تأليف الامام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن
النعمان
ابن المعلم ابي عبد الله ، العكبري ، البغدادي
" لو اجتمع على الامام عدة أهل بدر لوجب عليه الخروج "
بسم الله الرحمن
الرحيم
لماذا لم يظهر المهدي ؟ ومتى سيظهر ؟ سؤال كثيرا ما يسمع من المعتقدين
بالامام صاحب الزمان عليه السلام عند ما يمتلئون غيظا من الاعداء ، فيحسبون أن
الدنيا ملئت ظلما وجورا ، وقد عين ذلك وقتا لظهوره عليه السلام كي يملاها عدلا
ورحمة .
ويبدو أن توقيتا اخر كان معروفا في زمان الشيخ المفيد ، حيث قد روي
حديث عن الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام يقول : انه لو اجتمع على
الامام عدة أهل بدر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، لوجب عليه الخروج بالسيف .
وقد
طرح على الشيخ المفيد سؤال عن هذا الحديث ، فأقر الشيخ أنه حديث مروي . فحاول
صاحب السؤال أن يناقش الشيخ حول الغيبة وشؤونها من خلال هذا الحديث ، وقد ضمهما
مجلس في بيت السائل الذي عبر عنه ب " رئيس من الرؤساء " .
قال السائل : إنا
نعلم - يقينا - أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل
بدر ، فكيف تجور للامام الغيبة مع تلك الرواية ؟
أجاب الشيخ : إن
الشيعة وإن كانت كثيرة من حيث العدد والكم ، لكن العدد المذكور في الرواية ليس
المراد بهم العدد والكم فقط ، وإنما هم على كيفية خاصة ، وتلك الكيفية لم نعلم
حصولها بعد بصفتها وشروطها ، حيث أنه يجب ان يكونوا على
حالة مأمونة من
الشجاعة ، والصبر على اللقاء ، والاخلاص في الجهاد ، إيثارا للاخرة على الدنيا
، ونقاء السرائر من العيوب ، وصحة الا بدان والعقول ، وأنهم لا يهنون ، ولا
يفترون عند اللقاء ، ويكون العلم من الله لعموم المصلحة في
ظهورهم بالسيف . ولم
نعلم أن كل الشيعة بهذه الصفات وعلى هذه الشروط . ولو علم الله أن في جملتهم من
هذه صفته على العدد المذكور ، ولم يكن معذورا عن حمل السيف ، لظهر الامام عليه
السلام لا محالة ، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين . لكن من الواضح عدم حصول مثل
هذا الاجتماع ، فلذلك استمرت الغيبة .
واعترض السائل : ومن أين عرفت لزوم هذه
الصفات والشروط مع خلو النص المذكور عن شئ منها ؟
أجاب الشيخ : إن مسلمات
الامامة تفرض علينا إثبات هذه الصفات الاصحاب الامام عليه السلام ، فحيث ثبت
لنا وجوب الامامة ، وصحت عندنا عصمة الائمة بحججها القويمة ، فلا بد أن نشرح
الحديث المذكور بما يوافق تلك الثوابت ، حتى
يصح عندنا معناه . فتلك الاصول
وصحة الخبر المذكور تقتضي أن يكون العدد المذكور موصوفا بتلك الصفات .
وقد مثل الشيخ لما ذكر ، بما ثبت من جهاد النبي صلى الله عليه والله و
سلم يوم بدر ب ( 313 ) رجلا من أصحابه ، لكنه يوم الحديبية أعرض عن الحرب ،
وقعد ، مع أن أصحابه يومئذ كانوا أضعاف أهل بدر في العدد .
وبما أنا نعلم عصمة
النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأنه لا يقوم بأمر الا ما هو الصواب ، علمنا
أن اصحابه في الحديبية لم يتصفوا بما اتصف به أصحابه يوم بدرو إلا لما وسعه صلى
الله عليه واله القعود عن جهاد المشركين ، ولوجب عليه كما وجب عليه في بدر ،
ولو وجب عليه لما تركه لما نعلم من عصمته وصوابه .
وحاول السائل : أن يفرق بين
النبي صلى الله عليه والله ، وبين الامام عليه السلام ، بأن النبي يوحى إليه ،
ويعرف وجه المصلحة في الامور من خلال الوحي ، ولكن ما طريق الامام إلى معرفة
ذلك ؟
أجاب الشيخ : إن الامام - عند الشيعة - معهود إليه ، واقف على ما يأتي و
ما يذكر ، منصوبة له أمارات تدل على العواقب في التدبيرات والمصالح في الافعال
، بعهد من النبي صلى الله عليه والله الذى يوحى إليه ويطلع على علم السماء .
ولو كان الامام عليه السلام كسائر العقلاء معتبرا ذلك بغلبة الظن والحدس، وما
يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى، وقام مقام التحقيق بلا ارتياب ، لاسيما على
مذهب المخالفين في جواز الاجتهاد حتى للنبي صلى الله عليه و آله . وإن كنا لا
نرى ذلك
واعترض السائل : لم لم يظهر الامام عليه السلام وان كان ظهوره يؤدي
إلى قتله ، فيكون البرهان له ، والحجة في إمامته أوضح ، ويزول الشك في وجوده
والارتياب
أجاب الشيخ : لم يجب ذلك على الامام عليه السلام بعد أن كان
الناس هم سبب الغيبة والمسؤولين عن عواقبها ، كما أن الله تعالى لا يجب عليه
تعجيل النقمة على العصاة والمفسدين ، مع أن في ذلك توضيحا لقدرته ، وتاكيدا في
حجته ، وزجرا
للناس عن معاصيه . مع أن العلم بترتب الفساد على ظهوره يمنع من
ايجاب ذلك عليه ، وهو الدليل على كون اقتراحه عليه خطأ ، وإنما يكون صوابا إذا
ترتب عليه الصلاح والاصلاح ، والامام عليه السلام لو علم في ظهوره مصلحة لما
بقي في الغيبة طرفة عين ، ولا فتر عن المسارعة إلى الظهور .
والدليل على عصمته
، مع عدم ظهوره ، هو الدليل على معرفته لعدم المصلحة في الظهور في هذا الزمان .
والحاصل ان الالتزام بمسلمات الامامة واصولها الثابتة ، يؤدي إلى الالتزام
بالواقع حقا لا ريب فيه . ولا بد أن يجعل هذا أساسا لما يدور من بحوث حول
الغيبة ، والا فالبحث عن الغيبة بدون ذلك لغو غير منتج .
أقول : وقد اتبع هذا
النهج من الاستدلال السيد الشريف المرتضى في كتاب ( المقنع في الغيبة ) تماما .
ثم ان الشيخ المفيد عارض المعتزلة : حيث أنهم من المتصلبين في التشنيع على
الامامية بالقول في الغيبة ، و مرور الزمان بغير ظهور الامام ؟ ! مع أنهم
يوافقون على الاصول المسلمة للامامة : فهم يقولون بوجوب
الامامة ، ويقولون بالحاجة إلى الامام في كل زمان ، وهم يقطعون على
خطأ من يقول بالاستغناء عن الامام ! ومع هذا فهم يعترفون بانهم لم لا إمام لهم
بعد أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى هذا الزمان ! بل ، لا يرجون إقاسة إمام
لهم في هذا الاوان .
فلو صحت تلك الاصول التي نقول بها نحن وهم ، فنحن أعذر
منهم بقولنا بإمامة ولو في الغيبة - والقول بوجوده ومعرفتنا له ، وهذا موافق
لاصول الامامة وللخبر المجمع عليه : " من مات . . . " ولكن المعتزلة لا عذر لهم
في الاعراض عن اصول الامامة التي وافقوا عليها وسلموا بها .
ودافع بعض الحاضرين
عنهم : بأنهم معذورون من جهة اخرى ، في عدم إقامة الاحكام والحدود ، لكن الشيعة
- مع ظهور أئمتهم من وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى زمان الغيبة ،
فما عذرهم في ترك إقامة الاحكام : في تعطيل الحدود ؟
فأجاب الشيخ ؟ إن عدم
وجود امام لهم ، ليس عذرا لهؤلاء في تعطيل الحدود وترك الاحكام ، لان من مذهبهم
أن في كل زمان طائفة من أهل الحل والعقد تكون إقامة الامام إليهم ، فبامكانهم -
في كل وقت - نصب الامام ، ولا يعذرون في كفهم عن نصبه ، وهم موجودون - في زمان
الشيخ - معروفون ظاهرون ، فإذا تركوا ذلك كانوا عاصين ضالين .
أفهل يعترفون
بالعصيان والضلال ؟ كلا طبعا . فإن كانوا معذورين في إقامة الاحكام وتنفيذ
الحدود ، مع إمكانهم نصب الامام القائم بذلك ، فكذلك أئمة الشيعة معذورون من
إقامتها وتنفيذها مع
الظهور . على أن لا ئمتنا عليهم السلام عذر أو صح في ترك إقامة الحدود
والاحكام وأظهر، وهو ما لا يعذر المعتزلة به في ترك نصبهم لامام عليه السلام ،
وهو : أن الائمة من أهل البيت عليهم السلام كانو ! دائما مطاردين من قبل
السلطان يعيشون
الخوف والفزع لاحتمال الظالمين أنهم يرون الخروج بالسيف ، وأنهم
ممن يعتقد جماعة فيهم الامامة ، وأنهم مراجع لاقامة الاحكام وتنفيذ الحدود .
وهذا أمر واضح لا يشك فيه أحد . لكن المعتزلة وغيرهم من المعتزلة لم يتعرض واحد
منهم لسفك
دمه ولا للتشريد والتعذيب والمطاردة، ولا خيف ولم يؤخذ على التهمة ،
ولا على التحقق، مع أن المعتزلة يصارحون بارائهم في الامر بالمعروف والنهي عن
المنكرو وجوبهما ، ويتظاهرون بأنهم أصحاب الحق في الولاية والحكم والاختيار ،
وأن
منهم أهل الحل والعقد ، وينكرون طاعة الخلفاء ، وهم مع ذلك
امنون من السلطان غير خائفين من سطوته . فلا عذر لهم في ترك ما يجب عليهم من
نصب الامام لاقامة الاحكام و تنفيذ الحدود . وأما أئمتنا فهم في تلك الاحوال
معذورون بلا ريب .
والله الموفق للصواب .
وكتب الستد محمد رضا الحسيني الجلالي
الرسالة الرابعة في الغيبة