( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 191

الفصل السادس النبوة في الصحيحين


الأنبياء في القرآن الاستعداد للرسالة : النبوة والرسالة مرتبة لا يمكن تقييمها وقياسها بالمقاييس المادية والبشرية ، وهذا المقام الشامخ بحاجة إلى مقدمات عقلية وأخلاقية ونفسية ، بحيث لو لم يتحلى الإنسان بهذه الكمالات لا يمكنه أن ينال هذا المقام

الرباني ، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في عدة آيات . وقد وصفت هذه الآيات أنبياء الله ( عليهم السلام ) بأنهم في أرقي درجة من الكمال ، وذكرت لهم - على وجه العموم - صفات وخصائص ، وخص لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) -

على وجه الخصوص - ميزات وصفات خاصة . ولكي نستلهم مزيدا من التعرف على مقام النبوة والرسالة من وجهة نظر القرآن نذكر طرفا من هذه الآيات


 1 - قال تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) ( 1 ) . تؤكد هذه الآية بأن أنبياء الله ( عليهم السلام ) هم الصفوة والنخبة من البشر وقد انتجبهم الله تعالى للنبوة وحملهم رسالته السماوية .


 2 - قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( 2 ) . هذه الآية تقرير وتوضيح لاصطفاء الأنبياء ، وتؤكد بأنهم كانوا ممهدين

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الحج : 75 . ( 2 ) الأنعام : 124 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 192

ومستعدين من جهات عديدة مثل العظمة والقوة الروحية والصفاء النفسي والشجاعة وجميع الفضائل الأخلاقية والتعاليم الإلهية ومهيئين للاصطفاء والاجتباء لتلقي الرسالة الإلهية وهداية الناس وإرشادهم إلى سبيل السعادة والكمالات الإنسانية ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . . . . وكلام قوم صالح ( عليه السلام ) شاهد على هذه الحقيقة المذكورة .


 3 - قال تعالى : ( يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) ( 1 ) . يحكي الله عنهم بأنهم قالوا : يا صالح إن قوم ثمود كانوا يرون فيك الكمال وعلقوا عليك الآمال بأن تقودهم نحو المدنية والتقدم وتفيدهم وتسعدهم بخدماتك الاجتماعية .

 وتدل هذه الآية على أن الأنبياء ( عليهم السلام ) كانوا - قبل بعثتهم - أفرادا متفوقين على أممهم وأقوامهم والمجتمع الذي كانوا فيه ، بامتيازات خلقية ، بحيث إن المجتمع لم يكن ينظر إليهم بكونهم أشخاصا عاديين كسائر الأفراد ، وأن استعدادهم

وسيرتهم الأخلاقية والعبادية هي التي كانت سببا لكي يتوقع منهم المجتمع أكثر من غيرهم ، وقد أبدى قوم صالح توقعهم بقولهم : قد كنت فينا مرجوا . وأن هذه الكمالات والاستعدادات قبل بعثتهم بالنبوة هي التي جعلت أولئك الذين لم تشوبهم

العصبية والعناد أن يستجيبوا لهم في بداية أمر دعوتهم ويلتزموا بأوامرهم . عصمة الأنبياء : أكدت الكثير من الآيات بأن الأنبياء ( عليهم السلام ) كانوا معصومين من الذنوب والخطأ ومنزهين من الضلال والانحراف .

وإليك بعض الآيات التي تدل على عصمة الأنبياء ( عليهم السلام ) : 1 - قال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )
( 2 )
.

 

* ( هامش ) *
( 1 ) هود : 62 . ( 2 ) الأنعام : 90 ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 193

جاءت هذه الآية بعد أن ذكر الله عز وجل ثمانية عشر نبيا وسماهم بأسمائهم ( 1 )

وبعد أن قال : ( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم ) ( 2 ) قال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 3 ) حيث أمر الله عز وجل بوجوب الاهتداء والاتباع بهدى الأنبياء وذلك لأن هذه الهداية الواجبة الاتباع ليست من نوع الهداية

العامة ، بل هي مختصة بالأنبياء والرسل ( عليهم السلام ) . ويعلم بالضرورة والبداهة أن اختصاص الأنبياء بهذه الصفة لم يبق للذنوب والانحراف سبيلا إليهم ،

وبعبارة أخرى : إن الهداية المذكورة مصداق بارز لآية أخرى هي قوله تعالى : ( ومن يهد الله فما له من مضل ) ( 4 ) وعندما نجمع بين مفهومي هاتين الآيتين معا نحصل على أن الله تعالى هدى أنبياءه ورسله ( عليهم السلام ) على نحو ينفي

عنهم أي سبيل للانحراف والضلالة والذنوب إليهم . وبهذا أوجب الله تعالى على الآخرين متابعتهم والانقياد إليهم والاهتداء بسيرتهم وهديهم .


وهنا لا بد أن نطرح سؤالا : ما هي حقيقة الضلالة والانحراف وماهيتهما اللتين نفاهما القرآن عن الأنبياء ( عليهم السلام ) ؟ بين القرآن حقيقة الضلالة في قوله تعالى : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ولقد اضل منكم جبلا كثيرا ) ( 5 )

وفي خلال النهي الصريح في الآية عن عبادة الشيطان واتباعه ترى أن الآية قد اعتبرت أن جميع المعاصي والضلالات التي تحصل بواسطة إبليس هو انحراف وضلال ، ولو أخذنا هذه الآيات
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) وهم : إبراهيم - إسحاق - يعقوب - نوح - داود - سليمان - أيوب - يوسف - موسى - هارون - زكريا - يحيى - عيسى - إلياس - إسماعيل - اليسع - يونس - لوط . الأنعام 83 - 86 . المعرب
( 2 )
الأنعام : 87 . ( 3 ) الأنعام : 90 . ( 4 ) الزمر : 37 . ( 5 ) يس : 62 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 194

الثلاث بعين الاعتبار لاستنتجنا بأن الأنبياء والرسل ( عليهم السلام ) منزهون من كل ذنب ومعصية المعبر عنها في القرآن ضلالة .


وخلاصة القول :
 1 - وصف القرآن الأنبياء ( عليهم السلام ) بأنهم يمتازون بهداية خاصة .

 2 - إنه ليس للضلالة والانحراف سبيل إلى أولئك الذين نالوا هذه الهداية .

 3 - إن القرآن عبر عن الذنب والانحراف العام عن سبيل الله تعالى بأنهما ضلالة .


وأما الاستنتاج : فعندما نتمسك بهذه الأصول الثلاثة المذكورة ، نستطيع أن نجزم بأن القرآن الكريم نزه الأنبياء ( عليهم السلام ) عن ارتكاب الذنوب وزكاهم من الأخطاء .

 2 - قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) ( 1 ) . المنشود في هذه الآية أن الغاية من إرسال الرسل
هي إطاعتهم والانقياد لهم . ونستظهر من مضمون هذه الآية أن إرادة الله ومشيئته تعلقت بهذا الأمر ، وهو : إن الأنبياء يجب

أن يكونوا مطاعين من الجهة القولية والعملية ، لأن قولهم وفعلهم وسيلة لإرشاد وهداية الناس . فعلى هذا فإطاعة الرسل
( عليهم السلام ) والاستنان بقولهم وفعلهم واجب . وذلك لأن : لو افترضنا أنه بدرت منهم معصية لا بد وأن تكون هذه

المعصية مرادة عند الله ومحبوبة إليه ، لأنه تعالى هو الذي أمر الناس وفرض عليهم طاعة الأنبياء واتباعهم . ومن جهة أخرى نشاهد أن المعصية منهية وممنوعة ، وقد نهى الله عز وجل عن ارتكابها .

وبتعبير آخر : إن القول بعدم عصمة الأنبياء ( عليهم السلام ) مستلزمة للتناقض بأن يأمر الله بشئ وينهى عنه ، أي يكون الشئ الواحد ذا جهتين مبغوضا ومحبوبا لله تعالى في آن

 

* ( هامش ) *
( 1 ) النساء : 63 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 195

واحد ، وهذا الأمر باطل ومرفوض .

 3 - قال تعالى : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) ( 1 ) . هذه الآية تحكي قول الشيطان الذي حلف يمينا بأنه سيغوي العباد كلهم إلا المخلصين منهم ، فلو كان الأنبياء ( عليهم السلام ) ممن تصدر منهم الذنوب حتى ولو كانت

من الصغائر ، فإنهم سوف يكونون في زمرة الغاوين والضالين ، وليس من عباد الله المخلصين ، وقد قرأنا خلال الآيات التي ذكرناها آنفا ، إن الأنبياء هم الناجون والمخلصون كما قال تعالى : ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) ( 2 ) .


وتلاحظ أيضا في ثنايا الآية المذكورة أن الشيطان اعترف وأقر بالعجز عن إضلال المخلصين من العباد وإغوائهم ، وقد شهد الله تعالى لأنبيائه بأنهم من المخلصين ، وضمن لهم منزلة الإخلاص ، وأيدها لهم .


وهنا نستنتج : أن وساوس الشيطان وإضلاله لا سبيل لها إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) ، ولا تمسهم ببنت شفة . وبناء على
هذا فإنا نقطع بأن القول بصدور الذنوب من الرسل ( عليهم السلام ) وارتكابهم المعاصي قول باطل وسقيم وتحكم . هب إننا

نشاهد في بعض الآيات استشعار وقوع الذنب من بعض الأنبياء وارتكابهم المعصية ، فإن ظاهر هذه الآيات يتعارض مع تلك الآيات الصريحة التي تنفي ارتكاب الأنبياء ( عليه السلام ) للذنب ، بحيث لا يمكن الجمع بين هاتين الفئتين من الآيات ،

وعلى هذا يقتصر الحل الوحيد بأن نأول هذه الآيات إلى المعاني التي حددتها الآيات الصريحة من الفئة الأخرى والأحاديث الواردة في هذا الموضوع . وقد تصدى العلماء للموضوع فألفوا كتبا في عصمة الأنبياء وقد جمعوا بين كلا الطائفتين من الآيات ومن ثم تأويل الآيات النافية إلى معان تتناسب مع هذه الآيات والروايات الصريحة في إثبات العصمة .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 و 2 ) ص : 83 و 64 . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب