![]() |
![]() |
![]() |
هذه الآيات تصف القيامة وتقول:
(القارعة ... ما القارعة)؟!
«القارعة» من القرع، وهو طرق الشيء بالشيء مع إحداث صوت شديد. وسمّيت العصا والمطرقة بالمقرعة لهذه المناسبة. بل سمّيت كلّ حادثة هامّة صعبة بالقارعة. (تاء التأنيث قد تكون إشارة للتأكيد).
الآية الثّالثة تخاطب حتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول له: (وما أدراك ما القارعة)
وهذا يدل على أنّ عظمة هذه الحادثة القارعة إلى درجة لا تخطر على فكر أحد.
على أي حال، أكثر المفسّرين ذكروا أنّ « القارعة» أحد أسماء القيامة، ولكن لم يوضحوا هل أنّه اسم لمقدمات القيامة إذ تقرع هذه الدنيا، وينطفيء نور الشمس والقمر، وتغور البحار، إذا كانت القارعة هذه فوجه تسميتها واضح.
أو إنّه اسم للمرحلة التالية.. أي مرحلة احياء الموتى، وظهور عالم جديد، وتسميتها «القارعة» ـ في هذه الحالة ـ لما تبعثه من خوف وذعر في القلوب..
الآيات التالية بعضها يتناسب مع حادثة انهدام العالم، وبعضها مع إحياء الموتى، ولكن الإحتمال الأوّل أنسب، وإن ذكرت الحادثتان كلاهما في هذه الآيات متتابعتين. (مثل كثير من المواضع القرآنية الاُخرى التي تخبر عن يوم القيامة)
وفي وصف ذلك اليوم العجيب يقول سبحانه:
(يوم يكون النّاس كالفراش المبثوث).
«الفراش» جمع فراشة، وهي الحشرة المعروفة ذات الالوان الزاهية، وقيل إنّها الجراد. ويبدو أنّ هذا المعنى مستلهم من قوله تعالى حيث يصف النّاس يوم القيامة (كأنّهم جراد منتشر)(1)، لكن المعنى اللغوي للكلمة هو الحشرة المعروفة.
والتشبيه بالفراش قد يكون لأن هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النّار، وهذا ما يفعله أهل السيئات إذ يلقون بأنفسهم في جهنّم.
ويحتمل أن يكون التشبيه لما يصيب جميع النّاس في ذلك اليوم من حيرة.
وإن كان الفراش بمعنى الجراد فوجه التشبيه هو إنّ الجراد ـ خلافاً لكل الحيوانات التي تطير بشكل جماعي ـ ليس لها مسير مشخص في حركتها، وكل
1 ـ القمر، الآية 7.
منها يطير في اتجاه.
ويطرح هنا السؤال أيضاً بشأن مشاهد الحيرة والتشتت والفزع والإضطراب، هل هي من أثر الحوادث المرعبة المرافقة لنهاية العالم، أم حوادث بدء القيامة والحشر والنشر؟ جواب السؤال يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه.
ثمّ تذكر الآية التالية وصفاً آخر لذلك اليوم وتقول:
(وتكون الجبال كالعهن المنفوش).
و«العهن» هو الصوف المصبوغ.
و«المنفوش» هو المنشور ويتمّ ذلك عادة بآلة الحلج الخاصّة.
سبق أن ذكرنا أنّ القرآن الكريم في مواضع متعددة يتحدث عن الجبال عند قيام القيامة بأنّها تتحرك أوّلاً، ثمّ تُدَكّ وتتلاشى وأخيراً تصبح بشكل غبار متطاير في السماء. وهذه الحالة الأخيرة تشبهها الآية بالصوف الملون المجلوح ... الصوف المتطاير في مهبّ الريح، لم يبق منه إلاّ ألوان... وهذه آخر مراحل انهدام الجبال.
هذا التعبير (العهن المنفوش) قد يكون إشارة إلى الألوان المختلفة للجبال، فإنّ لها ألوان شتّى.
هذه العبارة تدل على أنّ الآيات أعلاه، تتحدث عن المرحلة الاُولى للقيامة وهي مرحلة العالم ونهايته. ثمّ تتطرق الآيات التالية إلى الحشر والنشر وإحياء الموتى وتقسيمهم إلى مجموعتين:
(فأما من ثقلت موازينه) أي إن ميزان عمله ثقيل.
(فهو في عيشة راضية، وأمّا من خفت موازينه، فأُمّه هاوية، وما أدراك ماهيه(1) نار حامية).
1 ـ «ماهيه»، أصلها «ما هي»، والهاء الحقت بها للسكت.
«موازين» جمع ميزان، ،وهو وسيلة للوزن، تستعمل في وزن الأجسام، ثمّ استعملت في المعايير المعنوية.
وذهب بعضهم إلى أنّ أعمال الإنسان تتجسم في ذلك اليوم، وتصبح قابلة للوزن، وتوزن حقيقة بميزان الأعمال.
وقيل أيضاً أنّ صحيفة أعمال الفرد هي التي توزن، فإن كانت تحمل صالحاً ثقلت، وإلاّ خفت أو انعدم وزنها.
وفي الواقع، ليس من الضروري أن يكون الميزان هو الآلة المعروفة ذات الكفتين، بل هو كلّ وسيلة لتقويم الوزن، كما ورد في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريّته(عليهم السلام) هم الموازين»(1).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام)حين سئل عن معنى الميزان قال: «الميزان العدل»(2).
وبهذا نفهم أنّ أولياء اللّه وقوانين العدل الإلهي هي موازين يعرض عليها النّاس وأعمالهم ويتمّ قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة.
واضح أنّ المقصود بثقل الموازين وخفتها هو ثقل الأشياء التي توزن بها وخفة تلك الأشياء.
والتعبير بكلمة (موازين) بصيغة الجمع يعود إلى أن كل واحد من أولياء اللّه وكل قانون من القوانين الإلهية إنّما هو ميزان. أضف إلى ذلك أن تنوع مواصفات الكائن البشري وأعماله يحتاج إلى تنوع في الموازين.
الراغب في المفردات يقول:
وذكر في مواضع الميزان بلفظ الواحد اعتباراً بالمحاسب (بكسر السين) وفي
1 ـ بحار الانوار، ج7، ص251.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص5.
مواضع الجمع اعتباراً بالمحاسبين(1) (بفتح السين).
بعض المفسّرين قال: إنّ الموازين جمع الموزون، أي العمل الذي يوزن فثقل الموازين وخفتها إذن هو ثقل نفس الأعمال وخفتها. لا ثقل الميزان وخفته(2).
نتيجة الإثنين طبعاً واحدة، ولكن من طريقين مختلفين.
في هذا الموضوع شرح أكثر فصلناه في تفسير الآيتين 8 و9 من سورة الأعراف، والآية (105) من سورة الكهف، والآية (102) من سورة المؤمنون.
وصف العيشة بأنّها «راضية» وصف رائع عن حياة ملؤها النعمة ورغد العيش لأهل الجنّة في القيامة. الرضا في تلك الحياة عميق إلى درجة قال إنّها «عيشة راضية»، ولم يقل «مرضية». أي استعمل بدل اسم المفعول اسم الفاعل لمزيد من التأكيد(3).
هذه ميزة الحياة الآخرة بشكل خاص. لأنّ الحياة الدنيا ـ مهما كان فيها من رفاه ونعمة ورغد عيش ورضا ـ لا تخلو من المكدرات. الحياة الأُخرى هي وحدها المليئة بالرضا والأمن والسلام وهدوء البال.
كلمة «اُم» في قوله: (فاُمّه هاوية) تعني المأوى والملجأ، لأنّ «الأُم» هي مأوى ابنائها وملاذهم، ويكون معنى الآية: إنّ هؤلاء المذنبين الذين خفت موازينهم لا ملاذ لهم سوى جهنم، وويل لمن كان ملجؤه جهنم.
وقيل: «اُم» تعني «الدماغ»، لأنّ العرب تطلق على الدماغ اسم «اُم الرأس» ويكون معنى الآية أنّ رؤوس هؤلاء هاوية في جهنم، بعبارة اُخرى إنّ هؤلاء يلقون على رؤوسهم في نار جهنم. ونستبعد هذا الإحتمال، لعدم انسجامه مع الآية
1 ـ المفردات، ص522.
2 ـ هذا الاحتمال ذكره الزمخشري في الكشّاف، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره.
3 ـ قيل أيضاً أنّ «راضية» بمعنى (ذات رضا). أو قدروا محذوفاً كأن تكون عيشة مرضية لأصحابها. والتّفسير المذكور أعلاه أنسب من غيره.
التالية: (وما أدراك ما هيه)؟.
«هاوية» من (هوى)، أي سقط، والهاوية اسم لجهنّم لإنّها محل سقوط المذنبين. وهي إشارة أيضاً إلى عمق نار جهنم.
وإذا اعتبرنا (اُم) بمعنى دماغ فتكون هاوية بمعنى ساقطة. والتّفسير الأوّل أصح وأنسب.
«حامية» من (حمى) ـ على وزن نفي ـ وهو شدّة الحرارة. و«حامية» هنا إشارة إلى قدرة نار جهنم على الإحراق.
وقوله سبحانه: (وما أدراك ماهيه، نار حامية)تأكيد على شدّة عذاب نار جهنم وعلى أنّها فوق تصور كلّ البشر.
* * *
الأعمال الصالحات هي دون شك متفاوتة في قيمتها ووزنها. من هنا فالنصوص الإسلامية ركزت على بعض الأعمال أكثر من غيرها واعتبرتها سبباً لثقل ميزان الأعمال يوم القيامة.
من ذلك حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في تفسير لا إله إلاّ اللّه: «يعني بوحدانيته، لا يقبل اللّه الأعمال إلاّ بها، وهي كلمة التقوى، يثقل اللّه بها الموازين يوم القيامة»(1).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال حول الشهادتين: «خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه»(2).
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص 659 الحديث 8 و 12.
2 ـ المصدر السابق، الحديث 7، ج5، ص 659، ح7.
وعن الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام): «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد»... ثمّ يقول في ذيل الرّواية: وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فيميل به فيخرج الصلاة فيضعها في ميزانه فيرجح.(1)
وعن الامام الباقر(عليه السلام) قال : «من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه».(2)
ونختتم هذه الرّوايات بقول لسلمان الفارسي تلميذ مدرسة الوحي جواباً لرجل استهدف اهانته وقال له: من أنت، وما قيمتك! فقال: «أمّا أولي وأولك فنطفة قذرة، وأمّا أخري وأخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ونصبت الموازين، فمن ثقلت موازينه فهو الكريم، ومن خفت موازينه فهو اللئيم»(3).
اللّهمّ! اجعل ميزان عملنا ثقيلاً بحبّ محمّد وآل محمّد.
ربّنا! ما بوسعنا أن نصل إلى «عيشة راضية» إلاّ بلطفك وكرمك... فاعنّا بفضلك على هذا الطريق.
إلهنا! نار جهنّم حامية... ولا طاقة لنا بها فاطفيء لظاها لنا بماء رحمتك وكرمك.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة القارعة
* * *
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ نور الثقلين، ج 5، ص 660، الحديث 13.
3 ـ المصدر السابق، الحديث 14.
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثماني آياتْ
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ هذه السّورة نزلت في مكّة، وما فيها من ذكر للتفاخر والتكاثر إنّما يرتبط بقبائل قريش التي كانت تتباهى على بعضها بأُمور وهميّة.
وبعضهم ـ كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ـ يرى أنّها مدنية، وما فيها من ذكر للتفاخر قد ورد بشأن اليهود أو طائفتين من الأنصار، لكن مكيتها أصح لشبهها الكبير بالسور المكّية.
هذه السّورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم استناداً إلى مسائل موهومة، وتذم ذلك وتلوم عليه، ثمّ تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم وممّا سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منّ اللّه بها عليهم.
اسم السّورة مستل من الآية الأولى فيها.
ورد في فضيلة هذه السّورة عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، واُعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية»(1).
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص532.
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «قراءة هذه السّورة في الفريضة والنافلة يعادل ثواب شهادة شهيد»(1).
واضح أنّ كلّ هذا الثواب إنّما هو لمن يقرأها ولمن يطبقها في برنامج حياته ويتفاعل معها روحياً ونفسياً.
* * *
1 ـ المصدر السابق، بتلخيص.
أَلْهَـكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ(2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3) ثُمَّ كَلاَّ سَوفَ تَعْلَمُونَ(4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7) ثُمَّ لَتُسئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعِيمِ(8)
المفسّرون ـ كما أشرنا ـ يعتقدون أنّ السّورة نزلت في قبائل كانت تتفاخر على بعضها بكثرة الأموال والأنفس حتى أنّها كانت تذهب إلى المقابر وتعدّ موتاها لترفع احصائية أفراد القبيلة.
بعضهم قال: إنّ المقصود قبيلتان من قريش في مكّة، وبعضهم قال إنّهما قبيلتان من قبائل الأنصار في المدينة، وقيل: إنّه إشارة إلى تفاخر اليهود على غيرهم، ويبدو أن الأوّل أصح لمكان مكّية هذه السّورة.
سبب النزول ـ مهما كان ـ فهو لا يحد قطعاً معنى الآية.
الآيات الاُولى توجّه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول:
(ألهاكم التكاثر) في الأنفس والاموال.
حتى إنّكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أفراد قبيلتكم: (حتى زرتم المقابر).
واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أنّ المعنى هو: إنّكم انشغلتم بالتكاثر والتفاخر حتى لحظة موتكم وورودكم إلى المقابر.
لكن المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع عبارة (حتى زرتم المقابر) ومع سبب النزول، وخطبة نهج البلاغة كما سنشير إلى ذلك.
«ألهاكم» من «اللهو» وهو الإنشغال بالأعمال الصغيرة والإنصراف عن المهام الكبيرة. والراغب يفسّر اللهو بالعمل الذي يُشغل الإنسان ويصرفه عن مقاصده وأهدافه.
«التكاثر» يعني التفاخر والمباهاة
«زرتم» من الزيارة و«زَور» (على وزن قول) في الأصل بمعنى أعلى الصدر، ثمّ استعمل للقاء والمواجهة. و«زَوَر» (على وزن قمر) بمعنى انحراف أعلى الصدر، والكذب لإنحرافه عن الحق سمّي (زوراً) ـ على وزن نورـ .
«المقابر» جمع مقبرة، وهي مكان دفن الميت. وزيارة المقابر إمّا أن تكون كناية عن الموت. أو بمعنى الذهاب إلى المقابر وإحصاء الموتى بهدف التكاثر في الأنفس والتفاخر بالعدد (حسب التّفسير المشهور).
وذكرنا أن المعنى الثّاني أصح. وأحد شواهده كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، بعد أن تلا: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) قال:
«يا له أمر ما أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أي مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد. أفبمصارع آبائهم يفخرون؟! أو بعديد الهلكى
يتكاثرون؟! يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً!!»(1).
هذه الخطبة قسم من خطبة عظيمة يقول عنها ابن أبي الحديد المعتزلي:
«وأقسم بمن تقسم الاُمم كلّها به; لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة، ما قرأتها قط إلاّ وأحدثت عندي روعة وخوفاً وعظة، وأثرت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رعدة، ولا تأملتها إلاّ وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي، وأرباب ودي، وخيلت في نفسي أنّي أنّا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله.
وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى! وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه! فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي; فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله، أو كانت نية القائل صالحة، ويقينه كان ثابتاً، وإخلاصه كان محضاً خالصاً، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ»(2).
ويقول في مكان آخر: «ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا» ثمّ يشير إلى قول معاوية حول فصاحة الإمام علي(عليه السلام): «واللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره».
الآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين، تقول: (كلاّ سوف تعلمون) فليس الأمر كما ترون، وبه تتفاخرون. بل سوف تعلمون عاجلاً نتيجة هذا التكاثر الموهوم.
لمزيد من التأكيد يقول سبحانه: (ثمّ كلاّ سوف تعلمون).
جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ الآيتين تكرار لموضوع واحد وتأكيد عليه.
1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 221.
2 ـ شرح نهج البلاغة، ج11، ص153.
وكلتاهما تشيران إلى العذاب الذي ينتظر هؤلاء المتكاثرين المتفاخرين.
وبعضهم قال: إنّ الأولى إشارة إلى عذاب القبر والبرزخ والثّانية إلى عذاب القيامة.
وروي عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر، إلى قوله :كلا سوف تعلمون، يريد في القبر، ثمّ كلا سوف تعلمون، بعد البعث»(1).
في التّفسير الكبير للفخر الرازي عن زربن حبيش أحد أصحاب الإمام علي(عليه السلام) قال: كنّا في شك في عذاب القبر حتى سألنا عليّاً فأخبرنا أن هذه الآية دليل على عذاب القبر.
(كلا لو تعلمون علم اليقين).كلا ليس الأمر كما تظنون أيّها المتفاخرون المتكاثرون. فلو إنّكم تعلمون الآخرة علم اليقين، لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة.
ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية:
(لترون الجحيم، ثمّ لترونها عين اليقين، ثمّ لتسئلن يومئذ عن النعيم)
في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف انفقتم تلك النعم الإلهية. وهل استخدمتموها في طاعة اللّه أم في معصيته، أم أنّكم ضيعتم النعمة ولم تؤدّوا حقّها؟
* * *
من آيات السّورة يتبيّن أنّ أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهات هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص534.
كما إنّ جهل الإنسان بضعفه ومسكنته... ببدايته ونهايته... من العوامل الاُخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر. ولهذا فإنّ القرآن الكريم بهدف كسر روح التفاخر والتكاثر في الأفراد، يقصّ علينا في مواضع كثيرة مصير الأقوام السالفة، وكيف إنّها كانت تمتلك كلّ وسائل القوّة والمنعة، لكنّها اُبيدت بوسائل بسيطة... بالريح... بالصاعقة... بالزلزال... بالسيل... بعبارة اُخرى بالماء والهواء والتراب.. وأحياناً بالسجّيل وبطير أبابيل!!
فلِمَ ـ والحال هذه ـ كلّ هذا التفاخر والغرور؟!
ثمّ عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل. والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «ما من رجل تكبر أو تجبّر إلاّ لذلة وجدها في نفسه»(1).
وعن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال:
«ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالأنساب، والطعن بالأحساب والإستسقاء بالأنواء (طلب الماء بواسطة النجوم)»(2).
وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «أهلك النّاس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر»(3).
والحق أنّ أهم عوامل الحرص والبخل والخلود إلى الدنيا والمنافسات المخربة، وكثير من المفاسد الإجتماعية هو هذا الخوف الوهمي من الفقر والتفاخر والتعالي بين الأفراد والاُمم والقبائل.
ولذا ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ما أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى
1 ـ اُصول الكافي، ج2، ص236: باب الكبر، الحديث 17.
2 ـ بحار الأنوار، ج 73، ص291.
3 ـ بحار الأنوار، ج73، ص290، الحديث12.
عليكم التكاثر»(1).
«التكاثر» كما أشرنا يعني في الأصل التفاخر، ولكنّه يعني أحياناً حبّ الاستزادة من المال وجمعه، كما ورد في الحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
«التكاثر في الأموال: جمعها من غير حقّها، ومنعها من حقها، وشدّها في الأوعية»(2).
هذا البحث الموسّع نختمه بحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير (ألهاكم التكاثر) قال:
«يقول ابن آدم: مالي مالي; وما لَكَ من مالِكَ إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت»(3).
نعم، حقّاً لا يعود على الإنسان شيء من ماله الذي جمعه وعدده، وتساهل ـ أحياناً ـ في حلاله وحرامه، إلاّ ما يأكل ويشرب ويلبس، أو ما ينفقه في سبيل اللّه وما ينفقه على الإحتياجات الشخصية قليل، فما أفضل أن يزيد حظه من ماله بالإنفاق!
«اليقين» يقابل «الشك»، كما إنّ «العلم» يقابل «الجهل»، واليقين يعني وضوح الشيء وثبوته. ويستفاد من الرّوايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان. الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) يجعل الإيمان أعلى من الإسلام درجة، والتقوى أعلى من الإيمان درجة، واليقين أعلى من التقوى درجة ثمّ يقول: «ولم يقسم بين النّاس شيء أقل من اليقين».
1 ـ الدر المنثور، ج6، ص387.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص662، الحديث8.
3 ـ صحيح مسلم، نقلاً عن مجمع البيان، ج10، ص534
ويسأل الراوي: ما هو اليقين؟ يقول: «التوكل على اللّه، والتسليم للّه، والرضا بقضاء اللّه، والتفويض إلى اللّه!»(1).
علوّ مقام اليقين على مقام التقوى والإيمان والإسلام أكدت عليه روايات اُخرى(2).
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي النّاس بسخط اللّه، ولا يلومهم على ما لم يؤته اللّه... إنّ اللّه بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».
ومن هذه النصوص وأمثالها نفهم جيداً أنّ الإنسان ـ حين يصل إلى مقام اليقين ـ تغمر قلبه وروحه طمأنينة خاصّة.
ومع هذا، فلليقين مراتب، أشارت إليها الآية أعلاه والآية (95) من سورة الواقعة: (إنّ هذا لهو حق اليقين)، وهي ثلاثة:
1 ـ علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.
2 ـ عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلاً النّار.
3 ـ حقّ اليقين: وهو كأن يدخل الإنسان النّار بنفسه ويحسّ بحرقتها، ويتصف بصفاتها. وهذه أعلى مراحل اليقين.
يقول المحقق الطوسي: اليقين اعتقاد جازم مطابق ثابت، لا يمكن زواله، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين، العلم بالمعلوم والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال،
1 ـ بحار الأنوار، ج70، ص143.
2 ـ الميزان، ج6، ص187.
وله مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين(1).
إنّه ذكر عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ بعض أصحاب عيسى(عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء»
فالحديث ـ كماترى ـ يوميء إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين باللّه سبحانه ومحو الأسباب الكونية عن الإستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره(2).
الآية الكريمة: (لترون الجحيم) لها تفسيران:
الأوّل: إنّها تتحدث عن مشاهدة الجحيم في الآخرة، وهو خاص بالكفّار، أو لعامة الجن والإنس، إذ تنص بعض الآيات على أنّه ما من أحد إلاّ وارد جهنّم.
الثّاني: إنّها تتحدث عن الشهود القلبي في عالم الدنيا. وفي هذه الحالة تكون الآية جواباً لقضية شرطية هي: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم (في هذه الدنيا بعين بصيرتكم). لأنّ الجنّة وجهنّم مخلوقان، ولهما الآن وجود خارجي.
ولكن ـ كما ذكرنا ـ التّفسير الأوّل أنسب مع الآيات التالية التي تتحدث عن يوم القيامة. من هنا، فالقضية قطعية وليست شرطية.
الآية الأخيرة من السّورة تقول: (ثمّ لتسئلن يومئذ عن النعيم). قيل إنّ النعيم المسؤول عنه هو نعمة السلامة، وفراغ البال، وقيل: إنّه الصحة والسلامة والأمن،
1 ـ على ما في بحار الأنوار، ج70، ص143.
2 ـ الميزان، ج6، ص200 «ذيل الآية 105 من سورة المائدة».
وقيل: الآية تشمل كل هذه النعم.
وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «النعيم: الرُّطب، والماء البارد».
وروي أنّ أبا حنيفة سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن تفسير هذه الآية قال الإمام: «ما النعيم عندك يا نعمان» قال: القوت من الطعام والماء البارد، فقال(عليه السلام)«لئن أوقفك اللّه يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه». قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال الامام: «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم اللّه بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف اللّه بين قلوبهم وجعلهم أخواناً بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم اللّه للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع واللّه سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم اللّه به عليهم وهو النّبي وعترته»(1).
من كلّ هذه الرّوايات ـ التي يبدو أنّها مختلفة في ظاهرها ـ نفهم أنّ النعيم له معنى واسع جدّاً يشمل كلّ المواهب الإلهية المعنوية منها مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية، وأنواع النعم المادية الفردية منها والإجتماعية. بيد أن النعم التي لها أهميّة أكبر مثل: نعمة «الإيمان والولاية» يُسأل عنها أكثر. هل أدّى الإنسان حقّها أم لا؟ والرّوايات التي تنفي شمول الآيه للنعم المادية يظهر أنّها تريد أن تقول: لا ينبغي أن نترك المصاديق الأهم للآية ونتمسك بالمصاديق الأصغر. إنّه تحذير ـ في الواقع ـ إلى النّاس بشأن سلسلة مراتب المواهب والنعم الإلهية، وبأنّهم يتحملون إزاءها مسؤولية ثقيلة.
وكيف يمكن أن لا يُسأل عن هذه النعم؟ وهي ثروة كبيرة وهبت للبشرية يجب أن تقدر كل واحدة منها حقّ قدرها وأن يؤدّى شكرها، وأن يستثمر كل منها
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص535.
في موضعها.
اللّهمّ! أدم علينا نعمك التي لا تحصى، خاصّة نعمة الإيمان والولاية.
ربّنا! وفقنا لأداء حق كل هذه النعم.
إلهنا! زد علينا من نعمك الكبرى، ولا تسلبها منا أبداً.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة التكاثر
* * *
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثلاث آيات
المعروف أنّ هذه السّورة مكّية، واحتمل بعضهم أنّها مدنية. ويشهد على مكّيتها لحنها ومقاطعها القصيرة.
شمولية هذه السّورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسّرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه. بعبارة اُخرى: هذه السّورة ـ رغم قصرها ـ تقدم المنهج الجامع والكامل لسعادة الإنسان.
تبدأ السّورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. وسيأتي تفسيره. ثمّ تتحدث عن خسران كلّ ابناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية. ثمّ تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد:
الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذه الاُصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والإجتماعي للإسلام.
ورد في فضيلة هذه السّورة عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ «والعصر» في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقاً وجهه، ضاحكاً سنّه، قريرة عينه، حتى
يدخل الجنّة»(1).
وواضح أنّ كل هذه الفضيلة وهذه البشرى نصيب من طبّق الاُصول الأربعة المذكورة في حياته، لا أن يقنع فقط بقراءتها.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص545.
وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الاِْنْسَـنَ لَفِى خُسْرٌ(2) إِلاَّ الَّذِينَ اءَمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلحَـتِ وَتَوَاصَواْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ(3)
في بداية هذه السّورة نواجه قَسَماً قرآنيا جديداً، يقول سبحانه:
(والعصر).
كلمة (العصر) في الأصل الضغط، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام. ولذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة:
![]() |
![]() |
![]() |