كلمة (النكاح) وردت في اللّغة فتارةً بمعنى المقاربة الجنسيّة، واُخرى بمعنى عقد الزّواج، والمراد هنا في هذه الآية هو الثاني، أي عقد الزّواج بالرّغم من أنّ الرّاغب في المفردات يقول : (النكاح) في الأصل بمعنى العقد، ثمّ استُعمِل مجازاً في العمليّة الجنسيّة.

2 ـ حقيقة المشركين

مفردة (المشرك) تُطلق غالباً في القرآن الكريم على من يعبد الأوثان، ولكنّ

[127]

بعض المفسرين ذهب إلى أنّ المشرك يشمل سائر الكفّار كاليهود والنّصارى والمجوس (وبشكل عام أهل الكتاب) أيضاً، لأنّ كلّ واحدة من هذه الطوائف يعتقد بوجود شريك للباري عزّوجلّ، فالنّصارى يعتقدون بالتثليث، والمجوس يذهبون إلى الثنويّة وأنّ ربّ العالم هو مزدا وأهريمن، واليهود يرون أنّ «عزير» ابن الله.

ولكن بالرّغم من أنّ هذه الإعتقادات الباطلة موجبة للشّرك إلاّ أنّ الآيات الشريفة الّتي تتحدّث عن المشركين في مقابل أهل الكتاب ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ اليهود والنصارى والمجوس يرتكزون في أساس ديانتهم على النبوّات الحقّة والكتب السماويّة فيتّضح أنّ منظور القرآن الكريم من المشرك هو عبّاد الوثن.

وقد ورد في الحديث النبوي المعروف في ضمن وصايا متعدّدة (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهو شاهد على هذا المدّعى، لأنّ من المسلّم أنّ أهل الكتاب لم يُخرَجوا من جزيرة العرب، بل بقوا هناك يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين بعنوان أقليتة دينيّة، ويلتزمون بما أمر به القرآن الكريم من أداء الجزية إلى المسلمين.

3 ـ هل نُسخت هذه الآية ؟

ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ حكم الآية أعلاه قد نُسخ والناسخ له الآية الشريفة (والمحصنات من الّذين اُوتوا الكتاب)(1) حيث أجازت نكاح نساء أهل الكتاب.

وقد نشأ هذا التصور من الإعتقاد أنّ الآية مورد البحث قد حرّمت الزواج مع


1 ـ المائدة : 5.

[128]

جميع الكفّار، فعلى هذا تكون الآية (5) من سورة المائدة الّتي أجازت الزواج من كفّار أهل الكتاب ناسخة لهذا الحكم (أو مخصّصة له) ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه من تفسير الآية يتّضح أنّ نظر هذه الآية خاص بالزّواج من المشركين وعبّاد الأوثان لا كفّار أهل الكتاب كاليهود والنّصارى (وطبعاً في مورد الزواج من كفّار أهل الكتاب هناك قرائن في الآية وما ورد من الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المراد هو الزّواج الموقّت).

4 ـ تشكيل العائلة والدّقّة في الأمر

أشار بعض المفسّرين المعاصرين إلى نكتة ظريفة في هذه الآية، وهي أنّ هذه الآية و (21) آية اُخرى تأتي بعدها تُبيّن الأحكام المتعلّقة بتشكيل الاُسرة في أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكماً شرعياً :

1 ـ حكم الزواج مع المشركين، 2 ـ تحريم الإقتراب من الزوجة في حال الحيض، 3 ـ حكم القسم بعنوان مقدّمة للإيلاء (المراد من الإيلاء هو أن يُقسم الإنسان أن لا يجامع زوجته)، 4 ـ حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5 ـ عدّة المرأة المطلّقة، 6 ـ عدد الطلقات، 7 ـ إبقاء الزّوجة بالمعروف أو تركها بالمعروف، 8 ـ حكم الرّضاع، 9 ـ عدّة المرأة المتوفّى زوجها (الأرملة)، 10 ـ خطبة المرأة قبل تمام عدّتها، 11 ـ مهر المرأة المطلّقة قبل الدّخول، 12 ـ حكم الهديّة للمرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.

وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقيّة في هذه الآيات تبيّن أنّ مسأله تشكيل الاُسرة هو نوع من العبادة لله تعالى ويجب أن يكون مقروناً بالتفكّر والتدبّر(1).

* * *


1 ـ تفسير في ظلال القرآن : ج 1 ص 344 ـ 346.

[129]

الآيتان

وَيَسْئلُونَكَ عَنِ الَْمحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ الِنّسَآءَ فِي الَْمحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ (222)نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223)

سبب النّزول

للنساء عادة شهرية تستمر بين ثلاثة إلى عشرة أيام. وخلالها يخرج من رحم المرأة دم ذو أوصاف خاصّة مذكورة في كتب الفقه. والمرأة في هذه الحالة تكون حائضاً، وموقف الديانتين اليهودية والنصرانية الحاليتين من المرأة الحائض متناقض يثير الإستغراب.

جمع من اليهود قالوا : إنّ معاشرة المرأة الحائض حرام حتّى المجالسة على مائدة الطعام أو في غرفة واحدة. ويذهبون إلى حظر جلوس الرجل في المكان الذي تجلس فيه الحائض، وإن فعل ذلك تنجّست ملابسه وعليه أن يغسلها، وإن

[130]

رقد معها على سرير واحد تنجّس بدنه ولباسه، فهم يعتبرون المرأة في هذه الحالة موجوداً مدنساً يلزم اجتنابه.

ومقابل هؤلاء يذهب النصارى إلى عدم التفريق بين حالة الحيض والطهر في المرأة، حتّى بالنسبة للجماع.

المشركون العرب، وخاصّة أهل المدينة منهم، كانوا متأثرين بالنظرة اليهودية، ويعاملون المرأة الحائض على أساسها، فينفصلون عنها خلال مدّة الحيض. وهذا الاختلاف في المواقف وما يصحبه من إفراط وتفريط دفع ببعض المسلمين لأن يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، فنزلت الآية.

التّفسير

أحكام النساء في العادة الشهريّة :

في الآية الاُولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهريّة للنّساء، فتقول الآية : (ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً) وتضيف بلا فاصلة (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يُطهرن...).

(المحيض) مصدر ميمي ويعني العادة الشهريّة للنساء، وجاء في معجم مقاييس اللّغة أنّ أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تُدعى «سَمُرة» (ثمّ استُعملت للعادة الشهريّة للنساء) ولكن ورد في تفسير «الفخر الرّازي» أنّ الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يُقال للسّيل عند حدوثه (حاض السّيل) ويُقال للحوض هذه اللّفظة بسبب أنّ الماء يجري إليه.

ولكن يُستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ هذه المفردة في الأصل تعني دم الحيض (ثمّ استعملت في المعاني الاُخرى).

فعلى كلّ حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الّذي عرّفه القرآن بأنّه أذىً، وفي

[131]

الحقيقة أنّ هذه العبارة تُبيّن علّة اجتناب الجماع في أيّام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطبّ الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.

خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلّخ جداره، ومع هذا الإحتقان يحتقن المبيض أيضاً، ودم الحيض في البداية يكون متقطّعاً باهت اللون ثمّ يزداد ويحمرّ ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطّع الباهت(1).

الدم الخارج في أيّام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمّع شهرياً في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل. ذلك لأنّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر ببويضة إلى الرحم، وفي نفس الوقت تمتلىء عروق الرحم بالدم استعداداً لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته، وإلاّ يخرج بشكل دم حيض. من هنا نفهم جانباً آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون الرحم خلالها غيرمستعد استعداداً طبيعياً لقبول نطفة الرجل، حيث يواجه أذى من جراء ذلك.

جملة (يَطْهُرْنَ) بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من المفسّرين، وأمّا جملة (فإذا تَطَهَّرْنَ) فقد ذهب الكثير منهم على أنّها تعني الغُسل من الحيض، فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الاُولى تكون المقاربة الجنسيّة بعد


1 ـ مقتبس من إعجاز القرآن : ص 55 ـ 56.

[132]

انتهاء دم الحيض جائزة حتّى لولم تغتسل، وأمّا الجملة الثانيّة فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها(1).

وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاُولى ونتيجة لها (ولهذا اُعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تَطَهَّرْنَ) أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض، وبذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة، وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحليّة المقاربة الجنسيّة بعد الطهارة من الحيض حتّى قبل الغسل، ولكن لا شكّ في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.

الفقرة الثانية من الآية تقول (فأتوهنّ من حيث أمركم الله)أي أن يكون الجماع من حيث أمر الله، وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة، وقد يكون مفهومها أوسع بخصوص أنّ الجماع بعد الطّهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضاً.

هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معاً، فالله سبحانه أودع في الرّجل والمرأة الغريزة الجنسيّة لبقاء نوع الإنسان، وهذه الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللّذة الجنسيّة، لكنّ هذه اللّذة مقدّمة لبقاء النوع فقط، ومن هنا لايجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الإستمناء واللّواط وأمثالهما، لأنّ هذا الطريق نوع من الإنحراف عن الأمر التكويني.

وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي، يعني أنّ الزوجة بعد طهارتها من العادة الشهريّة ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في الحكم الشرعي.


1 ـ الجملة الثانية مفهوم الشرط، والأول مفهوم الغاية.

[133]

وذهب البعض إلى أنّ مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسيّة مع الزّوجة عن غير الطريق الطبيعي، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الآيات السابقة لم تتحدّث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسّياق(1).

الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائيّة من العمليّة الجنسيّة فتقول (نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم)

في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة، وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه الله نصف النوع البشري بهذا الشكل ؟

ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.

«الحرث» مصدر يدلّ على عمل الزراعة، وقد يدلّ على مكان الزراعة «المزرعة» و «أنّى» من أسماء الشرط، وتكون غالباً زمانية. وقد تكون مكانية كما جاء في قوله سبحانه : (يا مريمُ أنّى لِكِ هذا قالت هو من عند الله)(2).

يستفاد من الآية الكريمة ـ على افتراض زمانية أنّى ـ الرخصة في زمان الجماع، أي جوازه في كلّ ساعات الليل والنهار، وعلى افتراض مكانية أنّى يستفاد من الآية الرخصة في مكان الجماع ومحلّه وكيفيته.

(وقدّموا لأنفسكم)

هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الإستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدّسة ذخيرة لاُخراهم. وبذلك يؤكّد القرآن


1 ـ تأتي كلمة «حيث» بعنوان اسم مكان واسم زمان، ولكن هنا تشير إلى زمن جواز المقاربة الجنسية أي زمن الطهر.

2 ـ آل عمران : 37.

[134]

على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الإجتماعية الإنسانية الكبرى.

وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال :

«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ عن ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»(1).

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال.: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنّة هدىً سنّها فهي تُعمل بها بعد موته وولد صالح يستغفر له»(2).

ووردت بهذه المضمون روايات عديدة أيضاً، وقد جاء في بعضها ستّة موارد أوّلها الولد الصالح(3).

وعلى هذا الأساس يأتي الولد الصالح من حيث الأهميّة إلى جانب الخدمات العلميّة وتأليف الكتب المفيدة وتأسيس المراكز الخيريّة كالمسجد والمستشفى والمكتبة وأمثال ذلك.

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول :(واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين).

لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحاً على الإنسان، فإنّ الله تعالى يدعو في هذا الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الإنحراف، وتُنذر الجميع بأنّهم ملاقوا ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.

* * *


1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 321.

2 ـ بحار الأنوار : ج 1 ص 294 ح 4.

3 ـ المصدر نفسه ص 293 ح 1.

[135]

بحوث

1 ـ الحكم الإسلامي العادل في مسألة الحيض

هناك الاعتقادات مختلفة في الأقوام السّالفة حول العادة الشهريّة للنّساء، فاليهود يُشدّدون أمرها ويعزلون المرأة في هذه الأيّام كليّاً عن كلّ شيء : عن الأكل والشرب عن المجالسة والمؤاكلة والمضاجعة، وقد وردت في التوراة الحاليّة أوامر متشدّدة في هذا الصّدد(1).

وعلى العكس من ذلك النّصارى حيث لا يلتزمون بأيّة محدوديّة في هذه الأيّام، فلا فرق بين حالة الحيض والطّهر لدى المرأة. المشركون العرب ليس لديهم حكماً خاصّاً في هذا المجال، ولكنّ أهالي المدينة كانوا متأثّرين بآداب اليهود وعقائدهم في معاشرتهم للنّساء أيّام الحيض فكانوا يتشدّدون مع المرأة في هذه الأيّام، في حين أنّ سائر العرب لم يكونوا كذلك، بل قد تكون المقاربة الجنسيّة محببّة لديهم فيها، ويعتقدون أنّه لو حصل من تلك المقاربة ولد فإنّه سوف يكون فتّاكاً ومتعطّشاً للدّماء، وهذه من الصّفات المتميّزة والمطلوبة لدى أعراب البادية(2).

2 ـ اقتران الطهارة بالتوبة

إنّ إقتران الطهارة والتوبة في الآيات أعلاه يُمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الطّهارة تتعلّق بالطّهارة الظاهريّة والتوبة إشارة إلى الطّهارة الباطنيّة.


1 ـ ورد في باب 15 من سفر اللاويين من التوراة : «وإذا حاضت المرأة فسبعة أيّام تكون في طمثها، وكلّ من يلمسها يكون نجساً إلى المساء، كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجساً، وكلّ من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء...» وأحكام اُخرى من هذا القبيل.

2 ـ مقتبس من تفسير الميزان : ج 2 ص 208 ذيل الآية مورد البحث، كتاب انيس الأعلام : ج 2 ص 106 و107، وكذلك شرح المسبوطي مع ذكر المصادر.

[136]

ويحتمل أيضاً أنّ الطهارة هنا عدم التلوّث بالذنب، يعني أنّ الله تعالى يحب من لم يتلوّث بالذنب، وكذلك يحب من تاب بعد تلوّثه.

ويمكن أن تشير مسألة التوبة هنا إلى أنّ بعض الناس يصعب عليهم السيطرة على الغريزة الجنسيّة فيتلوّثون بالذّنب والإثم خلافاً لما أمر الله تعالى، ثمّ يعتريهم النّدم على عملهم ويتألمون من ذلك، فالله سبحانه وتعالى فتح لهم طريق التوبة كيلا يصيبهم اليأس من رحمة الله(1).

* * *


1 ـ تحدّثنا تفصيلاً عن حقيقة «التوبة» وشرائطها في المجلد الثالث في ذيل الآية (17) من سورة النساء، وفي المجلد 14 ذيل الآية (5) من سورة النور.

[137]

الآيتان

وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لاّيْمَـانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَـانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

سبب النّزول

حدث خلاف بين صهر أحد الصحابة وابنته، وهذا الصحابي هو «عبدالله بن رواحة» حيث أقسم أن لا يتدخّل في الإصلاح بين الزّوجين، فنزلت الآية تنهى عن هذا اللّون من القسم وتلغي آثاره.

التّفسير

لاينبغي القسم حتّى الإمكان :

كما قرأنا في سبب النّزول أنّ الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الإستفادة من القسم، فكانت هذه مقدّمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء

[138]

والقسم وترك المقاربة الجنسيّة.

في الآية الاُولى يقول تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا وتتقوا وتُصلحوا بين النّاس والله هو السميع)(1).

(الأيمان) جمع (يمين) و (عُرضة) بضم العين، تقال للبضاعة وأمثالها التي تعرض أمام الناس في السوق. وقد تطلق العُرضة على موانع الطريق لأنّها تعترض طريق الإنسان.

وذهب البعض إلى أنّ المراد بها ما يشمل جميع الأعمال، فالآية تنهى عن القسم بالله في الاُمور الصغيرة والكبيرة وعن الإستخفاف باسمه سبحانه، وبهذا حذّرت الآية من القسم إلاّ في كبائر الاُمور، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث الكثيرة، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) (لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنّ الله سبحانه يقول : (ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم))(2).

وهناك أحاديث متعدّدة وردت في هذا المجال(3).

ولو أخذنا سبب نزول الآية بنظر الإعتبار يكون مؤدّاها أنّ القسم ليس بعمل مطلوب في الأعمال الصالحة، فكيف بالقسم بترك الأعمال الصالحة ؟ !

وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعاً من أعمال الخير فتقول : (لا يُؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) أي عن إرادة وإختيار.

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى نوعين من القَسَم :


1 ـ طبقاً لهذا التفسير «لا» مقدرة وفي الأصل «لئلا تبرو» وهذا المعنى مطابق تماماً لشأن النزول ويحتمل أيضاً أن «عرضة» بمعنى المانع يعني لا تجعلوا القسم بالله مانعاً لأداء الأعمال الصالحة والإصلاح بين الناس «بتقدير : لا تجعلوا الله بسبب ايمانكم حاجزاً أن تبروا وتتقوا» ولكنّ التوجيه الأوّل أنسب.

2 ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 218 ح 833، وسائل الشيعة : ج 16 ص 116 ح 5.

3 ـ راجع نفس المصدر : ح 832 و 834، وسائل الشيعة : ج 16 ص 115 وما بعد.

[139]

الأوّل : القَسَم اللغو الذي لا أثر له، ولا يبعأ به، هذا النوع من القَسَم يتردّد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكرّرونه في كلامهم عن عادة لهم، فيقولون : لا والله... بلى والله... على كلّ شيء، وإنّما سمّي لغواً لأنّه لا هدف له ولم يطلقه المتكلّم عن عزم ووعي، وكلّ عمل وكلام مثل هذا لغو.

من هنا فالقَسَم الصادر عن الإنسان حين الغضب لغو (إذا أخرجه الغضب تماماً عن حالته الطبيعية). وحسب الآية أعلاه لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا القَسَم، وعليه أن لا يرتّب أثراً عليه، ويجب الإلتفات إلى أنّ الإنسان يجب أن يتربّى على ترك مثل هذا القَسَم وعلى كلّ حال فإن العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفّارة عليه، لأنه لم يكن عن عزم وإرادة.

النوع الثاني : القَسَم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القَسَم الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القَسَم معتبر، ويجب الإلتزام به، ومخالفته ذنب موجب للكفّارة إلاّ في مواضع سنذكرها. وقد أشارت الآية (89) من سورة المائدة إلى هذا النوع من القسم بقولها «ما عقدتم الايمان».

الأيمان غير المعتبرة :

الإسلام لا يحبّذ القَسَم كما أشرنا آنفاً، لكنّه ليس بالعمل المحرّم، بل قد يكون مستحبّاً أو واجباً تبعاً لما تترتّب عليه من آثار.

وهناك أيمان لا قيمة لها ولا اعتبار في نظر الإسلام، منها :

1 ـ القَسَم بغير اسم الله وحتّى القسم باسم النبي وأئمّة الهدى (عليهم السلام) مثل هذا القَسَم غير المتضمّن اسم الله تعالى لا أثر له ولا يلزم العمل به ولا كفّارة على مخالفته.

2 ـ القَسَم على ارتكاب فعل محرّم أو مكروه أو ترك واجب أو مستحب،

[140]

حيث لا يترتّب عليه شيء. كأن يقسم شخص على عدم أداء دين، أو على قطع رحم، أو على فرار من جهاد، وأمثالها أو يترك إصلاح ذات البين مثلاً كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأشخاص الذين واجهوا بعض السلبيات من إصلاح ذات البين فأقسموا على ترك هذا العمل. فإن أقسم على شيء من ذلك فعليه أن لا يعتني بقَسَمه ولا كفّارة عليه، وقيل إنّ هذا هو معنى قوله تعالى : (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).

أمّا الأيمان ـ التي تحمل اسم الله ـ على أداء عمل صالح أو مباح على الأقل، فيجب الإلتزام به، وإلاَّ وجبت على صاحبه الكفّارة، وكفّارته كما ذكرته الآية (89) من سورة المائدة، إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.

* * *

[141]

الآيتان

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226)  وَإنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

التّفسير

القضاء على تقليد جاهلي :

القَسَم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء(1) تقليد جاهلي كان شائعاً بين العرب، واستمرّ معمولاً به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.

كان الرجل في الجاهلية ـ حين يغضب على زوجته ـ يقسِم على عدم وطئها، فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القَسَم ليصالحها ويعايشها. وطبعاً لا يواجه الرجل غالباً صعوبة في ذلك لأنه يتمتع بعدة زوجات.


1 ـ كلمة «ايلاء» من مادة «اَلو» بمعنى القدرة والعزم، وبما أن القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على الطلاق.

[142]

الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّاً، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدّة أقصاها أربعة أشهر أن يتّخذ قراراً بشأن زوجته : إمّا أن يعود عن قَسَمه ويعيش معها، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها.

(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر).

والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال. ثمّ تضيف :

(فإن فاءوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ ).

أي إن عادوا وجدوا الله غفوراً رحيماً، والعبارة تدلّ أيضاً أنّ العودة عن هذا القَسَم ليس ذنباً، بالرغم من ترتب الكفّارة عليه.

(وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميعٌ عليمٌ) أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة.

وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة، ولم يطلّق. ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بالقاء الزوج في السجن، ويشدد عليه حتّى يختار أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.

ينبغي التأكيد هنا على أنّ الإسلام، وإن لم يلغ حكم الإيلاء نهائياً، فقد أزال آثار هذه الظاهرة، لأنّه لم يسمح للرجل أن ينفصل عن زوجته بالإيلاء. وتعيينه مدّة للذين يؤلون من نسائهم لا يعني إلغاء حقّ من حقوق الزوجيّة، لأنّ حقّ المرأة على زوجها ـ في إطار الوجوب الشرعي ـ الوطء كلّ أربعة أشهر، هذا طبعاً في حالة عدم انجرار المرأة إلى الذنب على أثر طول المدّة، وإلاَّ يجب أن تقلّل المدّة إلى مقدار تأمين الحاجة الجنسية وخاصّة بالنسبة للمرأة الشابّة التي يخشى انحرافها.

* * *

[143]

بحوث

1 ـ الإيلاء حكم استثنائي

تقدّم الحديث في الآيات السّابقة عن القسم اللّغو، وقلنا أنّ كلّ قسم على فعل ما يخالف الشّريعة المقدّسة فهو من مصاديق اللّغو في القسم، فلا إشكال من نقضه، وعلى ذلك فالقسم على ترك الواجبات الزوجيّة لا أثر له إطلاقاً، في حين أنّ الإسلام قد جعل له كفّارة(1) (وهي كفّارة نقض القسم واليمين المذكورة في الأبحاث السّابقة) وهذا في الحقيقة عبارة عن عقوبة لبعض الرجال الّذين يتوسّلون بهذه الذريعة لتضييع حقوق الزّوجة حتّى لا يقوموا بتكرار هذا العمل مرّة اُخرى.

2 ـ الإيلاء في حكم الإسلام والغرب

في اُوروبا نلاحظ وجود ما يشبه الإيلاء ويُطلقون عليه الإنفصال البدني وتوضيحه : أنه بما أن الطلاق كان محضوراً في الديانة المسيحية لذا قام الغربيّين بعد الثورة الفرنسيّة الكبرى باستخدام ظاهرة الإنفصال الجسمي بين الزوجين باعتبارها إحدى سبل الطّلاق، وذلك بأن يعيش الرجل في مكان والمرأة في مكان آخر عند عدم وجود الوفاق بينهما، وتبقى كلّ الحقوق الزوجيّة محفوظة سوى نفقة الرجل وتمكين المرأة، فالرجل لا يستطيع أن يتزوّج بإمرأة اُخرى ولا المرأة كذلك على أن لا تتجاوز مدّة الإنفصال ثلاث سنوات يجب على الزوجين بعدها أن يعودا إلى حياتهم الزوجيّة(2)، فالبرّغم من أنّ القانون الغربي سمح للزّوجين أن ينفصلا في ثلاث سنين، إلاّ أنّ الإسلام لم يسمح لهذا الإنفصال أن


1 ـ إذا جامع الرجل قبل الأربعة أشهر فإن الكفّارة واجبة عليه إجماعاً وإذا جامع بعد الأربعة أشهر فإن هذا الحكم مشهور بين الفقهاء، رغم أن البعض انكروا الكفّارة في هذه الصورة.

2 ـ حقوق المرأة في الإسلام وآوروبا.

[144]

يستمر أكثر من أربعة أشهر واستمرار هذه المدّة جائز حتّى مع عدم القسم، وبعد هذه المدّة يجب على الرجل أن يعيّن أمره، فإذا أراد أن يماطل أكثر من هذه المدّة فإنّ الحكومة الإسلاميّه تستدعيه وتُرغمه على اتّخاذ قراره النّهائي.

3 ـ الصّفات الإلهيّة في ختام كلّ آية

ممّا يلفت النّظر أنّ الكثير من آيات القرآن تختتم أبحاثها بصفات الله تعالى وهذه الصفات لها ارتباط مباشر بمحتوى الآيات دائماً، ومن جملة هذه الآيات ما نحن فيه، فعندما كان الحديث عن الإيلاء والتصميم على نقض هذا القسم الممنوع تذكر الآية بعدها جملة (غفور رحيم) وهي إشارة إلى أنّ هذا السلوك السليم سبب لغفران الله تعالى وشمول رحمته لهؤلاء الأشخاص، وعندما كان الحديث يدور حول التصميم على الطّلاق كانت العبارة (سميع عليم) يعني أنّ الله تعالى يسمع كلامكما ومطّلع على دوافع الطّلاق والفُرقة وسوف يجازيكم وفقاً لهذا العمل.

* * *

[145]

الآيـة

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

التّفسير

حريم الزّواج أو العدّة :

كان الكلام في الآيه السّابقة عن الطّلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطّلاق وما يتعلّق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية.

في البداية ذكرت الآية عدّة الطّلاق (والمطّلقات يتربّصن في أنفسهن ثلاثة قروء).

(قروء) جمع (قُرء) تُطلق على الحيض وعلى النقاء منه، ويُمكن الإستفادة من كلا هذين المعنيين مفهوماً كليّاً يجمع بينهما، وهو الإنتقال من حالة إلى حالة

[146]

اُخرى ويرى «الرّاغب» في المفردات أنّ «القرء» في الحقيقة هي كلمة يُراد منها الإنتقال من حالة الحيض إلى الطّهر، وبما أنّ كلا هذين العنوانين مأخوذان في معنى الكلمة، فتُستعمل أحياناً بمعنى الحيض واُخرى بمعنى الطّهر، ويُستفاد من بعض الرّوايات وكثير من كتب اللّغة أنّ القُرء تعني الجمع بين الحالتين، وبما أنّ حالة الطّهر يجتمع في المرأة مع وجود دم الحيض في رحمها فتطلق هذه المفردة على الطّهر وعلى كلّ حال فقد ورد التّصريح في الروايات أنّ المقصود بالقروء الثلاثة في الآية أن تطهر المرأة ثلاث مرّات من دم الحيض(1).

وبما أنّ الطّلاق يُشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطّهر الّذي لم يجامعها زوجها فيه فيُحسب ذلك الطّهر مرّة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرّة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرّد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة، فيجوز لها حينئذ الزّواج، ومضافاً إلى الروايات في هذا المجال يُمكن استنباط هذه الحقيقة من نفس الآية مورد البحث لأنّ :

أوّلاً : (قُرء) تستبطن جمعان : قروء وأقراء، وما كان جمعه قروء فهو طُهر، وما كان جمعه أقراء فهو بمعنى الحيض(2).

ثانياً : القُرء في اللّغة بمعنى الجمع، كما تقدّم وهي أنسب لحالة الطّهر، لأنّ الدم يتجمّع في هذه الحالة في الرّحم بينما يخرج ويتفرّق عند العادة الشهريّة(3).

الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى (ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر).

الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة


1 ـ راجع تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 230 و 231.

2 ـ راجع قاموس اللّغة.

3 ـ لسان العرب : مادة «قُرء».

[147]

ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين، وفي الرّواية عن الإمام الصّادق (عليه السلام)في تفسير الآية محلّ البحث قال : «قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض والطّهر والحمل»(1).

ويمكن أن يُستفاد من الآية هذا المعنى أيضاً، لأنّ الآية تقول (ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ) ويخبرن بخلاف الواقع، وهذا يعني أن كلامهنّ مقبول.

وجملة (ما خلق الله في أرحامهنّ) كما ذهب إليه جماعة من المفسّرين يمكن أن يراد بها معنيان : (الجنين) و (العادة الشهريّة) لأنّ كلا هذين المعنيين قد جعلهما الله في أرحام النساء أي يجب على المرأة أن لا تكتم حملها وتدّعي العادة الشهريّة بهدف تقليل مدّة العدّة (لأنّ عدّة الحامل وضع حملها) وهكذا يجب عليها أن لا تخفي وضع حيضها وتبيّن خلاف الواقع، ولا يبعد استفادة كلا هذين المعنيين من العبارة أعلاه.

الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أنّ للزّوج حقّ الرّجوع إلى زوجته في عدّة الطّلاق الرّجعي، فتقول الآية : (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً)(2).

وبهذا يستطيع الزّوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصّة إذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق الرّجعي، فإذا قصد الرّجوع يتحصّل بمجرّد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد، وجملة : (إن أرادوا إصلاحاً) في الحقيقة هي لبيان أنّ هدف الرّجوع يجب أن يكون بنيّة الإصلاح لا كما كان عليه الحال في العصر