الآية الكريمة تتحدث عن خلود مثل هؤلاء الأفراد في النار، وهذا يعني أن هؤلاء يغادرون الدنيا وهم مشركون. لأن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله سبحانه: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(3).

* * *

3 ـ عنصرية اليهود

نفهم من الآيات الكريمة أن روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي


1 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي، الآية المذكورة.

2 ـ الميزان، الآية المذكورة.

3 ـ النساء، 48.

[282]

مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك الأيّام. وكانوا يعتقدون بوجود تفوّق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر الأجناس البشرية الاُخرى. ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم. وهذا التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.

هؤلاء يعتقدون بأن عنصرهم متميز عن سائر البشر لا في هذه الدنيا فحسب، بل في الآخرة أيضاً، حيث لا ينال المجرم منهم ـ على رأيهم ـ سوى عقوبة خفيفة قصيرة. وهذه التصورات المغلوطة هي التي دفعتهم إلى أن يرتكبوا ألوان الجرائم والموبقات(1).

* * *


1 ـ في تفسير الآية 123 من سورة النساء بحثنا أيضاً في هذه الإمتيازات الكاذبة (المجلد الثالث من هذا التّفسير).

[283]

الآيات

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـقَ بَنِى  إِسْر ءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَ الِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمى وَالْمَسَـكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَو ةَ وَءَاتُواْ الزَّكَو ةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ(83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَـآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَـؤْلاَ ءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّنْ دِيَـرِهِمْ تَظَـهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَـرَى تُفَـدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض فَمَا جَزَآءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَ لِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِى الْحَيَو ةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالاَْخِرَةِ فَلاً يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(86)

[284]

التّفسير

النّاكثون

تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، ولكن الآيات السابقة لم تتعرض إلى تفاصيل هذا الميثاق على النحو المذكور في هذه الآيات. يشير سبحانه في هذه الآيات إلى مواد هذا الميثاق، وهي بأجمعها ـ أو معظمها ـ من المبادىء الثابتة في الأديان الإِلهية. وموجودة بشكل من الأشكال في كل الأديان السماوية.

القرآن يندّد في هذه الآيات بشدّة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة.

بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:

1 ـ التوحيد وإخلاص العبودية لله (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَني إسْرَائيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله).

2 ـ الإحسان إلى الوالدين: (وَبِالْوَالِدَيْنَ إِحْسَاناً).

3 ـ الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينِ).

4 ـ التعامل الصحيح مع الآخرين: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

5 ـ إقامة الصلاة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ).

6 ـ إيتاء الزكاة: (وَآتُوا الزَّكَاةَ).

ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).

7 ـ عدم سفك الدماء: (وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ).

8 ـ عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ).

9 ـ إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من

[285]

عبارة (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض)، وسيأتي ذكرها).

ثم تذكر الآية إقرار القوم بالميثاق: (ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

ثم يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد بعضهم الآخر: (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَريقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ). ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر. (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالاِْثمِ وَالْعُدْوانِ).

ثم يشير إلى تناقض هؤلاء في مواقفهم، إذيحاربون بني جلدتهم ويخرجونهم من ديارهم، ثم يفدونهم إن وقعوا في الأسر: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ).

فهم يفادونهم استناداً إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافاً لما أخذ الله عليهم من ميثاق: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض)؟!

ومن الطبيعي أن يكون هذا الإنحراف سبباً لانحطاط الإِنسان في الدنيا والآخرة:

(فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ).

وإنحرافات أيّة أُمة من الأمم لابدّ أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقّة: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ).

الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيَا بالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ).

* * *

[286]

1 ـ إشارة تأريخية:

في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر. قيل في ذلك: «كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوماً أخرجوهم من ديارهم، وقد أُخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأُخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضاً أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم».

وروي في المعنيّ بهذه الآية: «أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وكانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أُسراها تصديقاً لما في التوراة، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنّة ولا ناراً ولا قيامة ولا كتاباً، فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه»(1).

وهكذا سقط اليهود وغيرهم من أهل العناد في مثل هذه التناقضات في حياتهم لانحرافهم عن خط العبودية التّامة لله تعالى.

* * *

2 ـ الإِزدواجية في الإِلتزام:

مرّ بنا أن القرآن الكريم يوبّخ اليهود بشدّة على إلتزامهم ببعض الأحكام الإلهية وتركهم لبعضها الآخر، وينذرهم بخزي الدنيا وبعذاب الآخرة وخاصة في عملهم بالاحكام الجزئية، ومخالفتهم لأهم الاحكام الشرعية. أي قانون حرمة إراقة الدماء، وتهجير من يشاركهم في العقيدة من ديارهم وأوطانهم.


1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة.

[287]

هؤلاء في الواقع التزموا بالاحكام التي تنسجم مع مصالحهم الدنيوية من الأحكام، أما حين تقتضي مصلحتهم أن يريقوا دم الآخرين ويستضعفوهم، فلا يألون جهداً في ارتكاب كل ذلك مخالفين بذلك أهم أحكام ربّ العالمين. إلتزامهم بفداء الأسرى لاينطلق من روح تعبدّية، بل من روح مصلحية ترى أنّ من مصلحتها أن تفدي الأسرى اليوم، كي تُفدى هي حين تقع بالأسر في المستقبل.

العمل بالأحكام المنسجمة مع مصالح الإنسان الدنيوية، ليس دلالة على طاعة الله وعبادته، لأن الدافع لم يكن الإستجابة إلى دعوة الله بقدر ما كان استجابة لنداء الذات والمصالح الذاتية. روح الطاعة تبرز لدى إلتزام الإنسان بما لا ينسجم مع مصالحه الآنية الذاتية. وهذا هو المعيار الذي يميّز به المؤمن عن العاصي، فالإزدواجية في الإلتزام بأحكام الله تعالى، تدلّ على روح العصيان، بل أحياناً على عدم الإيمان و بعبارة اُخرى، إن الايمان يظهر أثره فيما لو كان القانون على خلاف مصالح الفرد ومع ذلك يلتزم به الفرد، وإلاّ فان العمل بالاحكام الشرعية، اذا اتفقت مع المصالح الشخصيّة لايعتبر افتخاراً ولا علامة على الايمان ولهذا يمكن تمييز المؤمنين عن المنافقين من هذا الطريق فالمؤمنون يلتزمون بجميع الاحكام، والمنافقون يذهبون إلى التبعيض.

ومصير هذه الاُمّة ـ بالتعبير القرآني ـ الخزي في الدنيا وأشدّ العذاب في الآخرة ... ولا خزي أكبر من سقوط هذه الاُمّة السائرة على خط الإِزدواجية بيد الغزاة الأجانب، وهبوطها في مستنقع الذلة على الساحة العالمية.

هذه السنّة الكونية لا تقتصر على بني إسرائيل، بل هي سارية في كل زمان ومكان، وتشملنا نحن المسلمين أيضاً. وما أكثر الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض في مجتمعاتنا اليوم! وما أشقى هؤلاء في الدنيا والآخرة!

* * *

3 ـ منهج البقاء وعوامل السقوط

[288]

الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سنناً كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها.

أهم عامل لبقاء الاُمّة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الاُمّة على قوّة الله وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: (لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ الله).

ومن عوامل البقاء أيضاً التلاحم الإجتماعي بين أفراد الاُمّة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من النّاس.

إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضاً ورفعته.

أما عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكّك البنية الإجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضاً. (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ...).

ثم الإِزدواجية في الإِلتزام بأحكام الله تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض).

هذه هي الاسباب والعلل في تكامل وانحطاط الامم والحضارات في منظور القرآن.

* * *

[289]

الآيتان

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنـتِ وَأَيَّدْنَـه بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ(87) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ(88)

التّفسير

القلوب المغلّفة:

الحديث في هاتين الآيتين عن بني إسرائيل، وإن كانت المفاهيم والمعايير التي تطرحها الآيتان عامّة وشاملة.

تقول الآية الاُولى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ الْكِتَابَ) ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد موسى مثل داود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى ...(وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)، وتشير إلى بعثة عيسى (وآتيْنَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائماً على أساس نزعات هوى النفس (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)؟! وكان موقفهم إمّا اغتيال شخصية النّبي أو شخص النّبي: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)، لو كان

[290]

اغتيال الشخصية كافياً لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافياً سفكوا دمه!!

ذكرنا في تفسير الآيات السابقة عند حديثنا عن الإزدواجية في الإلتزام بالاحكام الإلهية أن معيار الإيمان والتسليم هو الإلتزام بما لا تهوى النفس، لأن كل أصحاب الأهواء مستسلمون لما ينسجم مع ميولهم وأهوائهم.

ومن جانب آخر يستفاد من الآية أن القادة الإلهيين لم يكونوا يأبهون بمعارضة أصحاب الأهواء، وهذا هو شأن القائد لمنهج الحق. ولو انساقوا وراء أهواء الآخرين لما كانوا قادة لطلاّب صراط الحق. بل أتباع لطلاب الدنيا.

الآية التالية تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم): (وَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ) والغلف جمع أغلف أي مغلّف.

نعم، إنها كذلك مغلّفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأن أصحابها لعنوا بعد التمادي في الكفر (بَلْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ).

قد تشير الآية إلى اليهود الذين كذبوا الأنبياء وقتلوهم، وقد تشير إلى اليهود المعاصرين للنبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) ممّن وقف بوجه الرسالة. لكنها على أي حال تبين حقيقة هامّة هي: إن الإنغماس في الأهواء يبعد الفرد عن الله، ويسدل الحجب على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقاً إلى نفسه.

* * *

1 ـ رسالة الأنبياء في مسيرة التاريخ

ذكرنا أن أصحاب الأهواء المنحرفين كانوا يقفون دوماً بوجه دعوة الأنبياء، لأنها كانت تهدد مصالحهم الآنيّة التافهة، وتحريف الرسالات الإلهية أحد السبل التي انتهجها هؤلاء المنحرفون لمحاربة الدعوة، لذلك كان لابدّ من توالي الرسل

[291]

ـ على مرّ التاريخ ـ لمواصلة بقاء خط النّبوة على الأرض، ولإِتمام الحجة على البشرية، قال سبحانه: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنا تَتْرَا كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَاتَبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً)(1)

هذا المفهوم عبّر عنه أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بقوله: «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول»(2).

هدف بعثة الأنبياء على مرّ العصور التاريخية إذن هو تذكير البشر بنعم الله سبحانه، ودعوتهم إلى الإلتزام بميثاق الفطرة، وإحياء دعوات الأنبياء السابقين.

هنا يثار سؤال حول سبب ختم النّبوة بنبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنجيب عليه إن شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب.

2 ـ ما هو روح القدس؟

للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:

1 ـ قالوا إنّه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إن الله أيّد عيسى بجبرائيل. وشاهدهم على ذلك قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)(3)

ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أن جبرائيل ملك، والجانب الروحي في الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة «الروح» عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى «القُدسِ» إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.

2 ـ وقيل: إن «روح القدس» هو القوّة الغيبية التي أيّدت عيسى(عليه السلام)، وبهذه القوة الخفية الإلهية كان عيسى يحيي الموتى.


1 ـ المؤمنون، 44.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة الاُولى.

3 ـ النحل، 102.

[292]

هذه القوّة الغيبية موجودة طبعاً بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم. وهذا الإِمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات. من هنا ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لحسان: «لَنْ يَزَالَ مَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ مَا ذَبَبْتَ عَنَّا» وقول بعض أئمة أهل البيت لشاعر قرأ أبياتاً ملتزمة: «إِنَّمَا نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ عَلى لِسَانِكَ».

3 ـ ومن المفسرين من قال إن روح القدس هو «الإِنجيل»(1) ويبدو أن التّفسيرين السابقين أقرب إلى المعنى.

3 ـ مفهوم «روح القدس» لدى المسيحيين

ورد في قاموس الكتاب المقدس: «إن روح القدس هو الأقنوم الثالث من الأقانيم الثلاثة الإِلهية. ويقال له (الروح)، لأنه مبدع الحياة، ويسمى مقدساً لأن من أعماله تقديس قلوب المؤمنين، ولما له من علاقة بالله والمسيح يسمى أيضاً (روح الله) و(روح المسيح)».

وورد أيضاً في هذه القاموس تفسير آخر هو: «أما روح القدس الذي يؤنسنا فهو الذي يحثنا دوماً إلى قبول وفهم الإِستقامة والإِيمان والطاعة، ويحيي الأشخاص الذين ماتوا في الذنوب والخطايا، ويطهرهم وينزههم ويجعلهم لائقين لتمجيد حضرة واجب الوجود».

وكما يلاحظ، إن عبارات قاموس الكتاب المقدس أشارات إلى معنيين لروح القدس: الأول، إن روح القدس أحد الأرباب الثلاثة، وهذه هي عقيدة التثليث، وهي عقيدة شرك بالله ومرفوضة، والثاني يشبه التّفسير الثاني المذكور أعلاه.


1 ـ تفسير المنار، ذيل الآية المذكورة.

[293]

4 ـ قلوب غافلة محجوبة

كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها، ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، والآية التي نحن بصددها تشير إلى واحدة من ذرائعهم.

(وَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلفٌ) ولا ينفذ إليها قول!!

كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أن القرآن أيّد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم أُسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة الله، (فَقَلِيلا مَايُؤْمِنُونَ).

وهذه مسألة تطرحها آية اُخرى من قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلا)(1).

* * *


1 ـ النساء، 155.

[294]

الآيَتان

وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَّا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَفِرِينَ(89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَب عَلَى غَضَب وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ(90)

سبب النّزول

روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «كَانَتِ الْيَهُودُ تَجِدُ في كُتُبِهَا أَنَّ مُهاجَرَ (مكان هجرة) محمّد رَسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين (جبلي) عَيْر وَاُحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد وأُحد سواء، فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض أخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عَيْر وأُحد، (فعلموا أنهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عَير، وهذا أُحد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلمّوا

[295]

إلينا، فكتبوا إليهم أنّا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإن كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثمّ أمّنهم، فنزلوا عليه، فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلاّ مقيماً فيكم. فقالوا له: ليس لك ذلك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمّداً(عليه السلام) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...) إلى آخر الآية.»

نعم، هذه الفئة التي كانت تبحث بولع شديد عن منطلق البعثة المحمّدية، لتكون أول من تؤمن برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت تفتخر أمام الأوس والخزرج بأنها ستكون من خاصة صحابة النّبي المبعوث، إذا هي تقف ـ بسبب لجاجها وعنادها ـ إلى جانب أعداء النّبي، بينما التف حول الرّسول من كان بعيداً عن هذه الأجواء.

التّفسير

كفروا بمَا دعوا النّاس اليه

هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء ـ كما ورد في أسباب النّزول ـ هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النّبي الذي بشرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النّبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرّسول وعن الرسالة (وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ... فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِريِنَ).

[296]

وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحوّل هذا الفرد إلى عدوّ لدود لهذه الحقيقة.

ما أشدّ خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شيء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: (بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ).

لقد ضيعوا كل شيء وكأنهم أرادوا أن يكون النّبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألّموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه الله: (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

ولذلك شملهم غضب الله المتوالي: (فَبَاءُو بِغَضَب عَلى غَضَب وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).

* * *

بحثان

1 ـ صفقة خاسرة

إنه لخسران عظيم أن تتهيّاً للإنسان كل سبل الهداية ثم يعرض عنها لأُمور تافهة، واليهود المعاصرون للنبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) هم من أُولئك، توفّرت لهم كل هذه السبل، بل تحركوا زمناً يبتغون مصدر هذه الهداية، وعثروا بعد جهد على مبتغاهم حين حطوا رحالهم بين «العير» و«أُحد» انتظاراً للنبي الموعود، ثم إذا هم يخسرون كل شيء، حين علموا أن هذا النّبي المبعوث ليس من بني إسرائيل، أو أنه لا يحقق مصالحهم الشخصية.

ما أكبر الخسارة حين يبيع الإنسان نفسه بهذا الشكل ويشتري بها غضب الله عزّوجلّ! بينما ليس لوجود الإنسان ثمن إلاَّ الجنّة كما يقول أمير المؤمنين

[297]

علي(عليه السلام): «إنَّهُ لَيْسَ لاَِنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إلاَّ الْجَنَّةَ فَلا تَبيعُوهَا إلاَّ بِهَا»(1).

عبارة «اشتراء النفس» أي بيعها توحي أن الإتجاه نحو طريق الضلال بيعٌ للنفس، وكأن الكافر يبيع شخصيته الإنسانية، لأن الكفر يهدم قيمة الانسان من الاساس، وبعبارة اُخرى إنه يكون كالعبيد الذين باعوا أنفسهم فأمسوا اسرى بيد الآخرين ... أجل إنّهم أسرى الأهواء وعبيد الشيطان.

2 ـ غضب على غضب

القرآن الكريم قال عن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء بأنَّهُمْ (وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ الله) بسبب كفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء وفي سورة آل عمران الآية 12، ورد هذا المعنى أيضاً وأن اليهود بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء باءوا بغضب من الله تعالى. وهذا هو الغضب الاول.

وهؤلاء أحفادهم من اليهود المعاصرين للبعثة المحمّدية ساروا على طريق أسلافهم في الكفر بالرسالة، وزادوا على ذلك بوقوفهم بوجه الرّسول وتآمرهم على الدعوة ولذلك قال عنهم «فباءو بغضب على غضب».

و«باءُو» بمعنى رجعوا ـ وأقاموا في المكان ـ وهنا تعني استحقاقهم لعذاب الله. فكأنهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهي، أو كأنهم اتخذوا موقفاً يغضب الله.

هؤلاء القوم كانوا يعيشون أمل ظهور النّبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان موقفهم من الرّسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب الله وسخطه مرّة بعد اُخرى.

* * *


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة رقم 456.

[298]

الآيات

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَّا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(91) وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَلِمُونَ(92)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَ اتَيْنَكُم بِقُوَّة وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(93)

التّفسير

العصبية القومية لدى اليهود

يشير القرآن مرّة اُخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول:

(وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ الله قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ).

فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة

[299]

(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ).

ويكشف القرآن زيف ادعائهم مرة اُخرى حين يقول لهم: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) هؤلاء يدّعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟!

وهذا الذي يقوله بنو إسرائيل: (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) ينطلق من روح ذاتية فردية أو فئوية، وهي تخالف روح التوحيد. فالتوحيد يستهدف القضاءَ على كل المحاور الذاتية في حركة الإنسان ومواقفه، وتكريس نشاطات الفرد حول محور العبودية لله لا غير.

بعبارة اُخرى، لو كان الإنصياع للأوامر الإلهية متوقفاً على نزولها عليهم، فهو الشرك لا الإيمان، وهو الكفر لا الإسلام، ومثل هذا الإنصياع ليس بدليل على الإيمان قط.

وعبارة (مَا أَنْزَلَ الله) تحمل مفهوم نفي كل ذاتية بشرية في الرسالة، بما في ذلك ذات النّبي المرسل، فلم تتضمن العبارة اسم محمّد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل التأكيد على الإيمان بما أنزل الله تعالى.

ويعرض القرآن وثيقة اُخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف ادعائهم فيقول: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسى بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).

ما هذا الإنحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين؟! لو كنتم آمنتم به حقّاً، فَلِمَ تبدّل إيمانكم إلى كفر عند غياب موسى وذهابه إلى جبل الطور، وبذلك ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم والأجيال المتعاقبة بعدكم؟!

في الآية الثالثة يطرح القرآن وثيقة إدانة اُخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّة

[300]

وَاسْمَعُوا، قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا).

وما كان عصيانهم إلاّ عن انغماس في حبّ الدنيا الذي تمثّل في حبّ عجل السّامري الذّهبي: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهمْ) ولذا نسوا الله عزّ وجلّ؟! كيف يجتمع الايمان بالله مع قتل انبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الالهية المؤكدة؟! أجل (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنيِنَ)(1).

* * *

بحثان

1 ـ عبارة (قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) ليست حكاية عمّا قالوه بألسنتهم، بل حسب الظاهر هي تعبير عن واقع عملي لهؤلاء القوم، وكناية رائعة عن إنحرافهم.

2 ـ عبارة (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) هي أيضاً كناية رائعة تعبّر عن وضع هذه الجماعة.