1 ـ يوسف، 97.

2 ـ ص، 5.

3 ـ الشعراء، 97 و 98.

[218]

ضروريات العقل والدين. كما أن العبادة لا يمكن فهمها على أنها كل لون من ألوان اتباع فرد لفرد آخر، فاتباع الأفراد لمسؤوليهم ورؤسائهم في المؤسسات والتنظيمات الإِجتماعية من أُولى ضروريات الحياة البشرية، كما أن اتّباع الأنبياء وأئمّة الدين من الواجبات الحتمية للمتدينين.

من هنا فالعبادة لا تعني كل ذلك، بل هي الحدّ الأعلى للخضوع والتواضع المعبّرين عن الإِرتباط المطلق والتسليم بلا منازع للمعبود، وإيكال كل عواقب الأُمور إليه.

وهل في طلب الشفاعة من الشفعاء أثر من الآثار المذكورة للعبادة.

أمّا بشأن النهي عن دعوة أحد سوى الله فلا يعني النهي عن نداء الأفراد، كأن نقول: يا عليّ ويا حسن ويا أحمد، ولا يعني النهي عن الاستعانة بالأفراد، لأن التعاون أحد الأركان الأساسية للحياة الإِجتماعية وقد عمل به الأنبياء والأولياء كافة، ولم يرفضه الوهّابيون أنفسهم.

أمّا الأمر الذي يمكن الاعتراض عليه فهو ما أوضحه «ابن تيمية» في رسالة «زيارة القبور» إذ قال ما حاصله: «مطلوب العبد إن كان ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتّخذ المسيح وأُمّه إلهين، مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت: اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي، أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك.

وإن كان ممّا يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال، فإنّ مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهياً عنها قال الله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبّكَ فَارْغَبْ) وأوصى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عباس: إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النّاس شيئاً، فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه. وقال: فهذه المنهي

[219]

عنها، والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه»(1).

نحن أيضاً نقول: من الشرك أن يطلب الإِنسان من أحد شيئاً يختص به الخالق، ومن الشرك أن يتجه الإِنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادراً بشكل مستقل عن تلبية ذلك الطلب. أما إذا طلب الإِنسان من أحد شفاعة منحها له الله، فما ذلك بشرك، بل هو عين الإِيمان والتوحيد، ويشهد على ذلك كلمة «مع» في قوله تعالى: (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص نعتبره في منزلة الله، ونعتبره مصدراً مستقلا في التأثير. (تأمل بدقّة).

هدفنا من التأكيد على هذا الموضوع، هو أن ما اعتراه من مسخ وتحريف وفّر الفرصة لأعداء الدين كي يطعنوا في المقدسات الدينية، كما أدّى إلى ظهور تفسيرات واستنتاجات خاطئة لدى بعض المجموعات الإِسلامية، ممّا جرّ بدوره إلى تفرقة صفوف المسلمين.

والفهم الصحيح للشفاعة يؤدي كما رأينا إلى سموّ أخلاق المجتمع وتكاملها. وإلى إصلاح الأفراد الفاسدين، كما يؤدي إليه قطع دابر الطعانين، وإلى إحلال الوحدة بين المسلمين.

نأمل من العلماء والمفكرين الإِسلاميين أن يتعمّقوا في تحليل هذه المسألة قرآنياً ومنطقياً، كي يسدّوا الطريق أمام طعن أعداء الإِسلام ويساهموا في رصّ الصفوف.

* * *


1 ـ زيارة أهل القبور، ص 152، نقلا عن كشف الإِرتياب، ص 268.

[220]

الآية

وَإِذْ نَجَّيْنَـكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَ لِكُمْ بَلاَ ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)

التّفسير

نعمة الحرية

في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اُخرى، منَّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يَذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

القرآن يعبّر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ)من «سام» التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب من قبل الفراعنة.

والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإِناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات

[221]

بني إسرائيل لخدمة الاقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.

والبلاء يعني الامتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم. كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأن بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم،فكان ما أصابهم من آل عمران عقاباً على كفرانهم.

وذكر بعض المفسرين معنى ثالثاً للبلاء، وهو النعمة، وبذلك يكون البلاء العظيم يعني النعمة العظيمة، والمقصود منها نعمة النجاة من آل فرعون(1).

على كل حال، يوم نجاة بني إسرائيل من آل فرعون يوم تاريخي مهم، ركّز عليه القرآن في مواضع عديدة ولنا وقفات اُخرى عند هذا الحدث الكبير.

من الملفت للنظر أن القرآن يسمّي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً. ولو عرفنا أن استحياء النساء يعني استبقاءهنّ، وتركهنّ أحياء، لإتّضح لنا أن القرآن يشير إلى أن مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل. وهذا المعنى يشير إليه الإِمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) اذ يقول: «فَالْمَوتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرينَ»(2).

عملية الإِماتة كانت شاملة للذكور والإِناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية. وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإِماتة أيضاً بأساليب اُخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإِناث إلى مستنقع إشباع الشهوات.

من المفسرين من ذهب إلى أن سبب قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، يعود إلى رؤيا عرضت لفرعون في منامه. ولكن السبب ليس الرؤيا


1 ـ يقال بلي الثوب اي خلق، وبلوته: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختياري له، وسميّ الغمّ بلاء من حيث إنه يُبلى الجسم، وسمّي التكليف بلاء لأن التكاليف مشاقّ على الأبدان ولأنها اختبارات، ولأن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسارّ ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المنحة والمحنة جميعاً بلاءً. (المفردات، مادة: بلى).

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 51.

[222]

وحدها ـ كما سنبيّن ذلك في تفسير الآية الرابعة من سورة القصص ـ بل أيضاً خوف الفرعونيين من اشتداد قوة بني إسرائيل وتشكيلهم خطراً على سلطة آل فرعون.

* * *

[223]

الآية

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَـكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(50)

التّفسير

النّجاة من آل فرعون:

الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية توضح طريقة النجاة، (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ، فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (126). وسورة الأنفال، الآية (54). وسورة الإِسراء الآية (103). والشعراء الآية (63 و 66). والزخرف، (55). والدخان، الآية (17) وما بعدها.

في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإِشارة إلى هذه النعمة الإِلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبور الرسالة الخاتمة(1).

حادثة الانقاذ باختصار حدثت بعد عدم استجابة فرعون وقومه لدعوة


1 ـ راجع التفاصيل في المجلد العاشر تفسير، الآية (77) وما بعدها من سورة طه.

[224]

موسى(عليه السلام) مع كل ما شاهدوه منه من معجزات. إذ ذاك اُمر أن يخرج مع بني إسرائيل في منتصف الليل من مصر، وعند وصولهم النيل، علموا أن فرعون وجيشه يلاحقونهم، فاعترى، بني إسرائيل خوف واضطراب شديد. فالبحر أمامهم والعدوّ وراءهم. وفي هذه اللحظات الحساسة، اُمر موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانشقت فيه طرق متعدّدة عبر منها بنو إسرائيل، بينما التحم الماء حينما كان آل فرعون في وسطه، فغرقوا جميعاً ونجا بنو إسرائيل، وهم ينظرون إلى هلاك أعدائهم.

الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإِلهية المتملثة في دين النّبي الخاتم.

كما أنه تذكير للبشرية بالامداد الإِلهي الذي يشمل كل أُمّة سائرة بجد وإخلاص على طريق الله.

* * *

[225]

الآيات

وَإِذْ وَ عَدْنَا مُوسَى  أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَـلِمُونَ(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّنْ بَعْدِ ذَ لِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)

التّفسير

أكبر إنحرافات بني إسرائيل

في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر إنحراف اُصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الإنحراف عن مبدأ التوحيد، والإتجاه إلى عبادة العجل. وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).

شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية

[226]

(142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.

وخلاصته، إن موسى(عليه السلام) بعد نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة اُمر بالذهاب إلى جبل الطور مدة ثلاثين ليلة لتسلم ألواح التوراة، ثم مُدّت هذه الليالي إلى أربعين ليلة من أجل اختبار قومه. واستغل السامريّ الدّجال هذه الفرصة، فجمع ما كان لدى بني إسرائيل من ذهب الفراعنة ومجوهراتهم، وصنع منها عجلا له صوت خاص، ودعا بني إسرائيل لعبادته. فأتبعه أكثر بني إسرائيل، وبقي هارون ـ أخو موسى وخليفته ـ مع أقلية من القوم على دين التوحيد، وحاول هؤلاء الموحّدون الوقوف بوجه هذا الإِنحراف فلم يفلحوا، وأوشك المنحرفون أن يقضوا على حياة هارون أيضاً.

بعد أن عاد موسى من جبل الطور تألم كثيراً لما رآه من قومه، ووبّخهم بشدّة فثاب بنو إسرائيل إلى رشدهم، وأدركوا خطأهم وطلبوا التوبة، فجاءهم أمر السماء بتوبة ليس لها نظير، سنذكرها فيما يلي.

في الآية التالية يقول سبحانه: (ثُمَّ عَفَونَا عَنْكُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُم تَشْكُرُونَ)

وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

كلمتا «الكتاب» و«الفرقان» قد تشيران كلاهما إلى التوراة، وقد يكون المقصود من «الكتاب» التوراة و«الفرقان» ما قدمه موسى من معاجز بإذن الله، لأنّ الفرقان يعني في الأصل ما يفرّق بين الحق والباطل.

ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: (وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلى بَارِئِكُمْ قَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ

[227]

الرَّحيمُ).

و«البارئ» هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أن هذا الأمر الإِلهي بالتوبة الشديدة صادر عمّن خلقكم، وعمّن هو أعرف بما يضرّكم وينفعكم.

ذنب عظيم وتوبة فريدة

لا شك أن عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأن بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات الله ومعجزات نبيّهم موسى(عليه السلام)، ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النّبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإِلهي.

كان لابدّ من اقتلاع جذور هذه الظاهرة الخطرة، كي لا تعود إلى الظهور ثانية خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة.

ومن هنا كانت الأوامر الإِلهية بالتوبة شديدة لم يسبق لها نظير في تاريخ الأنبياء، وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.

طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإِعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإِلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به ـ هو نفسه ـ من عذاب القتل.

وجاء في الأخبار أن موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.

ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل الله تعالى منهم التوبة دون إراقة للدماء؟

الجواب: إن السبب في شدّة هذا الحكم ـ كما ذكرنا ـ يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أن هذا الذنب يهدّد

[228]

وجود الدعوة ومستقبلها لإن اُصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن إختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإن ذلك يعني إنهيار جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى(عليه السلام) مع ظاهرة عبادة العجل، لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأن بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين.

ولابدّ إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.

ولعل في عبارة قوله تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) إشارة إلى هذا المعنى.

* * *

[229]

الآيتان

وَإِذْ قُلْتُمْ يَـمُوسَى لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّـعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَـكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)

التّفسير

طلب عجيب!

هاتان الآيتان تذكّران بني إسرائيل بنعمة إلهية اُخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم الله به من رحمة بعد ذلك العقاب.

تقول الآية الاُولى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأن إدراك الإِنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه. ولذلك يرمي إلى أن يرى الله بعينه.

أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.

على أي حال، طلب بنو إسرائيل من نبيهم بصراحة أن يروا الله جهرة، وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم.

عندئذ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أن عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات الله، فما بالك برؤية الله سبحانة نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب

[230]

وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدة الخوف (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

اغتم موسى لما حدث بشدّة، لأن هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفّر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجّة بوجه نبيهم. لذلك تضرّع موسى إلى الله أن يعيدهم إلى الحياة، فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

هذا باختصار شرح الواقعة، وسيأتي تفصيلها في سورة الأعراف، الآية 155، وسورة النساء الآية 153(1).

هذه القصة تبين من جانب آخر ما عاناه الأنبياء من مشاكل كبرى على طريق دعوتهم. كان قومهم يطلبون منهم معاجز خاصة، وكان العناد يبلغ ببعض الأقوام حداً يطلبون فيه أن يروا الله جهرة، شرطاً لإِيمانهم. وحينما يواجه هذا الطلب غير المنطقي بجواب إلهي مناسب حاسم تحدث للنبي مشكلة اُخرى. ولولا لطف الله وتثبيته لما كان بالإِمكان المقاومة تجاه كل هذا العناد.

هذه الآية تشير ضمناً إلى إمكان «الرجعة»، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت. لأن وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد اُخرى.

ولكن عدد من مفسري أهل السنة أوّلوا «الموت» في هذه الآية إلى غير المعنى الظاهر لعدم رغبتهم في قبول «الرجعة»(2)

* * *


1 ـ راجع المجلدين الثالث والخامس من هذا التّفسير.

2 ـ ذهب صاحب المنار، إلى أن المقصود بالبعث بعد الموت، منح الذرية الكثيرة لبني إسرائيل كي لا ينقطع نسلهم، وقال الآلوسي في «روح المعاني» إن الموت هنا يعني الغيبوبة، والبعث يعني صحوة بني إسرائيل من غيبوبتهم، وراح بعض يفسّر الموت بالجهل، والبعث بالتعليم.

ولكن هذه المعاني كلها بعيدة عن هذه الآية والآيات المشابهة لها في سورة الأعراف، ولا تليق بمفسر ينشد فهم الحقيقة.

[231]

الآيتان

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)

التّفسير

النّعم المتنوعة

بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونييّن، تذكر الآيات 23 ـ 29 من سورة المائدة، أن بني إسرائيل أُمروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الامر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: (فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ)(1).

تألم موسى لهذا الموقف ودعا ربه (قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(2) فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء.


1 ـ المائده، 24.

2 ـ المائدة، 25.

[232]

مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى الله، فشمل الله سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ).

والظّل له أهمية الكبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللاّفحة، خاصة أن مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإِنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.

يبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية الكريمة، ليس من النوع العابر الذي يظهر عادة في سماء الصحراء، ولا يلبث أن يتفرق ويزول، بل هو من نوع خاص تفضل به الله على بني إسرائيل ليستظلوا به بالقدر الكافي.

وإضافة إلى الظل فانّ الله سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).

لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وسنشرح «المن» و«السلوى» في البحوث الآتية.

* * *

1 ـ الحياة الجديدة بعد التحرر:

الاُمّة التي تتحرر بعد عصر من الذّل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن تتخلى تماماً عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابدّ من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت.

وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاماً كما حدث لبني إسرائيل، أو

[233]

أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإِصلاح والبناء لأنّ مجازاة الله ليست لها جنبة انتقامية.

ولابدّ أن يبقى بنو اسرائيل فترة أربعين عاماً من «التيه» في الصحراء ليتربّى جيل جديد حامل لصفات توحيدية ثورية، ومؤهل لإقامة الحكم الإِلهي في الأرض المقدسة.

* * *

2 ـ المنّ والسّلوى:

تعددت أقوال المفسرين في معنى هاتين الكلمتين، ولا حاجة إلى استعراضها جميعاً، بل نكتفي بذكر معناهما اللغوي، ثم نذكر تفسيراً واحداً لهما هو في اعتقادنا أوضح التفاسير وأقربها إلى الفهم القرآني.

«المنّ» شيء كالطلّ فيه حلاوة يسقط على الشجر(1) أو بعبارة اُخرى هو عصارة شجر ذات طعم حلو، وقيل طعم حلو ممزوج بالحموضة.

و«السّلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنه «طائر».

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الكماة من المنّ».

وذهب البعض إلى أن «المنّ» هو جميع ما أنعم الله تعالى على بني إسرائيل ومنّ عليهم. و«السّلوى» هي جميع المواهب والملكات النفسانية التي توجب لهم التسلية والهدوء النفسي.

وهو مع مخالفته لرأي معظم المفسرين، يخالف ظاهر الآية حيث تقول: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أن المنّ


1 ـ المفردات، للراغب الأصفهاني.

[234]

والسلوى نوعان من الطعام. وهذه العبارة وردت كذلك في الآية 160 من سورة الأعراف.

وتذكر التوراة أن «المنَّ» حبٌّ يشبه بذر الكزبرة يتساقط على الأرض ليلا، وكان بنو إسرائيل يجمعونه ويصنعون منه خبزاً ذا طعم خاص.

وثمة احتمال آخر هو أن الأمطار الغزيرة النافعة التي هطلت بفضل الله على تلك الصحراء أثرت على أشجار تلك المنطقة فأفرزت عصارة حلوة استفاد منها بنو إسرائيل.

واحتمل بعضهم أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التّفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإِنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإن مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت النّاس، بحيث يستطيع أفقر النّاس أن يتناول العسل»(1).

بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنه العسل، وأجمع الباقون على أنه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها.

في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أن السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من افريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيْناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدّة ما


1 ـ قاموس الكتاب المقدس، ص 612.

[235]

لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة ... وورد ذكر ذلك في سفر الخروج وسفر الأعداء من التوراة»(1).

يستفاد من هذا النص أن المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.

شاء الله بفضله ومنّه أن يكثر هذا الطير في صحراء سيناء آنئذ لسدّ حاجة بني إسرائيل من اللحوم، ولم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة.

* * *

3 ـ لماذا قالت الآية «أَنْزَلْنَا»؟

عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإِنزال، وليس الإِنزال دائماً إرسال الشيء من مكان عال، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانَيِةَ أَزْوَاج)(2).

واضح أن الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإِنزال في مثل هذه المواضع:

إمّا أن يكون «نزولا مقامياً» أي نزولا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.

أو أن يكون من «الإِنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يُعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم)(3) و قوله سبحانه: (خَالِدينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ الله)(4).

وتعبير «الإِنزال» للمنّ والسلوى، قد يشير إلى أن بني إسرائيل كانوا ضيوف الله في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.

ويحتمل أن يكون الإِنزال بمعنى الهبوط من الأعلى لأن النعم المذكورة وخاصة (السلوى) تهبط إلى الأرض من الأعلى.


1 ـ قاموس الكتاب المقدس، ص 483.

2 ـ الزمر، 6.

3 ـ الواقعة، 93.

4 ـ آل عمران، 198.

[236]

* * *

4 ـ ما هو الغمام؟

قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنه أبرد وأرق من السحاب، والغمام في الأصل من الغمّ وهو تغطية الشيء، وسمّي الغمام بهذا الاسم لأنه يغطي صفحة السماء، وسمّي الهمُّ غماً بهذا الاسم لأنه يحجب القلب(1).

على أي حال، قد يشير تعبير «الغمام» إلى أن بني إسرائيل، كانوا يستفيدون من ظل الغمام إضافة إلى تمتعهم بالنور الكافي لبياض هذه السّحبة.

* * *


1 ـ تفسير «روح المعاني» في تفسير الآية المذكورة، والمفردات مادة «غمّ».

[237]

الآيتان

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـيَـكُمْ وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(59)

التّفسير

عناد بني إسرائيل

وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآية الاُولى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) والقرية كل مكان يعيش فيه جمع من النّاس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.

ثم تقول الآية: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)أي حطّ عنا خطايانا، (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ).

كلمة «حطّة» في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في هذه الآية الشريفة، الهنا نطلب منك أن تحطّ ذنوبنا واوزارنا.

[238]

أمرهم الله سبحانه أن يردّدوا من أعماق قلوبهم عبارة الإِستغفار المذكورة، ويدخلوا الباب، ويبدو أنه من أبواب بيت المقدس(1)، وقد يكون هذا سبب تسمية أحد أبواب بيت المقدس «باب الحطة».

والآية تنتهي بعبارة (وَسَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ) أي أن المحسنين سينالون المزيد من الأجر آضافة إلى غفران الخطايا.

والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة الإِستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة اُخرى فيها معنى السخرية والإِستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب الله حيث يقول: (فَأنَزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

و«الرجز» أصله الإِضطراب ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ ومنه قيل رجز البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.

ويقول «الطبرسي» في «مجمع البيان»: إنّ الرجز يعني العذاب عند أهل الحجاز، ويروي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بشأن مرض الطاعون: «إِنَّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعضُ الاُْمَمِ قَبْلَكُمْ»(2).

ومن هنا يتضح سبب تفسير «الرجز» في بعض الروايات أنه نوع من الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعاً منهم.

قد يقال إن الطاعون لا ينزل من السماء، لكن هذا التعبير قد يشير إلى حقيقة انتشار هذا المرض عن طريق الهواء الملوّث بميكروب الطاعون الذي هبّ بأمر الله آنذاك في بيئة بني إسرائيل.

يلفت النظر أن من عوارض الطاعون اضطراباً في المشي والكلام، وهذا


1 ـ على رواية أبي حيان الأندلسي، نقلا عن تفسير «الكاشف».

2 ـ راجع حول معنى «الجز» الجزء الخامس من هذا التّفسير.

[239]

يتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً.

ومن الملفت للنظر أيضاً أن القرآن يؤكد أن هذا العذاب نزل (عَلَى الَّذِينَ ظَلموا) فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.

ثم تذكر الآية تأكيداً آخر على سبب نزول العذاب على هذه المجموعة من بني إسرائيل بعبارة: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن الله تعالى، هي أن الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإِلهي.

* * *

[240]

الآية

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَواْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(60)

التّفسير

انفجار العيون في الصّحراء

تذكير آخر بنعمة اُخرى من نعم الله على بني إسرائيل: وهذا التذكير تشير إليه كلمة «إذ» المقصود منها (وَاذكُرُوا إِذ)، وهذه النعمة أغدقها الله عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى(عليه السلام) من الله عزّ وجلّ الماء: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسى لِقَوْمِهِ)، فتقبل الله طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد قبائل بني إسرائيل.