[1]

الأَمْثَلُ

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد التَّاسع عَشَر

سُورَة المَعَارِج

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتُهَا أربَعَ وَأربَعُونَ آية

«سورة المعارج»

محتوى سورة:

المعروف بين المفسّرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية، وعلى أساس ما ينقله (فهرست ابن النديم) و (كتاب نظم الدرر) و (تناسق الآيات والسور) المطابق لما نقله (تاريخ القرآن) لأبي عبد اللّه الزنجاني أنّ هذه السورة هي السورة السابعة والسبعون والتي نزلت في مكّة.

ولكن هذا ا يتنافى مع كون بعض آياتها مدنية، وهذا ليس منحصراً في سورة المعارج، فإنّ كثيراً من سور القرآن الكريم هي مكّية ولكنّها تحوي على آية أو آيات مدنية في نفس الوقت، وبالعكس بعض السور المدنية تحوي على آيات مكّية.

ولقد نقل العلاّمة الأميني(رحمه الله) نماذج كثيرة من هذا الموضوع في كتابه (الغدير)، وهناك روايات كثيرة سوف يأتي ذكرها بعد إن شاء اللّه تدل على أنّ الآيات الأُولى من هذه السورة هي آيات مدنية.

على أية حال فإنّ خصوصيات السور المكّية كالبحث حول اُصول الدين وخاصّة المعاد وإنذار المشركين والمخالفين، وهذه الخصوصيات واضحة جدّاً في هذه السورة، وعلى هذا فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام:

القسم الأوّل: يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لو كان هذا القول حقّاً فلينزل عليّ العذاب. فنزل (الآية 1 ـ 3).

القسم الثّاني: ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات

[6]

الكفار في ذلك اليوم.

القسم الثّالث: توضح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النّار.

القسم الرّابع: يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى بذلك السورة.

فضيلة هذه السورة:

نقرأ في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأ (سأل سائل) أعطاه اللّه ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون»

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام): «من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله وأسكنه جنّته مع محمّد». ونقل مثله عن الإمام الصّادق(عليه السلام).

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثّواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة، وثمّ يقترن ذلك بالعمل، لا أن يقرأ الآيات والسور من دون أن تؤثر في روحه وفكره وعمله شيئاً.

* * *

[7]

الآيات

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَاب وَاقِع(1) لِّلْكَفِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)مِّنَ اللّهِ ذِى الْمَعَارِجِ(3)

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسّرين وأصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه الآية وحاصلها: أنّه عندما نصّب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً(عليه السلام) في يوم (غدير خم) قال في حقّه: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» ولم ينقضِ مدّة حتى انتشر ذلك في البلاد والمدن، فقدم النعمان بن حارث الفهري على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه، وأمرتنا بالجهاد والحج والصّوم والصّلاة والزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعليٌ مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه.

فقال: «واللّه، والذي لا إله إلاّ هو إنّ هذا من اللّه» فولى النعمان بن حارث وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله وأنزل اللّه تعالى (سأل سائل بعذاب واقع)وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان بإسناده إلى أبي عبد اللّه الصّادق(عليه السلام)(1).


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص352.

[8]

هذا المعني مروي عن كثير من المفسّرين من العامّة، فقد نقل رواة الحديث هذا المعنى بشيء من الإختلاف البسيط.

وينقل «العلاّمة الأميني» ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالماً مشهوراً من أهل السنّة (مع ذكر السند والنّص) ومن ذلك:

تفسير غريب القرآن (للحافظ أبي عبيد الهروي).

تفسير شفاء الصدور (لأبي بكر النقاشي الموصلي).

تفسير الكشف والبيان (لأبي اسحاق الثعالبي).

تفسير أبي بكر يحيى (القرطبي).

تذكرة أبو اسحاق (الثعلبي).

كتاب فرائد السمطين (للحمويني).

كتاب درر السمطين (للشّيخ محمّد الزرندي).

كتاب السراج المنير (لشمس الدين الشّافعي).

كتاب (سيرة الحلبي).

كتاب نور الأبصار (للسّيد مؤمن الشبلنجي).

وكتاب شرح الجامع الصّغير للسيوطي من (شمس الدين الشّافعي وغير ذلك.(1)

وفي كثير من هذه الكتب علم ورد أنّ هذه الآيات قد نزلت بهذا الشأن، وبالطبع هناك اختلاف بشأن الحارث بن النعمان أو جابر بن نذر أو النعمان بن حارث الفهري، ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا يؤثر في أصل المطلب.

بالطبع أنّ بعض المفسّرين أو المحدّثين بفضائل الإمام علي(عليه السلام) من أهل السنّة يتقبلون ذلك، ولكن على مضض وعدم ارتياح، وتمسكوا بإشكالات


1 ـ الغدير، ج1، ص239 ـ 246.

[9]

مختلفة على سبب نزول الآية، وسنوضح في نهاية المطاف بإذن اللّه بحثاً تفسيرياً عن هذا الموصوع.

* * *

التّفسير

العذاب العاجل:

من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول: (سأل سائل بعذاب واقع)، هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث وكان هذا بمجرّد تعيين الإمام علي(عليه السلام) خليفة ووليّاً في (غدير خم) وانتشار هذا الخبر في البلاد، حيث رجع مغتاظاً إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل هذا منك أم من عند اللّه؟ فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مصرّحاً: «من عند اللّه»، فإزداد غيظة وقال: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه اللّه بحجارة من السماء فقتله.(1)

هناك تفسير آخر أعم من هذا التّفسير وأعم منه، وهو أنّ سائل سأله لمن هذا العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الاُخرى: (للكافرين ليس له دافع).

وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والذي دعا على الكافرين بالعذاب فنزل.

ولكن مع أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة للآية فإنّه منطبق تماماً على روايات سبب النزول.

ثمّ يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم:


1 ـ الباء في (بعذاب واقع) حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن)، وهذا ممّا يطابق التّفسير الثّاني (يجب الألتفات إلى أنّ السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الإستفسار يكون مفعوله الثّاني مع (عن).

[10]

(للكافرين ليس له دافع).(1)

وتصف الآية الاُخرى من ينزل العذاب منه، وهو اللّه ذي المعارج فتقول الآية: (من اللّه ذي المعارج)، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعرج» جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون، إذ أنّ اللّه جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج، وقد وصف اللّه تعالى بذي المعارج.

نعم، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفّار والمجرمين، والذين هبطوا على إبراهيم(عليه السلام)، وأخبروه بأنّهم قد أُمروا بإبادة قوم لوط، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد أُولئك القوم الفاسقين رأساً على عقب.

وهم الذين أُمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.

وقيل المراد بـ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية، وقيل المراد بها (الملائكة)، ولكن المعنى الأوّل هو أنسب، وهو ملائم للمفهوم اللّغوي.

* * *

ملاحظة:

إشكالات المعاندين الواهية!

كثيراً ما نرى في مورد الآيات أو الرّوايات التي تذكر فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) إصرار البعض إلى حدّ ما في أن يغضّ النظر عنها، أو يقوم بتوجيهها توجيهاً محرّفاً ويدقق في أمرها بوسوسة بالغة، في حين أنّ هذه الفضائل لو كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة وبساطة.

النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في


1 ـ (واقع) صفة للعذاب و(للكافرين) صفة ثانية و(ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن (الكافرين) له علاقة بـ (العذاب) وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنّها ستتعلق بـ (واقع).

[11]

كتابه (منهاج السنّة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة وهي:

1 ـ حديث قصّة يوم الغدير بعد رجوع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة، في حين أنّ السورة المعارج من السور المكّية وقد نزلت قبل الهجرة.

الجواب: كما بيّنا من قبل فإنّ كثيراً من السور تسمّى مكّية في حين أنّ بعض آياتها مدنية كما يقول المفسّرون، وبالعكس فإنّ هناك سوراً مدنية نزلت بعض آياتها في مكّة.

2 ـ جاء في الحديث أنّ (الحارث بن النعمان) حضر عند النّبي في (الأبطح)، والمعروف أنّ (الأبطح)، واد في مكّة، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير.

الجواب: إنّ كلمة الأبطح وردت في بعض الرّوايات، لا كلّ الرّوايات، كما أنّ الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول، وكذلك هناك مناطق في المدينة تسمّى بالأبطح والبطحاء، وقد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم وأشعارهم.

3 ـ المشهور أنّ آية: (وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا و الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء)

الجواب: ليس منّا من يقول: إنّ حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية، بل الحديث هو في آية: (سأل سائل بعذاب واقع) وأمّا الآية (33) من سورة الأنفال فهي أنّ الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه، وهذا لا يرتبط بأسباب النزول، ولكن العصبية المفرطة تجعل الانسان غافلاً عن هذا الموضوع الواضح.

4 - يقول القرآن المجيد: (وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون) الأنفال الآية (33)، تقول الآية: لم ينزل العذاب أبداً ما دام الرسول فيهم.

[12]

الجواب: المعروف أنّ العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأُمّة لأجل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا العذاب الخاص والفردي فقد نزل مراراً على بعض الأفراد، والتاريخ الإسلامي شاهد على أنّ أُناساً معدودين مثل «أبي زمعة» و«مالك بن طلالة» و«الحكم بن أبي العاص» وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لهم أو بدون ذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الآية السالفة لها تفاسير أُخرى، وطبقاً لذلك فإنّ لا يمكن الإستدلال بها في المكان (راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية 33 الأنفال).

5 ـ إذا كان سبب النزول هذا صحيحاً فلابدّ أن يكون معروفاً كقصّة أصحاب الفيل؟

الجواب: إنّ سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور، كما أشرنا من قبل، إلى حدّ ألّف فيه ثلاثون كتاباً من كتب التّفسير والحديث، والعجيب بعدئذ أن نتوقع من حادثة خاصّة أن تعطي انعكاساً وأثراً كقصّة أصحاب الفيل، في حين أنّ تلك القصّة كانت لها صفة عامّة، وقد استولت على أنحاء مكّة، واُبيدت فيها جيوش كبيرة، وأمّا قصّة الحارث بن النعمان، فإنّها كانت تخصّ فرداً واحداً فقط!.

6 ـ ما يستفاد من هذا الحديث هو أنّ الحارث بن النعمان كان معتقداً باُسس واُصول الإسلام، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبتلى بمثل هذا العذاب؟

الجواب: هذا الإحتجاج ناشيء أيضاً من التعصب الأعمى، لأنّ الأحاديث المذكورة سلفاً تشير إلى أنّه لم ينكر نبوةّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، بل أنّه أنكر حتى الشهادة بالوحدانية، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ علي(عليه السلام) وهذا يدل على أشدّ مراحل الكفر والإرتداد.

7 ـ لا نجد إسماً للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالإستيعاب الذي جاء فيه ذكر الصحابة.

[13]

الجواب: ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم من الصحابة، فمثلاً في كتاب (اُسد الغابة) الذي يعدّ من أهم الكتب وفيه يذكر أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عدّ منهم فقط سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابياً، في حين أننا نعلم أنّ الجمع الذي كان حاضراً عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع مائة ألف أو يزيدون، وممّا لا شك فيه أنّ كثيراً من أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يأت ذكرهم في هذه الكتب.

* * *

[14]

الآيات

تَعْرُجُ الْمَلَـئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة(4) فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدَاً(6)وَنَرَاهُ قَرِيباً(7)

التّفسير

يوم مقداره خمسين ألف سنة:

بعد إيراد قصّة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الأُخروي للمجرمين في ذلك اليوم.

في البداية يقول تعالى: (تعرج الملائكة والرّوح إليه ـ أي إلى اللّه ـ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي، وليس العروج الجسمي، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لإستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة، وكما قلنا سابقاً في تفسير الآية (17) من سورة الحاقة من أنّ المراد من الآية (والملك على أرجائها) هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ ما

[15]

يأمرون(1).

والمراد بالرّوح هو (الرّوح الأمين) وهو أكبر الملائكة، وهذا ما اُشير إليه أيضاً في سورة القدر حيث يقول تعالى: (تنزل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر) ومن الطبيعي أنّ الرّوح لها معان مختلفة بحسب تتناسب مع القرائن الموجودة، فمن الممكن أن يعطي في كلّ موضوع معنى خاص، والرّوح يراد به روح الإنسان، وكذا يراد منه القرآن، وبمعنى روح القدس، وبمعنى ملك الوحي، كلّ ذلك من معاني الرّوح، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القران.

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدينا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدينا، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (5) من سورة السجدة من إنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة، ولأجل ذلك ذكر في الرّوايات أنّ ليوم القيامة خمسين موقفاً، وكلّ موقف منه يطول بمقدار ألف سنة.(2)

واحتمل البعض أيضاً أنّ هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد، أي أنّ ذلك اليوم طويل جدّاً.

على أيّ حال فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار، ولهذا روي في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه سأل سائل من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال: «والذي نفس محمّد بيده إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدينا»(3).


1 ـ وردت تفاسير اُخرى لعروج الملائكة لا يمكن الإعتماد على أيّ منها ومن ذلك: المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي تليها تدلّ على أنّ الحديث يخصّ يوم القيامة ولا يخصّ الدّينا (فتدبّر).

2 ـ نقل هذا الحديث في أمالي الشّيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين، ج5، ص413.

3 ـ مجمع البيان، ج10، ص353، والقرطبي، ج10، ص6761.

[16]

ثمّ يخاطب اللّه تعالى رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الأُخرى ويقول: (فاصبر صبراً جميلاً).

المراد بـ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلاً.(1)

ثمّ يضيف: (إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم، وذلك في اليوم مقداره خمسون ألف سنة، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا اللّه وفي قلوبهم ريب بقدرة اللّه.

إنّهم يقولون: كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب وصوب ثمّ يردّ إلى الحياة؟ (وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته) ثمّ كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.

الطريف أنّ العلم الحاضر يقول: إنّ مقدار كلّ يوم في أي من الأجرام السماوية يختلف عن بعضها الآخر، لأنّ دوران الجرم السماوي حول نفسه مرّة واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة، ولهذا فإنّ اليوم فِي القمر بمقدرا اسبوعين على ما هو في الأرض، حتى أنّهم يقولون: يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات السنين، ونحن لا نقول، إنّ الزمان في يوم القيامة كذلك ، بل نقول إن اليوم الذي يبلغ مقداره خمسين ألف سنة، ليس عجيباً في مقاييس عالم الدنيا.

* * *


1 ـ بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل، ج7 (من الطبعة العربية) في قصّة النّبي يعقوب ويوسف(عليهما السلام).

[17]

الآيات

يَوْمَ تَكُونُ الَّسمَآءُ كَالْمُهْلِ(8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(9) وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً(10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الُْمجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذ بِبَنِيهِ(11) وَصـحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُؤِيهِ(13) وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14)كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى(15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى(16) تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)وَجَمَعَ فَأَوْعَى(18)

التّفسير

تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث يقول اللّه تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل)(1)، (وتكون الجبال كالعهن).

«المهل»: على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما، ويراد له أحياناً دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون، وهذا هو ما


1 ـ لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب، ولكن الأفضل أن يكون بدلاً من (قريباً) في الآية السابقة أو متعلقاً بفعل محذوف مثل (اذكر).

[18]

يناسب المعنى الأوّل، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.

«العهن»: مطلق الصوف المصبوغ ألوناً.

نعم، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.

وعندما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيراً ومرعباً بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه: (ولا يسأل حميم حميماً)(1).

الكلّ مشغول بنفسه، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (37): (لكلّ اُمريء منهم يومئذ شأن يغنيه)(2).

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضاً، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى: (يبصرونهم)(3)، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.

وإكمالاً للحديث وتوضيحاً لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه).

وليس ببنيه فحسب بل، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضاً (وصاحبته وأخيه).

(وفصيلته التي تؤيه) أي عشيرته واقرباءه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا:


1 ـ «الحميم»: تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اُطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

2 ـ وردت تفاسير اُخرى، منها: لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم، وإذا كانت ظاهرة  فلا مبرر للسؤال، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية، مسؤولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.

3 ـ مع أنّ «حميم» قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد، فقد جاء في «يبصرونهم» ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنىً جنسي.

[19]

(ومن في الأرض جميعاً ثمّ ينجيه).

نعم، إنّ عذاب اللّه شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الأنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع: «الأولاد، الزوجات، الإخون، عشيرته الأقربون الناصرون له» فيضحي بهم لخلاص نفسه، وليس فقط اُولئك بل إنّه مستعد للإفتداء بمن في الأرض جميعاً لينجي نفسه!

«يود»: من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى، ويقول الراغب: يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الإثنان معاً).

«يفتدي»: من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.

«الفصيلة»: هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه»:من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في (ثمّ ينجيه) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الإفتداء لا ينفع شيئاً، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).