( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 250

 3 - النبي يصلي جنبا

بعد أن قمنا بالتمحيص والتحقيق في الحديث السابق - سهو النبي ( صلى الله عليه وآله ) - الذي أخرجه الصحيحان عن أبي هريرة ، وعرفت أيها المطالع الكريم أنه من الموضوعات والأحاديث المختلقة ، يمكنك الآن أن تتطلع وتتعرف على موضوعية حديث آخر يرويه الشيخان عن أبي هريرة أيضا .


يقول أبو هريرة : أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما فخرج إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب . فقال لنا : مكانكم . ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا معه ( 2 ) .


وجدير بنا أن نذكر عقيب هذا الحديث - الذي رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) - كلمة أبي هريرة التي قالها عن نفسه واعتراف في جعل الحديث .


أخرج البخاري في صحيحه حديثا حول النفقات يرويه أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولما كان في الحديث المناكير التي تعجب منها سامعوها ، فقالوا : يا أبا هريرة
 

 

* ( هامش ) *
( 2 ) صحيح البخاري 1 : 77 كتاب الغسل باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب وص 164 كتاب بدء الأذان باب أنه هل يخرج من المسجد لعلة . وباب إذا قال الإمام مكانكم حتى رجع ،
صحيح مسلم
1 : 422 كتاب الصلاة باب ( 29 ) باب متى يقوم الناس للصلاة ح 157 - 158 ،
سنن أبي داود
1 : 60 كتاب الطهارة باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ح 233 - 235 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 251

سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : لا . هذا من كيس أبي هريرة ( 1 ) .

وبناءا على هذا الإقرار والاعتراف من أبي هريرة وأنه كان يخرج من كيسه أباطيل وأراجيف وينقلها إلى الناس على أنها قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وسيرته ، فما ندري ! ولعل هذين الحديثين هما أيضا من نبع كيس أبي هريرة ،

والقرائن التي ذكرناها هناك - في حديث سهو النبي ( صلى الله عليه وآله ) - تؤيد ما أبديناه هنا . وأما هذا الخبر ، فلو كان صحيحا لرواه غير واحد من الصحابة والرواة بالتواتر ، بينما لم يسمع هذا إلا من أبي هريرة وأبي بكر ( 2 ) .


والعجب العجاب أن علماء أهل السنة قد بهرتهم هذه الأحاديث الموضوعة والمجعولة إلى حد أن بنوا عقائدهم وأحكام دينهم على أساس هذا النوع من المختلقات والموضوعات الهزيلة واعتبروها جميعا أحاديثا صحيحة لا تقبل الخدش والشك فيها .


وعلى هذا الأصل قال العيني في شرحه على الحديث المذكور : ومما يستفاد من هذا الحديث جواز النسيان على الأنبياء
( عليهم السلام ) في أمر العبادة للتشريع ( 3 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح البخاري 7 : 81 كتاب النفقات باب وجوب النفقة على الأهل والعيال . . . وقد مر علينا آنفا في ص 100 .

( 2 ) أخرج هذا الحديث المزور أرباب الصحاح ، وقد قرأت مصادره من الصحيحين ، وأما سائر الصحاح :
سنن ابن ماجة
1 : 385 كتاب إقامة الصلاة باب ( 137 ) باب ما جاء في البناء في الصلاة ح 1220 ،
سنن النسائي
2 : 81 كتاب الإمامة باب الإمام يذكر بعد قيامه في مصلاه أنه على غير طهارة ،
وكذا رواه أحمد بن حنبل في مسنده 2 : 237 و 283 و 339 و 448 و 518 . وجميع هؤلاء أخرجوا الحديث عن راو واحد ألا وهو أبو هريرة الدوسي ، وأخرج أبو داود حديثا آخر غير ما رواه أبو هريرة عن أبي بكر ،
راجع سنن أبي داود 1 : 60 - 61 كتاب الطهارة باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ح 233 - 235 .

( 3 ) عمدة القاري 5 : 156 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 252

 4 - الرسول يلعن ويؤذي المؤمنين :

عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لم تخلفنيه ، فأيما عبد آذيته أو سببته أو جلدته ، فاجعلها كفارة وقربة تقربها إليك ( 1 ) .


وفي حديث آخر قال : اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل من المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا ( 2 ) .

وقال أيضا : اللهم إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة و قربة تقر به بها منه يوم القيامة ( 3 ) .


مؤدى هذه الروايات المستخرجة في أبواب مختلفة من صحيح البخاري وخص لها مسلم في صحيحه لها بابا خاصا وعنونه : باب من لعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وليس هو أهلا . أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو كسائر البشر ، تعتريه حالات فيغضب ويؤذي المسلمين من دون سبب ويسبهم ويلعنهم .


توجيه الأحاديث : إن القرآن الكريم وصف النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه على خلق عظيم ولكن البخاري ومسلم أخرجا في كتابيهما أحاديث منافية تماما للقرآن ونقلا أحاديث حول أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عكس ما يصفه القرآن . وننقل من تلكم الأحاديث ثلاثا منها كمثال :
 

 

* ( هامش ) *
( 1 و 2 ) صحيح البخاري 8 : 96 كتاب الدعوات باب قول النبي : من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة ، صحيح مسلم 4 : 2008 كتاب البر والصلة والآداب باب ( 25 ) باب من لعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة ح 90 و 91 .

( 3 ) صحيح مسلم 4 : 2009 كتاب البر والصلة والآداب باب ( 25 ) باب من لعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة . . . . ح 95 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 253

 1 - خصص البخاري في صحيحه في كتاب الأدب بابا عنونه : لم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاحشا ولا متفحشا ، جمع فيه الأحاديث التي تصف أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) الفاضلة .

وإليك حديث واحد منها : قال ابن أبي مليكة عن عائشة : أن يهودا أتوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : السام عليكم ، فقالت عائشة : عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم . قال ( صلى الله عليه وآله ) : مهلا يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك

والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم ، فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم في ( 1 ) .


 2 - أخرج مسلم في صحيحه أحاديث متعددة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه نهى عن أن يكون المسلم لعانا وفحاشا ونهاهم حتى من لعن الدواب والحيوانات ( 2 ) .


 3 - وروى مسلم أيضا حديثا فيه : قيل : يا رسول الله ادع على المشركين ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ( 3 ) .
 

نعم أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليس كبعض أفراد البشر الذي تعتريه حالة الغضب ، من دون سبب ومن غير حق ، ويسب ويلعن المسلمين ، فكيف يتمكن من كان فحاشا يؤذي الآخرين ظلما وعدوانا ، ويضربهم بالسياط وبالدرة جورا ، أن يهدي المجتمع البشري إلى الخير والصلاح والصدق والعدل ؟


فكيف يكون النبي فحاشا ولعانا وهو يمنع عائشة من أن تجيب اليهود الذين هم ألد خصماء الإسلام ، ووجودهم أكبر مانع لتقدم الدين الحنيف ، والذين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وآله )
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح البخاري 8 : 106 كتاب الدعوات باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) يستجاب لنا في اليهود ولا يستجاب لهم فينا . وص 15 كتاب الأدب باب لم يكن النبي فاحشا ولا متفحشا .

( 2 ) صحيح مسلم 4 : 2004 كتاب البر والصلة والآداب باب ( 24 ) باب النهي عن لعن الدواب وغيرها ح 80 - 87 .
( 3 )
نفس المصدر ح 87 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 254

وأصحابه : السام عليكم ، فأجابتهم عائشة بمثل ما قالوا ، ونهاها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأمرها بالرفق والمداراة معهم ويقول : إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة .


هذا نموذج من أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي نهى الناس أن يلعنوا حتى الدواب فهل يعقل أن يكون هو يؤذي مؤمنا ويسبه أو يلعنه من غير حق ؟


أسباب وضع هذه الأحاديث : ثبت في التاريخ إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان في بعض الأحايين يلعن بعض الفئات المعينة ، ويلعن بعض الناس ، وما كان ذلك إلا بأمر من الله عز وجل ، وتارة كان ينفي بعض الأفراد إلى المناطق النائية .


هؤلاء الملعونون على لسانه كان عداءهم للدين والرسول ( صلى الله عليه وآله ) أشد من اليهود ، وكان خطرهم على المسلمين أكثر من المشركين ، ولما كان لعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إياهم يعتبر وصمة عار كبير على جباههم ،

بحيث كان يزلزل مقامهم الاجتماعي ، ولذلك حاولوا بواسطة أناس مثل أبي هريرة وغيره ، أوعزوا إليهم أن يختلقوا أحاديثا مثل هذا الحديث لكي يمحوا ذلك العار عن جباههم ، وبعد أن أدى أبو هريرة وظيفته ، قام أتباع أولئك الملعونين بنشر تلك الأحاديث وضبطها والاستفادة منها لخدمة عقيدتهم وقادتهم .


وإليك يا قارئي المنصف بعض هذه التزويرات والتحويرات :

 1 - أخرج مسلم حديثا لابن عباس قال : كنت العب مع الصبيان فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتواريت خلف
باب . قال : فجاء فحطأني حطاة وقال ( صلى الله عليه وآله ) : اذهب وادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : لا أشبع الله بطنه ( 1 ) .

إعلم أيها القارئ الكريم أن تخريج مسلم النيسابوري لهذا الحديث بعد أن ذكر أكثر من عشرة أحاديث بينها وبين صريح القرآن والسنة الصحيحة منافاة ومباينة واضحة
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) صحيح مسلم 4 : 201 كتاب البر والصلة والآداب باب ( 25 ) باب من لعنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) وليس هو أهلا لذلك ح 96 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 255

وما تخريجه لهذه الأحاديث إلا أن تكون مقدمة لتحريف المفهوم الحقيقي للحديث المشهور لدى جميع المسلمين - والذي هو بمثابة وصمة عار على جبين معاوية - ، فعلى هذا فإن لعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إياه هو وسيلة تقربه إلى الله وكفارة لجرائمه وأجرا لجناياته .


 2 - أورد ابن حجر - في كتابه تطهير الجنان - الذي ألفه في فضائل معاوية عند تأويله للحديث ( لا أشبع الله بطنه ) إجابات عديدة ثم قال : إن هذا الدعاء جرى على لسانه ( صلى الله عليه وآله ) من غير قصد ، وقد أشار مسلم في صحيحه إلى أن معاوية لم يكن مستحقا لهذا الدعاء ، وذلك لأنه أدخل هذا الحديث في باب من سبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) أودعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان زكاة وأجرا ورحمة ( 1 ) .


 3 - قال الحافظ الذهبي في تذكرته في ترجمة النسائي صاحب السنن : قيل له : ألا تخرج فضائل معاوية ؟ فقال : أي شئ أخرج حديث ( اللهم لا تشبع بطنه ) ؟ فسكت السائل . قال الذهبي : هذا الحديث أورده النسائي ذما لمعاوية . أقول : لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة ( 2 ) .


 4 - أخرج ابن حجر روايات عديدة بأسانيد وطرق مختلفة نقلها من كتب ومصادر أهل السنة حول لعن النبي الحكم بن العاص وابنه مروان ثم يقول : لعنته ( صلى الله عليه وآله ) الحكم وابنه - مروان - لا تضرهما لأنه ( صلى الله عليه وآله ) تدارك ذلك بقوله مما بينه في الحديث الآخر : إنه بشر يغضب كما يغضب البشر ، وأنه سأل ربه أن من سبه أو لعنه أو دعا عليه أن يكون ذلك رحمة وزكاة وكفارة وطهارة له ( 3 ) .


أقول : ترى في مقولة ابن حجر - الذي عرف بتأثره بالعصبية ، والذي آثر رجلين

 

* ( هامش ) *
( 1 ) تطهير الجنان بذيل الصواعق المحرقة : 29 .
( 2 )
تذكرة الحفاظ 2 : 699 ترجمة النسائي رقم الترجمة 719 .
( 3 )
تطهير الجنان بذيل الصواعق المحرقة : 65 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 256

حقيرين وذليلين مثل مروان وأبيه الحكم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وانتصر لهما ودافع عنهما - نوعا من التحجيم والتصغير لمرتبة النبوة ، وتصوير النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه كسائر البشر العاديين .


وتشاهد أن بين هذا الكلام الذي تقوله ابن حجر وبين النصوص القرآنية التي تقول : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ( 1 ) تفاوت كبير وتعارض واضح . نعم ، رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بشر ولكن يمتاز عليهم بما يوحى


إليه ، قال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) ( 2 ) . إذن فإذا أوحى الله عز وجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يلعن أحدا فإنه يلعن بأمر من الله عز وجل . وعليه ، فمن يلعن على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلا يغنيه دفاع أحد عنه شيئا ، وانتصار الآخرين له .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) النجم : 4 . ( 2 ) الكهف : 110 ، فصلت : 6 .

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب