- رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4 ص 1 : -

الرسالة الرابعة في الغيبة
تأليف الامام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان
ابن المعلم ابي عبد الله ، العكبري ، البغدادي
 

- ج 4 ص 3 -

" لو اجتمع على الامام عدة أهل بدر لوجب عليه الخروج "

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا لم يظهر المهدي ؟ ومتى سيظهر ؟ سؤال كثيرا ما يسمع من المعتقدين بالامام صاحب الزمان عليه السلام عند ما يمتلئون غيظا من الاعداء ، فيحسبون أن الدنيا ملئت ظلما وجورا ، وقد عين ذلك وقتا لظهوره عليه السلام كي يملاها عدلا ورحمة .

ويبدو أن توقيتا اخر كان معروفا في زمان الشيخ المفيد ، حيث قد روي حديث عن الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام يقول : انه لو اجتمع على الامام عدة أهل بدر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، لوجب عليه الخروج بالسيف .

وقد طرح على الشيخ المفيد سؤال عن هذا الحديث ، فأقر الشيخ أنه حديث مروي . فحاول صاحب السؤال أن يناقش الشيخ حول الغيبة وشؤونها من خلال هذا الحديث ، وقد ضمهما مجلس في بيت السائل الذي عبر عنه ب‍ " رئيس من الرؤساء " .


قال السائل :
إنا نعلم - يقينا - أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل

- ج 4 ص 4 -

بدر ، فكيف تجور للامام الغيبة مع تلك الرواية ؟

أجاب الشيخ : إن الشيعة وإن كانت كثيرة من حيث العدد والكم ، لكن العدد المذكور في الرواية ليس المراد بهم العدد والكم فقط ، وإنما هم على كيفية خاصة ، وتلك الكيفية لم نعلم حصولها بعد بصفتها وشروطها ، حيث أنه يجب ان يكونوا على

حالة مأمونة من الشجاعة ، والصبر على اللقاء ، والاخلاص في الجهاد ، إيثارا للاخرة على الدنيا ، ونقاء السرائر من العيوب ، وصحة الا بدان والعقول ، وأنهم لا يهنون ، ولا يفترون عند اللقاء ، ويكون العلم من الله لعموم المصلحة في

ظهورهم بالسيف . ولم نعلم أن كل الشيعة بهذه الصفات وعلى هذه الشروط . ولو علم الله أن في جملتهم من هذه صفته على العدد المذكور ، ولم يكن معذورا عن حمل السيف ، لظهر الامام عليه السلام لا محالة ، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين . لكن من الواضح عدم حصول مثل هذا الاجتماع ، فلذلك استمرت الغيبة .


واعترض السائل : ومن أين عرفت لزوم هذه الصفات والشروط مع خلو النص المذكور عن شئ منها ؟

أجاب الشيخ : إن مسلمات الامامة تفرض علينا إثبات هذه الصفات الاصحاب الامام عليه السلام ، فحيث ثبت لنا وجوب الامامة ، وصحت عندنا عصمة الائمة بحججها القويمة ، فلا بد أن نشرح الحديث المذكور بما يوافق تلك الثوابت ، حتى

يصح عندنا معناه . فتلك الاصول وصحة الخبر المذكور تقتضي أن يكون العدد المذكور موصوفا بتلك الصفات .

- ج 4 ص 5 -

وقد مثل الشيخ لما ذكر ، بما ثبت من جهاد النبي صلى الله عليه والله و سلم يوم بدر ب‍ ( 313 ) رجلا من أصحابه ، لكنه يوم الحديبية أعرض عن الحرب ، وقعد ، مع أن أصحابه يومئذ كانوا أضعاف أهل بدر في العدد .


وبما أنا نعلم عصمة النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأنه لا يقوم بأمر الا ما هو الصواب ، علمنا أن اصحابه في الحديبية لم يتصفوا بما اتصف به أصحابه يوم بدرو إلا لما وسعه صلى الله عليه واله القعود عن جهاد المشركين ، ولوجب عليه كما وجب عليه في بدر ، ولو وجب عليه لما تركه لما نعلم من عصمته وصوابه .


وحاول السائل : أن يفرق بين النبي صلى الله عليه والله ، وبين الامام عليه السلام ، بأن النبي يوحى إليه ، ويعرف وجه المصلحة في الامور من خلال الوحي ، ولكن ما طريق الامام إلى معرفة ذلك ؟

أجاب الشيخ : إن الامام - عند الشيعة - معهود إليه ، واقف على ما يأتي و ما يذكر ، منصوبة له أمارات تدل على العواقب في التدبيرات والمصالح في الافعال ، بعهد من النبي صلى الله عليه والله الذى يوحى إليه ويطلع على علم السماء .

