(
إن مذهباً يثبت نفسه من
كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل
والتحوير أحق أن يتجنب عنه )
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 50 |
المنع عن التدوين في عهد عمر :
نقل ابن سعد : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار
في ذلك أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأشاروا عليه أن يكتبها ،
فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له .
فقال : إني كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا
قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإني والله لا البس
كتاب الله بشئ أبدا ( 2 ) .
الحديث في عهد عثمان : كانت خلافة عثمان بن عفان
التي استمرت اثنتي عشرة سنة من أسوأ الأزمنة وأتعسها في تاريخ الإسلام ، وذلك
لما وصلت فيها الأهواء - كحب الدنيا وقهر الآخرين والظلم - إلى أعلى مراتبه حيث
إنه أعطى حقوق
الضعفاء والمساكين وسلم بيت مال المسلمين لشرذمة ليست لهم أي
فضيلة وصلة بالدين ، سوى إنهم كانوا من قرابة الخليفة وعشيرته وملازمي بلاطه ،
فاكتنزوا الملايين ، وعاشوا مرفهين ، وبنوا القصور المشيدة ، وفي جوارهم من
المسلمين من كان يتضور جوعا .
وأما المتقون الصالحون من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد أزيحوا
عن تصدي المناصب المهمة والقضاء وإدارة الحكومة ، وحل مقامهم آخرون مستهترون -
مثل الوليد بن عقبة أخو عثمان من أمه ومروان بن الحكم - ولأن المتقون
لم يتماشوا ولم يداهنوا السياسة المتخذة والحاكمة آنذاك ،
ودأبوا على قراءة القرآن وترتيله ورواية أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله )
وتبليغها إلى الناس ، وهذا مما لا يرتضيه النظام الحاكم والسيرة العثمانية
وسياسة حكمه لأن هذه الأمور هي على نقيض سياسة الخلافة الحاكمة ، ولذلك تعرضوا
للهتك ، فمنهم من نفي إلى البوادي ، وأقصي عن
|
* ( هامش ) *
( 2 ) الطبقات
الكبرى لابن سعد 3 : 286 ، وأبو طالب مؤمن قريش للخنيزي : 2 - 3 . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 51 |
المجتمع ، ومنهم من سجن وتعرض للتعذيب الجسدي والروحي والجلد
وغيره ، وهذا علاوة على منع الخلافة العثمانية من نقل أحاديث الرسول ( صلى الله
عليه وآله ) ومخالفتهم للقرآن المجيد .
فنفي الصحابي الجليل والزاهد في الدنيا أبي ذر الغفاري إلى الشام ، ومنها إلى
صحراء الربذة ، وضرب الصحابي عبد الله بن مسعود والاعتداء عليه في وسط المسجد
حتى انجر إلى كسر أضلعه ، وضرب عمار بن ياسر إلى درجة الأغماء
وإصابته بالفتق ، وكذا الاعتداء ونفي وإهانة العشرات من
الصحابة والمسلمين الأوائل ، كلها كانت نتائج سياسة عثمان
( 1 ) وديدنه إلى أن آل الأمر به أن يرقى المنبر
ويعلن للناس منعه إياهم رواية كل حديث لم يسمع به . فقال : لا يحل لأحد أن يروي
حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا في
عهد عمر ( 2 ) .
وهكذا اشتد الوطيس على نقل الحديث وروايته حتى وصل ذروته .
الحديث في عهد معاوية : كانت دواعي وضع الحديث في
عهد معاوية وحكومته التي دامت أربعين عاما أشد من عهد الخلفاء قبله وخاصة في
السنوات الخمسة والعشرين الأخيرة من حكمه ( 3 ) .
وكلما مر الزمان كانت رغبة المسلمين تجاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومعرفة
مقامه وأهمية شأنه تزداد شيئا فشيئا ، وكانوا مولعين بسماع الأحاديث الصحيحة
وروايتها ، وهذا ما لا شك فيه كان يضر بكيان معاوية وموقعه في المجتمع أكثر مما
يتصور .
ولذلك بادر معاوية إلى أن يتدارك المشكلة ويشيد الحكم الأموي ويقويه ، فعمد إلى
اختلاق وجعل الأحاديث التي تنفع بحاله وتقوم سياسته وتوضع بديلة عن الأحاديث
الصحيحة ، وتنشر في المجتمع ، وتروى للناس .
|
* ( هامش ) *
( 1 ) راجع تفصيل
القصة وشرحها في : الغدير 8 : 292 - 295 ، و ج 9 : 3 - 69 .
( 2 ) مسند أحمد
بن حنبل 1 : 363 ، الطبقات الكبرى 2 : 336 ذكر من كان يفتي بالمدينة ويقتدى به
. . . السنة قبل التدوين : 97 ، قبول الأخبار : 29 . ( 3 ) منذ موت الخليفة
عثمان في سنة 35 حتى موته سنة 60 ه . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 52 |
ومن هنا اكتسحت المجتمع مفترياته ، وقرئت على الناس مختلقاته
، وحقق معاوية بمكره ودهائه المعروف ما أراده على كلا الصعيدين وذلك عبر جهتين
: فهو من جهة أعلن على المنبر عن منع كل حديث لم يسمع به في عهد عمر
( 1 ) ،
ومن جهة أخرى عبأ الوضاعين وأكرم كل من يروي حديثا في فضائل
عثمان وأصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) المناوئون لعلي ( عليه السلام )
وأكرمهم بالعطايا الجزيلة والهدايا الثمينة وحثهم على جعل الحديث ونقل الأكاذيب
.
فكتب أبو الحسن المدائني ( 2 ) في كتابه الأحداث
وثيقة تاريخية مهمة تحتوي على بيان حقائق حول كيفية منع الحديث
وجعل
الأحاديث المفترية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عهد معاوية ، وننقل
للقارئ مقتطفات من كلام
المدائني ، لما فيه الكفاية عن نقل سائر الشواهد الأخرى ، وتجنبا عن الأطناب
والإطالة .
المرسوم الأول : قال المدائني : كتب معاوية نسخة
واحدة إلى عماله بعد عام المجاعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب
- يعني الإمام علي - وأهل بيته - أي أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) - .
فقام الخطباء في كل
كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل
بيته ، وكان أشد الناس بلاءا حينئذ أهل الكوفة لكثرة
من بها من شيعة علي ( عليه
السلام ) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو
بهم عارف
لأنه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) فقتلهم تحت كل حجر ومدر ،
وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم
وشردهم عن العراق فلم يبق بها
|
* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح مسلم
2 : 718 كتاب الزكاة باب ( 33 ) باب النهي عن المسألة ح 98 ، و ج 3 : 1210 كتاب
المساقاة باب ( 15 ) باب الصرف وبيع الذهب ح 80 .
( 2 ) العلامة
أبو الحسن المدائني هو أحد المتضلعين وجهابذة علم التاريخ ، له مؤلفات عديدة ،
نحو خطب النبي ، والأحداث ، وخطب أمير المؤمنين ، وكتاب من قتل من الفاطميين ،
وكتاب الفاطميات ، نقل عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أقوالا وآراء
كثيرة ، وتوفي عام 225 ه وكان عمره 90 سنة . ( * ) |
|
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 53 |
معروف منهم .
ويضيف المدائني : وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن
لا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته ( عليهم السلام ) شهادة ، وأن انظروا من
قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضله ومناقبه فأدنوا
مجالسهم وقربوهم
وأكرموهم ، واكتبوا لي بما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه
وعشيرته . ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم
معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ،
فكثر ذلك
في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجئ أحد من
الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه
وشفعه ، فلبثوا بذلك حينا .
المرسوم الثاني : أضاف المدائني : كتب معاوية إلى
عماله أن الحديث في عثمان قد كثر ، وفشا في كل مصر ، وفي كل
وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة
، والخلفاء الأولين ( أبي بكر وعمر ) ،
ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا
وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي
تراب ( الإمام علي ( عليه السلام ) وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضائله
.
قرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة
مفتعلة ولا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشاروا بذكر
ذلك على المنابر ، وألقى إلى معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك
الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموا بناتهم ونساءهم
وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله .
المرسوم الثالث والرابع : ثم كتب معاوية نسخة
واحدة إلى جميع البلدان : أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته (
عليهم السلام ) فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه .
- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد
صادق النجمي ص 54 |
وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم نكلوا
به واهدموا داره ، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما الكوفة
، حتى أن الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي
إليه سره ، ويخاف من
خادمه ومملوكه ، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة
ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة
والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون والمستضعفون الذين
يظهرون الخشوع
والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا
مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار
والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها
وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها
( 1 ) .
الحديث في عهد خلفاء بني أمية : وبعد أن نقل أبو
الحسن المدائني مصير الحديث في عهد معاوية حسب ما نقلنا عنه بالتفصيل تطرق إلى
ما آل إليه الأمر عندما ولى عبد الملك بن مروان الخلافة لمدة إحدى وعشرين سنة
فاشتد البلاء والتنكيل بالشيعة على نحو لم يكن له شبيه في عهد معاوية .
ثم ذكر المدائني نموذجا من جرائم والي الخليفة الأموي في الكوفة الحجاج بن يوسف
الثقفي بحق الشيعة وقال : إن إنسانا وقف للحجاج فصاح به : أيها الأمير ، إن
أهلي عقوني فسموني عليا ، وإني فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج . فتضاحك
له الحجاج وقال : للطف ما توسلت به فقد وليتك كذا ( 2 )
.
|
* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 44 - 46 . ( 2 )
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 46 . ( * ) |
|
|