( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 260

 6 - النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعاقب من دون ذنب

هذا الحديث هو الآخر من الأحاديث الموضوعة والمختلقة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فهو مروي في كتب العامة كالصحيحين وغيرهما بأسانيد ونصوص مختلفة ، ويحكي لنا هذا الحديث قصة نسبت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودلست عليه بأنه عاقب - في اللحظات الأخيرة من عمره - أناسا أبرياء عقابا ملؤه السخرية والهزل .


والقصة اشتهرت بحديث اللدود ، وخلاصتها : أنه اشتد المرض بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) في آواخر حياته حتى أغمي عليه وغشي ، فتشاورن زوجاته وأصحابه أن يصنعوا له دواء - وهو عجينة مرة تعطى لمن أصيب بداء ذات الجنب

- فأعطوه وهو مغمى عليه ، فلما أفاق وشعر بمرارة الدواء ، حلف يمينا بأن يصب الدواء في فم كل من هو حاضر في المجلس عدا عمه العباس . فأعطوا الحاضرون حتى جاء دور زوجاته ، فكانت ميمونة ذاك اليوم صائمة فأصرت على كونها

صائمة ، ولكن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يلتفت إلى قولها وأكد إعطاءها الدواء عملا ووفاءا باليمين . وهذه القصة أخرجها الشيخان في الصحيحين مختصرة ومجملة عن عائشة أنها
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 261

قالت : لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا : أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم ( 1 ) .


تحقيق حول الحديث : لما كانت دراسة جميع الأحاديث التي رويت بشأن حديث اللدود على ما احتوت من التفصيل والتطويل سواءا من حيث النص أو السند ، خارج عما نحن عليه في هذا الكتاب من الأجمال وعدم الأطناب . لذا اقتصرنا على تبيين نصوص هذه الأحاديث والألفاظ الغريبة التي تتضمنها مع الإشارة إلى المصادر :


 أولا : أول ما يتبادر إلى الذهن ويثبت اختلاقية هذه الأحاديث وكذبها هو التضاد والتناقض بين ألفاظها ، ونشير هنا فقط إلى ثلاثة موارد من هذه التناقضات :

 1 - متى أحس النبي ( صلى الله عليه وآله ) باللد ؟ فأكثر الأحاديث صريحة بأنه لما أفاق من غشوته على أثر مرارة الدواء عرف بأنه قد لد . . . ( أفاق فعرف أنه قد لد ووجد أثر اللدود ( 2 ) .

ولكن حسب مضمون الحديث الذي ذكرناه في بداية هذا الفصل والمروي في الصحيحين عن عائشة بأن الرسول عرف بأنه يلد قبل أن يعطى الدواء ولذلك أشار بيده أن يمتنعوا من ذلك . ( فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني . . . . فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ ) .


 2 - موقف العباس في القصة : حسب ما يتضمنه الحديث الذي رواه الترمذي
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح البخاري 6 : 17 باب كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى كسرى وقيصر باب مرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووفاته ، ج 7 : 164 كتاب الطب باب اللدود ، ج 9 : 10 كتاب الديات باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب منهم كلهم ،
صحيح مسلم
4 : 1733 كتاب السلام باب ( 27 ) باب كراهة التداوي باللدود ح 85 .

( 2 ) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6 : 118 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 262

وغيره من علماء العامة بأن العباس عم النبي كان ممن صب الدواء بفم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لده العباس وأصحابه
( 1 ) .

ويروي ابن أبي الحديد عن عائشة أنها قالت : أغمي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والدار مملوءة من النساء ، وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب فأجمعوا على أن يلدوه فقال العباس : لا ألده ، فلدوه ( 2 ) .

ولكن مضمون رواية الصحيحين يفيد بأن العباس لم يكن حاضرا وبعد أن لد النبي ( صلى الله عليه وآله ) دخل المجلس ( إلا العباس فإنه لم يشهدكم ) .


 3 - من الذي شملته العقوبة : حسب ما نقله الإمام أحمد بأن بعض الصحابة كانوا في المجلس فلدوا حتى جاء دور زوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 3 ) .

ولكن هذا الإمام أحمد نفسه يروي حديثا آخر بأنه لم يكن في المجلس ذاك اليوم سوى زوجات النبي ولم يلد غيرهن . عن العباس أنه دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعنده زوجاته فاستترن منه إلا ميمونة ، فقال : لا يبقى في البيت أحد شهد اللد إلا لد ( 4 ) .


فهل يمكن تصور الانسجام بين هذا الحكم ومنزلة النبوة ؟ أضف إلى ما في نصوص الأحاديث من التناقضات الثلاث التي ذكرناها ، هذا السؤال الذي يطرح على أصل القصة ، وأنه هل أن صدور مثل هذا الأمر والحكم من رسول الله ( صلى الله

عليه وآله ) يتناسب مع منزلة الرسالة والنبوة وشخصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فظاهر مضامين الأحاديث وصريح منطوق بعضها يدل على أن هذا الأمر المؤكد واليمين على لد كل
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) سنن الترمذي 4 : 342 كتاب الطب باب 12 باب ما جاء في الحجامة ح 2053 ، الفائق للزمخشري 3 : 313 .
( 2 )
شرح نهج البلاغة 13 : 31 .
( 3 )
مسند الإمام أحمد بن حنبل 6 : 118 .
( 4 )
مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 : 209 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 263

الحاضرين في المجلس والدار هو رد وجزاء للعمل بمثله . لقسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عقوبة لهم بما صنعوا
( 1 ) ويرد على هذا :

 أولا : كما أشرنا إليه آنفا ودلت عليه مضامين بعض الأحاديث أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عرف موضوع اللد بعد أن أفاق ، فعلى هذا فلم يكن نهي قبل ارتكابهم هذا العمل حتى تتحقق المخالفة ويجزون عقابا على ارتكابه .
 

 ثانيا : وعلى فرض قبول الحديث بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان عالما بأنه يلد فأشار إليهم ناهيا إياهم بأن يمتنعوا من ذلك ، فعملهم ليس بذنب حتى يعاقبون عليه ، ويحق له أن يعاقبهم على مخالفتهم له ، لأن هذه المخالفة مبتنية على اعتقادهم بكراهية المريض للدواء وهذه الكراهية للدواء هو دأب كل مريض .


وثالثا : لو سلمنا أن الحاضرين في البيت أجمعوا جميعهم على اللد ، ولكن المباشر في إعطاء الدواء للرسول ( صلى الله عليه وآله ) هو واحد لا الجميع لماذا عاقب النبي الجميع بفعل واحد أو اثنين منهم ؟

والقرآن صريح في قوله : ( لا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 2 ) ، وهذا النوع من الحكم يشبه الحكم بقصاص أناس رضوا بالقتل ، فهل من عاقل تسمح له نفسه أن يعاقب من عمل بواجبه الشرعي والإنساني تجاهه ، فأحسن إليه وأنقذه من الموت ؟

فالجواب حتما لا ، فكيف بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين الذي وصفه ابن حجر : بأنه ما اقتص ولا انتقم من أحد حتى من عدوه إذا تعدى على حقوقه الخاصة ( 3 ) .


لقد بينا في الفصلين السابقين أن الغاية من اختلاق ووضع مثل هذه الأحاديث التي مر ذكرها هي تزكية أولئك الذين لعنوا على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - كمن تخلف عن جيش أسامة ، وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : لا أشبع الله بطنه ، فجعلوا لعن النبي إياهم فخرا وتزكية ورفعة لمقامهم ورتبهم وصيروا ذلك اللعن أعلى رتبة من الدعاء والثناء .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج البلاغة 13 : 32 . ( 2 ) الأنعام : 164 . ( 3 ) فتح الباري 8 : 120 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 264

واختلقوا قصة تلقيح النخل التي أصدر فيها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حكما خطأ ثم تدارك خطأه بالندم والتأسف ، ليثبتوا أصل الاجتهاد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وجواز عدم إصابته في اجتهاده ويصححوا شطحات الآخرين بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ومخالفتهم للسنة وأصولها على أنها مخالفة مجتهد لغيره ، ولا بأس بهذه المخالفة .


وأما حديث اللدود فإنه وضع توهينا وتطاولا على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحيث أصبح بعد ذلك ذريعة ووسيلة بأيدي أعداء الإسلام للنيل من الدين ، وبناءا على هذا فإن الدواعي في جعل الحديث كثيرة أهمها اثنان :


 الأول : خلق فضائل لبني العباس : كانت سياسة بني العباس واهتمامهم منكب على تمهيد وسائل الخلافة سواء قبل وصولهم للخلافة أو بعدها ، وهذا الأمر يستدعي أن يختلقوا فضائل ومفاخر لذويهم بدوا من عباس عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى آخرهم ، حتى ولو كان هذا الوضع يستوجب تحجيم شخصية النبي والنبوة ، كما نراه واضحا في قصة اللدود .


 فسعوا لإثبات فضيلة وكرامة للعباس جدهم ، حيث إننا نقرأ في جميع أحاديث اللدود مع تظافر التناقضات فيما بينها أنها قد اتحدت في مسألة واحدة وهي ، إن ظاهر الأحاديث المروية في هذا الباب تدل على أن كل من كان في البيت من الصحابة وزوجات النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى ميمونة التي كانت صائمة وأهل البيت وسبطا الرسول ( عليهم السلام )


قد شملتهم العقوبة ، لأن أمير المؤمنين والزهراء والسبطان ( عليهم السلام ) على فرض صحة الحديث كانوا في الدار عند أبيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنهم قد لدوا كرها وبأمر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والوحيد الذي لم يلد وكان حاضرا واستثني من عقوبة الرسول هو العباس بن عبد المطلب .


 الثاني : تأييد نظرية عمر ، الغاية الثانية التي استهدفوها وضاع هذا الحديث المختلق ، هي إثبات وتأكيد صحة مقولة الخليفة عمر التي قالها في اللحظات الأخيرة من حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونسبها إليه ( أنه يهجر ) ( 1 ) ، وأرادوا باختلاقهم ذلك تصحيح كلمة عمر بأن
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) سنوافيك البحث في هذا الموضوع في فصل الوصية التي لم تكتب . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 265

النبي كان يصدر أوامر في أواخر حياته هذيا ومن دون تعقل ، لأنه تارة يقول : لدوا الحاضرين في البيت بتلك العجينة المرة وأنا أنظر إليهم ، وتارة أخرى يقول : ائتوني بكتف ودواة لأكتب لكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي .


النقيب وحديث اللدود : ومن العلماء الذين نفوا صحة حديث اللدود ، وحكم عليه بكونه مختلقا وموضوعا هو أبو جعفر النقيب
أستاذ ابن أبي الحديد . يروي ابن أبي الحديد كلام أستاذه مع أنه كان مؤيدا للحديث ومخالفا لرأي أستاذه فيقول : سألت النقيب

أبا جعفر عن حديث اللدود ، فقلت : ألد علي بن أبي طالب ذلك اليوم . فقال : معاذ الله لو كان لد لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه . قال : وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار وابناها معها ، أفتراها لدت ولد الحسن والحسين ؟ ! كلا ، وهذا أمر لم يكن . وإنما هو حديث ولده من ولده تقربا إلى بعض الناس ( 1 ) .


وأما النتيجة : فهذا الذي قرأته هو أسطورة حديث اللدود ، وتلك هي التناقضات والاختلافات في أحاديث اللدود والأسئلة التي ترد على مضامينها ، وقرأنا أيضا الغاية من اختلاقهم هذه الأسطورة الخرافية ، حتى أن واحدا من محققين العامة صمد في مقابل جميع محدثيهم ومؤرخيهم وأعلن اختلاقية وزيف هذه القصة .


ولما كانت هذه الأسطورة الخرافية برأي علماء الشيعة وفقهائهم موضوعة ومختلقة ، وهي مباينة لعقيدتهم في النبوة ، لم يروها أحد من محدثيهم ومؤرخيهم ، بل إنهم لم يتصدوا للرد والجواب عن ذلك ، ومروا عليها مرورا غير معتنين بها وتركوها نسيا منسيا خلافا لعلماء العامة الذين بذلوا جهودا كثيفة في إثباتها ( 2 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 : 32 .

( 2 ) رأيت في الآونة الأخيرة أن أحد مؤلفي العامة كتب كتابا وسطر فيه بعض الخز عبلات منها هذه الأسطورة ونمقها بعبارات وكلمات أدبية ، وثم حكم على علماء الشيعة الذين لم يروون هذه الرواية الأسطورية بأنهم ليسوا مطلعين ومضطلعين في المسائل التاريخية ، وللأسف أن هذا الحكم والتحكم قد أثر في بعض السذح والغافلين فاتخذوا الموقف السلبي تجاه علماء الشيعة ! !  ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب