فقد كان هؤلاء نفس أُولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن ـ في ظل التربية الإسلامية ـ في قمة الصلاح والأمانة، وفي ذروة الإستقامة والطهر، والتُقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.

أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة، بل يصرفهم حتّى عن التفكير فيها.

كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض

[761]

(الغنائم) أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه فقالوا : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : «أما والله لولا الله ما آتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا من أنت ؟ فقال : و الله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه»(1).

* * *


1 ـ تاريخ الطبري : ج 3 ص 128.

[762]

الآيتان

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَآءَ بِسَخط مِّنَ اللهِ وَمَأْوَئهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

التّفسير

المتخلفون عن الجهاد :

تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة «أُحد» وملابساتها ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين تقاعسوا عن الحضور في «أُحد» تبعاً للمنافقين، لأننا نقرأ في الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمر بالتحرك إلى «أُحد» تخلف جماعة من المنافقين عن التوجه إلى الميدان بحجة أنه لن يقع قتال، وتبعهم في ذلك بعض المسلمين من ضعاف الإيمان، فنزل قوله تعالى (افمن اتبع رضوان الله) ولبى نداء النبي واتبع أمره بالخروج (كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).

ثمّ يقول تعالى : (هم درجات عند الله) أي أن لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند الله، وهو إشارة إلى أنه لا يختلف المنافقون عن المجاهدين فقط، بل إن لكلّ فرد من أفراد هذين الطائفتين درجة خاصة تناسب مدى تضحيته وتفانيه

[763]

في سبيل الله أو مدى نفاقه وعدائه لله تعالى، وتبدأ هذه الدرجات من الصفر وتستمر إلى خارج حدود التصوّر.

هذا وقد نقل في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال : «الدرجة ما بين السماء والأرض»(1).

وجاء في حديث آخر «إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أُفق السماء»(2) بيد أننا يجب أن نعلم أن «الدرجة» تطلق عادة على تلك الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان ويصعد إلى مكان مرتفع، في حين أن الدرجات التي يستخدمها الإنسان للنزول من مكان مرتفع إلى مكان منخفض تسمى «دركاً» ولهذا جاء في شأن الأنبياء (عليهم السلام) في سورة البقرة الآية 253 (ورفع بعضهم درجات) وجاء في حقّ المنافقين في سورة النساء الآية 145 (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ولكن حيث كان البحث في الآية الحاضرة حول كلا الفريقين غلب جانب المؤمنين، فكان التعبير بالدرجة دون غيرها إذ قيل (هم درجات عند الله).

ثمّ يقول سبحانه في ختام هذه الآية (والله بصير بما يعملون) أي أنه سبحانه عالم بأعمالهم جميعاً فهم يعلم جيداً من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيته وإيمانه وعلمه.

مع أُسلوب تربوي قرآني مؤثر

هناك الكثير من الحقائق المتعلقة والمرتبطة بالقضايا الدينية أو الخلقية أو الإجتماعية، يطرحها القرآن الكريم في قالب التساؤل والإستفهام تاركاً للسامع ـ وبعد أن يضعه أمام كلا جانبي القضية ـ أن يختار هو بمعونة من فكره، وإنطلاقا من تحليله وتقويمه.


1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 406.

2 ـ تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

[764]

إن لهذا الأُسلوب ـ الذي لابدّ أن نسميه بالأُسلوب التربوي غير المباشر ـ أثراً بالغاً في تحقيق الأهداف المرجوة من البرامج التربوية وتأثيرها فيمن يراد توجيههم وتربيتهم، وذلك لأن الإنسان ـ في الأغلب ـ يهتم أكثر بما توصل إليه بنفسه من النتائج والأفكار والآراء وما إنتهى إليه بفكره من التفاسير والتحاليل في القضايا المختلفة، فإذا طرحت عليه قضية بصورة قطعية وصبغة جازمة، قاومها أحياناً، ولعله ينظر إليها كما ينظر إلى أية فكرة غريبة.

ولكن عندما يطرح عليه الأمر في صورة التساؤل الذين يطلب منه الجواب عليه حسب قناعته الشخصية ثمّ يسمع ذلك الجواب من أعماق ضميره وفؤاده، فإنه لا يسعه حينئذ أن يقاوم هذا الجواب ويعاديه، بل ينظر إليه نظر العارف به، ولن تعود لديه ـ حينئذ ـ تلك الفكرة الغريبة البعيدة، بل تكون الفكرة القريبة إلى قلبه، المأنوسة إلى فؤاده.

إن هذا الأُسلوب من التوجيه والإرشاد مؤثر غاية لتأثير خاصة مع المعاندين، وكذا الأطفال والناشئين.

ولقد استفاد القرآن الكريم من هذا الأُسلوب التربوي الرائع المؤثر في مواضع عديدة نذكر منها بعض النماذج :

1 ـ (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1).

2 ـ (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)(2).

3 ـ(قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور)(3).

* * *


1 ـ الزمر : 9.

2 ـ الأنعام : 50.

3 ـ الرعد : 16.

[765]

الآية

لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلال مُّبِين (164)

التّفسير

النعمة الإلهية الكبرى :

في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة «بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم» (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد «معركة أُحد» وهو : لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به ؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله : (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه

[766]

النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.

والجدير بالإهتمام ـ في المقام ـ هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة «منّ» التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادىء الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو : ان المن ـ كما قال الراغب في مفرداته : هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة : المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال : منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظّم أحد ـ في القول والإدعاء ـ ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح.

وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاماً للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.

أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون ـ بالنتيجة والمآل ـ من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم.

ثمّ إن الله سبحانه يقول : (من أنفسهم) أن إحدى مميزات هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ إحتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام إلانسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.

هذا مضافاً إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم

[767]

العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيراً، وأقوى أثراً من التبليغ بأية وسيلة أُخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلّغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية، وبذات غرائزه وبنائه الروحي.

فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة ـ مثلاً ـ كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا : إذا كان الأنبياء لا يعصون أبداً، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة.

وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها.

ولهذا أختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، وإحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان.

ثمّ إن الله سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم : (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم بثلاثة أُمور في حقّهم :

1 ـ تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.

2 ـ تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

3 ـ تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية.

ولكن حيث إن الهدف الأصلي هو «التربية» لذلك قدمت على «التعليم» مع أن الحال ـ من حيث الترتيب الطبيعي ـ تقتضي تقديم التعليم على التربية.

إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم

[768]

للتربية، فلابدّ أولاً من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك.

ثم إن هناك إحتمالاً آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم الواقعيين، تماماً مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من النقوش القبيحة أولاً.

ولهذا السبب قدمت التزكية فى الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية.

متى تعرف قيمة البعثة النبوية ؟

إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله : (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

وكأن القرآن يخاطبهم قائلاً : إرجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم ؟ ؟

إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله : (ضلال مبين)لأن للضلال أنواعاً وأصنافاً : فمن الضلال ما لايمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو

[769]

رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور إهتدى إلى الصواب وأدرك الخطأ فوراً.

ولقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، ومجيء الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل، وغير ذلك من حالات الإنحطاط والسقوط والفساد سائداً في كلّ أرجاء المعمورة في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافياً على أحد.

* * *

[770]

الآية

أَوَلَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (165)

التّفسير

دراسة أُخرى لمعركة أُحد :

هذه الآية تتضمن دراسة أُخرى وتقييماً آخر لمعركة أُحد وتوضيح ذلك : إن بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج أُحد، وكانوا لا يكتمون حزنهم وقلقهم هذا بل طالما كرروه وأظهروه على ألسنتهم، فذكرهم الله ـ في هذه الآية ـ بثلاث نقاط هي :

1 ـ يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معيَّنة، بل عليكم أن تحاسبوا كلّ قضايا المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنه أصابتكم على أيدي أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة اُخرى (معركة بدر) لأنهم قتلوا من المسلمين في معركة «أُحد» سبعين ولم يأسروا أحداً بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة «بدر» سبعين وأسروا سبعين (أو لما

[771]

أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها).

وعبارة (قد أصبتم مثليها) هي في الحقيقة بمثابة إجابة مقدمة على سؤال.

2 ـ أنتم تقولون. هذه المصيبة كيف أصابتنا ؟ (قلتم أنى هذا) ولكن «قل» أيها النبي : (هو من عند أنفسكم) أي هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة، فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم.

فأنتم الذين خالفتم أمر الرسول، وتركتم الجبل ذلك الموقع الخطير.

وأنتم الذين لم تحسموا المعركة، ولم تذهبوا إلى نهايتها، بل انصرفتم إلى جمع الغنائم بعد إنتصار محدود.

وأنتم الذين تركتم ساحة المعركة وفررتم ولم تصمدوا عندما باغتكم العدو من الخلف، ومن ناحية الجبل الذي تركتم حراسته.

فكلّ هذه العيوب والذنوب، وكلّ هذا الوهن هو الذي سبب تلك الهزيمة النكراء، وأدى إلى قتل تلك المجموعة الكبيرة من المسلمين.

3 ـ يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأن الله قادر على كلّ شيء، فإذا أصلحتم أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم ممّا تعانون منه من نقاط الضعف شملكم تأييده، وأنزل عليكم نصره (إن الله على كلّ شيء قدير).

* * *

[772]

الآيتان

وَمَآ أَصَـابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالُوْاْ قَـاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَـانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

التّفسير

لابد أن تتميز الصفوف :

تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أن أية مصيبة (كتلك التي وقعت في أُحد) مضافاً إلى أنها لم تكن دون سبب وعلة، فإنها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم الأول من الآية الأُولى (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) أي أن ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن الله ومشيئته وإرادته لأن لكلّ ظاهرة في عالم الكون المخلوق لله سبحانه سبباً خاصّاً وعلّة معيّنة.

[773]

وأساساً أن هذا العالم عالم مقنن يجري وفق قانون الأسباب والمسببات، وهذه حقيقة ثابتة لا تتغير.

وعلى هذا الأساس إذا وهنت جماعة في الحرب، وتعلقت بالدنيا وحطامها، والثروة وجواذبها، وتجاهلت أوامر قائدها المحنك الرؤوف كانت محكومة بالهزيمة والفشل، وهذا هو المقصود من إذن الله، فإذن الله ومشيئته هي تلك القوانين التي أرساها في عالم الكون ودنيا البشر.

ثمّ يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية : (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا).

إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان.

وعلى العموم فقد تميز المسلمون ـ في معركة أُحد ـ في طوائف ثلاث :

الطائفة الأُولى : وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتّى آخر لحظه، حتّى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.

الطائفة الثانية : هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الإضطراب ولم يمكنهم الثبات حتّى آخر لحظة، ففروا من الميدان.

الطائفة الثالثة : وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى المدينة، وهم عبدالله بن أبي سلول، وثلائمائة شخص من أعوانه وأنصاره وجماعته.

فلو لم تقع حادثة أُحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقاً، ولما إتضح الأمر بمثل هذا الإتضاح أبداً، ولما تبين كلّ شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع ـ في مقام الإدعاء ـ أنهم

[774]

مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.

وفي الحقيقة ـ تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين :

الأول : العلة الفاعلية للهزيمة.

الثاني : العلة الغائية (والنتيجة النهائية) لها.

على أن هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول : (وليعلم الذين نافقوا) ولم تقل «ليعلم المنافقين».

وبتعبير آخر : جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة «الوصف» وهو ـ لعلّه ـ لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، وإلتحق بصف المؤمنين الصادقين، ثمّ إن القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي : (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) فإن بعض المسلمين «وهو عبدالله بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبدالله بن أبي سلول وإنفصالهم عن الجيش الإسلامي، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.

ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا : (لو نعلم قتالاً لاتبعناكم) أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.

وبناءً على تفسير آخر قال المنافقون : لو أننا كنا نعتبر هذا قتالاً معقولاً لتعاونا معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالاً بل نوعاً من الإنتحار والمغامرة الإنتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم أمر غير عقلائي، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.

[775]

وعلى كلّ حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأن المسلمين إنتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلاّ بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه : (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) (أي أنهم يكذبون)، هذا مضافاً إلى أنه يستفاد من هذه الجملة (أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله وسلوكه.

