تأليف الامام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن
النعمان
ابن المعلم ابي عبد الله ، العكبري ، البغدادي ( 336 - 413 ه )
تحقيق
علاء آل جعفر
" من مات وهو لايعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية "
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الحديث المتسالم بين الامة على صحته وقبوله .
وقد قال المفيد فيه :
خبر صحيح يشهد به إجماع أهل الآثار . وقال في الافصاح : انه خبر متواتر . وقد
رواه علماء المذاهب الاسلامية الكبرى ، كافة : الشيعة الامامية ، والزيدية ،
وأهل السنة : وأمر اسناده مفروغ عنه ، فلذلك لم يطول الشيخ في البحث عنه ،
وإنما تعرض لمعناه ومدلوله .
فذكر أولا : أن القران يشهد لمعناه في ايات صريحة
: منها قوله تعالى : " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم . . . " .
وقوله تعالى : "
فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " .
ومدلول الحديث :
أن عدم معرفة الانسان إمام زمانه يؤدى إلى أن يموت ميتة جاهلية ، على غير ملة
الاسلام ، " فالجهل بالامام يخرج صاحبه عن الاسلام " كما يقول المفيد في
الافصاح ( ص 28 ) .
إذن ، لابد من وجود إمام في كل عصر وزمان ، ولابد للمسلم أن يعرف صاحب
عصره ، وإمام زمانه ، وإلا مات ميتة الكفر والضلالة الجاهلية .
والشيعة
الامامية يعتقدون بامام العصر وصاحب الزمان عندهم وأنه هو محمد بن الحسن
العسكري عليه السلام ، وأنه المهدي المنتظر خروجه في اخر الزمان ، وأنه غاب بعد
فترة من ولادته ، وهم يعتقدون بغيبته .
وقد اعترض بعض المخالفين على هذا
الاعتقاد بأنه يتعارض ومنطوق الحديث ، وتصور أن غيبة الامام تنافي معرفغنا به ،
لان وجوده تستلزم العلم بمكانه ، والاتصال به والاستفادة منه . فقدم اعتراضات
عديدة :
1 - فاعترض على الغيبة بأنه : إذا كان الخبر صحيحا ، فكيف يصح قول
الشيعة في امام هذا الزمان أنه غائب ، مستتر عن الجميع ، لا يتصل به أحد ، ولا
يعلم مكانه ومستقره ؟
وأجاب الشيخ المفيد عن هذا ، بأن مدلول الخبر هو " لزوم
وجود الامام و لزوم معرفة المسلم به " ولم يتضمن " وجوب ظهوره وعدم غبيته "
فالاعتقاد بالغيبة لا ينافي مدلول الخبر ، وتوضيح ذلك : أن الوجرد والمعرفة لا
تستلزم ما ذكر في
الاعتراض من الاتصال والعلم بالمكان ، فإن معرفة الامر لا
تتوقف على مشاهدته والحضور عنده فقط ، لما هو المحسوس من معرفتنا لامور كثيرة
لم نرها ولم نحضرها ، كالامور والحوادث الماضية التي عرفناها وحصل عندنا العلم
بها ، وكذا
نعرف أشياء وأمورا تقع في المستقبل من دون أن نتصل بها كيوم القيامة
والحشر والنشر . ثم إن المصلحة قد تتعلق بمجرد معرفة الشئ أو الشخص ، ولا تتعلق
بمشاهدته ومعرفة مكانه أو الاتصال به .
2 - واعترض على الغيبة بأنه :
ما هي المصلحة في مجرد معرفة الامام مع عدم الاتصال به ؟
وأجاب الشيخ المفيد بأن نفس
معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته و فضله وكماله ، تنفعنا بأن نكتسب بها الثواب
والاجر ، لامتثالنا لامر الله بذلك ، ونستدفع بذلك العقاب الذي توعدنا عليه
بجهله ثم إن انتظارنا لظهوره عبادة نثاب عليها ، ندفع بها عن أنفسنا العقاب .
ثم إنا نؤدي بهذه العقيدة واجبا إلهيا فرضه الله علينا .
3 - ثم فرض
المخالف سؤالا حاصله : إذا كان الامام غائبا ومكانه مجهولا فماذا يصنع المكلف
وعلى ماذا يعتمد المبتلى بالحوادث الواقعة ، إذا لم يعرف أحكامها ؟ ! وإلى من
يرجع المتخاصمون ؟ ! وإنما المرجع في هذه الامور إلى الامام ، وهو المنصوب لها
!
وأجاب الشيخ المفيد :
أولا : أن هذا السؤال لاربط له بموضوع البحث عن حديث "
من مات . . . " بل هو سؤال جديد ، وبحث مستأنف . فأشار بهذا إلى مخالفة المعترض
في تقديم هذا السؤال لقواعد البحث والمناظرة حيث أدخل سؤالا أجنبيا ضمن البحث ،
وقبل الفراغ عنه ! ومع ذلك ، فقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال بكل أدب وصبر .
وثانيا : إن واجبات الامام - المنصوب لا جلها - كثيرة : منها : الفصل بين
المتنازعين .
ومنها : بيان الاحكام الشرعية للمكلفين وامور اخرى - من مصالح الدين
والدنيا . لكن الامام إنما يجب عليه القيام بهذه الامور كلها بشرط التمكن
والقدرة على إنفاذ كلمته ، وبشرط الاختيار . ولا يجب على الامام شئ لا يستطيعه
، ولا يجب عليه الايثار مع الاضطرار .
وثالثا : إن الامام إدا كان في ظروف
التقية والاضطرار ، فليس ذلك من فعل الله تعالى ، ولا من فعل الامام نفسه ، ولا
من فعل المؤمنين من شيعته . بل ذلك من فعل الظالمين ، من أعدائه الغاصبين
للخلافة والحكم على المسلمين الذين أباحوا دمه ، ونفوا نسبه ، وأنكروا حقه ،
وغير ذلك من التصرفات التي أدت إلى وعدم ظهوره .
فالنتائج المؤسفة المترتبة على الغيبة من تضييع الاحكام ، وتعطل الحدود ، وتأخر
المصالح ، وعروض المفاسد ، كل تلك الاضرار تقع مسؤليتها على عاتق أولئك الاعداء
الظالمين . والامام ، والمؤمنون ، بريئون عن ذلك كله ، فلا يحاسبون به !
وأما المبتلى بالحوادث الواقعة : فيجب عليه الرجوع إلى
العلماء من فقهاء الشيعة ، ليعلم من طريقهم احكام الشريعة المستودعة عندهم .
ومع عدم المرجع للاحكام ، أو عدم النص في مقام الحكم المبتلى به ، فالمرجع في
ذلك هو حكم العقل ،
ببيان أنه لو كان حكم شرعي سمعي - في المقام - لتعبدنا الله
به ، بابلاغه ، وإظهاره ، فعدم الدليل عليه ، دليل على عدم حكم شرعي خاص في
مورده ، بل المرجع هو حكم العقل .
وهكذا المتخاصمون : يرجعون إلى الاحكام الواردة عن الشارع من
خلال الرجوع إلى فقهاء الشيعة ، ومع عدم النص فالمرجع إلى احكام العقول
المقبولة عند الاعراف .
والحادث الذي لا يعلم بالسمع إباحته من حظره ؟ فإنه على " أصل الاباحة " . وقد
ذكر مثل الاعتراض ، ونفس الجواب فيما أورده الشيخ الصدوق في مقدمة ( إكمال
الدين ) ( ص 81 ) .
4 - واعترض أخيرا : بأن الامة إذا كان
بإمكانها الاعتماد في العمل بالدين على ما ذكر من النصوص ، والاجتهاد ، واحكام
العقول ، ثم الاصول ، فهي - إذن - مستغنية عن الامام ، وليست بحاجة إليه !
فلماذا الالتزام بوجوده في الغيبة ؟
وأجاب الشيخ المفيد عن ذلك : بأن الحاجة
إلى الامام مستمرة ولو كان غائبا ، فعدم الحضور ، وعدم الاتصال به لا يوجب
الاستغناء عن وجوده ، كما أن عدم حضور الدواء عند المريض لا يؤدي إلى استغناء
المريض عنه ، ومع عدم حصول الدليل لا يستغني المتحير عنه ، بل هو بحاجة إليه
وان كان مفقودا له .
ثم لو التزم بالاستغناء عند الغيبة ، للزم عدم الحاجة إلى
الانبياء عند غيباتهم ، كغيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعب أبي طالب
ثلاث سنين ، وفي الغارعدة أيام ، وغيبة موسى النبي عليه السلام في الميقات ،
وغيبة يونس في بطن الحوت . وهذا مما لا يلتزم به مسلم ، بل و لا أي شخص ملي
يعتقد برسالة سماوية .
وقد ذكر هذا الاعتراض في ( إكمال الدين ) أيضا ( ص 81 ) لكن جواب
الشيخ المفيد هو الجواب الوافي .
وقد ذكر الشيخ في الجواب عن الاعتراض الثالث
نكتة مهمة ، وهي : أن الخصوم يلتزمون - كافة - بالاجتهاد في الا حكام ، ويلجأون
إلى الاجتهاد ، من بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ( أي بعد
سنة ( 11 ) هجرية ) .
وأما نحن فنلتزم بالاجتهاد بعد عصر ظهور الائمة عليهم
السلام و بالتحديد بعد الغيبة الصغرى ( سنة ( 329 ) هجرية ) . فحالنا في عصر
الغيبة ، هي عين حالهم ؟ فما وجه اعتراضهم علينا في مسألة الاحكام .
ونحن ، وإن
اضطررنا - لمكان الغيبة - إلى اللجوء إلى الاجتهاد - بهذا الشكل - لكنا مع ذلك
ملتزمون بوجود إمام لعصرنا ، نعرفه بالشخص والاسم والصفة ، فنحن ممتثلون لما
ورد في الخبر المذكور ، بعيدون عن الجاهلية وميتتها .
واما الخصوم - فمهما كانت معالجتهم لفروع الشريعة - فما هو موقفهم من مدلول هذا
الحديث المجمع عليه سندا ، والواضح دلالة ؟ وبمن ياتمون في دينهم ، ومن هو "
الامام " عليهم في عصرهم وزمانهم ؟ ! وإذا كانوا لا يعرفون " إماما " فالحديث
عين ، بأية ميتة يموتون ؟
وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
صفحة 9 / الصفحة الاولى من النسخة " م "
صفحة 10 / الصفحة الاخيرة من النسخة " م "
الرسالة الأولى في الغيبة