![]() |
![]() |
![]() |
وحيث إن مصائر الأفراد ترتبط ببعضها في الحياة الإجتماعية، ويؤثر بعضها في بعض بمعنى أن الجميع في الحياة الإجتماعية يشتركون في مصير واحد، لذلك كان حقّ النظارة على تصرفات الآخرين وسلوكهم حقّاً طبيعياً تقتضيه الحياة الجماعية، كما جاء ذلك في الحديث الرائع الذي نقلناه آنفاً عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)في هذا المجال.
وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف لا ينافي الحريات الفردية فحسب، بل هو وظيفة كلّ فرد تجاه الفرد الآخر، لأن من شأنه الإبقاء على سلامة الآخرين واستقامة أُمورهم، ومن ثمّ سلامة الفرد نفسه واستقامة أمره.
5 ـ ألا يلازم الأمر بالمعروف الفوضى الإجتماعية ؟
هناك سؤال آخر يطرح نفسه في هذا المجال وهو إذا سمحنا للناس بأن يتدخلوا في شؤون الآخرين وتكون لهم النظارة على أعمالهم وتصرفاتهم، فإن ذلك يوجب وقوع الفوضى في المجتمع، إذ تحصل بسببه المصادمات بين الأفراد، ولأنه يخالف مبدأ توزيع الواجبات والمسؤوليات في الحياة الإجتماعية فما هو الجواب ؟
في الإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول : بأن الأبحاث السابقة قد أوضحت أن لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرحلتين : المرحلة الأُولى : وهي المرحلة العمومية، وهي ذات إطار محدود لا يتجاوز التذكير، والعظة، والإعتراض، والنقد وما شابه ذلك، ولا شكّ أن المجتمع إذا أراد أن يكون حيّاً لابدّ أن يشعر أفراده جميعاً بمثل هذه المسؤولية تجاه المفاسد، وبمثل هذا الشعور تجاه المنكرات.
وأمّا المرحلة الثانية التي تختص بجماعة معيّنة وخاصة، وتكون من شؤون الحكومة الإسلامية فهي أوسع إطاراً، وأكبر مسؤولية، وأكثر قوة، بمعنى أن الأمر إذا تطلب استخدام القوة، وحتى إجراء القصاص وإجراء الحدود كان من صلاحيات هذه الجماعة أن تقوم به تحت نظر الحاكم الشرعي، ومسؤولي الحكومة الإسلامية، وهذا القسم هو الذي يقع بسببه الهرج والمرج لو أنيط إلى كلّ من هب ودب، دون القسم الأول الذي لا يتجاوز النصح والتذكير، والإعتراض والإعراض.
إذن فبملاحظة المراحل المختلفة في هذه الوظيفة الدينية، وما لكلّ واحدة منها من الحدود والأبعاد، فإن القيام بهذه الوظيفة لا يستوجب الهرج والمرج في المجتمع، بل يخرج المجتمع من صورة الجماعة الميتة الخامدة، إلى صورة المجتمع الحي النابض، والجماعة المتحركة الصاعدة.
6 ـ الأمر بالمعروف غير العنف
في ختام هذا البحث لابدّ من التذكير بهذه الحقيقة وهي أنّه لابدّ في القيام بهذه الفريضة الإلهية السامية والدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد من حسن النية، وسلامة الهدف، والشعور بالمسؤولية، كما يجب أن يتم بالطرق السلمية، ومن هنا لا يمكن إعتباره عملاً خشناً ملازماً للعنف إلاَّ في بعض الموارد الضرورية.
بيد أن البعض ـ مع الأسف ـ يستخدم العنف والخشونة لدى القيام بهذا الواجب المقدس في غير الموارد الضرورية التي تستدعي مثل ذلك، وربما توسل بالسب والشتم، ولهذا نرى أن مثل هذه الممارسات لا تترك أثراً ايجابياً، بل تعطي في الأغلب نتائجها العكسية، وثمارها السلبية، في حين ترينا سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الهداة من أهل بيته (عليهم السلام) غير ذلك، فهم كانوا يستعملون ـ في هذه الوظيفة المقدسة ـ منتهى اللطف والمحبة، وغاية الأدب والإتزان، ولهذا كانوا يؤثرون غاية التأثير، ويتركون أفضل النتائج حتّى أنهم كانوا يطوعون بذلك النهج أعتى الأفراد، وأكثرهم عناداً وجفافاً ـ .
جاء في تفسير «المنار» في معرض الحديث عن هذه الآية : أن غلاماً شاباً أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أتأذن لي في الزنا ؟
فصاح الناس به فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : قربوه ادن، فدنا حتّى جلس بين يديه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتحبّه لأُمّك ؟
قال لا، جعلني الله فداءك.
قال : كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأبنتك ؟
قال : لا، جعلني الله فداءك.
قال : كذلك لايحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك ؟
قال : لا، جعلني الله فداءك.
فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده ـ على صدره وقال :
«اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه».
فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا(1).
1 ـ المنار : ج 4 ص 33 ـ 34.
وكان هذا هو الأثر الطبيعي للأُسلوب اللين في النهي عن المنكر.
* * *
تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أُخرى، ولذا يذكر بأهمية الإتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا ـ كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى ـ سبيل الفرقة والإختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.
إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي، ويتأملوا في حياة السابقين، وما آلوا إليه من المصير المؤلم، بسبب الإختلاف والتشتت.
إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أُمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق، وتفرقت بعد ما توحدت، وتشتّتت بعد ما تجمعت.
إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على إجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلاً، لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلاَّ وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.
ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها، بصراحة إذ قال :
«إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة»(1).
1 ـ نقلت هذه الرواية بطرق مختلفة عن الشيعة والسنة وأما كتب الشيعة التي نقلت هذه الرواية فهي : الخصال، ومعاني الأخبار، والإحتجاج، وأمالي الصدوق، وأصل سليم بن قيس، وتفسير العياشي، وأما الكتب السنية فهي الدرّ المنثور، وجامع الأصول، والملل والنحل.
والظاهر أن عدد (70) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري، لا عدد إحصائي، فالرواية تعني ان فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية، وفرقاً كثيرة في النار، وهكذا الحال في المسلمين وربّما يزداد عدد إختلافات المسلمين على ذلك.
ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الإختلاف والفرقة، والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلاَّ طريقاً واحداً، والإنحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية، بل ويذهب المسلمون ـ في هذا الإختلاف ـ إلى حد تكفير بعضهم بعضاً، وشهر السيوف، والتلاعن والتشاتم، وهدر النفوس، واستحلال الدماء والأموال، بل ويبلغ الإختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار، وإلى مقاتلة الأخ أخاه.
وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والإختلاف والتشرذم والتمزق، وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية، وتحلّ الذلة محل العزّة، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية، وينتهي المجد العظيم.
أجل إن الذين يسلكون سبيل الإختلاف بعد الوحدة، والفرقة بعد الإتحاد سيكون لهم عذاب أليم.
(أولئك لهم عذاب عظيم).
إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الإختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والإنكسار، فذلك هو سر سقوط الأُمم وذلتها، إنه الإختلاف والتشتت، والنفاق والتدابر.
إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتت تماسكه بسبب الإختلاف، سيتعرض ـ لا محالة ـ لغزو الطامعين، وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل ومسرحاً لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة ؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والإختلاف في الدنيا.
وأما عذاب الآخرة فهو ـ كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم ـ أشد وأخزى. فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الإتفاق، والتدابر على التآلف، والتشتت على الإجتماع... خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.
* * *
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُم تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ (107)
في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها، وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والإتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه، فتقول (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية (فأما
الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الإتحاد في ظلّ الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).
إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.
ولقد قلنا مراراً أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلاَّ.
وبعبارة أُخرى : أن لكل ما يفعله الإنسان فى هذه الحياة آثاراً واسعة تبقى في روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلّى ـ بعد سلسلة من التحولات ـ في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار إنعكاساتها حتّى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوساً لكلّ أحد.
فكما ان الإيمان والإتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم، ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والإختلاف يوجبان للأُمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه،
بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.
وتلك حقيقة أشارت إليها آيات اُخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه : (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً)(1).
ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)(2).
وكلّ هذه الأُمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم الدنيا من الأعمال.
* * *
1 ـ يونس : 27.
2 ـ الزمر : 60.
تِلْكَ ءَايَـاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَـالَمِينَ (108) وَللهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (109)
هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر، والإتحاد، والإختلاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثارها وعواقبها،
إذ تقول : (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وما الله يريد ظلماً للعالمين) فكلّ هذه الآيات تحذيرات عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم (وما الله يريد ظلماً للعالمين) وإنما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم.
ويدلُّ على ذلك أن الله لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكلّ شيء وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه (ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأُمور).
فالآية ـ في الحقيقة ـ تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه :
الأوّل : إن الله مالك الوجود كلّه فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد شيئاً، وإلى هذا يشير المقطع الأول من الآية وهو قوله تعالى : (ولله ما في السماوات وما في الأرض).
الثاني : إن الظلم يمكن صدوره ممّن تقع الأُمور دون إرادته ورضاه، أما من ترجع إليه الأُمور جميعاً، وليس لأحد أن يعمل شيئاً بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وإلى الله ترجع الأُمور).
* * *
كُنتُمْ خَيْرَ أَمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَـابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَـاسِقُونَ (110)
في هذه الآية تطرح مرّة أُخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر»، وتعتبر الآية الحاضرة هاتين المسألتين واجبين عموميين كما مرّ في تفسير الآية (104)، بينما تبين الآية السابقة مرحلة خاصّة، وهي مرحلة الوجوب الكفائي أي الخاصّ بجماعة معينة، كما مرّ تفصيله.
فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين.
والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسلمين ـ في هذه الآية ـ بأنهم خير أمة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأُمة خير أمة
رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله» وهذا يفيد أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحقّ، ومكافحة الفساد، كما ويستفاد من ذلك أن هاتين الوظيفتين مع ما هما عليه من السعة في الإسلام ممّا تفرد بهما هذا الدين من دون بقية الشرائع السابقة.
أما لماذا يجب أن تكون هذه الأُمة خير الأمم، فسببه واضح كذلك. لأنها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شكّ أن هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان.
الأولى : التعبير بلفظ الماضي «كنتم» يعني أنكم كنتم كذلك في السابق، ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع إحتمالات كثيرة بين المفسّرين، إلاَّ أن ما يترجح عند النظر هو أن التعبير بالمضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشيء محقّق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب العزيز حيث عبّر عن القضايا المحقّقة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك ممّا يقع حتماً حتّى أنه نزل منزلة الماضي الذي قد تحقّق فعلاً.
الثانية : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قُدِّما ـ في هذه الآية ـ على الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين ـ وخطورتهما ـ مضافاً إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين ممّا يوجب إنتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كلّ القوانين الفردية والإجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ القانون وتطبيقه
مقدّم على نفس القانون.
بل إن تعطيل هذين الواجبين يوجب ضعف العقائد في القلوب، وانهيار قواعد الإيمان في النفوس، ولهذا كلّه كان طبيعياً أن يقدِّما على الإيمان.
من هذا البيان يتضح أن المسلمين «خير أُمة» ما داموا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا نسوا هاتين الفريضتين وأهملوهما لم يعودوا خير أُمة، كما لم يعودوا في خدمة المجتمع البشري أبداً.
على أن المخاطب في هذه الآية هم عموم المسلمين في جميع العصور كما هو الحال في كلّ الخطابات القرآنية، فما إحتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين أو المسلمين الأوائل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.
ثم إن الآية تشير إلى أن ديناً بمثل هذا الوضوح، وتشريعاً بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه : (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم).
ولكن ـ وللأسف ـ لم يؤمن به إلاّ قلّة ممّن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتّى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.
* * *
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِن يُقَـاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْل مِّنَ اللهِ وَحَبْل مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَب مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الاَْنبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112)
عندما أقدم بعض ذوي الضمائر المستيقظة من كبار اليهود مثل عبدالله ابن سلام على ترك دينهم واعتناق الإسلام عمد جمع من رؤوس اليهود إليهم وأنّبوهم لإسلامهم، بل وهددوهم لتركهم دين الآباء، واعتناق الإسلام، فنزلت هذه الآيات لتثبيتهم، وتبشيرهم وتبشير المسلمين بالظفر.
تبشر الآية الأُولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات
أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنهم
منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأن ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلاَّ طفيفاً وعابراً : (لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون).
إن هاتين الآيتين تحتويان ـ في الحقيقة ـ على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق جميعها في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته الشريفة وهي :
1 ـ إن أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأن ما يلحقونه بهم لن يكون إلاّ أضراراً بسيطة، وعابرة (لن يضروكم إلاّ أذى).
2 ـ إنهم لن يثبتوا ـ في القتال ـ أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً : (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون).
3 ـ إنهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائماً، إلاَّ أن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق الله، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين : (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس).
ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتّى تحققت برمّتها في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصّة بالنسبة إلى اليهود القاطنين في الحجاز (بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر وبني المصطلق) الذين آل أمرهم إلى الهزيمة في جميع ميادين القتال والإندحار أمام القوى الإسلامية بعد أن إقترفوا سلسلة من التحرشات والمؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.
إن الآيات المذكورة وإن لم تصرح باسم اليهود ولكن بقرينة القرائن الموجودة في هذه الآية والآيات السابقة وكذا بقرينة الآية 61 من سوره البقرة ونظائرها ممّا صرّح فيه باسم اليهود يستفاد أن قوله تعالى : (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس) يرتبط باليهود، ويعنيهم.
ففي هذا المقطع من الآية يقول سبحانه : أن أمام اليهود طريقين يستطيعون بهما أن يتخلصوا من لباس الذلة :
إما أن يعودوا إلى الله، ويعقدوا حبلهم بحبله، وإما أن يتمسكوا بحبل من الناس، ويعتمدوا على هذا وذاك، ويعيشوا ذيولاً وأتباعاً للآخرين.
وتعني لفظة «ثقفوا» المأخوذة من «ثقف» على وزن «سقف». الحذق في إدراك الشيء ، والظفر به بمهارة.
ويقصد القرآن من ذلك : أن اليهود أينما وجدوا فإنهم يوجدون وقد ختموا بخاتم الذلة على جباههم مهما حاولوا اخفاء ذلك ـ وكان ذلك هي الصفة البارزة لهم بسبب مواقفهم المشينة من تعاليم السماء، ورسالات الأنبياء العظام، إلاَّ إذا عادوا إلى منهج السماء، أو استعانوا بهذا أو ذاك من الناس لتخليصهم من هذا الذل. وإنقاذهم من هذا الهوان.
وأما التعبير بـ (حبل من الله وحبل من الناس) وإن ذهب المفسّرون فيه إلى إحتمالات عديدة، بيد أن ما قد ذكر قريباً يمكن أن يقال بأنه أنسب إلى الآية من بقية الإحتمالات، لأنه عندما يوضع «حبل الله» في قبال «حبل من الناس» يتبين أن هناك معنى متقابلاً متفاوتاً لهما لا أن الأول بمعنى الإيمان بالله، والثاني بمعنى العهد المعطى لهم من جانب المسلمين على وجه الأمان والذمة.
وعلى هذا تكون خلاصة المفهوم من هذه الآية هي : إن على اليهود أن يعيدوا
النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى الله، ويمسحوا عن أدمغتهم كلّ الأفكار الشيطانية، وكلّ النوايا الشريرة، ويطرحوا النفاق والبغضاء للمسلمين جانباً، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق، مستعينين بهذا أو ذاك. فأما الإيمان بالله والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وأما الإعتماد على معونة الناس الواهية. والإستمرار في الحياة التعسة.
لقد كان أمام اليهود طريقان : إما أن يعودوا إلى منهج الله، وإما أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلاء ما داموا، ولكنهم إختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة (وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة).
ولفظة «باؤوا» تعني في الأصل المراجعة واتخاذ السكنى، وقد استخدمت هنا للكناية عن الإستحقاق فيكون المعنى : أن اليهود بسبب اقامتهم على المعاصي استحقوا الجزاء الإلهي، وإختاروا غضب الله كما يختار الإنسان مسكناً ومنزلاً للإقامة.
وأمّا لفظة «مسكنة» فتعني الذلة والإنقطاع الشديد الذي لا تكون معه حيلة أبداً، وهي مأخوذة من السكون أصلاً، لأن المساكين لشدة ما بهم من الفقر والضعف لا يقدرون على أية حركة، بل هم سكون وجمود.
ثمّ إنه لابدّ من الإلتفات إلى أن المسكين لا يعني المحتاج والمعدم من الناحية المالية خاصّة، بل يشمل هذا الوصف كلّ من عدم الحيلة والقدرة على جميع الأصعدة، فيدخل فيه كلّ ضعف وعجز وافتقار شديد.
ويرى البعض أن الفرق بين الذلة والمسكنة هو أن الذلة ما كان مفروضاً على
الإنسان من غيره، بينما تكون المسكنة ناشئة من عقدة الحقارة وازدراء الذات، أي أن المسكين هو من يستهين بشخصيته ومواهبه وذاته، فتكون المسكنة نابعة من داخله، بينما تكون الذلة مفروضة من الخارج.
وعلى هذا الأساس يكون مفاد قوله تعالى (وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) هو : أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب اُصيبوا بأمرين : أولاً : طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب الله سبحانه، وثانياً : إن هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتية لازمة لهم حتّى أنهم رغم كلّ ما يملكون من امكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية، وصغار باطني، ولهذا لا نجد أي استثناء في ذيل هذه الجملة من الآية.
وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول : (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله * ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم.
إنهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم :
أولاً : كانوا ينكرون آيات الله ويكذبون بها.
ثانياً : يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.
ثالثاً : إنهم كانوا يرتكبون كلّ فعل قبيح، ويقترفون كلَّ جريمة نكراء، ويمارسون كلّ ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شكّ أن أي قوم يرتكبون مثل هذه الأُمور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.
إن التاريخ اليهودي الزاخر بالأحداث والوقائع يؤيد ما ذكرته الآيات السابقة تأييداً كاملاً، كما أن وضعهم الحاضر هو الآخر خير دليل على هذه الحقيقة، أي أن الذلة اللازمة لليهود والصغار الملتصق بهم أينما حلوا ونزلوا، ليس حكماً تشريعياً كما قال بعض المفسّرين، بل هو قضاء تكويني، وهو حكم التاريخ الصارم الذي يقضي بأن يلازم الذلة، ويصاب بالصغار كلّ قوم يتمادون في الطغيان، ويغرقون في الآثام، ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحدودهم، ويسعون في إبادة القادة المصلحين والهداة المنقذين، إلاَّ أن يعيد هؤلاء القوم النظر في سلوكهم، ويغيروا منهجهم وطريقتهم، ويرجعوا ويعودوا إلى الله، أو يربطوا مصيرهم بالآخرين ليعيشوا بعض الأيام في ظل هذا أو ذاك كما هي حال الصهيونية اليوم.
فإن الصهيونية التي تعادي المسلمين اليوم وتحارب الإسلام نجدها لا تستطيع الوقوف أمام الأخطار التي تهددها إلاَّ بالإعتماد على الآخرين، وحمايتهم رغم كلّ ما تملك من الثروات والقدرات الذاتية، وكلّ هذا يؤكد ويؤيد ما ذكرته هذه الآيات وما يستفاد منها من الحقائق، ولا شكّ أن هذا الوضع سيستمر بالنسبة إلى اليهود إلاَّ إذا تخلوا عن سلوكهم العدواني وأعادوا الحقوق إلى أهلها، وعاشوا إلى جانب الآخرين على أساس من الوفاق لا الغصب والعدوان والإحتلال.
* * *
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئكَ مِنَ الصَّـالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْر فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
يقال : لما أسلم «عبدالله بن سلام» وهو من علماء اليهود وجماعة منهم، إنزعجت اليهود، وبخاصة أحبارهم من هذا الحادث، وصاروا بصدد إتهامهم بالخيانة، وعيبهم بالشر فقال أحبارهم : «ما آمن بمحمّد إلاَّ شرارنا» وهم بذلك يهدفون إلى إسقاطهم من أعين اليهود حتّى لا يقتدى بهم الآخرون. فنزلت الآيات أعلاه للدفاع عن هذه الفئة المؤمنة.
بعد كلّ ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة
وأفعالهم الذميمة نجد القرآن ـ كما هو شأنه دائماً ـ يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحقّ، ولهذا يقول : (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون)(1).
أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان، وهذا هو أُسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس إعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير، لا غير.
ثمّ إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في «عبدالله بن سلام» وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح (40) من نصارى نجران و (32) من نصارى الحبشة و (8) أشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة «أهل الكتاب» وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.
ثمّ إنّه سبحانه قال : (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا
1 ـ الآناء جمع أَنا (على وزن وفا) وأنا (على وزن غنا) بمعنى الأَوقات.
مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما إقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
والمراد من كلمة «الكفر» هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلاً الإعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.
كيف (والله عليم بالمتقين) وكأن هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي : أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للإضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.
![]() |
![]() |
![]() |