[1]

الأَمْثَلُ

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد العشرون

نهاية تجربة

وبداية تجربة اُخرى

ها نحن بفضل اللّه ومنّه وتوفيقه في نهاية المطاف مع «التّفسير الأمثل»، بعد جولة في كتاب اللّه استغرقت خمسة عشر عاماً: ومن المناسب أن يكون لنا مع القارىء الكريم، الذي رافقنا في هذه الرحلة الطويلة، حديث نستعرض فيه عصارة تجربتنا مع هذا التّفسير على أن يكون مفيداً للسائرين على طريق الدراسة والتعمّق في القرآن الكريم.

1 ـ خلال جولتنا في رحاب كتاب اللّه ازددنا تفهّماً لما ورد في الحديث الشريف بشأن وصف القرآن، بل تلمّسنا هذه الأوصاف بكلّ وجودنا، ورأينا باُم أعيننا. من ذلك ما ورد عن النّبي عليه أفضل الصلاة والسّلام أنّه قال في القرآن:

«له نجوم، وعلى نجومه نجوم، ولا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة».(1)

وعن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّه في جواب من سأله: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ قال:

«لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة».(2)

نعم: إنّه الشجرة الطيبة التي (تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها)، وهو البحر


1 ـ بحار الأنوار، ج89، ص17.

2 ـ المصدر السابق، ص15.

[6]

الواسع العميق الذي يجد فيه الغواص درّاً جديداً كلما ازداد فيه غوصاً.

هذه الحقيقة تتّضح لكلّ السالكين طريق القرآن، وتبعث فيهم الشوق والإندفاع نحو طلب المزيد من مائدة كتاب اللّه، ونحو مواصلة هذا الطريق حتى نهاية رحلة العمر.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال في حديثه عن القرآن:

«فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره».(1)

وهذه حقيقة اُخرى تلمّسناها خلال جولتنا في رحاب القرآن الكريم. وكلما عاش الإنسان جوّ القرآن أكثر يحسّ بتفتح جديد في القلب والروح. وهذا الإحساس واضح لكلّ من دخل غمار التجربة. وباب الدخول مفتوح لمن أراد أن يجرّب.

2 ـ من خلال هذه الجولة التّفسيرية تبيّن مدى شمول التعاليم القرآنية، واتضح أنّ القرآن الكريم لم يترك مجالاً من المجالات الحيويّة في الساحة الإنسانية دون أن يبيّن اُصولها ويعيّن إطارها (التفاصيل تكفلت السنّة ببيانها).

من هنا لا يحتاج الإنسان المسلم في تنظيم حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية إلى أن يولّي وجهه شطر مدارس الشرق أو الغرب، وكما قال  أمير المؤمنين علي(عليه السلام):

«واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى».(2)

مشكلة المسلمين تكمن في عدم معرفتهم بما بين ظهرانيهم من كنز عظيم:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

وهنا نشير مرّة اُخرى إلى أن معارف القرآن وتعاليمه لا يمكن أن نتلقاها من


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.

2 ـ المصدر السابق.

[7]

كتاب اللّه العزيز إلاّ إذا جلسنا عنده متتلمذين متعلمين. أمّا إذا اقبلنا على القرآن بذهنية مملوءة بأحكام مسبقة ملتقطة من مدارس الشرق والغرب، فسوف نلجأ إلى زجّ آيات القرآن في إطار مفاهيم غريبة عليه، لتنسجم مع ما نحمله من أحكام ونظريات مسبقة، وبذلك نُحرم من عطاء القرآن، ونحوله إلى «آلة» لتبرير أخطائنا وإسناد أفكارنا الناقصة.

3 ـ بعد هذه الجولة القرآنية التي تلمّسنا فيها الحياة القرآنية بكلّ ما تحمله من عطاء ثرّ لحياة الفرد والجماعة، لابدّ أن نسجّل أسفنا لما يحمله كثير من المسلمين من نظرة إلى القرآن... نظرة تجعل القرآن محاطاً بهالة من القدسية غير أنّه معزول عن الحياة. تتلمس الثواب والبركة في التلاوة، والفضيلة في الحفظ، دون أن ترى فيه منهجاً للحياة.

لقد نسي هؤلاء أنّ القرآن مدرسة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة، يرسم لها طريقها في جميع المجالات، ويوجهها الوجهة الصحيحة في كلّ المنعطفات، وهنا تكمن عظمة القرآن وقدسيته.

كثيرة هي مدارس القرآن وخلاوي التحفيظ ومجلس التلاوة في عالمنا الإسلامي، وكم يدور فيها من البحوث حول طريقة التجويد والترتيل! لكن الحديث عن المنهج العملي الذي يطرحه القرآن قليل، والإلتزام بهذا المنهج أقلّ.

ونحن في هذا التّفسير قلّما تعرّضنا لسورة دون أن نبيّن أنّ التلاوة التي بيّنت السنّة فضائلها إنّما هي التلاوة المتبوعة بالفكر والعمل... فضيلة التلاوة أن يكون مقدمة للتفكر، أن يؤدي التفكر إلى العمل.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفق علماء المسلمين لطرح منهج القرآن بين أبناء الاُمّة، وأن يوفق اتباع القرآن إلى العمل به في كلّ جوانب حياتهم، وهذه كلمتنا الأخيرة في التّفسير الأمثل، وندع بقية الحديث إلى (التّفسير الموضوعي).

والحمد للّه ربّ العالمين

* * *

سُورَة المُطفِّفينَ

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتُهَا سِتّ وَثلاثُون آية

«سورة المُطفّفين»

محتوى السّورة:

لقد جرى الحديث بين المفسّرين بخصوص نزولها بين مكّة والمدينة، وبملاحظة أسباب نزول الآيات الاُولى من السّورة، والتي تتعلق بالذين يُخسرون الميزان، فسيظهر أنّ نزولها كان في المدينة.

ولكنّ طبيعة بقية الآيات تأتي تماماً مع سياق الآيات المكّية، حيث أنّها تتحدث وبعبارات موجزة ومثيرة عن حوادث يوم القيامة، وعلى الخصوص الآيات الأخيرة من السّورة والتي تنقل لنا حالة استهزاء الكفّار بالمسلمين، وهو ما ينسجم مع أوضاع مكّة في أوائل الدعوة المباركة، حينها كان المؤمنون عصبة قليلة والكفّار كثرة من حيث العدد. ولعل ذلك هو الذي دفع بالمفسّرين لإعتبار قسم من الآيات مكّية والقسم الآخر مدنية.

وعموماً، فالسّورة أقرب منها للسور المكّية من السور المدنية،

وعلى أية حال، فبحوث السّورة تدور حول محاور خمس: هي:

1 ـتحذير وإنذار شديد للمطفّفين.

2 ـالإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.

3 ـعرض لجوانب من عاقبة «الفجّار» في ذلك اليوم العظيم.

4 ـعرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنّة من نعم إلهية وعطاء ربّاني جزيل.

[12]

5 ـالإشارة لآثار استهزاء الكفّار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة.

فضيلة السّورة:

روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «من قرأ سورة المطفّفين سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(1).

وعن الإمام الصّادق(عليه السلام): أنّه قال: «مَن قرأ في فرائضه (ويل للمطفّفين)أعطاه الأمن يوم القيامة من النّار، ولم تره، ولم يرها...»(2).

وبطبيعة الحال، فكلّ هذا الثواب والفضيلة والبركة، سينالها مَن جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص451.

2 ـ ثواب الاعمال، ص122، وعنه نور الثقلين، ج5، ص527.

[13]

الآيات

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذا اكْتَالُواْ عَلَى الْنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) أَلاَ يَظُنَّ أُوْلَـئكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ(4) لِيَوْم عَظِيم(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(6)

سبب النّزول

قال ابن عباس: لمّا قَدِمَ نبيّ اللّه المدينة، كانوا من أبخس النّاس كيلاً، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل: كان تجار المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس»، قيل يا رسول اللّه، وما خمس بخمس؟

قال: «ما نقص قوم العهد إلاّ سلط اللّه عليهم عدّوهم!

وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر!

وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت!

[14]

ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين!

ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر!»(1).

وروى العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ رجلاً كان في المدينة يقال له  (أبو جهينة) كان له صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت هذه الآيات.(2)

التّفسير

ويلٌ للمُطفِّفين:

بدأ الحديث في هذه السّورة بتهديد شديد للمطففين: (ويل للمطفّفين).

وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من اللّه عزّوجلّ على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حقّ النّاس بهذه الطريقة القذرة.

«المطفّفين»: من (التطفيف) وأصله من (الطف)، وهو جوانب الشيء وأطرافه، وإنّما قيل لكربلاء بـ (وادي الطف)، لوقوعها على ساحل نهر الفرات، و(الطفيف): الشيء النزر، و(التطفيف): البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.

«ويل»: تأتي بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب، واد مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشيء، ورغم صغر الكلمة إلاّ أنّها تستبطن مفاهيم كثيرة.

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «ولم يجعل اللّه الويل لأحد حتى يسميه كافراً، قال اللّه عزّوجل: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم)(3).


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، ص88; وكذلك..أبو الفتوح والمراغي في تفسيريهما.

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص452.

3 ـ اصول الكافي، ج2، ص32; وعنه نور الثقلين، ج5، ص527.

[15]

وما نستفيده من هذه الرّواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.

وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاُولى: (الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون)(1).

وتقول الآية الثّانية: (إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون)

وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ الآية أرادت بـ «المطفف» مَن يأخذ عند الشراء أكثر من حقّه، ويعطي عند البيع أقل من الحقّ الذي عليه، والـ «ويل» إنّما جاء بلحاظ هاتين الجهتين.

ولكن ما ذهب أُولئك المفسّرون غير صحيح، بدلالة «يستوفون» التي تعني أخذهم بالكامل، وليس ثمّة ما يدلّ على أخذهم أكثر من حقّهم، ويمكننا توجيه (الذم) الحاصل، باعتبار أخذهم حقّهم كاملاً عند الشراء، وينقصون من حقّ الآخرين عند البيع، كمن يريد أن يذم شخصاً بقوله: ما أغربك من رجل، تراك تأتي في الموعد المقرر عندما تكون دائناً، وتتهرب من أداء ما عليك عندما تكون مديناً.

فأخذ الحقّ في موعده المقرر ليس عملاً سيّئاً، ولكن حصول الحالتين (أعلاه) في شخص واحد هو الشيء.

وقد جاء ذكر «الكيل» في الآيتين عند حالة الشراء، وذكر «الكيل» و«الوزن» عند حالة البيع، وربّما يرجع ذلك لأحد سببين:

الأوّل: كان تجار تلك الأزمان الكبار يستعملون (المكيال) عند شرائهم للكميات الكبيرة من المواد، لأنّه لم يكن عندهم ميزان كبير يستوعب تلك المواد الكثيرة.

(وقيل: إنّ (الكُر)، كان في الأصل إسماً لمكيال كبير.. والكُر: مصطلح


1 ـ «على النّاس»: اشارة إلى ما لهم لدى النّاس، والتقدير: (إذا كالوا ما على النّاس) وذلك عند الأخذ منهم، وهو ما نستفيده من (كال عليه)..أمّا (كاله) أو (كال له) فهو عند العطاء.

[16]

يستعمل لقياس سعة الماء).

أمّا في حالة البيع، فكانوا يكيلون لبيع الجملة، ويزنون لبيع المفرد.

الثّاني: إنّهم كانوا يفضلون استعمال المكيال عند الشراء، لصعوبة الغش فيه، ويستغلون الميزان عند البيع لسهولة الغش فيه!

وممّا ينبغي الإلتفات إليه..إنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن، لاينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة «المطففين» المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.

ويتوسع البعض في مفهوم الآية أكثر وأكثر حتى يجعل أيّ تجاوز لحدود اللّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.

ومع أنّ ظاهر ألفاظ الآية لا يرمز إلى هذه المعاني، ولكنّها لا تخلو من مناسبة.

ولذا، فقد ورد عن ابن عباس، أنّه قال: (الصلاة مكيال، فمن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفف، قد سمعتم ما قال اللّه في المطففين)(1).

ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون).

(ليوم عظيم).

يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله.

(يوم يقوم النّاس لربّ العالمين).


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص452.

[17]

أي، إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحداً، ولأعطوا النّاس حقوقهم كاملة.

وقد اعتبر كثير من المفسّرين: إنّ «الظن» الوارد في الآية من «يظن» بمعنى (اليقين): كما هو في الآية (249) من سورة البقرة: (قال الذين يظنون أنّهم ملاقوا اللّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه)، وهذه الآية كانت تتحدث عن المراحل المختلفة لإيمان واستقامة بعض بني إسرائيل.

وممّايشهد على ما ذُكر أيضاً، ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في تفسير الآية: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)، أنّه قال: «أليس يوقنون أنّهم مبعوثون»؟(1)

وروي عنه(عليه السلام) أيضاً، أنّه قال: «الظن ظنان، ظنّ شك وظنُّ يقين، فما كان من أمر المعاد من الظنّ فهو ظنّ يقين، وما كان من أمر الدّنيا فهو على الشك».(2)

واحتمل البعض: إنّ «الظنّ» الوارد في الآية، هو ذات «الظنّ» المتعارف عليه في زماننا، وهو غير اليقين، فيكون إشارة إلى أنّ الإيمان بالقيامة يترك أثراً في روح الإنسان، يجعله يتنزّه عن الوقوع في الذنوب والظلم، حتى وإن كان ذلك الإيمان بنسبة «الظنّ»..فكيف به إن كان يقيناً؟! ويصطلح العلماء على هذا المعنى، عنوان (دفع الضرر المظنون) أو (دفع الضرر المحتمل).

فيكون مفهوم الآية، على ضوء ما ورد: ليس المطففين العاصين لا يملكون اليقين بوجود يوم القيامة، بل إنّهم لا يظنون بذلك أيضاً.

(ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب).

و«الظنّ» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ: اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى


1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص438.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص528.

[18]

قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدَّ التوهم.

وعليه..فاصطلاح «الظنّ» ـ بخلاف ما يتبادر إليه الذهن في زماننا ـ يشمل العلم والظنّ، ويستعمل في الحالتين.

* * *

ملاحظة

التطفيف من عوامل الفساد في الأرض:

تعرض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مراراً، ومن ذلك ما جاء في الآيات (181 ـ 183) من سورة الشعراء، حينما خاطب شعيب(عليه السلام) قومه قائلاً: (أُوفوا الكيل ولا تكونوا من الُمخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)

فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض، وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة.

كما جاء التأكيد في الآيتين (7 و 8) من سورة الرحمن على ضرورة الإلتزام بالعدالة حين استعمال الميزان، بعد الإشارة إلى أن العدل أصلٌ قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان).

ولذا، نجد أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) قد أَولوا هذا الموضوع اهتماماً بالغاً، حتى روي عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول على المنبر: «يا معشر التجار! الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر» إلى أن قال: «التاجر فاجر، والفاجر في النّار، إلاّ من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ».(1)

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) بالكوفة


1 ـ اُصول الكافي، ج5، ص150، الحديث 1.

[19]

يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدّرة على عاتقه (لمعاقبة المخالفين)، فينادي: يا معشر التجّار اتقوا اللّه عزّوجلّ، فإذا سمعوا صوته(عليه السلام) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول(عليه السلام): قدموا الإستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف(عليه السلام) في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس»(1).

وبشأن نزول الآيات، قال النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات واُخذوا بالسنين».

وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الاُمم السالفة، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الإقتصادي عندهم من جهة، وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة اُخرى.

وقد حثّت الرّوايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصاً والعطاء راجحاً، أي بعكس سلوكية مَن ذمتهم الآيات المبحوثة، فهم يأخذون بدقّة ويعطون ناقصاً.(2)

وكما قلنا في تفسير الآية، فثمّة من يذهب إلى أنّ مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان، ويمتد ليشمل أيّ انقاص في عمل، وأيّ تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية.

* * *


1 ـ المصدر السابق، الحديث3.

2 ـ ولمزيد من الإطلاع.. راجع وسائل الشيعة، ج12، ص290، أبواب التجارة، الباب 7.

[20]

الآيات

كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّين(7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8) كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ(9) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(10)

التّفسير

وما أدراك ما سجّين؟!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطفّفين، وعن ارتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم، فتقول: (كلاّ) فليس الامر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنّه ليس هنا حساب وكتاب، بل (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين).

(وما أدراك ما سجّين).

(كتابٌ مرقوم).

وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه:

الاُولى: المراد من «كتاب»: هو صحيفة الأعمال، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، من الأفعال الإنسان إلاّ وأحصتها.

والمراد بـ «سجّين»: هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموماً.

[21]

وما نستفيده من الآيات المذكورة وآيات اُخرى: إنّ أعمال جميع المسيئين تجمع في كتاب يُسمّى «سجّين»، وأعمال جميع الصالحين والأبرار تجمع في كتاب آخر، اسمه «علّيين».

و«سجّين»: من (السجن)، وهو (الحبس)، وله استعمالات متعددة، فهو: السجن الشديد، الصلب الشديد من كلّ شيء، اسم لوادي مهول في قعر جهنم، موضع فيه كتاب الفجّار، ونار جهنم أيضاً.

وقال: «الطريحي» في «مجمع البحرين» في «سجّين»: وفي التّفسير هو كتاب جامع ديوان الشرّ، دَوَّنَ اللّه فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس...(1)

أمّا القرائن التي تؤيد هذا التّفسير، فهي:

1 ـغالباً ما وردت كلمة «كتاب» في القرآن الكريم بمعنى (صحيفة الأعمال).

2 ـظاهر الآية التالية: (كتاب مرقوم) يشير إلى أنّها تفسير لـ «سجّين».

3 ـقيل: إنّ «سجّين» و«سجّيل» بمعنى واحد، وكما هو معلوم أنّ «سجّيل» بمعنى (كتاب كبير).(2)

4 ـوتشير آيات قرآنية اُخرى إلى أنّ أعمال الإنسان تضبط في عدّة كتب، حتى لا يبقى عذر للإنسان في حال حسابه.

وأُولى تلك الكتب، صحيفة الأعمال المعدّة لكلّ شخص، فالصالح سيعطى كتابه في يمينه، والمسيء سيعطى كتابه في شماله.

وهذا المعنى كثير ما تكرر ذكره في القرآن الكريم.

والكتاب الثّاني، هو ما تسجّل فيه أعمال الاُمم، ويمكن أن نسميه بـ (صحيفة أعمال الأُمم) والآية (28) من سورة الجاثية تشير إلى هذا بقولها: (كلّ اُمّة تُدعى


1 ـ ولم يوضح الطريحي أنّ هذا التّفسير لمعصوم كان أم لغيره.

2 ـ روح المعاني، ج30، ص70، ومجمع البحرين، مادة (سجل).

[22]

إلى كتابها).

وثالث الكتب، هو صحيفة أعمال جميع الأبرار والفجّار، التي وردت الإشارة إليهما في الآيات المبحوثة وما سيأتي من الآيات، باسم «سجّين» و«علّيين».

وخلاصة القول: إنّ «سجّين» عبارة عن ديوان جامع لكافة صحائف الفجّار والفسقة، وأطلق عليه هذا الاسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدي إلى حبس أصحابه في جهنم، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين.. في الجنّة.

الثّانية: إنّ «سجّين»، هي «جهنم»... وهي سجن كبير لجميع المذنبين، أو هي محل شديد من جهنم.

و«كتاب» الفجّار، أي: ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير: إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين، وقد استعمل القرآن كلمة «كتاب» بهذا المعنى في مواضع عدّة، ومن ذلك ما تناولته الآية (24) من سورة النساء حين بيّنت حرمة الزواج من المتزوجات: (كتاب اللّه عليكم) أي، إنّ هذا الحكم (وما سبقه من أحكام)، هي أحكام قررها اللّه عليكم، وكذلك ما جاء في الآية (75) من سورة الأنفال: (وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه)، أي فيما قرره اللّه وجعله من أحكام.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما جاء في الرّوايات من أنّ «سجّين» هي «جهنم»...

ففي تفسير علي بن إبراهيم، قال في تفسير: (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين): ما كتب اللّه لهم من العذاب لفي سجّين.

وعن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: «السجّين الأرض السابعة، وعلّيون السماء السابعة»، (إشارة إلى أخفض وأعلى مكان)(1).


1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، ج3، ص410; وعنه نور الثقلين، ج5،ص 530، الحديث 15.

[23]

وروي في روايات عديدة، إنّ الأعمال التي لا تليق بالقرب منه جلّ شأنه تُسقط في سجّين: كما نُقل الأثر عن سيد البشر(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إنّ المَلك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً فإذا صعد بحسناته يقول اللّه عزّوجلّ اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إيّاي أراد فيها!»(1)

ومن كلّ ما تقدم، نصل إلى أنّ «سجّين»: مكان شديد جدّاً في جهنم، توضع فيه أعمال المسيئين أو صحيفة أعمالهم، أو يكون مصيرهم الحبس في ذلك المكان (السجّن).

وعلى ضوء هذا التّفسير، تكون الآية: (كتاب مرقوم) تأكيداً للآية: (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين)، وليس تفسيراً لها، لأن العقاب قد قرر لهم، وهو قطعي وحتمي.

«مرقوم»: من (رقم» على وزن (زخم)، وهو الخطّ الغليظ، ولكون هكذا خطّ من الوضوح بحيث لا إبهام فيه، فقد استعملته الآية للإشارة إلى قطعية ما قرر لهم من مصير من غير أيِّ إبهام أو إغفال.

وعلى أيّة حال، فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأنّ «سجّين» حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكلّ أعمال المسيئين، وحسب التّفسير الثّاني بمعنى: «جهنم» أو قعرها، فالأمران على صورة علّة ومعلول، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول: (ويلٌ يومئذ للمكذّبين).

التكذيب الذي يوقع في ألوان من الذنوب، ومنها التطفيف والظلم.

وبملاحظة كلمة «ويل» الواردة في أوّل أية وآخر آية، تبيّن شدّة العلاقة


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص530، الحديث 19.

[24]

الموجودة ما بين تلك الأعمال السيئة وإنكار المعاد، حيث بدأ الحديث بالويل للمطفّفين، ومروراً بالفجّار ومن ثمّ الويل للمكذبين بيوم الدين.

وسيتوضح هذا الترابط بشكل أدق في الآيات التالية.

* * *

[25]

الآيات

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَد أثِيم(12) إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الأَوَّلِينَ(13)كلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14) كلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَومَئِذ لَّمحْجُوبُونَ(15) ثُمَّ إِنّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ(16) ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِى كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)

التّفسير

صدأ الذنوب:

بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: (الذين يكذّبون بيوم الدين)، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً: (وما يكذّب به إلاّ كلّ معتد أثيم).

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

[26]

فهم يريدون الإستمرار بالذنوب والإيغال بالإعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أيّ رادع يردعهم من ضمير أو قانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (5) من سورة القيامة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، وعليه، فهو يكذّب بيوم الدين.

وعلى هذا الأساس، فإنّ للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة.

وتشير الآية التالية للصفة الثّالثة لمنكري المعاد، فتقول: (وإذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين).

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتد وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات اللّه، ويصفها بالخرافات البالية(1)، وما ذلك إلاّ مبرر واه لتغطية تهربه من مسؤولية آيات اللّه عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لاُولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمّة آيات أُخرى تناولت ذلك، منها الآية (5) من سورة الفرقان: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملي عليه بكرة وأصيلاً)، والآية (17) من سورة الأحقاف، حكاية عن قول شاب طاغ وقف أمام والديه المؤمنين مستهزءاً بنصائحهما قائلاً: (ما هذا إلاّ أساطير الأولين).

وقيل في شأن نزول الآية: إنّها نزلت بشأن (النضر بن حارث بن كلدة)، ابن خالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان من رؤوس الكفر والضلال.

ولا يمنع نزول الآية في شخص معين، من تعميم ما جاء فيها لكلّ من يشارك