![]() |
![]() |
![]() |
«الوهّاج»: من الوهج، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار(3).
وإطلاق هذه الصفة على الشمس، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما: (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.
ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان، بل لها أثر كبير في نمو سائر الكائنات الحيّة.
1 ـ لزيادة المعلومات، راجع ذيل الآية (29) من سورة البقرة.
2 ـ «جعلنا»: في هذا الموضع بمعنى (خلقنا)، فلذلك أخذت مفعولاً واحداً.
3 ـ مفردات الراغب: مادة (وهج).. وفي لسان العرب: الوهج: حرارة الشمس والنار من بعيد.
وإضافة لكل ما تقدم، فلحرارة الشمس أثر أساس في: تكوّن الغيوم، حركة الهواء، نزول الأمطار، وسقي الأراضي اليابسة.
ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم، ولولاها لتحولت الأرض إلى مستشفى عظيمة، ولانتهت الحياة البشرية على ظهرها خلال مدّة محدودة جدّاً.
وأشعة الشمس في واقعها: نور صحي مجاني دائمي، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.
ونسبة ما يصلنا من الطاقة الشمسية قياساً مع بقية المصادر كثير جدّاً، وعلى سبيل الفرض: فلو أردنا إنماء شجرة تفاح بواسطة نور صناعي، فستكلفنا التفاحة الواحدة مبلغاً رهيباً،. نعم.. فنعمة هذا السراج الوهّاج لا يمكننا تعويضها بمال كل الأغنياء(1).
وقد قُدّر حجم الشمس بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف مرّة نسبة إلى حجم الكرة الأرضية، والفاصلة بين الشمس والأرض تقدر بحدود مائة وخمسين مليون كليومتر.. وأنّ حرارة الشمس الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية.. وتصل حرارتها الداخلية ما يقارب مليون درجة مئوية! وهذا النظام الموزون بحكمة بالغة، لمن الدقة بحال أنّه لو اختل قليلاً (زياة أو نقصان) لما أمكن للبشر أنْ يعيشوا على سطح الكرة الأرضية، ولا يسعنا المجال لنتطرق لمزيد من التفصيل والبيان حول هذا الموضوع.
1 ـ ورد في كتاب عالم النجوم من تأليف (آنتري وايت) حساباً للنور والحرارة الواصلين من الشمس إلى الأرض، يقول صاحب الكتاب: لو أردنا أنْ ندفع أُجوراً مقابل ما يصلنا من نور وحرارة الشمس مجاناً بما يساوي ما ندفعه من أُجور الكهرباء عادة، فعلى سكان الأرض أنْ يدفعوا لكل ساعة من النور والحرارة مليار وسبعمائة مليون دولار، وإذا حسبنا ما علينا أنْ ندفع خلال سنة واحدة فسنصل إلى رقم خيالي من الدولارات، وبهذا يظهر قيمة ما وهبنا الله تعالى من ثروة طائلة دون مقابل.
ويقول مؤلف كتاب (من العوالم البعيدة): إنّ أهل الأرض لو أرادوا الحصول على ما يصلهم من نور الشمس من مصابيح توضع في مكان الشمس للزم لكل منهم خمسة ملايين مليار مصباح ذو مائة واط.وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية أُخرى لها ارتباط بأشعة الشمس، ويقول: (وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً).
«المعصرات»: جمع «معصر»، من العصر بمعنى الضغط.. والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصراً لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار(1) (ينبغي ملاحظة أنّ «المعصرات» جاءت بصيغة اسم فاعل).
وفسّرها بعضهم بالغيوم المستعدة لإنزال الأمطار، باعتبار أنّ اسم الفاعل يأتي في بعض الأحيان بمعنى الإستعداد للقيام بعمل ما.
وقال بعض آخر: إنّ «المعصرات» ليست صفةً للغيوم، وإنّما للرياح التي تقوم بضغط وعصر الغيوم.
«الثجاج»: من الثج، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة، و«ثجاج» صيغة مبالغة، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.
وبالإضافة لكون المطر منبعاً لكثير من مصادر الخير والبركة، فهو: ملطف للجو، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة، مقلل لأسباب الأمراض، يمنح الإِنسان روحاً متجددة ونشاطاً، ومع كل ذلك.. فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد أُخرى له: (لنخرج به حباً ونباتاً).
(وجنّات ألفافاً).
يقول الراغب في مفرداته: «ألفافاً»: أيْ إلتفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر(2).
والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي تخرج من الأرض، فالحبوب الغذائية تشكل قسماً مهمّاً من المواد الغذائية
1 ـ يقول بعض العلماء: إنّ الغيوم حين تتراكم تخضع لنظام معين، حيث تقوم بعصر نفسها فتتساقط قطرات الأمطار منها، وهذا في واقعه يكشف عن إحدى المعاجز العلمية للقرآن في استعماله لهذا التعبير (راجع كتاب ـ الهواء والأمطار).
2 ـ (ألفاف): جمع لفيف ـ كما يقول كثير من أهل اللغة والتفسير ـ. وقال بعضهم: جمع لُف (بضم اللام). وقال بعض آخر: جمع لِف (بكسر اللام). وقال آخرون: هي جمع لا مفرد له.. ولكنّ المشهور هو القول الأوّل.
«حبّاً»، والخضر تشكل القسم الآخر «ونباتاً»، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث «وجنّات».
ولا تنحصر فوائد المطر بهذه الفوائد الثلاث المذكورة في هاتين الآيتين، فللماء دور أساسي وحيوي في عملية حياة الكائنات الحيّة، وعلى الأخص الإنسان، حيث أنّ الماء يشكل ما يقارب السبعين في المائة من بدنه، بل ويتعدى ذلك ليشمل كل كائن حيّ، كما يشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)(1).
وتتجاوز فوائد الماء حدود الكائن الحيّ لتشمل: المصانع، جمال الطبيعة، وأفضل الطرق التجارية والإقتصادية هي الطرق المائية.
* * *
أشارت الآيات المبحوثة إلى أهم العطايا الرّبانية والنعم الإلـهية والتي لها الدور المهم والأساس في الحياة البشرية: النور، الظلمة، الحرارة، الماء، التراب والنباتات.
وذكر نظام الكون على ما فيه من دقة موزونة ومحسوبة لدليل على قدرة الله عزَّوجلّ المطلقة من جهة، وبه يُسد كل ثغرات التساؤل عن قدرة الله على إحياء الموتى، وكما أجابت آخر سورة «يس» منكري المعاد بالقول: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أنْ يخلق مثلهم)(2).
1 ـ الأنبياء، الآية 30.
2 ـ سورة يس، الآية 81.
ومن جهة أُخرى أنّه لابدّ أن يكون لهذا الخلق العظيم من هدف، ولا يعقل أنْ يكون الهدف منه هو هذه الأيّام المعدودة لحياتنا الدنيا، إذ ليس من الحكمة أنْ يكون كل هذا الخلق وبما يحمل من أنظمة وعمليات من أجل الأكل والشرب والنوم وأمثال ذلك! بل لابدّ من وجوب هدف أسمى يتناسب وحكمة الباري جلّ شأنه، وبعبارة أُخرى.. ما النشأة الأُولى إلاّ تذكيراً للنشأة الآخرة: ومرحلة متقدمة، ومحطة تزود بالوقود وصولاً لغاية السفر المحتوم، وكما ينبهنا القرآن الكريم: (أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون)؟!(1).
وبعد ذلك.. فما النوم واليقظة إلاّ مثلاً للموت والحياة الجديدة، وما إحياء الأرض الميتة بنزول المطر ـ الشاخصة أمام أعين الناس على طول السنة ـ إلاّ توضيحاً لحالة المعاد، وإشارات مليئة بالمعاني ترمز إلى مسألة القيامة والحياة بعد الموت، كما جاء في سورة فاطر: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور)(2).
* * *
1 ـ المؤمنون، الآية 115.
2 ـ فاطر، الآية 9.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـتَاً(17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الْصُّورِ فَتَأَتُونَ أَفْوَاجاً(18) وَفُتِحَتِ الْسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً(19) وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً(20)
الآية الاُولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة...
(إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً)(1)
والتعبير بـ «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة، فسيحدث في ذلك اليوم:
فصل الحقّ عن الباطل.
فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.
فصل الوالدين عن أولادهم، والأخ عن أخيه...
و«الميقات»: من الوقت، الميعاد من الوعد، بمعنى الوقت المعين والمقرر، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت اللّه الحرام بـ «المواقيت» لأنّ
1 ـ استعمال (كان) في هذا المورد لبيان حتمية الوقوع لذلك اليوم.
الإجتماع فيها يكون في وقت معين.
ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم، فيقول: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً).
ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور).. ففي النفخة الاُولى سينهار كلّ عالم الوجود، ويخرّ ميتاً كلّ من في السموات والأرض، وفي النفخة الثّانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اُخرى، ليقول بعدها يوم القيامة.
«الصور»: بوق يستعمل لإعطاء إشارة التوقف أو الحركة للقوافل أو الكتائب العسكرية وما شابهها من الإستعمالات، وتختلف الإشارة بين المجاميع التي تستعمل البوق، كلّ حسب ما تعارف عليه.
واستعمل القرآن «الصور» ككنابة لطيفة للتعبير عن المحدثين العظيمين المذكورين أعلاه، وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثّانية، أي: نفخة القيام وإعادة الحياة(1).
ومع أنّ الآية أعلاه تقول: (فتأتون أفواجاً)، ولكنّ الآية (95) من سورة مريم تقول: (وكلهم آتية يوم القيامة فرداً)، والآية (71) من سورة الإسراء تقول: (يوم ندعو كلّ اُناس بإمامهم)، فكيف يمكن تخريج ذلك؟
يمكن جمع الآيات الثلاثة بلحاظ أنّ حشر الناس أفواجاً لا بعرض أنّ يتقدمهم إمام، وأمّا الحشر فرادى فبلحاظ ما ليوم القيامة من مواقف متعددة، حيث يمكن أن يكون ورود الناس في المواقف الاُولى على شكل أفواج مع أئمّتهم (سواء كانوا أئمّة هدى أم أئمّة ضلال)، وحينما يستقر بهم المآل سيقفون في ساحة العدل الإلهي على شكل فرادى، كما تنقل لنا الآية (21) من سورة (ق)
1 ـ تطرقنا لهذا الموضوع بشكل مفصل في ذيل الآية (68) من سورة الزمر، فراجع.
عن ذلك المشهد العظيم: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).
وثمّة احتمال آخر في معنى «فرداً»: هو انفصال الإنسان في ذلك اليوم عن أحبائه ومتعلقيه، ولا يكون معه يومئذ إلاّ ما كسبت يداه.
وتأتي الآية الاُخرى لتقول: (وفتحت السماء فكانت أبواباً).
فما الأبواب؟ وكيف تفتح؟
يقول البعض: إنّ المقصود بهذه الأبواب هي أبواب عالم الغيب تفتح على عالم الشهود، وتزول الحجب ويتصل عالم الملائكة بعالم الإنسان(1).
ويرى البعض الآخر أنّها تشير إلى ما ورد في آيات قرآنية اُخرى، من قبيل: (وإذا السماء انشقت)(2)، و(وإذا السماء انفطرت)(3).
فما سيحصل من أثر ذلك الإنشقاق والإنفطار وكأنّ النجوم والكرات السماوية أبواب تفتحت على مصراعيها.
وثمّة مَن يذهب إلى أنّها إشارة إلى عدم استطاعة الإنسان في هذه الدنيا من اختراق السماوات والسير فيها، وإن استطاع فبشكل محدود جدّاً وبصعوبة بالغة، وكأن أبواب السماء موصدة أمامه، ولكنّ حال يوم القيامة سيتغير تماماً، حيث ترى الإنسان يغوص في أعماق السماء بعد تحرره من ممسكات الأرض، وكان أبواب السماء قد تفتحت له.
وبعبارة اُخرى: إنّ السماوات والأرض ستتلاشى في ذلك اليوم ثمّ تتبدلان إلى سماء وأرض أخريين كما تشير الآية (48) من سورة إبراهيم لذلك: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) وعندها. ستفتح أبواب السماء أمام أهل الأرض، ويفتح الطريق للإنسان ليسلك الصالحون سبيل الجنّة فتفتح أبوابها لهم:
1 ـ تفسير الميزان، ج20، ذيل الآية المذكورة.
2 ـ الإنشقاق، 1.
3 ـ الإنفطار، 1.
(حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم)(1).
وحين يدخلون الجنّة يرد عليهم الملائكة للتهنئة: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب)(2)
وتتفتح أبواب جهنم للكافرين كذلك: (وسيق الذين كفروا إلى جهنّم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها)(3).
وبذلك يرد الإنسان حينها إلى عرصة واسعة كوسع السماوات والأرض: (وجنّة عرضها السماوات والأرض)(4).
وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق: (وسيّرت الجبال فكانت سارباً).
بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة، تبدأ حركتها من: (وتسير الجبال سيراً)(5).
ثمّ تُحمل وتُدك: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة)(6).
فتكون تلالاً من الرمال المتراكمة: (وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)(7).
فتصبح كأصواف منفوشة: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)(8).
فتتحول غباراً متناثراً في الفضاء: (وبست الجبال بسّاً فكانت هباءً
1 ـ الزمر، 73.
2 ـ الرعد، 23.
3 ـ الزمر، 71.
4 ـ آل عمران، 133.
5 ـ طور، 10.
6 ـ الحاقة، 14.
7 ـ المزمل، 14.
8 ـ القارعة، 5.
منبثاً)(1).
ولا يبقى منها أخيراً إلاّ الأثر، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة، وكأنّها يلوح في الاُفق، ويصبح سطح الأرض مستوياً بعد أن تُمحى الجبال من فوقها: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً)(2).
«السراب»: من (السرب).. هو الذهاب في طريق منحدر، فعندما يسير الإنسان بين المنحدرات في الصحراء، يتراءى له من بعيد تلألؤاً يطنّه ماءً، وما هو إلاّ إنكسار في الأشعة يسمى (السراب)، ثمّ اُطلقت كلمة السراب على كلّ ظاهر خالً من المحتوى.
وبهذا تكون الآية قد أشارت إلى بداية حركة الجبال ونهاية أمرها، فيما تعرضت بقية الآيات (التي ذكرناها) إلى المراحل المختلفة بين البداية والنهاية.
فإذا كانت عاقبة الجبال على ما لها من شموخ وصلابة ستنتهي إلى غبار متناثر في الفضاء وعلى صورة سراب، فما حال ذلك الإنسان الذي يتصور أنّه جبار شديد البطش عريك القوى، ولكنّه لا يستطيع أن يتحدى الجبل صلابة!... إنّه يوم القيامة...
ولكن.. هل أن هذه الحوادث تتعلق بالنفخة الاُولى للصور التي تحكي عن نهاية العالم، أم هي متعلقة بالنفخة الثّانية والتي تقوم القيامة بها؟!
بلا شك أنّ الآية: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً) تشير إلى نفخة الصور الثّانية، لانّها تحكي عن إحياء الأموات ومحبتهم في عرصة المحشر أفواجاً، وكذا الحال بالنسبة للحوادث المذكورة فإنّها متعلقة بنفخة الصور الثّانية، إلاّ أنّه من الممكن حمل بداية حركة الجبال على النفخة الاُولى، ونهاية (السراب) ستكون بعد النفخة الثّانية.
1 ـ الواقعة، 5 و 6.
2 ـ طه، 105 و 106.
ويحتمل أيضاً: إنّ كلّ ما تمرّ به الجبال من مراحل تتعلق بالنفخة الاُولى للصور، وقد ذُكرتا معاً لقرب الفاصلة الزمنية ما بين النفختين، وجرياً مع سياق بعض الآيات القرآنية التي تناولت حوادث النفختين معاً، كما جاء ذلك في سورتي التكوير والإنفطار.
ومن جميل التصوير القرآني وصفه للجبال بـ «الأوتاد» والأرض بـ «المهاد»، وتأتي الآيات لتخبر عن فناء الأرض التي هي مهد الإنسان بعدما تقتلع الجبال حينما ينفخ في الصور، ويتناسب هذا التصوير تماماً مع معارفنا، حيث أننا لو أخرجنا أوتاد أي شيء فمعنى ذلك حكمنا على ذلك الشيء بالإنهيار.
* * *
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً(21) لِّلطَّـغِينَ مَأباً(22) لَّـبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً(23) لاَّيَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شِرَاباً(24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً(25) جَزَآءً وِفَاقاً(26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً (27)وَكَذَّبُواْ بِأَيَـتِنَا كِذَّاباً(28) وَكُلَّ شَىء أَحْصَْينَـهُ كِتَـباً (29)فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلاَّ عَذَاباً(30)
بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسماً من حوادث يوم القيامة، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين، فيقول:
(إنّ جهنم كانت مرصاداً).
وهي: (للطاغين مآباً)(1).
1 ـ يوجد محذوف في الآية، والتقدير: (كانت للطاغين مآباً).
وأنّهم: (لابثين فيها أحقاباً).
«المرصاد»: اسم مكان يختفي فيه للمراقبة، ويقول الراغب في مفرداته: «المرصد» موضع الرصد، والمرصاد نحوه، لكن يقال للمكان الذي أُختص بالترصد.
وقيل: إنّه صيغة مبالغة، ويطلق على الذي يكمن كثراً للرصد، مثل «المعمار» الذي يكثر من البناء والعمران.
والمعنى الأوّل أشهر وأنسب، ولكن.. مَن سيقوم بعملية الرصد في جهنّم؟
قيل: هم وملائكة العذاب بدلالة الآية (71) من سورة مريم التي تحكي عن مرور جميع الناس صالحهم وطالحهم من جانب جهنّم أو من فوقها: (وإن منكم إلاّ واردها كان على ربّك حتماً مقصياً) وخلال ذلك المشهد تقوم ملائكة العذاب برصد أهل النّار والتقاتهم من بين الخلق!
وأمّا لو قلنا في تفسير الآية بأنّها (صيغة المبالغة) فسيكون جهنّم هي المرصاد للطاغين، وتقوم بعملية جذب أهل النّار إليها حال مرور الخلق واقترابهم منها. وعلى أية حال، فلا يستطيع أيّ من الطاغين من تخطي ذلك المعبر المحتوم، فإمّا أن تخطفه ملائكة العذاب أو تجذبه جهنّم.
«الماب»: هو محل الرجوع، ويأتي أحياناً بمعنى المنزل والمقر، وهو المقصود في هذه الآية.
و«الأحقاب»: جمع (حقب) على وزن (قفل)، بمعنى برهة زمانية غير معينة، وقد قدرها بعض بثمانين عاماً، وقيل سبعين، وقيل: أربعين عاماً.
وعلى أيّ من التقادير، فثمّة مدّة معينة للبقاء في جهنّم، وهو ما يتعارض مع ما جاء في آيات اُخر والتي تصرح بخلود أهل النّار في جهنّم، ولذلك سعى المفسّرون لإيجاد ما يوضح هذا الموضوع.
المعروف بين المفسّرين: إنّ المقصود بـ «الأحقاب» في الآية هو تلك
الفترات الزمانية الطويلة التي تتعاقب فيما بينها، المتسلسة بلا نهاية، فكلما تنتهي فترة تحل محلها اُخرى، وهكذا.
وقد جاء في إحدى الرّوايات... إنّ الآية جاءت في المذنبين من أهل الجنّة، الذين يقضون فترة في جهنّم يتطهّرون فيها ثمّ يدخلون الجنّة، وليست واردة في الكافرين المخلدين في النّار(1).
وتشير الآيات ـ بعد ذلك ـ إلى جانب صغير من عذاب جهنّم الأليم، بالقول: (لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً).
(إلاّ حميماً وغسّاقاً)، إلاّ ظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (43) من سورة الواقعة: (وظلّ من يحموم).
«الحميم»: هو الماء الحار جدّاً، و«الغسّاق»: هو ما يقطر من جلود أهل النّار من الصديد والقيح، وفسّرها بعضهم بالسوائل ذات الروائح الكريهة.
في حين أنّ أهل الجنّة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة، كما جاء في الآية (21) من سورة الدهر: (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً)، حتى الأواني التي يشربون بها وعلى ما لها من الرونق فهي مختومة بالمسك، كما أشارت لذلك الآية (26) من سورة المطففين: (ختامه مسك).. فانظر لعقبى الدارين!
ولكن، لِمَ هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية: إنّما هو: (جزاءً وفاقاً)(2).
ولِمَ لا يكون كذلك.. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى، فجزاهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.
وكما قلنا مراراً، إنّ الآيات القرآنية حينما تشير إلى عقوبات يوم القيامة، إنّما تطرحها كجزاء لما اقترفت أيدي الناس بظلمهم، كما نقرأ في الآية (7) من سورة
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص494، ح23 و 26.
2 ـ «جزاء»: مفعول مطلق لفعل محذوف تظهره قرينة الكلام، «وفاقاً»: صفة الجزاء، والتقدير: يجازيهم جزاءً ذا وفاق!
التحريم: (يا أيّها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنّكما تجزون ما كنتم تعلمون)، (حين تجسمت أعمالكم وحضرت أمامكم).
ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول: (إنّهم كانوا لا يرجون حساباً).
وبعبارة اُخرى: إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان، فيكون الطغيان سبباً لذلك الجزاء الأليم.
«لا يرجون»: من «الرجاء» ويأتي بمعنى «الأمل» وكذلك بمعنى «عدم الخوف»، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف في حال الأمل والإنتظار، وإلاّ لَم يخف.. فبين الأمرين تلازم، ولهذا فالذين ليس لديهم أمل ورجاء لا يحسون بخوف أيضاً.
«إنّ» في «إنّهم»: للتأكيد. و«كانوا»: للماضي المستمر. و«حساباً»: نكرة جاءت بعد نفي لتعطي معنى العموم.. وكل هذا البيان جاء ليبيّن أنّهم ما كانوا ينتظرون حساباً مطلقاً، وما كانوا يشعرون لاخوف من ذلك! وبعبارة اُخرى: إنّهم تناسوا حساباً يوم القيامة بالكلية: ولم يفرزوا له مكاناً في كلّ حياتهم! ولا جرم أنّ عاقبة أمرهم سيؤول إلى العذاب الأليم لما اقترفوه من جرائم عظمى وكبائر الذنوب.
ومباشرة يضيف القرآن القول: (وكذّبوا بآياتنا كذّاباً)(1).
فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات اللّه تكذيباً شديداً، وأنكروها إنكاراً قاطعاً ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم الغاربة.
وبما أنّ معنى «آياتنا» من الوسع بحيث يشمل كلّ آيات التوحيد والنبوّة والتكوين والتشريع ومعجزات الأنبياء والأحكام السنن، فعملية تكذيب كلّ هذه
1 ـ «كِذّاباً» ـ بكسر الكاف ـ: إحدى صيغ المصدر من باب التفعيل، بمعنى التكذيب، وقال بعض أهل اللغة: إنّه مصدر ثلاثي مجرّد معادل لكذب.. وعلى أية حال، فهو: مفعول مطلق لكذبوا، وجاء للتأكيد.
الأدلة الإلهية في عالم التكوين والتشريع، إنّما تستحق أشدّ العقوبات المخبر عنها في القرآن الكريم.
ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي، فيقول: (وكلّ شيء أحصيناه كتاباً)(1).
![]() |
![]() |
![]() |