ولا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلاّ أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال.

ومن المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله (وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلاً وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى.

ثمّ تضيف الآية (ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).

إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر اُموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك، ويشتدّ به الخوف على مستقبله، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام. هذه الحالة غالباً ما تمنع الإنسان من الإنفاق، إلاَّ الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة اُخرى آثار

[335]

الإنفاق الإجتماعية. فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والإجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

* * *

[336]

الآيات

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئَكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُون (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّار أَثِيم (276) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (277)

التّفسير

الربا في القرآن :

في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع. وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف

[337]

الآيات السابقة، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه. فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك، فبحسب ترتيب نزول القرآن، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا.

لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية (وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله)(1).

أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا، ولكنّه لا يزداد عند الله.

ثمّ بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أُخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب : سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء. وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يُستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرّم الربا تحريماً صريحاً ـ قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه.

على كلّ حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملاً مهمّاً من عوامل الحياة الطبقية، وسبباً من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من


1 ـ الروم : 39.

[338]

أهمّ الحروب الإجتماعية التي خاضها الإسلام.

يقول تعالى :

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه(1) الشيطان من المس).

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته.

ولعلّ المقصود هو وصف طريقة «سير المرابين الإجتماعي» في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الإجتماعي السليم، بل أنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الإستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والإستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا.

ولكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين. ففي حديث عن


1 ـ «يتخبَّطُه» من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

[339]

الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال :

«آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان»(1).

وفي رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال : «لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ! قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس»(2).

الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم.

سؤال : هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان، مع أننا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب ؟

الجواب : يرى بعضهم أنّ تعبير «مسّ الشيطان» كناية عن الأمراض النفسية والجنون، وهو تعبير كان شائعاً عند العرب، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيراً فعلياً في روح الإنسان.

ولكن مع ذلك لا يُستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون تروٍّ أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي. ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد


1 ـ تفسير العياشي : ج 1 ص 152 ح 503.

2 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 291 ح 1157.

[340]

الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج.

منطق المرابين :

(ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا).

هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون : ما الفرق بين التجارة والربا ؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جواباً على ذلك : (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلاً، ربما لوضوح الإختلاف :

فأوّلاً : في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوماً فيوماً، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

وثانياً : في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في «الإنتاج والإستهلاك»، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال.

وثالثاً : بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الإقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

ورابعاً : الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

(فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فَلَهُ ما سلف وأمره إلى الله).

[341]

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والإضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها.

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثمّ يقول (وأمره إلى الله) أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو. ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

وردت احتمالات اُخرى في معنى هذه الجملة، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر(1).

(ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله. لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار.


1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 169، هنا ذكر أربع تفاسير، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث وذكرت احتمالات عديدة اُخرى أيضاً.

[342]

كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم.

ثمّ أن الآية التالية تبيّن الفرق بين الربا والصدقة وتقول :

(يمحق الله الربا ويربي الصدقات).

ثُمّ يضيف : (والله لا يحبّ كلَّ كفّار أثيم) يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

«المـَحق» النقصان التدريجي. و «الربا» هو النموّ التدريجي. فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة، وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين ويهدّدون أموالهم وأرواحهم. فالقرآن يقول إنّ الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضاً.

وبالمقابل، فالاشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلاً عن عدم تعرّضها لأيّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّاً طبيعياً. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله :

(ويربي الصدقات).

0وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع. فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامّة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيّز الوجود ذلك النظام الإقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامّة.

[343]

(والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم).

«الكفّار» من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و «الأثيم» هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامّة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النِعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ الله لا يحبّ أمثال هؤلاء.

(إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربّهم).

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أُناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الإختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

* * *

[344]

الآيات

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)  فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن

[345]

كُنتُمْ تَعْلَمُون (280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون (281)

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم(1) أنّه بعد نزول آيات الربا جاء «خالد بن الوليد» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال : كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلّم دَينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز لي ذلك ؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهياً شديداً.

وفي رواية أُخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ألا كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبدالمطّلب»(2).

يتضح من هذا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلاً. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العبّاس ممّن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية، فقد ألغى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ أوّلاًـ ربا هؤلاء.

وجاء في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآيات امر أمير مكّة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم(3).

التّفسير

في الآية الأُولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن


1 ـ تفسير علي بن إبراهيم : ج 1 ص 93.

2 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 392، والدر المنثور : ج 2 ص 109 مع تفاوت يسير.

3 ـ الدر المنثور : ج 2 ص 108 ـ 107.

[346]

يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية.

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.

(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن يتوسّل بالقوّة لاَيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم. وهي الحرب التي تنطلق من قانون : (قاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله)(1).
لذلك عندما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ مرابياً يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزيء بحرمته هدّده بالقتل.

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا. (فاذنوا)من مادة «اذن» وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله (فاذنوا بحرب من الله)(2) يعني أعلموا أن الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه «اسمحوا بإعلان الحرب من الله».

عن أبي بكير قال : بلغ أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا


1 ـ الحجرات : 9.

2 و 3 ـ وسائل الشيعة : ج 12 ص 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح 1.

[347]

ويسمّيه اللبا.

فقال : لئن أمكنني الله منه لأَضربنّ عنقه(1).

يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام.

على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا(2).

(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون).

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماماً، لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير (لا تَظلِمون ولا تُظلَمون) وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم
تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول الظالم : لاتظلم، علينا أن نقول المظلوم : لا تستسلم للظلم.

(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)(3).

استكمالاً لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبيّن الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلاً عن عدم جواز الضغط


2 ـ فسّر «فأذنوا» بـ «فاعلموا» غالباً من قبل المفسّرين أمثال : الطبري في مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي، الفخر الرازي، الآلوسي في روح المعاني، العلاّمة الطباطبائي في الميزان... وغيرهم.

3 ـ يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامّة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون التقدير «إن كان هناك ذو عسرة».

[348]

عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.

إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَينه، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

(وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية. أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم. تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

* * *

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عامّاً شاملاً يؤكّد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيّداً في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرىء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره. ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه (وهم لا يظلمون).

جدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأُخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

[349]

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها، وذلك بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.

* * *

أضرار الربا

1 ـ الربا يخلّ بالتوازن الإقتصادي في المجتمع، ويؤدي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة، لأنّ هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط.

الربا يشكّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

2 ـ الربا لون من ألوان التبادل الإقتصادي غير السليم، يضعف العلائق العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب، ذلك لأنّ الربا يقوم في الواقع على
أساس أنّ المرابي لا ينظر إلاَّ إلى أرباحه، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدّين.

هنايبدأالمدين بالإعتقادبأنّ المرابي يتّخذمن أموالهوسيلة لتدميرحياة الآخرين.

3 ـ صحيح أنّ دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك. ولكنّه لن ينسى هذا الظلم أبداً، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه وتكاد تخنفه. وفي هذه الحالة تبدأ كلّ جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطّش لشرب دمه. إنّه يرى بأُمّ عينيه كيف أنّ حاصل شقاءه وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي، في مثل

[350]

هذه الحالة الهائجة تُترتكب عشرات الجرائم المرعبة، فقد يقدم المدين على الإنتحار، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة، وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجاراً عامّاً في ثورة عارمة.

إنّ انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضاً. إنّ الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أُخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنّها تتحيّن الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق.

وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الإجتماعي بين الأفراد والملل.

4 ـ في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى. جاء في كتاب «وسائل الشيعة» عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : «إنّما حرّم الله عزّوجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف»(1).

* * *


1 ـ وسائل الشيعة : ج 12، أبواب الربا، الباب 1، ص 422.

[351]

الآية

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْن إِلَى أَجَل مُّسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يُكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أوَْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاُْخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَادُعُوا وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرةً تُدِيرُونَهَا بَيْنُكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَشَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقُ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلّ ِ شَىْء عَلِيمٌ (282)

التّفسير

[352]

تدوين الأوراق التجارية :

بعد أن شنّ القرآن على الربا والإحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والإقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي :(1)

1 ـ إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله (يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمّى فاكتبوه).

من الجدير بالذكر أنّه يستعمل كلمة «دَين» هنا ولا يستعمل كلمة «قرض»، وذلك لأنّ القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها،ثمّ يعيد نقوداً أو بضاعةً إلى المقرض مثلاً بمثل. أمّا «الدَين» فأوسع معنى، فهو يشمل كلّ تعامل، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مديناً للطرف الآخر. وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

2 ـ لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً (وليكتب بينكم كاتب).

على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد، يتبيّن من الآية التالية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته) أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا


1 ـ وطبعاً يستفاد من بعض الأحكام ضمناً «وليس بالدلالة المطابقية» أنه لو اضيفت تلك الأحكام إلى الأحكام التسعة عشر المذكورة لبلغت أكثر من واحد وعشرين حكماً.

[353]

لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.

3 ـ عل كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحقّ، وأن يكتب الحقيقة الواقعة (بالعدل).

4 ـ يجب على كاتب العقد، الذي وهبه الله علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الإجتماعي (ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب).

إنّ تعبير (كما علّمه الله) حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب. ويمكن القول إنّه يشير إلى أمر آخر، وهو ضرورة التزامه الأمانة، وأن يكتب العقد، كما علّمه الله، كتابة متقنة.

بديهيّ أنّ قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجباً عينياً، كما يتّضح من قوله سبحانه(ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً).

5 ـ على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب. ولكن أيّ الطرفين ؟ تقول الآية : المدين الذي عليه الحق : (وليملل الذي عليه الحقّ).

من المتّفق عليه أنّ التوقيع المهمّ في العقد هو توقيع المدين، ولذلك فإنّ العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكاً لا يمكنه انكاره(1).

6 ـ على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه، فلا يترك شيئاً إلاَّ قاله ليكتبه الكاتب (وليتّق الله ربّه ولا يبخس منه شيئاً).

7 ـ إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه»، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق،


1 ـ «وليملل» من مادة «ملة» بمعنى الدين والأحكام الإلهية وقال بعض أنها من مادة «ملال» وبما أن في الملاء هناك تكرار مملل اُطلقت هذه الكلمة عليه (تارة بصورة املاء واُخرى بصورة املال).

[354]

فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه (فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه).

8 ـ على «الولي» في الإملاء والإعتراف بالدَين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله، وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحقّ (فليملل وليّه بالعدل).

9 ـ بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين (واستشهدوا شهيدين)(1).

10 و 11 ـ يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة (من رجالكم) أي ممّن هم على دينكم.

12 ـ يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان).

13 ـ لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة (ممّن ترضَون من الشهداء). يتبيّن من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً.