( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 304

 3 - اختلاق الفضائل للخلفاء : العامل الثالث لوضع هذه الافتراءات السخيفة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وخلق هذه الخزعبلات ، هو خلق فضائل للخلفاء وإظهارهم بأنهم الأفضل .
 

ولتوضيح هذا نقول : لقد مر عليك في الجزء الأول من كتابنا ( 2 ) أن معاوية بن أبي سفيان لما تسلط على الحكم ودامت خلافته عشرون عاما ولم يكن هناك منازع له في الحكم ، أسس لجنة وكلفها وضع الأحاديث لصالح الخلفاء ، وأمر ولاته وعماله في أقصى البلاد إلى أقصاها أن يقرؤوها على الناس في خطب صلاة الجمعة وينشروها بينهم .


ولم يدع معاوية في هذا المجال ذريعة إلا استفاد منها ، واستفرغ كل ما كان في وسعه من فكر وقوى في تحقيق هذه الأمنية ، حتى أن مرتزقته وعملاءه لم يهنوا لحظة من مساعدته في ذلك ، فاختلقوا فضائل للخلفاء حتى ولو كانت هذه الفضائل المزيفة تودي إلى الإهانة بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) وتحجيم منزلته .
 

 

* ( هامش ) *  
( 2 )
راجع ص : 51 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 305

والهدف من وضعهم هذه الأحاديث المزورة أن تكون بديلة عن الأحاديث النبوية الصحيحة التي تروي فضائل أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) ( 1 ) .

وطبقا لهذه الخطة تراهم يصورون الخليفة أبا بكر ذا قدسية وطهارة ، وأنه ذو معنوية عالية ، وأنه من المطهرين والصالحين ، وأنه لما دخل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والفتيات يعزفن ويطربن أظهر انزجاره وانزعاجه للغناء ، ويخاطب

ابنته بحدة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاضر : ( أمزمارة الشيطان في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ ومع أن النبي نهاه عن ذلك وقال : دعهن يا أبا بكر وشأنهن ، إلا أنه أظهر ورعه وتقواه في الموضوع ، حتى قامت عائشة تشير على الفتيات أن يخرجن من البيت ( 2 ) .


واختلقوا للخليفة عمر بن الخطاب فضيلة بأنه لما دخل المسجد النبوي رأى الحبشة يلعبون ويرقصون ، فازدرأ من ذلك ، فهوى إلى الأرض وأخذ حصباء ليحصبهم بها فصده النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال له : دعهم يا عمر ( 3 ) !

فعلى هذا أليس يحق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقول بشأن هؤلاء الذين بلغوا من الورع والقدسية والأيمان والمتانة أعلى مراتبها ! ! : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ( 4 ) ؟

أليس يحق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقول بشأن الخليفة عمر بن الخطاب كلاما يعزز مقامه ويقدر منزلته ويعظم شخصيته حتى يقدمه على رتبة النبوة والرسالة ؟ ! ! : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ! ! ( 5 )
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) وفي هذا المجال لنا بحث طويل ومفصل في كتاب البديل نرجو من الله الموفق أن يوفقنا لإتمامه وطبعه . المعرب
( 2 )
راجع المصادر ص : 276 - 277 .
( 3 )
راجع المصادر ص : 280 هامش 2 .
( 4 )
سنن ابن ماجة 1 : 15 المقدمة باب ( 6 ) باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح 42 و 43 ،
      سنن أبي داود 6 : 201 كتاب السنة باب لزوم السنة ح 4670
     مستدرك الصحيحين 1 : 96 كتاب العلم باب عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي ،
     سنن الدارمي 1 : 57 المقدمة باب ( 16 ) باب اتباع السنة ح 95 ،
    مسند أحمد بن حنبل 4 : 126 .
( 5 )
سنن الترمذي 5 : 580 كتاب الفضائل باب ( 18 ) باب مناقب عمر ح 3690 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 306

ويمكنك من خلال دراسة هذه الأخبار والأحاديث المنسوبة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن تقف على فضائل
مختلقة بحق الخلفاء أكثر من ذلك . . . . وإننا نشاهد أحاديث مختلقة وأكثر توهينا وازدراء من ذلك وضعتها أيدي العصبية المفرطة للحط من مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتشويه شخصيته وفي هذا المجال نضيف على ما ذكر واحدة منها :


أخرج الترمذي والإمام أحمد بن حنبل بإسنادهما عن بريدة قال : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بعض مغازيه ، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف

وأتغنى . فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن كنت نذرت فاضربي ، وإلا فلا . فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ، ثم قعدت

عليه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ( 1 ) !


فترى أن وضاعي هذه الأحاديث أرادوا تضخيم رتبة عمر بن الخطاب من الناحية التقوائية والمعنوية لتصبح أكبر من رتبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ! وتراهم أنهم يوحون بوضعهم هذه الأحاديث أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا زوجه

وأصحابه لم يتورعوا عن الأعمال السيئة ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) راضيا بأفعال شيطانية و أن الشياطين يلعبون بين يديه وهو ينظر إليهم ، ولكن ما أن دخل عمر حتى اختل نظم المجلس وفرت الشياطين من عمر فرارا .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) سنن الترمذي 5 : 580 كتاب المناقب ، باب ( 18 ) ، باب المناقب مناقب عمر ح 3690 ، مسند أحمد بن حنبل 5 : 353 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 307

موافقات عمر بينا فيما سبق إن إحدى دواعي تلفيق الافتراءات على الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) هي خلق فضائل للخلفاء ، والتعتيم على مثالبهم ومساوئهم ، وتطرقنا أيضا إلى بعض الأكاذيب التي كانت تتناقلها الألسن ، ويرويها البسطاء

والتي تشكل نوعية الثقافة والتفكير في المجتمعات الملوثة بالمغامرات المسائية ، والليالي الحمراء التي كان يحييها الفساق وأهل الفساد ، وفي هذا الفصل يتعرف القارئ المحقق ، والباحث على فضائل موضوعة أخرى أرقي درجة وأرفع رتبة علميا ، والمشتهرة في علوم الحديث والتاريخ ( موافقات عمر ) .


وملخص القول في الموافقات العمرية : هو إن الخليفة عمر كان يقترح مسائل عديدة على الله تعالى ورسوله ، ومن ثم ينزل جبرئيل بآية تؤيد ما اقترحه الخليفة عمر ، وإننا قد سمينا هذه الفضائل ( بالفضائل العلمية ) لأن الوضاعين أرادوا بوضعهم

هذا النوع من الفضائل أن يرفعوا رتبة الخليفة ، ويقربوها إلى النبوة ويشركونه مع النبي في مسألة الوحي ، ولما كان نزول الوحي القرآني من مختصات النبي ولا يشركه في ذلك أحد فتوسلوا إلى اختلاق طريقة أخرى غير النبوة ليشركوا عمر في

مسألة الوحي مع النبي فقالوا : إن الخليفة عمر إذا أحب أن يشرع حكما في مسألة ما ، فما يبرح حتى ينزل الوحي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) موافقا ومطابقا للرأي الذي أحب عمر تشريعه .

وقالوا : إن الخليفة كان عالما بالأحكام مسبقا فيبدي رأيه ، وبعدها ينزل الله آية تؤيد فكرة عمر ، وتصحح رأيه ، وأحيانا
ينزل الله طبقا لما قاله عمر بتمام ألفاظه وكلماته . فعلى هذا فإن حرام الخليفة من تلقي الوحي القرآني مباشرة ، لكنه لم
يحرم من
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 308

وحي من نوع آخر غير الوحي القرآني .

وإليك أيها القارئ نماذج من تلك الموافقات العمرية نذكرها على سبيل المثال :

 1 - صلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) على منافق مات ، فنهاه الخليفة عن ذلك ، فلم يتعبد النبي بقوله ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) ( 1 ) تأييدا لقول عمر وتقريعا لفعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 2 ) .


 2 - كانت مضاجعة الزوجة في ليالي شهر رمضان محرمة كنهاره ، فاضطجع الخليفة مع زوجه في إحدى الليالي من شهر رمضان ، وبعد أن استيقط من نومه أنزل الله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) ( 3 ) موافقة لرأي عمر وجوازا للجماع ليلا في شهر رمضان ( 4 ) .


 3 - دخل أحد غلمان الخليفة عمر عليه منزله بدون أن يستأذن منه ، فساء عمر هذا الفعل من غلامه ، فجعل يدعو ربه أن يمنع ويحرم دخول الغلمان بدون إذن مولاهم عليهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك آية الاستيذان ( 5 ) . ( 6 )


 4 - كان رسول الله يدعو الله كثيرا ليغفر الله لبعض المنافقين ، فقال له عمر : يا رسول الله سواء عليهم ، أي إن استغفارك وعدم استغفارك لهم سواء ، فأنزل الله تعالى : ( سواء عليهم أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم ) ( 7 ) تأييدا وتصديقا لقول عمر ، ونزل

 

* ( هامش ) *
( 1 ) التوبة : 84 .
( 2 )
قال السيوطي : أخرج الحديث البخاري ، مسلم ، والبيهقي في الدلائل ، الطبراني ، ابن ماجة ، البزاز ، ابن جرير ،
      أبو يعلى وغيرهم . راجع الدر المنثور 3 : 266 ذيل الآية .
( 3 )
البقرة : 187 .
( 4 )
أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 197 ، عن الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر .
( 5 )
النور : 58 . ( 6 ) فتح الباري 1 : 401 . ( 7 ) المنافقون : 6 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 309

الوحي بنفس الألفاظ التي قالها عمر ( 1 ) . وحسب ما تتضمنه روايات أهل السنة أن الله عز وجل أنزل آيات عديدة مؤيدة لرأي الخليفة عمر ، أو مطابقة للمعنى الذي قصده عمر ، أو أنزلها بنفس الألفاظ التي تفوه بها عمر .

وقد وردت هذه ( الموافقات العمرية ) في موارد عديدة من كتب الحديث والتاريخ والتفسير ( 2 ) وما ذكرناه في بحثنا هو نماذج فقط ، وإلا فالموافقات العمرية المروية في كتب الجمهور هي أكثر بكثير مما أوردناه لك هنا .


قال ابن حجر العسقلاني : وهذا دال على كثرة موافقته وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر موافقة ولكن ذلك بحسب المنقول ( 3 ) . وقد جمع ابن حجر المكي سبعة عشر موردا من موافقات عمر ( 4 ) .

وقال السيوطي : وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين ( 5 ) .

وقال العسقلاني أيضا : وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال : ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه ، وقال فيه عمر ، إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر ، وهذا دال على كثرة موافقته . وذكر قبله بأسطر والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت لكن لرعاية الأدب
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) أخرج السيوطي في الدر المنثور 3 : 264 عن الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم والنحاس وغيرهم .
( 2 )
نحو مسند أحمد بن حنبل 1 : 24 و 36 و 53 و 456 ، و ج 2 : 148 ، و ج 6 : 223 و 271 ،
      مسند الطيالسي : 9 ح 41 ، تاريخ الخلفاء : 122 ، تفسير الدر المنثور 3 : 170 ، و ج 5 : 213 و 214 ،
      شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 423 ، سيرة ابن هشام 4 : 196 .
( 3 )
فتح الباري 1 : 401 . ( 4 ) الصواعق المحرقة : 99 - 101 . ( 5 ) تاريخ الخلفاء : 122 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 310

أسند الموافقة إلى نفسه ( 1 ) .

 أقول : لا فرق في مقام الاستخفاف وتحجيم نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومرتبة الوحي والنبوة بين تلفيق الأكاذيب والافتراءات التي نقلناها مسبقا وبين هذه الأكاذيب المسماة بموافقات عمر .
 

ولا يخفى أن رواية حضور النبي في حفلات النساء ونزول آية الحجاب تلبية لرغبة عمر ، أو ترغيب النبي الفتيات للغناء ونزول آية الاستيذان تأييدا لرأي عمر وإن النبي أجاز لزوجته أن تنظر إلى رقص الأجانب وإن آية ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ( 2 ) نزلت تلبية لما رجاه عمر . . . كل هذه منافية ومناقضة لمرتبة النبوة ولا تتناسب مع الرسالة .


ولما كان التحقيق في جميع الموافقات العمرية ودراستها دراسة معمقة يحتاج إلى كتاب مستقل وكبير وخارج عما نحن عليه من الإيجاز ، اكتفينا بدراسة وتحقيق حديثين فقط مما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب الموافقات العمرية .


الآيات الثلاثة : حدثنا هشيم ، عن حميد ، عن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث فقلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ،

وآية الحجاب ، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب ( 3 ) واجتمع نساء النبي عليه في الغيرة عليه فقلت لهن :( عسى ربه إن يطلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن )( 4 ) فنزلت هذه الآية ( 5 )
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) فتح الباري 1 : 401 . ( 2 ) البقرة : 125 . ( 3 ) الأحزاب : 53 . ( 4 ) التحريم : 5 .

( 5 ) صحيح البخاري 1 : 111 كتاب الصلاة باب ما جاء في القبلة و ج 6 : 24 كتاب التفسير أبواب تفسير سورة البقرة باب
     ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ،
     صحيح مسلم 4 : 1865 كتاب الفضائل باب ( 2 ) باب فضائل عمر ح 24 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 311

نقل البخاري هذا الحديث في صحيحه في موردين بتفاوت يسير بينهما ، في كتاب الصلاة وكتاب التفسير . وكذا رواه مسلم في صحيحه باختلاف يسير .

 ترى في هذا الحديث إن الله أنزل ثلاث آيات في قرآنه تلبية لرجاء الخليفة عمر ورغبته :

 1 - آية الحجاب . 2 - آية ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . 3 - آية ( عسى ربه إن يطلقكن ) .

وأما بالنسبة إلى هذا الحديث فسوف نقوم بدراسة ما يرتبط بآية الحجاب فقط ، وندع الحكم حول صحة القسمين الآخرين وسقمهما إلى القارئ الباحث ، وذلك لأنه عندما يتضح ضعف شطر من حديث فإن سائر الموارد تتبعه في الضعف والسقم .

. . . تقييم الموافقة في آية الحجاب : إن الحديث المذكور وإن لم يتطرق إلى ذكر نص الآية المنزلة الموافقة لرأي عمر في مسألة الحجاب ، إلا أن بعض الأحاديث الأخرى المروية بهذا الشأن والمنقولة ضمن فضائل عمر قد ذكرت نص آية الحجاب

، أي ( فإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ) ( 1 ) . ( 2 ) ولكن الشواهد والأدلة التي نذكرها تفند هذا الزعم بأن تكون آية الحجاب نزلت تأييدا لقول عمر ، وتثبت كون هذا الحديث موضوعا ومن اختلاقات الوضاعين ، وضعوه تشييدا وتضخيما لمقام الخليفة عمر وتفضيلا له .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الأحزاب : 53 . ( 2 ) مسند أحمد بن حنبل 1 : 456 ، شرح نهج البلاغة 12 : 57 ، الرياض النضرة 2 : 291 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 312

 1 - التضارب في الأحاديث : إحدى الأدلة التي تثبت سقم القضية وضعفها هو التضارب والتناقض الموجود بين الأحاديث التي رويت بشأن نزول آية الحجاب .

ففي حديث عن عائشة قالت : كنت آكل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حيسا قبل أن تنزل آية الحجاب ، ومر عمر ، فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعي . فقال : حس ! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ، فنزلت آية الحجاب ( 1 ) .


قال الطبري ، حس بكسر السين والتشديد كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه كالجمرة والضربة ونحوهما ( 2 )

وفي حديث آخر أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير معللا سبب نزول آية الحجاب ، وفيه أن عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) قالت : كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : احجب نساءك .

قالت : فلم يفعل ، وكان أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع خرجت سودة بنت زمعة و كانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس . فقال : عرفتك يا سودة ! حرصا على أن ينزل الحجاب قالت : فأنزل الله آية الحجاب ( 3 ) .


يظهر من هذين الحديثين أن الخليفة عمر كان على علم واطلاع مسبق بنزول آية الحجاب ولكن دعا الله عز وجل تعجيل وتسريع نزوله ، ولذا كان يسعى في سبيل ذلك .

ولكن هنا سؤال يبقى مختلجا في الذهن : في أي مكان نزلت آية الحجاب تلبية لرغبة عمر ؟
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج البلاغة 12 : 58 ، الرياض النضرة 2 : 291 .
( 2 )
الرياض النضرة 2 : 291 .
( 3 )
صحيح البخاري 8 : 66 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب ، و ج 1 : 49 كتاب الطهارة باب خروج النساء إلى البراز ،
      صحيح مسلم 4 : 1709 كتاب السلام باب ( 7 ) باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان ح 18 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 313

فالأحاديث في هذا الشأن متضاربة أيضا ، فبعضها يشير إلى أن الآية نزلت بعد أن كرر عمر قوله لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن رجالا يدخلون عليك بيتك ، فكيف لا تأمر زوجاتك بالاستتار عنهم ؟

وأخرى تقول : إنها نزلت عندما لبى عمر دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) للأكل ، وأصابت يده إصبع عائشة . فقال عمر : حس ! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ؟

وأحاديث أخرى تروي : أنها نزلت عندما أرادت سودة بنت زمعة زوجة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الخروج لقضاء الحاجة ، ورآها عمر ، وحيث كان حريصا على نزول آية الحجاب ناداها : عرفتك يا سودة . فهذه التناقضات في قصة

واحدة - نزول آية الحجاب موافقة لرأي عمر - مصداق بارز ودليل بين على صحة المثل المعروف الذي يقول : الكذاب كثير النسيان ولا حافظة للكذاب .


 2 - أحاديث أخرى تفند صحة هذا الحديث : أخرجت في كتب أهل السنة ومصادرهم أحاديث أخرى رويت بشأن نزول آية الحجاب تنكر وتفند نسبة نزول الحجاب تأييدا لقول عمر وتثبت كون الحديث العمري مزورا وموضوعا .

ونكتفي هنا بذكر حديث واحد اتفق عليه البخاري ومسلم ونقلا ذلك عن أنس : عن أبي مجلز ، عن أنس قال : لما تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زينب ابنة جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم

يقوموا . فلما رأوه يقوم ، قام من قام من القوم ، وقعد بقية القوم ، وأن النبي جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقوا فأخبرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا . . . . وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 310

من وراء حجاب ) ( 1 ) . ( 2 )

وأخرجه كذلك السيوطي عن الإمام أحمد والنسائي وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي ( 3 ) .

وفي حديث آخر رواه البخاري عن أنس قال : إنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المدينة ، فخدمت رسول الله عشرا حياته ، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه ، وكان

أول ما نزل في مبتنى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بزينب ابنة جحش . . . . . ثم ساق الحديث حسبما ذكرناه آنفا وقال : أنزلت آية الحجاب في ليلة ابتناء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 4 ) بزينب .


والجدير بالذكر إن في الحديث المستخرج عن أنس بن مالك نقطة مهمة تجب الإشارة إليها وهي : أن أنس كان يدأب في الاستنكار وانتقاد من كان يعلق نزول آية الحجاب بحسب رغبة عمر ، ويا ترى فلو كان هدف أنس وغايته غير تفنيد ودحض

هذا القول ، أتراه يؤكد في كلامه المتاخم للشدة والقوة في اللحن والتأكيد الزائد في بيان سبب نزول الآية ويقول : إني أعلم الناس بشأن نزول آية الحجاب وذلك لأنني خدمت رسول الله عشر سنوات وحتى أن أبي بن كعب المعروف بتضلعه في

التفسير ، والمشهور أنه أعلم المفسرين كان يسألني عن شأن نزول الآية . ولما نقارن بين هذه الأحاديث ، نرى أن أنس بن مالك يقول : نزلت آية الحجاب
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الأحزاب 53 :
( 2 )
صحيح البخاري 6 : 148 كتاب التفسير تفسير سورة الأحزاب ، و ج 8 : 66 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب ،
      صحيح مسلم 2 : 1050 كتاب النكاح باب ( 15 ) باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب ح 93 .
( 3 )
الدر المنثور 5 : 213 .
( 4 )
صحيح البخاري 8 : 65 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 315

على رسول الله في ليلة ابتنائه وزفافه بزينب بنت جحش ، ولا علاقة له - أصلا - باقتراح الخليفة عمر على الرسول أن يحجب نساءه ، وكذلك لا علاقة له بالقصة التي تقول عندما كان الخليفة يأكل مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأصابت يده إصبع عائشة ، أو عندما رأى سودة وهي خارجة لحاجة في إحدى الليالي .


 3 - سياق الآية : وما يشهد على صحة قول أنس بشأن نزول آية الحجاب - في ليلة ابتناء النبي بزينب وعدم ارتباطها برغبة عمر - هو سياق الآية ، حيث إن الشطر الأخير من الآية الذي يشير إلى مسألة الحجاب يتناسب مع الشطر الأول منها ،

ومجموع الآية يدل على أنها نزلت في ليلة زواج النبي ، وقد ذكرت الآية ما يتعلق بشأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وزوجاته ، وتعرضت لبيان أحكام تتعلق بالمؤمنين وتعاملهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه حيث قال تعالى :

( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) ( 1 ) .

فالملاحظ في الآية تناسب صدرها مع ذيلها حيث تذكر مسائل أخلاقية نحو الحضور في مجلس النبي وغيرها . فعلى كل حال فإن المفهوم الكلي للآية ومجموع ما في الآية يؤيد قول أنس بن مالك ورأيه .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الأحزاب : 53 . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب