1 ـ قيل: إنّه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع اُخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى: (والضحى)(1) أو (والصبح إذا أسفر)(2).


1 ـ والضحى، الآية 1.

2 ـ المدثر، الآية 34.

[432]

وإنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، الأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وقرص الشمس يميل إلى الغروب، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلماً بالتدريج.

هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة اللّه المطلقة في نظام الكون، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد، وأية من آيات اللّه تستحق أن يقسم بها.

2 ـ قيل: إنّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.

3 ـ بعضهم قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر(عليه السلام)، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر. والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة(1).

4 ـ بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، وقال إنّ القَسَم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكره باللّه سبحانه، وتربّي فيه روح الإستقامة.

5 ـ قيل: إنّها إشارة إلى «الإنسان الكامل» الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.

6 ـ وأخيراً قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة.

مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة، ويمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية، ويكون القَسَم بكل هذه الاُمور الهامّة، ولكن الأنسب فيها هو القَسَم بالزمان وتاريخ البشرية. لأنّ القَسَم القرآني ـ كما ذكرنا مراراً ـ يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله ومن المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن


1 ـ عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال في تفسير آية:(والعصر إنّ الإنسان لفي خسر): العصر عصر خروج القائم (أي خروج الإمام المهدي المنتظر سلام اللّه عليه). نور الثقلين، ج5، ص666، الحديث 5.

[433]

تصرّم عمرهم، أو أنّه عصر بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر.

تتّضح ممّا سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها. فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة.

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسَم من أجله، يقول سبحانه:

(إنّ الإنسان لفي خسر)

الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى،. تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.

نعم، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته، هذه طبيعة الحياة الدنيوية... طبيعة الخسران المستمر!

القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض. هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض. وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة.

«خُسر» وخُسران، كما يقول الراغب، انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان، فيقال خَسِرَ فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته. قال تعالى: (تلك إذن كرة خاسرة). ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله اللّه تعالى الخسران المبين، وقال: «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين»(1).

الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنّه


1 ـ مفردات الراغب، مادة خسر.

[434]

تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله(1)

على أي حال، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة. كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام): «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون»(2)

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلاّ مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.

نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة.

(إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)

بعبارة آُخرى: ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات.

كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت، أمير المؤمنين علي(عليه السلام)يقول: «نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله»(3).

وهكذا كلّ ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لابدّ من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي.

هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو فخم.

هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام.


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج32، ص85.

2 ـ تحف العقول، ص 361، كلمات الإمام الهادي(عليه السلام).

3 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 74.

[435]

وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته.

ليس أي واحد من هذه الاُمور ـ دون شك ـ يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة... ثروة العمر... ثمنها الوحيد رضا اللّه سبحانه ومقام قربه لا غير. قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في دعاء شهر رجب: «خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلاّ لك».

ومن هنا كان أحد آسماء يوم القيامة «يوم التغابن» كما جاء في قوله سبحانه: (ذلك يوم التغابن)(2). أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر.

إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه. فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان: (إنّ اللّه اشترى من المؤمنين...)(3).

ومن جهة اُخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)(4).

ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً سبعمائة ضعف، وأحياناً أكثر: (في كلّ سنبلة مائة حبّة، واللّه يضاعف لمن يشاء)(5).

وكما ورد في الدعاء: «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير».

ومن جهة رابعة، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها اللّه إيّاه... واللّه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان!

* * *


1 ـ المصدر السابق، الكلمة 456.

2 ـ التغابن، الآية 9.

3 ـ التوبة، الآية 111.

4 ـ الزلزال، الآية 7.

5 ـ البقرة، الآية 261.

[436]

بحث

منهج السعادة ذو المواد الأربع:

من المهم أن نقف ولو قليلاً عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران... إنّه منهج يتكون من أربعة اُصول هي:

الأصل الأوّل: «الإيمان»، وهو البناء التحتي لكلّ نشاطات الإنسان، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من اُسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.

بعبارة اُخرى، أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإن جميع الأنبياء بدأوا قبل كلّ شيء باصلاح الاُسس الإعتقادية للاُمم والشعوب. وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الاجتماعي.

والآية الكريمة قالت: (إلاّ الذين آمنوا) فذكرت الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكلّ المقدسات، ابتداء من الإيمان باللّه وصفاته، حتى الإيمان بالقيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية وأنبياء اللّه وأوصيائهم.

الأصل الثّاني: «العمل الصالح»، وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية:

(... وعملوا الصالحات) لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل اللّه وحده، ولا الجهاد في سبيل اللّه فقط، ولا الإكتفاء بطلب العلم... بل كلّ الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من اللّه، وتقدم المجتمع الإنساني.

هذا التعبير يشمل الأعمال الصغيرة، كرفع الحجر من طريق النّاس والأعمال الجسام مثل إنقاذ ملايين النّاس من الضلالة والإنحراف ونشر الرسالة الحقة والعدالة في أرجاء العالم.

وما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير (وعملوا

[437]

الصالحات) بأنّه المواساة والمساواة للأخوة في اللّه، إنّما هو من قبيل بيان المصداق الواضح للأية.

قد تصدر الأعمال الصالحة من أفراد غير مؤمنين، لكنّها غير متجذرة وغير ثابتة وغير واسعة. لأنّها لا تنطلق من دافع إلهي عميق، ولا تحمل صفة الشمولية.

القرآن ذكر «الصالحات» هنا بصيغة الجمع مقرونة بالألف واللام لتدل على معنى العموم والشمول. ولتبيّن أن طريق تفادي الخسران الطبيعي الحتمي بعد الإيمان، هو أداء الأعمال الصالحة جميعاً، وعدم الإكتفاء بعمل واحد أو بضع أعمال صالحات. حقّاً، لو رسخ الإيمان في النفس، لظهرت على الفرد مثل هذه الآثار.

الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن، وليس اعتقاداً خالياً من التأثير. الإيمان يصوغ كلّ وجود الإنسان وفق منهج معين.

الإيمان مثل مصباح منير مضيء في غرفة. فهو لا يضيء الغرفة فحسب، بل إن أشعته تسطع من كلّ نوافذ الغرفة إلى الخارج بحيث يرى كل مار نوره بوضوح.

وهكذا، حين يسطع مصباح الإيمان في قلب إنسان، فإنّ نوره ينعكس من لسان الإنسان وعينه وأذنه ويديه ورجليه. حركات كلّ واحدة من هذه الجوارح تشهد على وجود نور في القلب تسطع أشعته إلى الخارج.

ومن هنا اقترن ذكر الصالح في أغلب مواضع القرآن بذكر الإيمان باعتبارها لازماً وملزوماً. فقال سبحانه: (من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)(1). ويقول تعالى عن اُولئك الذين تركوا الدنيا دون عمل صالح، إنّهم يصرون على العودة إلى الدنيا ويقولون: (ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)(2).


1 ـ النحل، الآية 97.

2 ـ المؤمنون، الآية 100.

[438]

ويقول سبحانه لرسله: (يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)(1).

ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلاّ في ظلّ حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والإستقامة على طريق النهوض باعباء الرسالة، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلي «الإيمان» و«العمل الصالح».

الأصل الثّالث: «التواصي بالحق»، أي الدعوة العامّة إلى الحق، ليميز كلّ أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.

«تواصوا» كما يقول الراغب تعني أن يوصي بعضهم إلى بعض.

و«الحق» في الأصل الموافقة والمطابقة للواقع. وذكر للكلمة معاني قرآنية متعددة من ذلك، والقرآن، والإسلام، والتوحيد، والعدل، والصدق، والوضوح، والوجوب وأمثالها من المعاني التي ترجع إلى نفس المعنى الأصلي الذي ذكرناه.

عبارة (تواصوا بالحق) تحمل على أي حال معنى واسعاً يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل أيضاً تعليم الجاهل وإرشاده، وتنبيه الغافل، والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح.

واضح أن المتواصين بالحق يجب أن يكونوا بدورهم من العاملين به، والمدافعين عنه.

الأصل الرّابع: «التواصي بالصبر»، والإستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الإستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحقّ والعمل الصالح والثبات على الإيمان.


1 ـ المؤمنون، الآية 51.

[439]

نعم، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامّة وعزم اجتماعي، ومن دون الإستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات.

«الصبر» هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات(1).

ممّا تقدم نفهم أنّ الاُصول الأربعة التي ذكرتها هذه السّورة المباركة تشكل المنهج الجامع لحياة الإنسان وسعادته. ولذلك ورد في الرّوايات أنّ أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا إذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة «والعصر» ويتذاكروا في مضامينها(2).

والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الاُصول الأربعة في حياتهم الفردية والإجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصاراً، ولإقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض.

ربّنا! تفضّل علينا بالصبر والإستقامة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

إلهنا! كلّنا في خسران، ولا يمكن أن نجبر هذا الخُسر إلاّ بلطفك.

اللّهمّ! إنا نسألك توفيق العمل بالمواد الأربع التي ذكرتها في هذه السّورة من كتابك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة العصر

* * *


1 ـ حول حقيقة الصبر ومراحله وشُعَبه، فصلنا الحديث في تفسير الآية (153) من سورة البقرة.

2 ـ الدر المنثور، ج6، ص392.

[440]

سُورَة الهُمزة

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا تِسع آياتْ

«سورة الهُمزة»

محتوى السّورة

هذه السّورة، وهي من السور المكّية، تتحدث عن اُناس كرسوا كلّ همهم لجمع المال، وحصروا كلّ قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثمّ هم يسخرون من الذين لا يملكون المال وبهم يستهزئون.

هؤلاء الأثرياء المستكبرون والمغرورون المحتالون أسكرهم الطغيان فراحوا يستهينون بالآخرين ويعيبونهم، ويتلذذون بما يفعلون من غيبة واستهزاء.

السّورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء، وكيف أنّهم يلقون في جهنّم صاغرين، وأنّ نار جهنّم تتجه بلظاها أوّلاً إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور، وتحرقها بالنّار، بنار مستمرة.

فضيلة السّورة:

ورد في فضيلة هذه السّورة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأ سورة الهمزة اُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمّد وأصحابه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ ويل لكلّ همزة في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء»(2).

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص536.

2 ـ المصدر السابق.

[444]

الآيات

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة(1) الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ(4) وَمَآ أدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6) الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ(7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ(8) فِى عَمَد مُّمَدَّدَة(9)

سبب النّزول

قال جمع من المفسّرين إنّ آيات هذه السّورة نزلت في (الوليد بن المغيرة) الذي كان يغتاب النّبي ويطعن فيه ويستهزيء به.

وقيل إنّها نزلت في أفراد آخرين من رؤوس المشركين وأعداء الإسلام مثل (الأخنس بن شريق) و(اُمية بن خلف) و(العاص بن وائل).

ولكن، إنّ قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات، بل إنّها تستوعب كلّ الذين يحملون هذه الصفات.

[445]

التّفسير

الويل للهمّازين واللمّازين:

تبدأ هذه السّورة بتهديد قارع وتقول:

(ويل لكلّ همزة لمزة)... لكلّ من يستهزيء بالآخرين، ويعيبهم، ويغتابهم، ويطعن بهم، بلسانه وحركاته وبيده، وعينه وحاجبه.

«الهمزة» و«اللمزة» صيغتا مبالغة، الاُولى من الهمز، وهي في الأصل الكسر. العائبون المغتابون يكسرون شخصية الآخرين، ولذلك اُطلق عليهم اسم (الهمزة).

و«اللمزة» من اللمز، وهو اغتياب الآخرين، والصاق العيوب بهم.

للمفسّرين آراء متعددة في معاني هاتين الكلمتين، هل معناهما واحد، وهو المغتابون النّاس العائبون عليهم، أو إنّ معناهما مختلف. قال بعضهم إنّ معناهما واحد، وذكرهما معاً للتأكيد.

وقيل: الهمزة هوالمغتاب، واللمزة: العائب.

وقيل: الهمزة هم العائبون بإشارة اليد والرأس. واللمزة من يعيب بلسانه.

وقيل: الاُولى إشارة إلى العائب في حضور الشخص، والثّانية للعائب في الغيبة.

وقيل: الاُولى تعني العائب في العلن، والثّانية للعائب في الخفاء، وبإشارة العين والحاجب.

وقيل: إنّ الإثنتين بمعنى الذي ينبز النّاس بالقاب قبيحة مستهجنة.

وعن ابن عباس في تفسير الكلمتين قال: «هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الناعتون للناس بالعيب»(1).

يبدو أن ابن عباس استلهم هذا التّفسير من كلام لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول:


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج32، ص92.

[446]

«ألا اُنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يارسول اللّه. قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبرآء المعايب»(1).

من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد. ولهما مفهوم واسع يشمل كلّ ألوان إلصاق العيوب بالنّاس وغيبتهم والطعن والاستهزاء بهم، باللسان والإشارة والنميمة والذم.

التعبير بكلمة (ويل) يحمل تهديداً شديداً لهذه الفئة. والقرآن يتشدّد تجاه هؤلاء الأفراد ويذكرهم بعبارات لا نظير لها في ذكر سائر المذنبين. فحين يذكر المنافقين الذين يسخرون من المؤمنين يتهددهم بعذاب أليم ويقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر اللّه لهم)(2).

مثل ذلك ذكره القرآن بشأن المنافقين المستهزئين بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (5) من سورة (المنافقون).

الإسلام، أساساً، ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ، ويعدّ أيّ عمل يؤدّي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً، وورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أذل النّاس من أهان النّاس»(3).

في هذا المجال ذكرنا شرحاً أوفى في تفسير الآيتين (11 و12 من سورة الحجرات.

ثمّ تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد، وتقول: (الذي جمع مالاً وعدّده) بطريق مشروع أو غير مشروع.

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق


1 ـ اُصول الكافي، ج2، باب النميمة، الحديث 1.

2 ـ التوبة، الآية 80.

3 ـ بحار الأنوار، ج75، ص142.

[447]

الدرهم والدينار.

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين. ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء.

«عدده» من (عدّ) بمعنى حَسَب. وقيل من (العُدّة) بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدّة.

وقيل: أنّها تعني أمسكه وحفظه.

والمعنى الأوّل أظهر.

على أي حال، هذه الآية تقصد الذين يدخّرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها، حتى ولو كان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كلّ دنيئة ورذيلة، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم.

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم. وإلاّ فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللّه» حيث يقول تعالى: (وابتغوا من فضل اللّه)(1).

وفي موضع آخر يسميه خيراً، كقوله سبحانه: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية).

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان، ولا وسيلة تفاخر، ولا دافع سخرية بالآخرين. لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون» إلى الطغيان، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللّه والخلود في


1 ـ الجمعة، الآية 10.

[448]

النّار.

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلاّ بالسقوط في أوحال الحرام. لذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «لا يجتمع المال إلاّ بخمس خصال: بخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة رحم، وإيثار الدنيا على الآخرة»(1).

لأنّ الأفراد الأسخياء البعيدين عن الآمال الوهمية الطويلة يهتمون بحلال أموالهم وحرامها، ويساعدون الأقربين، ولا تتراكم الثروة عندهم غالباً، وإن زادت عائداتهم.

في الآية التالية يقول سبحانه:

(يحسب أنّ ماله أخلده)(2).

«أخلده» جاء في الآية بصيغة الماضي، ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أنّ ماله قد صيّر منه موجوداً خالداً، لا يستطيع الموت أن يصل إليه، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كلّ مشكلة، وهو يملك هذا المفتاح.

ما أتفه هذا التفكير!! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة: (فخسفنا به وبداره الأرض)(3).

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة: (... من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين)(4)، تحولت في ساعة إلى غيرهم: (كذلك


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص668، الحديث 7.

2 ـ «ماله» يمكن أن تكون مكونة من (مال) مضاف إلى ضمير الغائب. ويمكن أن تكون (ما) موصولة، وبعدها صلتها. جملة (أخلده) فعل ماض يتحمل معنى المضارع، أو بمعنى موجبات الخلود.

3 ـ القصص، الآية 81.

4 ـ الدخان، الآية 25 ـ 27.

[449]

وأورثناها قوماً آخرين)(1).

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول: (ما أغنى عنّي ماليه، هلك عني سلطانيه)(2).

الإنسان ـ أساساً ـ يهرب من الفناء والعدم ويميل إلى الخلود، وهذه الرغبة الداخلية هي من أدلة المعاد وأنّ الإنسان مخلوق للخلود، وإلاّ ما كانت فيه غريزة حبّ الخلود.

لكنّ الإنسان المغرور الأناني الدنيوي يخال خلوده كامناً في أشياء هي ذاتها عامل فنائه وانعدامه. على سبيل المثال: المال والمقام اللذان هما غالباً من أعداء بقائه يحسبهما وسيلة لخلوده.

من هنا يتبيّن أنّ الظنّ بقدرة المال على الإخلاد، هو الذي يدفع إلى جمع المال، وجمع المال أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين.

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول:

(كلاّ لينبذنّ في الحطمة) كلاّ، ليس الأمر كما يتصور، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة (وما أدراك ما الحطمة، نار اللّه الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة).

«لينبذنّ» من نبذ، أي ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ رمي الشيء لتفاهة قيمته.

أي إنّ اللّه سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنّم كموجودات تافهة لا قيمة لها، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.


1 ـ الدخان، الآية 28.

2 ـ الحاقة، الآية 28 ـ 29.

[450]

«الحطمة» صيغة مبالغة من «حطّم» أي هشّم. وهذا يعني أنّ نار جهنّم تهشّم أعضاء هؤلاء. ويستفاد من بعض الرّوايات أن «الحطمة» ليست كلّ نار جهنّم، بل هي طبقة رهيبة في حرارتها.(1)

مفهوم تهشّم الأعضاء بدل احتراقها في نار جهنّم، ربّما صعب فهمه في الماضي. ولكن المسألة اليوم ليست بعجيبة بعد أن إتضحت شدّة تأثير أمواج الإنفجار، وتبيّن أن الأمواج الناتجة عن انفجار كبير قادرة على تهشيم الإنسان، بل تهشيم العمارات الضخمة باعمدتها الحديدية المستحكمة.

عبارة «نار اللّه» دليل على عظمة هذه النّار، و«الموقدة» تعني استعارها المستمر.

والعجيب أنّ هذه النّار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلاً ثمّ تنفذ إلى الداخل، بل هي تبعث بلهبها أوّلاً إلى القلب، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلاً بالقلب ثمّ بما يحيطه، ثمّ تنفذ إلى الخارج.

ما هذه النّار التي تبعث بشررها إلى قلب الإنسان أوّلاً؟! ما هذه النّار التي تحرق الداخل قبل الخارج؟! كلّ شيء في القيامة عجيب، ومختلف كثيراً عن هذا العالم، حتّى إحراق نارها.

لماذا لا تكون كذلك، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

لماذا لا تسيطر نار الغضب الإلهي على قلوب هؤلاء قبل أي شيء آخر وهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.


1 ـ نور الثقلين، ج3، ص17 و19، الحديث 60 و64.

[451]

الآيات الأخيرة من السّورة تقول:

(إنّها عليهم مؤصدة، في عمد ممددّة).

و«مؤصدة» من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب. ولذلك تسمى الغرف الكائنة في داخل الجبال المخصصة لجمع الأموال «الوصيد».

هؤلاء في الحقيقة يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة.

و«العمد» جمع عمود و«ممددة» تعني طويلة.

جمع من المفسّرين قال إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنّم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: (إنّها عليهم مؤصدة).

وقيل إنّها إشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يُغَلّ بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا.

وبعضهم أضاف تفسيراً ثالثاً استمده من الإكتشافات العلمية، وهو أن شعلة من نيران جهنّم تسلّط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة. يقولون: إنّ الاكتشافات الأخيرة أثبتت أنّ أشعة اكس الخاصّة (اشعة رونتجن) تختلف عن سائر الأشعة الاُخرى التي تنتشر بشكل مخروطي، وذلك أنّها تنتشر بشكل عمودي، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب. ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية. والأشعة التي تخرج من نار جهنّم شبيهة بالأشعة المذكورة(1).


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص667، الحديث5.

[452]

ومن بين هذه التفاسير، التّفسير الأوّل أنسب. (واستناداً إلى بعض التفاسير عبارة (في عمد ممددة) تبيّن حالة جهنّم، وبعضها الآخر يرى أنّها بيان لحالة أهل جهنّم).

* * *

بحثان

1 ـ الكبر والغرور أساس الذنوب الكبيرة

الإستعلاء والتكبر على الآخرين بلاء عظيم يصيب الإنسان فيدفعه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، الغفلة عن اللّه، والكفران بالنعم، والإنغماس في الأهواء والشهوات، والإستهانة بالآخرين، والإستهزاء بالمؤمنين...كلّها من الآثار المشؤومة لهذه الصفة الدنيئة، الأفراد الذين يعانون من عقد النقص ما أن تتوفر لهم مكنة حتى يستفحل فيهم الكبر والغرور بحيث لا يقيمون للآخرين وزناً، ويودي ذلك إلى انفصالهم عن المجتمع وانفصال المجتمع عنهم.

يغرقون في عالم وهمي، ويرون أنفسهم موجوداً متميزاً، حتى يبلغ الأمر بهم أن يروا أنفسهم من المقربين إلى اللّه. وهذا يدفعهم إلى الإستهانة بأرواح الآخرين وأعراضهم وأموالهم، وينشغلون بالهمز واللمز، ويخالون أنّهم بالصاق العيب بالآخرين وذمهم يزيدون من عظمتهم وشخصيتهم.

وفي بعض الرّوايات شبه هؤلاء الأفراد بالعقرب اللاسعة. (وإذا كان لسع العقرب عن طبيعة فيها، فلسع هؤلاء عن حقد وضغينة).

وجاء في حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثمّ يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت: يا