المغالاة في
الصحيحين
(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 75 |
المغالاة في الصحيحين : قال
علماء العامة في الصحيحين وفي تصحيحهم وتوثيقهم لجميع أحاديثهما وتعديل
مؤلفيهما من المدائح والإطراء كثيرا ، وأطنبوا في ذلك حتى بلغ بهم مبلغ الغلو
والإفراط فيهما ، وكان نصيب البخاري من هذه المدائح والإطراءات أكثر من مسلم .
فتارة تراهم يبعثون سلام وتحية النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى البخاري وتارة
أخرى يقصون الرؤى والأحلام في شأن صحيحه وينسبون إليه وإلى مسلم وصحيحيهما شتى
الكرامات الفاضلة حتى أن بلغ الأمر بهم أن قالوا : إن رسول الله أيد صحة
كتابيهما وأمضاهما .
ولكن الواقع أن هذه المنسوبات والكرامات ، المدائح والإطراءات والمغالاة بحقهما
لا تتوافق مع متن الصحيحين وأسلوب مؤلفيهما فيهما ، كما سيتضح لك هذا الأمر
خلال هذا البحث بالتفصيل .
فقبل أن نقوم بالتحقيق في الكتابين نورد بعض هذه الأقوال والمدائح التي قيلت
بشأنهما كنماذج وأمثلة : قال الچلبي : أما الكتب المصنفة في علم الحديث فأكثر
من أن تحصى ، إلا أن السلف والخلف قد أطبقوا على أن أصح الكتب بعد كتاب الله
سبحانه وتعالى صحيح البخاري ، ثم صحيح مسلم ( 2 )
.
قال محمد بن يوسف الشافعي : أول من صنف في الصحيح ، البخاري أبو عبد الله محمد
بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ، ومسلم مع أنه أخذ عن
|
* ( هامش ) *
( 2 )
كشف الظنون 1 : 641 باب علم الحديث . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 76 |
البخاري واستفاد منه ، فإنه يشارك البخاري في كثير
من شيوخه ، وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ( 1 ) .
قال الذهبي :
وأما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله عز وجل
( 2 )
.
وكذلك قال الچلبي عن صحيح مسلم : جامع مسلم الصحيح من حيث الصحة هو ثاني كتاب
وهو أحد الكتابين اللذين ليس أصح منهما شئ بعد كتاب الله ( 3 ) .
قال أبو علي
النيشابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ( 4 ) .
يقول الفاضل النووي
في تقريبه : إن أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان : البخاري ومسلم ، وكتاب البخاري
أصحهما وأكثرهما فوائد ، وإن رجح البعض تقديم صحيح مسلم عليه ، ولكن الصواب
والمختار هو الذي ذكرناه ( 5 ) .
وقال في مقدمة شرحه على صحيح مسلم : اتفق
العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان : البخاري ومسلم ،
وتلقتهما الأمة بالقبول ( 6 ) .
قال القسطلاني : قد اتفقت الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول ، واختلفت في
أيهما أرجح ، فصرح البعض بتقديم صحيح البخاري ، وصرح آخرون بتقديم صحيح
|
* ( هامش ) *
( 1 )
هدى الساري : 8 .
( 2 ) إرشاد
الساري 1 : 29 .
( 3 ) كشف الظنون 1 : 641 باب علم الحديث .
( 4 ) وفيات
الأعيان 4 : 208 ، تذكرة الحفاظ 2 : 589 ،
كشف الظنون 1 : 642 .
( 5 ) التقريب
للنووي : 3 . هذا الكتاب هو من أفضل وأقدم ما كتب في علم أصول الحديث ، وقام
جلال الدين السيوطي بشرحه وأسماه تدريب الراوي ويعتبران معا من المراجع المهمة
في علم الحديث .
( 6 ) شرح صحيح مسلم 1 : 14 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 77 |
مسلم ( 1 ) .
يقول ابن حجر المكي : الصحيحان هما
أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ( 2 ) .
قال إمام الحرمين : لو حلف
إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته - هي مطابقة
مع الواقع - وهي مما حكاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان حلفه صحيحا ولا
كفارة عليه ، لأن الأمة أجمعت على صحة أحاديثهما ( 3 ) .
مغالاة أكثر : لم يقنع
علماء أهل السنة في تعريفهم وتمجيدهم للصحيحين وتصحيح وتوثيق كل ما ورد فيهما
من الروايات فحسب ، بل إنهم زادوا الطين بلة حينما سلكوا سبيل الغلو والإفراط
في هذا المجال ، حتى ادعى أحدهم أنه رأى رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) في
منامه وقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن صحيح البخاري هو كتابي .
وينقل عن
الشيخ محمد بن عبد الرحمن شارح مختصر الخليل أنه قال : كنت مع شيخي الشيخ عبد
المعطي التنوسي
( التونسي ) في زيارة لمرقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
إذ شاهدت شيخي خلافا لما اعتاده يمشي خطوة إلى الأمام
ثم يتوقف هنيئة ، ويكرر
ذلك حتى وصل إلى قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ووقف أمام القبر وتكلم
بكلام لم أفهم ما قاله . وعندما رجعنا سألته عن قضية المشي والمكث والمحادثة
الغير معتادة قال : كنت أستأذن رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) بالدخول والزيارة حتى أذن ، فلما دنوت منه قلت : يا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهل كل ما ورد في صحيح البخاري صحيح ؟ قال
: نعم . قلت : أحدث عنك كل ما ورد فيه من الأحاديث ؟ قال : نعم ، حدث عني .
|
* ( هامش ) *
( 1 )
إرشاد الساري 1 :
20 .
( 2 ) الصواعق المحرقة : 9 ، وجاء في تطهير الجنان المطبوع بهامش الصواعق
: 20 ذكر البخاري فقط .
( 3 ) شرح النووي على صحيح مسلم 1 : 19 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 78 |
ونقلت هذه القصة في كتب أخرى على نحو آخر : أن
الشيخ التنوسي لما زار قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) سأل رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) : هل ما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم من الحديث صحيح ويجوز
لي أن أحدث ذلك عنك ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : نعم ، إنهما
جميعا صحيحان وحدث عني ما ورد فيهما ( 1 ) .
نقل عن أبي زيد المروزي أنه قال :
كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ،
فقال لي : يا أبا زيد ، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟ فقلت : يا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وما كتابك ؟ قال : جامع محمد بن إسماعيل
البخاري ( 2 ) .
قال محمد فريد وجدي : وغلا بعضهم فرأى أن يستأجر رجالا يقرأون
الأحاديث النبوية في كتاب الإمام البخاري استجلابا للبركات السماوية - تماما
كالقرآن - ( 3 ) .
قال القاسمي في قواعد التحديث : صحيح البخاري عدل القرآن ،
إذ لو قرئ هذا الكتاب بدار في زمن شاع فيه الوباء والطاعون لكان أهله في مأمن
من المرض ، ولو اختتم أحد هذا الكتاب لنال ما نواه ، ومن قرأه في واقعة أو
مصيبة لم
يخرج حتى ينجو منها ، ولو حمله أحد معه في سفر البحر لنجا هو والمركب
من الغرق ( 4 ) .
ما قيل من الرؤى والكرامات : يقال : إن البخاري ذهبت عيناه في
صغره ، فرأت والدته إبراهيم الخليل ( عليه السلام )
في المنام ، فبشرها بصحة
ابنها ، فقال لها : يا هذه قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له ، فأصبح
وقد رد الله عليه بصره ( 5 ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 ) الدر الثمين في مبشرات النبي
الأمين : الحديث الثالث والثلاثون . استقصاء الأفحام 2 : 868 .
( 2 ) هدى
الساري : 490 ، إرشاد الساري 1 : 29 .
( 3 ) دائرة معارف القرن العشرين 3 : 482
.
( 4 ) قواعد التحديث : 250 .
( 5 ) هدى الساري : 478 ، إرشاد الساري 1 : 31 ،
تاريخ بغداد 2 : 10 . ( * ) |
|
|