( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 231

الفصل السابع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الصحيحين

النبي قبل البعثة

 1 - إيمان أبويه : تعرفنا في الفصول السابقة على الصورة التي رسمها أرباب الصحيحين للأنبياء ( عليهم السلام ) ، ونتعرف هنا على الصورة التي رسماها للنبي محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) ولذلك قسمنا بحثنا حول حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلى قسمين : النبي قبل البعثة والنبي بعد البعثة .


فأما الصورة المرسومة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل البعثة والأكاذيب التي نسبوها إليه ندرجها واحدا بعد الآخر في فصول مستقلة . ونستفتح البحث في هذا الفصل بما أخرجه مسلم في صحيحه بأن أبوا النبي فارقا الدنيا وهما مشركان .

وهاك النص :

 1 - روي عن أنس : أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : في النار ، فلما قفى دعاه ، فقال : إن أبي وأباك في النار ( 1 ) .

 2 - روي عن أبي هريرة قال : زار النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها ، فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ( 2 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح مسلم 1 : 191 كتاب الإيمان باب ( 88 ) باب بيان من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة
      المقربين ح 347 ،
      سنن ابن ماجة
1 : 501 كتاب الجنائز باب ( 48 ) باب ما جاء في زيارة قبور المشركين ح 1573 ،
      سنن أبي داود
4 : 230 كتاب السنة باب في ذراري المشركين ح 4718 .

( 2 ) سنن ابن ماجة 1 : 501 كتاب الجنائز باب ( 48 ) باب ما جاء في زيارة قبور المشركين ح 1572 ،
      صحيح مسلم 2 : 671 كتاب الجنائز باب ( 36 ) باب استئذان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ربه عز وجل
      في زيارة قبر أمه ح 108 ،
      سنن أبي داود
3 : 218 كتاب الجنائز باب في زيارة القبور ح 3234 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 232

لا يخفى أن مختلقي هذه الأحاديث أرادوا إثبات كفر أبوي النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فدلسوا حديثا ونسبوه إلى الرسول
( صلى الله عليه وآله ) على أنه قال : إن أبي كذلك في النار ، وحيث كان الدعاء وطلب الغفران للمشركين غير جائز ، فلذلك نهي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن يدعو لأمه ويستغفر لها ، لأنها توفيت على الشرك ! !
 

أقول : الدلائل التي ذكرناها آنفا وهكذا الروايات الصحيحة والمصادر التاريخية اليقينية تثبت كون هذان الحديثان من
المفتريات والموضوعات ، لأن الأخبار الصحيحة تبين بأن الكثير من العرب في الجاهلية ، كانوا موحدين ومؤمنين بالله

الواحد ، وأشهرهم في هذا الإيمان بنو هاشم - عبد المطلب وأبو طالب وعبد الله والد النبي - ، حيث كانوا يعبدون الله عز وجل ، ويجتنبون عبادة الأصنام ، وينكرون ما كان أكثر العرب يعتقدون به ( 1 ) ، وهؤلاء المؤمنون كانوا يعبدون الله عز وجل تارة على مرأى من كفار قريش ، وتارة أخرى في مغارات الجبال .


والدليل على إيمان أجداد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وآبائه نذكر حديثين كنموذج لا الحصر :

 1 - عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط ، قيل : فما كانوا يعبدون ؟ قال ( عليه السلام ) : كانوا يعبدون - يصلون إلى - البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به ( 2 ) .


 2 - قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين أبي إبراهيم ( عليه السلام ) ( 3 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) سيرة ابن هشام 1 : 252 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 120 ، المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي : 171 .
( 2 )
كمال الدين للصدوق : 174 باب ( 12 ) باب في خبر عبد المطلب وأبي طالب ح 32 ، بحار الأنوار للمجلسي 15 : 144 كتاب تاريخ نبينا ( صلى الله عليه وآله ) باب ( 1 ) باب بدء خلقه وما جرى له . . . . ح 76

( 3 ) بحار الأنوار 15 : 127 كتاب تاريخ نبينا ( صلى الله عليه وآله ) باب ( 1 ) باب بدء خلقه . . . ح 67 ، الخصال : 312 باب الخمسة باب سن عبد المطلب في الجاهلية خمس سنن ح 90 ، من لا يحضره الفقيه 4 : 365 كتاب النوادر ح 5762 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 233

ونقل أحمد بن حنبل في مسنده ( 1 ) ، وكذا ابن سعد في طبقاته ( 2 ) : إن أبا ذر كان في الجاهلية موحدا ومؤمنا بالله .

أما الذين اختلقوا هذين الحديثين لم تكن غايتهم إلا محو الخزي والعار الذي أحدق بهم وبقبيلتهم - الذين حاربوا الإسلام ، حفظا للوثنية والشرك وتثبيتا لهما - . وقاوموا القرآن والرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وماتوا وهم مشركين كافرين .

أو أنهم أظهروا إسلامهم مكرهين ، وطمعا في المال والدنيا وهم في الواقع كفار ومشركين . نعم إن مختلقي هذه الأحاديث أرادوا بوضعهم حديث كفر أبوي النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يشبهونهما بآبائهم ، وأن يزيلوا العار المطبق على أجدادهم وضمادا لحقارتهم .

ولكن المؤسف أن أكثر المسلمين يعتبرون هذه الروايات الموضوعة صحيحة ، وعليها بنوا أسس عقائدهم .


 2 - الرسول يأكل الحرام يمكنك أيها القارئ العزيز بعد أن عرفت الكلام حول الموضوع السابق - عدم إيمان والدي النبي - أن تتعرف الآن على اعتبار حديث آخر ، وضع نكاية بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) نفسه ، يحكي لنا هذا الحديث أن النبي كان وثنيا قبل أن يبعث نبيا ، فعلى هذا يمكنك بعد قراءتك للحديث أن تحكم بصحته أو سقمه وضعفه .


أخرج البخاري بإسناده عن سالم أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل ، بأسفل بلدح ، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي ، فقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثم قال : إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ( 3 ) ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه ( 4 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) مسند الإمام أحمد 5 : 174 .
( 2 )
الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 219 .
( 3 )
كان العرب في الجاهلية ينصبون تماثيل وصخورا وصورا يعبدونها ، وهذه هي الأصنام والأوثان وأحيانا كانوا ينصبون صخورا حول الكعبة وهي ليست على أشكال وهيئات معينة وكانوا يسمونها بالنصب أو الأنصاب حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور بدم القربان .
( 4 )
صحيح البخاري 7 : 118 كتاب الذبائح والصيد باب ما ذبح على النصب والأزلام .  ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 234

وروى في موضع آخر من صحيحه حديثا آخر بنفس المضمون إلا أن فيه بعض الزيادات ( 5 ) .

ويستفاد من الحديث المذكور :

 أولا : أن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف وأعلم في معرفة التوحيد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل البعثة !

 ثانيا : أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لا يمتاز عن سائر العرب الجاهليين ، لأنه كان يملك صنما ونصبا ، وكان يأكل اللحم الذي ذبح على النصب ، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد كان موحدا ومؤمنا ، وكان يرفض الأصنام وعبادتها ، كما ورد في الحديث إنه قال : فإني لا أكل مما تذبحون على أنصابكم .
 

والأطم من الحديث الأول ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده عن نوفل بن هشام بن سعيد بن زيد ، عن أبيه ، عن
جده فإنه قال : ومر بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) - يعني زيد بن عمرو بن نفيل - ومعه أبو سفيان بن الحرث ، يأكلان من

سفرة لهما ، فدعواه إلى الغداء . فقال : يا ابن أخي ، إني لا آكل ما ذبح على النصب ، قال : فما رؤي النبي ( صلى الله
عليه وآله ) من يومه ذاك يأكل مما ذبح على النصب حتى بعث ( 6 ) .


وقد ذكر المؤرخون هذه القصة نقلا عن هذين الكتابين - المعتبرين والصحيحين ! ! - كابن عبد البر ( 7 ) ينقل عن ابن حنبل ، وينقل أبو الفرج الأصفهاني ( 8 ) عن البخاري .
 

 

* ( هامش ) *
( 5 ) صحيح البخاري 5 : 50 كتاب فضائل أصحاب النبي باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل .
( 6 )
مسند أحمد بن حنبل 1 : 189 .
( 7 )
الإستيعاب لابن عبد البر 2 : 615 ترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رقم 982 .
( 8 )
الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني 3 : 126 خبر زيد بن عمرو ونسبه . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 235

من هو زيد بن عمرو بن نفيل ؟ من هو زيد الذي نال هذه المرتبة من القدسية والتكريم ؟ وكما روى البخاري في مبحث التوحيد أن زيد نال مرتبة من التوحيد لم ينلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل البعثة ! ! !

وأما زيد هذا هو ابن عم الخليفة عمر بن الخطاب وأبو زوجته ( 1 ) ، وقد أطراه الكثير من المؤرخين وأصحاب التراجم ، فقالوا : إنه في الجاهلية كان موحدا ، وكان يعبد الله وهو على دين إبراهيم ( عليه السلام ) الحنيف ، وعما يعتقده عرب الجاهلية ، ويصلي ويسجد لله تعالى ، وذكره في السجود دليل على إيمانه وحنيفيته ( 2 ) .


أقول : قد ذكرنا في أول الكتاب ما استنتجناه من الآيات والروايات حول الأنبياء عامة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة ، وبينا أيضا في الفصل السابق سيرة آباء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأثبتنا بالدلائل النقلية الثابتة قطعية أن عبد

المطلب وأبو طالب كانا موحدين ، وكانا يجتنبان أكل ما ذبح على الأنصاب وإن النبي ( صلى الله عليه وآله ) علاوة على مسألة النبوة واستعداده لتلقي الوحي ، كما تطرقنا إليه سابقا فإنه عاش ونشأ في هذا البيت ، وتربى في أحضان ورعاية

هؤلاء الأفراد . فعلى هذا فهل يعقل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ترك سيرة آبائه وعقائدهم والتعاليم والآداب العائلية - وقد كانوا يجدون ويسعون في حفظ تلك الشعائر - ويرفض ( صلى الله عليه وآله ) كل ذلك ، ويتمسك بسيرة الوثنيين ؟

فهل يتصور أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ينل ما ناله زيد بن عمرو بن نفيل وأمثاله من الوصول إلى مدارج التوحيد الرفيعة ، وعبادة الله ، والامتناع عن أكل ما ذبح على النصب ، وينهى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عن أكل ذلك ، ويرشده إلى ترك هذا العمل ، وتراه أحيانا يدعو النبي إلى هذا
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) هو أبو عاتكة بنت زيد بن نفيل زوجة عمر بن الخطاب . راجع : أسد الغابة 4 : 78 ، الفقرات الأخيرة من ترجمة عمر بن الخطاب
( 2 ) راجع ترجمة زيد بن عمرو بن نفيل في أسد الغابة 2 : 236 - 238 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 236

العمل - الاجتناب عن أكل ما لم يسم عليه اسم الله - لأن المحبوب عند الله عز وجل ، والنبي بدوره يستجيب له فيمتنع من الأكل حتى أن بعثه الله نبيا .

وأعتقد أن هذين الحديثين وضعا لتبيين فضائل أحد أبناء عمومة الخليفة عمر بن الخطاب ، كما اختلقوا مئات الأحاديث والروايات في بيان الفضائل للخلفاء وقبائلهم ، وما أرى دافعا وداعيا لاختلاق مثل هذه الروايات غير التعصب القبلي المفرط

، ومما يؤيد رأينا إنه لم يرو هذا الحديث أحد سوى عبد الله بن عمر ، ونوفل ابن هشام بن سعد وهذا الآخر هو حفيد زيد بن عمرو بن نفيل .


ولكن رواة الحديثين وواضعاهما لم يدركا أن مضامين قولهما مباينة لما جاء في القرآن والروايات الصحيحة والصريحة ، وكذا لم يعلما أنهما قد أهانا بحديثيهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأساءا إلى منزلة النبوة إساءة لم يمحها شئ . ولا

يتوهم أحد إننا ننكر كون زيد بن نفيل من الموحدين في العهد الجاهلي ، لأنه كما ورد في الأحاديث المروية عند الشيعة
أيضا إنه كان يسعى لمعرفة التوحيد ، ويتبرأ من الوثنية ( 1 ) ، ولكننا نقول : إن ما ورد في الحديثين من المقايسة بينه وبين

الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن إلا مبالغة وتقديسا لزيد ، وأن لواضعي الحديثين نوايا ومقاصد لا يمكنهما الوصول إليها إلا عن طريق جعل أحاديث مثل ما ذكر ، ودسها في المصادر وكتب الحديث عند أهل السنة ، والعجب أن المسلمين قبلوها قبول المسلمات حتى اعتبرتها العامة أحاديث صحيحة وقطعية .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) كمال الدين : 198 باب ( 20 ) باب خبر زيد بن عمرو بن نفيل وفي الباب خمس أحاديث ،
      بحار الأنوار 15 : 204 - 206 تاريخ نبينا ( صلى الله عليه وآله ) باب ( 2 ) باب البشائر بمولده ونبوته ح 20 - 23 ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب