سبب النّزول

روي عن ابن عباس إنّه الآية نزلت في «فطلوس» الرومي وجنده النصارى الذين حاربوا بني إسرائيل، وأحرقوا التوراة، وأسروا الأبناء وهدموا بيت المقدس.

وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه حتى أظهر الله المسلمين عليهم.

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنها نزلت في قريش حين حالوا دون دخول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة مكة والمسجد الحرام.

وقيل إنها نزلت في مشركي مكة ممن هدموا الأماكن التي اتخذها المسلمون

[344]

للصلاة في مكّة، بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منها(1).

ولا يمنع أن يكون نزول الآية بسبب كل هذه الأحداث، وبذلك يكون كل واحد من أسباب النّزول المذكورة قد تناول بُعداً واحداً من أبعاد المسألة.

التّفسير

أظلم النّاس

أسباب النّزول توضّح أن الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين، مع أن الآيات السابقة تتحدث أكثر ما تتحدث عن اليهود وأحياناً عن النصارى.

على أي حال «اليهود» بوسوستهم بشأن مسألة تغيير القبلة، سعوا إلى أن يتجه المسلمون في صلاتهم نحو بيت المقدس، ليتفوقوا بذلك على المسلمين، وليحطوا من مكانة الكعبة(2).

و«مشركو مكة» بمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين زيارة الكعبة سعوا عملياً في هدم هذا البناء الإِلهي.

و«النصارى» باستيلائهم على بيت المقدس والعبث فيه على ما ذكر ابن عباس سعوا في تخريبه.

القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: (وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرَابِهَا).

القرآن الكريم أطلق على مثل هذا العمل اسم «الظلم الكبير»، وعلى العاملين اسم «أظلم النّاس» وأيّ ظلم أكبر من تخريب قاعدة التوحيد، وصدّ النّاس عن ذكر الله؟!

ثم تقول الآية: (أُوَلئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ).


1 ـ مجمع البيان، والميزان في تفسير الآية المذكورة.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، الآية المذكورة.

[345]

أي إِن المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوّة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة، ولا يستطيعون أن يدخلوها جهرة بدون خوف أو خشية.

ومن المحتمل أيضاً أن الآية تقول: إن الظلمة لن يستطيعوا أبداً أن ينجحوا في الإِستيلاء على هذه المراكز العبادية، بل إنهم سوف لا يستطيعون في المستقبل أن يدخلوا هذه المساجد إلاّ وهم خائفون مذعورون، تماماً كالمصير الذي لاقاه مشركو مكة بشأن المسجد الحرام.

والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين الله وعباده: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاْخِرَةِ عَظِيمٌ).

* * *

بحثان

1 ـ تخريب المساجد

مفهوم الآية المذكورة واسع ـ دون شك ـ غير محدود بزمان أو مكان معينين. إنها مثل سائر الآيات التي نزلت في ظروف خاصة لكن حكمها ثابت على مرّ العصور والدهور. فكل الذين يسعون بنوع من الأنواع في تخريب المساجد مشمولون بهذا الخزي والعذاب العظيم.

من الضروري أن نؤكد أن منع الذكر في مساجد الله والسعي في خرابها، لا يقتصر على هدم بنائها، بل إن كل عمل يؤدي إلى القضاء على دور المسجد في المجتمع مشمول بهذه الآية.

وسوف نرى في الآية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ...)(1) أن المقصود من العمران ـ استناداً إلى الأحاديث والروايات الصريحة ـ ليس هو تشييد البناء فحسب، بل الحضور فيها واحياؤها بالذكر، هو نوع من العمران، بل أهم أنواع العمران.


1 ـ التوبة، 18.

[346]

وفي النقطة المقابلة ـ إذن ـ يكون كل عمل يبعد النّاس عن المساجد، ويبعد المساجد عن دورها ظلماً كبيراً.

ومن المؤسف أن عصرنا يشهد ظهور مجموعة جاهلة متعصبة متعنتة بعيدة عن المنطق، تطلق على نفسها اسم الوهابيّة تسعى في تخريب المساجد بحجة إحياء التوحيد!!

هؤلاء عمدوا إلى تخريب المساجد المبنيّة على قبور الأئمة والصالحين، والتي كانت مركزاً للذكر والدعاء والإِرتباط بالله وبخط الصالحين من آل الله. ومن الغريب أنهم يمارسون هذه الأعمال تحت عنوان مكافحة الشرك مرتكبين بذلك أفظع الكبائر.

ولو افترضنا حدوث ما يخالف الشرع في بعض هذه الأماكن الدينية من قبل الجهلة، فيجب الوقوف بوجه مثل هذه الأعمال، لا أن تتجه الجهود إلى تخريب هذه القواعد التوحيدية، فهذا عمل يشبه عمل المشركين الجاهليين.

2 ـ أكبر الظّلم

ومسألة اُخرى تلفت النظر في هذه الآية، هي وصفها مثل هؤلاء الأفراد بأنهم أظلم النّاس. وهم كذلك، لأن تعطيل المساجد وتخريبها ومنع ذكر الله فيها، يؤدي إلى ابتعاد النّاس عن الدين، وبالتالي إلى عواقب سيئة ومأساة اجتماعية عظيمة.

وصفة «الأظلم» ذكرها القرآن الكريم في مواضع اُخرى للحكاية عن كبائر اُخرى، لكن كل هذه الذنوب تعود إلى أصل واحد هو صدّ النّاس عن طريق التوحيد.

وسيأتي شرح ذلك أكثر في المجلد الرابع من هذا التّفسير عند الحديث عن الآية 21 من سورة الأنعام.

* * *

[347]

الآية

وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمـَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ(115)

سبب النّزول

اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية:

روي عن ابن عباس أن الآية ترتبط بتغيير القبلة، فعندما تغيرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة بدأ اليهود يشككون قائلين: وهل من الممكن أن تتغير الكعبة؟ فنزلت الآية ترد عليهم وتقول إن المشرق والمغرب لله.

وروي أيضاً: أَنَّ الاية نَزَلْتْ فِي الصَّلاَةِ الْمُسْتَحبَّةِ يَسْتَطِيعُ الاِْنْسَانُ أَنْ يُؤَدِّيهَا عَلى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمـَا اتَّجَهَتِ الرَّاحِلَةُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الاِْتِّجَاهِ نَحوَ الْقِبْلَةِ.

وروي عن جابر أَنَّ الرَّسُولَ(صلى الله عليه وآله وسلم) بَعَثَ جَمَاعَةً فِي غَزْوَة، فَجَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَعْرِفُوا اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّتْ كُلُّ مَجْمُوعَة صَوْبَ جهَة، وَبَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ سَأَلْوا النَّبيَّ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الاْيَةُ الْكَرِيمَةُ (هذا الحكم له شروط طبعاً تذكره الكتب الفقهية).

ومن الممكن أن تكون أسباب النّزول المذكورة كلها ثابتة للآية، أضف الى

[348]

ذلك أن كل آية في القرآن لا تنحصر بأسباب نزولها، بل ينبغي أن يؤخذ مفهومها بشكل حكم عام، وربما استخرج منها أحكام متعددة.

التّفسير

أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ:

الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة فتقول: (وِللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَايْنَمـَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

تؤكد هذه الآية أن منع النّاس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية الله، فشرق هذا العالم وغربه لله سبحانه، وأينما تولوا وجوهكم فالله موجود. وتغيير القبلة تمّ لظروف خاصة، وليس له علاقة بمكان وجود الله، فالله سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

واضح أن المقصود بالمشرق والمغرب في الآية ليس هو الجهتين الخاصتين، بل هو كناية عن كل الجهات. كأن يقول أحد مثلا: أعداء علي(عليه السلام)سعوا للتغطية على فضائله، لكن فضائله انتشرت في شرق العالم وغربه، (أي في كل العالم). ولعل سبب شيوع استعمال الشرق والغرب في الكلام أن الإنسان يتعرف أولا على هاتين الجهتين، ثم يعرف بقية الجهات عن طريق هاتين الجهتين.

وفي آية اُخرى يقول القرآن الكريم: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مِشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا)(1)

* * *


1 ـ الأعراف، 137.

[349]

1 ـ فلسفة القبلة

الله موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإِتجاه نحو القبلة في الصلاة؟

واضح أن الإِتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إن الإِنسان موجود مادي، ولابدّ أن يصلي باتجاه معين، ثم إن ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلاّ ساد الهرج والفوضى، وتفرّقت الصفوف وتشتتت.

أضف إلى ذلك أن الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإِتجاه نحوها يوقظ في النفوس ذكريات المسيرة التوحيدة.

2 ـ عبارة (وَجْهُ اللهِ) لا تعني هذا الوجه المتعارف، بل تعني ذات الله تعالى.

3 ـ استدلت الروايات بهذه الآية على صحة الصلاة إلى غير القبلة لسهو أو اضطرار، وعلى صحة الصلاة على ظهر الراحلة.

(لمزيد من التوضيح راجع وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، باب القبلة).

* * *

[350]

الآيتان

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَـنَهُ بَل لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـنِتُونَ(116) بَدِيعُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117)

التّفسير

خرافات اليهود والنصارى والمشركين

المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنّوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ الله ابناً.

قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزِيرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1).

وقال عزّ شأنه: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)(2).

وهناك آيات اُخرى ذكرت هذا المعتقد المنحرف.

وهذه الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ثم


1 ـ التوبة، 30.

2 ـ يونس، 68.

[351]

تجيب عليهم أوّلا بتنزيه الله عن هذه النسبة: (سُبْحَانَهُ)، فما حاجة الله إلى الولد؟ هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟! نعم، لا يمكن نسبة أي إحتياج إلى الله (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ) وجميع الكون خاضع له (كُلُّ لَهُ قَانِتُونَ).

وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها ... بل مبدعها أي موجدها دون إحتياج إلى مادة أولية في هذا الإِيجاد (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ).

ما حاجة الله إلى الولد وهو النافذ الإِرادة في جميع الموجودات؟! (وَإِذَا قَضى أَمْراً فِإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)

* * *

1 ـ دلائل نفي الولد

نسبة الولد إلى الله سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على أساس مقارنة كل شيء بالوجود البشري المحدود.

الإِنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لإِستمرار نسله.

ومن جهة اُخرى هو ذو قوّة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك ـ وخاصة في فترة الشيخوخة ـ إلى من يساعده في أعماله.

وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإِنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.


1 ـ غافر، 68.

[352]

واضح أن كل هذه الأُمور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن الله سبحانه، وهو خالق عالم الوجود والقادر على كلّ شيء، وهوالأزلي الأبدي.

أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً والله منزّه عن ذلك(1).

2 ـ تفسير (كُنْ فَيَكُونُ)

هذا التعبير ورد في آيات عديدة منها الآية 47 و59 من سورة آل عمران، والآية 73 من سورة الأنعام، والآية 40 من سورة النحل والآية 35 من سورة مريم، والآية 82 من سورة يس،و غيرها، والمراد منها الإِرادة التكوينية لله تعالى وحاكميته في الخليقة.

بعبارة أوضح: المقصود من جملة (كُنْ فَيَكُونُ) ليس هو صدور الأمر اللفظي «كُنْ» من قبل الله تعالى، بل المقصود تحقق إرادة الله سبحانه حينما تقتضي إيجاد شيء من الأشياء، صغيراً بحجم الذّرة كان، أم كبيراً بحجم السماوات والأرض، بسيطاً كان أم معقداً، دون أن يحتاج في ذلك الإِيجاد إلى أية علّة اُخرى، ودون أن تكون هناك أية فترة زمنية بين الإِرادة والإِيجاد.

لا يمكن للزمان أن يفصل بين الأمر والكينونة، ولذلك فإن الفاء في جملة «فَيَكُون»، لا تدل على تأخير زمني كما هو الحال في الجمل الاُخرى، بل إنها تدل فقط على التأخير في الرتبة (الفلسفة أثبتت تأخر المعلول عن العلة، وهذا التأخر ليس زمنياً، بل في الرتبة ـ تأمل بدقة ـ).

ليس المقصود أن الشيء يصبح موجوداً متى ما أراد الله ذلك، بل المقصود أن الشيء يصبح موجوداً بالشكل الذي أراده الله.

على سبيل المثال، لو أراد الله أن يخلق السماوات والأرض في ستة أيّام،


1 ـ هذه المسألة بحثناها في سورة الأنبياء، الآية 26، المجلد العاشر من هذا التّفسير.

[353]

لكان ذلك، دون زيادة أو نقص، ولو أراد أن توجد في لحظة واحدة لوجدت بأجمعها في لحظة واحدة، فذلك تابع لكيفية إرادته ولما يراه من مصلحة.

ولو شاء الله ـ مثلا ـ أن يبقى الجنين في رحم أمه تسعة أشهر وتسعة أيّام ليطوي مراحل تكامله، لما زادت هذه المدة وما نقصت. أمّا لو شاء أن يطوي هذا الجنين مراحل تكامله خلال لحظة واحدة لحدث ذلك قطعاً، لأن إرادته علّة تامّة للخليقة، ولا يمكن أن توجد فاصلة بين العلة التامة ووجود المعلول.

3 ـ كيف يوجد الشيء من العدم؟

كلمة «بَدِيعُ» من «بدع»، والإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء منه، وفي الآية بمعنى إيجاد الشيء من غير مادة سابقة(1).

والسّؤال الذي يطرح في هذا المجال يدور حول إمكان إيجاد الشيء من العدم، فكيف يمكن للعدم ـ وهو نقيض الوجود ـ أن يكون منشأ للوجود؟ وهذه هي الشبهة التي يوردها الماديون في مسألة «الإبداع» ليستنتجوا منها أن المادة الأصلية للعالم أزلية أبدية، ولا يطرأ عليها وجود وعدم إطلاقاً.

الجواب

في المرحلة الاُولى، يوجّه نفس هذا الإِعتراض إلى الماديين فهؤلاء يعتقدون أن مادة هذا العالم قديمة أزلية، ولم ينقص منها شيء حتى الآن، والذي نراه يتغير هو «الصورة» وحدها، لا أصل المادة. ونحن بدورنا نسأل: كيف وجدت الصورة الحالية للمادة ولم تكن موجودة من قبل؟ هل وجدت من العدم؟ إذا كان كذلك، فكيف يمكن للعدم أن يكون منشأ للوجود؟ (تأمل بدقّة).


1 ـ المفردات، مادة بَدَعَ.

[354]

على سبيل المثال، يقول الماديون في لوحة زيتية مرسومة على ورقة أنّ زيوت التلوين كانت موجودة، ونحن نسأل: كيف وجدت هذه «الصورة» التي لم تكن موجودة من قبل؟

كل جواب يقدمونه بشأن إيجاد «الصورة» من «العدم» نقدمه نحن أيضاً بشأن إيجاده «المادة».

وفي المرحلة الثانية، ينبغي التأكيد على أن خطأ الماديين ناتج عن كلمة «من». هؤلاء تصوروا قولنا: (أن العالم وجد من العدم) شبيه بقولنا (أن المنضدة وجدت من الخشب) حيث لابدّ من وجود الخشب أوّلا لكي توجد المنضدة. بينما جملة «وجود العالم من العدم» لا تعني ذلك. بل تعني «أن العالم لم يكن موجوداً ثم وجد». وهل في هذه العبارة تضاد أو تناقض؟!

وبالتعبير الفلسفي: كل موجود ممكن (الذي لا يملك الوجود ذاتياً) له جانبان: ماهية ووجود، «الماهية» هي «المعنى الإِعتباري» الذي يتساوى في نسبته للعدم والوجود. بعبارة اُخرى، الماهية هي المقدار المشترك الذي نفهمه من ملاحظة وجود شيء وعدمه. فهذه الشجرة لم تكن موجودة سابقاً وهي موجودة الآن، والشخص الفلاني لم يكن موجوداً سابقاً وهو الآن موجود، وما أسندنا إليه الحالتين (الوجود والعدم) هي «الماهية».

من هنا يكون معنى قولنا (إن الله أوجد العالم من العدم) هو أنه سبحان نقل الماهية من حالة العدم إلى حالة الوجود، وبعبارة اُخرى وضع لباس «الوجود» على جسد «الماهية»(1).

* * *


1 ـ راجع لمزيد من التوضيح كتاب: خالق العالم.

[355]

الآيتان

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْتَأْتِينَآ ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاَْيَـتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ(118) إنَّآ أَرْسَلْنَـكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَـبِ الْجَحِيمِ(119)

التّفسير

حجج اُخرى

بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اُخرى من المعاندين ويبدو أنهم المشركون العرب فتقول: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ).

هؤلاء الجاهلون ـ أو الذين لا يعلمون ـ بتعبير الآية، طرحوا طلبين بعيدين عن المنطق، طلبوا:

1 ـ أن يكلمهم الله: (لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ).

2 ـ أن تنزل عليهم آية: (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ).

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلا: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الاْيَاتِ لِقَوْم يُوقِنُونَ).

[356]

لو أن هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم الله مباشرة؟!

مثل هذا الطلب تذكره الآية 52 من سورة المدثر: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيء مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).

مثل هذا الطلب لا يمكن أن يتحقق، لأن تحققه ـ إضافة إلى عدم ضرورته ـ مخالف لحكمة الباري سبحانه، لما يلي:

أوّلا: إثبات صدق الأنبياء للناس كافة أمر ممكن عن طريق الآيات التي تنزل عليهم.

ثانياً: لايمكن للآيات والمعاجز أن تنزل على أي فرد من الأفراد، فذلك يتطلب نوعاً من اللياقة والإِستعداد والطّهارة الرّوحية. فالأسلاك الكهربائية تتحمل من التيّار ما يتناسب مع ضخامتها. الأسلاك الرقيقة لا تتحمل التّيار العالي، ولايمكن أن تتساوى بالأسلاك الضخمة القادرة على توصيل التّيارات العالية . والمهندس يفرّق بين الأسلاك التي تستقبل التّيارات العالية من المولدات مباشرة، والأسلاك التي تنقل التيّار الواطيء داخل البيوت.

الآية التالية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً).

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإِلهية، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرّسول، وأما الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: (وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).

* * *

[357]

بحثان

1 ـ (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)

مرّ علينا في الآية أن القرآن يصف الحجج الواهية التي يطرحها المعاصرون لصاحب الرسالة الخاتمة، بأنها شبيهة بتلك التي كان يتذرع بها المنحرفون من الأمم السابقة، فقلوبهم متشابهة.

القرآن يشير بهذا التقريع واللوم إلى أنّ مرور الزمن ينبغي أن يكون عاملا على زيادة وعي الأجيال البشرية، وعلى تفهّم هذه الأجيال اللاحقة أكثر من السابقة لتعاليم الأنبياء، لكن مرور الزمن لا يرفع مستوى المنحرفين، بل يبقى خط الإِنحراف واحداً متشابهاً على مرّ الأجيال وكأنها متعلقة بالآف الأعوام السالفة.

2 ـ أصلان تربويان

«البشارة» و«الإِنذار» أو «التشجيع» و«التهديد» من أهم الأُصول اللازمة للتربية وللحركة الإِجتماعية. ينبغي أن يلقي الفرد تشجيعاً على أعماله الصالحة، وتوبيخاً على أعماله الطالحة، كي يواصل مسيره الأول، ويرتدع عن ارتياد المسير الثاني.

«التشجيع» وحده لا يكفي لدفع الفرد والمجتمع على طريق التكامل، لأن الانسان سوف يكون مطمئناً من عدم الخطر في حالة إرتكاب المعاصي.

على سبيل المثال، نرى ارتكاب المعاصي بين النصارى الحاليين أمراً عادياً، لأنهم يعتقدون بالفداء، أي بأن السيد المسيح(عليه السلام) قد ضحى بنفسه لغفران ذنوب أتباعه، أو لإِعتقادهم بأن أحبارهم قادرون أن يغفروا لهم ذنوبهم بسبل شتى، منها منحهم صكوك الغفران. أو يبيعون لهم الجنّة مثل هؤلاء القوم يسمحون لأنفسهم إرتكاب الذنوب بسهولة.

جاء في قاموس الكتاب المقدس: «... الفداء أيضاً إشارة إلى كفارة دم

[358]

المسيح، الذي أخذ على عاتقه كل ذنوبنا وتحمل ذنوبناً في جسده على الصليب».

هذا المنطق يجعل الأفراد دون شك جريئين على إرتكاب المعاصي.

بعبارة اُخرى، من يرى أن التشجيع وحده كاف لتربية الإِنسان (طفلا كان أم كبيراً)، وضرورة ترك التهديد والتقريع، فهو مجانب للصواب ومخطئ تماماً.

وهكذا أُولئك الذين يعتقدون أن التربية ينبغي أن تقوم على أساس التخويف والتأنيب لا غير.

الفريقان المذكوران خاطئان في فهم الإِنسان، حيث إن الإِنسان يتجاذبه كلّ الخوف والرجاء، حبّ الذات وكره الفناء، تحصيل المنفعة ودفع الضرر. وهل يمكن لموجود يحمل في ذاته هذين البعدين أن يربّى وفق بعد واحد؟!

والتعادل ضروري بين هذين الجانبين، فلو تجاوز التشجيع حدّه لأدّى إلى التجرؤ والغفلة، ولو تعدّى التخويف حدّه لبعث على اليأس والقنوط وانطفاء شعلة الشوق والتحرك في النفوس.

ممّا سبق نفهم سبب إقتران البشارة بالإِنذار أو «البشير» بـ«النذير» في القرآن الكريم، فتارة تقدم كلمة البشير على النذير كالآية التي نحن بصددها: (بَشيراً وَنَذِيراً) وتارة تقدم كلمة النذير كقوله تعالى في الآية 188 من سورة الأعراف: (إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ).

واكثر الآيات القرآنية في هذا المورد تتقدم فيها صفة البشير، ولعل ذلك يعود إلى أن رحمة الله من حيث المجموع سابقة على غضبه: (يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ).

* * *

[359]

الآيتان

وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَـرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَ هُم بَعْدَ الَّذِى جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير(120) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْبِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ(121)

أسباب النّزول

روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الاُولى أن يهود المدينة ونصارى نجران، كانوا يأملون أن تكون قبلة المسلمين موافقة دائماً لقبلتهم، فلمّا تغيّرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة يئسوا من نبي الإِسلام.

ولعل بعض المسلمين لم يرق له هذا التغيير، لرغبته أن لا يحدث عملا يؤدي إلى إزعاج اليهود والنصارى(1).

الآية الاُولى نزلت لتعلن للنبي أن هذه الفئة من اليهود والنصارى لا ترضى


1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، وتفسير الفخر الرازي (مع اختلاف بسيط).

[360]

عنك بالإِشتراك في قبلتهم ولا بأي شيء آخر، إلاّ أن تقبل كلَّ ما يتبعونه.

وقيل: إن الآية نزلت إثر إصرار النّبي على إرضاء أهل الكتاب طمعاً في قبولهم الإِسلام، فنزلت الآية لتؤكد أن رضى هؤلاء غاية لا تدرك إلا بإعتناق دينهم(1).

وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، قيل إنها نزلت فيمن إلتحق بجعفر بن أبي طالب لدى عودته من الحبشة وهم أربعون نفراً، إثنان وثلاثون من أهل الحبشة وثمانية رهبان فيهم «بحيرا» الراهب المعروف. وقيل إنّها نزلت في يهود أسلموا وحسن إسلامهم من أمثال: عبد الله بن سلام وسعيد بن عمرو، وتمام بن يهودا(2).

التّفسير

إرضاء هذه المجموعة محال

الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرّسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود و النصارى لأنه: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارى حَتَّى تَتَّبعَ مِلَّتَهُمْ).

واجبك أن تقول لهم: (إِنَّ هُدى اللهِ هُوَ الهُدى)، هدى الله هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال، ويجب إتباع مثل هذا الهدى الخالص.

ثم تقول الآية: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير).


1 ـ مجمع البيان، الآية المذكورة.

2 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ومجمع البيان.

[361]

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد بأُولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة (أَلَّذِينَ اتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ـ اي بالتفكر والتدبر ثم العمل به ـ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي يؤمنون بالرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

هؤلاء كانوا قد تلوا كتابهم السماوي حقّاً، وكان ذلك سبب هدايتهم، فهم قرأوا فيه بشارات ظهور النّبيّ الموعود، وقرأوا صفاته المنطبقة مع صفات نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)فآمنوا به، والله مدحهم وأشاد بهم.

* * *

1 ـ سؤال عن عصمة الأنبياء

العبارة القرآنية: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) قد تثير سؤالا بشأن عصمة الأنبياء، فهل يمكن للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو معصوم ـ أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟

في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء، لأنها ـ من جهة ـ جملة شرطية، والجملة الشرطيّة لا تدل على تحقق الشرط.

ومن جهة اُخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالا، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب، ولم يسلب منه الإِختيار، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب. بعبارة اُخرى: إن المعصوم قادر على الذنب، ولكن إيمانه وعلمه وتقواه بدرجة لا تجعله يتجه معها إلى ذنب. من هنا فالتحذيرات المذكورة بشأنهم مناسبة تماماً.

من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتجه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن قد يكون موجهاً

[362]

إلى النّاس جميعاً.

2 ـ للإِسترضاء حدود

صحيح أن الإِنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين المرنين الليّنين، أما الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك. لا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإِعراض عنهم وتركهم.

3 ـ إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى

نفهم من الآية المذكورة أن القانون الوحيد القادر على إنقاذ البشرية هو قانون الهداية الإِلهية، لأن علم البشر ـ مهما قدر له من التكامل ـ يبقى مخلوطاً بالجهل والشك والقصور في جهات مختلفة. والهداية في ضوء مثل هذا العلم الناقص لا يمكن أن تكون هداية مطلقة، ولا يستطيع أن يضع للإنسان برنامج «الهداية المطلقة» إلا من له «علم مطلق»، ومن هو خال من الجهل والنقص، وهو الله وحده.

4 ـ حق التلاوة

عبر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)، وهو تعبير عميق يرسم لنا سبيلا واضحاً تجاه القرآن الكريم والكتب السماوية، فالنّاس أمام الآيات الإِلهية على أقسام:

قسم يكرسون اهتمامهم على أداء الألفاظ بشكل صحيح وعلى قواعد التجويد، ويشغل ذهنهم دوماً الوقف والوصل والإِدغام والغنّة في التلاوة، ولا يهتمون إطلاقاً بمحتوى القرآن فما بالك بالعمل به! وهؤلاء بالتعبير القرآني (كَمَثَلِ

[363]

الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(1).

وقسم يتجاوز إطار الألفاظ، ويتعمق في المعاني، ويدقّق في الموضوعات القرآنية، ولكن لا يعمل بما يفهم!

وقسم ثالث، وهو المؤمنون حقّاً، يقرأون القرآن باعتباره كتاب عمل، ومنهجاً كاملا للحياة، ويعتبرون قراءة الألفاظ والتفكير في المعاني وإدراك مفاهيم الآيات الكريمة مقدمة للعمل، ولذلك تصحو في نفوسهم روح جديدة كلما قرأوا القرآن، وتتصاعد في داخلهم عزيمة وإرادة واستعداد جديد للأعمال الصالحة، وهذه هي التلاوة الحقة.

ورد عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «يُرَتِّلُونَ آيَاتِهِ، وَيَتَفَقَّهُونَ بِهِ، وَيَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهِ، وَيَرْجُونَ وَعْدَهُ، وَيَخَافُونَ وَعِيدَهُ، وَيَعْتَبِرُونَ بِقِصَصِهِ، ويَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهُونَ بِنَوَاهِيهِ، مَا هُوَ وَاللهِ حفظُ آيَاتِهِ وَدَرسُ حُرُوفِه، وَتِلاَوَةُ سُوَرِهِ وَدَرسُ أَعْشَارِهِ وَأَخْمَاسِهِ(2)، حَفِظُوا حُرُوفَهُ وَأَضَاعُوا حُدُودَهُ، وإِنَّمَا هُوَ تَدَبُّرُ آيَاتِهِ وَالْعَمَلُ بِأَرْكَانِهِ، قَالَ الله تَعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(3)».

* * *


1 ـ الجمعة، 5.

2 ـ المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.

3 ـ الميزان، نقلا عن إرشاد الديلمي.

[364]

الآيتان

يَـبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ(122) وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَـعَة وَلاَهُمْ يُنصَرُونَ(123)