هناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) تظهر من خلاله شخصيّته الكبيرة الفذّة، ويعتبر دليلاً وشاهداً على هذا البحث.

عند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار ـ إحدى مدن العراق الحدودية ـ خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم :

«ما هذا الذي صنعتموه ؟ فقالوا : خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا. فقال : والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار».

* * *

[573]

الآيتان

وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْررْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّـاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى(81) بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ (82)

التّفسير

الميثاق المقدس :

بعد أن أشارت الآيات السابقة الى وجود علائم لنبيّ الإسلام في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع الله ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشيء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية :

(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين...).

في الواقع، مثلما أنّ الأنبياء والأُمم التالية تحترم الأنبياء السابقين ودياناتهم،

[574]

فإنّ الأنبياء السابقين والأُمم السابقة كانوا يحترمون الأنبياء الذين يأتون بعدهم. وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء الله. وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.

و«الميثاق» من «الوثوق»، أي ما يدعو إلى الإطمئنان به والإعتماد عليه. و «الميثاق» هو الإتّفاق المؤكّد. وأخذ الميثاق من الأنبياء مصحوب بأخذ الميثاق من أتباعهم أيضاً. كان موضوع هذا الميثاق هو أنّه إذا جاء نبيّ تنسجم دعوته مع دعوتهم (وهذا ما يثبت صدق دعوته) فيجب الإيمان به ونصرته.

ثمّ لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية :

(قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري)(1).

هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهداً بهذا الموضوع ؟

وجواباً على ذلك (قالوا أقررنا).

ثمّ لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول الله : كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم (قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول :

(فمن تولى بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون).

فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة ـ أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى. ونعلم أن الله لايهدي الفاسقين المعاندين، كما


1 ـ الإصر : العهد المؤكّد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.

[575]

مرّ في الآية 80 من سورة التوبة : (والله لا يهدي القوم الفاسقين)، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار.

* * *

هنا ثلاث نقاط لابدّ أن ننتبه لها :

1 ـ هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم أنّها تشمل كلّ نبيّ يبعث بعد نبيّ قبله ؟

يظهر من الآية أنّها تعبّر عن مسألة عامّة، وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها البارز. كما أنّ هذا المعنى الواسع يتّسق مع روح مفاهيم القرآن. لذلك إذا ما رأينا في بعض الأخبار أنّ المقصود هو نبيّ الإسلام الكريم، فما ذلك إلاَّ من قبيل تفسير الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها، وليس لأنّ المعنى جاء على سبيل الحصر.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي (عليه السلام) قال : «إنّ الله تعالى ما بعث آدم (عليه السلام) ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلاَّ أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد عليه الصلاة والسلام وهو حي، ليؤمننّ به ولينصرنّه»(1).

2 ـ بعد أخذ مضمون الآية بنظر الإعتبار، يبرز هذا السؤال : أيمكن أن يظهر نبيّ من أُولى العزم في زمان نبيّ آخر من أُولي العزم حتّى يتبعه ؟

يمكن القول في جواب هذا السؤال : إنّ الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء وحدهم، بل ومن أتباعهم أيضاً، كما قلنا في تفسير الآية، والواقع أنّ القصد من أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أُممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك عصر النبيّ التالي. كما أنّ الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضاً إذا أدركوا ـ فرضاً ـ عهد الأنبياء التالين. أي أنّ أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقاً في أهدافهم وفي دعوتهم ولا صراع أو خلاف بينهم.


1 ـ التفسير الكبير : ج 8 ص 123.

[576]

3 ـ والقول الأخير بشأن هذه الآية هو أنّها وإن تكن بخصوص الأنبياء، فهي تصدق طبعاً بحقّ خلفائهم أيضاً، إذ أنّ خلفائهم الصادقين لا ينفكّون عنهم، وهم جميعاً يسعون لتحقيق هدف واحد. ولذلك كان الأنبياء يعيّنون خلفائهم، ويبشّرون الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشدّ أزرهم.

ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا لهذه الآية وكتب أحاديثنا بشأن نزول عبارة «ولتنصرنّه» في علي (عليه السلام) وأنها تشمل قضية الولاية، إنّما هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولابدّ أن نشير إلى أنّ هذه الآية ـ من حيث تركيبها النحوي ـ كانت موضع بحث بين المفسّرين ورجال الأدب(1).

4 ـ التعصّب المقيت

يحدّثنا التاريخ أنّ أتباع دين من الأديان لا يتخلّون بسهولة عن دينهم ولا يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله، بل يتمسّكون بدينهم القديم تمسّكاً جافّاً جامداً، ويدافعون عنه كأنّه جزء من وجودهم، ويرون تركه إبادة لقوميّتهم.

لذلك يشقّ عليهم القبول بالدين الجديد. إنّ منشأ الكثير من الحروب الدينية التي وقعت على امتداد التاريخ ـ وهي من أفظع حوادث التاريخ ـ هو هذا التعصّب الجاف والجمود على الأديان القديمة.

غير أنّ قانون الإرتقاء والتكامل يقول : هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد تلو الآخر، وتتقدّم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحقّ والعدالة والإيمان والأخلاق والإنسانية والفضيلة، حتّى تصل إلى الدين النهائي، خاتم الأديان،


1 ـ في «لما آتيتكم»يعتبر بعضهم «ما» موصولة ومبتدأ، واللام موطئة للقسم، وجملة «لتؤمننّ به» خبر. وقال فريق آخر «ما» شرطية زمانية وجزاؤها «لتؤمننّ به ولتنصرنّه». وهذا الإحتمال الثاني أقرب إلى معنى الآية.

[577]

كالطفل الذي يتدرّج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأُخرى حتّى يتخرّج من الكليّة والجامعة.

فإذا أحبّ التلاميذ جوّ مدرستهم الإبتدائية ذلك الحبّ الذي يربطهم بمدرستهم إلى درجة أنّهم يرفضون الإنتقال إلى المدرسة الثانوية، فبديهيّ أنّ لا يكون نصيب هؤلاء سوى التخلّف عن ركب السائرين نحو التقدّم والإرتقاء.

إنّ إصرار الآية على أخذ الميثاق والعهد المؤكّد من الأنبياء والأُمم الماضية نحو الأنبياء التالين لهم قد يكون من أجل اجتناب أمثال هذا التعصّب والجمود والعناد.

ولكنّ الذي يؤسف له أنّنا ـ بعد كلّ هذا التأكيد ـ ما زلنا نرى أتباع الأديان القديمة لا يسلّمون بسهولة أمام الحقائق الجديدة. سوف نشرح إن شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب كيف يكون الإسلام آخر الأديان وخاتمها ولماذا ؟

* * *

[578]

الآيات

أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ (85)

التّفسير

الإسلام أفضل الأديان الإلهيّة :

مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية. وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.

تبدأ الآية بالتساؤل : (أفغير دين الله يبغون) أيريد هؤلاء ديناً غير دين الله ؟

[579]

وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا.

(وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض).

يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول : كلّ مَن في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره (طوعاً وكرهاً). هذا الإستسلام والخضوع يكون «طوعاً» أو إختيارياً أحياناً، إزاء «القوانين التشريعية»، ويكون «كرهاً» أو إجبارياً أحياناً أُخرى، إزاء «القوانين التكوينية».

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود. فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت ـ فرضاً ـ يكتب لها الفناء والزوال. هذا نوع من «الإسلام والتسليم» أمام أمر الله. وبناءً على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلاًّ منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.

والنوع الآخر من أوامر الله هي «الأوامر التشريعية» وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء. إنّ التسليم أمامها تسليم «طوعي» أو إختياري. فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون. إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ ـ على كلّ حال ـ عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلّف والعدم.

[580]

ولمّا كانت «أسلم» مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقاً يسلم طوعاً ـ كالمؤمنين ـ وفريقاً يسلم كرهاً ـ كالكافرين ـ أمام القوانين التكوينية. وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله. فلماذا إذاً لا يسلمون لجميع قوانين الله ودين الحقّ ؟

هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفاً، وهو : أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء إختيارهم. أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلاَّ عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلاَّ إليه.

ويتضح ممّا تقدّم أن «مَن» في جملة (من في السماوات والأرض) تشمل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلاَّ أنها قد تكون عامّة للتغليب. و «طوعاً» إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و «كرهاً» إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء.

(قل آمنّا بالله وما أُنزل علينا...).

في هذه الآية يأمر الله النبيّ والمسلمين بأنّهم، فضلاً عن إيمانهم بما أُنزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكلّ الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا : إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله. إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيّين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس. إنّا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.

[581]

(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه).

«يبتغ» من «الإبتغاء» بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الأُمور المحمودة وفي الأُمور المذمومة. هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلّيّة، وهي أنّ الدين الحقيقي هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأمّا بمفهومه الخاصّ فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان، فتقول الآية : أنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الإعتبار احترام سائر الشرايع الإلهيّة المقدسة. فكما أن طلاّب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية، فكذلك الإسلام. وأمّا الذين يتّخذون غير هذه الحقيقة ديناً، فلن يقبل منهم هذا أبداً، ولهم على ذلك عقاب شديد (وهو في الآخرة من الخاسرين) ذلك لأنّه تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيّات جاهلية وعنصرية، ولا شكّ أنّه هو الخاسر في هذه الصفقة. وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرماناً وعذاباً وعقاباً يوم القيامة.

وذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا ، وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وانذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً) الآية أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول : يا ربّ أنا الصلاة فيقول : إنّك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول : إنّك على خير، ثمّ يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول : إنّك على خير، ثمّ تجيء الأعمال كلّ ذلك يقول

[582]

الله : إنّك على خير، ثمّ يجيء الإسلام فيقول : يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله : إنّك على خير; بك اليوم آخذ، وبك أُعطي. قال الله في كتابه : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(1).

فيما يتعلّق باختلاف «الإسلام» عن «الايمان» سوف يأتي شرحه في تفسير الآية 14 من سورة الحجرات إن شاء الله.

* * *


1 ـ تفسير الدر المنثور : ج 2 ص 48، نقلاً عن معجم الأوسط : ج 8 ص 296 حديث 7607.

[583]

الآيات

كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيَمـانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ (86)أُوْلَئكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعنَةَ اللهِ وَالْمَلائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَـالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89)

سبب النّزول

كان «الحارث بن سويد» من الأنصار، إرتكب قتل شخص بريء اسمه «المجذر بن زياد»، فارتدّ عن الإسلام خوفاً من العقاب، وفرّ من المدينة إلى مكّة.ولكنّه في مكّة ندم على فعلته، وراح يفكّر فيما يصنعه. وأخيراً استقرّ رأيه على أن يبعث بأحد أقاربه في المدينة يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا إذا كان له سبيل للرجوع. فنزلت هذه الآيات، تعلن قبول توبته بشروط خاصّة. فمثُل الحارث بن سويد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجدّد إسلامه، وظلّ ملتزماً وفيّاً لإسلامه حتّى

[584]

آخر رمق فيه. غير أنّ أحد عشر شخصاً ممّن ارتدّوا عن الإسلام معه بقوا مرتدّين(1).

في تفسير الدرّ المنثور وفي تفاسير أُخرى، سبب نزول للآيات المذكورة لا يختلف كثيراً عمّا أوردناه.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد» تقول الآية :

(كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات).

فالآية تقول : إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا ؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة : (والله لا يهدي القوم الظالمين).

المراد من «البينات» في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين. ثمّ تضيف الآية :

(أُولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 471.

[585]

«اللعن» في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته. هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد إستنكار كلّ عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.

(خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون).

تُضيف الآية هنا أنّهم فضلاً عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولاشكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم،فتقول :

(إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم).

إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة ـ تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة «وأصلحوا» تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب إرتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.

لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل : (إلاَّ من تاب وعمل صالحاً)(1) وإلاَّ فإنّ التوبة لن تكون كاملة. فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته (فإن الله غفور رحيم).


1 ـ طه : 82 .

[586]

بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

هل تقبل توبة المرتد ؟

يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الإرتداد. فثمّة «المرتدّ الفطري» وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك. وهناك «المرتدّ الملّي» وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.

توبة المرتدّ الملّي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلماً بالمولد، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد. هذا المرتدّ ـ وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه ـ يُحكم بالإعدام إن ثبت إرتداده. وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه.

لكن هذه الشدّة تخصّ ـ كما قلنا ـ المرتدّ الفطري، وبشرط أن يكون رجلاً. قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد، وربّما اعتبر نوعاً من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام.

غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساساً، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها. إنّ الإرتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من قوانين العالم اليوم. إذ لو أُجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتدّ عنه متى شاء، لتحطّمت الجبهة الداخلية سريعاً، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء

[587]

وعملائهم، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج. وبناءً على ذلك فإنّ هذا الحكم حكم سياسي في الواقع، ولابدّ منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.

أضف إلى ذلك أنّ من يتقبّل الإسلام بعد التحقّق والتدقيق، ثمّ يتركه ليعتنق ديناً آخر، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية، وهو بذلك يستحقّ أشدّ العقوبات. أمّا تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة، فلأنّ جميع العقوبات تخفّف بشأنها.

* * *

[588]

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيَمـانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَماتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاَْرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولئكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـاصِرِينَ (91)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين أن الآية الأولى نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته، ولكنّهم بعد البعثة كفروا به. وذهب آخرون إلى أنها نزلت في الحارث بن سويد وأحد عشر آخرين الذين إرتدّوا عن الإسلام لأسباب. ثمّ تاب وعاد إلى الإسلام. أمّا الآخرون فقد رفضوا دعوته للعودة، وقالوا : سنبقى في مكّة ونواصل مناوءة محمّد إنتظاراً لهزيمته. فإذا تحقّق ذلك فخير، وإلاَّ فإنّ باب التوبة مفتوح، نتوب وقتما نشاء ونرجع إلى محمّد، وسوف يقبل توبتنا ! وعندما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة اسلم بعضهم وقبلت توبتهم، وأمّا من أصرّ على البقاء على الكفر فقد نزلت الآية الثانية بشأنهم.

[589]

التّفسير

التوبة الباطلة :

(إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم).

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّاً على إنحرافهم عن طريق الحقّ فيتوبون توبةً صادقة. في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تُقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أوّلاً، ثمّ إرتدّوا وكفروا، وأصرّوا على كفرهم، ورفضوا الإنصياع لأوامر الله، حتّى إذا اشتدّ عليهم الأمر اضطرّوا إلى العودة للإسلام. إنّ الله لن يقبل توبة هؤلاء، لأنّهم لن يتّخذوا بإختيارهم خطوة في سبيل الله، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم إنتصار المسلمين. لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تُقبل.

وثمّة إحتمال آخر في تفسير هذه الآية هو : أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص عندما يرون أنفسهم على أعتاب الموت ونهاية العمر قد يندمون ويتوبون حقّاً. غير أنّ توبتهم لن تُقبل، لأنّ وقت التوبة يكون قد إنتهى، كما سيأتي شرحه. وهذا نظير قوله تعالى في الآية 18 من سورة النساء : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الآن).

وقيل : من المحتمل أن يكون معنى الآية : إنّ التوبة عن الذنوب العادية في حال الكفر لن تقبل. أي إذا أصرّ أحدهم على المضي في طريق الكفر، ثمّ تاب عن ذنوب معيّنة كالظلم والغيبة وأمثالهما، فإنّ توبته هذه لا طائل وراءها ولن تُقبل، وذلك لأنّ غسل التلوّث الظاهر عن الروح والنفس، مع بقاء التلوّث الأعمق في الباطن، لا فائدة منه.

لابدّ أن نضيف هنا أنّ التفاسير المذكورة آنفاً لا تعارض بينها، وقد تشملها

[590]

الآية جميعاً، وإن يكن التفسير الأوّل أقرب إلى الآيات السابقة وإلى سبب نزول هذه الآية.

وفي الآية الثانية يقول تعالى :

(إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به).

تخصّ الآية أُولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثمّ يموتون وهم على تلك الحال. يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين، ولن يُقبل منهم كلّ ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتّى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهباً في سبيل الله.

من الواضح أنّ القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء لله، وإلاَّ فمن الواضح أنّ ملء الأرض ذهباً يوم القيامة لا يختلف عن ملئها تراباً. إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهميّة الموضوع.

أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة ؟ فقد ذكر المفسّرون لذلك إحتمالين إثنين، ولكن ظاهر الآية يدلّ على العالم الآخر، أي كانوا كافرين (وماتوا وهم كفّار)، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهباً، وظنّوا أنّهم بالإستفاده من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا،يستطيعون أن يدرأوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، إذ أنّ هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة على التأثير في ما سيواجههم من عقاب. وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية 15 من سورة الحديد : (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا).

[591]

وفي الختام يشير إلى نكتة اُخرى في المقام ويقول : (أُولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين).

لاشكّ في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً، ولن يكون باستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم. لأن الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان بالله، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفّار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً، بما أن الشفاعة بإذن الله، فإن الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لايشمل الأفراد غير اللائقين.

* * *

[592]

الآية

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

التّفسير

من علائم الإيمان :

(لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون).

ولفظة «البر» في أصلها اللغوي تعني «السعة» ولهذا يقال للصحراء «البَر» بفتح الباء، ولهذه الجهة أيضاً يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم «البِر» بكسر الباء، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك، بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد.

ماذا يعني «البر» في الآية ؟

لقد ذهب المفسّرون في تفسير «البر» في هذه الآية إلى مذاهب شتى.

فمنهم من قال : إن المراد به هو «الجنة»، ومنهم من قال أن المراد هو «الطاعة

[593]

والتقوى» ومنهم من فسّره بأن معناه «الأجر الجميل».

غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو : أن لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالاً صالحة، كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصلاة، والصيام، والوفاء، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه.

وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة، منها : لإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال، لأن الحبّ الواقعي لله، والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين، وواجه خيارين لا ثالث لهما، ويقع في أحد الجانبين الثروة، أو المنصب، والمكانة المحببة لديه، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير، ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر، ويتغاضى عنه.

فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته، وبرهن على حبه، وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه.

وإذا اقتصر ـ في هذا السبيل ـ على إنفاق الحقير القليل، وبذل ما لايحبه ويهواه، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة، والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية، وأنه ليس إلاّ بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية، ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان، ومدى تجذره في ضميره.

تأثير القرآن في قلوب المسلمين :

لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين

[594]

الأوائل، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول، إلاّ وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات.

1 ـ كان «أبو طلحة» أكثر أنصاري المدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت (لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون) قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن الله يقول : لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة : افعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه(1).

2 ـ أضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً، فقال للضيف : إني مشغول، وأن لي إبلاً فاخرج وآتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر : خنتني بهذه، فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم اوضع في حفرتي، مع أن الله يقول :