[72]

ينتسب إلى حام يقطن في القارة الإفريفية، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط والأقصى، وأمّا المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون الصين، وقيل أنّ المدّة التي عاشها بعد الطوفان 50 عاماً، وقيل 60 عاماً.

وورد بحث مفصل عن حياة نوح(عليه السلام) في التوراة المتواجد حالياً، إلاّ أنّ هناك اختلافاً كبيراً بينه وبين القرآن المجيد، وهذا الإختلاف يدل على تحريف التوراة، وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 من سفر التكوين للتوراة.

وكان لنوح(عليه السلام) ابن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفاً لأبيه، إذ رفض الإلتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الإنتساب إلى بيت النبوّة، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفّار، وأمّا عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل 70 نفراً، وقيل 7 أنفار، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصّة نوح(عليه السلام) في لأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة.(1)

كان نوح(عليه السلام) اُسطورة للصبر والمقاومة، وقيل هو أوّل من استعان بالعقل والإستدلال المنطقي في هداية البشر، بالإضافة الى منطق الوحي (كما هو واضح من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.

وننهي ما وضحناه عن نوح(عليه السلام) بحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ قال: «كان نوح(عليه السلام) يدعو حين يمسي ويصح بهذا الدعاء: «أمسيت أشهد أنّه ما أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فإنّها من اللّه لا شريك له، له الحمد بها عليّ والشكر كثيراً، فأنزل اللّه: (إنّه كان عبداً شكوراً) فهذا كان شكره».(2)

في قوله تعالى: (ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً...) قيل في معني البيت هنا هو بيته الخاص، وقيل المسجد، وقيل سفينة نوح، وقيل هو دينه وشريعته.


1 ـ بحار الأنوار، ج11.

2 ـ بحار الأنوار، ج11، ص291، ح3.

[73]

وورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء».(1)

اللّهمّ ارحمنا بقبول ولاية أهل البيت(عليهم السلام) حتى ندخل بيت الأنبياء.

ربّنا، مُنّ علينا بالإستقامة كما مننت على الأنبياء كنوح(عليه السلام) لنبقى دعاة إلى دينك بلا تقاعس.

اللّهم، نجّنا بسفينة نجاة لطفك ورحمتك عند نزول الطوفان غضبك وسخطك.

آمين يا ربّ العاليمن

نهاية سورة نوح(عليه السلام)

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص429.

سُورَة الجِنّ

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثَمان وَعشرُون آية

«سورة الجن»

محتوى السورة:

تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا، وهم الجن، كما سمّيت السورة باسمهم، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك، وفي هذا القسم من السورة (19) آية من (28) آية تصحح ما حُرّف من معتقدات حول الجن، وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد، والقسم الأخير يتحدث عن علم الذي لا يعلمه إلاّ ما شاء للّه.

فضيلة سورة الجن:

ورد في حديث عن الرّسول الأكرم: «من قرأ سورة الجن اُعطي بعدد كلّ جني وشيطان صدق بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وكذّب به عتق رقبة».(1)

وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «من أكثر قراءة (قل اُوحي) لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم، ولا كيدهم، وكان مع محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: ياربّ، لا اُريد منه بدلاً، ولا أبغي عنه حولاً».

وطبعاً التلاوة مقدّمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها، ثمّ العمل بما فيها.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص365.

[78]

الآيات

قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً(1) يَهْدِى إِلَى الْرُّشْدِ فَأمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً(2) وَأَنَّهُ تَعَـلَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَـحِبَةً وَلاَ وَلَداً (3)وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً(4) وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَال مِّنَ الْجِنَّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29 ـ 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي:

1 ـ انطلق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن، وبقي فيه ليلاً وهو يقرأ القرآن، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا

[79]

يدعون قومهم إليه.(1)

2 ـ عن ابن عباس قال: كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منشغلاً بصلاة الصبح، وكان يقرأ فيها القرآن، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء، فقالوا: هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.(2)

3 ـ بعد وفاة أبي طالب(عليه السلام) اشتدّ الأمر برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه، ويرمونه بالحجارة حتى اُدميت قدماه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتجأ متعباً إلى ضيعة من الضياع، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه «عداس»، فآمن بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ رجع إلى مكّة ليلاً وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به(3).

وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن المسعود: من كان منكم مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أو استطير، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء، فقلنا: يارسول اللّه، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: «إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن»(4).

* * *


1 ـ تفسير علي بن ابراهيم على ما نقله تفسير نور الثقلين، ج5، ص19 (مع الإختصار).

2 ـ صحيح البخاري، مسلم، ومسند طبقاً لما نقله صاحب (في ظلال القرآن) ج7، ص429 (بإختصار).

3 ـ مجمع البيان، ج9، ص92، وسيرة ابن هشام، ج2، ص62 ـ 63 (باختصار).

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص368.

[80]

التّفسير

القرآن العجيب!!

نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول

يقول اللّه تعالى: (قل أوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً)(1).

التعبير بـ (اُوحي إليّ) يشير إلى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلاً وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الإستفادة منها في هذه الآية، ولهم خصوصيات اُخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث، وإنّ شاء اللّه تعالى.

إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاُميين، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ  بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد(2).


1 ـ نفر: على قول أصحاب اللغة والتّفسير: الجماعة من 3 الى 9.

2 ـ المشهور بين علماء النحو أنّ (إن) في مقول القول يجب أن تقرأ بالكسر كما هي في الآيات الاُولى، وأمّا في الآيات الأُخرى المعطوفة عليها فإنّها بالفتح، ولهذا اضطر الكثير من المفسّرين أن يجعلوا لهذه الآيات تقديرات أو مبررات أُخرى، ولكن ما الذي يمنعنا من القول أنّ لهذا القاعدة أيضاً شواذ، وهي جواز القراءة بالفتحة في موارد يكون العطف فيه على مقول القول، وما يدل على ذلك آيات هذه السورة.

[81]

فيقول أوّلاً: بأنّهم قالوا: (يهدي إلى الرّشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحداً)التعبير بـ «الرّشد» تعبير واسع وجامع، ويمكن أن يستوعب كل امتياز، فهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللّه تعالى: (وإنّه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذ صاحبة ولا لداً).

«جد»: لها معان كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب، وغير ذلك، وأمّا المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات فهو «القطع»، وتأتي بمعنى «العظمة» إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها، وإذا ما أطلقنا لفظة «الجد» على والدي لأبوين فإنّما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو عمرهما، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسّروها بالصفات، والقدرة، والملك، والحاكمية، والنعمة، والاسم، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى العظمة، وهناك ادعاء في أنّ القمصود هنا هو الأب الأكبر «الجد» وتشير الرّوايات إلى أنّ الجنّ ولقلّة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب، هذا إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير(1).

ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظراً إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا المغهوم، وإلاّ فإنّ القرآن يذكرهذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات، وإلاّ لم وقد ذكر هذا التعبير أيضاً في نهج البلاغة، كما في الخطبة (191): «الحمد للّه الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جدّه».

وورد في بعض الرّوايات أنّ أُنس بن مالك قد قال : كان الرجل إذا قرأ سورة


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص368، ونور الثقلين، ج5، ص435، وذكر هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم.

[82]

البقرة جد في أعيننا(1).

على كل حال فإنّ استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في نصوص اللغة، ومن الملاحظ أنّ خطباء الجن معتقدون بأنّ اللّه ليس له صاحبة ولا ولد، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفيّ للخرافة المتداولة بين العرب حيث قالوا: إنّ للّه بنات لزوجة من الجن قد اتّخذها لنفسه، وورد هذا الإحتمال في تفسير الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نسباً).

ثمّ قالوا: (وإنّه كان يقول سفيهنا على اللّه شططاً).

ويحتمل أنّ التعبير بـ «السفيه» هنا بمعنى الجنس والجمع، أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للّه زوجة وأطفالاً، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً، واحتمل بعض المفسّرين أنّ «السفيه» هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو «ابليس» الذي نسب إلى اللّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللّه، واعتراضه على اللّه في السجود لآدم(عليه السلام) ظنّاً منه أنّ له الفضل على آدم، وأنّ سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.

