(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 295
|
أسباب جعل هذه الأحاديث وهكذا فرغنا من سرد مجموعة كبيرة من
آيات القرآن الكريم والروايات التي تفند وتدحض الأحاديث المدسوسة في كتب أهل
السنة والتي تكيل الأكاذيب والافتراءات التي لفقت على النبي ( صلى الله عليه
وآله ) .
والآن نقف معا على معرفة الدواعي والأسباب لجعل هذه الأحاديث
والأكاذيب حتى ينكشف الغل والغش أكثر وضوحا ، ويتعرف القارئ على أحاديث أهل
السنة المترامية في كتبهم ، حسب ما تسمح لنا ظروف كتابنا . ونذكر من بين جميع
العلل والأسباب والدواعي ثلاثة منها فقط :
1 - تبرير الفساد الخلقي في البلاط الخليفي :
عندما يدرس الواحد منا التاريخ دراسة متقنة ودقيقة ، يعرف أن الحكومات التي
تسلطت على رقاب المسلمين وخاصة منذ خلافة عثمان كانت تعيش فسادا أخلاقيا
وانهيارا دينيا كبيرا ، وأن الزمرة التي
تشكل منهم بلاط الحكم وتقلدوا أكثر المناصب وإمارة الولايات
هم في الغالب من المنتسبين لعثمان الخليفة ، الذين لم يتورعوا من الولوج في أي
عمل فاسد ومخالف لأصول الدين والأخلاق . وما كانوا يمتنعون من ذلك حتى طغت
عليهم الملاهي بشكل
ملحوظ ، من معاقرة الخمور وتعاطيها وسهرات الطرب والغناء بحيث
شاع الالتهاء بالطرب والغناء في أكثر البلاد الإسلامية خاصة مكة والمدينة
اللتان تعتبران أهم مدن الإسلام ، ومنهما انتقلت إلى سائر المدن الأخرى . ولما
كانت الطغمة الحاكمة وبلاط الخلافة تحكم باسم الدين والشريعة ، وترى
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 296
|
نفسها ممثلا ونائبا عن المتقلد خلافة رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) ، وحيث كانت تتظاهر بتلك الأمور وهم خلف الستار ملتهون بالعيش
المرفه ويستمتعون بالبذخ ومجالس الإنس والطرب وحفلات معاقرة الخمور والتشدق بها
، فلذلك رأت أن
تتذرع بخلق أخبار مفتراة وأحاديث مختلقة وينسبونها إلى رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) تحجيما لمقامه وتصغيرا لشأنه حتى تبرر أعمالها
وجرائمها التي كانت تمارسها . وهكذا خدشوا شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله )
وطعنوا فيها
وأنزلوها إلى أدنى مرتبة لكي تسنح لهم الأمور ، ويتقبلهم
المسلمون من دون خلاف . فعلى هذا فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يشترك
في الحفلات النسائية ويسمع الغناء ، بل ويشجع الجواري على ذلك ، أو أنه يدعو
زوجته الشابة لمشاهدة
حفلات رقص الرجال ، أو يحضر هو وأصحابه الأعراس وتقوم العروس
بنفسها بخدمته واستقباله و . . . . فما المانع من
أن يشترك خلفاؤه وممثلو الخليفة في مجالس الأنس والطرب الليلية وينصتوا إلى
أصوات المغنيات ؟
وهذه الأمور التي نسبوها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله )
تفتح باب الفساد الخلقي والتكييف بالأهواء لهؤلاء الهواة على مصراعيه ، وذلك مع
حرصهم على التصدي للزعامة وزمام المسلمين . فهذه المفتريات على النبي تسد أفواه
الرجال الذين يشجبون هذه المناكير ويحتجون على فاعلها لأن بزعمهم الرسول كان
كذلك - حاشاه ( صلى الله عليه وآله ) - .
صور من مناكير بلاط الخليفة : بالرغم من
المحاولات التي قام بها المحدثون والمؤرخون لإخفاء مساوئ أصحاب رسول الله
ومخازيهم ، ويستروا معايب الخلفاء والأمراء ، ويعتموا على نقاط ضعفهم ، فإن بعض
الهفوات والنقاط التي تحكي هذه المخازي قد تسربت منهم ووصلت إلينا .
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 297
|
ونستعرض لك - أيها القارئ النبيه - نماذجا وصورا مما نقلته
كتب الحديث والتاريخ ، والتي تعطيك لمحة واضحة وصورة كاشفة عن الأوضاع السائدة
في عهد ذي النورين عثمان ومعاوية .
1 - ظهر في عهد عثمان ومعاوية عشرات
المغنين والمطربين ، كابن سيحان ، طويس ، ابن عائشة ، ذي الأصبع ، وسائب خاثر و
. . . و . . . ويمكنك أن تعبر عنهم بمغنيي ومطربي البلاط الخليفي ، إذ أنهم
كانوا مخصوصين بالبلاط أو بذات الخليفة ( 1 ) .
2 - قال أبو الفرج الاصفهاني في ترجمة ابن
سيحان المطرب المعروف : وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه
وكان مع بني أمية كواحد منهم ، إلا أن اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة
كان أكثر ، الوليد بن عثمان ابن الخليفة ومؤانسته إياه أكثر من سائرهم لأنهما
كانا يتنادمان على الشراب .
وقال : كان الوليد بن عثمان يشرب مع الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وابن سيحان ،
وكان يخمر ، فأصابه من ذلك شئ شديد حتى خيف عليه ، وشق النساء عليه الجيوب ،
فدعي له ابن سيحان ، فلما رآه قال : اخرجن عني وعن أخي ، فخرجن فقال له :
الصبوح يا أبا عبد الله - أي حان وقت شراب الصبح - . فجلس مفيقا . فذلك حيث
يقول ابن سيحان : بأبي الوليد وأم نفسي كلما * بدت النجوم ودر قرن الشارق
( 2 )
3 - روى أبو الفرج أيضا قصة مجالسة معاوية
مع ابنه يزيد وسائب خاثر المغني المعروف بالمدينة ثم أوصى ابنه يزيد أن يكثر
بره وصلته لسائب خاثر ، ولا تفوته مجالسته ، وهكذا روى : بأن أشرف معاوية على
منزل يزيد ابنه فسمع صوتا أعجبه ، واستخفه السماع فاستمع قائما حتى مل ، ثم دعا
بكرسي فجلس عليه واشتهى الزيادة
|
* ( هامش ) *
( 1 ) راجع
ترجمتهم في موسوعة الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
الأجزاء 1 و 2 و 3 .
( 2 ) الأغاني 2 : 243 و 244 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 298
|
فاستمع بقية ليلته حتى مل ، فلما أصبح غدا عليه يزيد فقال له
: يا بني من كان جليسك البارحة ؟ قال : سائب خاثر . قال : فاخثر له يا بني من
برك وصلتك فما رأيت بمجالسته بأسا ( 1 ) .
4 - ويروي كذلك عن ابن الكلبي يقول : قدم
معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم ، فأمر حاجبه بالأذن للناس . فخرج الآذن ثم
رجع فقال : ما بالباب أحد . فقال معاوية : وأين الناس ؟ قال : عند أبي جعفر ،
فدعا ببغلته فركبها ثم توجه إليهم ، فلما جلس فغنى سائب خاثر فسمع منه معاوية
وطرب ، وأصغى له حتى سكت وهو مستحسن لذلك ( 2 ) .
5 - أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد
الله بن بريدة قال : دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ، ثم أتينا
بالطعام فأكلنا ، ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ثم قال : ما
شربته منذ حرمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 3 )
.
6 - روى المسعودي في تاريخه : وغلب على أصحاب
يزيد بن معاوية وعماله ما كان يفعله من الفسوق ، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة
والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب ( 4 )
.
7 - روى أحمد بن حنبل : أن الوليد بن عقبة
- والي عثمان على الكوفة وأخوه من أمه - كان معاقرا ومدمنا للشراب ، ومولعا
بالزنا ومشهورا بذلك ، فشرب الخمر ليلة ودخل المسجد ليؤم الناس لصلاة الصبح ،
فصلى بهم أربعا ثم التفت إلى المأمومين فقال : هلا أزيدكم ؟ حتى إنه كان في
الصلاة - الكذائية - فأنشد أبياتا عشقية قال : علق القلب الربابا * بعد ما شابت
وشابا
|
* ( هامش ) *
( 1 و 2 )
الأغاني 8 : 324 .
( 3 ) مسند أحمد بن حنبل 5 : 347 .
( 4 ) مروج الذهب 3 : 77 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 299
|
ومن ثم تقيأ في محرابه ، فوصل خبره هذا إلى أخيه الخليفة
عثمان في مركز الخلافة الإسلامية ، فأمر أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب
أن يجري عليه الحد ، بمحضر من أخيه الخليفة عثمان . فلما تولى سعيد بن العاص
إمارة الكوفة من بعده أبى سعيد أن يصعد المنبر إلا أن يغسل ويطهر ، لأنه قد
صعده الوليد الفاسق والنجس ( 1 ) .
نعم ، فما دام ابن الخليفة - الوليد بن عثمان - يروم السهرات معاقرا الشراب
والطرب ، أو أخ الخليفة - الوليد بن عقبة - وواليه على الكوفة يؤم الناس في
صلاة الصبح وهو سكران وأن الخليفة ذاته - معاوية - في مركز الدولة الإسلامية
ومهبط
الوحي وعند المسجد النبوي يحضر مجالس السمر والطرب ، ويصغي
إلى صوت المغني ويطرب به ، و يشرب الشراب على مائدته ويدعو ضيفه إلى أخذ نخب من
الخمر وما دام هذا هو دأب الخلفاء وبلاطهم وذويهم ، حيث يأتون بالمنكرات
على مرأى من الناس فلا سبيل إلى توجيه وتبرير هذه المخازي -
وتلطيف الرأي العام لقبول هذه المساوئ - إلا لبس الفرو مقلوبا واتهام الرسول (
صلى الله عليه وآله ) والافتراء عليه بمثل ما هم يعملون حتى يتلقى الناس فعلهم
بالمشروعية ،
وإليك - أيها القارئ -
بعض المفتريات على النبي ( صلى الله
عليه وآله ) لكي يبرروا معاقرتهم للخمر : إهداء الشراب إلى النبي ( صلى
الله عليه وآله ) : عند ما كنت أقوم بدراسة المفتريات التي حيكت ضد النبي ( صلى
الله عليه وآله ) تأملت في السياسة التي اتخذها
الخلفاء ، ومن ناحية أخرى كنت أفكر في السبب لتفشي الخمر
ومعاقرته وشربه بين الزمرة الحاكمة آنذاك ، فبدرت إلي فكرة لا بد أنهم أباحوا
كل ذلك بعد أن اختلقوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المجال كما
هو دأبهم - في جعل الحديث - حديثا ينسبون إليه شرب الخمر ! !
|
* ( هامش ) *
( 1 )
مسند أحمد بن حنبل 1 : 144 ، أنساب الأشراف
للبلاذري 5 : 33 ،
مروج الذهب للمسعودي
2 : 344 - 346 ،
الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني 5 : 126 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 300 |
ولذلك قمنا بالفحص والتنقيب في كتبهم الحديثية حتى تمكنا من
العثور على حديث في هذا المجال يرويه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، وعرفنا أن
النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ينج من هذه الفرية والتهمة أيضا ، ولكن وضاعي
الحديث والدساسين
لما وجدوا أن أكذوبتهم بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد
عاقر الخمر في أواخر حياته لم تتفق مع الآيات المحكمة الصريحة التي نزلت بشأن
تحريم الخمر ، لذلك تراهم نسبوا الفرية لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى
عهد ما قبل التحريم .
ورووا عن نافع بن كيسان أنه قال : إن أباه كيسان أخبره أنه كان يتجر في الخمر
في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق
يريد بها التجارة ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا رسول
الله جئتك بشراب جيد ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا كيسان إنها
حرمت بعدك ( 1 ) .
هذا ما رووه في مجال معاقرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الخمر وافتروا عليه
ذلك بأسلوب رزين ودقيق ! ! تبريرا لما كانوا يتسامرون ويتعاطون الخمر . وربما
نوافيك في الفصول القادمة أيضا ببعض الأخبار المدسوسة على رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 )
مسند أحمد بن حنبل 4 : 335 . ( * ) |
|
|