(لا أعبد ما تعبدون) فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة.

(ولا أنتم عابدون ما أعبد) لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لأبائكم، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام.

ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه:

(ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد) فعلى هذا لا معنى


1 ـ ذكر سبب النزول هذا كثير من المفسّرين على اختلاف يسير بينهم في العبارات منهم الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور.

[509]

لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال (لكم دينكم ولي دين).

* * *

أسئلة:

1ـ لماذا بدأت السّورة بفعل الأمر«قل»

«قل» فعل أمر موجه من الله سبحانه لنبيه كي يبلّغ الكافرين ويقول لهم:

(...يا أيّها الكافرون ...) إلى آخر السّورة، فلماذا بدأ النّبي تلاوة السّورة بكلمة «قل»، وهي موجهة إليه لا إلى الكافرين؟ أما كان من الأفضل أن تبدأ السّورة بيا أيّها الكافرون ...؟

الجواب يتضح لو التفتنا إلى محتوى السّورة. مشركو العرب كانوا قد دعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهادنهم بشأن الأوثان وعليه أن يرّد عليهم ويرفض الإستسلام لهم. وإذا لم يبدأ الكلام بـ «قل» يصبح الأسلوب اُسلوب خطاب طاب الله لهم. وهذا لاينسجم مع قوله: (لا أعبد ما تعبدون)وما شابهه.

أضف إلى ذلك أن كلمة «قل» كانت موجودة في النص الذي جاء به جبرائيل من الله تعالى. والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلف بالمحافظة على النص القرآني بحذافيره. وهذا يدل على أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل (عليه السلام)ليس لهما أي دور في صياغة النص القرآني وليس لهما حق أي تغيير فيه:بل يأتمران بما أمرهما الله. وهذا المعنى تؤكده الآية الكريمة: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلّي)(1).


1 ـ يونس ـ15

[510]

2ـ أكان عَبَدة الأصنام منكرين لله؟

نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا منكرين لله سبحانه، والقرآن يؤيد ذلك في قوله سبحانه: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)(1).

كيف إذن تقول الآية الكريمة: (لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد).

الجواب: أن الكلام في هذه السّورة يدور حول العبادة لا الخلقة، ويتّضح أن عبدة الأصنام كانوا يعتقدون أن«الله» خالق الكون، لكنّهم كانوا يرون ضرورة«عبادة» الأصنام كي تكون واسطة بينهم وبين الله، أو لاعتقادهم بأنّهم ليسوا أهلا لعبادة الله، بل لابُدّ من عبادة أصنام جسمية، والقرآن الكريم يرد على هذه الأوهام ويقول: إن العبادة لله وحده لا للأصنام ولا لكليهما!

3ـ لِمَ هذا التكرار؟

(لا أعبد ما تعبدون ... ولا أنا عابد ما عبدتم) الآيتان تكرران معنى واحداً، وهكذا(ولا أنتم عابدون ما أعبد ... ولا أنتم عابدون ما أعبد)تكررت أيضاً، لماذا؟ للمفسّرين في جواب هذا السؤال آراء مختلفة.

ذهب بعضهم إلى أن الهدف من التكرار التأكيد وبثّ اليأس في قلوب المشركين، وفصل المسيرة الإسلامية بشكل كامل عن مسيرتهم، وتثبيت فكرة عدم أمكان المهادنة بين التوحيد والشرك.بعبارة أخرى القرآن الكريم قابل دعوة المشركين إلى المساومة والمهادنة وإصرارهم على ذلك وتكرارهم لدعوتهم، بتكرار في الردّ عليهم.

ورد أن «أبا شاكر الديصاني» وهو من زنادق عصر الإمام الصادق(عليه السلام) سأل


1 ـ لقمان ـ 25

[511]

أحد أصحاب الصادق(عليه السلام) وهو «أبو جعفر الأحول» (محمّد بن علي النعماني المعروف بمؤمن الطاق) عن سبب هذا التكرار، وهل الشخص الحكيم يرد في كلامه مثل هذا التكرار؟

أبو جعفر الأحول أعياه الجواب، فتوجه إلى المدينة، ودخل على الإمام الصادق(عليه السلام) وسأله عن ذلك، أجابه الإمام: كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشاً قالت لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأصابهم بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة (قل يا أيّها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) وفيما قالوا نعبد إلهك سنة (ولا أنتم عابدون ما أعبد)وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة (ولا أنا عابد ما عبدتم)وفيما قالوا نعبد إلهك سنة (ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).

ذهب أبو جعفر الأحول بالجواب إلى أبي شاكر، فلما سمعه قال: «هذا ما حمله الإبل من الحجاز»(1)!(يشير بذلك إلى أن هذا ليس كلامك بل كلام الصادق).

وقيل إن هذا التكرار يعود إلى أن الجملة الأولى تركز على الحال، والجملة الثّانية تركز على المستقبل، ويكون معنى الجملتين لا أعبد ما تعبدون في الحال والمستقبل. ولا يوجد شاهد في الآية على هذا التّفسير.

ثمة تفسير ثالث لهذا التكرار هو إن الأولى تشير إلى الإختلاف في المعبود والثّانية إلى الإختلاف في العبادة. أي لا أعبد الذي تعبدون، ولا أعبد عبادتكم لأن عبادتي خالصة من الشرك ولأنها عبادة عن وعي وعن أداء للشكر لا عن تقليد أعمى(2).

والظاهر أن هذا التكرار للتأكيد كما ذكرنا أعلاه، وجاءت الإشارة إليه أيضاً


1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، ج 2، ص 445.

2 ـ بناء على هذا التّفسير «ما» في الآيتين الثّانية والثّالثة موصولة، وفي الرابعة والخامسة مصدرية (ذكر هذا التّفسير أبو الفتوح الرازي ضمن ذكره لإحتمالات تفسير الآية ج 12، ص 192، وأشارإليه الطبرسي أيضاً).

[512]

في حديث الإمام الصادق 7 .

وهناك تفسير رابع للتكرار هو إن الآية الثّانية تقول: لا أعبد ما تعبدون الآن.

والآية الرابعة تقول: ما أنا عابد (في الماضي) معبودكم، فما بالكم اليوم. هذا التّفسير يستند إلى التفاوت بين فعلي الآيتين، في الثّانية الفعل مضارع «تعبدون»، وفي الآية الرابعة «عبدتم» بصيغة الماضي ونحن لا نستبعده.(1)

وإن كان هذا يحل مسألة تكرار الآيتين الثّانية والرابعة، وتبقى مسألة

تكرار الآيتين الثّالثة والخامسة على حالها.(2)

4 ـ هل الآية (لكم دينكم ولي دين) تعني جواز عبادة الأصنام؟!

قد يتصور أنّ هذه الآية لها مفهوم «السلام العام» وتجيز حتى لعبدة الأصنام أن يظلوا عليها عاكفين، لأنّها لا تصرّ على قبول دين الإسلام.

لكن هذا التصور فارغ لا يقوم على اساس، لحن الآيات يوضح بجلاء أنّها نوع من التحقير والتهديد، أي دعكم ودينكم فسترون قريباً وبال أمركم، تماماً مثل ما ورد في قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)(3).

والشاهد الواضح على ذلك مئات الآيات الكريمة التي ترفض الشرك بكل ألوانه، وتعتبره عملاً لا شيء أبغض منه، وذنباً لا يغفر.

وهناك إجابات اُخرى على هذا السؤال مثل تقدير محذوف وتكون العبارة: لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.


1 ـ بناء على هذا (عابد) وهو اسم فاعل يكون في الآية بمعنى الماضي أيضاً.

2 ـ يجب الإلتفات إلى أن «ما الموصولة» وإن استعملت غالباً في غير ذوي العقول، تستعمل أيضاً في العاقل. وفي القرآن شواهد.

3 ـ سورة القصص، الآية 55.

[513]

وقيل أيضاً: «الدين» هنا بمعنى الجزاء، ولا محذوف فيها ومفهومها لكم جزاؤكم ولي جزائي.(1)

والتّفسير الأوّل أنسب.

5 ـ هل هادن الشرك يوماً؟

السّورة تطرح حقيقة التضاد والإنفصال التام بين منهج التوحيد ومنهج الشرك، وعدم وجود أي تشابه بينهما، التوحيد يشدّ الإنسان باللّه بينما الشرك يجعل الإنسان غريباً عن اللّه.

التوحيد رمز الوحدة والإنسجام في جميع المجالات، والشرك مبعث التفرقة والتمزق في كلّ الشؤون.

التوحيد يسمو بالإنسان على عالم المادة والطبيعة، ويربطه بما وراء الطبيعة بالوجود اللامتناهي لربّ العالمين، بينما الشرك يجعل الإنسان يرسف في أغلال الطبيعة، ويربطه بموجودات ضعيفة فانية.

من هنا فالنّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء الكرام لم يهادنوا الشرك لحظة واحدة، بل جعلوا مقارعته في رأس قائمة أعمالهم.

السائرون على طريق اللّه من الدعاة والعلماء الإسلاميين يتحملون مسؤولية مواصلة هذه المسيرة، وعليهم أن يعلنوا براءتهم من الشرك والمشركين في كلّ مكان.

هذا هو طريق الإسلام الأصيل.

اللّهم! جنبنا كلّ شرك في أفكارنا وأعمالنا.

ربّنا! وساوس المشركين في عصرنا خطرة أيضاً، فاحفظنا من الوقوع في


1 ـ ويلاحظ أن كلمة (دين) في الآية (ولي دين) مكسورة، وكسرتها تدل على ياء محذوفة أي : ولي ديني.

[514]

حبائلهم.

الهنا! مُنّ علينا بشجاعة وصراحة وحزم لنكون كما كان نبيّك(صلى الله عليه وآله وسلم) رافضين لكلّ مساومة مع الكفر والكافرين والشرك والمشركين.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الكافرون

* * *

[515]

سُورَة النّصر

مَدنِيّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثَلاثُ آياتْ

«سورة النّصر»

محتوى السّورة

هذه السّورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول النّاس في دين اللّه أفواجاً، وتدعو النّبي أن يسبح اللّه ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السّورة ما كان سوى «فتح مكّة»، خاصّة وأن العرب ـ كما جاء في الرّوايات ـ كانت تعتقد أن نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لايستطيع أن يفتح مكّة إلاّ إذا كان على حق... ولو لم يكن على حقّ فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة، ولذلك دخل العرب في دين اللّه بعد فتح مكّة أفواجاً.

قيل: إنّ هذه السّورة نزلت بعد «صلح الحديبية» في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكّة.

وما احتمله بعضهم من نزول هذه السّورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّاً، لأنّ عبارات السّورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.

ومن أسماء هذه السّورة «التوديع» لأنّها تتضمّن خبر وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الرّواية أنّ هذه السّورة لما نزلت قرأها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما يبكيك يا عم؟»

[518]

فقال: أظن أنّه قد نعيت إليك نفسك يارسول اللّه،فقال: «إنّه لكما تقول»(1).

وظاهر السّورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بل عن الفتح والنصر، فكيف فهم العباس أنّها تنعي إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه؟ يبدو أنّ دلالة السّورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الذي أوحى بقرب ارتحال الرسول إلى جوار ربّه.

فضيلة السّورة:

وردت في فضيلة السّورة عن رسول للّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكّة»(2).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ(إذا جاء نصر اللّه والفتح)في نافلة أو فريضة نصره اللّه على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم»(3).

واضح أنّ هذه الفضيلة لمن قرأ هذه السّورة فسلك مسلك رسول الله وعمل بسيرته وسنته، لا أن يكتفي بلقلقة اللسان.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص554، هذه الرّواية وردت بألفاظ مختلفة (الميزان، ج20، ص532).

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص553.

3 ـ المصدر السابق.

[519]

الآيات

إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجَاً(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَاً(3)

التّفسير

عند انبلاج فجر النصر:

(إذا جاء نصراللّه والفتح، ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجاً، فسبح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان تواباً).

هذه الآيات الثلاث القصار في ألفاظها العميقة في محتواها تتضمّن مسائل دقيقة كثيرة نسلط عليها الضوء كي تساعدنا في فهم معنى السّورة.

1 ـ «النصر»: في الآية اُضيف إلى اللّه «نصر اللّه» وفي كثير من المواضع القرآنية نجد نسبة النصر إلى اللّه. يقول سبحانه (ألا إنّ نصر اللّه قريب)(1)، ويقول: (وما النصر إلاّ من عند اللّه).(2)


1 ـ البقرة، الآية 214.

2 ـ آل عمران، الآية 126; الأنفال، الآية 10.

[520]

وهذا يعني أن النصر في أي حال لا يكون إلاّ بإرادة اللّه، نعم، لابدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند اللّه وحده، ولذلك لا يغتّر بالنصر، بل يتجه إلى شكر اللّه وحمده.

2 ـ في هذه السّورة دار الحديث عن نصرة الله، ثمّ عن «الفتح»والإنتصار، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول النّاس في دين الله زرافات ووحداناً.

و بين هذه الثلاثة ارتباط علة ومعلول. فبنصر الله زرافات يتحقق الفتح، وبا الفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل النّاس في دين الله أفواجاً.

بعد هذه المراحل الثلاث ـ التي يشكل كل منها نعمة كبرى ـ تحّل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد.

من جهة أُخرى نصر الله، والفتح هدفهما النهائي دخول النّاس في دين الله وهداية البشرية.

3 ـ «الفتح» هنا مذكور بشكل مطلق، والقرائن تشير ـ كما ذكرنا ـ أنه فتح مكّة الذي كان له ذلك الصدى الواسع المذكور في الآية.

«فتح مكّة» فتح في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، لأن مركز الشرك قد تلاشى بهذا الفتح، انهدمت الأصنام، وتبددت آمال المشركين وأزيلت السدود والموانع من طريق إيمان النّاس بالإسلام.

من هنا، يجب أن نعتبر فتح مكّة بداية مرحلة تثبيت أسس الإسلام واستقراره في الجزيرة العربية ثمّ في العالم أجمع. لذلك لا نرى بعدفتح مكّة مقاومة من المشركين (سوى مرّة واحدة قمعت بسرعة) وكان النّاس بعده يفدون على النّبي من كل أنحاء الجزيرة ليعلنوا إسلامهم.

4 ـ في نهاية السّورة يأمر الله سبحانه نبيّه (بل كل المؤمنين) بثلاثة أُمور ليجّسد آلاء الشكر وليتخذ الموقف الإيماني المناسب من النصر الإلهي وهي :«التسبيح» و«الحمد» و«الإستغفار».

[521]

«التسبيح» تنزيه الله من كل عيب ونقص.

و «الحمد» لوصف الله بالصفات الكمالية.

و «الإستغفار» إزاءتقصير العبد.

هذا الإنتصار الكبير أدى إلى تطهير الساحة من أفكار الشرك، وإلى تجلي جمال الله وكماله أكثر من ذي قبل، وإلى اهتداء من ضلّ الطريق إلى الله.

هذا الفتح العظيم أدى إلى أن لا يظن فرد بأن الله يترك انصاره وحدهم (ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص) وإلى أن يعلم المؤمنون بأن وعده الحق (موصوف بهذا الكمال)، وإلى أن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة الله.

أضف إلى ما سبق، أن الإنسان ـ عند النصر ـ قد تظهر عليه ردود فعل سلبية فيقع في الغرور والتعالي، أو يتخذ موقف الإنتقام وتصفية الحسابات الشخصية، وهذه الأوامر الثلاثة تعلمه أن يكون في لحظات النصر الحساسة ذاكراً لصفات جلال الله وجماله وأن يرى كل شيء منه سبحانه، ويتجه إلى الإستغفار كي يزول عنه غرور الغفلة ويبتعد عن الإنتقام.

5 ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل كل الأنبياء معصوم، فلماذا الإستغفار؟

الجواب أن هذا تعليم لكل الأمة لأنه :

أوّلا: خلال أيّام المواجهة بين الإسلام والشرك مرّت فترات عصيبة على المسلمين، وتفاقمت في بعض المراحل مشاكل الدعوة، وضاقت صدور بعضهم وساور بعضهم الآخر شكوك في وعد الله. كما قال سبحانه فيهم عند غزوة «الأحزاب» : (وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)(1).

والآن إذ تحقق الإنتصار فقد اتضح خطل تلك الظنون، ولابدّ من «الإستغفار»

ثانياً: الإنسان لا يستطيع أن يؤدي حقّ الشكر، مهما حمد الله وأثنى عليه.

ولذلك لا بدّ له بعد الحمد والثناء أن يتجه إلى استغفاره سبحانه.


1 ـ الأحزاب، الآية 10.

[522]

ثالثاً: بعد الإنتصار تبدأ عادة وساوس الشيطان، فتبرز ظاهرة الغرور تارة وظاهرة الأنتقام تارة أُخرى. ولابدّ إذن من ذكر الله واستغفاره باستمرار حتى لا تظهر هذه الحالات، ولتزول إن ظهرت.

رابعاً: إعلام هذا النصر يعني انتهاء مهمّة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقريباً كما ذكرنا في بداية السّورة، وانتهاء عمره المبارك والتحاقه بالرفيق الأعلى. ولذا جاء في الرّوايات أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بعد نزول هذه السّورة كان يكثر من قول: «سبحانك اللّهم وبحمدك، اللّهم اغفرلي إنّك أنت التواب الرحيم».

6 ـ عبارة (إنّه كان تواباً) تبيّن علّة الإستغفار. أي استغفره وتب إليه لأنّه سبحانه تواب.

وقد تكون العبارة تستهدف تعليم المسلمين العفو، فكما إن الله تواب كذلك أنتم ينبغي أن تقبلوا توبة المذنبين بعد الإنتصار ما أمكنكم ذلك. وأن لا تطردوهم ما داموا منصرفين عن المخالفة والتآمر. ولذلك اتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في فتح مكّة ـ كما سنرى ـ موقف الرحمة والرأفة مقابل الأعداء الحقودين.

التسبيح والحمد والأستغفار دأب كل الأنبياء الكرام عند تحقق النصر. يوسف (عليه السلام) حين جلس على سرير الحكم في مصر وعاد إليه والداه واخوته بعد فراق طويل قال: (ربّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً والحقني بالصالحين).(1)

وعندما حضر عرش ملكة سبأ أمام سليمان (عليه السلام)قال: (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر).(2)

* * *


1 ـ يوسف ـ الآية 101.

2 ـ النمل، الآية 40.

[523]

بحث

عند فتح مكّة:

فتح مكّة ـ كما ذكرنا ـ فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، ودحر الأعداء بعد عشرين عاماً من المقاومة. وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان، والإسلام تأهب لدعوة بقية أصقاع العالم.

ملخص الواقعة على النحو التالي:

بعد صلح الحديبية، عمد المشركون إلى نقض العهد، وإلى خرق بنود وثيقة الصلح، واعتدوا على المتحالفين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . فشكى المتحالفون ذلك إلى الرسول، فقرر النّبي أن يهب لحمايتهم.

من جهة أُخرى، الظروف في مكّة ـ حيث مركز الوثنية والإصنام والشرك والنفاق ـ توفرت لتطهيرها. وهذه مهمّة كان لابدّ من أدائها في وقت من الأوقات. لذلك استعد النّبي للحركة بأمر الله سبحانه صوب مكّة.

فتح مكّة تمّ في ثلاث مراحل. المرحلة التمهيدية وفيها تمّ تعبئة القوى اللازمة واختيار الظروف الزمانية المساعدة، وجمع المعلومات الكافية عن العدوّ، والمرحلة الثّانية كانت فتح مكّة باسلوب ماهر خال من التلفات. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة عطاء الفتح وآثاره.

1 ـ هذه المرحلة اتصفت بالدقّة المتناهية. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)سيطر على الطريق بين مكّة والمدينة سيطرة تامّة حتى لا يسرب خبر هذا الإستعداد الإسلامي إلى مكّة، ولكي يتمّ الفتح بشكل مباغت. وهذا أدى إلى فتح مكّة دون إراقة دماء تقريباً.

انقطاع اخبار المدينة عن مكّة كان متقناً، حتى أن نفراً من ضعاف الإيمان اسمه «حاطب بن أبي بلتعة» كتب رسالة إلى قريش يخبر هم بأمر المسلمين في المدينة، وبعثها بيد امرأة من قبيلة «مزينة» اسمها «كفود»، أو«سارة». فعلم بها

[524]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق إعجازي، وبعث عليّاً(عليه السلام) إلى المرأة، فوجدها في منزل بينن مكّة والمدينة. أخذ منها الرسالة وأعادها إلى المدينة، وقد أوردنا قصّتها في تفسير الآية الأولى من سورة الممتحنة.

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف أحد المسلمين على المدينة، وتوجه في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة إلى مكّة، ووصلها بعد عشرة أيّام.

في الطريق التقى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعمّه العباس وهو يهاجر من مكّة إلى المدينة. فطلب منه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل متاعه إلى المدينة ويلتحق بالمسلمين، وأخبره بأنّه آخر مهاجر.

2 ـ وصل المسلمون إلى مشارف مكّة وعسكروا عند «مرّ الظهران» على بعد عدّة كيلومترات من مكّة. وفي الليل أشعلوا نيران كثيرة لإعداد الطعام (ولعلهم فعلوا ذلك لإثبات تواجدهم الواسع). رأى جمع من أهل مكّة هذا المنظر فتحيروا.

أخبار الزحف الإسلامي كانت لا تزال خافية على قريش في تلك الليلة خرج «أبو سفيان» ومعه عدد من سراة قريش للإستطلاع خارج مكّة. وفي نفس الليلة قال العباس عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا سوء صباح قريش. والله لئن باغتها رسول الله في ديارها فدخل مكّة عنوة إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فاستأذن رسول الله وخرج على بغلته لعله يرى أحداً متجهاً إلى مكّة فيخبرهم بمكان رسول الله فيأتونه فيستأمنونه.

وبينما العباس يطوف بأطراف مكّة إذ سمع صوت أبي سفيان ومعه القرشيون الذين خرجوا يتجسّسون. فقال: أبوسفيان: ما رأيت نيراناً أكثر من هذه! فقال له أحد مرافقيه: هذه نيران خزاعة. فقال أبوسفيان: خزاعة أذلّ من ذلك. نادى العباس أبا سفيان، فسأله أبوسفيان على الفور: ما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف.

قال أبوسفيان: ما تأمرني؟

[525]

أجابه العباس: تركب معي فأستأمن لك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فوالله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك.

فخرجا يركضان نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكلما مرّا بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله. (أي إن المارّ ليس بغريب). حتى مرّا بنار عمر بن الخطاب. فما أن أبصر به عمر حتى قال له: أبوسفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد!

دخل العباس وأبوسفيان على رسول الله وتبعهما عمر فدخل أيضاً وقال للرسول: يا رسول الله هذا أبوسفيان عدوّ الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني اضرب عنقه.

فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته.

وكثر الكلام بين العباس وعمر فقال رسول الله للعباس:

إذهب فقد أمنّاه حتى تغدو علّي به بالغداة.

فلما كان من الغدِ جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فلما رآه قال: ويحك يا أباسفيان! «ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟».

قال: بلى، بأبي أنت وأمي لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئاً.

فقال النّبي: «ويحك ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال: له العباس: ويحك تشهّد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! فتشهّد.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس : «إذهب فاحبس أباسفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله».

قال العباس: يا رسول الله إن أباسفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ... و.من دخل المسجد فهو

[526]

آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».

خرج العباس وأجلس أبا سفيان عند خطم الجبل فمرّت عليه القبائل، فيقول له العباس: هذه أسلم ... هذه جهينة ... حتى مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار متسربلين بالحديد لا يُرى منهم إلا حدق عيونهم. فقال: ومن هؤلاء؟ قال العباس: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المهاجرين والإنصار.

فقال أبوسفيان: لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً.

قال العباس: ويحك إنّها النبوة.

فقال: نعم إذن.

ثمّ قال له العباس: الحق بقومك سريعاً فحذّرهم.

فخرج حتى أتى مكّة فصرخ في المسجد:

يامعشر قريش هذا محمّد قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به. ثمّ قال: مَن دخل داري فهو آمن. ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ... وقال: يا معشر قريش اسلمواتسلموا.

فاقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا

الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي واقسم لئن أنت لم تُسلمي لتُضربن عنقك، ادخلي بيتك! فتركته.

ثمّ بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جيش المسلمين منطقة «ذي طوى» وهي مرتفع يشرف على بيوت مكّة. فتذكر الرسول ذلك اليوم الذي خرج فيه مضطراً متخفياً من مكّة. وها هو يعود إليها منتصراً،فوضع رأسه تواضعاً لله وسجد على رحل ناقته شكراً له سبحانه.

ثمّ ترجّل النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في «الحجون» إحدى محلات مكّة، وفيها قبر خديجة(عليها السلام)، واغتسل، ثمّ ركب ثانية بجهاز الحربودخل المسجد الحرام وهو يتلو سورة الفتح. ثمّ كبر وكبر جند الإسلام معه، فدوى صوت التكبير في أرجاء

[527]

مكّة.

ثمّ نزل من ناقته، واقترب من الكعبة، وجعل يُسقط الأصنام واحداً بعد الآخر وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).

وكان عدد من الأصنام قد نصب فوق الكعبة، ولم تصل إليها يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)فأمر عليّاً أن يصعد على كتفه المباركة ويرمي بالأصنام فامتثل علي أمر الرسول.

ثمّ أخذ مفاتيح الكعبة، وفتحها ومحا ما كان على جدرانها من صور الأنبياء.

3 ـ بعد الإنتصار الرائع السريع أخذ رسول الله حلقة باب الكعبة، وتوجّه إلى أهل مكّة وقال لهم:يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا فانتم الطلقاء.

وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشه أن لا يتعرضوا لأحد، وأن لا يريقوا دم أحد. وأمر فقط بقتل ستة أفراد ـ حسب الرّوايات ـ ممن كانوا خطرين ومتوغلين في عدائهم للإسلام. وحين بلغه أن سعد بن عبادة ـ وهو أحد حملة الوية الجيش الإسلامي ـ يصيح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة. أمر عليّاً(عليه السلام) أن يأخذ منه الرّاية ويدخل بها مكّة دخولا رقيقاً ويقول: اليوم يوم المرحمة!!

وبهذا الشكل فتحت مكّة دون إراقة دماء وكان لعفو الرسول ورحمته الأثر الكبير في القلوب، فدخل النّاس في دين الله أفواجاً. ودوّى خبر الفتح في أرجاء الجزيرة العربية وذاع صيت الإسلام، وتعززت مكانة المسلمين(1).

وجاء في كتب التاريخ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما وصل الكعبة قال: لا إله إلا الله وحده وحده، انجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مال أو مأثرة أو دم تدعى فهو تحت قدمي هاتين!... (وبذلك الغى كل مخلفات الجاهلية وطوى جميع ملفاتها).


1 ـ بتلخيص عن الكامل لا بن الأثير، ج2، وتفسير مجمع البيان، تفسير سورة النصر.

[528]

هذا المشروع الإسلامي الجبار اقترن بالعفو العام، لينقل قبائل الجزيرة العربية من ماضيهم المظلم إلى نور الإسلام بعيداًعن كل ألوان الصراع والتخبط الجاهلي.

وهذا ساعد كثيراً على انتشار الإسلام واصبح قدوة لحاضرنا ومستقبلنا.

اللّهمّ! إنّك قادر أن تعيد للمسلمين عزّتهم وعظمتهم في ظلّ الإقتداء بسنّة رسولك المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم).

ربّنا! اجعلنا في زمرة السائرين الحقيقيين على طريق نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).

إلهنا! وفقنا لإقامة حكومة العدل الاسلاميّة ونشر رايتها في العالم ليدخل النّاس طواعية في دين الله أفواجاً.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة النصر

* * *

[529]

سورة تَبَّت

مَكّيّة

وعدد آياتِها خَمسُ آيات

«سورة تبت»

محتوى السّورة

هذه السّورة مكّية ونزلت في أوائل الدعوة العلنية. وهي السّورة الوحيدة التي تحمل هجوماً شديداً بالاسم على أحد أعداء الإسلام والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آنذاك وهو أبولهب. ومن السّورة يتضح أنّه كان يحمل عداء خاصاً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمارس هو وزوجه كل أنواع الأذى بحقّه.

القرآن يصرّح بأنّهما أهل جهنّم، وليس لهما طريق للنجاة، وتحققت هذه النبوءة القرآنية، وكلاهما مات على الكفر.