ولمّا كان ابليس من الجن، وكان قد بدا منهُ ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً، ولأن العالِم بلا عمل، والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.

«شطط» على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحقّ، ولهذا تسمّى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء بـ «الشط».

ثمّ قالوا: (وإنّا ظننا أن لن تقول الإنس والجنّ على اللّه كذباً).

لعل هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون باللّه وينسبون إليه الزوجة والأولاد، وفهنا يقولوا: لقد كنّا نصدقهم بحسن ظننا بهم


1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6801.

[83]

ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على اللّه بهذه الأكاذيب، ولكننا الآن نخطّىء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقر بما التبس علينا، بانحراف المشركين من الجنّ.

ثمّ ذكروا احدى الانحرافات للجن والإنس وقالوا: (وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً).

«رهق» على وزن (شفق) ويعني غشيان الشيء بالقهر والغلبة، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه، وقيل إنّ هذه الآية تشير إلى إحدى الخرافات المتداولة في الجاهلية، وهي أنّ الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلاً قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه(1).

وبما أنّ الخرافات كانت منشأ لإزدياد الإنحطاط الفكري والخوف والضلال فقد جاء ذكر هذه الجملة في آخر الآية وهي: (فزادوهم رهقاً).

وذكر في الآية (رجال من الجن) ممّا يستفاد منه أنّ فيهم اُناثاً وذكوراً(2)، على كل حال فإنّ للآية مفهوماً واسعاً، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجنّ، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص369، وروح المعاني، ج28، ص85.

2 ـ نقل عن بعضهم في تفسير الآية أعلاه أنّ لجوء جماعة من الإنس بالجن ادّى إلى أن يتمادى الجن في طغيانهم وظنوا أن بيدهم زمام الاُمور المهمّة، والتّفسير الأوّل أوجه (والضمير حسب التّفسير الأوّل في (زادوا) يرجع إلى الجن، والضمير «هم» يرجع إلى الإنس، بعكس التّفسير الأوّل).

[84]

الآيات

وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً(7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَـهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـعِدَ لِلَّسْمِعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً(9) وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأَرْضِ أِمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)

التّفسير

كنّا من قبل نسترق السمع ولكن...

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن، وتبيان الدعوة لقومهم، ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة، وفيقولون: (وأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحداً).

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكننا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم

[85]

وليتمسكوا بالقرآن وبالنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال البعض: إنّ الآية (أن لن يبعث اللّه أحد) تشير إلى إنكار البعث لا إلى إنكار بعثة الأنبياء، وقال آخرون: إنّ هذه الآية والتي قبلها هي من كلام اللّه تعالى وليست من كلام مؤمني الجنّ، وإنّها آيات عرضية جاءت في وسط حديثهم، والمخاطبون هم مشركو العرب، وطبقاً لهذا التّفسير يكون المعنى هكذا، يا مشركي العرب، إنّهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحداً، ولمّا سمعوا الذكر أدركوا خطأهم، وقد حان لكم أن تفيقوا، ولكن هذا القول يبدو بعيداً، بل الظاهر أن الخطاب هو لمؤمني الجن والمخاطبون هم الكفار منهم.

ثمّ يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة، فيقولون: (وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً)(1)(2).

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكننا منعنا من ذلك الآن: (وأنّآ كنّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً)أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وكتاب اللّه السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنّبوة؟

«شهاب» لهب من النار، ويطلق أيضاً على الأنوار النّارية الممتدة في السماء، وهي قطع حجرية صغيرة متحركة في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية، كما يقول علماء الفلك، وتتأثر بجاذبية الأرض عند وصولها إلى مقربة منها فتسقط على شكل شعلة نارية حارقة، لأنّها عندما تصل إلى طبقات الهواء


1 ـ «لمسنا» من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث.

2 ـ «حرس» على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.

[86]

الكثيفة وتصطدم لها تتحول إلى شعلة نارية، ثمّ تصل إلى الأرض بصورة رماد، وقد ذكرت الشهب كراراً في القرآن المجيد، وأنّها كالسهام ترمى صوب الشياطين الذين يريدون أن يسترقوا السمع من السماء، وقد أوردنا بحوثاً مفصّلة حول كيفية إخراج الشياطين من السماء بالشهب، وما يراد من استراق السمع، وذلك في ذيل الآية (18) من سورة الحجر وما يليها، وفي ذيل الآية (10) من سورة الصافات وما يليها.

«رصد» على وزن حسد، وهو التهيؤ لانتظار شيء ويُعبّر عنه بـ (الكمين) وتعني أحياناً اسم فاعل بمعنى الشخص أو الشّيء الذي يكمن، وهذا ما أُريد به في هذه الآيات.

ثمّ قالوا: (وأنّا لا ندري أشرٌّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشداً).

أي مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد اللّه بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة أُخرى أنّنا  لا ندري هل هذه هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من اللّه، أم مقدمة لهدايتهم، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الأُخرى، وليس هذا إلاّ إنتهاءً لعصر الظلام، وابتداء عصر النّور.

ومع هذا، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصّة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلاّ فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

والجدير بالذكر أنّ مؤمني الجنّ صرّحوا بالفاعل لإرادة الهداية فنسبوه إلى اللّه، وجعلوا فاعل الشرّ مجهولاً، وهذا إشارة إلى أنّ ما يأتي من اللّه فهو خير، وما يصدر من الناس فهو الشرّ وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية، ثمّ إنّ

[87]

المفروض أن يذكر لفظ «الخير» في مقابل «الشرّ»، ولكن بما أنّ الخير هنا تعني الرّشد والهداية، لذا اكتفى بذكر المصداق فقط.

* * *

[88]

الآيات

وَأَنَّا مِنَّا الصَّـلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً (11)وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12)وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقَاً(13) وَأَنَّا مِنَّآ المُسْلِمُونَ وَمِنّآ القِـسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً(14) وَأَمَّا القَسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً(15)

التّفسير

إنّ سمعنا الحقّ فأطعناه:

في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون: (وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائق قدداً).

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

[89]

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية، وأساساً فإنّ أحد العوامل المؤثرة في التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل، وتوجيهه إلى وجود عوامل الهداية والكمال في نفسه.

واحتمل أيضاً أنّ الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في مسألة استراق السمع أي: وإن كان منّا من يحصل على الأخبار عن طريق استراق السمع ووضعها بأيدي الأشرار لتضليل الناس، ولكن لا يعني ذلك أنّ الجن كلهم كانوا كذلك، ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذا الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.

«قدد» على وزن (ولد) وهو جمع قد، على وزن (ضد) وتعني المقطوع، وتطلق على الجماعات المختلفة، لأنّها تكون على شكل قطع منفصلة عن بعضها.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: (وأنّا ظننا أن لن نعجز اللّه في الأرض ولن نعجزه هرباً) وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من جزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الجملة الأُولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في الأرض، والجملة الثّانية إشارة إلى الفرار المطلق، الأرض والسماء.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّه الجملة الأُولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة على اللّه، والجملة الثّانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة، فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار، فلا علاج إلاّ التسليم لأمر اللّه تعالى وعدالته .

[90]

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: (وأنّا لمّا سمعنا الهدى آمنا به) وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلاً، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثمّ بيّنوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا: (فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً).

«بخس»: على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل الظلم.

«رهق»: على وزن (سقف) يراد به ـ وكما أشرنا من قبل ـ غشيان السيء بالقهر، وقال البعض: إنّ البخس هو عدم نقصان شيء من حسناتهم، والرهق: هو عدم إضافه شيء إلى سيئاتهم، قيل البخس: هو نقص الحسنات، والرهق: التكاليف الشاقة، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون أُجور ذلك بلا نقص أو قلّة، وصحيح أن العدالة الإلهية غير منحصرة بالمؤمنين، لكنّ الطالحين ليس لهم عمل صالح، فليس هناك ذكر لاُجورهم.

وفي الآية الأُخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون: (وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون(1) فمن أسلم فأُولئك تحروا رشداً).(2)

(وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً).