( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 84

ونستطرد هنا طرفا من آراء ونظريات أولئك العلماء والحفاظ :

رأي الذهلي في الصحيحين : قال ابن خلكان : محمد بن يحيى المعروف بالذهلي من أكابر العلماء والحفاظ وأشهرهم ، وهو أستاذ وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ( 1 ) .

قال أحمد بن حنبل لابنه وأصحابه : اذهبوا إلى أبي عبد الله - الذهلي - واكتبوا عنه ( 2 ) .

وقال الخطيب البغدادي : كان يرى الذهلي وأكثر المتكلمين في كلام الله أنه قديم ، وقد قالوا بكفر وارتداد مخالفيهم الذين يرون بأن كلام الله حديث .

وقالوا : ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر ، وخرج عن الإيمان ، وبانت عنه امرأته ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا بين المسلمين ، ولم يدفن في قبور المسلمين ، ومن وقف وقال : لا أقول مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن زعم أن لفظ القرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم . وأضاف الخطيب قائلا :
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) وفيات الأعيان لابن خلكان 4 : 282 ترجمة الذهلي . قال الكلاباذي الأصبهاني في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين في ترجمة الذهلي : روى عنه البخاري في الصوم والطب والجنائز والعتق وغير موضع في ما يقرب من ثلاثين موضعا ولم يقل : حدثنا محمد بن

يحيى الذهلي - مصرحا - بل يقول : حدثنا محمد ، ولا يزيد عليه ، ويقول محمد بن عبد الله - ينسبه إلى جده - وقال : حدثنا محمد بن خالد ، ينسبه إلى جد أبيه ، والسبب في ذلك إن البخاري لما دخل نيسابور شغب عليه محمد بن يحيى الذهلي في مسألة خلق اللفظ وكان قد سمع

منه فلم يترك الرواية عنه ولم يصرح باسمه . راجع الجمع بين رجال الصحيحين 2 : 465 ترجمة رقم 1787 .

( 2 ) تاريخ بغداد 3 : 416 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 84

وكان البخاري خلافا لأكثر متكلمي عصره يقول بأن لفظ القرآن مخلوق ، ولما ورد مدينة نيسابور أفتى الذهلي - الذي تقلد منصب الأفتاء والإمامة بنيسابور - قائلا : ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه ( 1 ) .


وكان البخاري في نظر الذهلي وأكثر علماء نيسابور في ذلك العصر مطرودا ومضلا منحرفا في العقيدة ، ووصل الانزجار والنفور منه إلى حد لم يمكنه البقاء في نيسابور فرحل عنها ، وقال بعض : إنهم أبعدوه عن نيسابور ، وتفرق عنه كل تلامذته

وأصحابه عدا مسلم وأحمد بن مسلمة . وفروا منه كفرارهم من النار كيلا يمسهم لهيب الانزجار العام وغضب الناس كما أصاب البخاري . ذكر أصحاب التراجم هذه القصة على أنها من أسوأ المصائب والآلام التي حلت بالبخاري .


ويمكن أن نستنتج من هذه الواقعة التاريخية ، أن صحيح البخاري وكذلك صحيح صاحبه الأوحد مسلم بن حجاج النيسابوري قد وقعا معرض النقد والإبرام والذم ما لا يوصف من قبل العلماء والحفاظ مثل الذهلي . وإن هذين الكتابين اللذين عرفا واشتهرا اليوم باسم الصحيحين ويعدان مرجعا للتعاليم الدينية عند أهل السنة ، قد كان مؤلفاهما
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) ذهب أحمد بن حنبل إلى تكفير من يقول بخلق القرآن فقال : والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأول ، ومن زعم أن تلفظنا بالقرآن وتلاوتنا

له مخلوق والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفر هؤلاء القوم والقائلين بخلق القرآن وكلام الله فهو مثلهم - كافر - . وقال أيضا : من قال : القرآن مخلوق ، فهو عندنا كافر ، ولا يصلى خلفه . . . ولو تمعنت - أيها القارئ - في هذه الفتاوى الصريحة الواضحة التي مرت

عليك آنفا وعرفت السبب في مواجهة البخاري للمحن والمشاكل . فيمكنك عندئذ أن تشكل القضية المنطقية من الصغرى والكبرى ومن ثم تحصل على النتيجة فتأمل فيها جيدا . راجع كتاب السنة لأحمد بن حنبل : 3 - 53 . . . المعرب . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 85

آنذاك محل انزجار واتهام المسلمين إياهما بالكفر والزندقة . قال الخطيب البغدادي : قال محمد بن يحيى : كتب إلينا من بغداد أن محمد بن إسماعيل يقول : بأن لفظ القرآن ليس قديم ، وقد استتبناه في هذه ولم ينته : فلا يحق لأحد أن يحضر مجلسه بعد مجلسنا هذا ( 1 ) .


مسلم يرفض : لم يذهب الذهلي بفساد عقيدة البخاري فحسب ، بل كان يرى انحراف صاحبه مسلم بن حجاج - صاحب الصحيح - عن العقيدة السليمة ، ولذا طرده عن مجلسه وحرم على الناس حضور مجلسه ( 2 ) .

قال ابن خلكان : كان مسلم على أثر اعتقاده هذا مرفوضا ومنفورا في الحجاز والعراق ( 3 ) .

يظهر من هاتين القصتين أن البخاري ومسلم كانا محل رفض وطرد من قبل أهل نيسابور وعلماء بغداد وأهلها لاعتقادهما في القرآن بأنه مخلوق ، وكان هذا سببا لطردهما من نيسابور .


موقف أبي زرعة من الصحيحين : يعد أبو زرعة من حفاظ الحديث وعلم من أعلام علم الرجال والعلوم الأخرى ، قال الفاضل النووي فيه : انتهى الحفظ - حفظ الحديث - إلى أربعة من أهل خراسان : أبو زرعة و . . . ( 4 )
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تاريخ بغداد 2 : 31 ، إرشاد الساري 1 : 38 ، هدى الساري مقدمة فتح الباري : 491 ، استقصاء الأفحام : 978 .
( 2 )
دائرة معارف القرن العشرين 5 : 292 مادة سلم ، تذكرة الحفاظ 2 : 589 ترجمة مسلم بن الحجاج رقم 613 .
( 3 )
وفيات الأعيان 2 : 281 .
( 4 )
تهذيب الأسماء واللغات 1 : 68 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 86

كان أبو زرعة بمكانته العلمية هذه ينتقد مسلم ونظائره واعتبرهم متظاهرين بالحديث ومتاجرين به ، وكان يقول بأن بعض أحاديث صحيح مسلم ليس بصحيح .


وقال الخطيب عن سعيد بن عمرو قال : شهدت أبا زرعة الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج ثم المصوغ على مثاله - صحيح البخاري ، فقال لي أبو زرعة : هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتشوفون به ، ألفوا كتابا

م يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها . وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر ، فقال أبو زرعة : ما أبعد هذا من الصحيح يدخل في كتابه أسباط بن نصر ، ثم رأى في كتابه قطن بن نصير فقال لي : وهذا أطم من الأول ( 1 ) .


وذكر الذهبي قصة أبي زرعة ولكنه أتى بكلمة يتسوقون - يتاجرون - بدلا عن كلمة يتشوفون - يتظاهرون ( 2 ) - .  .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تاريخ بغداد 4 : 273 .
( 2 )
ميزان الاعتدال 1 : 126 ، ترجمة أحمد بن عيسى المصري التستري رقم 507 .  ( * )

 


 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب