2 ـ «لو» في جملة (لو يضلّونكم) بمعنى (أن) المصدرية، وبما أن (لو) تعطي معنى التمني جاءت في هذه الجملة بدل (أن) ليكون التعبير أبلغ.

[551]

يباعدوا بين المسلمين والإسلام، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كلّ جهد، حتّى أنّهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المقرّبين لعلّهم يستطيعون صرفهم عن الإسلام. ولاشكّ أنّهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم، أو حتّى على فرد واحد منهم، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهّد الطريق لتضليل الآخرين أيضاً.

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة إستناداً إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث لا يمكن أن يكون هناك أيّ إحتمال لارتدادهم. إنّ هؤلاء قد إعتنقوا الإسلام بكلّ وجودهم، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها. وبناءً على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل أنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

(وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون) وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن. وبعبارة أوضح : إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطاً مظلمة سلبية، وكلّما ازداد إصراراً على هذا، إزداد بُعداً عن الحقّ.

ولعلّ تعبير (وما يشعُرون) إشارة إلى هذه الحالة النفسية، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضاً، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والإفتراء أن يضلّ الآخرين، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه، فتروح هذه الإختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها.

* * *

[552]

الآيتان

يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70)يَأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(71)

التّفسير

كتمان الحقّ لماذا ؟

تعقيباً للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها. فتقول :

(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)(1).

السؤال هنا أيضاً موجه إلى أهل الكتاب عمّا يدعوهم إلى العناد واللجاجة


1 ـ جملة «تشهدون» تعني العلم والمعرفة وفقاً للتفسير أعلاه، كما ورد في مجمع البيان وغيره ـ وهذا العلم ناشىء من اطلاعهم على أوصاف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)الواردة في التوراة والإنجيل، ولكن البعض يرى أن المراد بالعلم هنا هو كفاية المعجزات لإثبات نبوة نبي الإسلام. وذهب آخرون إلى أن المراد تنكرون بها في الظاهر، ولكن في جلساتكم الخاصّة تشهدون بصدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)وحقانيته.

[553]

والإصرار عليهما بعد أن قرأوا علامات نبي الإسلام في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، فلماذا ينكرونها ؟

(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل).

مرّة اُخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحقّ والباطل، وإخفاءهم الحقّ مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفونها.

إنّه يوبّخهم أوّلاً على إنحرافهم عن طريق الحقّ مع علمهم به، ثمّ يوبّخهم في الآية الثانية على تضليلهم الآخرين(1).

* * *


1 ـ في تفسير الآية 42 من سورة البقرة المشابهة لهذه الآية تحدّثنا عن هذا الموضوع ـ انظر الجزء الأوّل ـ .

[554]

الآيات

وَقَالَت طَّآئفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين القدامى إنّ اثني عشر من يهود خيبر وغيرهما وضعوا خطّة ذكيّة لزعزعة إيمان بعض المؤمنين، فتعاهدوا فيما بينهم أن يصبحوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتظاهروا باعتناق الإسلام، ثمّ عند المساء يرتدّون عن إسلامهم، فإذا سئلوا لماذا فعلوا هذا، يقولون : لقد راقبنا أخلاق محمّد عن قرب، ثمّ عندما رجعنا إلى كتبنا وإلى أحبارنا رأينا أنّ ما رأيناه من صفاته وسلوكه لا يتّفق مع ما هو موجود في كتبنا، لذلك ارتددنا. إنّ هذا سيحمل بعضهم على القول بأنّ

[555]

هؤلاء قد رجعوا إلى كتبهم السماوية التي هم أعلم منّا بها، إذاً لابدّ أن يكون ما يقولونه صحيحاً. وبهذا تتزعزع عقيدتهم.

هناك سبب نزول آخر، إلاَّ أنّ ما ذكرناه أقرب إلى معنى الآية.

التّفسير

مؤامرة خطيرة :

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة أُخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بُنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة. من ذلك أنّ (طائفة من أهل الكتاب) اتّفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار ويرتدّوا عنه في آخره (ءامنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره).

لعلّ المقصود من أوّل النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم، سواء أكان ذلك في أوّل النهار حقّاً أم في أيّ وقت آخر. إنّما قصر هذه المدّة يوحي إلى الآخرين أن يظنّوا أنّ هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئاً عظيماً قبل الدخول فيه، ولكنّهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئاً آخر قد خيّب آمالهم، فارتدّوا عنه.

