( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 323

الفصل الثامن الخلافة في الصحيحين

قال أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) : زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور ، لا يقاس بآل محمد
( صلى الله عليه وآله ) من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله ( 1 ) .


منهج البحث وهدفه يبدو جليا من عنوان الفصل أن المواضيع التي سنطرحها ونبحثها في هذه الصفحات وما بعدها ، هي الأحاديث والروايات التي أخرجها الشيخان البخاري ومسلم في أبواب عديدة من صحيحيهما حول مسألة الخلافة .

والهدف الوحيد في هذا الفصل هو نقل الأحاديث فقط ، وليس دراسة أصل مسألة الخلافة .

وبعبارة أخرى : إن كتابنا هذا ليس من نوع الكتب الكلامية ، ولسنا بصدد دراسة مسألة الخلافة والاستدلال فيها على إثبات صحة عقيدة فئة معينة أو رد ونقد عقيدة مذهب آخر ، بل غايتنا الوحيدة هي تخريج الأحاديث المروية في الخلافة ونقلها ، خاصة الأحاديث التي رويت في أهم مصادر أهل السنة والجماعة وأوثقها وأصحها عندهم ، يعني صحيحي البخاري ومسلم .


وبناء على هذا ، فإنا لا نرى أنفسنا ملزمين باستعراض كل الجزئيات والحقائق التاريخية ولو كانت تتعلق بهذه الأحاديث ، وكذا لم نكن ملزمين بالرد والنقد والدراسة العميقة في جوانب هذا الموضوع ، لأن هذا النوع من البحث خارج عن نطاق ما نحن فيه

 

* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 138 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 324

وأنه يحتاج إلى كتاب مستقل ، وقد كتب في هذا الموضوع كتب كثيرة . وأما لو ذكرنا بعض المقتطفات في بعض الموارد فإنها لم تكن إلا لبيان وتوضيح مضامين ومفاهيم الأحاديث وبلورتها .


أسئلة حول الخلافة : تعتبر مسألة الخلافة من أهم المسائل الدينية التي وقع فيها الاختلاف بين المسلمين ، ولم يكن هذا الاختلاف وليد عصور متأخرة نحو قرن أو قرنين بل أنه نشأ منذ أن التحق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالرفيق الأعلى وغربت شمس النبوة . . .


قال الشهرستاني : وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان . . . . ( 1 ) .

فنحن الآن لسنا بصدد معرفة كيفية نشوء هذا الاختلاف وتاريخه . . . . ،

ولكننا وكمقدمة للأحاديث التي سنخرجها هنا نطرح تساؤلات ثلاثة :

 1 - لقد بين الله عز وجل ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) للمسلمين الأحكام التي تخص جميع القضايا ، الجزئية منها والكلية ، نحو القصاص والتعزيرات ، وحكام حرمة حقوق الآخرين وأموالهم ، وأحكاما في النظر إلى الأجنبية ولو نظرة

واحدة ، وأحكام الغيبة ولو بكلمة و . . . بحيث إن هذه الأحكام على كثرتها والتي تتجاوز العد والحصر تنقسم إلى الواجب والحرام ، والمندوب والمكروه .


فعلى هذا : فهل يعقل أن الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) لم يتعرضا لتبيين مسائل الإمامة والخلافة التي تعتبر من أهم المواضيع الإسلامية ؟

فلو أن الله والرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد جعلا حل هذه المسألة المهمة بعهدة المسلمين أنفسهم ، فلماذا لم يفعلا ذلك بالنسبة إلى المسائل الجزئية والفرعية وبينا أحكامها ؟ فلو كان الإغماض والإهمال في بيان أبسط المسائل الجزئية مثل الحلق والتقصير
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الملل والنحل : 30 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 325

في الحج ، أو آداب التخلي والاستنجاء ، أو آداب النكاح وغيرها . . . . غير جائز حسب ما تقتضيه قاعدة اللطف فهل يجوز لهما الإغماض والسكوت في مسألة مهمة كهذه ؟ فإذا كان الجواب : لا . فهل عينا أحدا لتصدي هذه المرتبة والمنصب ؟ وما هي مواصفاته ؟


 2 - يطلعنا التاريخ وسيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا يستفاد من آيات الذكر الحكيم والأحاديث ، إن المسلمين في الصدر الأول من تاريخ الإسلام كانوا يسألون النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن كل شئ من أحكام دينهم ، ويرجعون إليه في تفسير الآيات وبيانها ، ويلجأون إليه في كل صغيرة وكبيرة ، فيستفتون فيها منه حتى في العلل والأمراض كانوا يطلبون دواء دائهم من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 1 ) .


فعندئذ يتبادر إلى الذهن سؤال : هل يتصور أن أحدا من المسلمين وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يخطر على باله في تلك المدة التي عاش الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بينهم - ثلاثة وعشرين سنة - أن يسأل النبي عن مسألة الخلافة ومن يكون الإمام والخليفة من بعده ( صلى الله عليه وآله ) ؟ هذا مع أنهم على علم بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بشر ولا بد إنه سوف يرحل عنهم إلى جوار ربه ، وقد سمعوا منه يرتل عليهم ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ( 2 ) 
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) أخرج الترمذي ومسلم حديثا بما يناسب التطبيب وطلب الناس دواء مرضهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال أبو سعيد : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن أخي استطلق بطنه . فقال : اسقه عسلا . فسقاه ثم جاء ، فقال : يا رسول الله قد

سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اسقه عسلا ، فسقاه ثم جاءه فقال : يا رسول الله قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا . قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا ، فسقاه عسلا فبرأ .

سنن الترمذي 4 : 356 كتاب الطب باب ( 31 ) باب ما جاء في التداوي بالعسل ح 2082 ،
صحيح البخاري 7 : 159 كتاب الطب باب الدواء بالعسل ،
صحيح مسلم 4 : 1736 كتاب السلام باب ( 31 ) باب التداوي بسقي العسل ح 91 .
( 2 )
الزمر : 30 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 326

و ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) ( 1 ) . وإنهم كانوا يعلمون أن مسألة الخلافة والإمامة ترتبط بمصيرهم وحياتهم الدنيوية والأخروية ، وهي تماما كمسألة النبوة ، لها آثارها في جميع الأمور ، فهل يعقل أن أحدا لم يسأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن ذلك ؟


 3 - قال الله تعالى بشأن كتابة الوصية وضرورتها : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) ( 2 ) . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما حق امرئ مسلم ، له شئ يوصي فيه ، يبيت ليلتين ، إلا ووصيته مكتوبة عنده ( 3 ) .


ويقول عبد الله بن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال ذلك إلا وعندي وصيتي ( 4 )
إذن ، فكيف يسوغ للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يكون هو أول من يحيد عن أمر الله الذي أنزل عليه مؤكدا لزومه

ووجوبه ، ويترك العمل بما أوجبه هو على المسلمين بالنسبة إلى موضوع كتابة الوصية ، بينما تراه أنه أحوج الناس إلى كتابة الوصية ؟ وهل هناك أحد من المسلمين تكون تركته وأرامله وأيتامه أكثر مما تركه وخلفه
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) آل عمران : 144 .
( 2 )
البقرة : 180 .
( 3 )
صحيح البخاري 4 : 2 كتاب الوصايا ، صحيح مسلم 3 : 1249 كتاب الوصية ح 1 ،
      مسند أحمد بن حنبل 2 : 2 و 4 و 57 و 80 ،
      سنن أبي داود 3 : 112 كتاب الوصايا باب ما جاء في ما يؤمر به من الوصية ح 2862 ،
      سنن الدارمي 2 : 495 كتاب الوصايا باب ( 1 ) باب من استحب الوصية ح 3175 ،
      سنن النسائي 6 : 239 كتاب الوصايا باب الكراهية في تأخير الوصية ،
      سنن الترمذي 4 : 375 كتاب الوصايا باب ( 3 ) باب ما جاء في الحث على الوصية ح 2118 ،
     سنن ابن ماجة 2 : 901 كتاب الوصايا باب ( 2 ) باب الحث على الوصية ح 2699 .
( 4 )
صحيح مسلم 3 : 1250 كتاب الوصية ح 4 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 327

رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من التركة والأيتام والأرامل ؟ فهل يمكن للعقل والضمير البشري أن يتصور أن رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) خلف ما تركه وراءه من التركة - التعاليم الدينية والأصول الإسلامية - من دون تولية عليها ، وأنه ودع أيتامه وأرامله - جميع الناس - من دون أن ينصب لهم قيما ووليا ؟


ومن المستحيلات أن هذه المسألة لم تخطر بباله قط . وفضلا عن حكم العقل والوجدان فإن الشواهد التاريخية صريحة بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يدع أمرا - حتى وإن كان جزئيا - إلا وعين فيه من ينوب عنه ويقوم مقامه إذا عارضه أمر ما ، كما ثبت ذلك من خلال تعيينه قادة العسكر .


وثبت في التاريخ أيضا أنه ( صلى الله عليه وآله ) قد أوصى إلى أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) أن يباشر تغسيله وتكفينه وقضاء ديونه ، الشخصية ، بينما هذه من الأمور الجزئية والبسيطة التي لم تفته . فكيف تغيب عنه الوصية في أمر الخلافة والإمامة التي هي من أهم المسائل والقضايا المصيرية ؟


والجواب على هذا التساؤل من وجهة نظر الشيعة فهو في غاية اليسر والسهولة ، ولا حاجة عندهم على الاستدلال عليها والاحتجاج فيها إلى أدنى تكلف وتعب . لأن الشيعة يعتقدون بأن موضوع الخلافة لم يغب حتى للحظة واحدة عن ذهن الناس

إلا وقد سألوا عنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يكن الوصي مبهما لديهم لما كان الله عز وجل ورسوله يبينا بين آن وآخر ، منذ أن بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وآله ) بالنبوة ، وأمره بأن يعلن الرسالة على ملاء ، حمله مسؤولية تبليغ

الخلافة ونصب الخليفة ، ولم يدع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في تبليغ هذا الأمر مجالا للإبهام والإيهام عند الناس ، فبينه بأبلغ وجه ، فما مر عليه موقف إلا وتطرق إلى الخلافة وأخبر الناس عمن يتولى هذا المنصب من بعده .


يروي ابن الأثير : لما نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( 1 ) في أول البعثة دعا أقرباءه من بني عبد المطلب وأعمامه إلى مأدبة أقامها لهم ، وما أن فرغوا منها ، ورام

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الشعراء : 214 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 328

النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يتكلم حتى ابتدره أبو لهب وغالط في الكلام ، فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفي اليوم الثاني صنع ما صنع بالأمس ولكن أسرع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الكلام وأوضح لهم مسألة

الوحي والبعثة وقال : وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم ، وأعادها النبي ثلاثا ، وفي كل مرة كان علي ( عليه السلام ) يقوم ويقول : أنا يا نبي الله .

ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا . فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ويقولون : إنا لم نقبله نبيا فيجعل لنا وصيا ( 1 ) .


وفي آخر سنين حياته وعندما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) عائدا من آخر سفر للحج إلى المدينة ، وصل إلى تلك البقعة الحارة المسماة بغدير خم أمر الحجاج أن يمكثوا فيها ، فعاد المتقدمون إليه ، والتحق المتأخرون به ، فقام واقفا آخذا بيد علي ( عليه السلام ) ليعلن للجمع : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) .


وهكذا عند ما كان مستلقيا على فراش الموت ، ويتنفس الأنفاس الأخيرة من حياته وقد تصبب عرق الموت من جبينه ، تراه في هذه اللحظات أيضا لم ينس قضية الخلافة ومستقبل دينه والشريعة التي جاء بها ، ومصير أمته التي قاسى الأمرين في

سبيل هدايتها ، فكل هذه الأمور قد تجسدت أمامه ولذلك أمر الحاضرين قائلا : ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم ما لم تضلوا
بعده أبدا . وشوهد أحيانا وهو على المنبر يقول : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن

تضلوا أبدا . وأحيانا تسمع منه وهو يعلن عن خلفائه ويعددهم قائلا : الخلفاء بعدي اثنا عشر . وأحيانا أخرى يذكر الناس بالآيات التي نزلت بشأن أوصيائه ويخاطب عليا
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الكامل في التاريخ لابن أثير 2 : 62 - 63 ، تاريخ الطبري 2 : 319 - 321 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 329

يقول : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . وترى أحيانا أخرى ينوه بالبدع والتحريفات التي ستظهر من بعده ويبرز أسفه وتأثره من هذه الوقائع التي ستحدث بعد وفاته بدء بالتحريف في أصل الخلافة الذي هو أساس كل البدع والتحريفات وجذور الضلالات .


ولكن الحكومات التي تعاقبت الواحدة تلو الأخرى في غضون الأربعة عشر قرنا ، سعت واجتهدت بكل قواها في طمس الحقائق ، وإظهارها بصورة غير التي كانت عليها ، ولكن يمكن معرفة هذه الحقائق التي تعتقد بها الشيعة من خلال بعض زوايا الأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم اللذين يعتبران أهم مصدرين من مصادر العامة ولهذا السبب قد جعلناهما مرتكز بحثنا ودراستنا .


وهاك أيها القارئ الكريم باقة من الأحاديث التي انفلتت من مؤلفي الصحيحين في بيان فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) اقتطفناها من الصحيحين ومن ثم نعقب بذكر الصفات التي لا بد وأن تتوفر في من يخلف النبي ( صلى الله عليه وآله ) مما ورد في هذين الكتابين .

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب