![]() |
![]() |
![]() |
بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالاً على المعاد، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اُخرى، لتشير إلى بعض الأدلة الاُخرى عليه فتقول: (والسماء ذات الرجع).. (والأرض ذات الصدع)..(إنّه لقول فصل).. (وما هو بالهزل).
«الرجع»: من (الرجوع)، بمعنى العود، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار، ثمّ تعود إليها تارة اُخرى عن طريق الغيوم، أو لأنّ هطول المطر يكون في فواصل زمنية مختلفة.
ويسمّى الغدير رجعاً.. إمّا للمطر الذي فيه، وإمّا لتراجع أمواجه، وتردده في
مكانه(1).
«الصدع»: هو الشق في الأجسام الصلبة.
وبملاحظة معنى «الرجع» في الآية السابقة، نصل إلى أنّ مراد الآية بالصدع هو شق الأرض اليابسة بالأمطار، وخروج النباتات منها.
فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد، كما في قوله تعالى في الآية (11) من سورة «ق»: (وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج).
وهنا تتجسد بلاغة الاُسلوب القرآني، من خلال ربطه الدقيق فيما بين ما يقسم به وما يقسم له.
وبعبارة اُخرى، فالسّورة قد استندت إلى المقارنة فيما بين خلق الإنسان من نطفة وبين إحياء الأرض الميتة بالأمطار، في استدلالها، وجاء شبيه هذا الإستدلال في الآية (5) من سورة الحج: (يا أيّها النّاس إنّ كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ.. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج).
وقيل أيضاً: إنّ الآية: (والسماء ذات الرجع) تشير إلى دوران الكواكب في مسارات معينة، كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحركة الكواكب السيّارة للمنظومة الشمسية، وكذلك شروق وغروب الشمس والقمر والنجوم، حيث أنّ كلّ هذه الحركات تتضمّن الرجوع والعودة.
وهذا الرجوع علامة لرجوع النّاس العام إلى الحياة.
ولكن من خلال ما تقدم يظهر لنا أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأقرب لقرائن السّورة، حيث أنّه أشار إلى مسألة شقّ الأرض مع أدلة المعاد.
1 ـ مفردات الراغب، مادة (رجع).
«القول الفصل»: هو القول أو الحديث الذي يفرق بين الحق والباطل، وقيل: هو في الآية يشير إلى المعاد، بقرينة الآيات السابقة، وقيل أيضاً: هو إشارة إلى القرآن، وهناك بعض الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) تؤيد هذا المعنى. وقد ورد التعبير عن القيامة بـ «يوم الفصل» في الكثير من الآيات القرآنية.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد هو الإشارة إلى الآيات القرآنية والتي تتضمّن الحديث عن المعاد، وبذلك يتمّ الجمع بين التّفسيرين.
فقد روي عن الإمام علي(عليه السلام): «إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّها ستكون فتنة!» قلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟!
قال: «كتاب اللّه فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل مَن تركه من جبار قصمه اللّه، ومَن ابتغى الهُدى في غيره أضله اللّه».(1)
وتسلّي الآيات التالية قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين من جهة، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اُخرى: (إنّهم يكيدون كيداً)، فالكفار يخططون من جهة، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة اُخرى.. (وأكيد كيداً).
(فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً)، حتى يروا عاقبتهم!
نعم، إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.
فتارة بالإستهزاء..
واُخرى بالحصار الإقتصادي..
ومرّة بتعذيب المؤمنين..
واُخرى يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه كي تنتصروا..
ويقولون عنك: ساحراً، كاهناً، مجنوناً..
1 ـ تفسير روح المعاني، ج30، ص100; وتفسير المراغي، ج30، ص118; عن صحيح الترمذي وسنن الدارمي.
ويمارسون النفاق: بأن يؤمنوا بك صباحاً ويكفروا مساءً، كي يؤثّروا على البسطاء..
ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك
وأحياناً يقولون: آمن ببعض آلهتنا حتى نؤمن بك..
ويكيدون لإبعادك وقتلك..
والخلاصة: فشغلهم الشاغل هو: التخطيط المستمر لمواجهتك، لتفريق مَن آمن بك، والضغط على أصحابك، أو قتلك لإطفاء نور اللّه بذلك! ولا يعلمون بأنّ اللّه متمُّ نوره ولو كرهوا.
«الكيد»(1): ضرب من الإحتيال والتغلب على المشكل بتهيئة المقدمات، وفيه جنبة خفية، وقد يكون مذموماً وممدوحاً كقوله تعالى: (كذلك كدنا ليوسف)(2)، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر.
ومراد الآية هو كيد الأعداء كما هو واضح، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه، فيما تناولت هذا الموضوع آيات قرآنية كثيرة.
ولكن.. ما المقصود بالكيد الإلهي؟
قيل: إنّه الإمهال الذي ينتهي بالأخذ الشديد والعذاب الأليم.
وقيل أيضاً: إنّه نفس العذاب الذي ينتظرهم.
والأنسب أن يقال: إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن معه من المؤمنين، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.
ويحمل التاريخ الإسلامي بين طياته شواهد كثيرة على هذا المعنى.
وتأمر الآيات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ على الأخص ـ بأن يمهلهم ولا يتعجل على
1 ـ مفردات الراغب.
2 ـ سورة يوسف، الآية 76.
عذابهم، وأنّ يتمّ الحجّة عليهم، فعسى أن يعود قسم منهم إلى رشده ويسلم وأساساً فالعجلة لمن يخاف الفوت، وهذا ما لا يصدق على القاهر القادر سبحانه وتعالى.
والملاحظ في الآية، إنّها شرعت بـ (فمهّل الكافرين) فيما أكّدت ذلك بقولها «أمهلهم»، فالأوّل من باب (التفعيل)، والثّاني من باب (الأفعال) وقد جاء للتأكيد دون تكرار اللفظ بعينه.
«رويداً»: من (الرود) ـ على وزن عود ـ وهو التردد في طلب الشيء يرفق، ولها هنا معنى مصدرياً مع تصغير، أي أمهلهم مهلة صغيرة(1).
وبهذا يوصي اللّه عزّوجلّ نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الجملة المختصرة ثلاث مرات بامهال ومداراة الكافرين وهذا في الحقيقة درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم، وخصوصاً إذا ما كانوا أعداءً أقوياء وشرسين، فلابدّ من الصبر والتأني والدقّة في حساب خطوات المواجهة، وينبغي عدم التسرع في العمل، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.
مضافاً إلى التبليغ والدعوة إلى الحق لابدّ فيها من تجنب العجلة والتسرّع حتّى تتاح الفرصة لكلّ من يمكن هديه، فلابدّ من تفهيم الإسلام بكل لطف وسعة صدر مع الدليل القاطع، وبهذا تتمّ الحجّة على الآخرين.
أمّا السبب في طلب الإمهال القليل، ففيه احتمالين:
الأوّل: كان الإمهال لحين حدوث معركة بدر، حيث أحرز المسلمون فيها نصراً مبيناً على الكفار بعد مدّة قليلة من نزول الآية.
ومعركة بدر أوّل ضربة موجعة تلقاها المشركون من المسلمين، ثمّ تلتها ضربات في معركة الأحزاب ومعركة خيبر وغيرها، ممّا أفشل مخططات الكفرة
1 ـ فـ «رويداً» في محل مفعول مطلق، والمعنى: أمهلهم إمهالاً قليلاً، أمّا ما قيل من كونها تحمل معنى الأمر، فهو بعيد، لأنّ ذلك سيستلزم للأية ثلاثة أوامر.
ومع أنّ «رويداً» جاءت بمعنى الأمر، وعلى صيغة اسم فعل، لكن الأنسب لها في هذا الموضع أن تكون منصوبة كمفعول مطلق.لدحر الإسلام.
وحينما وافى عمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الأجل، كان نور الإسلام قد غطى كلّ أرجاء شبه الجزيرة العربية، ولم يمض قرن واحد على عمر الرسالة الخاتمة حتى تفيئت معظم أجزاء العالم تحت ظله الآمن.
الثّاني: لأنّ عذاب القيامة سيقع حتماً، وكلّ حتمي الوقوع قريب.
وعلى أيّة حال، فقد بدأت السّورة بالقسم بالسماء والنجوم، وانتهت بتهديد الكافرين والمتآمرين على الحقّ، وفيما بين البدء والإنتهاء، تعرضت إلى بعض أدلة المعاد بأُسلوب رائع ومؤثر، وإلى بيان شيّق للرقابة الإلهية على أعمال الإنسان، بالاضافة إلى ما قدمته من تسلية لترطيب خواطر المؤمنين، بلسان في غاية اللطف البليغ.
اللّهم، ردّ كيد أعداء دينك، ولا سيما المتأخرين منهم الذين عاثوا في الأرض فساداً، واقطع دابر المتجبرين...
اللّهم، سدّ عوراتنا يوم تبلى السرائر...
اللّهم، لا قوّة لنا ولا ناصر سواك، فلا تكلنا لغيرك...
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة الطّارق
* * *
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا تِسع عَشرَة آية
تحتوي السّورة على قسمين من المواضيع:
القسم الأوّل: يحوي خطاباً إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة، ثمّ ذكر سبعاً من صفات اللّه عزّوجلّ، لها صلة ربط بالأمر الرّباني إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
القسم الثّاني: يتحدث عن المؤمنين الخاشعين، والكافرين الأشقياء، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحقّ.
وفي آخر السّورة، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السّورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط، بل وتناولته كتب وصحف الأولين أيضاً، كصحف إبراهيم وموسى(عليهما السلام).
روي عن النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «مَن قرأها أعطاه اللّه عشر حسنات بعدد كلّ حرف أنزل اللّه على إبراهيم وموسى ومحمّد(عليهم السلام)»(1).
وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً، أنّه قال: «مَن قرأ (سبح اسم ربّك الأعلى) في فرائضه أو نوافله قيل له يوم القيامة اُدخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص553.
شئت إن شاء اللّه»(1).
وورد في روايات عديدة: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، كانوا إذا قرأوا (سبح اسم ربّك الأعلى)، قالوا: «سبحان ربّي الأعلى»(2).
وروي عن أحد أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، إنّه قال: صليت خلفه عشرين ليلة، وليس يقرأ إلاّ (سبح اسم ربّك الأعلى)، وقال: «لو تعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وأنّ مَن قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفى»(3).
فيبدو أنّ السّورة من الأهمية بحيث: «كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يحب هذه السّورة: (سبح اسم ربّك الأعلى)» كما روي عن الإمام علي(عليه السلام)(4).
وقد اختلف في مكان نزول الآية، فمع أنّ المشهور، نزولها في مكّة، لكنّ ثمّة من يقول بنزولها في المدينة.
ويرجح العلاّمة الطباطبائي((قدس سره)) أن يكون قسمها الأوّل مكّيّاً والآخر مدنياً، فيقول: وسياق الآيات في صدر السّورة سياق مكّي، وأمّا ذيلها، أعني قوله: (قد أفلح مَن تزكّى) الخ فقد ورد في طرق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ المراد به «زكاة الفطرة» و«صلاة العيد»، ومن المعلوم أنّ الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنّما شرّعت بالمدينة بعد الهجرة(5).
ويحتمل أيضاً أنّ الأمر بالصلاة العيد والزكاة الواردين في آخر السّورة، هما
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص 544.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص 472.
5 ـ تفسير الميزان، ج20، ص386.
أمران عامان، وما صلاة وزكاة الفطرة إلاّ مصداقان لهما، والتّفسير بالمصداق كثير في روايات أهل البيت(عليهم السلام).
وعليه.. فلا يبعد أن تكون السّورة كلّها مكّية كما هو المشهور، بقرينة انسجام مقاطع الآيات الاُولى منها والأخيرة أيضاً.
ويصعب اعتبار كون بعضها مكّي والآخر مدني، خصوصاً وأنّ الرّوايات تذكر، بأنّ كلّ مجموعة من المسلمين حينما يصلون المدينة، كانوا يقرأون هذه السّورة لأهل المدينة(1).
فمن المستبعد أن يقرأ صدر السّورة في مكّة، ومن ثمّ ينزل ذيلها في المدينة.
* * *
1 ـ للتفصيل ـ راجع الدر المنثور، ج6، ص337.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1) الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىْ(5)
تبدأ السّورة بخلاصة دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، حيث التسبيح والتقديس أبداً للّه الواحد الأحد، فتخاطب النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (سبح اسم ربّك الأعلى).
يذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المراد بالـ «اسم» هنا هو (المسمى)، في حين قال آخرون هو (اسم اللّه) سبحانه وتعالى.
وليس ثمّة فرق كبير بين القولين، فالإسم يدّل على المسمى.
وعلى أيّة حال، فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كلّ عيب ونقص، ومن كلّ صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.
فينبغي على المؤمنين ألاّ يتعاملوا مع اسمه الجليل كتعامل عبدة الاصنام، بأن يضعوا اسمه تعالى مع أسماء أصنامهم، ولا يفعلوا كما يفعل المجسمة، ممن وقعوا في خطأ كبير وفاحش حينما نسبوا إلى الباري جلّ جلاله الصفات الجسمية.
(الأعلى): أي الاعلى من كلّ: أحد، تصوّر، تخيّل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.
(ربّك): إشارة إلى أنّه غير ذلك الرّب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.
وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية اللّه العليا..: (الذي خلق فسوّى)
(سوّى): من (التسوية)، وهي الترتيب والتنظيم، ويضم هذا المفهوم بين جناحيه كلّ أنظمة الوجود، مثل: النظام السماوي بنجومه وكواكبه، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن.
أمّا ما قيل، من كونها إشارة إلى نظام اليد أو العين أو اعتدال القامة، فهذا في واقعه لا يتعدى أن يكون إلاّ بيان لمصداق محدود من مصاديق هذا المفهوم الواسع.
وعلى أيّة حال، فنظام عالم الخليقة، بدءاً من أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (4) من سورة القيامة (بلى قادرين على أن نسوّي بنانه)، وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية، كلها شواهد ناطقة على ربوبية اللّه سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزّوجلّ.
وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: (والذي قدّر فهدى).
والمراد بـ (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الاُمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلاّ لأجلها.
والمراد بـ (هدى)هنا، هي: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية
حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).
فمثلاً، إنّ اللّه خلق ثدي المرأة وجعل في اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الاُمومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلاً غريزياً نحو ثدي اُمّه، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الاُم والابن والثدي مقدّر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.
وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.
وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية: (ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود، وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له)، وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية اللّه جلّ وعلا.
وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.
وتوصلنا الآية (50) من سورة طه لهذا المعنى، وذلك لمّا نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى(عليه السلام) بقوله: (ومَن ربكما يا موسى)، فأجابه(عليه السلام): (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).
وقد فُهم قول موسى(عليه السلام) بشكل مجمل في زمانه، وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية، ولكنّ.. مع دوران عجلة الأيّام، وتقدم العلوم البشرية، توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحيّة، فتوضح قول موسى(عليه السلام) أكثر فأكثر، حتى كتبت الآف الكتب في موضوع (التقدير) و(الهداية التكوينية)، ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات
باهرة، إلاّ إنّهم يؤكّدون على أنّ ما بقي خافي عليهم، هو أكثر بكثير ممّا توصلوا لمعرفته!
وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها: (والذي أخرج المرعى).
واستعمال كلمة (أخرج) فيه وصف جميل لعملية تكوّن النباتات، حيث إنّه يتضمّن وجودها داخل الأرض فأخرجها الباري منها.
وممّا لا شك فيه إنّ التغذية الحيوانية هي مقدمة لتغذية الإنسان، وبالنتيجة فإنّ فائدة عملية تغذية الحيوان تعود إلى الإنسان.
ثمّ: (فجعله غُثاء أحوى).
«الغثاء»: هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كلّ ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم.
«أحوى»: من (الحوة) ـ على زنة قوّة ـ وهي شدّة الخضرة، أو شدّة السواد، وكلاهما من أصل واحد، لأنّ الخضرة لو اشتدّت قربت من السواد، وجاء في الآية بمعنى: تجمع النبات اليابس وتراكمه حتّى يتحول لونه تدريجياً إلى السواد.
ويمكن أن يكون اختيار هذا التعبير في مقام بيان النعم الإلهية، لأحد أسباب ثلاث:
الأوّل: إنّ حال هذه النباتات يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا، لتكون دوماً درساً وعبرة للإنسان، فهي بعد أن تنمو وتخضر في الربيع، شيئاً فشيئاً ستيبس وتموت بعد مرور الأيّام عليها، حتى يتحول جمالها الزاهي في فصل الربيع إلى سواد قاتم، ولسان حالها يقول بعدم دوام الدنيا وانقضائها السريع.
الثّاني: إنّ النباتات اليابسة عندما تتراكم، فستتحول بمرور الوقت إلى سماد طبيعي، ليعطي الأرض القدرة اللازمة لإخراج نباتات جديدة اُخرى
الثّالث:إنّ الآية تشير إلى تكوّن الفحم الحجري من النباتات والأشجار.
فكما هو معلوم، إنّ الفحم الحجري، والذي يعتبر من المصادر المهمّة للطاقة، قد تكوّن من النباتات والأشجار التي يبست منذ ملايين السنين، ودفنت في الأرض حتى تحجرت واسود لونها بمرور الزمان.
ويعتقد بعض العلماء، بأنّ مناجم الفحم الحجري قد تكوّنت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (250) مليون سنة تقريباً!
ولو أخذنا بنظر الاعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحم الحجري في العالم، لوجدنا أنّها تؤمن احتياج النّاس لأكثر من (4000) سنة.
وتفسير الآية بالمعنى الأخير دون غيره بعيد حسب الظاهر، ولا يستبعد أن تكون الآية قد أرادت كل ما جاء في المعاني الثلاث أعلاه.
وعلى أيّة حال، فللغثاء الأحوى منافع كثيرة.. فهو غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.
فما ذكرته الآيات من صفات: الربوبية، الأعلى، الخلق، التسوية، التقدير، الهداية وإخراج المرعى، توصلنا إلى الربوبية الحقّة للّه جلّ وعلا، وبقليل من التأمل يتمكن أيّ إنسان من إدراك هذا المعنى، ليصل نور الإيمان إلى قلبه، فيشكر المنعم على ما أعطى.
* * *
مسألة التقدير والهداية العامّة للموجودات، التي تناولتها الآيات الآنفة الذكر كمظهر من مظاهر ربوبية اللّه عزّوجلّ، تعتبر من المسائل الحيوية والتي كلما تقدم الزمان وتوسعت مدارك وعلوم الإنسان، إزداد في الوصول إلى حقائق جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة.
فالإكتشافات العلمية الجديدة في كلّ يوم تحيطنا علماً لرؤية وجوه جديدة رائعة لتقدير اللّه مخلوقاته وهدايته لها.
ويزيّن المفسّرون تفاسيرهم ببعض النماذج من تلك الأسرار الرائعة في خصوص الهداية التكوينية لحركة الحيوانات، واعتمد البعض على ما ذكره العالم المعروف (كريسي موريسن) في كتابه (أسرار خلق الإنسان)، وإليكم مختصراً ممّا جاء فيه:
1 - تقطع الطيور المهاجرة ـ في بعض الأحيان ـ الآف الكيلومترات في السنة، عابرة الصحارى والغابات والبحار، وعند عودتها تعرف طريق موطنها الأصلي بكل دقّة، ولا تضل عنه أبداً.
ومن النحل ما يبتعد عن خليته لمسافات بعيدة جدّاً، ولكنّه يعود إلى خليته بكلّ سهولة ويسر، في حين نرى الإنسان في حال عودته إلى وطنه يحتاج إلى عناوين وعلامات دقيقة، حتى لا يضل الطريق!
2 ـ الحشرات تتمتع بعيون مجهرية ذات دقّة فائقة حيّرت عقول العلماء، من حيث بنائها وقدرتها على النظر في حين أن عيون الصقور تلسكوبية تعينها على النظر لمسافات بعيدة جدّاً.
3 ـ حينما يسير الإنسان بين عتمة الليل الداكنة فلابدّ له من إضاءة تعينه في مسيره، إلاّ أنّ كثيراً من الطيور تصل أهدافها في حلكة الليل الدامس، مستعينة بما لعيونها من قدرة على التحسس بالأشعة ما دون الحمراء! ولبعضها مراكز حسّاسة تشبه في عملها الرادارات المتطورة!
4 ـ للكلاب حاسة شم مميزة، تستطيع من خلالها معرفة أيّ كائن حي يقع في طريقها، وهذا ما لا يتوفر عند الإنسان، بالرغم من التقدم التقني الذي وصل إليه.
5 ـ حاسة السمع عند جميع الحيوانات أقوى وأدق من سمع الإنسان بدرجات، على الرغم من استعمال الإنسان للأجهزة العلمية المتطورة في سمعه،
بحيث يستطيع أن يستمع إلى حركة أجنحة ذبابة على بُعد عدّة كيلومترات منه!
ولعل السرّ في هذا التفاوت بين قدرة حواس الإنسان والحيوان، يرجع إلى القدرة العقلية المودعة في الإنسان، والتي بها يسد كلّ نقص، فيما لا تمتلك الحيوانات هذه القدرة الفعالة
6 ـ وثمّة حركة عجيبة عند بعض الأسماك الصغيرة، فهي تقضي السنين من عمرها في البحار، ولكن حين يحين وقت وضع البيض، فإنّها تترك البحار متجهة إلى تلك الأنهار التي فيها ولدت، فتسير بعكس التيار لمدّة طويلة حتى تصل إلى مسقط رأسها، المكان المناسب لتكاثرها!
7 ـ والاعجب منها حياة بعض الأسماك وحيوانات الماء التي تسلك في حياتها عكس الصنف السابق.
* * *
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى(6) إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7) وَنُيَسِّرُكَ لَليُسْرَى(8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى(12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى(13)
فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية اللّه وتوحيده جلّ شأنه، والهداية العامّة للموجودات، وكذا عن تسبيح الرّب الأعلى.. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن: القرآن والنّبوّة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح.
فتقول الآية الاُولى مخاطبة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): (سنقرئك فلا تنسى).
فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها، ويخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً.
وتدخل الآية في سياق الآية (114) من سورة طه: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً)، وكذا الآية (16) من سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرءانه) تدخل في سياقهما.
ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأنّ كلّ خير منه، تقول الآية: (إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر وما يخفى).
ولا يعني هذا الاستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وطراً، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبداً، وإلاّ لتزعزعت الثقة في قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعبارة اُخرى، إنّما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم اللّه تعالى الذاتي، وعلم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المعطى له من بارئه.
والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية (108) من سورة هود، بخصوص خلود أهل الجنّة: (وأمّا الذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ).
فـ (خالدين فيها) دليل على عدم خروج أهل الجنّة منها أبداً، فإذن.. عبارة (إلاّ ما شاء ربّك) تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية، وارتباط كلّ شيء بمشيئته جلّ وعلا، سواءً في بداية الوجود أم في البقاء.
وممّا يشهد على ذلك أيضاً.. أنّ حفظ بعض الاُمور ونسيان اُخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم، ولكنّ اللّه تعالى ميزّ حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن، والأحكام والمعارف الإسلامية، حينما خاطبه بـ : (سنقرئك فلا تنسى).
وقيل: اُريد بهذا الإستثناء تلك الآيات التي نسخ محتواها ونسخت تلاوتها أيضاً.
ولكن لعدم ثبوت وجود هكذا آيات، فلا يمكننا الإعتماد على هذا القول
الآنف أعلاه.
وقيل أيضاً: إنّ الإستثناء يختص بقراءة بعض الآيات، فعلى هذا يكون مفهوم الآية هو: إنّنا سنقرئك آيات القرآن إلاّ بعض الآيات التي أراد اللّه عزّوجلّ أن تبقى في مخزون علمه..
ولا يتوافق هذا القول مع سياق الآية.
أمّا جملة: (إنّه يعلم الجهر وما يخفى) فلبيان علّة أمر تضمّنته جملة (سنقرئك)، أي: إنّ العليم جلّ اسمه عالم بجميع حقائق الوجود، أمّا ما يوحيه إليك، فهو ما يحتاج إليه البشر، ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شيء.
وقيل أيضاً: إنّ مراد الآية هو: على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يتعجل في أخذ الوحي، وأنّ لا يخشى نسيانه، فاللّه الذي يعلم الاُمور ما خفي منها وما ظهر، سوف لا يتركه وقد تعهد له بالحفظ.
وعلى أيّة حال، فمن معاجز النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل(عليه السلام)، دون أنّ ينسى منها شيئاً أبداً.
وتخاطب الآية التالية النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) مسلية له: (ونيسّرك لليسرى).(1)
أي، إخبار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بصعوبة الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويمكن كذلك أن تكون إشارة الآية إلى أن طبيعة الرسالة الإسلامية والتكاليف التي تضمّنتها، طبيعة سهلة وسمحة، خالية من الحرج والمشقّة.
وهذا المعنى يعطي شمولية أكثر لمفهوم الآية، بالرغم من أنّ أكثر المفسّرين قد حددوا الآية ببعد واحد من أبعاد مفهومها.
1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ مفهوم الآية هو: «نيسّر اليسرى لك»، وإنّما حصل فيها التقديم والتأخير للتأكيد، وهذا على أن لا تكون «نيسرك» بمعنى (نوفقك)، وإلاّ لم تكن هناك حاجة للتقديم والتأخير.
وحقّاً، فلولا توفيق اللّه وتيسيره للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمكنه من التغلب على كل تلك المشاكل والصعاب التي واجهته في حياته الرسالية، وحياته الشريفة تنطق بذلك.
فنراه بسيطاً في لباسه، قنوعاً في طعامه، متواضعاً في ركوبه، وتارة ينام على الفراش واُخرى على التراب بل وعلى رمال الصحراء أيضاً.
فليس في حياته الشريفة أيّ تكلف، ولا أدنى تشريف من التشريفات الزائفة الواهية المحيطة بزعماء ورؤساء أيّ قوم أو اُمّه.
وبعد أن تبيّن الآيات العناية الرّبانية للنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية: (فذكّر إن نفعت الذكرى).
![]() |
![]() |
![]() |