![]() |
![]() |
![]() |
وجملة (متاعاً بالمعروف) يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه، أي أنّ الهديّة لابدّ أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل.
ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه.
ولمّا كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الإنتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقدَ نفسيّة بسبب فسخ عقد الزّواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان (حقّاً على المحسنين)(2) أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللّطف، ولا حاجة إلى القول بأنّ تعبير (المحسنين) لم يأت ليشير إلى أنّ الحكم المذكور ليس إلزاميّاً، بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيّرة في الناس للقيام بهذا الواجب الإلزامي.
الملاحظة الاُخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية الّتي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللّغة هو كلّ ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالباً على غير النقود، لأنّ الأموال لايمكن التمتّع بها مباشرةً، بل لابدّ أوّلاً من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.
ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقديّة، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمّة
1 ـ الاسراء : 100.
2 ـ «حقّاً» يمكن أن تكون صفة لـ «متاعاً»، أو حال أو مفعول مطلق لفعل محذوف ـ «متاعاً» مفعول مطلق أيضاً عن جملة «ومتعوهن».
الأطهار (عليهم السلام)تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعيّة.
كذلك يتّضح من هذه الآية أنّ تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم ليس ضروريّاً إذ يمكن للطرفين أن يتّفقا على ذلك بعد(1) إذ كما تفيد الآية أيضاً أنّه إذا حصل الطّلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر، بل يُستعاض عنه بالهديّة المذكورة.
ويجب الإلتفات إلى أنّ الزّمان والمكان مؤثّران في مقدار الهديّة المناسبة.
وتتحدّث الآية التالية عن حالة الطّلاق الّذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتُبيّن أنّ الحكم في هذا اللّون من الطّلاق الّذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزّوج دفع نصف المهر المعيّن (وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنَّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم).
وهذا هو حكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة، ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقيّة والعاطفيّة وتقول : (إلاّ أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح).
والمراد من ضمير (يعفون) هم الأزواج، أمّا في قوله (أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح) هو وليّ الصغير أو السفيه، ومن الواضح أنّ الوليّ ليس له الحقّ من أن يعفو أو يتنازل عن حقّ الصغير إلاّ إذا تضمّن مصلحة الصغير.
فعلى هذا يكون حكم دفع نصف المهر بغض النظر عن مسألة العفو والتنازل عن الحقّ، وممّا تقدّم يتّضح أن من له العفو هو الولي للصّغير أو السفيه لأنّه هو الّذي بيده أمر زواج المولّى عليه، ولكن بعض المفسّرين تصوّروا أنّ المراد هو الزّوج، بمعنى أنّ الزوج متى ما دفع تمام المهر قبلاً (كما هو المتعارف عند الكثير من
1 ـ لاشكّ أنّ المهر لا يسقط إن لم يذكر في العقد الدائم بل يعبر (مهر المثل) أي المهر الذي يعادل مهور نساء مماثلات إلاّ إذا حصل الطلاق قبل الدخول عندئذ يتوجب تقديم هديّة كما ذكرنا.
العرب) فله الحقّ في أن يسترجع نصف المهر إلاّ أن يعفو ويتنازل عنه.
أمّا مع الملاحظة الدقيقة في مضمون الآية يتبيّن أنّ التفسير الأوّل هو الصحيح، وأنّ المخاطب في هذه الآية هم الأزواج حيث تقول : (وإن طلّقتموهنّ)في حين أنّ الضمير في جملة (أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح) جاء حكايةً عن الغائب ولا يتناسب ذلك مع عوده إلى الأزواج.
أجل، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول (وإن تعفو أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ الله بما تعملون بصير).
فمن الواضح أنّ المخاطب في هذه الجملة هم الأزواج، فتكون النتيجة أنّ الحديث في الجملة السّابقة كان عن عفو الأولياء، وفي هذه الجملة تتحدّث الآية عن عفو الأزواج، وجملة (ولا تنسوا الفضل بينكم) خطاب لعموم المسلمين أن لا ينسوا المُثُل الإنسانية في العقو والصفح والإيثار في جميع الموارد.
وهذا ما ورد في الروايات الّتي وصلتنا من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية، وكذلك نرى أنّ المفسّرين الشّيعة قد اختاروا هذا الرّأي بالتّوجه إلى مضمون الآية والرّوايات الشريفة، فذهبوا إلى أنّ المقصود في هذه العبارة هم أولياء الزّوجة.
ومن الطبيعي أن تطرأ ظروف تجعل الإضطرار إلى أخذ نصف المهر حتّى قبل الدّخول أمراً قد يُثير مشاعر الرّجل وأقرباءه ويجرح عواطفهم وقد ينزعون إلى الإنتقام، ويُحتمل أن تتعرّض سمعة المرأة وكرامتها إلى الخطر، فهنا قد يرى الأب أنّ من مصلحه ابنته أن يتنازل عن حقّها.
جملة (وأن تعفوا أقرب للتقوى) تبيّن جانباً آخر من واجبات الزّوج الإنسانيّة، وهو أن يظهر الزّوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئاً من المهر إن كان قد دفعه، وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملاً متنازلاً عن النصف الّذي
هو من حقّه، وذلك لأنّ المرأة الّتي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسيّة شديدة، ولا شكَّ أنّ تنازل الرجل عن حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.
ونلاحظ تأكيداً في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتّى بالنّسبة إلى الطّلاق والإنفصال لا ينبغي أن يكون مقترناً بروح الإنتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرّجل والمرأة، لأنّ الزوجين إذا لم يتمكنّا من العيش سويّة وفضّلا الإفتراق بدلائل مختلفة، فلا دليل حينئذ لوجود العداوة والبغضاء بينهما.
* * *
حَـافِظُواْ عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَـانِتِينَ (238) فإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(239)
تذرّع جمع من المنافقين بحرارة الجو لإلقاء التفرقة في صفوف المسلمين، فلم يكونوا يشتركون في صلاه الجماعة، فتبعهم آخرون وأخذوا يتخلّفون عن صلاة الجماعة، فقلّ بذلك عدد المصلّين، فتألّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيراً حتّى أنّه هدّدهم بعقاب أليم، وفي حديث عن زيد بن ثابت قال : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤدّي صلاة الظهر جماعة والحرّ على أشدّه ممّا كان يثقل على أصحابه كثيراً بحيث أنّ صلاة الجماعة أحياناً لم تتجاوز صفاً واحداً أو صفّين، فهنا هدّد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء المنافقين ومن لم يشترك صلاة الجماعة بإحراق منازلهم، فنزلت الآية أعلاه وبيّنت أهميّة صلاة الظهر جماعةً بصورة مؤكّدة(1).
1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 342 ـ وبنفس المضمون في تفسير «الدّر المنثور» في ذيل الآية المبحوثة حسب نقل الميزان.
وهذا التأكيد يدلّ على أنّ مسألة عدم المشاركة في صلاة الجماعة لم تكن بسبب حرارة الجو فقط، بل أنّ جماعة أرادوا تضعيف الإسلام بهذه الذّريعة وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين بحيث دعى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يتّخذ مثل ذلك الموقف الحازم من هؤلاء.
بما أن الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، وإذا اُقيمت على وجهها الصحيح ملأت القلب بحبّ الله واستطاع الإنسان بتأثير أنوارها أن يتجنّب الذنوب والتلوّث بالمعصية، لذلك ورد التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول : (حافظوا على الصلاة والصلوات الوسطى وقوموا لله قانتين).
فلا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذا الأمر المهم بحجّة البرد والحرّ ومشكلات الحياة ودوافع الزوجة والأولاد والأموال.
أمّا ما هو المراد بقوله (الصلـوة الوسطى) ؟ ذكر المفسّرون معان مختلفة للمراد من الصلواة الوسطى، وذكر صاحب تفسير مجمع البيان ستّة أقوال، والفخر الرّازي ذكر في تفسيره سبعة أقوال، وبلغ بها القرطبي في تفسيره إلى عشرة أقوال، أمّا تفسير روح المعاني فذكر لها ثلاثة عشر قولاً.
فالبعض يرى أنّها صلاة الظهر، وآخر صلاة العصر، وبعض صلاة المغرب، وبعض صلاة العشاء، وبعض صلاة الصبح، وبعض صلاة الجمعة، وبعض صلاة اللّيل أو خصوص صلاة الوتر، وذكروا لكلّ واحد من هذه الأقوال أدلّة وتوجيهات مختلفة، ولكنّ القرائن المختلفة المتوفّرة تثبت أنّها صلاة الظهر، لأنّها فضلاً عن
كونها تقع في وسط النّهار، فإنّ سبب نزول هذه الآية يدلّ على أنّ المقصود بالصّلاة الوسطى هو صلاة الظهر التي كان الناس يتخلّفون عنها لحرارة الجو، كما أنّ هناك روايات كثيرة تصرّح بأنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظّهر(1). والتأكيد على هذه الصّلاة كان بسبب حرارة الجو في الصّيف، أو بسبب انشغال الناس في اُمور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهميّة، فنزلت الآية آنفة الذكر تبيّن أهميّة صلاة الوسطى ولزوم المحافظة عليها(2).
(قانتين) من مادّة (قنوت) وتأتي بمعنيين.
1 ـ الطاعة والإتّباع.
2 ـ الخضوع والخشوع والتّواضع.
ولايبعد أن يكون المعنيان مرادين في هذه الآية، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (وقوموا لله قانتين) قال : «إقبال الرّجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولايشغله شيء».
وفي رواية اُخرى قال :
وفي الآية الثانية تؤكّد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتّى في أصعب الظروف والشّرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصّلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالإتّجاه نحو القبلة وأداء الرّكوع والسّجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً).
سواءً كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصّلاة يجب أداءها
1 ـ انظر الكتب الفقهية للأستزادة.
2 ـ المشهور بين فقهاء الشيعة أن المراد منها «صلاة الظهر» بل ادعي الإجماع على ذلك ومن عدّة روايات معتبرة وردت في كتاب وسائل الشيعة : ج 3 ص 14 الباب 5 أو هناك قول شاذ وضعيف بأن المراد منها صلاة العصر «وذهب أغلب فقهاء أهل السنّة إلى هذا الرأي» واستدلوا على ذلك بعدّة روايات ضعيفة السند وقد اعرض الأصحاب عنها (لمزيد الإيضاح راجع الكتب الفقهية).
بالإيماء والإشارة للرّكوع والسّجود، سواءً كنتم مشاة أو راكبين.
(فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون) ففي هذه الصّورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصّلاة بالصّورة الطبيعيّة مع جميع آدابها وشرائطها.
ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصّلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.
(رجال) جمع (راجل) و (ركبان) جمع (راكب) والمقصود هو أنّكم إذا خفتم العدو في ميدان القتال لكم أن تؤدّوا الصلاة راجلين أو راكبين في حالة الحركة.
وقد ورد عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه في بعض الحروب أمر المقاتلين أن يصلّوا بالتّسبيح والتكبير وقول (لا إله إلاّ الله)(1)، وكذلك نقرأ في حديث آخر : إنّ النبي صلّى يوم الأحزاب إيماءً(2).
وكذلك ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) جواز أداء الصلاة في حالة الخوف إلى غير جهة القبلة ويُومي للرّكوع والسجود في حال القيام(3).
فهذه الصلاة هي صلاة الخوف التي شرحها الفقهاء في كتبهم شرحاً مفصّلاً، وعليه فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والإرتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقّق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصّل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على الله، فتكون مبعث الأمل والرّجاء في الحياة وتعينه في التغلّب على جميع المصاعب والمشكلات.
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين.
2 ـ مجمع البيان، في ذيل الآية المبحوثة.
3 ـ وسائل الشيعة : ج 5 ، ص 483 الباب 3، الحديث 3 مع التلخيص ونقل الحديث بالمعنى، ووردت أحاديث اُخرى بهذا المضمون في هذا الباب.
قد يحسب البعض أنّ هذا الإصرار والتوكيد على الصلاة ضرب من التعسير، ولربّما منع ذلك الإنسان من القيام بواجبه الخطير في الدّفاع عن نفسه في مثل ظروف القتال الصّعبة.
في حين أنّ هذا الكلام اشتباه كبير، فالإنسان في مثل هذه الحالات أحوج إلى تقوية معنويّته من أي شيء آخر، لأنّه إذا ضعفت معنويّته واستولى عليه الخوف والفزع فإنّ هزيمته تكاد تكون حتميّة، فأيّ عمل أفضل من الصّلاه والإتّصال بالله القادر على كلّ شيء وبيده كلّ شيء من أجل تقويّة معنويّات المجاهدين أو من يواجه الخطر.
لو تركنا الشواهد الكثيرة في جهاد المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام فإنّنا نقرأ عن حرب الصهاينة الرّابعة مع العرب في شهر رمضان عام 1393هـ .ق أنّ توجّه الجنود المسلمين إلى الصّلاة والمباديء الإسلام كان له أثر فعّال في تقوية عزائمهم وفي التالي انتصارهم على عدوّهم. وعلى أي حال فإنّ أهميّة الصلاة وتأثيرها الإيجابي في الحياه أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر، فلا شكّ في أنّ الصّلاة إذا روعيت معها آدابها الخاصّة وحضور القلب فيها فإنّ لها تأثيراً إيجابيّاً عظيماً في حياة الفرد والمجتمع، وبإمكانها أن تحل الكثير من المشاكل وتطهّر المجتمع من الكثير من المفاسد، وتكون للإنسان في الأزمات والشدائد خير معين وصديق(1).
* * *
1 ـ للاستزادة ومعرفة فوائد الصلاة تراجع الآية (45) من سورة العنكبوت من هذا التفسير.
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لاَّزْوَاجِهِم مَّتَـاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاج فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوف وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240)ولِلْمُطلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْروْفِ حَقّاً عَلَى المُتقّين (241)كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُوْنَ (242)
تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطّلاق والاُمور المتعلّقة بها، وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الّذين يتوسّدون فراش الإحتضار ولهم زوجات فتقول : (والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج).
أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة
سنة كاملة، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية : (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) كأن يخترن زوجاً جديداً، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم، ولكن يسقط حقّها في النفقة والسكنى.
وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ الله قادر على فتح أبواب اُخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ الله تعالى عزيز حكيم (والله عزيز حكيم)، فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اُخرى بلطفه، فلا محلّ للقلق والتخوّف، ويُعلم من ذلك أنّ جملة (يتوفّون) هنا لا تعني الموت، بل تعني المُشرف على الموت بقرينة ذكر الوصيّة.
وقوله (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف) تدلّ على وجوب دفع ورثة الزّوج نفقة الزوجة لمدّة سنة كاملة، وفيما إذا لم ترض هذه المرأة بالبقاء في بيت الزوج والإستفادة من النفقة، فلا مانع من ذلك، ولا مانع كذلك من أن تختار زوجاً آخر أيضاً، ولكنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه العبارة وهو أنّها إذا صبرت في بيت زوجها مدّة سنة كاملة ثمّ خرجت من البيت فتزوّجت فلا مانع من ذلك.
وطبقاً للتفسير الثاني يجب على المرأة العدّة لمدّة سنة كاملة، ولكن على التفسير الأوّل لا يلزم ذلك. وبعبارة أُخرى أنّ دوام العدّة لمدّة سنة كاملة على التفسير الأوّل يُعتبر حقٌّ للمرأة، ولكنّه على التفسير الثاني حكم وإلزام، ولكنّ ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأوّل، لأنّ ظاهر الجملة الأخيرة هو أنّه إستثناء من الحكم السابق.
يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية 234 من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيّام، وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها، بل قد نجد آيات متأخّرة في النّزول وضعت متقدّمة في الترتيب، وقد جرى ذلك للتّناسب بين الآيات ولأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويرى هؤلاء المفسّرين أيضاً أنّ حقّ النفقة لمدّة سنة كاملة كان قبل نزول آيات الإرث، ولكن بعد أن قرّرت آيات الإرث للزّوجين مقداراً من الإرث زال هذا الحقّ عنها، فعلى هذا فإنّ الآية محل البحث منسوخة من جهتين (من جهة مقدار زمان العدّة ومن جهة النفقة).
وذكر المرحوم (الطبرسي) في «مجمع البيان» أنّ جميع العلماء اتّفقوا أنّ هذه الآية منسوخة. ثمّ يذكر حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الرجل في العصر الجاهلي إذا مات كانت زوجته تتمتّع بالنفقة لمدّة سنة كاملة ثمّ أنّها تخرج من بيت زوجها بدون ميراث، وبعد ذلك نزلت الآيات المتعلّقة بإرث الزّوجة ونسخت هذه الآية بتعيين الرُبع أو الثُمن من الميراث لها.
وعلى هذا يجب أن تحسب نفقة المرأة في مدّة العدّة من حصّتها من الإرث، وكذلك ورد عن الإمام الصادق أيضاً أنّ الآية التي تقرّر العدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام وكذلك آية الإرث قد نسختا هذه الآية(1).
وعلى كلّ حال، يُستفاد من كلمات العلماء أنّ عدّة الوفاة كانت في زمان
1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 345 ذيل الآية المبحوثة.
الجاهليّة سنة كاملة تمرّ خلالها الارملة بكثير من التقاليد والعادات الخرافيّة الشّاقة، فجاء الإسلام وألغى تلك العادات وأبقى مدّة العدّة سنة في بداية الأمر، ثمّ جعلها أربعة أشهر وعشرة أيّام، كما منع المرأة فقط من الزّينة خلال هذه المدّة.
ويستفاد من كلام «الفخر الرازي» هو أن الآية أعلاه نُسخت بآيات الإرث وعدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام(1).
ولكن لولا إجماع العلماء والروايات المتعدّدة في هذا المجال لأمكن القول بعدم وجود التعارض بين هذه الآيات، فإنّ الحكم بأربعة أشهر وعشرة أيّام للعدّة هو حكم إلهي، وأمّا المحافظة على العدّة لمدّة سنة كاملة والبقاء في بيت الزوج والإستفادة من النفقة فإنّه حقٌّ لها، أي أنّه قد اُعطي الحقّ للمرأة أن تبقى في بيت زوجها المتوفّى سنة كاملة إن أرادت ذلك وتستفيد من النفقة طبقاً لوصيّة زوجها في جميع هذه المدّة، وإن رفضت ذلك ولم ترغب في البقاء، فيجوز لها الخروج من البيت بعد أربعة أشهر وعشرة أيّام، ويمكنها كذلك إختيار زوج آخر، وحينئذ سوف تُقطع عنها بطبيعة الحال النفقة من مال زوجها السابق.
ولكن مع ملاحظة الروايات المتعدّدة عن أهل البيت (عليهم السلام) وشهرة حكم النسخ أو اتفاق العلماء على ذلك، فلا يمكن قبول مثل هذا التفسير رغم أنّه موافق لظواهر الآيات الشريفة.
في الآية الثانية يبيّن القرآن الكريم حكماً آخر من أحكام الطّلاق ويقول : (وللمطلّقات متاع بالمعروف حقّاً على المتّقين) أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلّقات.
وبالرّغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلّقات، ولكن بقرينة الآية 236 السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد
1 ـ الفخر الرازي : ج 6 ص 158.
وقوع الطّلاق قبل الوطىء، وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تأكيد للحكم المذكور كيلا يتعرّض للإهمال، ويحتمل أيضاً أنّ الحكم المذكور يشمل جميع النسّاء المطلّقات، غاية الأمر أنّ المورد أعلاه من الموارد الوجوبيّة والموارد الاُخرى لها جنبة استحبابيّة.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا الحكم هو أحد الأحكام الإنسانيّة والأخلاقيّة في الإسلام والتي لها أثر إيجابي على إزالة الرسوبات المتخلّفة من عملية الطّلاق ومنع حالة العداوة والإنتقام والكراهيّة الناشئة منه.
وذكر البعض أن دفع هدية لائقة للنساء المطلّقات أمر واجب وهو غير المهر، ولكنّ الظاهر بين علماء الشيعة كما يُستفاد من عبارة المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّه لا قائل بهذا القول (ويصرّح المرحوم صاحب الجواهر أيضاً أنّ الهديّة المذكورة لا تجب إلاَّ في ذلك المورد الخاص وأنّ هذه المسألة إجماعيّة)(1).
وقد احتمل البعض أنّ المراد من المتاع هنا النفقة وهو احتمال بعيدٌ جدّاً.
وعلى كلّ حال أنّ هذه الهديّة وطبق الرّوايات الواردة من الأئمّة المعصومين تُعطى إلى المرأة بعد تمام العدّة والإفتراق الكامل لا في عدّة الطّلاق الرّجعي، وبعبارة أُخرى أنّ هذه الهديّة ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي(2).
وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلّقة بالطّلاق تقول : (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تعقلون).
ومن البديهي أنّ المراد من التفكّر والتعقّل هو ما يتعقّبه التحرّك نحو العمل، وإلاَّ فإنّ التفكّر والتعقّل لوحده في الأحكام والآيات لا يُثمر نتيجة، ويتبيّن من دراسة الآيات والأحاديث الإسلاميّة أن لفظة «العقل» تستعمل غالباً عند ايراد
1 ـ جواهر الكلام : ج 31 ص 58.
2 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 240 ح 956 و 957.
التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثمّ يستتبع ذلك العمل. فعندما يتحدّث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلاً يشير إلى نماذج من نظام هذا الكون العجيب، ثمّ يقول إننا نبين هذه الآيات (لعلّكم تعقلون).
وهذا لا يعني أنّ القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة، إذ أنّ العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبّه والإنشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد. وهكذا المعارف العلمية لا تكون تعقّلاً إلاَّ إذا اقترنت بالعمل.
صاحب تفسير الميزان(1) يؤيّد هذا الإتجاه في فهم معنى التعقّل، ويرى أنّه الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل، والدليل على ذلك قوله تعالى : (لو كنّا نَسمعُ أو نَعقِلُ ما كنّا في أصحاب السعير)(2).
وقوله سبحانه (أفلم يَسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها)(3)فالتعقّل الذي يتحدّث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل، وهكذا التعقّل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنّما هو المعرفة التي تحمل الإنسان على تغيّر مسير حياته والإتجاه إلى الصراط المستقيم.
وبعبارة اُخرى أنّ التفكّر والتعقّل والتدبّر إذا كان متعمّقاً ومتجذّراً في روح الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي، فكيف يمكن أن يقطع الإنسان ويعتقد جازماً بمسموميّة الغذاء ثمّ يتناوله ؟ ! أو يعتقد جزماً بتأثير الدّواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثمّ لا يتناوله ! !
* * *
1 ـ الميزان : ج 2 ص 250 ـ 249.
2 ـ الملك : 10.
3 ـ الحج : 46.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون (243)
انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملاً في النجاة من مخالب الموت. وإذ نجوا من الموت فعلاً بهروبهم من ذلك الجو المبوء، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والإستقلالية، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله
ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.
قيل : إنَّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقاباً لهم، لأنّ زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة. ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفشيّ في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من
المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوماً «حزقيل»(1) أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فأستجاب الله دعاءه وأحياهم.
هذه الآية كما مرّ في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنّها معبّرة إلى قصّة أحد الأقوام السّالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية : (ألم ترَ إلى الَّذين خرجوا من ديارهم وهم اُلوف حذر الموت).
من الأساليب الشايعة في الأدب العربي استعمال تعبير (ألم تر) فيما يطلب الفات النظر إليه، وبالرّغم من أنّ المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ولكنّ الكلام موجّه بطبيعة الحال إلى جميع الناس.
ورغم أنّ الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة (اُلوف)ولكنّ
1 ـ في بعض الروايات أنّ حزقيل هو النبيّ الثالث بعد موسى (عليه السلام) في بني إسرائيل.
الوارد في الروايات أنّ عددهم كان عشرة آلاف، وذكرت روايات اُخرى أنّهم كانوا سبعين ألف أو ثمانين ألف(1).
ثمّ أنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت : (فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم)لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اُخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أنّ المراد من (موتوا) ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في
عالم الوجود، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية 82 من سورة يس (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(2).
وجملة (ثمّ أحياهم) إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اُخرى من النعم الإلهيّة البيّنة (نعمة لهم ونعمة لبقيّة الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول (إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.
* * *
هنا ينبغي أن نشير إلى بعض النقاط :
هذه الحكاية التي ذكرناها، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة عابرة، ثمّ شرحته الروايات والأحاديث، أم أنّها أُقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية
1 ـ راجع التفاسير : مجمع البيان، القرطبي، روح البيان، في ذيل الآية المبحوثة.
2 ـ يس : 82 .
وبيانها بلغة حسّية ؟
لمّا كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض المفسّرين، فإنّهم أنكروا كونها حقيقة واقعة، وقالوا إنّ ما جاء في الآية إنّما هو من باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضدّ العدوّ فيُهزمون ثمّ يعتبرون بما جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدوّ وينتصرون.
وبموجب هذا التفسير يكون معنى «موتوا» الهزيمة في الحرب بسبب الضعف والتهاون. و «أحياهم» إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثمّ النصر.
هذا التفسير يرى أنّ الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات مجعولة وإسرائيلية.
وعلى الرغم من أن مسألة «الهزيمة» بعد التهاون و «الانتصار» بعد اليقظة مسألة هامّة ورائعة، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدلّ على بيان حادثة تاريخية بعينها، وليست تمثيلاً.
إنّ الآية تتحدّث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث مروّع ثمّ أحياهم الله. فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في تأويلها ذاك التأويل، فهذا إذاً ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء.
ولو أنّ أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن إنكار معاجز الأنبياء، فضلاً عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من قبيل القصص الرمزي التمثيلي، كأن نعتبر قصّة هابيل وقابيل قصّة موضوعة لتمثّل الصراع بين العدالة وطلب الحقّ من جهة، والقسوة والظلم من جهة اُخرى، وبهذا تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية.
وفضلاً عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، لأنّ بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من
الإسرائيلات المجعولة.
هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الّذين كانوا يتذرّعون تهرّباً من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله بمرض الطّاعون حيث فتك بهم سريعاً وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنّه لا يستطيع أي عدوّ شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنّه لا تتصوّروا أنّ التهرّب من المسؤوليّة والتوسّل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنّه تعالى قادرٌ على أن يبتليكم بعدوٍّ صغير لايرى بالعين وهو مكروب الطّاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.
النقطة الاُخرى التي لابدّ من الإلتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرّجعة التي تُستفاد من الآية بوضوح.
وتوضيح ذلك : أنّ التاريخ يحدّثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثمّ اُعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الّذين توجّهوا مع النبي موسى (عليه السلام) إلى جبل طور الواردة في آية 55 و 56 من سورة البقرة وقصّة «عزير» أو إرميا الواردة في الآية 259 من هذه السورة، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية مورد البحث.
فلا مانع أن تتكرّر هذه الحادثة مرّة اُخرى في المستقبل.
العالم الشيعي المعروف بـ «الصدوق» (رحمه الله) استدلّ بهذه الآية على القول
بالرّجعة وقال : (إنّ من معتقداتنا الرّجعة) أي رجوع طائفة من الناس الّذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدّنيا مرّة اُخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلاً على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.
![]() |
![]() |
![]() |