( إن مذهباً يثبت نفسه من كتب خصمه أحق أن يتبع ، وإن مذهبا يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ للتأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه )

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 256

 5 - نهي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عن تلقيح النخيل : روى مسلم في صحيحه ، وابن ماجة في سننه ، ثلاث أحاديث تتضمن : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مر بقوم يلقحون النخيل فقال : لو لم تفعلوا لصلح . قال ثابت بن أنس : فخرج شيصا ، فمر ( صلى الله عليه وآله ) بهم . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ما لنخلكم ؟ قالوا : قلت كذا وكذا . قال ( صلى الله عليه وآله ) : أنتم أعلم بأمور دنياكم ( 3 ) .
 

وفي حديث آخر قال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر ( 4 ) .

وفي ثالث قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم ( 5 ) .

 

* ( هامش ) *
( 3 - 5 ) صحيح مسلم 4 : 1836 كتاب الفضائل باب ( 38 ) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ( صلى الله عليه وآله ) من معايش الدنيا على سبيل الرأي ح 139 - 141 ،
سنن ابن ماجة
2 : 825 كتاب الرهون باب ( 15 ) باب تلقيح النخل ح 2470 - 2471 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 257

دلائل اختلاق القصة : إن كون هذا الحديث من السخافات الموضوعة هو من أوضح الواضحات ، بحيث يغنينا عن البحث والتكلف في جهات الحديث ، لأن إحدى الروايات تقول : إن القصة وقعت في المدينة ، فيا ترى أن نبيا عاش في الجزيرة


العربية خمسين عاما وعاشر أهلها ، ويراهم يلقحون النخيل في كل عام ، هل يعقل بمجرد أن هاجر إلى يثرب نسي هذا
الأمر - التلقيح - ؟ ولم يعلم مدى تأثير التلقيح على النخلة ورشدها حتى منع أهل يثرب عن هذا العمل ، ولما رأى أن المسألة


صارت معكوسة ندم على قوله ، ثم أعلن للناس أنتم أعلم بأمور دنياكم ؟ لا يخفى أن الغاية من جعل هذا الحديث هي فتح
باب المخالفة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بحيث لو أراد الخلفاء وأصحاب السلطة يوما أن يحكموا على خلاف تعاليم النبي


 صلى الله عليه وآله ) وينقضوا أوامره ، فهم يملكون دليلا ، ويستدلون على مخالفتهم بأن النبي قد ارتكب خطأ في مسألة تلقيح النخيل وبعدها قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم . ومما يجدر ذكره أن هؤلاء عالجوا هذه المسألة بتلبيسها الوجهة العلمية


والفنية واسموها بالاجتهاد ، وادعوا بأن الرسول إذا أمر بحكم ولم يكن هذا الحكم في القرآن ولا علاقة له بالوحي فإنه يكون من اجتهاداته ( صلى الله عليه وآله ) . ومخالفة المجتهدين بعضهم بعضا في المسائل العلمية أمر عادي ولا يرد عليه إشكال .


وإليك آراء علماء العامة في هذا الموضوع : هل كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتعبد بالاجتهاد ؟ قال الآمدي : اختلفوا في أن النبي هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص قرآني فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف : إنه كان متعبدا ، وجوز ذلك الإمام الشافعي في رسالته ، وبه قال أصحابه والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري : نعم ،
 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 258

كان النبي يتعبد باجتهاده فيما لا نص صريح من القرآن فيه . ثم يقول الآمدي : المختار عندنا جواز ذلك عقلا ووقوعه سماعا ( 1 ) . ثم يضيف : إن القائلين بجواز الاجتهاد للنبي ( صلى الله عليه وآله ) اختلفوا فيما هل يمكن أن يخطأ النبي في

اجتهاده أم لا ؟ فذهب بعض أصحابنا إلى منع وقوع الخطأ في اجتهاداته ، وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جواز ذلك ( 2 ) .


وقال الدكتور موسى توانا ( 3 ) في كتابه الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر : بدء الاجتهاد في الإسلام منذ عهد رسول الله ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجتهد في الأمور التي لا تتعلق بالرسالة . ثم يذكر قصة التلقيح دليلا على ما ذهب إليه .


قال الشيخ محمد عبدة : وقد كان الإذن المعاتب عليه اجتهاد منه ( صلى الله عليه وآله ) فيما لا نص فيه من الوحي ، وهو جائز وواقع من الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به . . . . ويؤيده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم يلقحونها ( 4 ) .


وقال المحقق المتكلم الفاضل القوشجي عند ذكره مسألة تحريم عمر للمتعة ومخالفته لحكم رسول الله فيها : وأجيب عن ذلك : بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه - أي عمر - فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع ( 5 ) .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) الإحكام في أصول الأحكام 4 : 398 المسألة الأولى .
( 2 )
المصدر السابق ص 440 المسألة الحادية عشر .
( 3 )
وهو من علماء العامة ومن الأساتذة الأفغان وكتابه المذكور هو رسالته الجامعية طبع من قبل جامعة الأزهر بمصر .
( 4 )
تفسير المنار 10 : 465 - 466 .
( 5 )
شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : 384 فصل الإمامة . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 259

وقال قاضي القضاة في المغني : إن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده ، وليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي ، كما يجب في الأحكام الشرعية ، وإن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد

وفاته ، وإن لم يجز في حياته لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره . ثم ذكر : أن العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه ، وقيامه بما لا يقوم به غيره . وأن ذلك أحوط للدين من نفوذه ( 1 ) .


أقول : ذكرنا في فصل هل الرسول كان يجتهد ( 2 ) ؟ وأثبتنا عدم تعبد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالاجتهاد واستدللنا على ذلك بالآيات المتظافرة ، ونقلنا آراء بعض علماء أهل السنة من المحدثين والمفسرين الذين ذهبوا إلى ما قلناه بعدم التعبد بالاجتهاد ، وأن هناك نوعا آخر من الوحي غير الوحي القرآني فكلامه كله وحي إلهي .


 فعلى هذا فلو حكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحكم لم يرد نصه في القرآن الكريم لم يكن دليلا على عدم وجود الوحي في الحكم ، بل حكمه وحي من النوع الثاني القرآني .


وعلى هذا فكما أن أساس قصة تأبير النخل فاقدة الصحة فكذلك عقيدة أولئك العلماء من أهل السنة الذين نسبوا إلى رسول الله التعبد بالاجتهاد وجواز الخطأ في اجتهاده تكون باطلة ومردودة ، وإن التمسك بقصة تأبير النخل ذريعة ودليلا لعقيدتهم ليست لها قيمة علمية ، كما أن عدم وجود حكم واضح في القرآن ليس دليل على عدم وجود الوحي والحكم الإلهي في المسألة .


وأما ما ذكره الفاضل القوشجي عن مقولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في تحريمه للمتعتين واعتبر مخالفته للرسول مخالفة في مسألة اجتهادية فهو مردود ومرفوض أيضا ، ولم يقبله أي محقق لبيب ، لأن هذا القول هو قياس مع الفارق ولا يوجد
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) شرح نهج البلاغة 17 : 176 . ( 2 ) راجع ص : 207 . ( * )

 

 

- أضواء على الصحيحين - الشيخ محمد صادق النجمي ص 260

من يقيس الرسول ويقارنه بأحد أفراد هذه الأمة ، وقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو نفس الحكم الثابت في اللوح المحفوظ : ( إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) ( 1 )

أليس الاجتهاد هو رد الفروع على الأصول والاستفادة من الأدلة الظنية عن طريق استنباط الحكم الواقعي ؟

فهل يبقى للمقايسة بين النبي ( صلى الله عليه وآله ) وغيره محل ؟ فأين الثرى وأين الثريا ؟


وأما ما ادعوه من جواز الاختلاف في الاجتهاد فهذا صحيح إذا اختلف مجتهدان ووقع اجتهاد أحدهما في مقابل اجتهاد الآخر وأما أن يجتهد أحد في مقابل نص الرسول والوحي والقانون الإلهي فهذا ليس باجتهاد وسميه بما تشاء .
 

 

* ( هامش ) *
( 1 ) النجم : 4 - 5 . ( * )

 

 

 

الصفحة الرئيسية

 

مكتبة الشبكة

 

فهرس الكتاب