فضيلة السّورة:

ورد في فضيلة هذه السّورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة»(1).

بديهي أن هذه الفضيلة نصيب من بقراءتها يفصل مسيرته عن مسيرة أبي لهب، لا من يقرأها بلسانه ويعمل عمل أبي لهب في أفعاله.

* * *


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص558.

[532]

الآيات

تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَب وَتَبَّ(1) مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَب(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد(5)

سبب النّزول

عن ابن عباس قال: عندما نزلت(وانذر عشيرتك الأقربين)أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن ينذر عشيرته ويدعوهم إلى الإسلام (أي أن يعلن دعوته).

صعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبل الصفا ونادى: «يا صباحاه»! (وهو نداء يطلقه العرب حين يهاجمون بغتة كي يتأهبوا للمواجهة، وإنّما اختاروا هذه الكلمة لأنّ الهجوم المباغت كان يحدث في أوّل الصبح غالباً).

عندما سمع أهل مكّة هذا النداء قالوا: من المنادي؟ قيل: محمّد. فاقبلوا نحوه، وبدأ ينادي قبائل العرب باسمائها، ثمّ قال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني.

قالوا: بلى. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

فقال أبولهب: تبّاً لك. لهذا دعوتنا جميعاً؟! فأنزل الله هذه السّورة.

[533]

وقيل: إن امرأة أبي لهب ( واسمها أم جميل) علمت أن هذه السّورة نزلت فيها وفي زوجها. جاءت إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والنّبي لا يراها، حملت حجراً وقالت: سمعت أن محمّداً هجاني، قسماً لو وجدته لألقمن فمه هذا الحجر. أنا شاعرة أيضاً. ثمّ أنشدت اشعاراً في ذم النّبي والإسلام (1).

خطر أبي لهب وامرأته على الإسلام لم يكن منحصراً فيما ذكرناه. وإذ نرى القرآن يحمل عليهما بشدّة ويذمهما بصراحة، فلأسباب أُخرى، سنشير إليها فيما بعد.

* * *

التّفسير

(تبت يدا أبي لهب)

هذه السّورة ـ كما ذكرنا في سبب نزولها ـ ترد على بذاءات أبي لهب عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عبد المطلب. وكان من ألد أعداء الإسلام، وحين صدح النّبي بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال:«تباً لك ألهذا دعوتنا جميعاً»؟!

والقرآن يرد على هذا الإنسان البذيء ويقول له:

(تبت يدا أبي لهب وتب).

«التّب» و«التاب» يعني الخسران المستمر كما يقول الراغب في مفرداته أو هو الخسران المنتهي بالهلاك كما يقول الطبرسي في مجمع البيان.

وبعض اللغويين قال إنّه القطع والبتر. وهذا المعنى الأخير هو النتيجة الطبيعية للخسران المستمر المنتهي بالهلاك.


1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7324 (بتلخيص قليل) والرّواية بنفس المضمون ذكرها الطبرسي في مجمع البيان، وابن الأثير في الكامل، ج2، ص60 وفي الدر المنثور، وأبي الفتوح الرازي والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، في تفسير هذه السّورة.

[534]

الهلاك والخسران في الآية يمكن أن يكون دنيوياً، ويمكن أن يكون معنوياً أخروياً، أو كليهما.

وهنا يثار تساؤل بشأن سبب ذم هذا الشخص باسمه ـ وهو خلاف نهج القرآن ـ وبهذه الشدّة.

يتّضح ذلك لو عرفنا مواقف أبي لهب من الدعوة.

اسمه «عبد العزى» وكنيته «أبو لهب» وقيل إنّه كني بذلك لحمرة كانت في وجهه.

وامرأته«أم جميل» اُخت أبي سفيان، وكانت من أشدّ النّاس عداوة وأقذعهم لساناً تجاه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته.

وفي الرّواية عن «طارق المحاربي» قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: «يا أيّها النّاس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». وإذا برجل خلفه يرميه قد أرمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيّها النّاس إنّه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا هو محمّد يزعم أنهّ نبيّ. وهذا عمّه أبولهب يزعم أنّه كذاب(1).

وفي رواية عن « ربيعة بن عباد» قال: كنت مع أبي أنظر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه. يقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على القبيلة فيقول:«يا بني فلان. إنّي رسول الله إليكم. آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به». وإذا فرغ من مقالته قال: الآخر من خلفه: يا بني فلان. هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمّه أبولهب.(2)

وفي رواية أُخرى: وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه


1 ـ مجمع البيان، ج10، ص559.

2 ـ في ظلال القرآن، ج8، ص697.

[535]

كلما جاء وفد إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألون عنه عمّه أبالهب ـ اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته ـ كان يقول لهم: إنّه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً(1).

من هذه الرّوايات نفهم بوضوح أن أبالهب كان يتتبع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غالباً كالظلّ. وما كان يرى سبيلا لإيذائه إلاّ سلكه. وكان يقذعه بأفظع الألفاظ. ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة. ولذلك جاءت هذه السّورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة(2).إنّه الوحيد الذي لم يوقع على ميثاق حماية بني هاشم للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ووقف في صف الأعداء، واشترك في عهودهم. من كلّ ما سبق نفهم الوضع ّلإستثنائي لهذه السّورة.

(ما أغنى عنه ماله وما كسب)، فليس با مكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الالهي (سيصلى ناراً ذات لهب).

من الآية الأولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وأبولهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة. وقيل: يصلاها في الدنيا قبل الآخرة. و«لهب» جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النّار.

لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب الله، كما يقول سبحانه:(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم).(3)

بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير. حيث جاء في الرّواية، أنّ أبالهب لم يشترك في بدر، بل ارسل من ينوب عنه. وبعد اندحار المشركين وعودتهم إلى مكّة، هرع أبولهب ليسأل أبا سفيان عن الخبر. فأخبره أبوسفيان بالهزيمة وقال:


1 ـ تفسير الفرقان، ج30، ص503.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ الشعراء، الآيتان 88 ـ 89.

[536]

«وايم الله ما لُمت النّاس. لقينا رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض...» قال أبو رافع (مولى العباس) وقد كان جالساً: تلك الملائكة. فرفع أبولهب يده فضرب وجهه ضربة شديدة، ثمّ حمله وضرب به الأرض، ثمّ برك عليه يضربه وكان رجلا ضعيفاً.

وما أن شهدت أم الفضل( زوجة العباس)، وكانت جالسة أيضاً، ذلك حتى أخذت عموداً وضربت أبالهب على رأسه وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيّده؟! فقام مولياً ذليلا.

قال أبو رافع: فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة (مرض يشبه الطاعون) فمات. وقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى انتن في بيته.

فلما عيّرهما النّاس بذلك أخذ وغُسل بالماء قذفا عليه من بعيد، ثمّ أخذوه فدفنوه بأعلى مكّة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه(1).

(وامرأته حمالة الحطب (2)، في جيدها حبل من مسد).

الآيتان تتحدثان عن « أم جميل» امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وعمّة معاوية. وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً، وفي رقبتها حبل من ليف النخيل.

ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب؟

قيل: لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لتدمي قدماه.

وقيل: إنّه كناية عن النميمة.

وقيل: إنّه كناية عن شدّة البخل، فهي مع كثرة ثروتها أبت أن تساعد الفقراء وكانت شبيهة بحمال الحطب الفقير.


1 ـ بحار الأنوار، ج19، ص227.

2 ـ «امرأته» معطوف على ضمير مستتر في «سيصلى» و«حمالة» حال منصوب. وقيل إنّها منصوبة بالشتم، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري في الكشاف، والتقدير: أذّم حمالة الحطب. والمعنى الأوّل أفضل.

[537]

وقيل: إنّها في الآخرة تحمل أوزاراً ثقيلة على ظهرها.

وبين هذه المعاني، المعنى الأوّل أنسب، وإن كان الجمع بينها غير مستبعد أيضاً.

«الجيد» هو الرقبة، وجمعه أجياد. وقال بعض اللغويين: الجيد والعنق والرقبة لها معنى واحد، مع تفاوت هو إن الجيد أعلى الصدر، والعنق القسم الخلفي من الرقبة، والرقبة لجميعها، وقد يسمّى الإنسان بها كقوله سبحانه:(فك رقبة) أي فك الإنسان وإطلاق سراحه(1).

«مسد» هو الحبل المفتول من الألياف. وقيل: حبل يوضع على رقبتها في جهنّم، له خشونة الألياف وحرارة النّار وثقل الحديد.

وقيل: إنّ نساء الأشراف كن يرين شخصيتهنّ في وسائل الزينة وخاصّة القلادة الثمينة. والله سبحانه يلقي في عنقها يوم القيامة حبل من ليف للإهانة. أو إن التعبير أساساً للتحقير والإهانة.

وقيل: إنّ هذه العبارة تشير إلى أنّ أم جميل أقسمت أن تنفق ثمن قلادتها الثمينة على طريق معاداة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ولذلك تقرر لها هذا العذاب.

* * *

ملاحظات

1 ـ إعجاز آخر

علمنا أن هذه الآيات نزلت في مكّة والقرآن أخبر بتأكيد كامل أن أبالهب وامرأته من أهل النّار، أي سوف لا يؤمنان أبداً. وهكذا كان كثير من مشركي مكّة آمنوا عن إيمان أو عن استسلام. لكن هذين الزوجين لم يؤمنا لا حقيقة


1 ـ التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2 ،ص158.

[538]

 ولا ظاهراً. وهذا من أنباء الغيب في القرآن. وفي القرآن الكريم مثل هذه الأخبار في آيات أُخرى.

وتشكل بمجموعها فصلا من فصول إعجاز القرآن تحت عنوان «الأخبار الغيبية». وكان لنا بحوث عندها.

2 ـ جواب عن سؤال

القرآن أخبر عن أبي لهب بأنّه سيصلى النّار، أي أنّه سيموت كافراً ولن يؤمن أبداً. وبهذا لا يمكن لأبي لهب أن يؤمن لأن نبوءة القرآن ستكون عندئذ كاذبة. وإلاّ سيكون أبولهب مجبراً على الكفر. وليس له اختيار؟!

مثل هذا السؤال يطرح عن علم الله سبحانه في مبحث الجبر والتفويض. وهو إنّ الله سبحانه يعلم من الأزل بكل شيء. بطاعة المطيعين ومعصية المذنبين أيضاً.

ألا يكون العصاة بذلك مجبرين على الذنب؟ وإن لم يكونوا كذلك ألا يتبدل علم الله إلى جهل؟!

الفلاسفة الإسلاميون أجابوا عن هذا السؤال منذ القديم وقالوا إنّ الله سبحانه يعلم ما يفعله كل شخص بالإستفادة من حريته واختياره. ففي هذه الآيات مثلا يعلم الله منذ البداية أنّ أبالهب وزوجته سيختاران بإرادتهما وعن رغبتهما طريق الكفر، لا بالإجبار.

بعبارة أُخرى، عنصر الحرية والإختيار أيضاً جزء ممّا هو معلوم عند الله تعالى. إنّه على علم بما يعمله العباد وهم مختارون متمتعون بالإرادة والحرية.

ومن المؤكّد أنّ مثل هذا العلم والإخبار عن المستقبل، تأكيد على الإختيار،  لا على الإجبار. (تأمل بدقّة).

[539]

3 ـ ليس من أهلك

هذه السّورة المباركة تؤكّد مرّة أُخرى أنّ القرابة لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة برباط رسالي. وحملة الرسالة الإلهية كانوا لا يلينون أمام المنحرفين والجبابرة والطغاة مهما كانت درجة قربهم منهم.

مع أنّ أبالهب كان من أقرب أقرباء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد عامله الإسلام مثل سائر المنحرفين والضالين حين فصل مسيرة العقائدي والعملي عن خط التوحيد، ووجّه إليه أشدّ الردّ وأحدّ التوبيخ. وعلى العكس ثمّة أفراد بعيدون عن الرسول نسباً وقومية ولغة، كانوا بسبب ارتباطهم الرسالي من القرب من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى قال في أحدهم: «سلمان منّا أهل البيت».(1)

صحيح أن آيات هذه السّورة توجّه التقريع لأبي لهب وزوجه، ولكن كان ذلك لما اتصفا به من صفات. من هنا فإن كل فرد أو جماعة على هذه الصفات سيواجهون مصيراً مشابهاً أيضاً.

اللّهم! طهر قلوبنا من كل لجاج وعناد!

ربّنا! كلنا من مصيرنا وجلُون، فبفضلك ومنّك اجعل عواقب أمورنا خيراً.

إلهنا! نحن نعلم أنّ الأموال والقرابة لا تغني عنّا شيئاً يوم الفزع الأكبر. فاشملنا برحمتك ولطفك.

آمين ربّ يا العالمين

نهاية سورة تبّت

* * *


1 ـ أوضحنا هذه المسألة أكثر في تفسير الآية (46) من سورة هود بمناسبة الحديث عن ابن نوح(عليه السلام).

[540]

سورة الإخلاص

مَكّية

وعَددُ آياتِها أربَع آيات

«سورة الإخلاص»

محتوى السّورة

هذه السّورة، كما هو واضح من اسمها، (سورة الإخلاص، أو سورة التوحيد) تركز على توحيد اللّه، وفي أربع آيات قصار تصف التوحيد بشكل جامع لا يحتاج إلى أية إضافة

وفي نزول السّورة روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ اليهود سألوا رسول اللّه فقالوا: أنسب لنا ربّك فلبث ثلاثاً لا يجيبهم. ثمّ نزلت قل هو اللّه أحد إلى آخرها».

قيل إنّ السائل عبد اللّه بن صوريا اليهودي، وقيل: إنّه عبد اللّه بن سلام سأل رسول اللّه ذلك بمكّة ثمّ آمن وكتم إيمانه. وقيل: إنّ مشركي مكّة سألوه ذلك(1). وقيل إنّ نصارى نجران هم الذين سألوا النّبي ذلك.

ولا تضاد بين هذه الرّوايات، إذ قد يكون هؤلاء جميعاً سألوا الرسول نفس هذا السؤال، فكان الجواب لهم جميعاً، وهو دليل آخر على عظمة هذه السّورة.

فضيلة السّورة:

وردت في فضيلة هذه السّورة نصوص كثيرة تدل على مكانة هذه السّورة بين سور القرآن من ذلك.


1 ـ تفسير الميزان، ج20، ص390.

[544]

ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة»؟ قيل: يا رسول اللّه ومن يطيق ذلك؟

قال: «اقرأوا قل هو اللّه أحد»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ رسول اللّه صلّى على سعد بن معاذ. فلمّا صلّى عليه قال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك، وفيهم جبرائيل يصلون عليه. فقلت: يا جبرائيل بم استحق صلاتهم عليه؟ قال: بقراءة قل هو اللّه أحد قاعداً وقائماً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً».(2)

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً قال: «من مضى به يوم واحد فصلى فيه الخمس صلوات ولم يقرأ فيها بقل هو اللّه أحد، قيل له: يا عبد اللّه لست من المصلين».(3)

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بقل هو اللّه أحد. فإنّه من قرأها جمع له خير الدنيا والآخرة وغفر اللّه له ولوالديه وما ولدا».

ويستفاد من روايات اُخرى أنّ قراءة هذه السّورة عند دخول البيت تزيد الرزق وتدفع الفقر(4).

والرّوايات في فضيلة هذه السّورة أكثر من أن تستوعبها هذه السطور، وما نقلناه جزء يسير منها.

ولكن كيف تعادل (قل هو اللّه أحد) ثلث القرآن؟

قيل: لأنّ القرآن يشمل «الأحكام» و«العقائد» و«التاريخ». وهذه السّورة


1 ـ نور الثقلين، ج5، ص705، الحديث 42، نقلاً عن مجمع البيان.

2 ـ المصدر السابق، ص700، الحديث 12; نقلاً عن كتاب ثواب الأعمال.

3 ـ المصدر السابق، ص699، الحديث1.

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص561، وكتب الحديث والتّفسير الاُخرى.

[545]

تبيّن قسم العقائد بشكل مقتضب.

وقيل: إنّ القرآن على ثلاثة أقسام: المبدأ، والمعاد، وما بينهما. وهذه السّورة تشرح القسم الأوّل.

وواضح أنّ ثلث موضوعات القرآن تقريباً تدور حول التوحيد. وجاءت عصارتها في هذه السّورة.

ونختتم حديثنا برواية اُخرى عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) حول عظمة هذه السّورة قال: «إنّ اللّه عزّوجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللّه تعالى: (قل هو اللّه أحد). والآيات من سورة الحديد إلى قوله تعالى: (وهو عليم بذات الصدور) فمن رام وراء ذلك فقد هلك»(1).

* * *


1 ـ اُصول الكافي، ج1، باب النسبة، الحديث 3.

[546]

الآيات

قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدٌ2 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)

التّفسير

أحدٌ ـ صَمدٌ:

جواباً عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف الله سبحانه تقول الآية:

(قل هو الله أحد).(1)

الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم، وهو في الواقع يرمز إلى أن ذاتة المقدّسة في نهاية الخفاء، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شيء آخر،كما ورد في قوله تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق).(2)


1 ـ قيل «هو» في الآية ضمير الشأن، والله مبتدأ. والأفضل أن نعتبر «هو» إشارة إلى ذاته المقدّسة، وقد كانت مجهولة لدى السائل، وتكون بذلك «هو» مبتدأ و«الله» خبراً و«أحد» خبر بعد الخبر.

2 ـ فصلت، الآية 53.

[547]

ثمّ بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول:(الله أحد).

و(قل) في الآية تعني أَنْ أَظهر هذه الحقيقة وبيّنها.

عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال بعد بيان معنى «قل» في الآية (وهو الذي ذكرناه): « إن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك. فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار. فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه. فانزل الله تبارك وتعالى:(قل هو الله أحدفالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس».(1)

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «رأيت الخضر(عليه السلام) في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئاً أُنصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلاّ هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي: يا علي عُلمت الاسم الأعظم».(2)

وكان علي(عليه السلام) يذكر الله تعالى بهذا الذكر يوم صفين. فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: «اسم الله الأعظم وعماد التوحيد...».(3)

«الله» اسم علم للباري سبحانه وتعالى. ومفهوم كلام الإمام علي(عليه السلام) أن جميع صفات الجلال والجمال الإِلهية أُشير إليها بهذه الكلمة. ومن هنا سميت باسم الله الأعظم.

هذا الاسم لا يطلق على غير الله، بينما أسماء الله الأُخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل: العالم والخالق والرازق، وتطلق غالباً على غيره أيضاً مثل: (رحيم، وكريم، وعالم، وقادر...).


1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص221، الحديث 12. بتلخيص.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[548]

ولفظ الجلالة مشتق من معنى وصفي. قيل من «وله» أي تحيّر، لأنّ العقول تحير في ذاته المقدّسة. وفي ذلك ورد عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: «الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه، والله هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات».(1)

وقيل: إن لفظ الجلالة مشتق من «آله» بمعنى عبد، والإِله: هو المعبود. حذفت همزته وادخل عليه الألف واللام فُخص بالباري تعالى.

ومهما يكن الأصل المشتق منه لفظ الجلالة، فهو اسم يختص به سبحانه ويعني الذات الجامعة لكل الأوصاف الكمالية، والخالية من كل عيب ونقص.

هذا الاسم المقدّس تكرر ما يقارب من «ألف مرّة» في القرآن الكريم، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدّسة في مقدار تكراره. وهو اسم ينير القلب، ويبعث في الإِنسان الطاقة والطمأنينة، ويغمر وجوده صفاء ونور.

«أحد»: من الواحدة، ولذلك قال بعضهم: أحد وواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له في العلم والقدرة والرحمانية والرحيمية، وفي كل الجهات.

وقيل: إنّ بين «أحد» و«واحد» فرق هو إن «أحد» تطلق على الذات التي  لا تقبل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن. ولذلك لا تقبل العدّ ولا تدخل في زمرة الأعداد، خلافاً للواحد الذي له ثان وثالث، في الخارج أو في الذهن. ولذلك نقول: لم يأت أحد. للدلالة على عدم مجيء أي إنسان. وإذا قلنا: لم يأت واحد فمن الممكن أن يكون قد جاء اثنان أو أكثر.(2)

ولكن هذا الإِختلاف لا ينسجم كثيراً مع ما جاء في القرآن الكريم والرّوايات.

وقيل: في «أحد» إشارة إلى بساطة ذات الله مقابل الأجزاء التركيبية


1 ـ المصدر السابق.

2 ـ الميزان، ج20، ص543.

[549]

الخارجية أو العقلية (الجنس، الفصل، والماهية، والوجود). بينما الواحد إشارة إلى وحدة ذاته مقابل أنواع الكثرة الخارجية.

وفي رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) قال: «الأحد المتفرد، والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له، والتوحيد الإِقرار بالوحدة وهو الإِنفراد».

وفي ذيل الرّواية هذه جاء «إن بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد. لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله: الله أحد. أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإِحاطة بكيفيته، فرد بإلهيته، متعال عن صفات خلقه».(1)

وفي القرآن الكريم «واحد» و«أحد» تطلقان معاً على ذات الله سبحانه.

ومن الرائع في هذا المجال ما جاء في كتاب التوحيد للصدوق: أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إن الله واحد؟ فحمل النّاس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب (أي تشتت الخاطر)؟ فقال: أمير المؤمنين(عليه السلام): «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. ثمّ قال: يا أعرابي، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام. فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّوجلّ، ووجهان يثبتان فيه. فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد. أمّا ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من النّاس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز (قوله على اللّه) لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا. وقول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في


1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص222.

[550]

وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ»(1).

وباختصار: اللّه أحد وواحد لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي بل بمعنى الوحدة الذاتية. بعبارة أوضح: وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير.

الدليل على ذلك واضح: فهو ذات غير متناهية من كلّ جهة، ومن المسلم أنّه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كلّ جهة. إذ لو كان ثمّة ذاتان، لكانت كلتاهما محدودتين، ولما كان لكل واحدة منهما كمالات الأخرى. (تأمل بدقّة).

(اللّهُ الصّمد)

وهو وصف اخر لذاته المقدّسة. وذكر المفسّرون واللغويون معاني كثيرة لكلمة «صمد».

الراغب في المفردات يقول: الصمد، هو السيد الذي يُصمد إليه في الأمر، أي يقصد إليه. وقيل: الصمد الذي ليس بأجوف.

وفي معجم مقاييس اللغة، الصمد له أصلان: أحدهما القصد، والآخر: الصلابة في الشيء... واللّه جلّ ثناؤه الصمد; لأنّه يَصمِدُ إليه عباده بالدعاء والطلب(2).

وقد يكون هذان الأصلان اللغويان هما أساس ما ذكر من معاني لصمد مثل: الكبير الذي هو في منتهى العظمة، ومن يقصد إليه النّاس بحوائجهم، ومن لا يوجد أسمى منه، ومن هو باق بعد فناء الخلق.

وعن الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) أنّه ذكر لكلمة «صمد» خمسة معان هي:

الصمد: الذي لا جوف له.

الصمد: الذي قد انتهى سؤدده (أي في غاية السؤدد)

الصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب.


1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص206، الحديث 1.

2 ـ معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج3، ص 39.

[551]

الصمد: الذي لا ينام.

الصمد: الذي لم يزل ولا يزال.

وعن محمّد بن الحنفية (رض) قال: الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره. وقال غيره: الصمد، المتعالي عن الكون والفساد(1).

وعن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) قال: «الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء. (أي لا يثقل عليه حفظ شيء ولا يخفى عنه شيء)»(2).

وذهب بعضهم إلى أنّ «الصمد» هو الذي يقول للشيء كن فيكون.

وفي الرّواية أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي(عليه السلام) يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم. فقد سمعت جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار; وأنّه سبحانه قد فسّر الصمد فقال: اللّه أحد، اللّه الصمد، ثمّ فسّره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد...»(3).

وعن ابن الحنفية قال: قال علي(عليه السلام) تأويل الصمد: «لا اسم ولا جسم، ولا مثل ولا شبه، ولا صورة ولا تمثال، ولا حدّ ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا ولا ثمّة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولا سكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شمّ رائحة، منفي عنه


1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص223.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ مجمع البيان، ج10، ص565.

[552]

هذه الأشياء».(1)

هذه الرّواية توضح أنّ «الصمد» له مغهوم واسع ينفي كلّ صفات المخلوقين عن ساحته المقدّسة، لأنّ الأسماء المشخصة والمحدودة وكذلك الجسمية واللون والرائحة والمكان والسكون والحركة والكيفية والحد والحدود وأمثالها كلها من صفات الممكنات والمخلوقات، بل من أوصاف عالم المادة، واللّه سبحانه منزّه منها جميعاً.

في العلوم الحديثة اتضح أنّ كلّ مادة في العالم تتكون من ذرات. وكلّ ذرة تتكون من نواة تدور حولها الإلكترونات. وبين النواة والإلكترونات مسافة كبيرة نسبياً. ولو اُزيلت هذه الفواصل لصغر حجم الأجسام إلى حدّ كبير مدهش.

ولو اُزيلت الفواصل الذرية في مواد جسم الإنسان مثلاً، وكثفت هذه المواد، لصَغَر جسم الإنسان إلى درجة عدم إمكان رؤيته بالعين المجرّدة، مع احتفاظه بالوزن الأصلي!!.

وبعضهم استفاد من هذه الحقائق العلمية ليستنتج أنّ الآية تنفي عن اللّه كلّ ألوان الجسمانية، لأنّ واحداً من معاني «الصمد» هو الذي لا جوف له، ولما كانت كل الأجسام تتكون من ذرات، والذرات جوفاء، فالصمد نفي الجسمية عن ربّ العالمين. وبذلك تكون الآية من المعاجز العلمية في القرآن.

ولكن، يجب أن لا ننسى المعنى الأصلي لكلمة «صمد» وهو السيد الذي يقصده النّاس بحوائجهم، وهو كامل ومملوء من كلّ الجهات، وبقية المعاني والتفاسير الاُخرى المذكورة للكلمة قد تعدو إلى نفس هذا المعنى.

الآية التالية تردّ على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول:

(لم يلد ولم يولد).


1 ـ بحار الأنوار، ج3، ص230.، الحديث21.

[553]

إنّها ترد على المؤمنين بالتثليث (الربّ الأب، والربّ الابن، وروح القدس).

النصارى تعتقد أنّ المسيح ابن اللّه، واليهود ذهبت إلى أنّ العزير ابن اللّه: (وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون)(1).

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللّه: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم)(2).

ويستفاد من بعض الرّوايات أن الولادة في قوله: (لم يلد ولم يولد) لها معنى واسع يشمل كلّ أنواع خروج الأشياء المادية واللطيفة منه، أو خروج ذاته المقدّسة من أشياء مادية أو لطيفة.