![]() |
![]() |
![]() |
1 ـ «أساطير»: جمع (اُسطورة) من (السطر)، وغالباً ما تستعمل في وصف الشخصيات الموهومة والأحاديث الملفقة والقصص الكاذبة.
ذلك الشخص في الصفة والحال.
فالطغاة، كثيراً ما يتذرعون بأعذار واهية، عسى أن يتخلصوا من لوم وتأنيب الضمير من جهة.. ومن اعتراضات النّاس ورجال الحق من جهة اُخرى، والعجيب أنّ الطغاة من الحماقة والتحجّر بحيث أنّ اُسلوب مواجهتهم للأنبياء(عليهم السلام)وعلى مرّ التاريخ قد جاء على وتيرة واحدة، وكأنّهم قد وضعوا لأنفسهم مخططاً لا ينبغي الحيد عنه، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبياء(عليهم السلام) بتعاليم السماء، ليس عندهم سوى أن يقولوا: سحر، كهانة، جنون، أساطير!
ويعري القرآن مرّة أُخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم، فأُزيل عنها ما جعل اللّه فيها من نور الفطرة الاُولى وذهب صفائها، ولذا.. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في اُفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.
«ران»: من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره.
وقيل: ران عليه: غلب عليه، ورين به: وقع في ما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به(1)
وكل هذه المعاني هي من لوازم المعنى الأوّل.
وسنتناول موضوع تأثير الرين على صفاء القلب ونورانيته في البحوث
1 ـ راجع: المنجد، وتفسير الفخر الرازي في الآية المبحوثة.
القادمة.
ويستمر البيان القرآني: (كلاّ إنّهم عن ربّهم يؤمئذ لمحجوبون).
وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.
«كلاّ»: عادةً ما تستعمل لنفي ما قيل سابقاً، وللمفسرين أقوال في تفسيرها:
القول الأوّل: إنّها تأكيد لـ «كلاّ» المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأُسطورة كما يزعمون.
والقول الثّاني: «كلاّ» بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضاً.
القول الثّالث: إنّ الآية تجيب زعم اُولئك من أنّ القيامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سينعمون بها كما (يتصورون) بأنّهم منعمين في الدنيا، (وقد تناولت الآيات الأُخرى ما جاء في زعمهم)(1).
ولكنّ أحلامهم ستتلاشى أمام حقيقة وقوع القيامة، وما سينالونه من شديد العذاب.
نعم، فأعمال الإنسان في دنياه ستتجسم له في آخرته شاء أم أبى، ولما كان أُولئك قد أغلقوا عيونهم عن رؤية الحق، ورانت أعمالهم على قلوبهم، فسيحجبون عن ربّهم في ذلك اليوم العظيم، وعندها فسوف لن يتمتعوا برؤية جمال الحق أبداً، وسيحرمون من نعمة اللقاء بالحبيب الحقيقي، الذي لا حبيب سواه.
و: (ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم).
فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن اللّه تعالى وأثر لازم له، وممّا لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء اللّه أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم!
1 ـ كما في الآية (32) من سورة الكهف: (وما أطنّ الساعة قائمة ولئن رددت الى ربّي لأجدن خيراً منها منقلباً)، كما وجاء نظير ذلك في الآية (50) من سورة فصلت.
وتقول الآية التالية: (ثمّ يقال هذا الذي كنتم به تكذّبون).
يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كلُّ من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال.
* * *
تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: (كذلك يطبع اللّه على قلب كلّ متكبر جبّار).
وقال في موضع آخر: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)(1).
وجاء في الآية (46) من سورة الحج: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور).
نعم.. فأسوأ ما للإستمرار في الذنوب من آثار: إسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.
فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الإنحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلاّ الخيبة والخسران.
وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «كثرة الذنوب مفسدة للقلب».(2)
1 ـ البقرة، الآية 7.
2 ـ تفسير الدر المنثور: ج6، ص326.
وفي حديث آخر: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(1).
وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر(عليه السلام)(2).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث».(3)
ومن الثابت في علم النفس، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجياً على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.
وينبغي التنويه إلى: أنّ روح الإنسان تتعامل طردياً مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربّما يتفاخر بها! وعندها.. ستغلق أمامه أبواب العودة: (إلاّ أن يشاء اللّه)، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات.
حاول كثير من المفسّرين أن يجعل للآية: (كلاّ إنّهم عن ربّهم لمحجوبون)تقديراً، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة اللّه)، أم الحجاب عن إحسانه، أم كرامته، أم ثوابه...
ولكنّ ظاهر الآية لا يبدو فيه الإحتياج لتقدير، فإنّهم سيحجبون عن ربّهم
1 ـ المصدر السابق، ص325.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص531، الحديث 22.
3 ـ المصدر السابق، الحديث 23.
على الحقيقة، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب اللّه وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شيء.
وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان...
فهؤلاء في حضور دائم، واُولئك في ظلام وابتعاد!
فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف، وأمّا مَن اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء، (أعاذنا اللّه من ذلك).
ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعاء كميل: «... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك».
* * *
كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ(18) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19) كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ(20) يَشْهَدُهُ الْـمُقَرَّبُونَ(21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم(22) عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِم نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24) يُسْقَونَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم(25)خِتَـمُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـفِسُونَ(26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم(27) عَيْنَاً يَشْرَبُ بِهَا الْـمُقَرَّبُونَ(28)
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيآلون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: (كلاَّ إِنَّ كتابَ الأَبْرارِ لَفي عِلِّيينَ).
«عليّين»: جمع (عليّ) على وزن (ملّي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص
الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.
وقد فُسِّر في الآية بـ (أشرف الجنان) أو (أعلى مكان في السماء).
وقيل: إنّما استعمل اللفظ بصيغة الجمع للتأكيد على معنى (العلو في علو).
وعلى أيّة حال، فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضاً، بقوليه:
الأوّل:أنّ المقصود من «كتاب الأبرار» هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.
الثّاني:أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أو في أعلى مكان في الجنّة، وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند اللّه عزّوجل.
وجاء في الحديث النّبوي الشريف: «عليّون في السماء السابعة تحت العرش»(1).
وهذا بالضبط هو المحل المضاد تماماً لمحل صحيفة أعمال «الفجار»، حيث وضعت في أسفل طبقات جهنم.
وذهب قسم من المفسّرين إلى أنّ الـ «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنّة العلُى.
ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيٌّ على كونهم في أعلى درجات الجنّة.
ولأهمية وعظمة شأن «عليّين».. تأتي الآية التالية لتقول: (وما أدراك ما عليّون)، إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس
1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7053، ومجمع البحرين: مادة (علو).
والظن، بل وحتى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.
ويبدأ البيان القرآني بتقريب ألـ «عليّين» إلى الأذهان: «كتاب مرقوم»
وهذا على ضوء تفسير «عليّين» بالديوان العام لأعمال الأبرار، أمّا على ضوء التّفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنّه المصير الحتمي الذي قرره اللّه وسجّله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنّة، (بناء على هذا التّفسير فستكون الآية «كتاب مرقوم» مفسّرة لكتاب الأبرار وليس لعليّين).
وكذلك: (يشهده المقرّبون) أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه.
ثمّة من ذهب إلى أنّ «المقربون» في الآية، هم ملائكة مقرّبون عند اللّه عزّوجلّ، ينظرون إلى ديوان أعمال الصالحين، أو ينظرون إلى مصيرهم المحتوم.
ولكنّ الآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقرّبين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبأمكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.
ويمكن أن نستفيد هذا المعنى من الآيتين (10 و 11) من سورة الواقعة: (والسابقون السابقون أُولئك المقرّبون)... ومن الآية (89) من سورة النحل: (ويوم نبعث في كلّ اُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء).
وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: (إنّ الأبرار لفي نعيم).
«النعيم»: هو النعمة الكثيرة ـ على قول الراغب في مفرداته ـ، وجاءت بصيغة نكرة لتعظيم شأنها، أي إنّهم في نعيم مادي ومعنوي لا حَدّ لوصفه.
وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: (على الأرائك ينظرون).(1)
1 ـ المبتدأ محذوف في الآية، التقدير: (هم على الأرائك ينظرون) «ينظرون»، حال، أو أن جملة «على الأرائك»: خبر ثان، نسبة إلى «إنّ» الواردة في الآية السابقة.
«الأرائك»: جمع (أريكة)، وهي سرير مُنَجّد مزّين خاص بالملوك، أو سرير في حجلة، وجاءت في الآية بمعنى، الأسرة المزينة التي يتكيء عليها أهل الجنّة.
وثمّة من يذهب إلى أنّها معربة من «اُرك» بمعنى قصر الملك في الفارسية، أو القلعة في وسط المدينة، وبما أنّ القلعة في وسط المدينة تكون للملوك عادة اطلق عليها هذه الكلمة، أو بمعنى عرش السلطان الذي يقال عنه بالفارسية «أراك»، ثمّ سمّيت العاصمة به (أراك) و«عراق» معرب «أراك» بمعنى مقر السلطان.
فيما يقول آخرون أنّها من (الأراك) وهو شجر معروف تصنع من الاُسرة، وقيل أيضاً، إنّما سمّيت بذلك لكونها مكاناً للإقامة من (الأروك) وهو الإقامة.(1)
وجاءت «ينظرون» مطلقة، لإعطاء مفهوم السعة والشمول، فمسموح لهم النظر إلى لطف الباري وجماله، وإلى نعم الجنّة الباهرة، وإلى ما أودع فيها من رونق وبهاء.. وذلك لأنّ لذة النظر من اللذائذ الإنسانية التي تدخل الغبطة والسرور في الإنسان بشكل كبير وملموس.
ثمّ يضيف: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم).
إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إنّ هو إلاّ إنعكاس لسعادتهم الحقّة، بعكس أهل جهنّم الذين لا يبدو على وجوههم إلاّ علائم الغم والحسرة والندم والشقاء.
«نضرة»: إشارة إلى النشاط والأريحية التي تظهر على وجوههم. (كما أسلفنا القول).
وبعد ذكر نِعَم: «الأرائك»، «النظر»، «الإطمئنان والسعادة»..تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنّة، فتقول: (يسقون من رحيق مختوم).
إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي
1 ـ لمزيد من الإيضاح.. راجع مفردات الراغب، ولسان العرب (مادة: أرك).
والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه.
و«الرحيق» ـ كما اعتبره المفسّرين ـ : هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيَّ غش أو تلوث.
و«مختوم»: إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كلّ صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.
والختم بالصورة المذكورة يظهر مدى الإحترام الخاص لأهل الجنّة، حيث أنّ ذلك الإحكام وتلك الأختام مختصة لهم، ولا يفتحها أحد سواهم.(1)
وتقول الآية التالية: (ختامه مسك).
فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي، وأقل ما فيها أنّها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ، بل هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه!
وقيل: «ختامه» يعني (نهايته)، فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خلاف أشربة أهل الدنيا، التي لا تترك في الفم إلاّ المرارة والرائحة الكريهة، ولكنّه بعيد بملاحظة الآية السابقة.
ويقول العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان): «التنافس»: تمنّي كلّ واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الاُخرى أن يكون له.
وفي (مجمع البحرين): نافست في الشيء: إذا رغبت فيه على وجه المبارات في الكرم، (سباق سالم ونزيه).
1 ـ عملية ختم الأشياء (كانت ولا زالت)، تستعمل للإطمئنان على سلامة تلك الأشياء من التلاعب بها، فمثلاً.. لكي يُطمأن على سلامة وصول شيء معين إلى صاحبه المراد، فإنّه يوضع في ظرف خاص مغلق، وإذا ما كان الشيء بدرجة عالية من الأهمية، فلا يكتفي بالغلق، بل يربط بسلك أو ما شابه ومن ثمّ يوضع على عقدته شيء من الشمع أو الطين ويختم بختم معين، كل ذلك للتأكيد من وصوله إلى المراد بدون أن تمتد إليه يد التلاعب.
وفي (مفردات الراغب): «المنافسة»: مجاهدة النفس للتشبّه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره.
وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: (سابقوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض)، وما جاء في الآية (133) من سورة آل عمران: (وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض).
وعلى آية حال، فدقّة تعبير الآية وشفافيته، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع، والآية قطعة بلاغية رائعة(1)(2)
ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنّة: (ومزاجه من تسنيم) أي أنّه ممزوج بالتسنيم، (عيناً يشرب بها المقرّبون)(3).
ومن خلال الآيتين أعلاه، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنّة، و«المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجاً بالرحيق المختوم.
أمّا وجه تسمية ذلك الشراب أو العين بـ «تسنيم»، (علماً بأنّ التسنيم في اللغة هو عين ماء يجري من علو إلى أسفل)، فقد قال البعض فيه: إنّه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنّة.. وقال آخرون: إنّه نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنّة.
والحقيقة، فللجنّة ألوان من الأشربة، منها ما يجري على صورة أنهار، كما
1 ـ يتّضح من تفسير الآية، أنّ اسم الإشارة «ذلك» يعود على جميع نعم الجنّة، وشرابها بالذات لما وصف فيه في الآية.
2 ـ «الواو» و«الفاء» في (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، كلاهما حرف عطف، وإذا ما سئل عن علة وجودهما معاً، فالجواب هو: يوجد شرط محذوف، والتقدير: «وإن اُريد تنافس في شيء فليتنافس في ذلك المتنافسون»، فحذفت أداة الشرط والجملة الشرطية وقدمت «في ذلك».
3 ـ قيل في سبب نصب «عيناً» عدّة وجوه.. منها: لأنّها حال التسنيم، تمييز، مدح واختصاص.. والتقدير: (أعني).
و«الباء» في «بها»: زائدة، أو بمعنى (من) وهو الأنسب.تشير إلى ذلك آيات قرآنية كثيرة(1)، ومنها يُقدّم في كؤوس مختومة، كما في الآيات أعلاه، ويأتي ألـ «تسنيم» في قمّة أشربة الجنّة، وله من العطاء على روح شاربه ما لا يوصف بوصف أبداً.
ونعود لنكرر القول مرّة آُخرى: إنّ حقيقة النعم الإلهية في عالم الآخرة لا يمكن لأيّ كان من أن يتكلم عنها بلسان أو يوصفها بقلم أو يتصورها في ذهن، وكلّ ما يقال عنها لا يتعدى عن كونه صوراً تقريبية على ضوء ما يناسب محدودية الإنسان.
والآية (17) من سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما اُخفى لهم من قرّة عين)خير دليل على ذلك.
* * *
ورد ذكر «الأبرار» و«المقربين» كثيراً في القرآن الكريم، وما آُعدّ لهم من درجة رفيعة وثواب عظيم، حتى أنّ اُولي الألباب تمنوا أن تكون وفاتهم مع الأبرار، كما تقول الآية (193) من سورة آل عمران: (وتوفنا مع الأبرار).
وتناولت الآيات (5 ـ 22) من سورة الدهر ما اُعدّ لهم من ثواب جزيل، كما وتناولت الآية (13) من سورة الإنفطار، والآيات المبحوثة بعض ما ينتظرهم من ألطاف إلهية.
فمن هم يا تُرى؟
«الأبرار»: هم أصحاب النفوس الزكية الأبية الطاهرة، ومعتنقي العقائد
1 ـ كالآية (15) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
الصائبة، والذين لا يعملون إلاّ ما فيه الخير والصلاح.
و«المقربون»: هم الذين لهم مقام القربة عند اللّه عزّوجلّ.
فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق، حيث كلّ المقرّبين أبرار، وليس كلّ الأبرار مقرّبين.
وروي عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، أنّه قال: «كلما في كتاب اللّه عزّوجلّ من قوله: «إنّ الأبرار» فواللّه ما أراد به إلاّ عليّ بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين»(1)
وممّا لا يشوبه شك، أنّ الخمسة الطيبة، تلك الأنوار القدسيّة، وهي أفضل مصاديق الأبرار والمقربين.
وكما ذكرنا في تفسيرنا لسورة الدهر التي تحدثت بشكل رئيسي عن أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، وقلنا بأنّ الآيات الثمانية عشر قد تناولت فضائلهم(عليهم السلام)، ولكن لا يمنع من انطباق على غير الخمسة الطيبة(عليهم السلام).
تبيّن لنا مختلف الآيات في القرآن الكريم أنّ ثمة ألوان من الأشربة والخمور الطاهرة بأسماء وكيفيات مختلفة، تباين خمور أهل الدنيا الملوثة من جميع جهاتها، فهذه: تأخذ بلبّ الإنسان صوب التيه، توصل شاربها لحال الجنون، كريهة الطعم والرائحة، وتزرع عند شاربها العداوة والبغضاء، تؤدي إلى سفك الدماء وتبث الرذيلة والفساد... أمّا تلك: تذكي عقل شاربها وتصفو به، وتزيده نشاطاً وحيوية، ذات عطر لا يوصف وطهارة خالصة، ويغوص شاربها في نشوة روحية نقية راقية.
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص533، الحديث 33.
وذكرت السّورة المبحوثة نوعين منها: (الرحيق المختوم) و«التسنيم» في حين ذكرت سورة الدهر أنواعاً اُخرى، وفي سور اُخرى ـ وقد تعرضنا لها في محلها.
وتؤكّد الأحاديث والرّوايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.
فعن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لأميرالمؤمنين(عليه السلام): «يا عليّ من ترك الخمر للّه سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(1).
وفي حديث آخر أنّه(عليه السلام) سأله عن هذا الترك أنّه حتى لو كان: «لغير اللّه»؟، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم واللّه، صيانة لنفسه فيشكره اللّه تعالى عن ذلك»(2).
نعم، فهؤلاء من اُولي الألباب، الذين تناولت ذكرهم الآية (193) من سورة آل عمران، واُولي الألباب مع الأبرار في تناول تلك الأشربة الطاهرة.
وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(عليه السلام) أنّه قال: «مَن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(3).
وجاء في حديث آخر: «مَن صام للّه في يوم صائف، سقاه اللّه من الظمأ من الرحيق المختوم»(4)
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص534، الحديث 40.
2 ـ المصدر السابق، الحديث 37.
3 ـ المصدر السابق، الحديث 35.
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص456.
إِنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ(29)وإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَّآلُونَ(32) وَمَآ أُرْسِلُوا عَلَيهِمْ حـَـفِظِينَ(33) فَاليَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35) هَل ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(36)
ذكر المفسّرون سببين لنزول هذه الآيات:
الأوّل: إنّها نزلت في علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وذلك.. إنّه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا...فنزلت الآية قبل أن يصل علي(عليه السلام) وأصحابه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتابه (شواهد التنزيل) عن ابن عباس قال: (إنّ الذين أجرموا) منافقو قريش، و(الذين آمنوا) علي بن أبي طالب(عليه السلام)
وأصحابه.(1)
الثّاني: إنّها نزلت في مشركي قريش، أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم، كانوا يستهزؤون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم.(2)
بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم...
وأنّ ما سيناله الأبرار من ثواب جزيل ليس اعتباطياً.
فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب:
الاُسلوب الأوّل: (إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون)
فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار!
وهذا هو شأن كلّ من غرّته أحابيل الشيطان في مواجهة مَن آمن واتقى، وعلى مرِّ الأيّام.
وجاء وصفهم بـ «أجرموا» بدلاً من «كفروا»، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية، فالكفر دائماً مصدراً للجرائم والعصيان.
1 ـ مجمع البيان، ج10،ص 457 ـ كما وذكر كثير من المفسّرين مسألة نزولها في علي بن أبي طالب، ومشركي مكّة، كما في تفسير القرطبي، وروح البيان، والكشّاف، وتفسير الفخر الرازي...الخ.
2 ـ روح المعاني، ج30، ص76.
والاُسلوب الثّاني:(وإذا مرّوا بهم يتغامزون) فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول:
اُنظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين.. إنّهم أصبحوا مقرّبين عند اللّه!
اُنظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة.. إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم!
انظروا إليهم.. فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اُخرى!! وما شابه ذلك، من الكلمات الرخيصة والموهنة..
ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الاُسلوب الثّاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم هم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.(1)
«يتغامزون»: من (الغمز)، وهو الإشارة بالجفن أو اليد طلباً إلى ما فيه معاب، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.
ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً، حيث تنقل لنا الآية التالية، الاُسلوب الثّالث بقولها: (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين).
وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم!...
«فكهين»: جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأن لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث ذوي الأنس اسم (فكاهة).
1 ـ ذكر المفسّرون احتمالين في ضمير «مرّوا» و«بهم»، فارجع بعضهم الأوّل الى المشركين والثّاني إلى المؤمنين، وقال البعض الآخر عكس ذلك، ويبدو أن الاحتمال الأوّل أقرب بلحاظ ما ذُكر أعلاه.
«الأهل»: هم العائلة والاقرباء، وقد تشمل الأصدقاء المقرّبين أيضاً.
والاُسلوب الرّابع: (وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالّون).
لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان باللّه والتوحيد الخالص.
ولأنّهم باعوا لذة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة!...
ويمكن أن تكون هذه المواجهة قد حدثت بعد إنتهاء مرحلة الإستهزاء، بعد أن غُلّف الأمر بطابع الجديّة ورأوا ضرورة المواجهة الشديدة، لأنّ حال المشركين والكافرين على مرّ التاريخ في مواجهتهم لدعوة ورسالات الأنبياء(عليهم السلام)تبدأ بالسخرية وعدم المبالاة، وكأنّهم لم يشاهدوا بعد من الدين الجديد ما يوجب الوقوف أمامه بجدٍّ وحزم، ولكن بمجرّد إحساسهم بأنّ الدين الإلهي راح ينفذ إلى قلوب النّاس، ورؤيتهم لازدياد أتباعه، سيزداد إحساسهم بالخطر، فيدخلون مرحلة المواجهة العنيفة مع الدين الجديد.
فتشير الآية إلى أوّل خطوة جادة من قبل المجرمين في قبال المؤمنين، التي تتبعها خطوات وخطوات حتى تصل الحال إلى المواجهة الدموية الحادّة.
وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر.
فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: (وما أرسلوا عليهم حافظين)
فبأي حقّ إذَن يهزأون بهم، ويقفون أمامهم؟!
تنقل لنا الآية (27) من سورة هود ما قاله المستكبرين من أثرياء قوم نوح(عليه السلام): (وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، وتنقل لنا الآية (31) من نفس السّورة جواب نوح(عليه السلام): (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم اللّه خيراً اللّه أعلم بما في أنفسهم).
![]() |
![]() |
![]() |