![]() |
![]() |
![]() |
الكعبة بها.
واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماماً من رواسب الشرك والعصبية.
لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة إختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين.
لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة مايلي:
لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد أُمر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقّق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.
وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإِسلامية والمجتمع الإِسلامي، حدث الإِنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.
ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاُولى (بيت المقدس).
المسلمون بهذا التحوّل وُضعوا في بوتقة الإختبار، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.
إن الله سبحان ليس له مكان ومحل ـ كما ذكرنا ـ والقبلة رمز لوحدة صفوف المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد، وتغييرها لا يغيّر شيئاً، المهم هو الإِستسلام الكامل أمام الله، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.
«الوسط» ما توسط بين شيئين، وبمعنى الجميل والشريف، والمعنيان يعودان ظاهراً إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط والتفريط.
ما أجمل التعبير القرآني عن الاُمّة المسلمة ... الاُمّة الوسط.
الوسط: المعتدلة في «العقيدة» لا تسلك طريق «الغلو» ولا طريق «التقصير والشرك»، لا تنحو منحى «الجبر» ولا «التفويض»، ولا تؤمن «بالتشبيه» في صفات الله ولا «بالتعطيل».
معتدلة في «القيم المادية والمعنوية» لا تغطّ في عالم المادة وتنسى المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات. ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماماً.
معتدلة في «الجانب العلمي» ... لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم.
معتدلة في «الرّوابط الإجتماعية» لا تضرب حولها حصاراً يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم!
معتدلة في «الجانب الأخلاقي» ... في عباداتها ... في تفكيرها ... وفي جميع أبعاد حياتها.
المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقاً أن يكون إنساناً ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة ... مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعّال، ذو سماح.
عبارة الاُمّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الاُمّة الإسلامية، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الإِنحرافية المتجهة نحو
اليمين واليسار.
ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: «اِنَّمَا كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ لأنَّكُمْ معتدلون وأنكم أمة وَسَط»(1).
لواجتمعت الصفات التي ذكرناها للأُمّة الوسط في أُمّة، فهذه الاُمّة دون شك رائدة للحق، وشاهدة على الحقيقة، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل.
ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) قولهم: «نَحْنُ الاُمّة الْوُسْطى، وَنَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ عَلى خَلْقِهِ وَجُجَجُهُ فِي أَرْضِهِ ... نَحْنُ الشُّهَداءُ عَلَى النَّاسِ ... إلَيْنَا يَرْجِعُ الغَالي وَبِنَا يَْرجِعُ الْمُقَصّرُ»(2) مثل هذه الروايات ـ كما ذكرنا ـ لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين المصداق الأمثل للأُمّة الوسط، وتعطي نموذجاً متكاملا لها.
عبارة (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ ...) وأمثالها من التعبيرات القرآنية، لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئاً، ثم علم به بعد ذلك، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.
بعبارة أوضح، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علماً، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عملياً ما كان في
1 ـ المنار، تفسير الآية المذكورة.
2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 134.
علمي نظرياً. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافاً كبيراً كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).
عبارة (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) توضح حقيقة الصعوبة في مخالفة العادة الجارية، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة، إلاّ على الذين آمنوا بالله حقّاً، واستسلموا لأوامره.
* * *
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(144)
ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الاُولى المؤقتة للمسلمين. والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.
الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول:
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ذكرت الرواية ـ كما أشرنا من قبل - أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة
حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس. (كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريباً، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).
من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين».
لذلك تضيف الآية: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ).
أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته الإجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.
ثم تقول الآية: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ).
فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام، ويستغلون هذه الحادثة لإِثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلا على صدق دعوى النّبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.
* * *
محتوى هذه الآية يبيّن بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب القرآني. ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله، بل كان ترتيب الآيات يتم استناداً إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من الباري سبحانه.
(ومن تلك المناسبات مثلا رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات).
يستفاد من هذه الآية أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرتبطاً بالكعبة إرتباطاً خاصاً، ومنتظراً لأمر تغيير القبلة، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في إرتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بإبراهيم(عليه السلام)، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأنه(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يعلم بوقوع هذا التغيير، وكان يترقب حدوثه.
وهنا تبرز ظاهرة الإستسلام المطلق للرسول، حيث لم يتردد على لسانه طلب بهذا الشأن، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظراً بتلهّف نزول الوحي.
وتعبير «السماء» في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط «جبرائيل» من الأعلى، وإلاّ فالله لا مكان له، وهكذا وحيه المرسل.
يثير الإلتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة، بل «شطر المسجد الحرام».
لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذّر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة. لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع، ثم كلمة «شطر» تعني السمت والجانب، وبذلك كان الإتجاه شطر المسجد الحرام عملا ميسوراً للجميع، وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالباً على طول الكعبة.
بديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة ـ وحتى للمسجد الحرام ـ عمل صعب على المصلين البعيدين، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة(1).
1 ـ من المفسرين من قال إن أحد معاني «شطر»: النصف، ومن هنا فإن مفهوم «شطر المسجد الحرام» يساوي مفهوم «وسط المسجد الحرام» ونعلم أن الكعبة تقع وسط المسجد الحرام. (التّفسير الكبير، الفخر الرازي، الآية المذكورة).
كل خطابات القرآن هي دون شك ـ شاملة لكل المسلمين ـ وإن اتجهت إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلاّ في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة اُخرى إلى عامة المسلمين.
هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة اُخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضاً.
عبارة «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاءً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين إرتباطاً خاصاً بالكعبة نحو الإِسلام من جهة اُخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة اولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.
لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.
جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاُولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الارض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.
* * *
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ بِكُلِّ ءَايَة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ(145)
مرّ بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.
والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعداً للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أو عن طريق إراءة المعجزة.
أمّا حينما يكون قد كوّن له رأياً مسبقاً قاطعاً، وخاصّة حين يكون مثل هذا الفرد جاهلا متعصباً، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.
لذلك تقول الآية: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).
فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الإِستسلام للحق، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.
كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إمّا أثرياء متنفذون، أو علماء
منحرفون، أو جاهلون متعصبون.
ثم تضيف الآية: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ).
أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرّة اُخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.
وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية، مؤكداً أنه لا ينثني أمام هذه الإنفعالات.
ثم تقول الآية: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض).
لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمينَ).
وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء:
الأوّل: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ إنحراف، فسيشمله العقاب الإِلهي، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة اُخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).
الثّاني: أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النّبي، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضاً واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقاً لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة.
الثّالث: أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكماً من الأحكام، فهو عبد أيضاً خاضع لأمر الله تعالى.
* * *
الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَريقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147)
استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: (أَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَه كما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).
إنهم يعرفون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإِسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبي الإسلام، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به مني بابني»(1).
هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة، هي إن صفات نبي الإِسلام
1 ـ المنار، ج 2، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية.
الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب.
وهل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النّبي وعلاماته في كتب أهل الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم؟! ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النّبي الخاتم وصفاته كانت معروفة لديهم!؟
هذه الآيات ـ إذن ـ دليل على صدق دعوة الرّسول وصحّة نبوته.
ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: (أَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المترددين.
وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النّبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.
المخاطب في الآية وإن كان شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أن النّبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأن الوحي بالنسبة له ذو جانب حسّي وعين اليقين.
* * *
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَاتَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(148)
هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا).
كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول الدين لا تقبل التغيير، ولا أمراً تكوينياً لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، لأن معيار القيمة الوجودية للإِنسان هي أعمال البرّ والخير.
مثل هذا المعنى تضمنته الآية 177 من هذه السّورة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيّينَ).
إن كنتم تريدون اختبار الإسلام أو المسلمين، فاختبروهم بهذه الاُمور لا بمسألة تغيير القبلة.
ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لأُولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كلٌ جزاء عمله.
لا يتساوى المفترون والمشاغبون المخربون مع المحسنين المؤمنين، ولابدّ من يوم ينال كل فريق جزاءه.
وقد يخال بعض أن جمع النّاس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
هذه العبارة الأخيرة في الآية بمثابة الدليل على العبارة السابقة: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميِعاً).
* * *
ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميعاً)أن المقصود بهم أصحاب المهدي(عليه السلام).
من ذلك ما ورد في «روضة الكافي» عن «الإمام الباقر»(عليه السلام) أنه تلا الفقرة المذكورة من الآية ثم قال: «يَعْني أَصْحَابَ الْقَائِمِ الثَلاثَمِائَة وَالبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَهُمْ وَاللهِ الأُمَّةُ الْمَعْدُودةُ، قَالَ: يَجْتَمِعُونَ وَاللهِ فِي سَاعَة وَاحِدَة قَزَعَ(1) كَقَزَعِ الْخَرِيف»(2) .
وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أيضاً: «وَذَلِكَ وَاللهِ أَنْ لَوْ قَامَ قَائِمُنَا يَجْمَعُ اللهُ إلَيْهِ جَمِيعَ شِيعَتِنَا مِنْ جَمِيعِ الْبُلْدَانِ»(3).
1 ـ أي يجتمعون كاجتماع قطع السحب الخريفية لدى هبوب الريح.
2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 139.
3 ـ مجمع البيان، الآية.
هذا التّفسير للآية دون شك يتحدث عن «بطن» الآية، والأحاديث ذكرت أن لكلام الله ظاهراً لعامة النّاس، وباطناً لخاصّتهم.
بعبارة اُخرى: هذه الروايات تشير إلى حقيقة، هي إن الله القادر على أن يجمع النّاس من ذرات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع أصحاب المهدي في ساعة بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الاُولى للثورة العالمية الرّامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الارض، وإزالة الظلم والعدوان عن وجهها.
2 ـ عبارة (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) فسرناها سابقاً بأنها إشارة للقبلات المتعددة للأُمم. ومن المفسرين من توسع في المعنى وقال إنّها تعبّر عن القضاء والقدر التكوينيين أيضاً (تأمل بدقة)(1).
ولو خلت الآية ممّا يحيطها من قرائن قبلها وبعدها لأمكن مثل هذا التّفسير، لكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى الأوّل. ولو افترضنا أن الآية تشير إلى المعنى الثّاني، فلا تعني إطلاقاً القضاء والقدر الجبريين، بل القضاء والقدر المنسجمين مع الإرادة والإختيار(2).
* * *
1 ـ تفسير الميزان، ج 1، ص 331.
2 ـ لمزيد من التوضيح راجع (انگيزه پيدايش مذهب) = دافع وجود الدين، فصل القضاء والقدر.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)
هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها.
الآية الاُولى تأمر النّبي(عليه السلام) وتقول: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)... من أية مدينة، وأية ديار (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
ولمزيد من التأكيد تقول الآية: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).
وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ).
هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبيّن أن مسألة تغيير القبلة كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت
ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبثّ سمومهم.
مثل هذه الحالة تتطلب دائماً موقفاً قاطعاً حاسماً ينهي كل شك وريبة، من هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع، وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء. وهذا أُسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.
إضافة إلى ما سبق، فالتكرار في هذه الآيات يتضمن أيضاً أحكاماً جديدة. على سبيل المثال، الآيات السابقة وضحت حكم القبلة في المدينة التي يسكنها المسلمون. وهذه الآية والآية التالية أوضحت الحكم لدى السفر والخروج من المدن والديار.
الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنها تقصد دون شك مخاطبة عامّة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامّة:
1 ـ إلجام المعارضين ـ تقول الآية: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).
قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشركون يعترضون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات.
لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).
فهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة
اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات!
هؤلاء المفترون ظالمون حقاً ... ظالمون لأنفسهم، وظالمون لمن يقطعون عليه طريق الهداية.
2 ـ حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي).
وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاماً أساسياً من أُصول التربية التوحيدية الإِسلامية، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله (أو بعبارة أصح الخوف فقط من معصية الله)، وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل ولن تنهزم قط.
أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من «الشرق» تارة، ومن «الغرب» تارة اُخرى، ومن «المنافقين الداخليين» ومن «الأعداء الخارجيين» ومن كل شيء سوى الله. وهؤلاء دائماً أذلاء ضعفاء مهزومون.
3 ـ وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: (وَلاُِتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
تغيير القبلة كان في الواقع نوعاً من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الإنضباط الإِسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين ـ كما قلنا ـ عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة. وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة ... نحو أقدم بيت توحيدي، وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.
* * *
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ(152)
ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على النّاس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أن تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل منَّ عليكم بنعم كثيرة (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ).
وكلمة «منكم» قد تعني أن الرّسول بشرٌ مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربّي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرّسول بشراً «مِنْكُمْ».
وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال سبحانه في الآيتين: (198 و 199) من سورة الشعراء: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنينَ).
كان هذا طبعاً للمرحلة الاُولى من الدعوة، وفي المراحل التالية أُلغيت مسائل القومية والوطن (الجغرافي)، وربّى الإسلام أبناءه على أساس مبادىء «العالميّة» كوطن، و«الإِنسانية» كقومية.
بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
1 ـ (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا)، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشيء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة.
النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.
2 ـ (وَيُزَكِّيكُمْ).
و«التّزكية» هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النّبي بفضل آيات الله يزيدكم كمالا مادياً ومعنوياً، وينمّي أرواحكم، ويربّي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
3 ـ (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ).
التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن ـ كما ذكرنا ـ يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنها هي الهدف النهائي.
الفرق بين «الكتاب» و«الحكمة» قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحي الإِلهي النازل على النّبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه المسمّاة بالسنة.
وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإِسلامية، والحكمة إشارة إلى أسرارها وعللها ونتائجها.
ومن المفسرين من احتمل أن «الحكمة» إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة من تعاليم الكتاب. وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأُمور في نصابها(1).
صاحب «المنار» يرفض أن يكون معنى الحكمة «السنة»، ويستدل على رفضه بالآية الكريمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(2).
لكننا نعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها «السنة» لا غير.
4 ـ (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة. لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أن الأنبياء هم الذين بيّنوا لكم المعارف والعلوم، ولولاهم لخفي كثير من ذلك عليكم. فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإِنسانية.
![]() |
![]() |
![]() |