* * *

[210]

الآيتان

وَقَـاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنَّ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَـاعِفَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)

سبب النّزول

قيل في سبب نزول الآية الثانية أنّ رسول الله قال : من تصدّق بصدقة فله مثلاها في الجنّة. سوف ينال ضعفه في الجنّة فقال (أبو الدحداح الأنصاري) : يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدقت بأحدهما فإن لي مثليها في الجنّة، قال : نعم. قال : واُم الدحداح معي، قال : نعم. قال : والصبية معي. قال : نعم. فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية فضاعف الله له صدقته الفي الف وذلك قوله أضعاف كثيرة.

فرجع أبو الدحداح فوجد أُم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة وتحرج أن يدخلها فنادى يا اُمّ الدحداح، قالت : لبيك يا أبا الدحداح، قال : إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشتريت مثليها في

[211]

الجنّة واُم الدحداح معي والصبية معي. قالت : بارك الله لك فيما اشتريت وفيما اشتريت، فخرجوا منها واسلموا الحديقة إلى النبي فقال النبي : كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنة(1).

التّفسير

الجهاد بالنّفس والمال :

هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقّب بذكر قصّة في هذا الصدّد عن الأقوام السّالفة، مع الإلتفات إلى الأحداث التي مرّت على جماعة من بني إسرائيل الّذين تهرّبوا من الجهاد بحجّة الإصابة بمرض الطّاعون وأخيراً ماتوا بهذا المرض، يتّضح الإرتباط بين هذه الآيات والآيات السّابقة.

في البداية تقول الآية (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنّ الله سميع عليم)يسمع أحاديثكم ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية : (من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إيّاه في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.

فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله)، وكما ذكر بعض المفسّرين أنّها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد، لأنّ تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين، في حين أنّ البعض يرى بأنّ الآية تشمل كلّ أنواع الإنفاق(2).

ولكنّ التفسير الثاني أقرب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية، وخاصّة أنّه شاملٌ للمعنى الأوّل أيضاً، وأساساً فإنّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 349.

2 ـ راجع تفسير الكبير : ج 6 ص 166.

[212]

وحماية المحرومين يُعطي ثمرة الجهاد أيضاً، لأنّ كلاًّ منها يبعث على استقلال المجتمع الإسلامي وعزّته.

(أضعاف) جمع (ضعف) على وزن «عِلم». والضّعف هو أنّ تضيف إلى المقدار مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤكّداً بالكثرة (كثيرة) كما أنّ كلمة (يضاعف) فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يُضعّف)(1)، وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يعطي كلّ من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تُبذر في أرض صالحة وتُسقى فينّميها ويعيدها إلى صاحبها أضعافاً كثيرة كما سيأتي في الآية (261).

وفي ختام الآية يقول : (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)

وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلّة أموالكم، لأنّ سعة وضيق ارزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما انفقتموه أضعافاً مضاعفا، بملاحظة الإرتباط الوثيق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلك الأموال التي انفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع.

هذا من البعد الدنيوي، وأمّا البعد الآخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزّوجلّ وسوف يثيبكم حينذاك ويجزل لكم العطاء.

* * *

بحث

لماذا ورد التعبير بالقرض ؟

لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة اُخرى،


1 ـ قال الراغب في المفردات، في مادة «ضعف» : قال البعض : ضاعفت أبلغ من ضعّفته.

[213]

فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأن الناس يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية (7) من سورة الحديد (آمنوا بالله ورسوله وانفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه).

ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضاً استقراض بربح وفير جدّاً (فانظر إلى كرم الله ولطفه).

يقول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة : «واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً»(1).

* * *


1 ـ نهج البلاغة القسم الأخير من الخطبة 183.

[214]

الآيات

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا َِ مِن بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَـاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَـاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَـاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآئنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ (246)  وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائكَةُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتَ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بَنَهَر فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّيِ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ

[215]

فَإِنَّهُ مِنّيِ إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَ بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامُنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَطَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُّنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُواْ اللهِ كَم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ (249)وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءاتَـاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْ لاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَفَسَدَتِ الاَْرْضُ وَلَـكِنَّ اللهَ ذُو فَضْل عَلَى الْعَـالَمِينَ(251) تِلْكَ ءَايَـاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

حادثة ذات عبرة :

من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات.

اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى (عليه السلام) الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة.

لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها «صندوق العهد»(1) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية، وظلّت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى (عليه السلام) مدّة من الزمن، إلاَّ أنّ تلك النِعم


1 ـ سوف نتطرّق قريباً إلى تاريخ هذا الصندوق ومحتوياته.