ثمّ علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله : (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام إحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أُحد في صحبة المسلمين، (والله أعلم بما يكتمون)فإن الله يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم الشريرة في الآخرة.

* * *

[776]

الآية

الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ قُلْ فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ (168)

التّفسير

مزاعم المنافقين الباطلة :

لم يكتف المنافقون بإنصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة، وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين (لو اطاعونا ما قتلوا).

فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلاً (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو اطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين).

يعني أنكم بكلامكم هذا تريدون الإدعاء بأنكم مطلعون على عالم الغيب. وإنكم عارفون بالمستقبل وحوادثه، فإذا كنتم صادقين في ذلك فادفعوا عن أنفسكم الموت، لأنكم ـ طبقاً لهذا الإدعاء ـ ينبغي أن تعرفوا علة موتكم، وتقدرون على تجنبها، وتحاشيها، وإبطال مفعولها.

[777]

إفرضوا أنكم لم تقتلوا في ساحات الجهاد والشرف، فهل يمكنكم أن تضمنوا لأنفسكم سناً طويلاً، وعمراً خالداً ؟ ؟ هل يمكنكم أن تمنعوا الموت عن أنفسكم أبداً ودائماً ؟ ؟

فإذا لم يمكنكم تحاشي الموت ـ هذه النهاية المحتّمة لكل نفس ـ فلماذا تموتون في الفراش بذل وهوان، ولا تختارون الشهادة والموت بشرف وعز في ساحات الجهاد ضد أعداء الله وأعداء الرسالة ؟ ؟

ثمّ إن الآية الحاضرة تتضمن نقطة أُخرى يجب الإنتباه إليها وهي :

لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين ؟ فيكون المعنى هو : إنكم أيها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة ؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة (لإخوانهم) بكلمة «الذين قعدوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.

فهل يصحّ أن يدعي الإنسان إخوته لآخر ثمّ يخذله حين يحتاج إلى نصره وتأييده ويقعد عنه حين يحتاج إلى حمايته ؟ !

* * *

[778]

الآيات

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِّنَ اللهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمؤْمِنِينَ (171)

التّفسير

الحياة الخالدة :

يرى بعض المفسرين أن الآيات الحاضرة نزلت في شهداء «أُحد» ويرى آخرون أنها نزلت في شهداء «بدر»، ولكن الحقّ هو أن إرتباط هذه الآيات بما قبلها من الآيات يكشف عن أنها نزلت في أعقاب حادثة «أُحد»، وإن كان محتواها، ومضمونها يعم حتّى شهداء «بدر» الذين كانوا 14 شهيداً ولهذا روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنه قال : إنها تتناول قتلى بدر وأُحد معاً(1).


1 ـ تفسير العياشي حسبما نقله تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 406.

[779]

وقد روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال اطلع إليهم (أي أرواح شهداء أُحد وهي في الجنة) ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أين يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أُخرى فقال تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون قالوا : فتقرىء نبينا السلام وتبلغهم ما نحن فيه من كرامة فلا يحزنوا «فنزلت هذه الآيات»(1).

وعلى كلّ حال فإن الذي يبدو للنظر هو أن بعض ضعاف الإيمان كانوا ـ في مجالسهم وندواتهم بعد حادثة أُحد ـ يظهرون الأسف على شهداء أُحد، وكيف أنهم ماتوا وفنوا، وخاصة عندما كانت تتجدد عليهم النعمة فيتأسفون لغياب اُولئك القتلى في تلك المواقع، وكانوا يحدثون أنفسهم قائلين كيف ننعم بهذه النعم والمواهب وإخواننا وأبناءنا رهن القبور لا يصيبهم ما أصابنا من الخير، ولا يمكنهم أن يحظوا بما حظينا به من النعيم ؟ ؟.

وقد كانت هذه الكلمات ـ مضافاً إلى بطلانها ومخالفتها للواقع ـ تسبب إضعاف الروح المعنوية لدى ذوي الشهداء.

فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كلّ هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية، ومقامهم الرفيع وتقول : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).

والخطاب ـ هنا ـ متوجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة (بل أحياء عند ربهم يرزقون).

والمقصود من الحياة في الآية هي «الحياة البرزخية» في عالم ما بعد الموت، لا الحياة الجسمانية والمادية، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير


1 ـ الدر المنثور : ج 2 ص 95 ـ 96.

[780]

من الناس حياة برزخية أيضاً(1) ولكن حيث أن حياة الشهداء من النمط الرفيع جداً، ومن النحو المقرون بأنواع النعم المعنوية، هذا مضافاً إلى أنها هي محط البحث والحديث في هذا السياق القرآني لذلك خصوا بالذكر وخصت حياتهم بالإشارة في هذه الآية، دون سواهم ودون غيرها أيضاً.

إن حياتهم البرزخية محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأن حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثمّ إن الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول : (فرحين بما آتاهم الله من فضله).

ثمّ إن السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذيقول القرآن :(ويستبشرون بالذين لم يلحقوابهم من خلفهم).

ثمّ يردف هذا بقوله : (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني أن الشهداء يحسون هناك وفي ضوء ما يرونه أن إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي خوف ممّا تركوه في الدنيا، ولا أي حزن من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

على أنه من الممكن أن يكون لهذه العبارة تفسير آخر هو أن الشهداء بالإضافة إلى سرورهم وفرحهم لما يشاهدونه من الدرجات والمراتب الرفيعة لإخوانهم الذين لم ينالوا شرف الشهادة ولم يلحقوا بهم، لا يشعرون هم أنفسهم بأي خوف من المستقبل ولا أي حزن من الماضي(2).


1 ـ ينقسم أصحاب الحياة البرزخية ـ حسبما يذهب إليه بعض المحققين ـ إلى نوعين الصالحون جداً، والطالحون جداً.

2 ـ الضمائر في «لاخوف عليهم ولا هم يحزنون» حسب التفسير الأول تعود إلى المجاهدين الباقين على قيد الحياة الذين لم يلحقوا بالشهداء، وعلى التفسير الثاني تعود إلى الشهداء أنفسهم.

[781]

ثمّ إنه سبحانه يقول : (يستبشرون(1) بنعمة من الله وفضل).

وهذه الآية ـ في الحقيقة ـ مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم.،

فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين :

الأُولى : من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها، لا بها فقط بل لما يتلقونه من الفضل الإلهي الذي هو التصعيد المتزايد المستمر للنعم الذي يشمل الشهداء أيضاً.

والثانية : من جهة أنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين... لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة : (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)أجل، إنهم يرون بأم أعينهم ما كانوا يوعدون به ويسمعون بآذانهم.

إنها فرحة مضاعفة.

شهادة على بقاء الروح

تعد الآيات الحاضرة من جملة الآيات القرآنية ذات الدلالة الصريحة على بقاء الروح.

فهذه الآيات تتحدث عن حياة الشهداء بعد الموت والقتل. وما يحتمله البعض من أن المراد بهذه الحياة هو معنى مجازي، وأن المقصود هو بقاء اسمهم، وخلود آثارهم، وأعمالهم وجهودهم بعيد جداً عن معنى الآية، وغير منسجم بالمرّة مع أي واحد من العبارات الواردة في الآيات الحاضرة، سواء تلك التي


1 ـ الإستبشار يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبة. وليست بمعنى التبشير والإبشار.

[782]

تصرح بأن الشهداء يرزقون، أو التي تتحدث عن سرورهم من نواح مختلفة، هذا مضافاً إلى أن الآيات الحاضرة دليل بيّن وبرهان واضح على مسألة «البرزخ» والنعم البرزخية التي سيأتي الحديث عنها وشرحها عند تفسير قوله سبحانه : (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)(1) إن شاء الله.

أجر الشهداء

لقد قيل عن الشهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكلّ الأمم، وكلّ الشعوب تحترم شهداءها وتقيم لهم وزناً خاصّاً ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء في سبيل الله من الإحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلاً، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فإن الحديث التالي نموذج واضح من هذا الإحترام العظيم، الذى يوليه الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت تلك الجماعة المحدودة المتخلفة أن تكتسب تلكم القوّة العظيمة الهائلة التي استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش.

وإليك هذا الحديث :

عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال : بينما أميرالمؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال : يا أميرالمؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال : كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه فقال :

الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار.