![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ يجب ملاحظة أن «منفكين» جمع (منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول، فعلى التّفسيرين الأوّل والثّاني تعطي معنى اسم الفاعل، وعلى التّفسير الثّالث معنى اسم المفعول، فلاحظ.
2 ـ فصلت، الآية 42.
الإنحراف والإعوجاج. من هنا فإنّ هذه «الكتب» تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى: (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم)(1).
وبهذا يكون معنى «قيمة» السويّة والمستقيمة، أو الثابتة والمستحكمة، أو ذات قيمة، أو كل هذه المعاني مجتمعة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة.
ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الاُولى، والإقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تريد الإثنين.
وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم. أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين. معارضتهم ـ إذن ـ أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع.
ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)(2).
ثمّ تضيف الآية القول:
(وذلك دين القيمة).
1 ـ البقرة، الآية 183.
2 ـ جملة «وما اُمروا» قد تكون حالية أو استثنافية. واللام في «ليعبدوا» لام الغرض، والمقصود هنا الغرض الذي يعود على العباد، لا الغرض الذي يعود على اللّه كما تصور بعض المفسّرين وأدى بهم هذا التصور إلى إنكار «لام الغرض» في مثل هذه المواضع. كل أفعال اللّه معللة بالأغراض، لكنّها أغراض تعود على العباد. بعضهم اعتبر اللام هنا بمعنى «أن» كما في قوله تعالى: (يريد اللّه ليبيّن لكم) النساء، الآية 26.
قيل في معنى «وما اُمروا...» أن المقصود هو: إنّ التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب، لكنّهم لم يبقوا أوفياء لهذه التعاليم.
وقيل: المقصود هو إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه اُمور معروفة فلماذا يعرضون عنها؟.
يبدو أنّ المعنى الثّاني أقرب. لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الإختلاف في قبول الدين الجديد، والمناسب هنا أن يكون المراد في «اُمروا...» هو الدين الجديد أيضاً.
أضف إلى ذلك أنّ المعنى الأوّل يصدق على أهل الكتاب وحدهم، بينما المعنى الثّاني يشمل المشركين أيضاً.
المقصود بـ «الدين» في عبارة (مخلصين له الدين حنفاء) قد يكون «العبادة»، وعبارة «إلاّ ليعبدوا اللّه» في الآية تؤكّد هذا المعنى.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة، أي أنّهم اُمروا أن يعبدوا اللّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات. وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين. وجملة (وذلك دين القيمة) تؤيد هذا المعنى لأنّها طرحت الدين بمفهومه الواسع.
«حنفاء» جمع «حنيف»، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم، كما يقول الراغب في المفردات. والعرب تسمي كلّ من حج أو خُتِنَ «خَنيفا» إشارة إلى أنّه على دين إبراهيم.
و«الأحنف» من كانت رجله عوجاء. ويبدو أنّ الكلمة كانت في الأصل تستعمل للإنحراف والإعوجاج، والنصوص الإسلاميّة استعملتها بمعنى الإنحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.
ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد اطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم «حنيف»، أي منحرف. ثمّ أصبحت الكلمة بالتدريج اسماً
لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والإعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط; غير أنّ هذه معان ثانوية للكلمة.
جملة (وذلك دين القيمة)(1) إشارة إلى أنّ الاُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط باللّه) والزكاة (الارتباط بالنّاس) من الاُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان. ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.
من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيين(صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
1 ـ دين القيمة، مضاف مضاف إليه، وليس صفة وموصوف ومفهومها أنّه دين ورد في الكتب السابقة مستقيم وذو قيمة أو أنّه دين فيه احكام وتعليمات ذات قيمة، فعلى هذا جاءت الكلمة بصيغة المؤنث لأنّها صفة للكتب أو الملة والشريعة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَالْمُشرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَآ أُولَـئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الْصَّـلِحَـتِ أُولَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7) جَزَآؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّـتُ عَدْن تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَدَاً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُم وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ(8)
الآيلات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من اللّه، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.
هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة «كافرة» و«مؤمنة» تذكر الكافرين أوّلاً بالقول: (إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها اُولئك هم شرّ البريّة).
وإنّما قال «كفروا» لكفرهم بالدين المبين، وإلاّ فإنّ كفرهم ليس بجديد.
وعبارة (اُولئك هم شرّ البريّة) عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى: (إنّ شرّ الدواب عند اللّه الصم البكم الذين لا يعقلون)(1).
وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار: (اُولئك كالأنعام بل هم أضل اُولئك هم الغافلون)(2).
وهذه الآية التي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا تذهب إليه غيرها، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنم.
ولم لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فاعرضوا عنها كبراً وغروراً وعناداً.
تقديم ذكر «أهل الكتاب» على «المشركين» في هذه الآية أيضاً، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة).
والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللّه من مثوبة:
(جزاؤهم عند ربّهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربّه).
يلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل
1 ـ الأنفال، الآية 22.
2 ـ الأعراف، الآية 179.
لابدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكن الكفر وحده ـ وإن لم يقترن بالأعمال السيئة ـ مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لانواع الذنوب والجرائم والإنحرافات.
عبارة (اُولئك هم خير البريّة) تبيّن بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاُخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: (ولقد كرمنا بني آدم)(1).
هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم، وهو رضا اللّه عنهم ورضاهم عنه.
إنّهم راضون عن اللّه لأنّ اللّه أعطاهم ما أرادوه، واللّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإنّ كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.
نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللّه ولقاؤه.
جملة (ذلك لمن خشي ربّه) تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من «خشية اللّه». لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.
بعض المفسّرين قرن هذه الآية، بالآية (28) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه: (إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء) وخرج بنتيجة هي أنّ الجنّة للعلماء طبعاً لابدّ أن نأخذ بنظر الإعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم.
قيل أيضاً أن «الخشية» أسمى من «الخوف»، لأنّها خوف مقرون بالتعظيم والإحترام.
* * *
1 ـ الاسراء، الآية 70.
ثمّة روايات كثيرة بطرق أهل السنة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسّرت الآية: (اُولئك هم خير البريّة) بأنهم علي وشيعته.
«الحاكم الحسكاني النيسابوري» عالم أهل السنة المعروف في القرن الخامس الهجري نقل هذه الرّوايات في كتابه المشهور «شواهد التنزيل» بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الرّوايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1 ـ عن ابن عباس قال: عندما نزلت آية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البريّة) قال رسول اللّه لعلي: «هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضباناً مقحمين»(1).
2 ـ وعن أبي برزة قال: حينما تلا رسول اللّه هذه الآية قال: «هم أنت وشيعتك يا علي، وميعاد ما بيني وبينك الحوض»(2).
3 ـ وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: كنّا جالسين عند النبيّ جوار الكعبة، فاقدم علينا علي، وحين رآه النبيّ قال: «قد أتاكم أخي»، ثمّ التفت إلى الكعبة، وقال: «وربّ هذه البيّنة! إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة» .
ثمّ التفت إلينا وقال: «أما واللّه إنّه أوّلكم إيماناً باللّه، وأقومكم بأمر اللّه، وأوفاكم بعهد اللّه، وأقضاكم بحكم اللّه، وأقسمكم بالسوية، وأعدلكم في الرعية وأعظمكم عند اللّه مزية»
قال جابر: فأنزل اللّه: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة)فكان علي إذا أقبل قال أصحاب محمّد قد أتاكم خير البرية بعد رسول
1 ـ شواهد التنزيل، ج2، ص357، الحديث 1126.
2 ـ المصدر السابق، ص359، الحديث 1130.
اللّه.(1)
نزول هذه الآية جوار الكعبة لا يتنافى مع مدنية السّورة. إذ من الممكن أن تكون من قيبل النزول المجدد، أو التطبيق، أضف إلى ذلك أنّ نزول هذه الآيات لا يستبعد أن يكون خلال أسفار النّبي إلى مكّة من المدينة، خاصّة أنّ الراوي (جابر بن عبد اللّه الأنصاري) قد التحق بالنّبي في المدينة.
بعض هذه الأحاديث رواها ابن حجر في الصواعق، ومحمّد الشبلنجي في نور الابصار(2).
وجلال الدين السيوطي نقل القسم الأعظم من الرّواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري(3).
4 ـ في «الدر المنثور» عن ابن عباس قال: «حين نزلت آية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة). قال رسول اللّه لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين».
5 ـ وفي الدر المنثور أيضاً عن ابن مردويه عن علي(عليه السلام) قال: «قال لي النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تسمع قول اللّه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة)؟ أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجلين»(4).
كثير من علماء السنة، سوى من ذكرنا، نقلوا مثل هذه الرّوايات في كتبهم منهم: الخطيب الخوارزمي في المناقب، وأبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصام، والعلاّمة الطبري في تفسيره، واين صباغ المالكي في الفصول المهمّة، والعلاّمة
1 ـ المصدر السابق، ص362، الحديث 1139.
2 ـ الصواعق المحرقة، ص 96; ونور الابصار، ص 70 و 101.
3 ـ الدر المنثور، ج6، ص379.
4 ـ المصدر السابق.
الشوكاني في فتح الغدير، والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة، والآلوسي في روح المعاني.
باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي وأتباعه.
وهذه الرّوايات تدل ضمناً أنّ كلمة «الشيعة» باعتبارها اسماً لأتباع علي(عليه السلام)كانت قد شاعت منذ عهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين على لسان الرّسول نفسه. وأُولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.
بعض علماء اُصول الفقه استدلوا بالآية: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين)على لزوم «قصد القربة» في العبادات، وأن الأصل في الأوامر أنّها تعبدية لا توصلية. وهذا يتوقف على كون «الدين» في الآية بمعنى العبادة كي يصحّ الإستدلال بها على لزوم الإخلاص في العبادات... ويتوقف على أنّ يكون (الأمر) في الآية بشكل مطلق كي يكون مفهومها لزوم قصد القربة في كل الأوامر (عدا ما خرج منها بدليل). غير أنّ مفهوم الآية ليس كذلك على الظاهر. فالمقصود إثبات التوحيد مقابل الشرك، أي إنّ هولاء لم يؤمروا إلاّ بالتوحيد، وبهذا لا ترتبط المسألة بالأحكام الفرعية.
من آيات هذه السّورة المباركة يستفاد أنّ الانسان فريد بين مخلوقات الكون في البون الشاسع الذي يفصل بين منحنى ارتفاعه وسمّوه وبين منحنى سقوطه وهبوطه. لو كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة «عملوا الصالحات» تشمل كلّ الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق اللّه; وإنّ سلك
طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوة سحيقة وكان شرّ خلق اللّه.
هذا البون الشاسع بين الإتجاهين ـ رغم خطورته وحساسيته ـ له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشري وقابليته للتكامل. وطبيعي أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط.
ربّنا! نستمد العون من فضلك وإحسانك لبلوغ درجة «خير البرية»
ربّنا! اجعلنا من شيعة ذلك الرجل الصالح الذي كان أجدر من نال هذه الدرجة.
ربّنا! مُنّ علينا باخلاص يجعلنا متفانين في حبّك وعبادتك.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة البيّنة
* * *
مَدنيَّة
وعَددُ آياتِها ثماني آيات
اختلف المفسّرون في مكّية هذه السّورة أو مدنيتها. كثيرون ذهبوا إلى أنّها مدنية. بينما ذهب بعض إلى أنّها مكّية لما تتناوله آياتها من حديث حول «المعاد» و«أشراط الساعة» (علامات يوم القيامة)... وهي موضوعات الآيات المكّية عادة. ولكنّ ثمّة رواية عن «أبي سعيد الخدري» أنّه سأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزول هذه السّورة عن آية: (فمن يعمل مثقال ذرة...) وأبو سعيد انضم إلى المسلمين في المدينة(1).
ولا تأثير لمكيتها أو مدنيتها على مفاهيمها التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية: تتحدث أوّلاً عن علامات البعث ويوم القيامة...ثمّ عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد.. وبعد ذلك تقسم النّاس إلى مجموعتين صالحة وطالحة وتبيّن أنّ كلّ مجموعة ترى ثمار عملها.
وردت في فضيلة هذه السّورة نصوص تحمل إشارات هامّة من ذلك ما روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة وأُعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن»(2).
1 ـ روح المعاني، ج30، ص308.
2 ـ مجمع البيان، ج10، ص524.
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال:
«لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت الأرض زلزالها)فإنّه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه اللّه عزّوجلّ بزلزلة أبداً، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت».(1)
* * *
1 ـ اُصول الكافي على ما في نور الثقلين، ج5، ص647، ح4.
إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2) وَقَالَ الأِنْسَـنُ مَا لَهَا(3) يَوْمَئِذ تُحِدِّثُ أَخْبَارَهَا(4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5) يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَـلَهُمْ(6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرَاً يَرَهُ(7)وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرَّاً يَرَهُ(8)
هذه السّورة تبدأ ـ كما ذكرنا في محتواها ـ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول:
(إذا زلزلت الأرض زلزالها)(1).
(وأخرجت الأرض أثقالها).
1 ـ إذا شرطية، يحتمل أن يكون جزاء شرطها «يومئذ تحدث أخبارها» أو «يومئذ يصدر النّاس أشتاتاً»، أو أنّ الجزاء محذوف والجملة جاءت جواباً لسؤال: متى الساعة؟ والتقدير: إذا زلزلت الأرض زلزالها تقوم الساعة.
عبارة «زلزالها» تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافاً للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة(1).
و«الأثقال» ذكر لها المفسّرون معاني متعددة. قيل إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال. كما جاء في قوله سبحانه: (وألقت ما فيها وتخلت)(2).
وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا(3).
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.
يومكن الجمع بين هذه التفاسير.
في ذلك الجو المليء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟
(وقال الإنسان ما لها).
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الإنسان في الآية هو الكافر الذي كان شاكاً في المعاد والبعث، ولكن الظاهر أنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.
وهل هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاُولى أو الثّانية؟ أي هل يرتبط
1 ـ بالمعنى الأوّل الإضافة لها معنى العموم، وفي الحالة الثّانية معنى العهد. ثمّ إنّ الزلزال بكسر الزاي مصدر، والزلزال بفتح الزاي اسم مصدر، وهذه القاعدة جارية في الفعل الرباعي المضاعف مثل (صلصال) و(وسواس).
2 ـ الإنشقاق، الآية 4.
3 ـ «أثقال» جمع ثقل ـ على وزن فكر ـ بمعنى الحمل، وقيل إنّه جمع ثَقَل، على وزن عمل، وهو متاع البيت أو المسافر. والمعنى الأوّل أنسب.
بنهاية الأرض أم بالبعث؟
الظاهر أنّها النفخة الاُولى حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.
ويحتمل أيضاً أن تكون نفخة البعث والنشور، وإخراج النّاس من الأجداث والآيات التالية ترتبط بالنفخة الثّانية.
ولما كان القرآن يتحدث في مواضع مختلفة عن أحداث النفختين معاً، فالتّفسير الأوّل أنسب لما ورد من ذكر الزلزال المرعب في نهاية العالم. وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.
وأهم من ذلك أنّ الأرض:
(يومئذ تحدث أخبارها).
تحدّث بالصالح والطالح، وبأعمال الخير والشر، ممّا وقع على ظهرها. وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم. وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.
وفي حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عملوا على ظهرها. تقول عمل كذا وكذا، يوم كذا، فهذا أخبارها»(1).
وفي حديث آخر عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «حافظوا على الوضوء وخير أعمالكم الصلاة، فتحفظوا من الأرض فإنّها اُمّكم، وليس فيها أحد يعمل خيراً أو شرّاً إلاّ وهي مخبرة به»(2).
وعن أبي سعيد الخدري قال: متى كنت في بيداء فارفع صوتك بالأذان لأنّي
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص649.
2 ـ مجمع البيان، ج10، ص526.
سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له»(1).
وهل إن تحديث الأرض يعني أنّها تتكلم في ذلك اليوم بأمر اللّه، أم إن المقصود ظهور آثار أعمال الإنسان على ظهر الأرض؟
واضح أنّ كل عمل يقوم به الإنسان يترك آثاره حتماً على ما حوله، وإن خفيت علينا هذه الآثار اليوم، تماماً مثل آثار أصابع اليد التي تبقى على مقبض الباب، وفي ذلك اليوم تظهر كل هذه الآثار، وحديث الأرض ليس سوى هذا الظهور الكبير; تماماً كما نقول لشخص نعسان: عينك تقول إنّك كنت سهراناً أمس. أي إنّ آثار السهر عليها واضحة.
وليس هذا الموضوع بغريب اليوم بعد الإكتشافات العلمية والإختراعات القادرة في كلّ مكان وفي لحظة أن تسجل صوت الإنسان وتصور أعماله وحركاته في أشرطة يمكن طرحها في المحكمة كوثائق إدانة لا تقبل الإنكار.
لو كانت شهادة الأرض فيما مضى عجيبة، فليست اليوم بعجيبة ونحن نرى شريطاً رقيقاً يمكن أن يكون بحجم أزرار اللباس قادراً على أن يحتفظ بكثير من الأعمال والأقوال.
وفي حديث عن علي(عليه السلام) قال: «صلوا المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كلّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة»(2).
وعنه(عليه السلام) أيضاً حينما كان يفرغ من تقسيم بيت المال يصلي ركعتين ويقول: «إشهدي أنّي ملأتك بحق وفرغتك بحق»(3).
(بأنّ ربّك أوحى لها).(4)
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ لئاليء الأخبار، ج5، ص 79 (الطبعة الجديدة).
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ الباء في (بأنّ) للسببية واللام في (لها) بمعنى إلى كما ورد في قوله تعالى: (وأوحى ربّك إلى النحل) (النحل، الآية68).
فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها، وهي لا تتواني في تنفيذ أمر الرّب.
وعبارة «اُوحى» إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.
قيل: إنّ المقصود هو أنّ اللّه يوحي للأرض أن تخرج أثقالها.
والتّفسير الأوّل أصح وأنسب، (يومئذ يصدر النّاس أشتاتاً ليروا أعمالهم).
«أشتات» جمع «شتّ» ـ على وزن شط ـ وهو المتفرق والمبعثر. أي إنّ النّاس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين. وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كلّ دين منفصلين عن الآخرين.
أو قد يكون لورود أهل كلّ نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.
أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.
أو إن كلّ اُمّة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى: (يوم تدعوا كلّ اُناس بإمامهم).(1)
أو أنّ يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.
الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً لأنّ مفهوم الآية واسع.
«يصدر» من الصدور، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة وعكسه الورود. وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.
ويحتمل أيضاً أن يكون صدور النّاس في الآية من المحشر والتوجه نحو مستقرهم في الجنّة أو النّار.
المعنى الأوّل أكثر تناسباً مع الآيات السابقة.
1 ـ الاسراء، الآية 71.
المقصود من عبارة (ليروا أعمالهم) هل هو: ليروا جزاء أعمالهم.
أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال.
أو أنّها تعني «تجسم الأعمال» ورؤية الأعمال نفسها؟!
التّفسير الأخير أنسب مع ظاهر الآية. وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال. حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالاً تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها. وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً.
ثمّ ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة.
(ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره).
(فمن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره).
وهنا أيضاً تفسيرات مختلفة لرؤية الأعمال هل هي رؤية جزاء الأعمال، أم صحيفة الأعمال، أو العمل نفسه.
ظاهر الآية يدل أيضاً على مسألة «تجسم الأعمال» ومشاهدة العمل نفسه، صالحاً أم سيئاً، يوم القيامة. حتى إذا عمل ما وزنه ذرة من الذرات يره مجسماً يوم القيامة.
«مثقال» في اللغة بمعنى الثقل، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل والمعنى الأوّل هوالمقصود في الآية.
و«الذرة» ذكروا لها معاني متعددة من ذلك، النملة الصغيرة، والغبار الذي يلصق باليد عند وضعها على الأرض، وذرات الغبار العالقة في الجو التي تتّضح عندما تدخل حزمة ضوء من ثقب داخل غرفة مظلمة.
والذرة تطلق اليوم على أصغر جزء من أجزاء المادة والتي منها تصنع «القنبلة الذرية»، مع احتفاظه بخواص المادة الأصلية. ولا ترى بأقوى المجاهر، وتشاهد
آثارها فقط، وتعرف خواصها بالمحاسبات العلمية..
مهما كان مفهوم الذرة فهو هنا أصغر وزن.
هذه الآية على أي حال تهزّ كيان الإنسان الواعي من الأعماق، وتشير إلى أنّ حساب اللّه في ذلك اليوم دقيق وحساس للغاية. وميزان أعمال النّاس دقيق إلى درجة يحصي أقلّ أعمال الإنسان.
* * *
الآيتان المذكورتان وآيات اُخرى مشابهة تدلّ دلالة واضحة على الدقّة المتناهية في تحرّي الأعمال وفي المحاسبة يوم القيامة، كقوله سبحانه: (يا بني إنّها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها اللّه إن اللّه لطيف خبير)(1).
و«الخردل» بذر صغير جدّاً لنبات معروف يضرب به المثل لصغره.
هذه التعابير القرآنية تدلّ على أنّ أصغر الأعمال يحاسب عليها في تلك المحاسبة الكبرى، وهذه الآيات تحذر أيضاً من استصغار الذنوب الصغيرة، أو التهاون في أعمال الخير والصغيرة. فما يحاسب عليه اللّه سبحانه ـ مهما كان ـ ليس بقليل الأهمية.
لذلك قال بعض المفسّرين إنّ هذه الآيات نزلت حين كان بعض الصحابة يتهاون في إنفاق الأموال القليلة، وكانوا يقولون: إنّ الأجر يتوقف على إنفاق ما نحبّ، والأشياء الصغيرة لا نحبها. وهكذا كانوا يستهينون بالذنوب الصغيرة.
1 ـ لقمان، الآية 16.
فنزلت الآيات وحثتهم على فعل الخيرات مهما قلت ونهتهم عن الذنوب مهما صغرت.
يطرح هنا سؤال بشأن ما تحدثت عنه الآيات وهو أنّ الإنسان يرى كلّ أعماله صالحة أم طالحة، صغيرة أم كبيرة. فكيف ينسجم ذلك مع الآيات التي تطرح مفاهيم «الإحباط» و«التكفير» و«العفو» و«التوبة»؟
فآيات «الإحباط» تقرر أنّ بعض السيئات مثل الكفر يذهبن الحسنات: (لئن أشركت ليحبطن عملك)(1).
وآيات «التكفير» تقول: (إنّ الحسنات يذهبن السيئات)(2)
![]() |
![]() |
![]() |