[216]

والإنتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد، فكان أن تشتّتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتّى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إنّ هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم.

استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالاً، إلى أن أرسل إليهم الله نبيّاً اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة.

اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنويّاتهم قال لهم : أخشى إن اخترت لكم قائداً أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو.

فقالوا : كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا ! !

فرأى اشموئيل أنّ هؤلاء القوم قد شخّصوا داءهم وها هُم قد اتجهوا للمعالجة، ولعلّهم أدركوا سبب تخلّفهم، فتوجّه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه : أن اخترنا «طالوت» ملكاً عليهم.

فقال اشموئيل : ربّ إِني لا أعرف طالوت ولم أره حتّى الآن. فجاءه الوحي : سنرسله إليك فاعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد.

من هو طالوت ؟

كان طالوت رجلاً طويل القامة، ضخماً، حسن التركيب، متين الأعصاب قويّها، ذكيّاً، عالماً، مدبّراً.

[217]

ويقول بعض : إنّ اختيار اسم «طالوت» له كان لطوله، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفاً، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة.

أضاع يوماً بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة صوف.

قال له صاحبه : لقد اقتربنا من صوف مدينة النبيّ اشموئيل، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا. والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة.

ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة. وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل : أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل.

فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنّه قَبل المهمّة مسروراً فقال اشموئيل لقومه : لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعاً أن تطيعوه، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء.

كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته، ممّا لم يجدوا منها شيئاً في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الإختيار، فطالوت لم يكن من أَسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أُسرة بنيامين المغمورة الفقيرة، فاعترضوا قائلين : كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم !

فقال اشموئيل ـ الذي رآهم على خطأ كبير ـ : إنّ الله هو الذي اختاره أميراً

[218]

عليكم، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت، وهو يفوقكم فيها. إِلاَّ أنّهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلاً على أنّ هذا الإختيار إنّما كان من الله سبحانه.

فقال اشموئيل : الدليل هو أنّ التابوت ـ صندوق العهد ـ الذي هو أثرٌ مهمٌّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاةً لثقتكم واطمئنانكم في الحروب، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.

طالوت في الحكم

تسلّم طالوت قيادة الجيش، وخلال فتره قصيرة أثبت لياقته وجدارته للإضطلاع بمهامّ إدارة المُلك وقيادة الجيش، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب. قال لهم مؤكّداً إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلاَّ الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد، أمّا الذين لهم عمارة لم تتم، أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الإشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو.

وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد طالوت ـ بأمر من الله ـ أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم : سوف نصل قريباً إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلاَّ قليلاً منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلاَّ نفرٌ قليلٌ منهم ظلّوا على العهد.

أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أُناس ضعفاء الإرادة وعديمي
العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع

[219]

النفر المؤمن القليل خارجاً من المدينة إلى ميادين الجهاد.

إلاَّ أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت : إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد. غير أنّ الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم، لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين : قرّر ما تراه صالحاً، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين.

فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك اللحظة خرج شابٌ اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حرباً من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين ـ بمهارة شديدة ـ فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتاً وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل(1).

التّفسير

نعود إلى تفسير الآيات محلّ البحث في أوّل آية يخاطب الله تعالى نبيّه الكريم ويقول : (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث


1 ـ عن مجمع البيان والدرّ المنثور وقصص القرآن باختصار.

[220]

لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله).

(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

هذه الآية ـ كما قلنا ـ تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميراً وقائداً ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يُهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر.

وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويُعيدوا ما اُخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله، وبهذا يتبيّن أنّ ما يُساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يُعتبر في سبيل الله.

وقد ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعضٌ (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) إى إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً(1).

ولمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم : يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا).

ولكنّهم قالوا : كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا (قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبناءنا) وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسّكهم بالعهد.

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد،


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 350.

[221]

ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك : (فلمّا كُتب عليهم القتال تولّوا إلاَّ قليلاً منهم والله عليم بالظالمين).

وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر(1).

وعلى كلّ حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم إلتزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من الله تعالى (وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً).

ويتّضح من هذه الآية أنّ الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكاً على بني إسرائيل وقائداً لعسكرهم، ولعلّ استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في القصّة من الحوادث غير المتوقّعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي والحضور في مجلسه، فكذلك يظهر من كلمة (ملكاً) أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع(2).

ومن هنا بدأت المخالفات والإعتراضات وقال بعضهم : (قالوا أنّا يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه ولم يُؤتَ سعةً من المال).

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم : (إنّنا أجدر من طالوت بالحكم لأنّ الحكم لابدّ فيه من شرطين لا يتوفّران في طالوت وهما : الحسب والنسب من جهة، والمال والثروة من جهة اُخرى، وقد ذكرنا في القصّة أنّ طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل، ومن حيث الثروة لم يكن سوى مُزارع فقير.


1 ـ روح المعاني وتفسير الكبير في ذيل الآية المبحوثة.

2 ـ اعتبر صاحب «الكشّاف» طالوت اسماً أعجمياً مثل : جالوت وداود، وقال الآخرون : إنّه اسم عربي مأخوذ من مادة «طول» وإشارة إلى طول قامة. (تفسير الكبير : ج 6 ص 172).

[222]

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الإعتراض إذ يقول : (إنّ الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم).

فأفهمهم بذلك أنّ اختيار الله طالوت ملكاً وقائداً لما يتمتّع به من علم وحكمة وعقل، ومن الناحية البدنيّة فهو قوي ومقتدر.

وهذا يعني أوّلاً : أنّ هذا الإختيار هو إختيار الله تعالى.

وثانياً : إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرّفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً، لأنّهما من الإمتيازات الإعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوّة الجسميّة فهما امتيازان واقعيّان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهمّاً في شخصيّة القائد.

إنّ قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه وحنكته، وكذلك يرسم الاُسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء، ثمّ يقوم بقوّته الجسمانيّة بتمثيل هذا المخطَّط على أرض الواقع.

كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوّة، أي أنّ الإنسان بالعلم والحكمة والقوّة الجسميّة الكافية يزداد سعةً في وجوده، وهنا نلحظ أنّ البسطة في العلم تقدّمت على القوّة الجسميّة، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة.

ويُستفاد ضمناً من هذا التعبير أنّ مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهيّة وأنّ الله تعالى هو الذي يشخّص اللاّئق لها، فلو رأى اللّياقة الكافية في أولاد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجعل الإمامة عندهم، ولو توفّرت عند أشخاص آخرين لجعلها فيهم، وهذا هو ما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه.

ثمّ تضيف الآية (والله يُؤتي ملكه من يشاء والله واسعٌ عليم).

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير الله

[223]

تعالى الإمكانيّات وآليات القيادة ووسائل الحكم، لأنّه من الممكن أن يكون قائداً كاملاً من حيث العلم والقوّة ولكنّه محاط بظروف لا تمنحه أيّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة، ولاشكّ أنّ قائداً مع هذه الظّروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في قيادته، ولذلك يقول القرآن هنا أنّ الله تعالى يمنح الحكومة الإلهيّة لمن يشاء، أي أنّه يهيّأ الظروف اللأزمة لنجاحه.

الآية التالية تبيّن أنّ بنى إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كلّ الإطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرّغم من أن نبيّهم صرّح ذلك لهم، ولهذا طلبوا منه الدّليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجيء التابوت أو صندوق العهد إليهم (وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت).

فما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد ؟ ومن الذي صنعه ؟ وما هي محتوياته ؟ فإنّ في تفاسيرنا وأحاديثنا، وكذلك في العهد القديم ـ التوراة ـ كلاماً كثيراً عنه. إلاَّ أنّ أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس، حيث قالوا إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه أُمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظلّ الصندوق في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به.

موسى (عليه السلام) وضع فيه الألواح المقدّسة ـ التي تحمل على ظهرها أحكام الله ـ ودرعه وأشياء أُخرى تخصّه وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع ابن نون.

وبهذا ازدادت أهميّة هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم، لذلك قيل : إنّ بني
إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدّسة بينهم، ولكن

[224]

بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق. واشموئيل ـ كما تذكر الآية ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلاً على صدق قوله.

(فيه سكينةٌ مِن ربّكم وبقيةٌ ممّا ترك آلُ موسى وآلُ هارون).

هذه الفقرة من الآية تبيّن أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة (فيه سكينة من ربّكم).

ثمّ إنّ محتويات الصندوق كانت تضمّ آثاراً ممّا خلف آل موسى وآل هارون أُضيفت إلى ما كان فيه من قبل، وممّا يجدر ذكره هو أنّ «السكينة» بمعنى الهدوء، ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب.

قال لهم اشموئيل : إنّ الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي فقدتموه. وفي الحقيقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنويّ والتاريخيّ كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم. كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة. لذلك كان الوعد بعودته بشارة عظيمة لهم.

(تحمله الملائكة).

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد ؟ في هذا أيضاً للمفسّرين كلام كثير أوضحها قولهم : جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم : ما هذه المصائب إلاَّ بسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء. واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه
نصب طالوت مَلكاً على بني إسرائيل. وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو

[225]

مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت مَلكاً عليهم.

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

في الحقيقة أنّ للملائكة معنىً واسعاً في القرآن والروايات، يشمل فضلاً عن الكائنات الروحية العاقلة، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم.

ويُستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهيّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحقّ، وقد ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العباديّة ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).

ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرّض بني إسرائيل لإختبار عجيب، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الاُمور من القرآن نفسه حيث يقول : (فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلاّ من اغترف غرفة بيده)(1).

ويتّضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الإمتحان ضروريّاً لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأنّ الإنتصار يتوقّف على مقدار الإنضباط وقدرة الإيمان والإستقامة في مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة.


1 ـ جنود جمع جند في الأصل بمعنى الأرض الكثيره الأحجار والمتراكمة الصخور ثمّ اطلقت على كلّ شيء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير، وعبارة «لم يطعمه» جاءت بدل كلمة لم يشربه وهي إشارة إلى أن الجنود لا ينبغي لهم أن يشربوا منه بمقدار كف واحدة بل لا يذوقونه أيضاً.

[226]

وطالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد، كان لابدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الإعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخصّ أُولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنسبة لإمرته، لذلك يؤمر طالوت أمراً إلهيّاً باختبارهم، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر، فعليهم أن يقاوموا عطشهم، وألاَّ يشربوا إلاَّ قليلاً، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا.

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية، وكما جاء بايجاز في الآية.

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت. وكانت التصفية الأُولى عندما نادى المنادي للإستعداد للحرب وطلب الجميع بالإشتراك في الجهاد إلاَّ الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

(فلمّا جاوَزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوتَ وجنودِه).

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الإمتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

(قال الذين يظُنّون أنّهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين)(1).

«الفئة» أصلاً من «الفيء» بمعنى الرجوع، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده. تقول الآية : إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة


1 ـ «فئة» من «فىء» في الأصل بمعنى الرجوع وبما أن كلّ جماعة تتعاضد فيما بينها وتعود أحدها على الاُخرى بالعون والمساعدة اطلقت كلمة «فئة».

[227]

إيماناً راسخاً قالوا للآخرين : ينبغي ألاَّ تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيراً ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله.

ينبغي أن ننتبه إلى أنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة، ولا يعني الظنّ هنا الإحتمال، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الإحتمال، فإنّها هنا تناسب المقام أيضاً، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية. إنّ من يحتمل النجاح في حياته ـ في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة ـ يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم.

أمّا لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله، فذلك ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا التفسير.

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول : (ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين).

(برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يُقال أنّه طلب مبارزاً.

تقول هذه الآية أنّه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدّعاء، وطلبوا من الله العليّ القدير ثلاثة اُمور، الأوّل : الصّبر والإستقامة إلى آخر حد، ولذا جاءت الجملة تقول : (أفرغ علينا صبراً).

و (الإفراغ) تعني في الأصل صبّ السائل بحيث يخلو الإناء ممّا فيه تماماً،

[228]

ومجيء (صبر) بصيغة النكرة يؤكّد هذا المعنى بشكل أكبر.

الإعتماد على ربوبيّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وكذلك عبارة (إفراغ) مضافاً إلى كلمة (على) التي تبيّن أنّ النزول من الأعلى، وكذلك عبارة (صبراً) في صيغة النكرة كلّ هذه المفردات تدلُّ على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عميق المغزى وبعيد الأُفق.

الثاني : أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبّت أقدامهم (وثبّت أقدامنا) حتّى لا يُرجّح الفرار على القرار، والواقع أنّ الدعاء الأوّل إتّخذ سمة الطلب النفسي والباطني، وهذا الدعاء له جنبة ظاهريّة وخارجيّة، ومن المسلّم أنّ ثبّات القدم هو من نتائج روح الإستقامة والصبر.

الثالث : من الاُمور التي طلبها جيش طالوت هو (وانصرنا على القوم الكافرين) وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائيّة للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية : (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت).

وكان داوود في ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت. ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داود الشاب اليافع، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلاّب حيث وضع في قلاّبه حجراً أو اثنين ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.