ولو كان الامام عليه السلام كسائر العقلاء معتبرا ذلك بغلبة الظن والحدس، وما يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى، وقام مقام التحقيق بلا ارتياب ، لاسيما على مذهب المخالفين في جواز الاجتهاد حتى للنبي صلى الله عليه و آله . وإن كنا لا نرى ذلك


واعترض السائل : لم لم يظهر الامام عليه السلام وان كان ظهوره يؤدي إلى قتله ، فيكون البرهان له ، والحجة في إمامته أوضح ، ويزول الشك في وجوده والارتياب

- ج 4 ص 6 -

أجاب الشيخ : لم يجب ذلك على الامام عليه السلام بعد أن كان الناس هم سبب الغيبة والمسؤولين عن عواقبها ، كما أن الله تعالى لا يجب عليه تعجيل النقمة على العصاة والمفسدين ، مع أن في ذلك توضيحا لقدرته ، وتاكيدا في حجته ، وزجرا

للناس عن معاصيه . مع أن العلم بترتب الفساد على ظهوره يمنع من ايجاب ذلك عليه ، وهو الدليل على كون اقتراحه عليه خطأ ، وإنما يكون صوابا إذا ترتب عليه الصلاح والاصلاح ، والامام عليه السلام لو علم في ظهوره مصلحة لما بقي في الغيبة طرفة عين ، ولا فتر عن المسارعة إلى الظهور .


والدليل على عصمته ، مع عدم ظهوره ، هو الدليل على معرفته لعدم المصلحة في الظهور في هذا الزمان . والحاصل ان الالتزام بمسلمات الامامة واصولها الثابتة ، يؤدي إلى الالتزام بالواقع حقا لا ريب فيه . ولا بد أن يجعل هذا أساسا لما يدور من بحوث حول الغيبة ، والا فالبحث عن الغيبة بدون ذلك لغو غير منتج .


أقول : وقد اتبع هذا النهج من الاستدلال السيد الشريف المرتضى في كتاب ( المقنع في الغيبة ) تماما .

ثم ان الشيخ المفيد عارض المعتزلة : حيث أنهم من المتصلبين في التشنيع على الامامية بالقول في الغيبة ، و مرور الزمان بغير ظهور الامام ؟ ! مع أنهم يوافقون على الاصول المسلمة للامامة : فهم يقولون بوجوب
 

- ج 4 ص 7 -

الامامة ، ويقولون بالحاجة إلى الامام في كل زمان ، وهم يقطعون على خطأ من يقول بالاستغناء عن الامام ! ومع هذا فهم يعترفون بانهم لم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى هذا الزمان ! بل ، لا يرجون إقاسة إمام لهم في هذا الاوان .

فلو صحت تلك الاصول التي نقول بها نحن وهم ، فنحن أعذر منهم بقولنا بإمامة ولو في الغيبة - والقول بوجوده ومعرفتنا له ، وهذا موافق لاصول الامامة وللخبر المجمع عليه : " من مات . . . " ولكن المعتزلة لا عذر لهم في الاعراض عن اصول الامامة التي وافقوا عليها وسلموا بها .


ودافع بعض الحاضرين عنهم : بأنهم معذورون من جهة اخرى ، في عدم إقامة الاحكام والحدود ، لكن الشيعة - مع ظهور أئمتهم من وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى زمان الغيبة ، فما عذرهم في ترك إقامة الاحكام : في تعطيل الحدود ؟


 فأجاب الشيخ ؟ إن عدم وجود امام لهم ، ليس عذرا لهؤلاء في تعطيل الحدود وترك الاحكام ، لان من مذهبهم أن في كل زمان طائفة من أهل الحل والعقد تكون إقامة الامام إليهم ، فبامكانهم - في كل وقت - نصب الامام ، ولا يعذرون في كفهم عن نصبه ، وهم موجودون - في زمان الشيخ - معروفون ظاهرون ، فإذا تركوا ذلك كانوا عاصين ضالين .


أفهل يعترفون بالعصيان والضلال ؟ كلا طبعا . فإن كانوا معذورين في إقامة الاحكام وتنفيذ الحدود ، مع إمكانهم نصب الامام القائم بذلك ، فكذلك أئمة الشيعة معذورون من إقامتها وتنفيذها مع

- ج 4 ص 8 -

الظهور . على أن لا ئمتنا عليهم السلام عذر أو صح في ترك إقامة الحدود والاحكام وأظهر، وهو ما لا يعذر المعتزلة به في ترك نصبهم لامام عليه السلام ، وهو : أن الائمة من أهل البيت عليهم السلام كانو ! دائما مطاردين من قبل السلطان يعيشون

الخوف والفزع لاحتمال الظالمين أنهم يرون الخروج بالسيف ، وأنهم ممن يعتقد جماعة فيهم الامامة ، وأنهم مراجع لاقامة الاحكام وتنفيذ الحدود . وهذا أمر واضح لا يشك فيه أحد . لكن المعتزلة وغيرهم من المعتزلة لم يتعرض واحد منهم لسفك

دمه ولا للتشريد والتعذيب والمطاردة، ولا خيف ولم يؤخذ على التهمة ، ولا على التحقق، مع أن المعتزلة يصارحون بارائهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكرو وجوبهما ، ويتظاهرون بأنهم أصحاب الحق في الولاية والحكم والاختيار ، وأن

منهم أهل الحل والعقد ، وينكرون طاعة الخلفاء ، وهم مع ذلك امنون من السلطان غير خائفين من سطوته . فلا عذر لهم في ترك ما يجب عليهم من نصب الامام لاقامة الاحكام و تنفيذ الحدود . وأما أئمتنا فهم في تلك الاحوال معذورون بلا ريب .

والله الموفق للصواب .

 

وكتب الستد محمد رضا الحسيني الجلالي
 

الرسالة الرابعة في الغيبة
 

 

الصفحة الرئيسية

 

مؤلفات الشيخ المفيد

 

رسائل في الغيبة