«عبس»: يعبس عبوساً، والعبوس الذي يقبض وجهه.

«بَسَر»: من (البسور) وتعني أحياناً العجلة في إتمام العمل الذي لو يحن حان وقته، وأحياناً بمعنى قبض الوجه وتغيره، والمعنى الثّاني يناسب العبس، وعلى المعنى الأوّل يكون إشارة إلى اتّخاذ القرار العاجل في الصاق ما لا يليق بالقرآن المجيد.

«يؤثر»: من (الأثر)، وهو ما يروى عن الماضين ممّا بقي من الآثار، وقيل من «الإيثار» بمعنى الترجيح والتقديم.

[170]

وممّا يؤيد المعنى الأوّل أنّ الوليد يقول: إنّه سحر يروى ويتعلم من السحرة.

وعلى المعنى الثّاني فإنّه يقول: سحر تؤثر حلاوته في قلوب الناس وبالتالي فإنّ الناس يرجحونه على غيره.

على كلّ حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة، فهو كلامٌ رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد، فإنّه ليس من كلام البشر، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله، وهذا ما دعا إليه القرآن كراراً، فلم يستطع أحدٌ من بلغاء العرب أن يأتي بمثله، بل سورة من مثله، وهذه هي معجزة.

* * *

[171]

الآيات

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَآ أَدْراكَ مَا سَقَرُ(27) لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ(28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ(29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)

التّفسير

المصير المشؤوم:

في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة، وكذب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول اللّه تعالى: (سأُصليه سقر).

«سقر»: في الأصل من «سقر» على وزن فقر، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس، هو من أحد أسماء جهنم، كثير ما ذكر في القرآن، واختيار هذا الإسم يشير إلى العذاب المهول لجهنّم الذي يلتهم أهلها، وقيل هي درك من دركاتها المهولة، ثمّ يبيّن عظمة وشدّة عذاب النّار فيقول: (وما أدراك ما سقر).

أي إنّ العذاب يكون شديداً إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور، ولا يخطر على بال أحد، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.

(لا تبقي ولا تذر).

قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنّم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت

[172]

بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها، وأمّا «سقر» فلا تدع أحداً ممن ألقي فيها إلاّ نالته واحتوئه بجميع وجوده، فهي نار شاملة تستوعب جميع من اُلقي فيها، وقيل: إنّ المعنى لا يموتون فيها ولا يحيون، أي يبقون بين الموت والحياة، كما جاء في الآية (13) من سورة الأعلى: (لا يموت فيها ولا يحيى).

أو أنّها لا تبقي على جسد شيئاً من العظام أو اللحم، فيتّضح أنّ مفهوم الآية أنّها لا تحرقهم تماماً، لأنّ هذا المعنى لا يتفق والآية (56) من سورة النساء حيث يقول تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب)

ثمّ ينتقل إلى بيان وصف آخر للنّار المحرقة فيضيف: (لواحة للبشر)(1).

إنّها تجعل الوجه مظلماً أسود أشدّ سواداً من الليل.

«بشر»: جمع بشرة، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة»: من مادة (لوح) وتعني أحياناً الظاهر، وأحياناً بمعنى التغيير، ويكون المعنى بمقتضى التّفسير الأوّل: (أنّ جهنم ظاهرة للعيان).

كما جاء في الآية (36) من سورة النّازعات: (وبرزت الجحيم لمن يرى)وبمقتضى التّفسير الثّاني يكون المعنى: أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى: (عليها تسعة عشر).(2)

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحم والشفقة، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة، وأمّا الآية الأُخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب، وقيل إنّها تشير إلى تسع عشرة مجموعة من الملائكة، وليس تسعة عشر نفراً، ودليل ذلك قوله تعالى: (وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو).


1 ـ لواحة: خبر مبتدأ محذوفة تقديره (هي لواحة).

2 ـ (عليها) خبر مقدم، وتسعة عشر مبتدأ مؤخر، وهي مبنية على الفتح، ولذا لم ترفع في الظاهر، وقيل إنّ سببه يتضمّن معنى واو العاطفة.

[173]

وأمّا عن سبب اختيار هذا العدد من ملائكة العذاب، فلا يدري أحد عن ذلك شيئاً، ولكن احتمل البعض أنّ المراد من ذلك هو لكونُ أكبر عدد للأحاد وأقل عدد للعشرات، وقيل لكون اُصول الأخلاق الرذيلة ترجع إلى 19 أصل ظاهرة وباطنة،

فلذا تكون كلّ رذيلة من الرّذائل عاملاً للعذاب الإلهي، وإنّ طبقات جهنّم هي تسع عشرة طبقة أي بعددها، ولكل طبقة ملك أو مجموعة من الملائكة مأمورين بالعذاب.

ومن المؤكّد أنّ الأُمور المرابطة بالقيامة والجنان والجحيم وجزئياتها وخصوصياتها غير واضحة لدينا تمام الوضوح، ونحن نعيش في هذا المحيط المحدود، والذي نعرفه إنّما يتعلق بكلياتها، لذا نجد في الرّوايات أنّ لهذه الملائكة قدرات عظيمة بحيث يمكن لكل ملك أت يقذف قبيلة كبيرة في جهنّم بسهولة، ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار اناس من قبيل أبي جهل، إذ أنّه لما سمع بالآية جاء مستهزئاً إلى قريش، وقال: ثكلتكم اُمهاتكم ألم تسمعوا ما يقوله ابن أبي كبشة (بعني بذلك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم))(1) يقول إنّ خزنة النّار تسعة عشر وأنتم الدّهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟!

فقال أبو الأسد الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين(2) لقد أراد السفهاء أن يطفئوا بهذه السخرية نور الحق، وأن يتخلصوا بذلك من الفناء المحتم.

* * *


1 ـ قال البعض في علّة تسمية قريش النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإسم، فقد قيل لوجود رجل يدعي أبو كبشة، وهو من خزاعة قد تنحى عن عبادة الأصنام في عصر الجاهلية، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حينئذ يعارض عبادة الأصنام بشدّة فنسبوا الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي كبشة، وقيل إنّ أبي كبشة أحد أجداد اُمّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن على كلّ حال لا شك في أنّهم أرادوا بذلك السخرية لأنّ الكبش في لغة العرب تستخدم في المدح ويسمّى بذلك الأبطال والقواد.

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص388، وتفاسير اُخرى.

[174]

ملاحظة:

ملائكة العذاب تسعة عشر:

هذه الآية تشير بوضوح إلى عدد خزنة جهنم بأنّهم تسعة عشر نفراً أو تسعة عشرة مجموعة، والآيات التي تليها تعتمد على هذا المعنى، ولكن العجب من أنّ بعض الفرق المنحرفة تصر على قدسية هذا العدد، وتسعى إلى أن تجعل من عدد شهور السنة وأيّام نظاماً يدور حول محور هذا العدد، بخلاف جميع الموازين الطبيعية والفلكية! وجعلوا أحكامهم العملية مطابقاً لذلك النظام، والأعجب من ذلك أنّ كاتباً من الكتاب يمكن أن تكون له علاقة بتنظيماتهم يصّر إصراراً عجيباً ومضحكاً على أن يجعل كل ما في القرآن موجّهٌ على أساس هذا العدد، وفي الموارد الكثيرة في القرآن التي لا تتفق مع هذا العدد المرغوب عنده يعمد إلى إضافة أو حذف ما يرغب فيه ليتفق مع ذلك العدد أو مع مضاربه، وإيراد مطاليبها والإجابة عليها يمكن أن تعتبر إتلافاً للوقت.

نعم فالمذهب الجهنمي يجب أن يدور حول عدد جهنمي، وجماعة جهنميون يجب أن يتوافقوا مع عدد ملائكة العذاب.

* * *

[175]

الآية

وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَبَ النَّارِ إِلاَّ مَلَـئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَـبَ وَيزْدَادَ الَّذِينَ اَمَنُوا إِيمَـناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَـبَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهـذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)

التّفسير

لِمَ هذا العدد من أصحاب النّار؟

ذكر اللّه سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفراً (أو مجموعة)، وكذا قرأنا أنّ ذكر هذا العدد صار سبباً للحديث بين أوساط المشركين والكفّار، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على اُولئك ليس أمراً صعباً، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد.

[176]

فيقول تعالى أوّلاً: (وما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة)(1).

ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ شداد قساة، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

ثمّ يضيف تعالى: (وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنة للذين كفروا).

وهذا الإختبار من وجهين:

أوّلاً: لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثّاني: أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم: لكل واحد منهم عشرةٌ منّا، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة اللّه وصفوا في القرآن بأنّ نفراً منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوط(عليه السلام) ويقلبون عليهم مدينتهم، مضافاً إلى ما اُشير إليه سابقاً حول اختيار عدد تسعة عشر لأصحاب النّار.

ثمّ يضيف تعالى أيضاً: (ليستيقن الذين اُوتوا الكتاب).

ورد في رواية أنّ جماعة من اليهود سألوا أحد أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن عدد خزنة النّار فقال: «اللّه ورسوله أعلم» فهبط جبرائيل(عليه السلام) على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالآية (عليها تسعة عشر).(2)

وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافقاً لما هو مذكور في كتبهم، وهذا مدعاة لإزدياد يقينهم بنبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وصار قبولهم هذا سبباً في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم.

لذا تضيف الآية في الفقرة الأُخرى: (ولا يزداد الذين آمنوا إيماناً).


1 ـ أصحاب النّار: ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين، إلاّ في هذا الموضع فإنّها بمعنى خزنة جهنم، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة «سقر» في الآيات السابقة تعني جهنّم بكاملها وليس قسماً خاصّاً منها.

2 ـ نقل هذا الحديث البيهقي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (تفسير المراغي، ج29، ص134).

[177]

ثمّ تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة، إذ يعتمد مجدداً على إيمان أهل الكتاب، ثمّ المؤمنين، ثمّ على اختبار الكفّار والمشركين، فيقول: (ولا يرتاب الذين اُتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً)(1).

وأمّا من يقصد به في قوله: (الذين في قلوبهم مرض) فقيل المراد منهم المنافقون، لأنّ هذا التعبير كثيراً ماورد فيهم في آيات القرآن كما هو في الآية (10) من سورة البقرة التي تتحدث حول المنافقين بقرينة الآيات السابقة لها واللاحقة حيث نقرأ: (في قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضاً) وبهذا الدليل تمسكوا بمدنية الآية السابقة، لأنّ المنافقين نشؤوا في المدينة عند اقتدار الإسلام وليس بمكة، ولكن تحقيق موارد ذكر هذه العبارة في القرآن الكريم يشير إلى أنّ هذه العبارة غير منحصرة بالمنافقين، بل اُطلقت على جميع الكفّار والمعاندين والمحاربين لآيات الحقّ، وعطفت أحياناً على المنافقين حيث يمكن أن يكون دليلاً على ثنائيتهم، فمثلاً نقرأ في الآية (49) من سورة الأنفال: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم) وكذا في الآيات الأُخرى، لذا ليس هناك دليل على نفي مكية الآية، خصوصاً لما من توافق وإرتباط كامل من الآيات السابقة لها والتي تشير بوضوح إلى مكيّتها.

ثمّ يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفّار الذين في قلوبهم مرض من كلام اللّه تعالى: فيقول تعالى: (كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء).

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض واضلال البعض الأخر ليس اعتباطاً، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم


1 ـ يجب الإلتفات إلى أنّ اللام في (ليستيقن) هي لام التعليل وفي (ليقول) لام العاقبة ويمكن أن يكون قد تكرر لهذا الدليل في حين لو كان بمعنى واحد لما كان هناك ضرورة للتكرار، وبعبارة اُخرى أن تيقن المؤمنين هو لإرادة وأمره، وأمّا حديث الكفّار فليس من إرادته وأمره تعالى شأنه، بل هو عاقبة هذا الأمر.

[178]

مرض لا يستحقون إلاّ الضلال، والمؤمنون والمسلّمون لأمر اللّه هم المستحقون للهدى.

ويقول في نهاية الآية: (وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذكرى للبشر).

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النّار، ليس لتحديد ملائكة اللّه تعالى، بل إنّهم كثيرون جدّاً أنّ الرّوايات تصفهم أنّهم يملؤون السموات والأرض، وليس هناك موضع قدم في العالم إلاّ وفيه ملك يسبح للّه!

واحتمل المفسّرون احتمالات عديدة في مَن يعود الضمير «هي»، فقيل: يعود على الجنود ومنهم خزنة النّار، وقيل: على سقر، وقيل: على آيات القرآن (السورة)، والقول الأوّل أنسب وأوجه، وإن كانت بقية الأقوال مدعاة للتذكر والإيقاظ والمعرفة، ولأنّ الأوّل يبيّن حقيقة أنّ اللّه تعالى إنّما اختار لنفسه ملائكة وأخبر عن عددهم ليكون ذكرى لمن يتعظ بها، لا لكونه غير قادر على معاقبة كل المذنبين والمعاندين.

* * *

ملاحظة:

عدد جنود الرّب!

حضور اللّه تعالى في كلّ مكان واتساع قدرته في العالم يفهمنا أنّ ذاته المقدّسة غير محتاجة لأي ناصر أو معين، لكنّه لإظهار عظمته للخلائق ولتكون ذكرى لمن يتعظ اختار ملائكة وجنوداً كثيرين مطيعين لأمره تعالى.

وقد ذكرت الرّوايات عبارات عجيبة حول كثرة وعظمة وقدرة جنود اللّه والسماع لهذه الأخبار يثير العجب والدهشة و لا تتفق مع مقاييسنا المتعارفة، ولذا نقنع بقراءة أوّل.

[179]

خطبة في نهج البلاغة للإمام علي(عليه السلام) حول هذا الموضوع حيث يقول(عليه السلام): «ثمّ فتق ما بين السموات العلا، فملأهن أطواراً من ملائكته، فهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، صافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولافترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لبعاده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر»

وكما قلنا سابقاً إنّ لكلمة (ملك) مفهوماً واسعاً حيث يشمل الملائكة الذين يملكون العقل والشعور والطاعة والتسليم، وكذلك كثير من عناصر وقوى عالم الوجود.

ولنا شرح مفصل حول هذا الموضوع في تفسير الآيات الأولى لسورة فاطر وما يليها.

* * *

[180]

الآيات

كَلاَّ وَالْقَمَرِ(32) وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33) وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ(34) إِنَّهَا لاَحْدَى الْكُبَرِ(35) نَذِيراً لّلْبَشَرِ(36) لِـمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)

التّفسير

استمراراً للبحث مع المنكريم لنبوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها، فيقول تعالى: (كلا والقمر).

«كلاّ»: حرف ردع وإنكار لما تقدم أو ردع لما سيأتي، ويعني هنا نفي تصور المشركين والمنكرين بجهنّم وعذابها، والساخرين بخزنة جهنّم بقرينة الآيات السابقة.

وأقسم باقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيّام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.

[181]

ثمّ يضيف: (والليل إذ أدبر)، (والصبح إذا أسفر).(1)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه، والليل وإن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل، ولكن الليل المظلم يكون جميلاً عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر، وطلوع الصبح المنهي لليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقاً في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنياً مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد)، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى: (إنّها لاحدى الكبر). (2)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر»، وإمّا يرجع إلى الجنود، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة، وأيّاً كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى: (نذير للبشر).(3)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفاً أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة، بل: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) فهنيئاً لمن يتقدم، وتعساً وترحاً لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه، وقيل هو تقدم النفس


1 ـ «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيهاً جميلاً لطلوع الشمس.

2 ـ «كبر»: جمع كبرى وهي كبيرة، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

3 ـ «نذيراً»: حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر، وقيل هو تمييز، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدراً يأتي بمعنى (الإنذار)، والمعنى الأوّل أوجه.

[182]

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان، دون الثّاني.

* * *

[183]

الآيات

كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلاَّ أَصْحَـبَ الْـيَمِينِ(39) فِى جَنَّـت يَتَسآءَلُونَ(40) عَنِ الْـمُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْدِّينِ(46) حَتَّى أَتَـنا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَـعَةُ الْشَّـفِعِينَ(48)

التّفسير

لِمَ صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالاً للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة، يضيف تعالى في هذه الآيات: (كلّ نفس بما كسبت رهينة).

«رهينة»: من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت، وإلاّ فهي باقية رهينة ومحبوسة دائماً، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

[184]

معانيها الملازمة والمصاحبة(1)، فيكون المعنى: الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة: (إلاّ أصحاب اليمين).

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(2)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين:

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنباً أبداً، وقيل هم الملائكة، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة، وما له شواهد قرآنية، فهم ذوو إيمان وعمل صالح، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم (إن الحسنات يذهبن السيئات)(3).

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (7): (فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً).

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقر(عليه السلام) فقال: «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(4)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور


1 ـ لسان العرب مادة: رهن.

2 ـ قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الإستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل، وهذا الإختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الإستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلاً.

3 ـ سورة هود، الآية 114.

4 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6878.

[185]

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلاً لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم:

(في جنّات يتساءلون(1) عن المجرمين ما سللكم في سقر).

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب المجرومون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها:

الاُولى: (قالوا لم نكُ من المصلين).

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة باللّه تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط اللّه المستقيم.

والأُخرى: (ولم نك نطعم المسكين).

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النّار، وهذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة: (وكنّا نخوض مع الخائضين).