لاشكّ أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء الإيمان، خاصّة وأنّ أُولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء. فإيمانهم ثمّ كفرهم كان قادراً على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد. لذلك كانوا يعتمدون كثيراً على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله : (لعلهم يرجعون) دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهرياً، وأن يبقى إرتباطهم باتّباع دينهم.

[556]

(ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم).

ويستفاد من بعض التفاسير أنّ يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلاّ يقع القريبون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت تأثيره فيؤمنوا به حقّاً، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ النبوّة يجب أن تكون في العنصر اليهودي، فإذا ظهر نبيّ فلابدّ أن يكون يهودياً.

يرى بعض المفسّرين أنّ جملة (لاتؤمنوا) من الإيمان الذي يعني «الوثوق والإطمئنان» كما هو أصل الكلمة اللغوي. وبناءً على ذلك يكون المعنى : هذه المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرّية، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود، حتّى المشركين، لئلاّ تنكشف وتحبط، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات وفضحهم، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين، ودرس هداية للمعاندين.

(قل إنّ الهُدى هُدى الله).

هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود، يردّ الله عليهم ردّاً قصيراً ولكنه عميق المعنى. فأوّلاً : الهداية مصدرها الله، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط. وثانياً : إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط.

(أن يؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم)(1).

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة (ولا تصدّقوا) قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا : «لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية، وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن


1 ـ جملة «ولاتؤمنوا» تعني انكم لا تصدقوا ان ينزل كتاب سماوي على احد كما نزل عليكم.

[557]

يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوّة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال !».

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها، من حيث علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال، على الأقوام الأخرى. لذلك يردّهم الله في الآية التالية بقوله :

(قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم).

أي : قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأُخرى، هي جميعاً من الله، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها. إنّ أحداً لم يأخذ عليه عهداً ووعداً، ولا لأحد قرابة معه. إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما.

(يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(1).

هذا توكيد لما سبق أيضاً : إنّ الله يخصّ من عباده من يراه جديراً برحمته ـ بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة ـ دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنِعم العظيمة.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي اذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

* * *

خطط قديمة

تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار


1 ـ «فضل» بمعنى كل شيء زاد عن المقدار اللازم من المواهب والنعم، وهو معنىً إيجابي وممدوح. ولكن تارة يستبطن معنىً مذموماً وسلبياً، وذلك عندما يأتي بمعنى الخروج عن حدّ الاعتدال. والميل إلى الإفراط، ويأتي غالباً بصيغة (فضول) جمع (فضل) كما في قولهم «فضول الكلام).

[558]

اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها، ووعوا وساوس الأعداء المغرية. ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة. إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب. وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية، ويلجأون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتّى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا اعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم أُسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم. إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

* * *

[559]

الآيتان

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَار يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَار لاَّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قآئماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاُْمّيِّنَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

سبب النّزول

نزلت هذه الآية بشأن يهوديّين أحدهما أمين وصادق، والآخر خائن منحط. الأوّل هو «عبدالله بن سلام» الذي أودع عنده رجل 1200 أوقية(1) من الذهب أمانة. ثمّ عندما استعادها ردّها إليه. والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته. واليهوديّ الثاني هو «فنحاص بن عازورا» ائتمنه رجل من قريش بدينار، فخانه فيه. والله يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.

وقيل إنّ القسم الأوّل من الآية يقصد جمعاً من النصارى، وأمّا الذين خانوا


1 ـ الأوقية تساوي 1/12 من الرطل ويساوي 7 مثاقيل، جمعها : أواق.

[560]

الأمانة فهم جمع من اليهود. وقد تشير الآية إلى الحالتين، إذ أنّنا نعلم أنّ الآيات ـ وإن كان لبعضها سبب نزول خاص ـ لها طابع عامّ وسبب النزول لا يخصّصها.

التّفسير

ترسم الآية ملامح أُخرى لأهل الكتاب. كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم ! كانوا يقولون : إنّنا أهل الكتاب، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة. وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله (يقولون على الله الكذب) قال اليهود : إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.

وقيل أيضاً إن اليهود كانت لهم مع العرب إتفاقات إقتصادية وتجارية وعندما أسلم العرب، إمتنع اليهود عن ردّ حقوقهم، قائلين : إنكم عند عقد الإتفاق لم تكونوا من مخالفينا. أما وقد أتخذتم ديناً جديداً فقد سقط حقّكم.

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين. ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع، ولذلك يقول (ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار(1) يؤدّه إليك ومنهم مَن إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاَّ ما دمت عليه قائماً).

إنّ تعبير (إلاَّ ما دمت عليه قائماً) أي واقفاً ومسيطراً، يشير إلى مبدأ أصيل في


1 ـ بشأن معنى قنطار انظر تفسير الآية 14 من هذه السورة.

[561]

نفسيّة اليهود، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلاَّ بالقوّة. ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم.

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة. وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.

(ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأُمّيّين سبيل).

هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الأُميّين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا أُمّيّين غالباً أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب.

لاشكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلاً :

(ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.

الآية التالية تنفي مقولة اليهود (ليس علينا في الأُميّيّن سبيل) التي قرّروا فيها

[562]

لأنفسهم حرّية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حقّ. حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورّعون عن إرتكاب كلّ إعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرّد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم، فتقول : (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين).

تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبّة الله يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصّة، وفي التقوى بشكل عامّ، أجل، إن الله يحب هؤلاء، لا الخوانة الكذابين الذين يبيحون لأنفسهم غصب حقوق الآخرين ويتجرؤون كذلك على نسبتها إلى الله تعالى.

* * *

بحث

1 ـ اعتراض :

قد يقول قائل إنّ الإسلام قرّر أيضاً مثل هذا الحكم بالنسبة لأموال الأجانب، إذ أنّه يجيز الإستيلاء على أموالهم.

الجواب :

إنّ اتّهام الإسلام بهذا افتراء لاشكّ فيه، إذ أنّ من أحكام الإسلام القاطعة الواردة في كثير من الأحاديث، هو «ليس من الجائز خيانة الأمانة سواء أكانت الأمانة تخصّ مسلماً أم غير مسلم، وحتّى المشرك وعابد الأصنام».

في حديث معروف عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال : «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمّداً بالحقّ نبياً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه»(1).


1 ـ أمالي الصدوق : ص 149.

[563]

وفي رواية اُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «إنّ الله لم يبعث نبيّاً قط إلاَّ بصدق الحديث وأداء الأمانة مؤدّاه إلى البرّ والفاجر»(1).

بناءً على ذلك فإنّ ما جاء في هذه الآية عن اليهود وخيانتهم الأمانة ومنطقهم في تسويغ تلك الخيانة لم يسمح به الإسلام بأيّ شكل من الأشكال، فالمسلمون مكلّفون أن لا يخونوا الأمانة في جميع الأحوال.

2 ـ كلمة «بلى» تستعمل في اللغة العربية ردّاً على النفي أو جواباً على استفهام مقترن بالنفي، كقوله تعالى : (ألستُ بربكم قالوا بلى)(2) و (نعم) جواباً للإستفهام المثبت، مثل (فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً قالوا نعم)(3).

* * *


1 ـ مشكاة الأنوار : عن سفينة البحار.

2 ـ الأعراف : 172.

3 ـ الاعراف : 44.

[564]

الآية

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَـانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئكَ لاَخَلاقَ لَهُمْ فِي الاَْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

سبب النّزول

جمع من أحبار اليهود وعلمائهم مثل «أبي رافع» و «حي بن أخطب» و«كعب بن أشرف» حين لاحظوا أنّ مراكزهم الإجتماعية بين اليهود معرّضة للخطر، عمدوا إلى العلامات الموجودة في التوراة بشأن خاتم الأنبياء والتي كانوا هم أنفسهم قد دوّنوها بأيديهم في نسخ التوراة، فحرّفوها وأقسموا على أنّ تلك الكتابات المحرّفة من الله. لذلك نزلت هذه الآية وفيها إنذار شديد لهم.

وهناك مفسّرون آخرون ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في «أشعث بن قيس» الذي كان يريد استملاك أرض لغيره عن طريق الكذب والتزوير. وعندما تهيّأ لأداء اليمين لتوثيق ادّعائه نزلت الآية، فاستولى الخوف على أشعث واعترف بالحقّ وأعاد الأرض لصاحبها.

[565]

التّفسير

المحرفون للحقائق :

تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب. ولكونها وردت بصيغة عامّة، فإنّها تشمل كلّ من تنطبق عليه هذه الصفات.

تقول الآية : (إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) أي الذين يجعلون عهودهم مع الله والقسم باسمه المقدّس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادّية، سيكون جزاءهم خمس عقوبات :

أحدها : أنّهم سوف يُحرمون من نِعم الله التي لا نهاية لها في الآخرة (أُولئك لا خلاق(1) لهم).

ثمّ إنّ الله يوم القيامة يكلّم المؤمنين ولكنّه لا يكلّم أمثال هؤلاء (ولا يكلّمهم الله).

كما إنّ الله سوف لا ينطر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة (ولا ينظر إليهم يوم القيامة). ومن ذلك يعلم أن الله تعالى في ذلك اليوم يتكلم مع عباده المؤمنين (سواء مباشرة أو بتوسط الملائكة) ممّا يجلب لهم السرور والفرح ويكون دليلاً على عنايته بهم ورعايته لهم، وكذلك النظر إليهم، فهو إشارة إلى العناية الخاصّة بهم، وليس المقصود النظر الجسماني كما توهم بعض الجهلاء.

أمّا الأشخاص الذين باعوا آيات الله بثمن مادي فلا يشملهم الله تعالى بعنايته، ولا بمحادثته.

ولايطهّرهم من ذنوبهم (ولا يزكّيهم).


1 ـ «خلاق» من مادة «خُلُق» بمعنى النصيب والفائدة. وذلك لأن الإنسان يحصل عليها بواسطة اخلاقه (وهو إشارة إلى أنهم يفتقدون الأخلاق الحميدة التي تؤهلهم للانتفاع في ذلك اليوم).

[566]

وأخيراً سيعذّبهم عذاباً شديداً (ولهم عذاب أليم).

وليس المقصود من «الثمن القليل» أن الإنسان إذا باع العهد الإلهي بثمن كثير فيجوز له ذلك، بل المقصود أي ثمن مادّي يعطى مقابل إرتكاب هذه الذنوب الكبيرة، حتّى وإن كان هذا الثمن يتمثّل في رئاسات كبيرة وواسعة، فهي مع ذلك قليلة.

بديهيّ أنّ كلام الله ليس نطق اللسان، لأنّ الله منزّه عن التجسّد، إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء، كالكلام الذي سمعه موسى (عليه السلام) من شجرة الطور.

* * *

ملاحظة

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه العواقب الخمس المترتّبة على «نقض العهد» و «الأيمان الكاذبة» المذكورة في هذه الآية ربّما تكون إشارة إلى مراحل «القرب والبعد» من الله.

إنّ من يقترب من الله ويدنو من ساحة قربه تشمله مجموعة من النِعم الإلهيّة المعنوية، فإذا ازداد اقتراباً كلّمه الله، وإن دنا أكثر نظر إليه الله نظرة الرحمة، وإن اقترب أكثر طهّره الله من آثار ذنوبه، وأخيراً ينجو من العذاب الأليم وتغمره نِعم الله، أمّا الذين يسيرون في طريق نقض العهود واستغلال اسم الله بشكل غير مشروع، فيحرمون من كلّ تلك النِعم ويتراجعون مرحلة بعد مرحلة. في تفسير الآية 174 من سورة البقرة، المشابهة لهذه الآية، شرح أوفى للموضوع.

* * *

[567]

الآية

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُنَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَـابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

التّفسير

هذه الآية التي تؤكّد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل الكتاب وتقول : إنّ فريقاً من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب. وهذا كناية عن تحريفهم كلام الله. و «يلوُن» من مادة (لَيّ) على وزن حيّ، وهو الإمالة، وهو تعبير بليغ عن تحريف كلام الله، وكأنهم حين تلاوتهم للتوراة وعندما يصلون

[567]

إلى الآيات التي فيها صفات رسول الله والبشارة بظهوره يغيّرون لحن كلامهم.

وتضيف : إنّهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنّكم تحسبون ما يقرأونه آيات أنزلها الله، وهو ليس كذلك (لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب).

ولكنّهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنّه من كتاب الله، وهو ليس كذلك (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله).

مرّة أُخرى يقول القرآن : إنّهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم يكذبون على الله بوعي وبتقصّد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما يفعلون (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

* * *

[568]

الآيتان

مَا كَانَ لِبَشَر أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِيّ مِن دوُنِ اللهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّـانِيِّنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلائكَةَ وَالنَّبِيِّن أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذ أَنتُم مُّسْلِمُون (80)

سبب النّزول

في سبب نزول هذه الآية روايتان :

الأُولى ـ أنّ رجلاً قال : يا رسول الله نحن نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك ؟

قال : لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله، ولكن اكرموا نبيّكم واعرفوا الحقّ لأهله، فأنزل الله الآية.

الثانية ـ أنّ أبا رافع من اليهود ومعه رئيس وفد نجران قالا للنبيّ : أتريد أن نعبدك ونتّخذك إلهاً ؟

[569]

(ولعلّهم ظنّوا أن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لالوهية المسيح (عليه السلام) لأنه ليس له نصيب من ذلك، فلو أنهم رفعوا منزلته إلى مستوى الإله كما هو الحال بالنسبة إلى المسيح (عليه السلام) لترك الخلاف معهم، ولعلّ هذا الإقتراح يستبطن مؤامرة دبّرت لتلويث سمعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفع الأنظار عنه) ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني، فأنزل الله الآية.

التّفسير

الدعوة إلى عبادة غير الله مستحيلة :

سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة ـ اليهود والنصارى ـ كانت تزييف الحقائق. من ذلك قولهم باُلوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحقّقه بشأن رسول الإسلام أيضاً، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول الآية : ليس لكم أن تعبدوا نبيّ الإسلام ولا أيّ نبيّ آخر ولا الملائكة. ويخطىء من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته.

(ما كان لبشر أن يوتيَه الله الكتاب والحُكم والنُبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله).

الآية تنفي نفياً مطلقاً هذا الأمر. أي أنّ الذين أرسلهم الله وأتاهم العلم والحكمة لا يمكن ـ في أيّة مرحلة من المراحل ـ أن يتعدّوا حدود العبودية لله. بل إنّ رسل الله هم أسرع خضوعاً له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

[570]

(ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرُسون).

«الربّاني» هو الذي أحكم إرتباطه بالله. ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من «ربّ» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أُمورهم وإصلاحهم.

وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية : إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيّين فى ضوء تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير الله ولا يدعون إلاَّ إلى العلم والمعرفة.

يتّضح من ذلك أنّ هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب، بل استهدفوا أكثر من ذلك تربية المعلّمين والمربّين وقادة الجماعة، أي تربية أفراد يستطيع كلّ منهم أن يضيء بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطاً واسعاً من حوله.

تبدأ الآية بذكر «التعليم» أوّلاً ثمّ «التدريس». تختلف الكلمتان من حيث اتّساع المعنى، فالتعليم أوسع ويشمل كلّ أنواع التعليم، بالقول وبالعمل، للمتعلّمين وللأُمّيّين. أمّا التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب، فهو أخصّ والتعليم أعمّ.

(ولا يأمُركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً).

هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الاُلوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم. كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع «يحيى»، وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم. وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ

[571]

«عزيراً»
ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن «المسيح» ابن الله، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله.

وفي الختام تقول الآية (أيأمُركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون). أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً ؟

واضح أنّ «الإسلام» هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد. أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلاً إلى الإيمان والتوحيد، ثمّ يدلّهم على طريق الشرك ؟ أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام. فيدعوهم إلى الكفر والشرك ؟

تنوّه الآية ضمنيّاً بعصمة الأنبياء وعدم إنحرافهم عن مسير إطاعة الله(1).

* * *

ملاحظة

منع عبادة البشر :

تدين هذه الآيات بصراحة كلّ عبادة، وخاصّة عبادة البشر، سوى عبادة الله، وتربّي في الإنسان روح الحرّية واستقلال الشخصية، تلك الروح التي لا يكون بدونها جديراً بحمل اسم إنسان.

نعرف من خلال التاريخ العديد من الأشخاص الذين كانوا، قبل الوصول إلى


1 ـ في القراءة المعروفة التي اعتمدتها طبعة القرآن السائده، تأتي «ولا يأمركم» في حالة نصب ـ بفتح الراء ـ وهي معطوفة على «أي يؤتيه الله» في الآية السابقة. و «لا» توكيد لـ «ما» النافية في الآية السابقة. وعليه تكون الآية بهذا المعنى : وما كان لبشر أن يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

[572]

السلطة، يتميّزون بالبراءة ويدعون الناس إلى الحقّ والعدالة والحرّية والإيمان. ولكنّهم ما أن صعدوا عروش السلطة والهيمنة على المجتمع غيّروا سيرتهم شيئاً فشيئاً وانحازوا إلى فكرة عبادة الشخصية ودعوا الناس إلى عبادتهم.

في الواقع، أنّ من أساليب تمييز «دعاة الحقّ» عن «دعاة الباطل» هو هذا. فدعاة الحقّ ـ وعلى رأسهم الأنبياء والأئمّة ـ كانوا وهم في قمّة السلطة، كما كانوا قبل أن تكون لهم أيّة سلطة، يدعون إلى الأهداف الدينية المقدّسة والإنسانية والتوحيد والحرّية. أمّا دعاة الباطل، فإنّ أوّل ما يبادرون إليه عند وصولهم السلطة هو الدعوه لأنفسهم وحثّ الناس على نوع من عبادتهم، نتيجة تملّق الناس الضعفاء المحيطين بهم، وكذلك نتيجة ضيق أُفقهم وغرورهم.