( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 421

  8 - التطليقات الثلاث ما هي التطليقات الثلاث ؟

إن الطلاق الثالث الذي يحرم المطلقة على مطلقها ، هو : أن يطلق المرء امرأته مرتان وفي كل مرة يرجعها أو يتزوجها بعد انقضاء العدة ، وفي المرة الثالثة لو طلقها لا تحل له حتى يتزوجها محلل ثم يطلقها أو يموت عنها فبعد ذلك يمكن أن يتزوجها الزوج الأول .

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 422

وقد جاء هذا الحكم في القرآن صريحا وبينا وقال تعالى : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . . . . إلى أن قال . . . . فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) ( 1 ) .


الجملة الاسمية ( الطلاق مرتان ) صريحة بأن الطلاق لا بد وأن يكون متعددا ولو طلق الرجل زوجته مرة واحدة ، وقيده بعدد الثلاثة ، كأن يقول لها : طلقتك ثلاثا ، فإن هذا الطلاق يعد مرة واحدة ولم تتطلق الزوجة لنص القرآن في ذلك ، وللرجل أن يرجع إليها ، ولم يستوجب حرمة الرجوع ، أو الزواج بها مرة أخرى .


قال الزمخشري في بيان الطلاق مرتان : التطليق الشرعي - الذي لا تحل المرأة لزوجها - هو تطليقة بعد تطليقة على
التفريق دون الجمع والأرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية - أي أن يقول : طلقتك طلاقين - ، ولكن التكرير

كقوله : ( ثم إرجع البصر كرتين ) ( 2 ) أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين ( 3 ) . فالمسألة من الناحية القرآنية ، وسنة الرسول واضحة ، وسيرته ( صلى الله عليه وآله ) مؤيدة لهذه المسألة بحيث لا إبهام فيها .


وأما تحريم الخليفة عمر بن الخطاب المرأة المطلقة بهذه الكيفية على زوجها - إعراض عن التعدد والتكرار في الطلاق ، واكتفى بتقييد الطلاق بعدد ثلاثة لفظا ، بأن يقول الرجل مرة واحدة لزوجته : أنت طالق ثلاثا .

فإن الخليفة عمر يرى أن هذه المرأة قد طلقت وحرمت على الرجل حرمة أبدية ، ولا يحق له الرجوع إليها والزواج بها ثانية إلا أن تنكح زوجا غيره . وإليك أيها القارئ الكريم بعض الأحاديث مما روي في صحيح مسلم :
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) البقرة : 299 - 230 . ( 2 ) الملك : 4 . ( 3 ) تفسير الكشاف 1 : 273 ذيل آية 229 من البقرة . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 423

 1 - قال ابن عباس : كان الطلاق على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه
عليهم ( 1 ) .


وعن طاووس قال : إن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبي بكر واحدة ؟ فقال : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ( 2 ) .


هذا ما استخرجه مسلم في صحيحه حول مسألة التطليقات الثلاثة ، وهي ثابتة في كتب التاريخ والحديث والمصادر المعتبرة ثبوت المسلمات بأن الطلاق المقيد بالعدد كان طلاقا واحدا ، حتى عهد الخليفة عمر حيث أفتى الناس ، بأن الطلاق المقيد

بالعدد ثلاثة لفظا ، هو ثلاث تطليقات ، وبعده يوجب التحريم وحرمة رجوع الزوج إليها . وعلى خطى عمر بن الخطاب أفتى أكثر علماء أهل السنة وأئمتهم الأربعة عبر التاريخ بحرمة المتعة .


ولم يتعدوا فتوى الخليفة عمر ، واليوم كذلك تبعا للسلف أفتى علماؤهم بذلك الحكم ، ولا يخفى على أحد أن هذه الفتوى - المباينة للنص الصريح مما جاء به القرآن - قد عورض من قبل الآخرين ، المخالفين لهذا الرأي ، حيث إنهم أنكروا ذلك

تارة بالصراحة ، وتارة بالكناية والإيماء ، حتى آل الأمر إلى إلغاء فتوى عمر من جانب المحاكم الشرعية في مصر وفقيهها الأعظم . وحسبك - يا قارئي الكريم - الفتاوى المصرحة وآراء علماء أهل السنة المخالفة لرأي عمر نوردها إليك بالأجمال .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح مسلم 2 : 1099 كتاب الطلاق باب ( 2 ) باب طلاق الثلاث ح 15 . ( 2 ) المصدر نفسه ح 17 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 424

مجرى التطليقات الثلاث :

قال ابن رشد الأندلسي : المسألة الأولى : جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ ثلاث - حكمه حكم التطليقة الثالثة لا تحل الرجوع بعد ذلك ( 1 ) .


وقال الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة : فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثا لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور ( 2 ) .


وتلاحظ في هاتين المقولتين أن ابن رشد وكذا الجزيري كشفا عن مخالفتهما لهذه النظرية - رأي عمر - في الطلاق ، وأبديا أن هذا الرأي العمري هو خلاف الواقع وهو من الأحكام المبتدعة - المختلقة - .

فأما ابن رشد يرد هذه النظرية بأسلوب كنائي جميل وذلك في ثنايا بيانه لمسألة أخرى غير مسألة الطلاق . قال : إن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة ، فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة ( 3 ) .

وأما الجزيري مؤلف الفقه على المذاهب الأربعة بعد أن ذكر أدلة الطرفين المخالف والموافق في مسألة الطلاق ، اعتبر هذه المسألة من المسائل الاجتهادية وصير مخالفة ابن عباس لعمر مخالفة مجتهد لآخر وبعد ذلك قال : ومما لا شك فيه أن ابن

عباس من المجتهدين الذين عليهم المعول في الدين ، فتقليده جائز ولا يجب تقليد عمر فيما رآه ، لأنه مجتهد ، وموافقة الأكثرين له لا تحتم تقليده - عمر - ( 4 ) .

وقال الشيخ محمد عبدة بعد بحث طويل حول آية الطلاق : إن إنشاء الطلاق ثلاثا
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) بداية المجتهد 2 : 66 كتاب الطلاق .
( 2 )
الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 341 .
( 3 )
بداية المجتهد 2 : 68 كتاب الطلاق ذيل مسألة 3 .
( 4 )
الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 341 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 425

بالقول ليس في قدرة الرجل إيقاعه مرة واحدة ، ذلك إن الأمور العملية لا تتكرر بتكرر القول المعبر عنها بل ولا القولية أيضا ، فمن فسخ العقد مرة وعبر عنها بقوله ثلاثة فهو كاذب .
 

ثم يضيف عبده على خبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا . . . . فقام ( صلى الله عليه وآله ) غضبان . ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟
 

وأضاف الشيخ محمد عبدة : وليس المراد - من إطالة الكلام في هذه المسألة - مجادلة المقلدين ، أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فيها ، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأن العمل عندهم ، على أقوال كتبهم ، دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله ( 1 ) ! .


وفي عام 1929 من الميلاد - أي قبل 69 عام - ألغت المحاكم الشرعية بمصر حكم عمر ، من دستورها وبعدها بفترة وجيزة أفتى شيخ الأزهر ورئيسها والمرجع الأعلى لأهل السنة الشيخ محمود شلتوت فقال : والذي نراه في المسألة - من جهة الوقوع وعدمه ونفتي به - هو الرأي الذي اختاره قانون المحاكم الشرعية الصادر سنة 1929 وهو أن الطلاق المقترن بعدد - كأن يقول الرجل لامرأته : أنت طالق بالثلاث - لا يقع إلا طلقة واحدة رجعية ( 2 ) .


أما تأثير هذه الفتاوي والآراء - النافية لفتوى عمر وصمودها أمام رأي الخليفة - على المذاهب الأربعة السنية وأتباعهم ، لا شك فإنها بحاجة إلى زمن أطول حتى تتحرر من الأغلال والقيود التقليدية العمياء والتعصب الجاهلي .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تفسير المنار 2 : 381 - 387 . ( 2 ) الفتاوى : 305 . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب