى مشقّة أو حركة!

ونجد من الضروري التذكير مرّة أُخرى إنّ هناك تفاوتاً كثيراً بين الأُصول المتحكمة في حياة الإنسان في ذلك العالم وبين هذا العالم، وما جاء حول النعم الأُخروية في هذه الآيات والآيات القرآنية الأُخرى ليس إلاّ كونه إشارة بليغة إلى تلك المواهب العظيمة، وإلاّ فإنّ بعض الرّوايات تصرح أنّ هناك من النعيم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا تخطر ببال أحد.

وفي حديث لابن عباس بيّنه في ذيل آيات هذه السورة قال: «كلما ذكره الله في القرآن ممّا في الجنّة وسمّاه ليس له مثلٌ في الدنيا ولكن سمّاه الله بالاسم الذي يعرف الزنجبيل ممّا كانت العرب تستطيبهُ فلذلك ذكره في القرآن ووعدهم أنّهم


1 ـ الدر المنثور ج 6 ص 300.

2 ـ «قطوف»: على وزن (ظروف) جمع (قطف) على وزن (حفظ) أو جمع (قطف) على وزن (حذف) والأوّل وصفٌ والثّاني مصدر، ويعني الفواكه المقطوفة أو قطف الفاكهة.

[266]

يسقون في الجنّة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنّة»(1).

ثمّ توضح الآية الأُخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان، وأدوات الضيافة، والمستقبلين لهم، فيقول: (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً، قوارير من فضة قدروها تقديراً).

تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة والباعثة على النشاط، بالقدر الذي يشاؤونه ويحبّونه، والولدان المخلدون يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم الله بها.

(آنية): جمع (إناء) وهو الوعاء، و«أكواب» جمع «كوب»، وهو إناء للشراب الذي لا عروة له، ويعبر عنه أحياناً بالقدح.

«قوارير»: جمع (قارورة)، وهي الوعاء البلّوري والزجاجي. والعجب في قوله: أوعية بلّورية مصنوعة من الفضة! والحال لا يوجد مثل هذا في عالم الدنيا، والأوعية البلّورية إنّما تصنع من رمال خاصّة وذلك بعد اذابتها، ولكنّ الله الذي جعل خاصيّة في الرمل تجعله يتحول إلى زجاج وبلّور لهو قادر أن يجعلها في معدن آخر كالفضة.

على كل حال فإنّ المستفاد من الآية إنّ هذه الأوعية والكؤوس تكون جامعة بين صفاء الزجاجة وشفافية البلوّر وبين بياض الفضة وجمالها، ويكون الشراب فيه متجلياً، والملاحظ أنّ هذا المعنى قد أشار إليه الامام الصادق(عليه السلام)أيضاً إذ قال: «ينفذ البصر في فضة الجنّة كما ينفذ في الزجاج»(2).

وفي العصر الحديث تمّ اكتشاف أنواع من الأشعة (مثل اشعة ايكس) لها قابلية النفوذ الى باطن المواد والاجسام المعتمّة واستجلاء محتوياتها.

وعن ابن عباس قال: «إن لكل نعمة من نِعَمِ الجنان شبهٌ في الدنيا إلاّ أكواب


1 ـ مجمع البيان، ج 10، ص 411.

2 ـ المصدر السابق.

[267]

الفضة إذ لا شبيه لها»(1).

ثمّ يضيف تعالى: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً).

صرح الكثير من المفسرين بأنّ عرب الجاهلية كانوا يتلذذون بالشراب الممزوج بالزنجبيل، لأنّه كان يعطي قوّة خاصة للشراب.

ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل، ومن البديهي أنّ الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين السماء والأرض وبالأحرى بين الدنيا والآخرة.

والجدير بالذكر أنّ العرب كانوا يستخدمون نوعين من الشراب: أحدهما يبعث على النشاط والحركة، والآخر مُفَتّر وَمُهدّىء والأوّل يمزج مع الزنجبيل، أمّا الثّاني فمع الكافور، وبما أنّ حقائق عالم الآخرة لا يمكن أن يعبر عنها في إطار ألفاظ هذا العالم، فلا سبيل إلاّ استخدام هذه الألفاظ للدلالة على معان أوسع وأعلى تحكي عن تلك الحقائق العظيمة. ولفظ «الزنجبيل» غالباً ما يطلق على الجذر المعطر للتوابل الخاصّة للأغذية والأشربة، وإن كانت الأقوال مختلفة في معناه.

ثمّ يضيف تعالى: (عيناً فيها تسمى سلسبيلاً)(2).

(سلسبيلا): هو الشراب الهنيء واللذيذ جدّاً الذي ينحدر بسهولة في الحلق ويرى الكثير أنّه مأخوذ من مادة (سلاسة) المأخوذ من السيلان ولهذا يقال للكلام الجذّاب والممتع «سليس».

وقيل أخذ من مادة (تسلسل) وهي الحركة المستمرة التي يتداعى منها السيولة والاتصال، وعلى هذا فإنّ المعنّيين متقاربين، والباء زائدة في الصورتين.

وقيل: هو مركب من (سال) و(سبيل) والمعنى الكنائي للإثنين


1 ـ روح المعاني، ج 29، ص 159.

2 ـ «عيناً»: محلهُ في الأعراب ـ كما تقدم ـ أن يكون منصوباً بنزغ الخافض.

[268]

هو السائغ والهنيء.

وقيل: لا وجود لهذه الكلمة في اللغة عند العرب، وأنّها من إبداعات القرآن المجيد(1).

والأول أشهر وأوجه.

ثمّ يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار الله في النعيم الأعلى فيقول تعالى (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً).

إنّهم مخلدون في الجنان، وطراوة شبابهم وجمالهم ونشاطهم خالد أيضاً، وكذا استقبالهم للأبرار، لأنّ عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة أُخرى تبيان لهذه الحقيقة.

«لؤلؤاً منثوراً»: يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

وبما أنّ من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من البيان والبلاغة، ولذا يقول تعالى في الآية الأُخرى كلاماً مطلقاً: (وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً)(2).

وردت في (النعيم) و(الملك الكبير) أقوال كثيرة، منها ما ورد في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) عندما سئل عن معنى الآية إذ قال: (أي لا يفنى ولا يزول)(3).