(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 242 |
النبي بعد البعثة
1 - شكه وترديده في
نبوته : قصة بدء الوحي حدث ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم
المؤمنين أنها قالت : أول ما بدأ به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الوحي
، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق
الصبح ، ثم حبب
إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد ليالي عديدة ، قبل أن
ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها ، حتى جاءه الحق
، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : ما أنا
بقارئ ، فأخذني
فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ،
فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما
أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني ، فقال : (
اقرأ باسم ربك الذي
خلق خلق الإنسان من علق اقرء وربك الأكرم ) ( 1 )
. . . . فرجع بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرجف فؤاده ، فدخل على
خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فحدث خديجة
بذلك وأخبرها الخبر
، وقال : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ،
إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب
الحق . فانطلقت به خديجة ، حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى
بن عم خديجة ، وكان امرءا تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ،
فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي .
فقالت له خديجة : يا بن عم ! اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي
ماذا ،
|
* ( هامش ) *
( 1 )
العلق : 1 - 3 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 243 |
ترى ؟ فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما
رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ،
يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) : أو مخرجي هم ؟
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي
، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي
( 1 ) .
في هذا الحديث الذي أخرجه الصحيحان فإن جملة ( وإني خفت
على نفسي ) مبهمة ومجملة ، ومتعلق الخوف فيها محذوف
وأما ابن سعد أخرج هذه القصة في حديثين بشكل واضح
وصريح ، وذكر متعلق الخوف فيه أيضا وقال : وإني خشيت أن أكون كاهنا وإني أخشى
أن يكون في جنن ( 2 ) .
ونقلها الطبري كذلك في تاريخه عن عبد الله بن زبير
قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ولم يكن من خلق الله أبغض إلي من
شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما . قلت : إن الأبعد يعني نفسه لشاعر
أو مجنون لا تحدث بها
عني قريش أبدا لأعمدن إلى حالق من الجبل ، فلأطرحن
نفسي منه ، فلأقتلها ولأستريحن ، قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط
الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) ( 3 ) .
ويظهر من تصريح ابن سعد والطبري وما ورد في صدر
الحديث الذي أخرجه
|
* ( هامش ) *
( 1 )
صحيح البخاري 1 : 3 باب كيف كان بدء الوحي ، و ج
4 : 141 كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين ،
و ج 6 : 214 كتاب التفسير باب تفسير ( اقرأ باسم
ربك الذي خلق )
و ج 9 : 37 كتاب التعبير باب التعبير وأول ما بدئ
به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ،
صحيح مسلم 1 : 139 كتاب
الإيمان باب ( 73 ) باب بدء الوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ح 252
.
( 2 )
الطبقات الكبرى 1 : 194 - 150 ذكر نزول الوحي على رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) .
( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 301 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 244 |
البخاري وذيله تأييد للمعنى المراد من إنه خشى على
نفسه من التكهن والشعر والجنون . معايب القصة : وإن كان المؤرخون قد نقلوا هذه
الأسطورة ولكن أكثر العتب والمؤاخذة ترد على البخاري ومسلم - اللذان أخرجا هذا
الحديث في صحيحيهما معتقدين بصحته - .
ويستفاد من هذا الحديث :
أولا : إن
النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان شاكا ومترددا في نبوته حتى بعد نزول الوحي
والقرآن عليه ، وهبوط جبرئيل إليه ، وكان يخيل إليه أن الجن قد حل فيه .
وهؤلاء المخرجون للحديث أرادوا بذلك تثبيت ما كان
عرب الجاهلية يعتقدونه بعد نزول الوحي من أن النبي ( صلى الله عليه
وآله ) كاهن أو شاعر ، - مع أنه كان يكره الكهان والشعراء والجنون - وحاول
الانتحار بأن يطرح نفسه من جبل شاهق
ليريح نفسه ، ولكن خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل
ساعداه حتى أذهبا عنه ما كان فيه من الخوف والروع ، وذكروه بأن هذه المسألة لا
علاقة لها بالأجنة بل هي وحي ونبوة . فعلى هذا ، كيف يعقل أن النبي ( صلى الله
عليه وآله ) لا يعلم أنه
نبي ورسول حتى بعد نزول الوحي عليه ، في حين أن
الكهنة والرهبان كانوا على علم برسالته منذ أمد بعيد . وهل يعقل أن يبعث الله
نبيا وليس للرسول خبر عن هذه الرسالة الملقاة على عاتقه ؟ حتى أنه لا يستطيع أن
يميز بين الوحي الإلهي
والوساوس الشيطانية ؟ بينما نقرأ في القرآن بأن
النبي عيسى ( عليه السلام ) أعلن بكل صراحة عن نبوته ، وهو ما زال في المهد :
( آتاني الكتاب وجعلني
نبيا ) ( 1 ) .
ونقرأ أيضا عن النبي موسى ( عليه السلام ) أنه علم بنبوته في بداية نزول الوحي
عليه وأعد نفسه للدعوة الإلهية وقال :
( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري
) ( 2 ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 )
مريم : 30 . ( 2 )
طه : 25 - 26 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 245 |
وأما بالنسبة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله )
الذي خشي على نفسه ، ولم يدر شيئا عما حدث له حتى أخبرته زوجته
خديجة وورقة بن نوفل فاطمئن بقولهما ، فزال عنه ما تداخله من الرعب والخوف ،
فما كانت نوعية الرسالة والنبوة التي أعطيت إليه وبعث بها ؟
وبناء على هذا ولا يخفى فإن هذه المرأة - خديجة -
وهذا النصراني - ورقة - كانا أنسب وأليق من رسول الله في التصدي لأمر النبوة
والرسالة وحسب ما تتضمنه الرواية من المعنى أن خديجة وورقة كانا أقدم إيمانا
واعتناقا للإسلام من رسول الله
2 - أن جواب الرسول لجبرئيل الأمين لما قال
له : ( اقرأ ) فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما أنا بقارئ ) . يفهم
منه أن النبي لم يعلم ولم يفهم مقصود جبرئيل . لأن جبرئيل كان يقصد من قوله : (
اقرأ ) أي رتل وكرر ما أتلوه عليك ،
ولكن النبي فهم عكس هذا القول وإن مقصود جبرئيل هو
أن يقرأ ما كان مكتوبا على اللوح ، وعلم الرسول ما قصده الملك في المرة الثالثة
لما كرر جبرئيل قوله وأنهى ما كان فيه النبي من المعضل والترديد .
ولكن يتبادر سؤال : هل أن جبرئيل كان ضعيف البيان
والأداء ، بحيث لا يستطيع أن يؤدي الرسالة حق الأداء ؟ أم أن الرسول كان قاصر
الفهم ولم يعلم المقصود ؟ ( 1 )
3 - ورد في الحديث إن الملك المنزل بالوحي
أخذ النبي ثلاث مرات يهزه بشدة حتى أحس الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالوجع ،
وهذه الأخذة والهزة كما أشار إليها القسطلاني لم يفعل بأحد من الأنبياء ( عليهم
السلام ) ولم ينقل عن أحدهم إنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله
( 2 ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 ) هذا
الإشكال والسؤال المتبادر إلى الذهن هو مما يستخرج ويستفاد من مضمون الأحاديث
المروية عند أهل السنة بما يمت
إلى موضوع بدء الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأما الشيعة
فتعتقد بأن المراد من الأمر بالقراءة عند نزول
جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في
غار حراء هو بداية النبوة والبعثة وهذا الأمر هو انطلاقة نزول الوحي عليه وليس
القراءة اللفظية كما يقال .
( 2 ) إرشاد الساري 1 : 63 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 246 |
إذن فما تعني هذه الأخذة الشديدة بالنسبة إلى
النبي ( صلى الله عليه وآله ) خاصة من بين الأنبياء ؟
وهل العقل يعتبر هذا
الرعب والخوف الذي أوجده جبرئيل ( عليه السلام ) عند النبي ( صلى الله عليه
وآله ) في مقابل عمل لم يطقه النبي عملا صحيحا ؟
وهل إن جبرئيل ( عليه السلام )
بفعله هذا أراد أن يظهر عضلاته للنبي ؟
وهل كان النبي ( صلى الله عليه وآله )
فاقدا لتلك القوة التي كانت عند موسى لما لطم عزرائيل فأعماه وفقأ عينه
( 1 )
كما قرأته آنفا ؟ .
هذا ما نقله الصحيحان في موضوع بدء الوحي ، وهو ك ( شق
الصدر ) وقد أثبته المفسرون والمؤرخون والمحدثون في كتبهم في تفسير سورة العلق
( 2 ) من دون أن يبدوا أي نقد وتحليل ، حتى تسرب ذلك إلى بعض كتب الشيعة
( 3 )
.
والوحيد من بين المفسرين الذين ردوا هذا الحديث وانتقدوه نقدا علميا هو
العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان ( 4 ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 ) راجع ص . 22 .
( 2 ) راجع تفاسير
العامة ، مثل : تفسير ابن كثير ،
الدر المنثور ، الطبري ،
الخازن ، محاسن
التأويل ، روح المعاني ، والمراغي
وغيرهم في تفسير سورة العلق .
( 3 ) مثل :
تفسير منهج الصادقين للكاشاني .
( 4 ) الميزان في تفسير القرآن 20 : تفسير سورة
العلق . ( * ) |
|
|