«الطامة»: من (الطم) ـ على زنة فنّ ـ وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ


1 ـ يقول بعض المفسّرين، إنّ جواب الشرط في «إذا» الشرطية، يأتي في الآيات (فأمّا مَن طغى... وأمّا مَن خاف مقام ربّه...)ولكن الأفضل أن نقول: إنّ الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية، والتقدير: (فإذا جاءت الطامة الكبرى، يجز كلّ إنسان بما عمل)، وقيل: يستفاد جزاء الشرط من «يوم يتذكر الإنسان» ـ ولكنّه بعيد.

[396]

والحفر، ويطلق بالطامة على كلّ شيء بلغ حدّه الأعلى، ولهذا فقد اُطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كلّ هول، واُتبعت بـ «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف: حال حلول الحدث... سيفلت الجميع من نياط غفلتهم، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم: (يوم يتذكر الإنسان ما سعى).

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر، فسيقرعون بـ (كلاّ).

وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردّهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

وعندها: لا يبقى لهم إلاّ الحسرة والندامة، والهم والغم، وكما تقول الآية (27) من سورة الفرقان: (يوم يعضّ الطالم على يديه).

وثمّة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل «يتذكر»، فقد جاء الفعل مضارعاً ليدل على استمرارية التذكر، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب، وقد اُزيلت الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتشخص الآية التالية ما سيقع: (وبرزت الجحيم لمن يرى).

فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأمّا في يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كلّ شيء ولا يستثنى من ذلك جهنّم.

وجملة «لمن يرى»، تشير إلى رؤية جهنّم من قبل الجميع بلا استثناء (الصالح والطالح)، فهي غير خافية عن الأنظار.

[397]

وقيل: إنّها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة، لأنّ الآية (124) من سورة طه قد صرّحت بأنّ البعض سيحشر أعمى: (ونحشره يوم القيامة أعمى)، ويعتمد ستكون أكثر المفسّرين على التّفسير الأوّل لمناسبته للمقام، لأنّ رؤية جهنّم من قبل العاصين ستكون أكثر إيلاماً لهم، إضافة إلى أنّ العمى المشار إليه، ربّما يكون في موقف معين من مواقف يوم القيامة، وليس دائماً(1).

وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة: (فأمّا مَن طغى وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى)(2).

والآية الاُولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال اللّه يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، ما دام سلوكه يصب في رافد معرفة اللّه.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهماً لأنّ يجعلها فوق كلّ شيء!

والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط، ولا يجران إلاّ إلى سوء عقبى الدار، نار جهنّم خالدين فيها أبداً.

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، أنّه قال: «ومَنْ طغى ضل على عمل بلا حجّة»(3)، فالغرور يُرى صاحبه الهوى حقّ: على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو


1 ـ لزيادة التوضيح، راجع ذيل الآية (124) من سورة طه.

2 ـ تقدير الآية الثالثة مع محذوفها: (هي المأوى له) أو(هي مأواه)، وحذف الضمير لوضوحه.

3 ـ نور الثقلين، ج5، ص506، الحديث 43.

[398]

الحجّة، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنّة: (وأمّا مَنْ خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى).

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والإستقرار بها هو الخوف من اللّه من خلال معرفته (معرفة اللّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللّه، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد، ولذا فـ «أبغض إله عُبِدَ على وجه الأرض: الهوى».

وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان، نعم... فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه، ويفتح له أبواب الدخول، كما تشير إلى ذلك الآية (42) من سورة الحجر: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين).

* * *

ملاحظات

1 ـ مقام الرّب؟

جاء في الآية (40) (... مَنْ خاف مقام ربّه..)، ولم يقل (مَنْ خاف ربّه)،، فماذا يقصد بهذا المقام؟

طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور:

1 ـ المقام: مواقف القيامة، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربّه للحساب، فسيكون «مقام ربّه» ـ على ضوء هذا الإحتمال ـ بمعنى (مقامه عند ربّه).

[399]

2 ـ المقام: علم اللّه ومقام مراقبته للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورة الرعد: (أفَمَن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت).

وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): قوله: «مَن عَلِمَ أنّ اللّه يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم مِن خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(1).

3 ـ مقام العدالة الإلهية، لأنّ العبد لا يخاف من ذات اللّه المقدّسة بل خوفه من عدل اللّه حسابه وفي الحقيقة إنّ هذا الخوف ناشيء من قياس أعماله بميزان العدل، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتزّ دواخلهم حين رؤية القاضي العادل، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة، بعكس مَن لم يقم بأي ذنب، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات... ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة، ويمكن ادغامها في معنى الآية.

2 ـ علاقة الطغيان بعبادة الدنيا

رسمت الآيات المبحوثة وباُسلوب رائع اُصول سعادة وشقاء الإنسانية، فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا، وسعادته في خوفه من اللّه وتركه ما يُبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(2).

و... هوى النفس: يضع حجاباً على عقل الإنسان، يزيّن له الأعمال القبيحة،


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص197.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 42.

[400]

يُشغل الإنسان بنفسه، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم نعمة على الإنسان، وبها يتميزّ الإنسان عن الحيوان، وهذا هو ما أشارت إليه الآية (18) من سورة يوسف في وقول نبيّ اللّه يعقوب(عليه السلام) لأولاده: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً)

وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات، ولكننا سنكتفي بذكر حديثين عن أئمّة الهدى من أهل البيت(عليهم السلام)، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع:

فعن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دحل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النّار»(1).

وعن الإمام الصادق، أنّه قال: «لا تدع النفس وهواها، فإنّ هواها في رداها، وترك النفس وما تهوى داؤها، وكفّ النفس عمّا تهوى دواؤها»(2).

ولا يُدخِلَ اتباع الهوى جهنّم فقط، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة الدنيا، ومن نتائجه: فقدان الأمن، وتخلخل النظام، ونشوب الحروب، وسفك الدماء، وإثارة النزاعات والأحقاد...

3 ـ فريقان لا ثالث لهما

تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس، أمّا من طغى وعبد هواه فمأواه جهنّم خالداً فيها، وأمّا من اتقى وخاف مقام ربّه فالجنّة مأواه أبداً.

وثمّة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات، وهم المؤمنين الذين قصروا في أداء بعض الأعمال والوظائف، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء، فهؤلاء وإن كانوا فريقاً ثالثاً ـ حسب لظاهر ـ إلاّ أنّهم سرعان ما يلتحقون بأحد


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص507، الحديث 45.

2 ـ المصدر السابق، الحديث 46.

[401]

الفريقين، فأمّا مَن يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين، وأمّا مَن ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

[402]

الآيات

يَسئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـهَا(42) فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا(43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَـهَآ(44) إِنَّمَآ أَنْتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـهَا(45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـهَا(46)

التّفسير

يوم القيامة: الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة): فتقول أوّلاً: (يسألونك عن الساعة أيّان مرساها)(1).

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع


1 ـ جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدراً، على مالها من استعمال اُخرى، فتأتي تارة اسم زمان ومكان، وتارة اُخرى اسم مفعول من «الإرساء»، معناها المصدري هو: الوقوع والثبات، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض، وكقوله تعالى في الآية (41) من سورة هود: (وقال اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها)، والآية (32) من سورة النازعات: (والجبال أرساها).

[403]

القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها، ويقول: (فيم أنت من ذكراها).

فما خفِّي عليك (يامحمّد)، فمن باب أولى أن يُخفى على الآخرين، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه اللّه لنفسه، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقاً!

وكما قلنا، فسّرُ خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة، وبالمقابل ستكون التقوى اضطراراً والورع بعيداً عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اُخرى قد عرضها بعض المفسّرين، ومنها: إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضاً: إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما روي عن النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما جمع بين سبابتيه وقال: «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(1)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية: (إلى ربّك منتهاها).

فاللّه وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين: (34) من سورة لقمان:(إنّ اللّه عنده علم الساعة)، وفي الآية (187) من سورة الأعراف: (قل إنّما علمها عند ربّي).

وقيل: المراد بالآية، تحقق القيامة بأمر اللّه، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص29; وذكرت ذات الموضوع في: تفاسير (مجمع البيان)، (القرطبي)، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اُخرى، في ذيل الآية (18) من سورة محمّد.

[404]

ورد في الآية السابقة، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح: (إنّما أنت منذر مَن يخشاها).

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ، وإنذار مَنْ لا يأبى بعقاب اُخروي أليم، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب اللّه، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (2) من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين).

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياء(عليهم السلام).

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلاّ قليلاً: (كأنّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشيّة أو ضحاها).

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الإنقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلاّ سويعات معدودة!

وليس ببعيد... لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة»: العصر. و«الضحى»: وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في ويوم القيامة، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ..

فتقول الآية (103) من سورة طه: (يتخافتون بينهم إنْ لبثتم إلاّ عشراً)، و(يقول أمثلهم طريقة إنْ لبثتم إلاّ يوماً).

وتقول الآية (55) من سورة الروم: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما

[405]

لبثوا غير ساعة).

واختلاف تقديرات مدّة اللبث، يرجع لإختلاف القائلين، وكّل منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّاً ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللّهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث، الدنيا والبرزخ والقيامة...

ياربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلاّ مَنْ رحمته بلطفك، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك..

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى..

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

[406]

سُورَة عَبَسَ

مَكيَّة

وعدد آياتِها اثنتان وأربعون آية

«سورة عَبَسَ»

محتوى السورة:

تبحث هدذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

1 ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ باسلوب غير لائق.

2 ـ أهمية القرآن الكريم.

3 ـ كفران الإنسلان للنعم والمواهب الإلهية.

4 ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

5 ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الإسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة:

ورد في يالحديث النّبوي الشريف أنّ: «من قرأ سورة «عَبَسَ» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(1)


1 ـ تفسير مجمع البيان، ج10، ص435.

[410]

الآيات

عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَآءَهُ الأَعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب اللّه تعالى بشكل إجمالي، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق... أمّا مَن هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، ما يلي:

إنّها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّه، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في

[411]

نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.

وكان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»، ويقول له: «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(1).

والرأي الثّاني في شأن نزولها: ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه»(2).

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّ الآيات (8 ـ 10) في السورة يمكن أن تكون قرينة، حيث تقول: (وأمّا من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خير مَنْ ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل، بأنّ ما في آية (عبس وتولّى)لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة، وهو ليس من أخلاقه(صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة، بدلالة قول اللّه تعالى في الآية (4) من سورة (ن)، والتي نزلت قبل سورة عبس، حيث وصفه الباري: (وإنّك لعلى خلق عظيم).

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة،


1 ـ تفسير مجمع البيان، ج10، ص437.

2 ـ المصدر السابق.

[412]

وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد اللّه بن اُم مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...

ومن مكارم خلقه(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانيةً: إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول، هو نزولها في شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

[413]

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أولاً: (عبس وتولّى).

لماذا؟: (أن جاءه الأعمى).

(وما يدريك لعله يزّكّى)، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

(أو يذكر فتنفعه الذكرى)، فإن لم يحصل على التقوى،فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فتنفعه ذلك(1).

ويستمر العتاب...: (أمّا من استغنى)، مَنْ اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

(فأنت له تصدّى)، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر، كما أشارت لهذا الآيتان (6 و 7) من سورة العلق: (... إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).(2)

(وما عليك ألاّ تزّكّى)، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ اُولئك الأغنياء المتحجرين.


1 ـ والفرق بين الآية والتي قبلها، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة.