( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 110

بين البخاري والإمام الصادق ( عليه السلام )

بينا سابقا في مبحث رجال الصحيحين إنهما نقلا أحاديث عن بعض الرواة الذين هم من الخوارج والنواصب ، وخاصة الذين ثبتت عداوتهم ومنابذتهم لأهل البيت ( عليهم السلام ) بنحو القطع ، واختص البخاري في النقل عن عمران بن حطان ،

وهو من زعماء الخوارج ومن فقهائهم ومتكلميهم وخطبائهم ، ونرى أن إيمان البخاري وتقواه : قد أجازا له أن يروي عن هؤلاء المعلومي الحال ولم يسمحا له من أن ينقل ولو حديثا واحدا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) .

ويتجلي لك هذا الأمر أكثر وضوحا ، ويرتفع الحجاب عن العصبية الطائفية التي كانت عند البخاري عندما تتمعن في الحقائق التاريخية والاجتماعية ، وتدرس شخصية
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 111

كل من الإمام الصادق ( عليه السلام ) والبخاري إذ :

 1 - أن عهد البخاري كان يقارب عهد الإمام الصادق ( عليه السلام ) وإنه قد توفي بعد الإمام بقرن واحد ، لأن الإمام الصادق ( عليه السلام ) توفي سنة 148 ه‍ وتوفي البخاري سنة 256 ه‍ .
 

 2 - كانت المدينة المنورة مركزا لتدريس الإمام الصادق ( عليه السلام ) وقد استوطنها البخاري مدة ست سنوات يأخذ من علمائها الحديث ، وقد تكررت رحلاته إلى مركز التشيع يومذاك - بغداد والكوفة - بحيث نسي عددها لكثرتها ( 1 ) ،

وكانت الحجاز والعراق في ذاك العصر غاصتان بأصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) بحيث يصعب إحصاءهم ، وكان صيت الإمام الصادق ( عليه السلام ) وشهرته قد فاقت أرجاء العالم الإسلامي يومذاك حتى أن علماء أهل السنة في ذاك

العهد قد سمعوا بها ، ولم يكن بوسع أحد يدعي الفقاهة والرواية أن يقول إنه لم يسمع عن مقام الإمام ( عليه السلام ) العلمي .


 3 - إن البخاري خرج أحاديث عمن أخذوا العلم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) مثل عبد الوهاب الثقفي ، حاتم بن إسماعيل ، مالك بن أنس ، ووهب بن منبه ، وهؤلاء هم من مشايخ البخاري في الحديث ( 2 ) ، ولكن البخاري أبى أن يروي تلك الأحاديث التي رواها هؤلاء المشايخ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ! !


تبرير ابن تيمية : وأما بالنسبة إلى عدم رواية البخاري الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) وقد كان معاصرا له
( عليه السلام ) ، فقد برر ابن تيمية ذلك قائلا : وقد استراب البخاري في بعض حديثه - الإمام جعفر بن محمد الصادق
( عليه السلام ) - لما بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام ( 3 ) .

ذكر ابن تيمية هذا التبرير في لفافة واكتفى فيه بكلام من يحيى بن سعيد .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) راجع ص 66 .
( 2 )
الجمع بين رجال الصحيحين راجع الترجمات رقم 264 و 757 و 1138 و 1275 .
( 3 )
منهاج السنة 7 : 534 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 112

أقول : فلو كان الإمام الصادق ( عليه السلام ) رجلا مجهولا في فضله وتقواه وعلمه ، أو أن البخاري الذي كان عليما بالرجال وتراجمهم ! فردا غير مطلع وجاهل لكان لتبرير ابن تيمية وجه ، وكنا نعذر البخاري في عمله هذا ولم نعتبره انسانا متعصبا ومتطرفا تجاه أهل البيت ( عليهم السلام ) .


ولكن الحقائق والواقع ينفيان كل هذه الاحتمالات والتبريرات ويثبتان تعصب البخاري وتطرفه الطائفي الشديد تجاه الإمام الصادق ( عليه السلام ) .


والحال أن شخصية الإمام الصادق ( عليه السلام ) لم تكن دانية وضعيفة في مرتبتها حتى تضمحل وتتهاوى بمجرد قول أحد أو جرح آخر إياه ، وتسقط قيمتها العلمية والمعنوية بأدنى كتمان .


ومن جهة أخرى إن البخاري كان ذا مهارة تامة ، واطلاع كاف ، ومتخصصا في فن الرجال ! ووضع كتابه ( التاريخ ) لمعرفة الرجال والرواة - كما قال هو : قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة ، إلا أني كرهت تطويل الكتاب - التاريخ -
( 1 ) .


وبناء على ما ذكرنا فهل يمكن أن يكون هناك سببا آخر غير عناد البخاري وعداوته للإمام الصادق ( عليه السلام ) ؟ حيث إنه لم ينقل عنه حتى حديثا واحدا .
 

وهل يمكن تفسير إعراضه عن أهل البيت ( عليهم السلام ) سوى منابذته وخصومته لهم ( عليهم السلام ) ؟ عداء عريق وظاهر ! ! يتحتم علي أن ألفت نظر القارئ المنصف إلى حقيقة أخرى غير التي ذكرناها سابقا لينكشف تعصب البخاري


ومسلم ونصبهما العداوة لآل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أكثر ويعلم أيضا أن تبرير ابن تيمية عن تصرف البخاري وموقفه تجاه أهل البيت ( عليهم السلام ) لم يكن في محله . يتضح لمن يراجع هذين الكتابين ويتمعن فيهما بدقة أن مؤلفي الصحيحين اللذين
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تاريخ بغداد 2 : 7 ، ضحى الإسلام 2 : 112 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 113

خرجا الحديث عن أكثر من ألفين وأربعمائة ( 2400 ) راو ( 1 ) ، وأن كثيرا من هؤلاء الرواة كانوا نواصب وخصماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ( 2 ) ، أو أنهم مجهولون ، فعلى هذا إن البخاري ومسلم لم ترض أنفسهما في أن يخرجا حتى


حديثا واحدا عن عترة النبي وآله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولو نقلا عنهم حديثا لا يأتيان إلا بأكاذيب وأحاديث موضوعة عليهم مما تمس العترة ( عليهم السلام ) بالسوء ، ولكي تكون هذه الأكاذيب أكثر تأثيرا وتقبلا عند أتباعهما ينسبانها إلى آل


الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ولذلك نرى البخاري ومسلم يرويان عن ستة وعشرين رجلا يسمون بالحسن ، وثلاثة وعشرين راو باسم موسى ، وتسعة وثلاثين محدثا معروفين باسم على ، ولم يكن بينهم ذكر عن اسم الإمام الحسن المجتبى


ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو إشارة إلى اسم موسى بن جعفر حفيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أو
اسما لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله ) علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) الذي كان علمه وفضله موضع إجلال وتكريم المحب والمبغض له ( 3 ) .


نعم ، إن مسلم والبخاري لم يخرجا حتى حديثا واحدا عن أحد من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، مثل : الإمام الحسن المجتبى ، والإمام موسى بن جعفر ، والإمام علي بن موسى الرضا ، والإمام محمد الجواد ، والإمام الهادي ، وخاصة الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) الذي كان معاصرا للبخاري ( 4 ) .


كذلك لم يرويا حديثا واحدا عن أحد من أبنائهم ، مثل : زيد بن علي بن الحسين الشهيد ، والحسن بن الحسن المثنى ، والعشرات من أبناء أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين كانوا رواة الحديث وأصحاب مصنفات في الحديث ( 5 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) اشترك البخاري ومسلم في التخريج عن كثير من هؤلاء وانفردا في عدد يسير منها .
( 2 )
كما مر عليك في دراسة عمران بن حطان ، وراجع ص 106 .
( 3 )
لقد صنف العلامة الشيخ العطاردي كتابا سماه ( مسند الإمام الرضا ( عليه السلام ) ) جمع فيه الروايات التي رواها الإمام علي بن موسى الرضا ، وقد طبع مكررا في مجلدين ، وله أيضا كتاب باسم مسند الإمام الكاظم ( عليه السلام ) يقع في ثلاث مجلدات طبع في ايران سنة 1409 .
( 4 )
كانت شهادة الإمام الهمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري في سنة 260 ه‍ أي أربع سنوات بعد وفاة البخاري - 256 ه‍ - .
( 5 ) جمع ما روي عن الشهيد زيد بن علي زين العابدين ( رحمه الله ) في كتاب مستقل باسم ( مسند زيد ) وطبع عدة مرات . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 114

ولكن الفريدة الوحيدة التي صدرت عن البخاري ومسلم في نقلهما الحديث عن أهل البيت ( عليهم السلام ) هي أنهما نقلا رواية مختلقة ومزيفة نسباها إلى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على أنه قال : إن أمير المؤمنين علي وفاطمة ( عليهما

السلام ) لم يكونا يستيقظان للصلاة ، وكان النبي يوقظهما ! فقال علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيئا فأجابه النبي بآية ( وكان الإنسان أكثر شئ جدلا ) ( 1 ) تقريعا لعلي .

وكذا نسبا إليه حديثا مزورا يذكر فيه قصة شرب حمزة للخمر وتعاطيه إياه ( 2 ) .


ويبدو أن البخاري ومسلم لم يجدا أحاديث نقلت عن آل الرسول ( عليهم السلام ) غير هذين الحديثين لكي يخرجاهما في صحيحيهما ، وكأنما لم ينقل عنهم أي مسألة علمية وشرعية ، إلا ما نقله البخاري ومسلم من أن أخا الرسول ( صلى الله عليه

وآله ) الإمام علي وبضعته وفلذة كبده فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) لم يستيقظا لصلاة الفجر ، وأن هارون هذه الأمة ، وأبا شبر وشبير ، وباب مدينة علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أكثر شئ جدلا ، وأن سيد الشهداء وأسد الله وأسد

الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الذي كبر الرسول على جنازته سبعين تكبيرة كان يأكل الميتة ويعاقر الخمر ويسامر الراقصات ! ! !
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الكهف : 54 .
( 2 )
صحيح البخاري 6 : 110 كتاب التفسير باب تفسير سورة الكهف . وسوف نوافيك بالبحث حول هاتين الروايتين اللتين دلسوهما على أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المجلد الثالث من كتابنا هذا . ( * )

 


 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب