( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

 

 

رأي أهل السنة في مكان الله إن نظرة سريعة وخاطفة لكتب الكلام وغيرها تعطي الإنسان بصيرة أكثر على ما يعتقده علماء أهل السنة وأئمة مذاهبهم الأربعة - الحنبلية ، الحنفية ، المالكية والشافعية - في مسألة مكان الله تعالى هو ما أخذوه من الأحاديث المروية عندهم في الصحاح ، بأنهم يعتقدون أن الله استوى على العرش ، وهذا الرأي هو ما يعتنقه علماؤهم المعاصرون أيضا تبعا لأسلافهم . فهذا الإمام أحمد بن حنبل أحد المعتقدين بهذا الرأي يقول بأن الله قد استوى فوق العرش ، وتراه عندما يواجه الآية الكريمة ( وهو معكم أينما كنتم ) ( 1 ) - التي تثبت عدم اختصاص المكانية لله عز وجل وإنها من الدلائل السماعية التي تدل بوضوح على إحاطته الكاملة بجميع الأمكنة وعدم خلو مكان منه تعالى - فقام بتأويلها بعلم الله وقال : أن المراد هو إن الله يعلم جميع الأعمال ولا يخفى عليه شئ وليس المراد المعية ( 2 ) . وهذا أيضا الإمام أبو حنيفة هو الآخر يرى بأن الله مستقر على العرش . ويروي الذهبي في كتابه ( العلو للعلي الغفار ) ( 3 ) عن نوح الجامع أنه قال : كنت عند أبي حنيفة أول * ( هامش ) * ( 1 ) الحديد : 4 . ( 2 ) تفسير المنار 9 : 131 . ( 3 ) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي - 748 ه‍ - أحد علماء أهل السنة المعروفين ، وله كتب عديدة في شتى العلوم منها هذا الكتاب الذي ألفه لإثبات هذه العقيدة = ( * )

............................................................

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 157 :

صفحة 157 / ما ظهر ، إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما ، فدخلت الكوفة ، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف نفس فقيل لها : إن هاهنا رجلا قد نظر في المعقول ، يقال له أبو حنيفة فأتيه ، فأتته فقالت : أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك ؟ أين إلهك الذي تعبده ؟ فسكت عنها ، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ، ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا : إن الله عز وجل في السماء دون الأرض ، فقال له رجل : أرأيت قول الله عز وجل ( وهو معكم ) قال : هو كما تكتب إلى الرجل : إني معك وأنت غائب عنه . قال : ثم قال البيهقي : لقد أصاب أبو حنيفة ( رحمه الله ) فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض ، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع بأن الله تعالى في السماء ( 1 ) . وثالث أئمة أهل السنة الإمام مالك بن أنس كان يرى هذا الرأي أيضا . روى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه الإمام أحمد بن حنبل قال : قال مالك بن أنس : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، ولا يخلو منه شئ ( 2 ) . ورابعهم الإمام الشافعي كان على هذا المعتقد أيضا ، روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم إلى أبي ثور وأبي شعيب ، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث ( رحمه الله ) تعالى قال : القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء . . . . وذكر سائر الاعتقاد . ومما جاء في وصية الإمام الشافعي إنه يشهد أن لا إله إلا الله ، فذكر الوصية بطولها * ( هامش ) * = بأن الله قد استوى على العرش ، طبع هذا الكتاب سنة 1388 ه‍ بالقاهرة ونشرته المكتبة السلفية بالمدينة المنورة . ( 1 ) ص 101 . ( 2 ) العلو للعلي الغفار : 103 . ( * )

............................................................

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 158 :

صفحة 158 / وفيها : القرآن غير مخلوق ، وأن الله يرى في الآخرة عيانا ، ويسمعون كلامه ، وأنه تعالى فوق العرش ( 1 ) . روى ابن حجر عن ابن تيمية أنه قال : إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علي على خلقه ( 2 ) . وعن الأوزاعي قال : كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته . وروى أيضا عن أبي عمر الطلمنكي أنه قال : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله : ( وهو معكم أينما كنتم ) ( 3 ) ونحو ذلك من القرآن أنه علمه ، وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء ، وقال : وقال أهل السنة في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) ( 4 ) إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ( 5 ) . الحافظ شمس الدين الذهبي يرى القول بالمكان لله سبحانه وتعالى أيضا ووضع كتابا في تحرير عقيدته وإثباتها وعنونه ( العلو للعلي الغفار ) . يقول : إن المسلمون من أهل السنة وأتباع الحديث مجمعون على أن الله عز وجل بذاته فوق العرش وأن أول من أنكر ذلك الجعد بن درهم ( 6 ) . وقال محمد أشرف شارح سنن أبي داود في شرحه لقوله : ثم الله فوق ذلك : وهذا الحديث يدل على أن الله فوق العرش وهذا هو الحق ، وعليه تدل الآيات القرآنية * ( هامش ) * ( 1 ) المصدر : 120 . ( 2 ) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية العقيدة الواسطية : 401 . ( 3 ) الحديد : 4 . ( 4 ) طه : 5 . ( 5 ) العلو للعلي الغفار : 179 . ( 6 ) شرح كتاب التوحيد : 211 . ( * )

............................................................

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 159 :

صفحة 159 / والأحاديث النبوية ، وهو مذهب السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين قالوا : إن الله تعالى استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل ، والاستواء معلوم والكيف مجهول والجهمية قد أنكروا العرش وأن يكون الله فوقه ، وقالوا : إنه في كل مكان ولهم مقالات قبيحة باطلة ، وإن شئت الوقوف على دلائل مذهب السلف والاطلاع على رد مقالات الجهمية الباطلة فعليك أن تطالع الأسماء والصفات للبيهقي أفعال العباد للبخاري وكتاب العلو للعلي الغفار للذهبي والقصيدة النونية والجيوش الإسلامية لابن القيم ( 1 ) . أقول : وفضلا عمن ذكرناهم فإن عالم أهل الشام الأوزاعي وابن جريج مفتي الحجاز وشيخ الحرم ، وعالم خراسان مقاتل بن حيان والإمام البخاري صاحب الصحيح كانوا ممن يعتقدون بأن لله عز وجل مكان خاص ( 2 ) ، وقال محمد عبدة : إن ابن قدامة ألف في هذا المجال كتابا ( 3 ) . من أين نشأت هذه العقيدة ؟ ذكرنا في مبحث رؤية الله إن منشأ هذا الرأي هو مما جاء في الأحاديث التي رواها حفاظ أهل السنة في كتبهم نقلا عن أبي هريرة وأقرانه ، وهذه المسألة - مكان الله - هي كتلك نابعة عن أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وأرباب الصحاح والسنن في مؤلفاتهم . وقد أقر بعض علمائهم القائلين بالمكانية بهذه الحقيقة . وذكرنا آنفا قول ابن حجر فإنه بعد ما ذكر كلام الأوزاعي وعقيدته في هذه المسألة قال : فإن أتباع السنة مجمعون على ثبوت مكان خاص بالله تعالى ، ثم أضاف قائلا : إن هذه العقيدة هي مما ورد في الأحاديث ونؤمن بجميع ذلك . والعلامة الشيخ عبد الرحمن من متكلمي أهل السنة عند ما يتطرق لأقوال العلماء * ( هامش ) * ( 1 ) عون المعبود في شرح سنن أبي داود 13 : 10 . ( 2 ) العلو للعلي الغفار : 102 . ( 3 ) تفسير المنار 9 : 180 . ( * )

............................................................

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 160 :

صفحة 160 / في المكان يستدرك ذلك بحديث ويقول : هذا ما احتواه هذا الحديث والأحاديث المتواترة المروية في الصحيحين وغيرهما ( 1 ) . 3 - هل الله يضحك ؟ رب الصحيحين يضحك ! ! والمسألة الثالثة التي تبين ضعف التوحيد من وجهة نظر الصحيحين ( البخاري ومسلم ) أنهما أخرجا أحاديث تقص لنا ضحك الله تعالى . وهاك أيها القارئ الكريم بعض ما روي في هذا الصدد : 1 - روى البخاري ومسلم في كتابيهما حديثا طويلا حول الرؤية وقد ذكرنا آنفا - في مبحث الرؤية - ضمن الحديث الثاني المنقول ، وقد ورد في آخر الحديث إشارات إلى موضوع الضحك . فيقول الله : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ فيقول : يا رب ، لا تجعلني أشقى خلقك ! . . . فلا يزال يدعو حتى يضحك الله ! ! فإذا ضحك منه أذن بالدخول فيها ! ! ( 2 ) . 2 - وكذا روى أبو هريرة حديثا طويلا عن ضيافة أحد الأصحاب ، وجاء في نهاية الحديث ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما . . . ! ( 3 ) . 3 - أخرج مسلم عن أبي هريرة حديث بثلاثة أسانيد ونصين مختلفين فقال فيهما : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ، فكلاهما يدخل الجنة . فقالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله ( 4 ) . * ( هامش ) * ( 1 ) التوحيد : 213 طبعة القاهرة سنة 1347 ه‍ . ( 2 ) راجع ص : 135 هامش 1 . ( 3 ) صحيح البخاري 5 : 43 كتاب المناقب مناقب الأنصار باب ( ويؤثرون على أنفسهم ) . ( 4 ) صحيح مسلم 3 : 1504 كتاب الأمارة باب ( 35 ) باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر = ( * )

............................................................

............................................................

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 163 :

صفحة 163 / قد امتلأت نفسه بالعجب والغرور ، ويجرؤ في أن ينسب صفة الاستهزاء والسخرية - التي هي من صفات الجاهلين - إلى الله ! ويقول لله : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ ! أعاذنا الله من هذه الموضوعات والخزعبلات وأقوال الزور من المزورين والقائلين بها ، ونستغفره من كل ذلك . ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) ( 1 ) .

 * ( هامش ) * ( 1 ) الأحزاب : 71 . ( * )