التدوين عند أهل
السنة
(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 46 |
التدوين عند أهل السنة :
وأما تدوين الحديث عند أهل السنة - وكما أشرنا إليه آنفا - فإن بعض الأصحاب
ومنهم أبو بكر ، خالفوا تدوين الحديث بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ،
بل منعوا التحديث عنه ( صلى الله عليه وآله )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 47 |
أيضا ، ومن هنا فلم يستطع أحد من أصحاب الرسول ( صلى الله
عليه وآله ) أن يروي أو يكتب ما سمعه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل
ألقوا ما كتبوا من الأحاديث في الماء أو أحرقوها بالنار ، وتبريرا لما فعلوه
تجاه الحديث وتثبيتا لهذه الخطيئة الغير علمية اختلقوا أحاديث ونسبوها إلى رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) . نحو : ( لا تكتبوا عني
ومن كتب عني غير القرآن فليمحه )
( 1 ) ( 2 ) .
المنع في عهد أبي بكر : إن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ( صلى الله عليه
وآله ) فقال : إنكم تحدثون عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحاديث تختلفون
فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله
وحرموا حرامه ( 3 ) .
وقالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكانت
خمسمائة حديث فبات ليلة يتقلب كثيرا . قالت : فغمني فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشئ
بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية ! هلمي بالأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا
بنار فحرقها . فقلت : لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها
أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك
( 4 ) .
|
* ( هامش ) *
( 1 )
صحيح مسلم 4 : 2298 كتاب الزهد والرقاق باب ( 16
) باب التثبت في الحديث ح 72 .
( 2 ) والدليل
على كون هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة والمختلقة هو عدم تمسك أبي بكر وعمر
به ، وسوف تقرأ في الفصول الآتية بأن أبا بكر وعمر قد تذرعا بمعاذير واهية
واستدلا على منعهما نقل أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتدوينها بأدلة
تافهة وحجج
ركيكة ، ولو كان هذا الحديث مما قد ورد عن رسول
الله حقا لتمسكا به في توجيه غايتهما ، وأضف على هذا ، ولو سلمنا صحة الحديث
لكان الإمام مالك بن أنس ( الموطأ ) والإمام أحمد بن حنبل ( المسند ) ومؤلفو
الصحاح والسنن والمسانيد هم أول من خالفوا أمر رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) وأسرعوا بعمل نهى عنه
النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ولذا ترى أن علماء أهل السنة استنكروا صدور هذا
الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو أنهم ادعوا صدوره واختصاصه بمجالات
خاصة .
( 3 )
تذكرة الحفاظ للذهبي 1 : 3 .
( 4 ) المصدر : 5 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 48 |
ولا يخفى ما نتج عن هذا العمل - الصادر من أبي بكر الذي منع
نقل الحديث تارة ، وأقدم على إحراقه وإبادته تارة أخرى - على المسلمين والحفاظ
والرواة من الآثار السيئة والنتائج السلبية ، ففي السنوات الثلاث من خلافة أبي
بكر انكب المسلمون
على تلاوة القرآن واكتفوا بها دون مراجعة التفسير والبيان ،
وتركوا نقل الحديث وكتابته ، وبهذا تحقق ما أراده أبو بكر من حصر اهتمام
المسلمين على الآيات القرآنية فقط .
المنع في عهد عمر : ففي السنوات العشر من عهد
الخليفة عمر بن الخطاب - الذي عرف بالخشونة والتصلب - اشتد الوطيس على الحديث ،
فلم يكتف عمر بمنع نقل الحديث وتدوينه فحسب ، بل إنه استعمل في تحقيق هدفه
أسلوب القهر والقوة ( 1 )
.
قال الصحابي المعروف قرظة بن كعب ( 2 ) : لما
سيرنا عمر بن الخطاب إلى العراق مشى معنا عمر إلى حرارة ، ثم قال : أتدرون لم
شيعتكم ؟ قلنا : تكرمة لنا . قال : ومع ذلك - لحاجة - إنكم تأتون أهل قرية لهم
دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) فتشغلوهم ، جردوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن الرسول ( صلى الله عليه
وآله ) وأنا - شريككم ، فلما قدم قرظة بن كعب الكوفة قالوا : حدثنا ، فقال :
نهانا عمر ( 3 ) .
وأخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ عن أبي سلمة أنه قال لأبي هريرة : أكنت تحدث في
عهد الخليفة عمر هكذا ؟ قال : لو كنت أحدث في عهد عمر مثل ما أحدثكم لضربني
|
* ( هامش ) *
( 1 ) دامت
خلافته عشر سنوات وستة أشهر وأربعة أيام .
( 2 ) هو من صحابة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) المعروفين واشترك في
غزوات عديدة منها أحد ،
وقال ابن حجر في الإصابة 5 : 329 ترجمة قرظة بن
كعب رقم 7113 : إن أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب .
( 3 ) مستدرك الصحيحين 1 : 102 ،
سنن ابن ماجة 1 : 12 باب ( 3 ) باب التوقي في الحديث عن رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) ح 28
الطبقات الكبرى 6 : 7 طبقات الكوفيين ، جامع بيان العلم 2 : 167 ،
سنن الدارمي 1 : ص 85 باب من هاب الفتيا مخافة السقط ،
تذكرة الحفاظ للذهبي 1 : 7 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 49 |
بمخفقته ( 1 ) . وكان عمر بن
الخطاب مستبدا يفرض الضغوط الكثيرة على أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله )
الذين كانوا يروون الحديث عنه ( صلى الله عليه وآله ) .
روي أن أبا موسى الأشعري نقل لعمر حديثا في باب الاستئذان من
صاحب الدار . فقال له عمر : إن لم تقم عليه بينة لأوجعتك . وظل هذا التشدد من
قبل الخليفة مخيما على الرواة حتى اعترض عليه جمع من الصحابة كما ورد في ذيل
الرواية الآنفة أن أبا منذر قال لعمر : فلا تكن يا بن الخطاب عذابا على أصحاب
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 2 ) .
ومن استبداده وتشدده أنه حبس ثلاثة من الصحابة : ابن مسعود ، أبا الدرداء ، أبا
مسعود الأنصاري ، وفرض عليهم الإقامة الجبرية في المدينة ، وظلوا تحت المراقبة
الشديدة حتى قتل ، وما كان ذنبهم إلا أنهم رووا أحاديث سمعوها من رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) ( 3 )
وأخرج الحاكم في مستدركه إن الخليفة عمر حبس ابن مسعود ، وأبا الدرداء ، وأبا
ذر في المدينة ليصدهم عن رواية الحديث ( 4 ) .
ونتيجة لهذا الاستبداد العمري في المنع من نقل الحديث والنهي عنه يقول الصحابي
سائب بن يزيد - 80 ه - : صحبت سعد بن مالك ( 5 )
من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن رسول الله حديثا واحدا
( 6 ) .
وقال الشعبي : جالست ابن عمر سنة كاملة فما سمعته يحدث عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) حديثا ( 7 )
|
* ( هامش ) *
( 1 )
تذكرة الحفاظ 1 : 7 .
( 2 )
صحيح البخاري 8 : 67 كتاب الاستئذان باب التسليم
والاستئذان ثلاثا ، وسوف يأتي تفصيل القصة في مبحث الخلافة فصل جهل الحكام
بالأحكام .
( 3 )
تذكرة الحفاظ 1 : 7 ، ومجمع الزوائد 1 : 149 .
( 4 )
مستدرك الصحيحين 1 : 110 كتاب العلم .
( 5 ) كان من
نجباء الأنصار وعلمائهم وقد حفظ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سننا
كثيرة وروي عنه علما جما ،
الإستيعاب 2 : 602 رقم الترجمة 954 .
( 6 )
سنن ابن ماجة 1 : 12 باب ( 3 ) باب التوقي في
الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ح 29 .
( 7 )
الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 106 ،
سنن ابن ماجة 1 : 11 المقدمة باب ( 3 ) باب التوقي في الحديث عن رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) ح 26 ،
صحيح البخاري 9 : 112 كتاب التمني باب خبر المرأة الواحدة . وفيه :
قاعدت ابن عمر قريبا من سنتين أو سنة ونصف . ( * ) |
|
|