![]() |
![]() |
![]() |
يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي:
1 ـ يأمر اللّه تعالى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلان الدعوة العلنية، ويأمر أن ينذر المشركين، وتمسك بالصبر والإستقامة في هذا الطريق والإستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.
2 ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.
3 - الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.
4 - التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.
5 ـ إرتباط عاقبة الإنسان بعمله، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.
6 - الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.
7 - كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأ سورة المدثر اُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(1).
وورد في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّاً على اللّه أن يجعله مع مجمّد في درجته، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبداً»(2)
وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب، بل لابدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفياً.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص383.
2 ـ المصدر السابق.
يأَيُّهَا الْمُدَّثِرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ(5) وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6) وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ(7) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)عَلَى الكَـفِرِينَ غَيرُ يَسِير(10)
لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أوّلاً: (يا أيّها المدثر قم فانذر) فلقد ولى زمن النوم الإستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ، وورد التصريح هنا بالانذار مع أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مبشرٌ ونذير، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصاً في بداية العمل.
وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثره(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته إلى القيام والنهوض.
1 ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤوساء منهم
كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باسم، ليصدوا الناس عنه، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحراً، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه، وكانت دعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتأثر واغتم لذلك، فأمر بالدثار وتدثر، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.
2 ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأُولى التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما نقله جابر بن عبد اللّه قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد، أنت رسول اللّه، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فملئت منه رعباً، فرجعت إلى خديجة وقلت: «دثروني دثروني، وأسكبوا عليّ الماء البارد»، فنزل جبرئيل بسورة: (يا أيّها المدّثر).
ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة تطرقت للدعوة العلنية، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة، إلاّ أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة، والآيات الاُخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.
3 ـ إنّ النّبي كان نائماً وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيل(عليه السلام) موقظاً إيّاه، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.
4 ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية، بل تلبسه(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.
5 ـ المراد به اعتزاله(صلى الله عليه وآله وسلم) وانزواؤه واتّخاذه الوحدة، ولهذا تقول الآية اخرج من العزلة والإنزواء، واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(1) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهراً.
ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه، وهذا يدل على العمومية، يعني انذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر...الخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاُخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.
ثم يعطي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر منهاجاً يحتذى به الآخرون، والأمر الأوّل هو في التوحيد، فيقول: (وربّك فكبر)(2).
ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك، وجميع ما عندك فمنه تعالى، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.
ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (اللّه أكبر) فقط، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات، بل المراد منهُ أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملاً، قولاً فعلاً وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب، ووصفه
1 ـ أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى إحتمالات أُخرى في تفسيره الكبير، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي، ج30، ص189 ـ 190).
2 ـ الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض، وقيل لمعنى الشرط، والمعنى هو: لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع، (يتعلق هذا القول بالآيات الاُخرى الآتية أيضاً).
بأوصاف الجمال، بل هو أكبر من أن يوصف، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في معنى اللّه أكبر: «اللّه أكبر من أن يوصف»، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.
ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف: (وثيابك فطهّر)، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه، وظاهره مبين لباطنه، وقيل المراد منه القلب والروح، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.
وقيل هو اللباس الظاهر، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة، خصوصاً في عصر الجاهلية حيث كان الإجتناب من النجاسة قليلاً وإن ملابسهم وسخة غالباً، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضاً) بحيث كان يُسحل على الأرض، وما ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام)في معنى أنّه: «ثيابك فقصر»(1)، ناظر إلى هذا المعنى.
وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)(2)، والجمع بين هذه المعاني ممكن، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر، هو النقاء والطهارة.
ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله: (والرّجز فاهجر) المفهوم الواسع للرجز كان سبباً لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة، فقيل: هو الأصنام، وقيل: المعاصي، وقيل: الأخلاق الرّذيلة الذميمة، وقيل: حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية، وقيل: كل ما يلهي
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص385.
2 ـ البقرة، 187.
عن ذكر اللّه.
والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الإضطراب والتزلزل(1) ثمّ اُطلق على كل أنواع الشرك، عبادة الأصنام، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان، فسّره البعض بالعذاب(2)، وقد اُطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.
وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالباً ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(3)، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(4).
وهذه المعاني الثلاثة، وإن كانت متفاوتة، ولكنّها مرتبطة بعصها بالآخر، وبالتالي فإنّ للآية مفهوماً جامعاً، وهو الإنحراف والعمل السيء، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللّه عزّوجلّ، والباعثة على سخز اللّه في الدنيا والآخرة، ومن المؤكّد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى اللّه، وليكون للناس اُسوة حسنة.
ويقول تعالى في الأمر الرّابع: (ولا تمنن تستكثر).
هنا التعلق محذوف أيضاً، ويدل على سعة المفهوم كليته، ويشمل المنّة على اللّه والخلائق، أي فلا تمنن على اللّه بسعيك واجتهادك، لأنّ اللّه تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.
ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصراً وقاصراً، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.
1 ـ مفردات الراغب.
2 ـ الميزان، في ظلال القرآن.
3 ـ راجع الآيات، 134 ـ 135 من سورة الاعراف، والآية 5 من سورة سبأ، والآية 11 من سورة الجاثية، والآية 59 من سورة البقرة، والآية162 من سورة الأعراف، والآية 34 من سورة العنكبوت.
4 ـ وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال، ج30، ص193.
وبعبارة أُخرى: لا تمنن على اللّه بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك للّه وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز، ولا تستعظم كل ذلك، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواءاً في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة، أو توقع عوض أكبر ممّا اُعطيت، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة: (يا أيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)(1).
«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الإستكثار، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة، فكيف إذن بالإستكثار، فإنّ الإمتنان يؤدي دائماً إلى الإستكثار، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى: «لا تعط تلتمس أكثر منها»(2) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)في تفسير الآية: «لا تستكثر ما عملت من خير للّه»(3) وهذا فرع من ذلك المفهوم.
ويشير في الآية الأُخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول: (ولربّك فصبر)، ونواجه هنا مفهوماً واسعاً عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء، أي اصبر في طريق أداء الرسالة، واصبر على أذى المشركين الجهلاء، واستقم في طريق عبودية اللّه وطاعته، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.
ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم
1 ـ البقرة، 264.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص454، وتفسير البرهان، ج4، ص400.
3 ـ المصدر السابق.
كراراً، ولهذا نقرأ في حديث أميرالمؤمنين(عليه السلام): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد»(1)، ولقد كان الصبر والإعتدال أحد الاُصول المهمّة لمناهج الأنبياء والمؤمنين. وكلما ازدادت عليهم المحن ازداد صبرهم.
ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال حول أجر الصابرين: «قال اللّه تعالى: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً».
ثمّ أنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين، توكّد مرّة اُخرى على الإنذار والتحذير، فيقول تعالى: (فإذا نقرّ في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير).
وردت احتمالات متعددة في تركيب هذه الجملة، أفضلها ما جاء في كتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) والذي يقول: (ذلك مبتدأ ويومئذ بدل ويوم عسير خبره)، والملاحظ أنّ (ناقور) هي في الأصل من نقر، ويعني الدق المؤدي إلى الإثقاب ومنها سمّي المنقار، وهو ما تمتلكه الطيور لدق الأشياء وثقبها، ولذلك يطلق اسم النّاقور على مزمار الذي يخرق صوته اُذن الإنسان وينفذ إلى دماغه.
ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ في نهاية الدنيا وبدء المعاد بنفخ في الصور مرّتين، أي أن له صوتين موحشين ومرعبين يملآن مسامع العالم بأسره، أوّلهما صوت الموت، والثّاني صوت اليقظة والحياة، ويعبر عنهما (نفخة الصور الاُولى) و (نفخة الصور الثّانية) وهذا الآية تشير إلى نفخة الصور الثّانية، والتي يكون معها
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، 82.
يوم البعث وهو يوم صعب وثقيل على الكفّار، ولقد كان لنا بحث مفصل حول الصور ونفخة الصور في ذيل الآية (68) من سورة الزمر.
على كل حال فإنّ الآيات المذكورة أعلاه تشير إلى حقيقة أنّ مشاكل الكفّار تظهر الواحدة بعد الأُخرى في يوم نفخة البعث، وهو يوم أليم ومفجع، ويركّع أقوى الناس.
* * *
ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12)وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لاَِيَتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17)
1 ـ اجتمعت قريش في دار الندوة فالتفت الوليد بن المغيرة إليهم، وكان الوليد شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب، وقال: وحدوا قولكم، فإنّ العرب يأتونكم من كل صوب ويسألونكم عمّا خفي عنهم لما عندكم من المنزلة السامية، ثمّ قال: ماذا تقولون في الرجل ـ وكان يعني رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قالوا: شاعر. فقبض الوليد وجهه، وقال إنّنا سمعنا الشعر وما هو شعر، قالوا: كاهن، قال: هل يصدر منه كلام الكهنة عند استماعكم إليه؟ هل يتحدث عن الغيب ؟ قالوا: مجنون. قال: لا يظهر عليه أثر الجنون. قالوا: ساحر: قال: كيف؟ قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فقال: بلى ـ لافتراق من كان يسلم عن جماعته، فتفرّقوا وصاروا يمرون برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)وينادونه يا ساحر يا ساحر، فسمع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك
واغتم لهذا الأمر، فنزلت بالآيات المذكورة في صدر السورة حتى الآية (25) لمواساة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقيل: لما نزلت عليه: (حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العذاب) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه مخزوم، فقال: واللّه، لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمُثْمَر وأنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى، ثمّ انصرف إلى منزله.
فقالت قريش: صبا ـ واللّه ـ الوليد، واللّه لتصبأنّ قريش كلّها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبوجهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما أراك حزيناً يا ابن أخي، قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك، ويزعمون أنّك مدحت كلام محمّد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال: أتزعمون أنّ محمّداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا: اللّهمّ لا.
قال: أتزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟ قالوا: اللّهم لا.
قال: أتزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللّهمّ لا.
قال: أتزعمون أنّه كذّاب، فهل جربتم على شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللّهمّ لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟! فتفكر في نفسه، ثمّ نظر وعبس، فقال: ما هو إلاّ ساحر، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحرٌ يؤثر(1).
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص386; نقل المفسّرون سبب النزول هذا مع الإختلاف البسيط كالقرطبي والمراغي والفخر الرازي في ظلال القرآن والميزان وغير ذلك.
تواصل هذه الآيات انذار الكفّار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام، وهذه تنذر أفراداً معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات، فيقول تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً)والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا، وهو من أقطاب قريش المشهورين و (وحيداً) يمكن أن يكون وصفاً للخالق جلّ شأنه، ويمكن أن يكون للمخلوق، وهناك احتمالان للمعنى الأوّل للوحيد.
الأوّل: ذرني وحيداً مع هذا الكافر لاُعذّبه عذاباً شديداً.
والآخر: دعني ومن خلقته حال كوني وحيداً لا يشاركني في خلقه أحد، ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير، ولا تحلّ بيني وبينه لكونه منكراً لنعمائي.
وأمّا المعنى الثّاني فهناك احتمالات أيضاً، فقد يكون المعنى: دعني ومن خلقته حال كونه وحيداً في بطن اُمّه وعند ولادته لا أموال عنده ولا أولاد، ثمّ وهبته من نعمائي.
أو أنّه سمّي نفسه بذلك كما في المقولة المشهورة: «أنا الوحيد ابن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي نظير(1)»! وذكر المعنى في الآية استهزاء بقوله وأحسن الوجوه الأربعة أوّلها.
ثمّ يضيف تعالى: (وجعلت له مالاً ممدوداً).
«الممدود»: يعني في الأصل المبسوط، ويشير إلى كثرة أمواله وحجمها.
وقيل: إنّ أمواله بلغت حدّاً من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكّة والطائف، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد، وله
1 ـ تفسير ذيل الآيات المذكورة للفخر الرازي، والكشاف والمراغي والقرطبي، ويستفاد من بين الرّوايات الواردة في معنى الوحيد أنّه ولد الزنا الذي ليس له أب، ولا قرينة للرّواية في تفسير الآية وليس لمعنى الرواية تناسب مع الآية.
مائة ألف دينار ذهب، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة «الممدود».
ثمّ أشار تعالى إلى قوته في قوله: (وبنين شهوداً).
إذا كانوا يعينونه على حياته، وحضورهم إنس وراحة له، وما كانوا مضطرين لأن يضربوا في الأرض طلباً للعيش، ويتركوا أباهم وحيداً، إذ كان له عشرة بنين كما في الرّوايات.
ثمّ يستطرد بذكر النعم التي وهبها له، يقول تعالى: (ومهدت له تمهيداً) ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب، بل أغدق عليه ما يريد من جاه وقوّة.
«التمهيد»: من (المهد) وهو ما يستخدم لنوم الطفل، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الاُمور. وفي المجموع له معان واسعة تشمل المواهب الحياتية والوسائل الحديثة والتوفيق.
ولكنّه كفر بما أنعم اللّه عليه وهو بذلك يريد المزيد: (ثمّ يطمع أن أزيد)، وليس هذا منحصراً بالوليد، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضاً، فلن يروى عطشهم مطلقاً، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.
والآية الأُخرى تردع الوليد بشدّة، يقول تعالى: (كلا إنّه كان لآياتنا عنيداً)ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس، بل متجذر في الفطرة، وله جاذبية خاصّة وأغصان مثمرة. فكان يعاند ويعتبر ذلك سحراً ومظهره ساحراً.
«العنيد»: من (العناد) وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة، أي أنّه يعلم بأحقّية الشيء ثمّ يخالفه عناداً، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.
والتعبير بـ (كان) يشير إلى مخالفته المستمرة والدائمة.
وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم بعبارات قصيرة وغنية في المعنى، فيقول تعالى: (سأرهقه صعوداً).
«ساُرهقه»: من (الإرهاف) وهو غشيان الشيء بالعنف، وتعني أيضاً فرض
العقوبات الصعبة، جاء بمعنى الإبتلاء بأنواع العذاب، والصعود، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب، ويستعمل في العمل الشاق، إذا يشق صعود الجبل، ولذا فسّر البعض ذلك بالعذاب الإلهي، وقيل هو جبل في النار يصعد فيه الكافر عنفاً ثمّ يهوي، وهو كذلك فيه أبداً.
ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة، فقد ذكر التاريخ عنه أنّه بلغ ذروة الجاه والرفاه في حياته، ثمّ عاقبه اللّه تعالى بنقصان ماله وولده حتى هلك(1).
* * *
1 ـ تفسير المراغي، ج29، ص131.
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)فَقَالَ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَـذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25)
في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه اللّه المال والبنين وخالف بذلك رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي الوليد بن المغيرة، يقول تعالى: (إنّه فكر وقدّر).
لا بأس بالتفكير، وهو حسن، ولكن يشترط أن يكون في طريق الحق، وتفكر ساعة أفضل من عبادة أو عمرٌ بكامله، لما يمكن أن يتغير مصير الإنسان فيها، وأمّا إذا كان التفكر في طريق الكفر والفساد فهو مذموم، وتفكر «الوليد» كان من هذه النوع.
«قدّر»: من التقدير، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه، ثمّ يضيف في مذمته: (فقتل كيف قدّر) بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف: (ثمّ قتل كيف قدّر)وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما
يقذف به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما سمّوه بالشاعر لم يقبل بذلك، فقالوا: كاهن فلم يقبل، قالوا: مجنون فرفض، فقالوا: ساحر، قال: بلى، وذلك لمخالفتهم فكرة السحر الذي كان يفرق بين المرء وأهله، أو يجمع الواحد والآخر، وإنّما ظهر ذلك في عصر الإسلام، قد عبّر القرآن عن هذه الحالة التي حدثت عند الوليد بتعبير مختصر وبليغ لمطالعته للأمر وتفكره، ثمّ تقديره لذلك وإن كان أصل الإقتراح من قريش، وعلى كل حال فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني، ولذا كانت شدّة تفكره سبباً للتعجب.
بعدئذ يضيف اللّه تعالى: (ثمّ نظر)، أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه: (ثمّ عبس وبسر ثمّ أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلاّ سحر يؤثر، إن هذا إلاّ قول البشر)، بهذه الأقوال يظهر عداءه للقرآن المجيد، وذلك بعد تفكره الشيطاني، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري، وإذا أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب، وسحر القرآن الذي يسحر القلوب كما في قولته، وما كان للقرآن من شبه بسحر الساحرين، بل إنّه كلام منطقي وموزون، وهذا هو دليل على نزول الوحي به، وليس هو بكلام البشر، بل صدر من عالم ما وراء الطبيعة من علم اللّه اللامتناهي، الذي جمع في انسجامه واستحكامه كلّ المحاسن.
![]() |
![]() |
![]() |