( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 315

 الصلاة على المنافقين : رويت في الصحيحين موافقة أخرى من موافقات عمر وهي قصة تحريم الصلاة على المنافقين ، وذلك عندما لبى النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعوة ابن عبد الله بن أبي للصلاة على جنازة أبيه - عبد الله بن أبي رأس المنافقين في المدينة - فمنع عمر بن الخطاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 316

ذلك ، ولكن النبي أبى ولم يعتن بقوله واتجه للصلاة ، فأنزل الله آية تؤيد رأي عمر وتمنع الرسول من الصلاة على المنافقين . قال تعالى : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) ( 1 ) .


وهاك نص الحديث : عن ابن عمر قال : إن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصل عليه واستغفر له . فأعطاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قميصه ، وقال : إذا

فرغت فآذنا ، فلما فرغ آذنه . فجاء ليصلي عليه فجذبه عمر ، فقال : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ فقال
( صلى الله عليه وآله ) : أنا بين خيرتين . قال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، فصلى عليه ، فنزلت ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) ( 2 ) .


وروى عمر نفسه حديثا بهذا الشأن فيه اختلاف يسير عما نقله ابنه . عن ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما مات عبد الله بن أبي بن سلول ، دعي له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله ( صلى الله عليه

وآله ) ، وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا - اعدد عليه قوله - ؟ فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه ، قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني

زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها ، قال : فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا - إلى - وهم فاسقون ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) التوبة : 84 .
( 2 )
صحيح البخاري 2 : 96 كتاب الجنائز باب الكفن في القميص الذي يكف أولا يكف ،
      و ج 6 : 85 كتاب التفسير باب تفسير براءة ، و ج 7 : 185 كتاب اللباس باب لبس القميص ،
      صحيح مسلم 4 : 1865 كتاب فضائل الصحابة باب ( 2 ) باب من فضائل عمر ح 25
     وص 2141 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ح 3 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 317

قال : فعجبت بعد ، من جرأتي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يومئذ . والله ورسوله أعلم ( 1 ) .

يستفاد من هذين الحديثين :

 1 - إن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) صلى على جنازة عبد الله بن أبي ، فقال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنك منعت من الصلاة على المنافقين .

 2 - كان جواب النبي لقول عمر هو : إن الله قد خيرني في الاستغفار للمنافقين وإني قد اخترت الجانب الإيجابي منهما .


ولكن عندما نتمعن في الأدلة التي سوف نذكرها ينكشف لنا زيف هذا الحديث وكونه من الموضوعات والمدلسات .

 1 - منافاته للعقل : وذلك لأن قبوله يستلزم أن يكون هناك من هو أعلم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالأحكام والتعاليم السماوية ، وأدرى منه في معرفة فلسفة الأحكام الإلهية وأسرارها وأعرف بالمصالح والمفاسد المترتبة على التعاليم

الإسلامية . لأننا نشاهد في الحديث إن الله عز وجل قد أنزل آية تؤيد فكرة فرد ما غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وتفند عمل رسول الله وتنهاه وتمنعه . فعلى هذا ، ألم يكن من الأفضل أن ينزل الوحي على هذا الرجل بدلا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟


 2 - نزول الآيات كان قبل موت ابن أبي : إن سياق الآيات والشواهد النقلية صريحة في أن هذه الآية ( ولا تصل على أحد منهم ) إنما نزلت في السنة الثامنة من الهجرة والنبي في سفره إلى تبوك ولما يرجع إلى المدينة ، وقد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة ، كل ذلك ثابت
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح البخاري 2 : 121 كتاب الجنائز باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار . . . . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 318

ومسلم من طريق النقل ، فعلى هذا فليس للآية أي ارتباط وعلاقة بموت ابن أبي واقتراح الخليفة عمر في ذلك .


 3 - نص الحديث يدل على كونه موضوعا :

 1 - ورد فيه أنه لما أراد النبي أن يصلي على جنازة عبد الله بن أبي قال له عمر : أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا ؟ أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ ويدل مضمون الحديث على أن النهي عن الصلاة على المنافقين الذي ورد في ( ولا تصل على أحد منهم مات ) نزل بعد هذه القصة التي دارت بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعمر .


والسؤال الذي يطرح هنا هو : من أين عرف عمر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد نهى عن الصلاة على المنافقين حتى يذكره بها ؟ ومن أين أتى عمر بهذا النهي ؟ فقد أجاب علماء أهل السنة على هذا السؤال إجابات مختلفة ومتعددة ، فهذا القرطبي يقول : لعل ذلك وقع في خاطر عمر ، فيكون من قبيل الإلهام ( 1 ) .


 2 - أن النبي أجاب عمر : إن الله قد خيرني في ذلك بين الاستغفار وعدم الاستغفار لهم فقال : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) . . . فمن الواضح إن هذه الآية لا تدل على التخيير في الاستغفار ، بل أن الغاية في الآية هي إن الاستغفار لا يجدي

للمنافقين شيئا ، لو أن الله لن يغفر لهم أبدا ، وأن الآية تشير إلى حالة اليأس التام عند المنافقين وأن ليس للاستغفار أي أثر
في حقهم . وإن عدد السبعين ليس فيه أية دلالة على تعيين التعددية ، بل هو بيان للتأكيد والكثرة ، والمراد منه عدم جدوى

كثرة الاستغفار للمنافقين وتعدده . فكيف يتصور أن يحمل رسول الله الآية على التخيير ويقول : إن الله قد خيرني ؟ وكذا العبارات الأخيرة في الآية ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم

 

* ( هامش ) *
( 1 ) فتح الباري 8 : 268 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 319

ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ( 1 ) تشير إلى أنه ليس في الآية أي دلالة على التخيير ، وهذه العبارات نزلت لبيان فلسفة الحكم ، حيث إن المنافقين كانوا كافرين وفاسقين وإن الله لا يهدي الفاسقين الكافرين إلى الفلاح ، فعلى هذا إن التعليل والبيان يناسب عدم تأثير الاستغفار بحق المنافقين ، ولا مناسبة بينها وبين التخيير .


آراء علماء العامة في الحديث : عندما واجه علماء أهل السنة هذه الإشكالات الواردة حول الحديث الذي رواه الصحيحان تنبه بعضهم فأبدى عدم قبوله ورده .

قال القاضي أبو بكر الباقلاني منكرا لصحة الحديث : لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله ، أي فهم منه التخيير
( 2 )
.

وقال إمام الحرمين في البرهان ، لا يصححه - الحديث المذكور - أهل الحديث ( 3 ) .

وقال الغزالي : الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح ( 4 ) .

وقال الداودي : هذا الحديث غير محفوظ ( 5 ) .

هذه هي الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما - اللذين يعتبران أهم مصدر ومرجع عند أهل السنة بعد القرآن - حول الأنبياء ( عليهم السلام ) عامة ، وحول نبينا ( صلى الله عليه وآله ) خاصة .

ومن خلال مراجعة هذه المسائل يمكن للباحث المحقق أن يعرف حقيقة إيمان تابعي الصحيحين وعقيدتهم في الأنبياء ( عليهم السلام ) وبالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ومسألة النبوة .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) التوبة : 80 . ( 2 - 4 ) فتح الباري 8 : 272 . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب