![]() |
![]() |
![]() |
وفي نفس الرسالة التي كتبها الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) إلى أهل البصرة يجيبهم عن تساؤلهم بشأن معنى الصمد قال في تفسير: (لم يلد ولم يولد): «(لم يلد) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات (الحالات المختلفة) كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف، (ولم يولد) لم يتولد من شيء، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاُذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب،
1 ـ التوبة، الآية 30.
2 ـ الأنعام، الآية 100.
وكالنّار من الحجر...»(1).
بناء على هذه الرّواية، للتولد معنى واسع يشمل خروج وتفرع كلّ شيء من شيء، وهذا في الحقيقة المعنى الثّاني للآية. ومعناها الأوّل هو المعنى الظاهر الذي ينفي أن يكون الباري سبحانه من أب أو أن يكون له ابن أضف إلى ذلك، المعنى الثّاني قابل للفهم عند تحليل المعنى الأوّل. لأنّ اللّه سبحانه إنّما لم يكن له ولد لأنّه منزّه عن عوارض المادة، وهذا المعنى يصدق بشأن سائر عوارض المادة الاُخرى.
ثمّ تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف اللّه تعالى.
(ولم يكن له كفواً أحد)(2) أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً.
«الكفو»: هوالكفء في المقام والمنزلة والقدر. ثمّ اطلقت الكلمة على كلّ شبيه ومثيل.
استناداً إلى هذه الآية، اللّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكلّ نقص ومحدودية. وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السّورة.
من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولانظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كلّ الجهات.
أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يقول في إحدى خطب نهج البلاغة: «لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً... ولا كفء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه»(3).
هذا التّفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها.
1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص224.
2 ـ «أحد» اسم كان و«كفواً» خبرها.
3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 186.
سلا اللّه عليك يا أمير المؤمنين.
* * *
التوحيد،يعني وحدانية ذات اللّه تعالى ونفي أي شبيه ومثيل له. وإضافة إلى الدليل النقلي المتمثل في النصوص الدينية ثمّة دلائل عقلية كثيرة أيضاً تثبت ذلك نذكر قسماً منها باختصار:
1 ـ برهان صرف الوجود: وملخصه أن اللّه سبحانه وجود مطلق لا يحده قيد ولا شرط، ومثل هذا الوجود سيكون غير محدود دون شك، فلو كان محدوداً لمُني بالعدم، والذات المقدّسة التي ينطلق منها الوجود لا يمكن أن يعترضها العدم والفناء، وليس في الخارج شيء يفرض عليه العدم، ولذلك لا يحدّه حدّ.
من جهة اُخرى لا يمكن تصوّر وجودين غير محدودين في العالم. إذ لو كان ثمّة وجودان لكان كلّ واحد منهما فاقداً حتماً لكمالات الآخر، أي لا يملك كمالاته ومن هنا فكلاهما محدودان. وهذا دليل واضح على وحدانية ذات واجب الوجود (تأمل بدقّة)
2 ـ البرهان العلمي: عندما ننظر إلى الكون الذي يحيط بنا، نلاحظ في البداية موجودات متفرقة... الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات والحيوانات. وكلما ازددنا إمعاناً في النظر الفينا مزيداً من الترابط والإنسجام بين أجزاء هذا العالم وذراته، وظهر لنا أنّه مجموعة واحدة تتحكم فيها جميعاً قوانين واحدة.
ومهما تقدم العلم البشري اكتشف مزيداً من ظواهر وحدة أجزاء هذا العالم
وانسجامها; حتى أنّ ظاهرة بسيطة (مثل سقوط تفاحة من الشجرة) يؤدي إلى اكتشاف قانون عام يحكم كلّ أجزاء الكون. (مثل قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن).
هذه الوحدة في نظام الوجود، والقوانين الحاكمة عليه، والإنسجام التام بين أجزائه كلّها ظواهر تشهد على وحدانية الخالق.
3 ـ برهان التمانع: (الدليل العلمي الفلسفي)، وهو دليل آخر على إثبات وحدانية اللّه، مستلهم من قوله سبحانه: (لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا فسبحان ربّ العرش عمّا يصفون)(1).
توضيح هذا الدليل جاء في المجلد 10 الصفحة 145 من هذا التّفسير تحت عنوان: برهان التمانع.
4 ـ دعوة الأنبياء إلى اللّه الواحد الأحد: وهو دليل آخر على وحدانية اللّه، إذ لو كان هناك خالقان كلّ واحد منهما واجب الوجود في العالم، لإستلزم أن يكون كلّ واحد منهما منبعاً للفيض. فلا يمكن لوجود ذي كمال مطلق أن يبخل في الإفاضة لأنّ عدم الفيض نقص بالنسبة للوجود الكامل. وحكمته تستوجب أن يشمل الجميع بفيضه.
وهذا الفيض له نوعان: فيض تكويني (في عالم الخلقة)، وفيض تشريعي (في عالم الهداية). من هنا لو كان هناك آلهة متعددة لوجب أن يأتي مبعوثون منهم جميعاً، ليواصلوا فيضهم التشريعي إلى النّاس.
أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يقول لإبنه الحسن(عليه السلام) وهو يوصيه: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه».(2)
1 ـ الانبياء، الآية 22.
2 ـ نهج البلاغة، وصيته لابنه المجتبى (قسم الرسائل، الرسالة 31).
هذه كلّها دلائل وحدانية ذاته. أمّا الدليل على عدم وجود أي تركيب وأجزاء في ذاته المقدسة فواضح، إذ لو كان له أجزاء خارجية لكان محتاجاً إليها طبعاً. والإحتياج لا يعقل لواجب الوجود.
وإذا كان المقصود أجزاء عقلية (التركيب من الماهية والوجود، أو من الجنس والفصل) فهو محال أيضاً. لأنّ التركيب من الماهية والوجود فرع لمحدودية الموجود. بينما وجوده سبحانه غير محدود. والتركيب من الجنس والفصل فرع من أن يكون للموجود ماهية. وما لا ماهية له، ليس له جنس ولا فصل.
تذكر للتوحيد عادة أربعة فروع:
1 ـ توحيد الذات: (وهو ما شرحناه أعلاه).
2 ـ توحيد الصفات: أي إنّ صفاته لا تنفصل عن ذاته، ولا تنفصل عن بعضها. على سبيل المثال العلم والقدرة في الإنسان عارضان على ذاته. ذاته شيء، وعلمه وقدرته شيء آخر. كما إنّ علمه وقدرته منفصلان عن بعضهما. مركز العلم روح الإنسان، ومركز قدرته الجسمية دراعه وعضلاته. لكن صفات اللّه ليست زائدة على ذاته، وليست منفصلة عن بعضها. بل هو وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، وكلّه أزلية وأبدية.
ولو لم يكن ذلك لإستلزم التركيب، وإن كان مركباً لإحتاج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون واجباً للوجود.
3 ـ التوحيد الأفعالي: ويعني أن كلّ وجود وكلّ حركة وكلّ فعل في العالم يعود إلى ذاته المقدّسة، فهو مسبب الأسباب وعلة العلل. حتى الأفعال التي تصدر منّا هي في أحد المعاني صادرة عنه. فهو الذي منحنا القدرة والإختيار وحرية الإرادة. ومع أنّنا نفعل الأفعال بأنفسنا، وأنّنا مسؤولون تجاهها. فالفاعل
من جهة هو اللّه سبحانه لأنّ كلّ ما عندنا يعود إليه: (لا مؤثر في الوجود إلاّ اللّه).
4 ـ التوحيد في العبادة: أي تجب عبادته وحده دون سواه، ولا يستحق العبادة غيره. لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق. ومطلق الكمال، لمن هو غني عن الآخرين، ولمن هو واهب النعم وخالق كلّ الموجودات وهذه صفات لا تجتمع إلاّ في ذات اللّه سبحانه.
الهدف الأصلي للعبادة هو الإقتراب من ذلك الكمال المطلق، والوجود اللامتناهي، هو السعي لإنارة النفس بقبس من صفات كماله وجماله... وينتج عن ذلك الإبتعاد عن الأهواء والشهوات والإتجاه نحو بناء النفس وتهذيبها.
هذا الهدف لا يتحقق إلاّ بعبادة اللّه، وهو الكمال المطلق.
توحيد الأفعال له بدوره فروع كثيرة نشير إلى ستة من أهمها:
والقرآن الكريم يقول: (قل اللّه خالق كلّ شيء)(1).
ودليله واضح، فحين ثبت بالأدلة السابقة أنّ واجب الوجود واحد، وكلّ ما عداه ممكن الوجود، يترتب على ذلك أنّ خالق كلّ الموجودات واحد أيضاً.
أي إنّ اللّه وحده هو مدبّر العالم ومربّيه ومنظّمه. كما جاء في قوله تعالى: (قل أغير اللّه أبغي ربّاً وهو ربّ كلّ شيء).(2)
دليل ذلك أيضاً وحدة واجب الوجود، وتوحيد الخالق في عالم الكون.
1 ـ الرعد، الآية 160.
2 ـ الأنعام، الآية 164.
يقول سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون)(1).
لما ثبت أنّه سبحانه هو المدير والمدبّر، فليس لأحد غيره حتماً صلاحية التقنين. إذ لا سهم لغيره في تدبير العالم كي يستطيع أن يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين.
سواء «الملكية الحقيقية» أي السلطة التكوينية على الشيء، أم «الملكية الحقوقية» وهي السلطة القانونية على الشيء; فهي له سبحانه، كما يقول في كتابه العزيز: (وللّه ملك السموات والأرض)(2) ويقول سبحانه: (وانفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه)(3).
والدليل على ذلك هو نفس الدليل على توحيد الخالقية، وحين يكون هو سبحانه خالق كلّ شيء فهو مالك كلّ شيء أيضاً. فكلّ ملكية يجب أن تستمد وجودها من مالكيته.
لابدّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الإجتماعية تتطلب ذلك، فلا يمكن بدون حكومة أن تقسم المسؤوليات، وتنظم المشاريع، ويحال دون التعدي والتجاوز.
ومن جهة اُخرى، مبدأ الحرية يقرر أن لا أحد له حق الحكومة على أحد، إلاّ
1 ـ المائدة، الآية 44.
2 ـ آل عمران، الآية 189.
3 ـ الحديد، الآية 7.
إذا سمح بذلك المالك الأصلي والصاحب الحقيقي. من هنا فالإسلام يرفض كلّ حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهية ومن هنا أيضاً نرى شرعية الحكم للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وللأئمّة المعصومين(عليه السلام) ثمّ للفقيه الجامع للشرائط بعدهم.
ومن الممكن أن يجيز النّاس أحداً ليحكمهم. ولكنّ اتفاق النّاس بأجمعهم غير ممكن في مجتمع عادة، ولذلك لا يمكن إقامة مثل هذه الحكومة عملياً.(1)
جدير بالذكر أن توحيد الربوبية يرتبط بعالم التكوين، وتوحيد التقنين يرتبط بعالم التشريع.
يقول سبحانه: (إن الحكم إلاّ للّه)(2).
اللّه سبحانه هو وحده «واجب الإطاعة» في هذا الكون. وهو تعالى مصدر مشروعية إطاعة غيره. أي إنّ إطاعة غيره يجب أن تعدّ إطاعة له.
دليل ذلك واضح أيضاً، حين تكون الحاكمية له دون سواه فيجب أن يكون هو المطاع دون غيره، ولذلك نحن نعتبر إطاعتنا للأنبياء(عليهم السلام) والأئمّة المعصومين ومن ينوب عنهم هي انعكاس عن طاعتنا للّه. يقول تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(3).
ويقول سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع اللّه)(4).
كلّ واحد من المواضيع المذكورة أعلاه تحتاج إلى شرح وتفصيل، ونحن نكتفي بهذه الخلاصة كي لا نخرج عن إطار هذا التّفسير.
1 ـ لذلك إذا تعينت حكومة عن طريق الإنتخابات وبأكثرية الأصوات، فلابدّ من تنفيذ الفقيه الجامع للشرائط كي تكون لها شرعية إلهية.
2 ـ الأنعام، الآية 57.
3 ـ النساء، الآية 59.
4 ـ النساء، الآية 80.
إلهي! ثبت أقدامنا على خط التوحيد ما حيينا.
ربّنا! فروع الشرك مثل فروع التوحيد كثيرة ولا نجاة لنا من الشرك إلاّ بلطفك، فاشملنا بفضلك.
إلهنا! اجعل حياتنا مع التوحيد، ومماتنا مع التوحيد، واحشرنا مع حقيقة التوحيد.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة الإخلاص
* * *
مكّية
وَعَدَدُ آياتِها خَمسُ آيات
قيل: أنّها مكّية، وبعض المفسّرين قال إنّها مدنية.
تتضمّن السّورة تعاليم للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة، وللناس عامّة تقضي أن يستعيذوا باللّه من شرّ كلّ الأشرار، وأن يوكلوا أمرهم إليه، ويأمنوا من كل شرّ في اللجوء إليه.
وبشأن نزول السّورة ذكرت الرّواية المنقولة في أغلب كتب التّفسير أنّ النّبي اُصيب بسحر بعض اليهود، ومرض على أثر ذلك فنزل جبرائيل وأخبره أنّ آلة السحر موجودة في بئر. فأرسل من يخرجها، ثمّ تلا هذه السّورة، وتحسنت صحته.
المرحوم الطبرسي ومحققون آخرون شككوا في هذه الرّواية التي ينتهي سندها إلى عائشة وابن عباس لما يلي:
أوّلاً: السّورة كما هو مشهور مكّية ولحنها مثل لحن السور المكّية، والنّبي جابه اليهود في المدينة وهذا يدل على عدم أصالة الرّواية.
ثانياً: لو كان اليهود بمقدورهم أن يفصلوا بسحرهم ما فعلوه بالنّبي حسب الرّواية لاستطاعوا أن يصدوه عن أهدافه بسهولة عن طريق السحر، واللّه سبحانه قد حفظ نبيّه كي يؤدي مهام النّبوة والرسالة.
ثالثاً: لو كان السحر يفعل بجسم النّبي ما فعله لأمكن أن يؤثر في روحه أيضاً، وتكون أفكاره بذلك لعبة بيد السحرة، وهذا يزلزل مبدأ الثقة بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن الكريم يردّ على اُولئك الذين اتهموا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه مسحور إذ قال: (وقال
الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً)(1).
«مسحور» في الآية تشمل من اُصيب بسحر في عقله أو في جسمه، وهي دليل على ما نذهب إليه.
على أي حال لا يجوز أن نمسّ من قداسة مقام النبوّة بهذه الرّوايات المشكوكة، أو أن نعتمد عليها في فهم الآيات.
روي في فضيلة هذه السّورة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اُنزلت عليَّ آيات لم ينزل مثلهنّ: المعوذتان»(2).
وعن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال: «من أوتر بالمعوذتين وقل هو اللّه أحد قيل له: يا عبد اللّه أبشر فقد قبل اللّه وترك»(3).
وعن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأحد أصحابه: «ألا أعلمك سورتين هما أفضل سور القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول اللّه. فعلمني المعوذتين. ثمّ قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي إقرأهما كلما قمت ونمت».(4)
واضح أنّ هذه الفضيلة نصيب من جعل روحه وعقيدته وعمله منسجماً مع محتوى السّورة.
* * *
1 ـ الفرقان، الآيتان 8 و9 .
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص716، ومجمع البيان، ج10، ص567.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ المصدر السابق.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِن شَِرِّ مَا خَلَقَ(2) وَمِن شَرِّ غَاسِق إِذَا وَقَبَ(3) وَمِن شَرِّ النَّفَّـثَـتِ فِى الْعُقَدِ(4) وَمِن شَرِّ حَاسِد إِذَا حَسَدَ(5)
يخاطب اللّه سبحانه نبيّه باعتباره الاُسوة والقدوة، ويقول له:
(قل أعوذ بربّ الفلق، من شرّ ما خلق)
«الفلق»: من فَلَقَ أي شقَّ وفَصَل; وسُمي طلوع الصبح بالفلق لأنّ ضوء الصبح يشق ظلمة الليل; ومثله الفجر، اطلق على طلوع الصبح لنفس المناسبة.
وقيل: إنّ الفلق يعني ولادة كلّ الموجودات الحيّة، بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية. فولادة هذه الموجودات تقترن بفلق حبّتها أو بيضتها. والولادة من أعجب مراحل وجود هذه الأحياء، لأنّها تشكل طفرة في مراحل وجودها، وانتقالاً من عالم إلى عالم آخر. يقول سبحانه: (إنّ اللّه فالق الحبّ والنوى يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي)(1).
وقيل: إنّ الفلق له معنى واسع يشمل كلّ خلق، لأنّ الخلق، هو شقّ ستار العدم ليسطع نور الوجود.
وكلّ واحد من هذه المعاني الثلاثة (طلوع الصبح ـ وولادة الموجودات الحيّة ـ وخلق كلّ موجود) ظاهرة عجيبة تدل على عظمة الباري والخالق والمدبّر، ووصف اللّه بذلك له مفهوم عميق.
في بعض الرّوايات جاء أنّ الفلق بئر عظيم في جهنّم تبدو وكأنّها شقّ في داخلها. وقد تكون الرّواية إشارة إلى أحد مصاديقها لا أن تحدّ المفهوم الواسع لكلمة «الفلق».
(من شرّ ما خلق)... من كلّ موجود شرّير من الإنس والجن والحيوان وحوادث الشرّ والنفس الأمارة بالسوء، وهذا لا يعني أنّ الخلق الإلهي ينطوي في ذاته على شرّ، لأنّ الخلق هو الإيجاد، والإيجاد خير محض. يقول سبحانه: (الذي أحسن كلّ شيء خلقه)(2).
بل الشرّ يعرض المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة، وتنسلخ عن المسير المعين لها. على سبيل المثال، أنياب الحيوانات وسيلة دفاعية تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السلاح للدفاع مقابل العدو. لو أنّ هذا السلاح استخدم في محله فهو خير، وإن لم يستعمل في محله كأن صوب تجاه صديق فهو شرّ.
جدير بالذكر أنّ كثيراً من الأُمور نحسبها شرّاً وفي باطنها خير كثير، مثل الحوادث والبلايا التي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة وتدفعه إلى التوجه نحو اللّه هذه ليس من الشرّ حتماً.
1 ـ الأنعام، الآية 95.
2 ـ ألم السجدة، الآية 7.
(ومن شرّ غاسق إذا وقب).
«غاسق»: من الغسق، وهو ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ شدّة ظلمة الليل في منتصفه. ولذلك يقول القرآن الكريم في إشارته إلى نهاية وقت صلاة المغرب: (... إلى غسق الليل...) وما قاله بعضهم في الغسق أنّه ظلمة أوّل الليل فبعيد خاصّة وأن أصل الكلمة يعني الإمتلاء والسيلان. وظلمة الليل تكون ممتلئة حين ينتصف الليل. وأحد المفاهيم الملازمة لهذا المعنى الهجوم، ولذلك استعملت الكلمة في هذا المعنى أيضاً.
«غاسق»: تعني إذن في الآية: الفرد المهاجم، أو الموجود الشرّير الذي يتستر بظلام الليل لشنّ هجومه. فليست الحيوانات الوحشية والزواحف اللاسعة وحدها تنشط في الليل وتؤذي الآخرين بل الأفراد الشرّيرين يتخذون من الليل أيضاً ستاراً لتنفيذ أهدافهم الخبيثة.
«وقب»: من الوَقب، وهو الحفرة، ثمّ استعمل الفعل «وَقَبَ» للدخول في الحفرة; وكأن هذه الموجودات الشريرة المضرة تستغل ظلام الليل، فتصنع الحفر الضارة لتحقق مقاصدها الخبيثة. وقد يكون الفعل يعني: نَفَذَ وتوغّل.
(من شرّ النفاثات في العقد).
«النفاثات»: من «النفث» وهو البصق القليل; ولما كان البصق مقروناً بالنفخ، فاستعملت نفث بمعنى نفخ أيضاً.
كثير من المفسّرين قالوا إنّ «النفاثات» هي النساء الساحرات. وهي صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ. وهذه النسوة كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر. وقيل: إنّها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في أذن الرجال وخاصّة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى. وما أكثر الحوادث المؤلمة التي أدت إليها وساوس أمثال هذه النسوة
طوال التاريخ! وما أكثر نيران الفتنة التي أشعلتها، والعزائم التي أرختها وأوهنتها! الفخر الرازي يقول النساء يتصرفن في قلوب الرجال لنفوذ محبّتهن في قلوبهم(1).
وهذا المعنى في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إنّ إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدقّ الأسرار.
وقيل: إنّ النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب.
ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كلّ اُولئك ويشمل أيضاً النمامين والذين يهدمون بنيان المحبّة بين الأفراد.
وينبغي التأكيد على أنّ السّورة لا تتضمّن أية دلالة على أن المقصود بآياتها سحر الساحرين. وعلى فرض أنّها تشير إلى سحر الساحرين، فإنّها لا تشكل دليلاً على صحة سبب النزول الذي ذكره المفسّرون للسورة، بل تدل على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)استعاذ باللّه من شرّ الساحرين. تماماً مثل الفرد السالم الذي يستعيذ باللّه من السرطان وهو لم يُصب به أصلاً.
(ومن شرّ حاسد إذا حسد).
هذه الآية تبيّن أنّ الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها، لأنّ القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة والثعابين اللاسعة والشياطين الماكرة.
* * *
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج32، ص196.
السّورة تبدأ بأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ باللّه من شرّ ما خلق. ثمّ تبيّن ثلاثة أنواع من الشرور كتوضيح للآية:
شرّ المهاجمين القساة الذين يتسترون بالليل لشن هجومهم.
وشرّ الموسوسين الذين يوهنون بأحابيلهم إرادة الأفراد وإيمانهم وعقيدتهم وأواصر الحبّ والودّ بينهم.
وشرّ الحاسدين.
من هذه العبارات المجملة نستطيع أن نستنتج أن أخطر مصادر الشرّ والفساد هي هذه الثلاثة المذكورة في السّورة. وهذا يستدعي التأمل والتعمق.
يلاحظ أنّ أوّل آية في السّورة تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ بربّ الفلق، من شرّ ما خلق. وانتخاب «ربّ الفلق» قد يعود إلى أنّ الموجودات الشريرة تطفيء نور السلامة والهداية. لكن اللّه سبحانه ربّ الفلق... ربّ فلق الظلمات.
في تفسير الآيتين 102 و 103 من سورة البقرة، في الجزء الأوّل من هذا التّفسير تحدثنا بالتفصيل عن حقيقة السحر في الازمنة الغابرة، ورأي الإسلام في السحر، وكيفية تأثيره. وهناك ذكرنا قبولنا لتأثير السحر بشكل عام، ولكن لا بالصورة التي يتخيلها المتخيلون والخرافيون. ومن أراد مزيداً من التوضيح في هذا المجال فليراجع بحثنا المذكور.
ومن اللازم أن نذكر هنا أنّ آيات هذه السّورة لو كانت تستهدف أمر النّبي
بالاستعاذة من سحر الساحرين، فهذا لا يعني أن النّبي تعرض لتأثير السحر. بل إنّها تشبه استعاذة النّبي باللّه من كلّ خطأ وذنب. أي إنّه مصون من هذه العوارض بلطف اللّه وفضله، ولولا فضله لما سلم من تأثير السحر هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى، لا يوجد دليل كما قلنا على أن معنى، (النفاثات في العقد)هو السحرة أو الساحرات.
«الحسد» خصلة سيئة شيطانية تظهر في الإنسان نتيجة عوامل مختلفة مثل: ضعف الإيمان، وضيق النظر، والبخل. وهو يعني طلب وتمنّي زوال النعمة من شخص آخر.
الحسد منبع كثير من الذنوب الكبيرة.
عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال: «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب»(1).
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «أفة الدين الحسد والعجب والفخر»(2).
ذلك لأن الحسود يعترض في الواقع على حكمة اللّه وعلى ما آت اللّه من نعمة لهذا الفرد أو ذاك. كما يقول سبحانه: (أم يحسدون النّاس على ما آتاهم اللّه من فضله)(3).
وقد يبلغ الحسد بالحاسد إلى أن يوقع نفسه في كلّ تهلكة من أجل زوال النعمة من الشخص المحسود، كما هو معروف في حوادث التاريخ.
1 ـ بحار الأنوار، ج73، ص237.
2 ـ المصدر السابق، ص248.
3 ـ النساء، الآية 54.
وفي ذم الحسد يكفي أن أوّل قتل حدث في العالم كان من قابيل على أثر حسده لأخيه هابيل.
«الحساد» كانوا دوماً عقبة على طريق الأنبياء والأولياء. ولذلك يأمر اللّه نبيّه أن يستعيذ بربّ الفلق من شرّ حاسد إذا حسد.
المخاطب في هذه السّورة والسّورة التالية شخص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه خوطب لأنّه القدوة والنموذج، وكلّ المسلمين يجب أن يستعيذوا باللّه من شرّ الحاسدين.
اللّهمّ! إنّا نعوذ بك من شرّ الحاسدين
إلهنا! احفظنا من شرّ الوقوع في حسد الآخرين.
ربّنا! استرنا بسترك من شرّ النفاثات في العقد، ومن كلّ الموسوسين المشككين في مسيرتنا إليك.
آمين يا ربّ العالمين
نهاية سورة الفلق
* * *
مكّية
وعددُ آياتِها سِتّ آيات
الإِنسان معرض دائماً لوساوس الشيطان. وشياطين الجن والإِنس يسعون دائماً للنفوذ في قلبه وروحه. ومقام الإِنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم بفسادِ العالِم.
هذه السّورة تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره القدوة والأسوة أن يستعيذ بالله من شرّ الموسوسين.
محتوى هذه السّورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يَدوران حول الإِستعاذة بالله من الشرور والآفات، مع فارق أن سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السّورة تركز على شرّ (الوسواس الخناس).
واختلف المفسّرون في مكان نزول هذه الآية. قيل إنّها مكّية، وقيل إنّها مدنية، ولحن الآيات يزيد احتمال مكّيتها.
هذه السّورة وسورة الفلق نزلتا معاً حسب الرّوايات. وسورة الفلق على رأي الكثيرين مكّية. وهذه السّورة يمكن أن تكون مكّية أيضاً.
وردت في فضيلة هذه السّورة روايات متعددة منها ما روي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً. فأتاه جبرائيل
وميكائيل(عليه السلام)فقعد جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بقل أعوذ بربّ الفلق وميكائيل بقل أعوذ بربّ النّاس.(1)
وذكرنا ما روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) قال: «من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد قيل له: يا عبد الله ابشر فقد قبل الله وترك».(2)
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص7645، ومجمع البيان، ج10 ،ص567 و 569.
2 ـ المصدر السابق.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَـهِ النَّاسِ(3)مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الَّناسِ(5) مِن الْجِنَّةِ وَ الَّناسِ(6)
في هذه السّورة يتجه الخطاب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره الأسوة والقدوة:
(قل أعوذ بربّ النّاس، ملك النّاس، إله النّاس)
يلاحظ أن الآيات ركزت على ثلاث من صفات الله سبحانه هي(الربوبية والمالكية والألوهية) وترتبط كلها ارتباطاً مباشراً بتربية الإِنسان ونجاته من براثن الموسوسين.
المقصود من الإِستعاذة بالله ليس طبعاً ترديد الإِستعاذة باللسان فقط، بل على الإِنسان أن يلجأ إليه جلَّ وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضاً، مبتعداً عن الطرق الشيطانية والأفكار المضللة الشيطانية، والمناهج والمسالك الشيطانية والمجالس والمحافل الشيطانية، ومتجهاً على طريق المسيرة الرحمانية، وإلاّ فإن
الإِنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان لا تكفيه قراءة هذه السّورة ولا تكرار الفاظ الإِستعاذة باللسان.
على المستعيذ الحقيقي أن يقرن قوله «ربّ النّاس» بالإِعتراف بربوبية الله تعالى، وبالإِنضواء تحت تربيته; وأن يقرن قوله «ملك النّاس» بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره; وأن يقرن قوله: «إله النّاس» بالسير على طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره.
ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاث; وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الإِيمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شرّ الموسوسين.
هذه الأوصاف الثلاثة تشكل في الواقع ثلاثة دروس تربوية هامّة... ثلاث سبل وقاية... وثلاث طرق نجاة من شرّ الموسوسين، إنّها تؤمن على مسيرة الإِنسان من الأخطار.
(من شرّ الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور النّاس).
كلمة «الوسواس» أصلها ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ صوت الحَلي (اصطكاك حلية بحلية). ثمّ اطلق على أي صوت خافت. ثمّ على ما يخطر في القلب من أفكار وتصورات سيئة، لأنّها تشبه الصوت الباهت الذي يوشوش في الأذن.
«الوسواس»: مصدر، ويأتي بمعنى اسم الفاعل بمعنى الموسوس، وهي في الآية بهذا المعنى.
![]() |
![]() |
![]() |