( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 27

تمهيد

لما رأيت مدى مقام صحيح البخاري وأهميته عند أهل السنة جذبني الشوق والولع في أن أراجع هذا الكتاب مراجعة دقيقة ومعمقة ، ولشدة ما كنت أشعر به من العلاقة والشوق في هذا الموضوع أتممت مراجعة الصحيح في فترة قصيرة ،

( وكان ذلك عام 1388 ه‍ ) ، فاخترت من بين أحاديثه خمسين حديثا في أربعة وثلاثين مسألة مختلفة ومشوقة ، واستنسختها على شكل مذكرات .

ومن ثم أصبح هذا العمل البسيط نافذة على برمجة مطالعاتي المستقبلية ووضع اللبنة الأولى في تأليف هذا الكتاب ، وهكذا أثمرت بالنتيجة هذا الكتاب .

ومن خلال هذه المراجعة الأولية وقعت حادثة غريبة وممتعة غيرت مسار أطروحتي الفكرية من أسفل إلى فوق وصيرت هذه المذكرات التي لم تتجاوز عدة وريقات دراسة متكاملة حتى صارت أضعافا مضاعفة .

ففي شهر رجب من تلك السنة أي 1388 ه‍ حلت العطلة الصيفية فرحلت إلى موطني آذربيجان الايرانية ، فهناك حالفني حظ كبير وموهبة كبيرة ونلت فخرا عظيما ونعمة موفورة ، إذ تشرفت بلقاء العلامة المجاهد والمجتهد الأعظم الحجة المرحوم

الشيخ الأميني صاحب كتاب الغدير - تغمده الله برحمته - حيث كان يعاني من الألم في رجله - فقدم إلى تلك البلاد ليغتنم جوها ومياهها ، فخدمته ما يقارب عشرين يوما وذلك لأنه سكن داري . وإن كان عشرون يوما بالنسبة إلى عمر الإنسان شيئا قليلا إلا أن هذه الأيام
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 28

بالنسبة لي هي من أسعد أيام عمري وأهمها وأثمنها ، بحيث لا يمكن مقايستها بسنوات العمر . وفي تلك الأيام الخالدة والتي
لا أنساها أبدا لازمت مجلس ذلك البحر الزاخر ومثال العلم والورع فلم أفارقه ، وكم من مرة انفردت بمجالسته وحدي

لساعات عديدة ، ولم يكن في المجلس سوانا ، وكنا نتحدث معا حول مواضيع مختلفة فاقتطفت من بستان علمه وفضائله أزهارا ، وشربت من نبع فقهه وخلقه أنهارا . آه . . . . ما أحلى تلك الأيام المباركة ؟ وما أسعد تلك الساعات الفياضة ؟

ومن خلال مجالستي معه ، قدمت له تلك المذكرات التي كتبتها قبل أشهر ، فكانت هذه الوريقات قد أدخلت نوعا من الفرح والسرور في قلب ذلك العلم الذي يعد بحق بطل هذه الميادين العقائدية ، والمنصور دائما في الحوارات والمناظرات .

وأعتقد أن هذه الوسيلة - أي البحث العلمي - هي أفضل الوسائل التي يمكن للمضيف أن يستضيف بها ضيفه الكريم ويجلب رضاه ويسكن فؤاده وخاصة إن كان مثل العلامة الأميني ( قدس سره ) .

وبعد أن قدمت له أطروحتي أخذ يحثني ويشوقني أكثر بعباراته الجذابة وكلماته السحرية في مواصلة هذا السبيل ، ويسهل لي الطريق الذي كنت أعتقده عسيرا وصعبا ، وبين لي بأن مواصلة هذا الأمر فريضة واجبة لا يمكن تجاوزها أبدا .

ولما عاد العلامة إلى طهران زرته مرة أو مرتين لعيادته ، ومع أنه كان يعاني من ألم رجله معاناة شديدة لكنه لم ينس الموضوع الذي بحثناه معا ، فأخذ ثانية يشوقني أكثر ويرغبني أزيد في استدامة المنهج الذي اخترته .

فرحمة الله عليه وجزاه الله عن الإسلام خيرا . ولكن بعد فترة وعلى أثر بعض الأعمال والمشاكل التي واجهتني توقفت عن العمل ، ثم عدت كرة ثانية إلى تلك الأوراق وتذكرت نصائح المرحوم العلامة الأميني
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 29

فواصلت تحقيقاتي وبحثي في صحيح البخاري بشكل أعمق حتى أضفت على ما كتبت في السابق مسائل أخرى .

ومن خلال مراجعتي لصحيح البخاري قرأت سائر الصحاح والسنن قراءة متقنة ، واستنتجت فيما بعد بأن صحيح مسلم هو الآخر مثل صحيح البخاري من حيث الأهمية والشأنية ومواز له في شتى جوانبه الرجالية والروائية .

بل أن بعض علماء أهل السنة يقدم صحيح مسلم ويرجحه على صحيح البخاري ، وأن أحد علمائهم ( 1 ) جمع أحاديث الصحيحين في كتاب واحد وأسماه ( الجمع بين الصحيحين ) ، وآخر ( 2 ) جمع رجال الصحيحين في كتاب مستقل وعنونه
( الجمع بين رجال الصحيحين ) .

ولهذا التقارن والتقارب بين الصحيحين بدأت بالتركيز والتدقيق أكثر من قبل على صحيح مسلم أيضا ، فتجمعت عندي وريقات مترامية ومتشتتة لم تظهر بعد على نحو كتاب ، وتأييدا لرأي لعلني أبديته كنت أستدل عليه بما ورد في المصادر الأخرى

غير الصحيحين ، وبناءا على هذا تراكمت عندي مذكرات وقصاصات أكثر وهكذا تمت المرحلة الثانية من تأليف كتابي الذي كان للمرحوم العلامة الأميني حظا كبيرا في تدوينه . فما زلت أواصل مطالعاتي في الصحيحين جاهدا ، وأغتنم مهما أمكن

كل كتاب أحتمل أنه سيكون مفيدا في تحقيقي حتى استوهبت فخرا آخرا وانفتحت أمامي نافذة أخرى نحو السعادة ، وتشوقت أكثر لمواصلة البحث والتحقيق ، وتلك الموهبة هي
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) هو رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد الصاغاني 577 - 650 ه‍ ، وقد رتب كتابه الجمع بين الصحيحين على أبواب وفصول النحو ، فرتبه على اثني عشر بابا يندرج تحت كل باب منها عدة فصول من فصول النحو وترتيبه وقد جمع فيه 2267 حديثا مما اتفق عليه البخاري ومسلم . المعرب .

( 2 ) هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي المعروف بابن القيسراني الشيباني 448 - 507 ه‍ ، وقد جمع فيه رجال الصحيحين ، ورتبه على الترتيب الهجائي للحروف ، وذكر فيه ما تفرد به كل من البخاري ومسلم من الرجال . المعرب . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 30

زيارتي للعالم الجليل العلامة السيد مرتضى العسكري فتشرفت بلقائه في طهران . العلامة العسكري هو من العلماء العظام والأتقياء ومن مفاخر الشيعة ونجمه لامع في سماء البحث والتحقيق في عالم التشيع ، وهو غني عن التعريف خاصة عند أهل

العلم والمحققين ، ولا يخفى على أحد ما يمتاز به هذا العالم النحرير ، من الهمة العالية والابتكارات البديعة ، وأنه قد انتهج سبيلا غاب عن علمائنا السلف أن يغتنموه ، وجهد كثيرا في تبيين حقائق التاريخ الإسلامي ، ونشاطه مؤثر في هذا المجال ( 1 ) .

ومنذ تشرفي بزيارة سيادته تعرفت على أسمى الفضائل الخلقية والمعنوية التي كان يتصف بها العلامة العسكري ، هذا وعلاوة على ما استفدت من نبعه العلمي الوافر وتطلعه الزائد ، فقد تأثرت بهذه الشخصية العلمية والتقية كثيرا بحيث تغيرت برامجي الفكرية والتحقيقية .
 

ولما اطلع العلامة العسكري - بدوره كالعلامة الأميني - على تأملاتي ومطالعاتي ونظر في مذكراتي نظرة فاحص ، أخذ في تشويقي وتشجيعي ، فأبدى من الفرح والسرور والمدح والثناء على عملي بحيث لم أكن أتوقعه ، ولم أر ذلك في شأني وشأن كتابي ، ثم أمرني بالإسراع في طبعه ونشره .


ومع أن العلامة العسكري كان كثير العمل في المجالات العلمية والبحوث التحقيقية ، لكنه تفضل علي وراجع الكتاب وصححه وقدم لي إرشادات قيمة . وقدم لكتابي مقدمة غنية ومفيدة فشكر الله سعيه ، ومتع الله المسلمين بطول بقائه .

وهذا في الواقع يمثل المرحلة الثالثة وهو الدافع لتكميل دراستي وإتمام بحثي .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) ألف في هذا الميدان كتبا كثيرة ، مثل : عبد الله بن سبأ ، مائة وخمسون صحابي مختلق ، وأحاديث عائشة أم المؤمنين ، فإنه قد كشف الستار عن الصورة الحقيقية لعبد الله بن سبأ والأصحاب المختلقين ودور أحاديث عائشة ، وأبرز الحقائق الدينية والتاريخية التي ظلت كامنة خلف الأستار منذ عهد الإسلام الأول ، وبين في كتبه الصراط القويم والتحقيق والبحث السليم للأجيال الآتية . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 31

والجدير بالذكر : أن ما زاد رغبتي وحثني أكثر على مواصلة هذا العمل بغض النظر عن تراكم المشاكل وعدم وجود الوسائل ، هو عاملين أساسيين :

 الأول : الشعور بالمسؤولية القصوى والكبيرة وفهم الحقيقة ، والواقع إننا اليوم مكلفون في حفظ العقائد والتعاليم الدينية والثبات أمام النشاط الوسيع الذي تقوم به المذاهب المختلفة ، وكذا إن هذا العمل هو تبليغ وخدمة للدين ، بل هو واجب على

كل واحد منا حسب ما أعطي من الاستعداد أن يشمر عن ساعديه ويسعى في إصلاح الجيل وتقديمه نحو الأمام ، وذلك عن طريق التأليف والكتابة التوعوية .


 الثاني : ومن جهة أخرى أن الحس الذاتي والرغبة في الحصول على المواضيع المستجدة التي كنت أستقطبها خلال مطالعاتي زاد في رغبتي في التحقيق أكثر ، بحيث إني قرأت في مدة قصيرة مئات الكتب ، وللحصول على كتاب واحد مما

يتعلق بتأليفي لعلني سافرت من مدينة إلى أخرى وتعرفت حينها على مكتبات عامة ودور نشر كثيرة . ( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) قم - محمد صادق النجمي ربيع الأول 1392 ه‍ . ق


 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب