( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 204

والرسل ( عليهم السلام ) .

الوحي والاجتهاد : كيفية الوحي :

يستفاد من العديد من آيات الذكر الحكيم أن بين الله عز وجل وبين رسله - الذين أكرمهم بوحيه وخطابه - اتصال ( 1 ) ، وهذا الاتصال يتم عن طرق وأساليب ثلاث ، وقد أشار القرآن إلى هذه الطرق في سورة الشورى في قوله تعالى :
(
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ( 2 ) .


 1 - القسم الأول : الإلهام ويظهر من خلال آراء المفسرين حول هذه الآية ، أن المراد بالوحي هنا - بقرينة التقسيم والمقابلة بين الأقسام - هو الإلهام والتكلم الخفي ، سواء كان في اليقظة أو الرؤيا ، من دون أن يتوسط واسطة بينه وبين النبي المرسل

، أو أنه تعالى يخلق صوتا من وراء حجاب ، بحيث إن النبي يعرف أن هذا الصوت الهام ووحي من الله عز وجل ، فيأتمر بما أوحي إليه ، كما في قصة النبي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) وذبحه إسماعيل ( عليه السلام ) ، حيث أنزل الله عز وجل عليه الوحي بصورة إلهام في رؤياه .


 2 - القسم الثاني : التكلم من وراء حجاب : والمراد منه الإيحاء والمحادثة عن طريق خلق الصوت ، وإيجاده من دون أن يرى النبي الله عز وجل ، وهو كالقسم الأول ، لأن الوحي هنا يتم من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين نبيه ، ولكن

حسب ما اعتاد عليه ذهن البشر وفكره ، يتوهم أن مشاهدة طرفي المحادثة والمكالمة بعضهما البعض حين المحادثة هي من مستلزمات المحادثة والمكالمة ، بأن يرى كل من المخاطب والمتكلم الآخر ، وهذا التقييد في الآية من وراء
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تحدثت آيات عديدة عن كيفية الوحي المنزل على الأنبياء ( عليهم السلام ) فراجعها في سور : البقرة : 97 ،
      النحل : 2 و 102 ، الشعراء : 193 - 194 ، فاطر : 1 ، النجم : 1 - 10 ، والتكوير : 19 - 21 .
( 2 )
الشورى : 51 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 205

حجاب دفع للتوهم المذكور ، ويدل على أن مشاهدة الله عز وجل ورؤيته حين المحادثة أمر مستحيل . وكان أكثر ما نزل على موسى ( عليه السلام ) هو هذا القسم من الوحي .


 3 - القسم الثالث : إرسال الرسل : وإن الله عز وجل إذا أراد أن يوحي إلى نبي من أنبيائه يرسل إليه الملائكة ليوحون إليه ثم إن الوحي إلى الأنبياء يتم أحيانا عن جميع الطرق الثلاثة ، وتارة عن بعضها .


ويمكن تقسيم الوحي باعتبار آخر إلى أن الوحي المنزل من الله عز وجل إلى نبيه الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، تارة يكون
اللفظ والمعنى كلاهما من عند الله عز وجل ، ويسمى هذا النوع بالوحي القرآني ، وأخرى يكون المعنى موحى من عند الله

عز وجل ، ولكن اللفظ من عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بأن يكون الوحي ينزل على النبي حاويا المعنى فقط والنبي
( صلى الله عليه وآله ) يصيغه بألفاظه ، ثم يبلغه إلى الناس ، وهذا القسم من الوحي يسمى وحيا غير قرآني . وأن السنة والأحاديث النبوية هي من هذا القسم من الوحي .


الوحي الغير قراني : يظهر للمتدبر في آيات القرآن أن الوحي الذي ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تارة يكون وحيا قرآنيا ، وأخرى يكون وحيا غير قرآني ، بحيث إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) يؤمر بتبليغ أمر تلقاه في رؤياه أو

يقظته من لدن العليم الحكيم . ربما أنزل الله عز وجل الوحي القرآني ليعطي الوحي الغير القرآني زخما من التأكيد والتأييد . وإليك نماذج على ما ذكرناه إليك :


 1 - قال تعالى في سورة الأنفال : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق . . . . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . . . . ) . تحتوي الآية ( 1 ) على بعض الأمور المتعلقة بغزوة بدر ، وأجمع المفسرون على أنها

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الأنفال : 5 و 7 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 206

نزلت بعد بدر ، وتؤكد مؤيدة وجود الوحي الغير قرآني الذي سبق الحرب والقتال ( 1 ) .


 2 - قال تعالى : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) ( 2 ) . أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) - في السنة السادسة من الهجرة - أن يخرج هو وأصحابه إلى مكة للحج ، وكان هذا الأمر الإلهي

نزل على الرسول بنحو الإلهام والرؤيا الصادقة ، فائتمر الرسول وشد الرحال إلى مكة ، ولكن واجه ممانعة قريش إياه ، ومن ثم انعقدت معاهدة صلح الحديبية وكانت هذه سببا لاعتراض بعض الأصحاب عليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تأييدا لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وتقريعا لهم .


 3 - قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) ( 3 ) . وهذه أيضا من الآيات التي تؤيد الوحي الغير قرآني .


سياق الآية والأحاديث المروية في سبب نزول هذه الآية وتفسيرها تؤكد بأن صلاة الجمعة كانت تقام قبل نزول هذه الآية ، ونزلت هذه الآية تعظيما وتأكيدا لأهمية صلاة الجمعة ، وتهديدا لبعض المسلمين الذين كانوا يتهاونون في الأحكام الإسلامية

وذلك لفرط لهفهم على التجارة وجمع المال ، لكي يرتدعوا عن التجارة والمعاملة ، ويتجهوا نحو الصلاة وذكر الله عز وجل . والمتيقن أنه لم تنزل آية تدل على وجوب صلاة الجمعة سوى هذه الآية ، وكان الأمر بالوجوب قبل نزول هذه الآية على صورة الوحي الغير قرآني .


هذه نماذج من الوحي القرآني وغير القرآني ويمكن أن نجد العشرات من الأحكام

 

* ( هامش ) *
( 1 ) لمزيد الاطلاع راجع التفاسير التالية : الطبري ، البغوي ، مجمع البيان ، ابن كثير ، الخازن ، وغيرهم .
( 2 )
الفتح : 27 . ( 3 ) الجمعة : 9 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 207

والتعاليم الدينية التي لم يشر إليها الوحي القرآني ، بل صدر حكمها عن طريق الوحي الغير قرآني .


هل كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يجتهد : تعتقد الشيعة بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن ليجتهد في الأحكام والتعاليم الدينية ، وإنما كان يعمل وفقا للوحي ، وإذا لم ينزل الوحي فإنه يبقى منتظرا حتى ينزل . وثمة آيات وروايات تكشف لنا هذه الحقيقة ، فإليك طرفا منها :


 1 - قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( 1 ) . تدل هذه الآية على أن كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مستند إلى الوحي الإلهي ، وتنفي عنه القول الاجتهادي والنابع من تلقاء نفسه .


 2 - قال تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي . . . ) ( 2 ) . قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية : فهذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وآله ) ما حكم إلا بالوحي ، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد ( 3 ) .


 3 - قال تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) ( 4 ) . وقال الفخر الرازي في تفسيره : إن هذا النص يدل على أنه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شئ في الأحكام ، وأنه ما كان يجتهد ، بل جميع أحكامه صادرة عن
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) النجم : 3 - 4 . ( 2 ) يونس : 15 . ( 3 ) التفسير الكبير للفخر الرازي 17 : 56 . ( 4 ) الأنعام : 50 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 208

الوحي ، ويتأكد هذا بقوله : ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( 1 ) .


 4 - قال تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ( 2 ) . قال الفخر الرازي : إعلم أنه ثبت
بما قدمنا أن قوله : ( لتحكم بين الناس بما أراك ) معناه بما أعلمك الله ، ويسمى ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقيني المبرأ

عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور . . . . وكان عمر يقول : لا يقولن أحد : قضيت بما أراني الله تعالى ، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه . وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما .

ثم يقول الفخر الرازي : إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون : هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وآله ) ما كان يحكم إلا بالوحي والنص . وإذا عرفت هذا فنقول : تفرع عليه مسألتان إحداهما أنه لما ثبت أنه ( صلى الله عليه وآله ) ما كان يحكم إلا بالنص ، ثبت أن الاجتهاد ما كان جائزا له . . . . ( 3 ) .


وهذا ما أقر به البخاري في صحيحه وأفرد له بابا خاصا وعنونه : ما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول : لا أدري ، لو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي ، ولم يقل برأي ولا بقياس لقوله تعالى : ( بما أراك الله ) ( 4 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) التفسير الكبير للفخر الرازي 12 : 231 .
( 2 )
النساء : 106 .
( 3 )
التفسير الكبير للفخر الرازي 11 : 33 .
( 4 )
صحيح البخاري 9 : 124 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يسأل . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب