قيل: الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع، وقليل اُولئك من الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجّة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم.(1)

ولكن ثمّة من يعتقد أنّ في الآية محذوف، والتقدير: (فذكّر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع)، وهذا يشبه ما جاء في الآية (18) من سورة النحل: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، فذكر «الحر» وأضمر (البرد) لوضوحه بقرينة المقابلة.

وهناك مَن يؤكّد على أنّ الجملة الشرطية في الآية، لها مفهوم، والمراد: أنّه يجب عليك التذكير إذا كان نافعاً، فإن لم يكن نافعاً فلا يجب.

وقيل: «إن»: ـ في الآية ـ ليست شرطية، وجاءت بمعنى (قد) للتأكيد والتحقيق، فيكون مراد الآية: (ذكر فإنّ الذكرى مفيدة ونافعة).

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل مرجح على بقية التّفاسير الثّلاث، بقرينة سلوك


1 ـ وما في الآية بخلاف ما جاء في الآية (6) من سورة البقرة: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، لأنّها تختص بفئة قليلة من النّاس، وإلاّ فأكثر النّاس يتأثرون بالبلاغ المبين، وإن كانوا بدرجات متفاوتة، وعليه.. فالجملة الشرطية في الآية المبحوثة من قبيل القيد بالغالب الأعم.

[135]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في نشره الإسلام، تبليغه الحق، فإنّه كان يعظ وينذر الجميع.

وتقسم الآيات التالية النّاس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار، الذي مارسه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)...: (سيذّكر من يخشى)

نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح «الخشية»، والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق ـ والتي هي من مراتب التقوى ـ فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتّى تذكيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن «هدىً للمتقين».

وتذكر الآية التالية القسم الثّاني، بقولها: (ويتجنبها الأشقى)(1).

وجاء عن ابن عباس، إنّ الآية السابقة: (سيذّكر من يخشى) نزلت في (عبد اللّه بن اُم مكتوم)(2) ، ذلك البصير المؤمن الذي جاء إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طلباً للحق والتبصر به.

وروي، إنّ الآية: (ويتجنبها الأشقى) نزلت في (الوليد بن المغيرة) و(عتبة بن ربيعة) من رؤوس الشرك والكفر(3) .

وقيل: يراد بالأشقى، المعاندين للحق بعداء، فالنّاس على ثلاثة أقسام: إمّا عارف وعالم، وإمّا متوقف شاك، أو معاند، وأفراد الطائفة الاُولى والثّانية ينتفعون من التذكير طبيعياً، فيما لا ينفع القسم الثّالث منهم، وليس للتذكير من أثر عليه سوى إتمام الحجّة.

ويُفهم من سياق الآية، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينذر ويعظ حتى المعاندين، لكنّهم كانوا يتجنبونه ويهربون منه.

يبدو من خلال الآيتين الآنفتي الذكر أنّ «الشقاء» يقابل «الخشية» في حين


1 ـ يعود ضمير «يتجنبها» على «الذكرى» الواردة في الآيات السابقة.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7110.

3 ـ تفسير الكشّاف; روح المعاني (في ذيل الآيات المبحوثة).

[136]

أنّ (السعادة) هي التي تقابله، ولعل هذا التقابل يستبطن حقيقة كون أساس سعادة الإنسان مبنية على إحساسه بالمسؤولية وخشيته.

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثّاني: (الذي يصلى النّار الكبرى).. (ثمّ لا يموت فيها ولا يحيى).

أيّ، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياةً خالية من العذاب، فهو أبداً يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة!

ولكن ما هي «النّار الكبرى»؟

قيل: إنّها أسفل طبقة في جهنم، وأسفل السافلين، ولِمَ لا يكون ذلك وهم أشقى النّاس وأشدّهم عناداً للحق.

وقيل أيضاً: إنّ وصف تلك النّار بـ «الكبرى» مقابل (النّار الصغرى) في الحياة الدنيا.

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنّم، وقد اُطفئت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطيقها»(1).

وفي وصف نسبة بلاء الدنيا إلى بلاء الآخرة، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في دعاء كميل: «على أنّ ذلك بلاء مكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، قصير مدّته...».

* * *


1 ـ بحار الانوار، ج8: ص288، الحديث 21.

[137]

الآيات

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَوةَ الدُّنْيَا(16) وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىْ(17) إِنَّ هَـذا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولى(18) صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى(19)

التّفسير

اُسس دعوة الأنبياء جميعاً (عليهم السلام):

بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر اللّه.. ويقول القرآن: (قد أفلح مَن تزكّى).

(وذكر اسم ربّه فصلى).

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: «التزكية»، «ذكر اسم اللّة» و«الصلاة».

وقيل في معنى «التزكية» عدّة أقوال:

الا

[138]

أوّل: تطهير الروح وتزكيتها من الشرك، بقرينة الآيات السابقة، وباعتبار أن التطهير من الذنوب وعبادة اللّه، يعتمد بالأساس على التطهير من الشرك، فهو مقدمته اللازمة.

الثّاني: تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، والقيام بالأعمال الصالحة، بدلالة آيات الفلاح الواردة في كتاب اللّه الكريم، كالآيات الاُولى من سورة المؤمن التي ذكرت أعمالاً صالحة بعد أن قالت: (قد أفلح المؤمنون)، وكذا الآية (9) من سورة الشمس التي قالت، بعد ذكر مسألة التقوى والفجور: (قد أفلح مَن زكّاها).

الثّالث: «زكاة الفطرة» التي تؤدى يوم عيد الفطر، لأنّها تدفع أوّلاً ثمّ يصلى صلاة العيد، وهذا المعنى قد ورد في جملة رّوايات ، رويت عن الإمام الصادق(عليه السلام)(1)، كما وروي في كتب أهل السنة ما يؤيد هذا المعنى نقلاً عن  أمير المؤمنين(عليه السلام)(2).

ويواجه القول الثّالث بالإشكال التالي: إنّ سورة الأعلى مكيّة، في حين أن تشريع زكاة الفطرة وصوم شهر رمضان وصلاة العيد قد نزل في المدينة.

فأجاب البعض: لا مانع من اعتبار أوائل آيات السّورة مكّية وأواخرها مدنية، فتكون الآيات المبحوثة مدنية.

ويحتمل أن يكون التّفسير المذكور من قبيل بيان مصداق واضح للآية، وليس مطلق مراد الآية.

الرّابع: يراد بـ «التزكية» في الآية بمعنى: إعطاء الصدقة.

المهم أن «التزكية» ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير الأخلاق من الرذائل، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل اللّه، (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص556، الحديثين (19 و 20).

2 ـ روح المعاني، ج30، ص110، وتفسير الكشّاف، ج4، ص740.

[139]

وتزكيهم بها).

وبهذا تجمع كلّ الأقوال المذكورة لتدخل في مفهوم التزكية الواسع المداليل.

والجدير بالذكر أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن التزكيّة أولاً، ثمّ ذكر اللّه ثمّ الصلاة.

وقد أشار بعض المفسّرين إلى هذه المراتب، بعد أن جدولها بالمراحل العملية الثلاثة للمكلف:

الاولى: إزالة العقائد الفاسدة من القلب.

الثّانية: حضور معرفة اللّه وصفاته وأسمائه في القلب.

الثّالثة: الإشتغال بخدمته وفي سبيله جلّ وعلا.

ويمكن القول: إنّ الصلاة فرع لذكر اللّه، فإذا لم يذكر الإنسان ربّه، لم يسطع نور الإيمان في قلبه، وعندها فسوف لن يقوى على الوقوف للصلاة، والصلاة الحقّة هي تلك التي يصاحبها التوجّه الكامل والحضور التام بين يديه عزّوجلّ وهذان التوجّه والحضور إنّما يحصلان من ذكره سبحانه وتعالى.

أمّا ما ذكره البعض، من أنّ ذكر اللّه هو قول «اللّه أكبر» أو «بسم اللّه الرحمن الرّحيم» في بداية الصلاة، فإنّما هو بيان لأحد مصاديق الذكر ليس إلاّ.

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح: (بل تؤثرون الحياة الدنيا).. (والآخرة خير وأبقى).

ونقل الحديث النّبوي الشريف هذا المعنى، بقوله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».(1)

فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية، ولا أن يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلآم بالنعم الخالدة والنقية الخالصة.


1 ـ وروي الحديث بصور عدّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) والإمام السجاد(عليه السلام)، وورد معنى الحديث عن الإنبياء(عليهم السلام)أيضاً، ممّا يشير إلى أهميته البالغة.

[140]

وتختم السّورة بـ : (إنّ هذا لفي الصحف الاُولى).. (صحف إبراهيم وموسى).(1)

ولكن، ما المشار إليه بـ «هذا»؟

فبعض قال: إنّه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم اللّه والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة.

وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء(عليهم السلام)، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية.

واعتبره آخرون: إنّه إشارة لجميع ما جاء في السّورة، حيث أنّها ابتدأت بالتوحيد مروراً بالنبوة حتى ختمت بالأعمال.

وعلى أيّة حال، فهذا التعبير يبيّن أهميّة محتوى السّورة، أو خصوص الآيات الأخيرة منها، حيث اعتبرها من الاُصول الأساسية للأديان، وممّا حمله جميع الأنبياء(عليهم السلام) إلى البشرية كافة.

«الصحف»: جمع و(صحيفة)، وهي اللوح الذي يكتب عليه.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى(عليهما السلام) كتباً سماوية.

وروي عن أبي ذر(رضي الله عنه)، إنّه قال: قلت يارسول اللّه، كم الأنبياء؟

فقال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً».

قلت: يارسول اللّه، كم المرسلون منهم؟

قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء».

قلت: كان آدم(عليه السلام) نبيّاً؟

قال: «نعم، كلمة اللّه وخلقه بيده.. يا أباذر، أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيّك». قلت: يار سول اللّه، كم أنزل اللّه من كتاب؟


1 ـ يمكن أن تكون «صحف إبراهيم وموسى» توضيحاً للصحف الاُولى، كما ويمكن أن تكون إشارة لأحد مصاديق الصحف، وإلاّ فهي تشمل جميع كتب الأنبياء السابقين.

[141]

قال: «مائة واربعة كتب، أنزل اللّه منها على آدم(عليه السلام) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان»(1). (اُنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمّد على نبيّنا وآله وعليهم السلام).

و«الصحف الاُولى»: مقابل «الصحف الأخيرة» التي اُنزلت على المسيح(عليه السلام)وعلى النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *

بحث

شرح الحديث الشريف: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»

لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الاُمور الجليّة لدى المؤمنين، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟!

ويكمن الجواب في جملة واحدة: عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوّة الشهوات هو: حبّ الدنيا.

يتضمّن حبّ الدنيا: حبّ المال، المقام، الشهوة الجنسية، حبّ التفوق، حبّ الذات، وحبّ الإنتقام...الخ.. وإذا ما غلب هذا الحبّ على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كلّ معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.

فـ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» أمر محسوس ومجرّب في حياتنا وحياة


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص746.

[142]

الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

وعليه.. فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلاّ بإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة، فما يبذر اليوم يحصد غداً، ولابدّ للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى.

ونظرة ـ وإن كانت سريعة ـ إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقية، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر.

ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حبّ الدنيا).

فكيف النجاة، وكلنا أبناء هذه الدنيا و«لا يلام الولد على حبّه لاُمه» كما جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام)؟!

إنّ زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حبّ الدنيا لا يبنى إلاّ بالتربية الفكرية والعقائدية، ومن ثمّ تهذيب النفس ومجاهدتها، بالإضافة إلى الإعتبار من عواقب عبدة الدنيا.

فما كانت عاقبة الفراعنة مع كلّ ما كان لهم من قوّة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلاّ بشقّ الأنفس؟! وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة، فترى عروشها تتهاوى، وهم بين فار ومختبىء في أقذر المكانات وبين مَن سيلفه التراب، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذّب وجوده.. أو ليس ذلك أفضل واعظ لنا؟!

[143]

ونختم بحثنا بما روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام)، حينما سئل عن أيّ الأعمال أفضل عند اللّه؟

قال: «ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّوجلّ ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، فإنّ لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعب.

فأوّل ما عصي اللّه به «الكبر»، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ثمّ «الحرص» وهي معصية آدم وحواء حين قال اللّه عزّوجلّ لهما: (كُلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك إنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثمّ «الحسد» وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حبّ النساء، وحبّ الدنيا(1)، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام، وحبّ العلو والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(2).

اللّهم، اخرج حبّ الدنيا من قلوبنا..

اللّهم، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم، وأبلغنا مغرمنا..

اللّهم، إنّك تعلم الجهر وما يخفى، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى..

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الأعلى

* * *


1 ـ يبدو أنّ «حبّ الدنيا» هنا، بمعنى (حبّ البقاء في الدنيا)، باعتباره كأحد الشعب السبعة، ويبدو أنّه يرادف (طور الأمد).

2 ـ اُصول الكافي، ج2، ص239، باب حبّ الدنيا والحرص عليها، الحديث 8، وفي هذا الباب توجد رواية اُخرى بهذا الشأن.

سُورَة الغَاشيَة

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا سِتَ وعشرونَ آية

«سورة الغَاشِية»

محتوى السّورة

تدور محتويات السّورة على ثلاثة محاور:

الأوّل: بحث «المعاد»، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

الثّاني: بحث «التوحيد»، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض، ونظر الإنسان إليها.

الثّالث: بحث «النبوّة»، مع عرض لبعض وظائف النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعموماً، فالسّورة تسير على منهج السور المكّية في تقوية اُسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السّورة:

ورد في فضيلة هذه السّورة في الحديث النبوي الشريف: «مَن قرأها حاسبه اللّه حساباً يسيراً».(1)

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: «مَن أدمن قراءة (هل أتاك حديث الغاشية) في فرائضه أو نوافله غشاه اللّه برحمته في الدنيا والآخرة، أو أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النّار».(2)

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلاّ لمَن تلاها بتأمل وعمل.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص477.

2 ـ المصدر السابق.

[148]

الآيات

هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ الْغَـشِيَةِ(1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَـشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3) تَصلَى نَارَاً حَامِيَةً(4) تُسْقَى مِنْ عَيْن ءَانِيَة(5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيع(6) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوع(7)

التّفسير

المتعبون.. الأخسرون!

تبتدأ السّورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: (هل أتاك حديث الغاشية).

«الغاشية»: من (الغشاوة)، وهي التغطية، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كلّ شيء.

وقيل: بما أنّ الأوّلين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم، فالقيامة تغشاهم جميعاً.

وقيل أيضاً: يراد بها نار جهنم، لأنّها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين

[149]

ويبدو لنا التّفسير الأوّل أنسب من غيره.

وظاهر الآية: إنّها خطاب للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما حوته من صيغة الإستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة.

ويبدو بعيداً ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجّه إلى كلّ إنسان.

وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أولاً: (وجوه يؤمئذ خاشعة).

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وقيل: «الوجوه» هنا، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم.

ولكنّ المعنى الأوّل أنسب

وتصف حال تلك الوجوه ثانياً: (عاملة ناصبة).

فكلّ ما سعوا وكدوّا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلاّ التعب والنصب، وذلك: لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند اللّه، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر اللّه لهم، فما اصدق هذا القول بحقّهم: (عاملة ناصبة).

وقيل: المراد، إنّهم يعملون في الدنيا، ولهم التعب والألم في الآخرة.

وقيل أيضاً: إنّ المجرمين سيقومون بأعمال شاقّة داخل جهنم، زيادة في عذابهم.

ويبدو التّفسير الأوّل أصح من غيره.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أنّ: (تصلى ناراً حامية).

«تصلى»: من (صلى) ـ على زنة نفى ـ وهو دخول النّار والبقاء فيها،

[150]

والإحتراق بها(1).

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ: (تسقى من عين آنية).

«آنية»: مؤنث آني من (الأني) ـ على زنة حلي ـ وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (29) من سورة الكهف: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا)

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: (ليس لهم طعام إلاّ من ضريع)

وقد تعددت الآراء في معنى «الضريع».

فقال بعض: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسمّيه قريش (الشبرق) إذا كان رطباً، فإذا يبس فهو (الضريع)، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل.(2)

وقال الخليل (أحد علماء اللغة): الضريع نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر.

وعن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.

وجاء في الحديث النبوي الشريف: «الضريع شيء يكون في النّار يشبه الشوك، أشدّ مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النّار، سمّاه اللّه ضريعاً».

وقال بعض آخر: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى اللّه


1 ـ صلي بالنّار، لزمها واحترق بها.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7119.

[151]

تعالى طلباً للخلاص منه.(1)

(ويُذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع).(2)

ولا تعارض بين هذه التفاسير، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة.

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: (لا يُسمن ولا يُغني من جوع).

فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن، وإنّما هو طعام يغص به، ايغالاً في العذاب، كما ورد هذا المعنى في الآية (13) من وسورة المزمل: (وطعاماً ذا غصّة وعذاباً أليماً).

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم، على حساب ظلم النّاس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

ونعود لنكرر القول: إنّ ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنّة وعذاب جهنم،  لا  يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود، وإلاّ فحقيقة ما سينعم به أهل الجنّة وما يعانيه أهل النّار فمما  لا يمكن لأحد وصفه!.

* * *


1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7120.

2 ـ بحثنا موضوع طعام أهل النّار، الذي يسميه القرآن تارة بـ «الضريع» واُخرى بـ «الزقوم» وثالثة بـ «غسلين»، وما بينها من تفاوت.. في ذيل الآية (36) من سورة الحاقة.

[152]

الآيات

وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاعِمَةٌ(8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9) فِى جَنَّة عَالِيَة(10) لاّ تَسْمَعُ فِيَها لَـغِيَةً(11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ(14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِىٌّ مَبْثُوثَةٌ(16)

التّفسير

صورٌ من نعيم الجنّة:

بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النّار، تنتقل عدسة السّورة لتنقل لنا مشاهداً رائعة لنعيم أهل الجنّة.. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية، وما بين الوعيد والبشارة.

فتقول الآية الاُولى: (وجوهٌ يومئذ ناعمة)، على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة»: من (النعمة)، وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة اللّه، وجوه طرية، مسرورة ونورانية، كما أشارت لهذا الآية (24) من سورة المطففين: (تعرف

[153]

في وجوههم نضرة النعيم).

وترى الوجوه: (لسعيها راضية).

على عكس أهل جهنّم، فوجوههم «عاملة ناصبة»، أمّا أهل الجنّة، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم، وحصلوا عى أحسن ما يتمنون، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن اللّه ولطفه أضعافاً مضاعفة، فتارة عشرة أضعاف، واُخرى سبعمائة ضعف، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب، كما أشارت الآية (10) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها: (إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر: (في جنّة عالية).

«عالية»: قيل بإرادة المكان (في طبقات الجنّة العليا)، وقيل اُريد بها المقام الرفيع، ومع أنّ التّفسير الثّاني أرجح، إلاّ أنّه لا مانع من الجمع بينهما:

وكذا.. : (لا تسمع فيها لاغية).(1)

فليس هناك ثمّة: جدال، كلام نفاق، عداوة، حقد، حسد، كذب، تهمة، إفتراء، غيبة ولا أيّ إيذاء، بل ولا حتى الكلام الفارغ.

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث، والتي تؤدي إلى عدم الإستقرار النفسي، وإلى تهديم أركان الترابط الإجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً.

وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنّة من نعمة روحية، يبيّن بعض النعم المادية في الجنّة: (فيها عين جارية).


1 ـ «لاغية»: بالرغم من كونها اسم فاعل، ولكنّها تأتي بما يرادف (اللغو)، أي (ذات لغو).

[154]

ظاهر كلمة «عين» في الآية، إنّها عين واحدة بدليل مجيئها نكرة، إلاّ أنّه بالرجوع إلى بقية الآيات في القرآن الكريم، يتبيّن لنا إنّها للجنس، فهي والحال هذه تشمل عيوناً مختلفة، ومن قرائن ذلك ما جاء في الآية (15) من سورة الذاريات: (إنّ المتقين في جنات وعيون).

وقيل: في كلّ قصر من قصور أهل الجنّة، ثمّة «عين جارية»، وهو المراد في الآية، ومن ميزة تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنّة، فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنّة أشربة طاهرة ومتنوعة، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصّة به.

وينتقل الوصف إلى أسرة الجنّة: (فيها سرر مرفوعة).

«سرر»: جمع (سرير)، وهو من (السرور)، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الاُنس والسرور(1).

وجعلت تلك الأسرة من الإرتفاع بحيث يتمكن أهل الجنّة من رؤية كلّ ما يحيط بها والتمتع بذلك.

يقول ابن عباس: إذا أراد أن يجلس عليها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثمّ ترتفع إلى موضعها.(2)

ويحتمل أيضاً: وصفت بالمرفوعة إشارة إلى رفعتها وعلو شأنها.

وقيل: إنّها من الذهب المزين والمرصع بالزبرجد والدرّ والياقوت.

ولا مانع من الجمع بين ما ذكر.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به، فقد قالت الآية التالية: (وأكواب موضوعة).


1 ـ مفردات الراغب، مادة (سرّ).

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص479.

[155]

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب»: جمع (كوب)، وهو القدح، أو الظرف الذي له عروة.

وبالاضافة إلى ذكر الـ «أكواب» فقد ذكر القرآن الكريم تعابير اُخرى لها، مثل: «أباريق» جمع (ابريق) وهو ظرف معروف، و«كأس» بمعنى القدح المملوء بالشراب، كما جاء في الآيتين (17) و(18) من سورة الواقعة: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين)

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنّة: (ونمارق مصفوفة).

«نمارق»: جمع (نمرقة)، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة»: إشارة إلى تعددها بنظم خاص، ليظهر أنّ لأهل الجنّة جلسات اُنس جماعية، التي لا يتخللها أي لغو وباطل، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمة الخالدة، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة، وكيف أنّهم قد نجوا وخلصوا من الآم وأتعاب الدنيا.

ثمّ تكون الإشارة إلى فرش الجنّة الفاخرة: (وزرابيّ مبثوثة).

«زرابية»: جمع (زرب) أو (زربيّة)، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

ذكرت الآيات المبحوثة سبع نعم رائعة من نعم الجنّة، وكلّ منها أكثر روعة من الاُخرى.

والخلاصة: فمنزل الجنّة لا مثيل له من كلّ الجهات، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال.. وتجد فيه كلّ ألوان الثمار والأنعام والعيون الجارية والأشربة الطاهرة والولدان المخلدين والحور العين والأسرة المرصعة والفرش الفاخرة وأقداح جميلة في متناول اليد وجلساء أصفياء، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن عدّه بلسان أو وصفه بقلم ولا حتى تخيله إذا ما سرحت المخيّلة في عالمها

[156]

الرحب!..

وكلّ ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحاً، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار العالية.