![]() |
![]() |
![]() |
صاحب «الكشّاف» وهو من كبار علماء أهل السنّة، يذهب إلى أنّ هذه الآية أقوى دليل على فضيلة أهل الكساء.
يتّفق المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون الشيعة أيضاً أنّ هذه الآية قد نزلت في أهل البيت، وقد أورد صاحب تفسير «نور الثقلين» روايات كثيرة بهذا الشأن.
من ذلك أيضاً ما جاء في كتاب «عيون أخبار الرضا» عن المجلس الذي عقده المأمون في قصره للبحث العلمي. وجاء فيه عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله : ... ميّز الله الطاهرين من خلقه، فأمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمباهلة بهم في آية الإبتهال. فقال عزّوجلّ : يا محمّد (فمنّ حاجّك فيه...» الآية. فأبرز النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم...
وقال(عليه السلام) : فهذه خصوصية لا يتقدّمهم فيها أحد، وفضل لايلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق(1).
1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 349، البرهان : ج 1 ص 290، تفسير العيّاشي : ج 1 ص 177، البحار : ج 20 ص 52 وج 6 ص 652 الطبعة الجديدة.
كذلك وردت روايات بهذا المضمون في تفسير البرهان وبحار الأنوار وتفسير العيّاشي، وكلّها تقول إنّ الآية قد نزلت في أهل البيت.
هنا اعتراض مشهور أورده الفخر الرازي وآخرون على نزول هذه الآية في أهل البيت. يقول هؤلاء : كيف يمكن أن نعتبر أنّ القصد من «أبناءنا» هو الحسن والحسين (عليهما السلام) مع أنّ «أبناء» جمع و لا تطلق على الاثنين ؟ وكذلك «نساءنا» جمع، فكيف تطلق على سيّدة الإسلام فاطمة (عليها السلام) وحدها ؟ وإذا كان القصد من «أنفسنا» عليّاً (عليه السلام) وحده فلماذا جاء بصيغة الجمع ؟
الجواب
أوّلاً : كما سبق أن شرحنا بإسهاب، أنّ هناك أحاديث كثيرة في كثير من المصادر الإسلامية الموثوق بها ـ شيعية وسنّية ـ تؤكّد نزول هذه الآية في أهل البيت، وهي كلّها تقول إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدع للمباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، هذا بذاته قرينة واضحة لتفسير الآية، إذ أنّ من القرائن التي تساعد على تفسير القرآن هي السنّة وما ثبت من أسباب النزول.
وعليه، فإنّ الإعتراض المذكور ليس موجّهاً للشيعة فقط، بل أنّ على جميع علماء الإسلام أن يجيبوا عليه، بموجب ما ذكرناه آنفاً.
ثانياً : إطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى ليس أمراً جديداً فهو كثير الورود في القرآن وفي غير القرآن من الأدب العربي، وحتى غير العربي.
من ذلك مثلاً أنّه عند وضع قانون، أو إعداد إتّفاقية، تستعمل صيغة الجمع على وجه العموم. فمثلاً، قد يقال في إتّفاقية : إنّ المسؤولين عن تنفيذها هم الموقّعون عليها وأبناؤهم. في الوقت الذي يمكن أن يكون لأحد الأطراف ولد واحد أو
اثنين. فلا يكون في هذا أيّ تعارض مع تنظيم الإتّفاقية بصيغة الجمع. وذلك لأنّ هناك مرحلتين، مرحلة «الإتفاق» ومرحلة «التنفيذ». ففي المرحلة الأُولى قد تأتي الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على جميع الحالات. ولكن في مرحلة التنفيذ قد تنحصر الحالة في فرد واحد، وهذا لا يتنافى مع عمومية المسألة.
وبعبارة أُخرى : كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بموجب إتفاقه مع مسيحيّي نجران، أن يدعو للمباهلة جميع أبنائه وخاصّة نسائه وجميع من كانوا بمثابة نفسه. إلاَّ أنّ مصداق الإتّفاق لم ينطبق إلاَّ على ابنين وامرأة ورجل (فتأمّل !).
في القرآن مواضع متعدّدة ترد فيها العبارة بصيغة الجمع، إلاَّ أنّ مصداقها لا ينطبق إلاَّ على فرد واحد. فمثلاً نقرأ : (الذين قال لهم الناسُ إنّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشَوهم)(1) المقصود من «الناس» في هذه الآية هو «نعيم بن مسعود» حسب قول فريق من المفسّرين، لأنّ هذا كان قد أخذ أموالاً من أبي سفيان في مقابل إخافة المسلمين من قوّة المشركين.
وأيضاً نقرأ : (لقد سمع الله قولَ الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء)(2). فهنا المقصود بـ «الذين» في هذه الآية، على رأي كثير من المفسّرين، هو «حي بن أخطب» أو «فنحاص».
وقد يطلق الجمع على المفرد للتكريم، كما جاء عن إبراهيم : (إنّ إبراهيم كان أُمّة قانتاً لله)(3). فهنا أُطلقت كلمة «أُمّة» وهي اسم جمع، على مفرد.
4 ـ كما أنّ آية المباهلة تفيد بأنّ أبناء البنت يعتبرون أبناء أبيها أيضاً، بخلاف ما كان سائداً في الجاهلية في إعتبار أبناء الابن فقط هم أبناء الجد، إذ
1 ـ آل عمران : 173.
2 ـ آل عمران : 181.
3 ـ النحل : 120.
كانوا يقولون :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد
هذا اللون من التفكير كان من بقايا التقاليد الجاهلية الخاطئة التي لم تكن ترى المرأة عضواً من أعضاء المجتمع، بل كانت تنظر إليها على أنّها وعاء لنموّ الأبناء فقط، وترى أنّ النسب يلحق بالآباء لا غير. يقول شاعرهم :
وإنّما أُمّهات الناس أوعية مستودعات وللأنساب آباء
غير أنّ الإسلام قضى على هذا اللون من التفكير، وساوى بين أبناء الابن وأبناء البنت.
نقرأ في الآية 84 و 85 من سورة الأنعام بشأن أبناء إبراهيم : (من ذرّيته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس كلّ من الصالحين).
فالمسيح عيسى بن مريم عدّ هنا من أبناء إبراهيم مع أنّه كان ابناً من جهة البنت.
الأحاديث والروايات الواردة عن طريق الشيعة والسنّة بشأن الحسن والحسين (عليهما السلام) تشير إلى كلّ منهما بـ «ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» كراراً.
وفي الآيات التي تحرّم الزواج ببعض النساء نقرأ : (وحلائل أبنائكم). يتّفق علماء الإسلام على أن الرجل يحرم عليه الزواج من زوجة ابنه وزوجة حفيده سواء أكان من جهة الابن أم البنت، باعتبار شمولهم بالآية المذكورة.
لا شكّ أنّ هذه الآية ليست دعوة عامّة للمسلمين للمباهلة، إذ أنّ الخطاب موجّه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون المباهلة مع المعارضين حكماً عامّاً، وأنّ الأتقياء من المؤمنين الذين يخشون الله، لهم أن
يطلبوا من الذين لم ينفع فيهم المنطق والاستدلال التقدّم للمباهلة.
وتظهر عمومية هذا الحكم في بعض الروايات الإسلامية، فقد جاء في تفسير نور الثقلين، ج 1 ص 351 عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إذا كان كذلك (أي إذا لم يقبل المعاند الحقّ) فادعهم إلى المباهلة... اصلح نفسك ثلاثاً... وأبرز أنت وهو إلى الجبان (الصحراء) فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثمّ انصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إن كان (فلاناً) جحد حقّاً وادّعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً (بلاءً) من السماء وعذاباً أليماً. ثمّ ردّد الدعوة عليه... فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه.
ويتّضح أيضاً من هذه الآية أنّه ـ خلافاً للحملات التي يشنّها الزاعمون أنّ الإسلام دين الرجال وليس للمرأة فيه أيّ حساب ـ قد ساهمت المرأة المسلمة مع الرجل خلال اللحظات الحسّاسة في تحقيق الأهداف الإسلامية ووقفت معه ضدّ الأعداء. إنّ الصفحات المشرقة التي تمثّل سيرة سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام)وابنتها السيّدة زينب الكبرى وغيرهما من نساء الإسلام اللآتي سرن على طريقهما دليل على هذه الحقيقة.
* * *
إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـه إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمُ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
تقول الآية ـ بعد شرح حياة المسيح (عليه السلام) ـ : إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها الله عليك. وعليه، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة باُلوهية المسيح، أو إعتباره ابن الله، أو بعكس ذلك إعتباره لقيطاً، كلّها خرافات باطلة (إنَّ هذا لهوَ القصصُ الحقّ).
ثمّ تضيف للتوكيد : إنّ الذي يليق للعبادة هو الله (وما من إله إلاَّ الله)وحده، وأن اتّخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحقّ والحقيقة (وان الله لهو العزيز الحكيم) فهو قادر على أن يخلق ولداً بدون أب، وذلك على الله يسير.
«القصص» مفرد، تعني القصّة، وهي في الأصل من «القص» بمعنى تعقّب الأثر. في موضع آخر من القرآن قالت أُمّ موسى لابنتها «قصّيه» أي عقّبيه وابحثي عنه (وقالت لأُخته قصّيه)(1) وقولهم لثأر الدم «القصاص» لأنّه1 ـ القصص : 11.
تتبع لحقوق أصحاب الدم.
و«القصّة» تعني بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم ومن ذلك يعلم أن المشار إليه في (هذا) هو قصة حياه المسيح لا القرآن الكريم ولا قصص الأنبياء.
الآية الثانية تهدد من لم يستسلم هؤلاء للحقّ بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح (عليه السلام)، وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصّبهم، لأن ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلاّب حقّ، بل هم مقيّدون بأغلال تعصّبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجّرة، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع : (فان تولوا فإن الله عليم بالمفسدين).
لأن هدفهم تخدير الناس وإفساد العقائد السليمة لأفراد المجتمع، ومن المعلوم أن الله تعالى يعرف هؤلاء، ويعلم بنياتهم وسيجازيهم في الوقت المناسب.
* * *
قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة سَوَآءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيّين إلى الاستدلال المنطقي، وإذ رفضوا، دعاهم إلى المباهلة، فكان لهذا أثره في نفوسهم، فرفضوها ولكنّهم رضخوا لشروط إعتبارهم ذمّيّين. فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم النفسي، وعاد إلى طريقة الاستدلال.
غير أنّ الاستدلال هذه المرّة يختلف عن الاستدلال السابق إختلافاً كبيراً.
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله). ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده : أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في
جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً).
هذه الآية تعتبر نداء «الوحدة والإتّحاد» إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم : إنّكم تزعمون ـ بل تعتقدون ـ أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون «العزير» ابن الله.
يقول لهم القرآن : إنّكم جميعاً ترون التوحيد مشتركاً، فتعالوا نضع يداً بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والإبتعاد عن التوحيد.
والملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير مختلفة، فأوّلاً ذكرت (ألاَّ نعبد إلاَّ الله) وفي الجملة الثانية (ولا نشرك به شيئاً)وفي المرّة الثالثة قالت (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).
ولعلّ في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين :
«الأوّل» : أنّه لا يجوز تأليه المسيح، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا.
«والثاني» : أنّه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلّون مكانتهم ويغيّرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم، ولا يجوز اتّباع هؤلاء.
ويتّضح ممّا سبق من الآيات القرآنية أنّه كان هناك بين علماء أهل الكتاب جماعات يحرّفون أحكام الله بحسب «مصالحهم» أو «تعصّبهم». إنّ الإسلام يرى أنّ من يتّبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم، إنّما هو يعبدهم بالمعنى الواسع لكلمة العبادة.
إنّ سبب هذا الحكم واضح، فإن حقّ وضع القوانين والتشريعات يعود إلى الله، فإذا قرّر أحد هذا الحقّ لغير الله فقد أشرك.
يقول المفسّرون في ذيل تفسير هذه الآية إنّ «عدي بن حاتم» الذي كان نصرانياً ثمّ أسلم، عندما سمع هذه الآية، فهِم من كلمة «أرباب» أنّ القرآن يقول إنّ أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم. فقال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم ؟
فقال : نعم.
فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو ذاك(1).
في الواقع يعتبر الإسلام الرقّ والاستعمار الفكري نوعاً من العبودية والعبادة لغير الله، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام، يحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ «أرباب» جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين.
(فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون).
لو أنّهم ـ بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة ـ أصرّوا على الإعراض، فلابدّ أن يقال لهم : اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة اُخرى : فاعلموا من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند. ثمّ قولوا لهم (اشهدوا بأنّا مسلمون) فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحقّ في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا ـ طريق الإسلام ـ سائرون، لا نعبد إلاَّ الله، ولا نلتزم إلاَّ شريعة
1 ـ مجمع البيان : ذيل الآية المذكورة. تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 352.
الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.
* * *
يقول التاريخ : عندما استقرّ الإسلام نسبيّاً في الحجاز، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر. في بعض هذه الرسائل استند إلى هذه الآية الداعية إلى التوحيد ـ المبدأ المشترك بين الأديان السماوية ـ . ولأهميّة الموضوع ندرج بعضاً من تلك الرسائل :
1 ـ رسالة إلى المقوقس(1)
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط(2). يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون»(3).
حمل «حاطب بن أبي بلتعة» رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المقوقس حاكم مصر، فوجده قد رحل إلى الإسكندرية، فركب إليه، وسلّمه الرسالة، ثمّ قال لحاطب : ما منعه إن كان نبيّاً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم ؟
1 ـ المقوقس : حاكم مصر من قبل هرقل ملك الروم، وكان نصرانياً.
2 ـ الأقباط : أقوام كانت تقطن مصر.
3 ـ مكاتيب الرسول : ج 1 ص 97.
فقال له حاطب : ألست تشهد أنّ عيسى بن مريم رسول الله ؟ فماله حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه، أن لا يكون دعا عليهم، أن يهلكهم الله تعالى، حتّى رفعه الله إليه ؟
قال : أحسنت أنت حكيمٌ من عند حكيم.
ثمّ قال له حاطب : إنّه كان قبلك من يزعم أنّه الربّ الأعلى ـ يعني فرعون ـ فأخذه الله نكال الآخرة والأُولى فانتقم به، ثمّ انتقم منه، فاعتبر بغيرك،ولا يعتبر غيرُك بك.
إنّ هذا النبيّ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى، ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام، إلاَّ كبشارة عيسى بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن، إلاَّ كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكلّ نبيّ أدرك قوماً فهم أُمته، فالحقّ عليهم أن يطيعوه، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.
بقي حاطب بن ا بي بلتعة أيّاماً ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له : إلى ما يدعو محمّد ؟
قال حاطب : إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحجّ البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتّه، والدم... ثمّ شرح له بعض جوانب حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال المقوقس : هذه صفته، وكنت أعلم أن نبيّاً قد بقي، وكنت أظنّ أنّ مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قدخرج من أرض العرب.
ثمّ دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) :
«بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمّد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط، سلام
عليك. أمّا بعد، فقد قرأت كتابك،وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّاً قد بقي، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك...»
ثمّ عدّد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة «والسلام عليك»(1).
تقول كتب التاريخ إنّ المقوقس أرسل نحو أحد عشر نوعاً من الهدايا وبينها طبيب أرسله لمعالجة مرضى المسلمين. فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدايا، لكنّه أرجع الطبيب قائلاً : «إنّا قوم لا نأكل حتّى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع» مشيراً بذلك إلى أنّ هذه القاعدة في تناول الطعام كافية لحفظ صحّة المسلمين (ولعلّه ـ إضافة إلى هذه القاعدة الصحّية العظيمة ـ لم يكن يأمن جانب الطبيب الذي كان مسيحياً وربما كان الطبيب متعصّباً أيضاً، فلم يشأ أن يترك أرواح المسلمين بين يديه).
إن إكرام المقوقس سفير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والهدايا التي أرسلها إليه، وتقديم اسم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على اسمه، تدلّ كلّها على أنّه كان قد قبل دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قرارة نفسه، أو أنّه ـ على الأقل ـ مالَ إلى الإسلام. ولكنّه لكيّ لا يهتزّ مركزه امتنع عن إظهار ذلك علناً.
2 ـ رسالة إلى قيصر الروم
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين(2). يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذّ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون».
كان حامل رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القيصر رجل اسمه «دحية الكلبي».
1 ـ مكاتيب الرسول : ج 1 ص 100.
2 ـ الأريسيون : هم العنصر الرومي والعمال.
وتهيّأ السفير للإنطلاق نحو أرض الروم. ولكنّه قبل أن يصل القسطنطنية، عاصمة القيصر، علم أنّ القيصر قد يمّم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتّصل بحاكم «بصرى» الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمّته. ويبدو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أجاز دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر.
بعد أن اطّلع الحاكم على الأمر، استدعى عدي بن حاتم وكلّفه أن يسافر مع دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر. إلتقى السفيرُ قيصرَ في حمص. وكانت الحاشية قبل ذلك قد أفهموا دحية أنّ عليه أن يسجد أمام القيصر، وأن لا يرفع رأسه أبداً حتّى يأذن له. فقال دحية : لا أفعل هذا أبداً، ولا أسجد لغير الله. فأعجبوا بمنطقه المتين. وقال له أحد رجال البلاط : إذاً لك أن تضع الرسالة تجاه منبر قيصر وتنصرف، إنّ أحداً غير القيصر لا يمسّها. فشكره دحية على ذلك، وترك الرسالة في ذلك المكان، وانصرف.
فتح قيصر الرسالة، وجلب إنتباهه افتتاحها باسم الله، وقال : أنا لم أرَ رسالة مثل هذه غير رسالة سليمان. ثمّ طلب مترجمه ليقرأ له الرسالة ويترجمها. احتمل قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبيّ الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على معرفة دقائق حياة هذا النبيّ. فأمر بالبحث في الشام لعلّهم يعثرون على من يعرف شيئاً عن محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). واتّفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى الشام ـ التي كانت الجناح الشرقي للروم ـ للتجارة، فاتّصل بهم رجال القيصر وأخذوهم إلى بيت المقدس، فسألهم القيصر : أيّكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ ؟ فقال أبو سفيان : أنا.
ثمّ قال القيصر للقريشيين ـ على طريق ترجمانه ـ : إني سائل (أبا سفيان) عن هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ. فإن كذبني فكذّبوه. فقال أبو سفيان : وايم الله لولا مخافة أن يؤثّر عليّ الكذب لكذبت.
1 ـ ثمّ قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟
أبو سفيان : هو فينا ذو حسب.
2 ـ القيصر : هل كان من آبائه ملك ؟
أبو سفيان : لا.
3 ـ القيصر : هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
أبو سفيان : لا.
4 ـ القيصر : من يتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟
أبو سفيان : بل ضعفاؤهم.
5 ـ القيصر : أيزيدون أم ينقصون ؟
أبو سفيان : بل يزيدون.
6 ـ القيصر : هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟
أبو سفيان : لا.
ثمّ استمرّ الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن سجاياه ثمّ قال القيصر :
إن يكن ما تقول حقّاً فإنّه نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّه منكم، ولو أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه ـ حسب تقاليد الاحترام يومئذ ـ وليبلغن ملكه ما تحت قدميّ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله فقرأه ودعا دحية واحترمه وكتب جواب الرسالة وضمنّها بهدية وارسلها الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهر في جواب الرسالة ولاءه ومحبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
يَـأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالاِْنجِيلُ إِلاَّ مِن بعدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(65)هَـأَنتُمْ هَـؤُلاَءِ حَـاجَجْتُمْ فِيَما لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيَما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(66)مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرانِيّاً وَلَـكِنَ كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67)إِنَّ أَوْلى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)
ورد في الروايات الشريفة أن علماء اليهود ونصارى نجران جاءوا إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذوا يجادلونه في إبراهيم، فقالت اليهود : أنه كان يهودياً، وقالت النصارى : أنه كان نصرانياً (وهكذا كلّ يدعي إبراهيم لنفسه لتكون له الغلبة والافتخار على خصمه. لأن إبراهيم (عليه السلام) كان نبياً عظيماً لدى جميع الأديان والمذاهب) فنزلت الآيات أعلاه لتبيّن كذب هذه الإدّعاءات.
(يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم...).
هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود النصارى، وتقول : إنّ جدَلكم بشأن إبراهيم النبيّ المجاهد في سبيل الله جدل عقيم، لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة، والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة (وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده) أيعقل أن يدين نبيّ سابق بدين لاحق ؟ (أفلا تعقلون) ؟
(ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم).
هنا يوبّخهم الله قائلاً إنّكم قد بحثتم فيما يتعلّق بدينكم الذي تعرفونه (وشاهدتم كيف أنّكم حتّى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلاً مركّباً)، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثمّ تدّعون ما لا يتّفق مع أيّ تاريخ ؟
وفي نهاية الآية يقول : (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) توكيداً للموضوع السابق، وتمهيداً لبحث الآية التالية.
أجل، إنه يعلم متى بعث إبراهيم (عليه السلام) بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.
(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً).
وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيّين، وإنّما كان موحّداً طاهراً مخلصاً أسلم لله ولم يشرك به أبداً.
«الحنيف» من الحنف، وهو الميل من شيء إلى شيء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الإستقامة.
يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفاً لأنّه شقّ حجب التعصّب والتقليد الأعمى،
وفي عصر كان غارقاً في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطىء لها رأساً.
إلاَّ أنّ العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم. وقد شاع هذا شيوعاً حدا بأهل الكتاب إلى أن يطلقوا عليهم اسم «الحنفاء». وبهذا اتّخذت لفظة «الحنيف» معنىً معاكساً تماماً لمعناها الأصلي، غدت ترادف عبادة الأصنام. لذلك فإنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان (حنيفاً) أضاف (مسلماً) ثمّ أردف ذلك بقوله (وما كان من المشركين) لإبعاد إحتمال آخر.
قد يسأل سائل : إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلماً أيضاً، لأنّه كان قبل كلّ هذه الأديان. فكيف يصفه القرآن بأنّه كان مسلماً ؟
جواب هذا السؤال هو أنّ «الإسلام» في القرآن لا يعني إتّباع رسول الإسلام فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله للتوحيد الكامل الخالص من كلّ شرك ووثنوية، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.
وممّا تقدّم يتّضح أن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعاً لهذه الأديان. ولكن يبقى شيء واحد، وهو من هم الذين يحقّ لهم إدعاء العلاقة والإرتباط بالدين الإبراهيمي وبعبارة اُخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية ؟
آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول :
(إن أولى الناس بإبراهيم لّلذين اتّبعوه...).
لوضع حدّ لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم، نبيّ الله العظيم، الذي كانت كلّ جهة تدّعي أنّه منها، وكانوا يستندون غالباً إلى قرابتهم منه، أو اشتراكهم معه في العنصر، أعاد القرآن مبدأً رئيساً إلى الأذهان وهو أنّ الإرتباط بالأنبياء والولاء لهم إنّما يكون عن طريق الإيمان واتّباعهم فقط. وبناءً على ذلك، فإنّ أقرب الناس لإبراهيم هم الذين يتّبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه، سواء بالنسبة للذين عاصروه (لّلذين اتّبعوه) أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه، مثل نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه (وهذا النبيّ والذين آمنوا).
والسبب واضح، فاحترام الأنبياء إنّما هو لمدرستهم، لا لعنصرهم وقبيلتهم ونسبهم. وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ من مبادىء دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون ـ بالإستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أُصول الإسلام وفروعه ـ من أوفى الأوفياء له، فلابدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا أُولئك.
وفي ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول : (والله ولي المؤمنين).
* * *
ترى هذه الآية أنّ الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتّباع مدرستهم وأهدافهم، ليس غير.
لذلك نجد أنّ النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكّد هذا الموضوع بصراحة
تامّة. من ذلك أنّه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين، نقلاً عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال :
«إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ـ ثمّ تلا الآية المذكورة ثمّ قال : ـ إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».
* * *
وَدَّت طَّآئفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
يقول بعض المفسّرين إنّ فريقاً من اليهود سعوا أن يستميلوا إلى اليهودية بعض الشخصيات الإسلامية المجاهدة، «معاذ» و «عمّار» وغيرهما مستعينين بالوساوس الشيطانية وغير ذلك. فنزلت هذه الآية تنذر المسلمين ممّا يبيت لهم اليهود.
(ودّت طائفة(1) من أهل الكتاب لو يُضلّونكم (2))
سعى أعداء الإسلام، وعلى الأخصّ اليهود، كما جاء في سبب النزول أن
1 ـ «طائفة» من مادة الطواف. بمعنى الحركة حول الشيء. وبما أن الناس كانوا في السابق يسافرون بشكل جماعات لاحراز الأمان اطلقت هذه الكلمة عليها، ثمّ استعملت في كل فئة وجماعة.
![]() |
![]() |
![]() |