لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

(فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب).

وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات :

أوّلاً : سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان : (مصدّقاً بكلمة من الله). و«كلمة الله» هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن سيرد شرحها ـ تعني المسيح (عليه السلام) ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانياً : سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس (وسيّداً) ، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.

(وحصوراً).

«الحصور» من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين، كما أُشير إليه في بعض الأحاديث.

والرابعة والخامسة من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون «نبياً» (وجاءت هذه الكلمة بصيغه النكرة لدلالة على العظمة) وأنّه من الصالحين.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك، فقال (ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)

[487]

فأجابه الله تعالى (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

* * *

بحوث

1 ـ هل العزوبة فضيلة ؟

هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول : إذا كان «الحصر» هو العزوف عن الزواج، فهل هذا مَحمَدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى ؟

في الجواب نقول : ليس هناك ما يدلّ على أنّ «الحصر» المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقاً به من حيث أسانيده. فلا يُستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا، وفي صفات الزاهدين.

ثانياً : من المحتمل أن يكون يحيى ـ مثل عيسى ـ قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطرّ إلى حياة العزوبة. وهذا لا يمكن أن يكون قانوناً عامّاً للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوّث. إنّ قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى.

2 ـ يحيى وعيسى

«يحيى» من الحياة وتعني البقاء حيّاً، وقد اختيرت هذه الكلمة اسماً لهذا

[488]

النبيّ
العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والإرتباط بالله. هذا الاسم قد إختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في الآية 7 من سورة مريم (يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبلُ سمّياً) ومن هذا يتبيّن أيضاً أنّ أحداً لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.

قلنا فيما سبق أنّ زكريّا طلب من ربّه الذرّية بعد أن شاهد ما نالته مريم من عطاء معنوي سريع. وعلى أثر ذلك وهب الله له ولداً شبيهاً بعيسى بن مريم في كثير من الصفات : في النبوّة وهما صغيران، وفي معنى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيّاً)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث : الولادة، والموت، والحشر و جهات اُخرى.

3 ـ في هذه الآية يصف زكريّا شيخوخته بقوله (وقد بلغني الكِبَر) ولكنه في الآية 9 من سورة مريم يقول (وقد بلغت من الكِبَر عتياً). فالعبارة الأُولى تعني أنّ الكِبَر قد وصلني والثانية تعني أنّي وصلت الكِبَر، ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير يعود إلى أنّ الإنسان ـ كلّما تقدّم نحو الكِبَر ـ يتقدّم الكَبر والموت نحوه أيضاً. كما قال عليّ (عليه السلام) «إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى»(1).

4 ـ «الغلام» الفتى الذي طرّ شاربه. و «عاقر» من «عُقر» بمعنى الأصل والأساس. أو بمعنى الحبس. ووصف المرأة التي لا تلد بأنّها عاقر يعني أنّها وصلت إلى عقرها وانتهت، أو أنّها حبست عن الولادة.

وقد يسأل سائل : لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي ؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأُخرى. كان يريد أن يعرف كيف يمكن


1 ـ نهج البلاغة : الكلمات القصار : 28.

[489]

لامرأة عاقر ـ خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس ـ أن تحمل وتلد ؟ ما الذي يتغيّر فيها ؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر ؟ أم أنّها ستحمل بصورة اُخرى ؟

ثمّ إنّ الإيمان بقدرة الله غير «الشهود والمشاهدة». زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد، ولكنّه طلب المشاهدة. كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان. وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك، ويودّ لو أنّه رأى دليلاً حسّياً على ذلك.

* * *

[490]

الآية

قَالَ رَبّ ِ اجْعَل لّيِ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالاِْبْكَـارِ(41)

التّفسير

هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله : (كذلك الله يفعل ما يشاء). إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً. كان يريد أن يمتليء قلبه بالإطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.

(قال آيتك ألاَّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاَّ رمزاً).

«الرمز» إشارة بالشفة، والصوت الخفي. ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأُطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأُمور.

أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية.

[491]

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.

هذا المضمون يرد في الآيات الأُولى من سورة مريم أيضاً.

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية ـ وإن لم يكن أمراً محرّماً ولا مكروهاً ـ كان من نوع «ترك الأولى». لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.

يتبادر هنا للذهن سؤال : أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ ؟

ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة. أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأُمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكراً لله، وتبليغاً للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلاً، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.

(واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار).

«العشي» تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و «الإبكار» من طلوع الفجر حتّى الظهر.

[492]

والراغب الاصفهاني يقول في «المفردات» : إنّ «العشي» من زوال الشمس حتّى الصباح، و«الإبكار» أوائل النهار.

وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

من الآيات الأُولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماءاً أن يسبّحوا الله صباح مساء شكراً على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.

* * *

[493]

الآيتان

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائَكَةُ يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَـالَمِينَ (42) يَـامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّ اكِعِينَ (43)

التّفسير

الانتخاب الإلهي لمريم :

بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم.

تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم : (وإذ قالت الملائكة يا مريم...).

ما أعظم هذا الإفتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه. وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من الله تعالى بإختياره وتفضيله. كما في مورد مريم بنت عمران. فقد بشرتها الملائكة بأن الله تعالى قد إختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.

والجدير بالذكر أن كلمة «اصطفاك» تكررت مرتين في هذه الآية، ففي المرّة

[494]

الاُولى كانت لبيان الاصطفاء المطلق، وفي الثانية إشارة إلى أفضليّتها على سائر نساء العالم المعاصرة لها.

هذا يعني أن مريم كانت أعظم نساء زمانها، وهو لا يتعارض مع كون سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين، فقد جاء في أحاديث متعدّدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الصادق (عليه السلام) قولهما :

«أمّا مريم فكانت سيّدة نساء زمانها. أمّا فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين»(1).

كما أنّ كلمة «العالمين» لا تتعارض مع هذا الكلام أيضاً، فقد وردت هذه الكلمة في القرآن وفي الكلام العام بمعنى الناس الذين يعيشون في عصر واحد، كما جاء بشأن بني إسرائيل (واني فضّلتكم على العالمين)(2). فلا شكّ أنّ تفضيل مؤمني بني إسرائيل كان على أهل زمانهم.

(يا مريم اقنتي لربّك).

هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم. فبعد أن بشّرها بأنّ الله قد اصطفاها، قالوا لها : الآن اشكري الله بالركوع والسجود والخضوع له اعترافاً بهذه النعمة العظمى.

نلاحظ هنا أنّ الملائكة يصدرون إلى مريم ثلاثة أوامر :

الأول : القنوت أمام الله. والكلمة ـ كما سبق أن قلنا ـ تعني الخضوع و دوام الطاعة.

الثاني : السجود، الذي هو أيضاً دليل الخضوع الكامل أمام الله.


1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 336، والبحار : ج 10 ص 24.

2 ـ البقرة : 47.

[495]

والثالث : الركوع، وهو أيضاً خضوع وتواضع.

أمّا القول : (واركعي مع الراكعين) فقد يكون إشارة إلى صلاة الجماعة، أو طلب إلتحاقها بجموع المصلّين الراكعين أمام الله. أي إركعي مع عباد الله المخلصين الذين يركعون لله.

في هذه الآية، الإشارة إلى السجود تسبق الإشارة إلى الركوع، وليس معنى هذا أنّ سجودهم قبل ركوعهم في صلاتهم، بل المقصود هو أداء العبادتين دون أن يكون القصد ذكر ترتيبهما، كما لو كنّا نطلب من أحدهم أن يصلّي، وأن يتوضّأ، وأن يتطهّر، إذ يكون قصدنا أن يقوم بكلّ هذه الأُمور. إنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب. ثمّ إنّ الركوع والسجود أصلاً بمعنى التواضع والخضوع، وما حركتا الركوع والسجود المألوفان سوى بعض مصاديق ذلك.

* * *

[496]

الآية

ذَلِك مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

التّفسير

كفالة مريم :

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدّم من قصة مريم وزكريّا إنّما هو من أخبار الغيب (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيِّ من الكتب السابقة. مضافاً إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.

ثمّ تضيف الآية : (وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم اذ يختصمون)أي أنكِ لم تكن حاضراً حينذاك.بل جاءك الخبرعن طريق الوحي.

سبق أن قلنا إن أُمّ مريم بعد أن وضعتها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها : هذه المولودة قد نُذرت

[497]

لخدمة بيت الله، فليتعهّد أحدكم بتربيتها. ولمّا كانت مريم من أُسرة معروفة «آل عمران» ، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها. وأخيراً اتّفقوا على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطىء نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيّهم التي كانوا يقترعون بها. كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام، وألقوها في الماء، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء :غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا، ثمّ عاد وطفا على سطحه،وبذلك أصبحت مريم في كفالته، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك، فهو نبيٌ وزوج خالة مريم.

الإقتراع الحلّ الأخير :

يستفاد من هذه الآية والآيات الأُخرى الخاصّة بيونس في سورة الصافّات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع. هذه الآية بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمّة الإسلام كانت سبباً في إعتبار القرعة قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية. ولكن شرط الإلتجاء إلى القرعة هو الوصول إلى طريق مسدود تماماً، كما قلنا : لذلك إذا كان من الممكن العثور على طريق لحلّ مشكلة مّا فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.

ليس للإقتراع طريقة خاصّة في الإسلام، فيجوز إتّخاذ العصي، أو الحصى، أو الورق وغير ذلك وسيلة له، على أن لا يكون فيه أيّ تواطؤ.

من الواضح أنّ الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة، لأنّ الربح والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلّها ليلجأ فيها إلى القرعة. لذلك فالربح الناشىء عن القرعة غير مشروع في الإسلام.

[498]

لابدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ القرعة لا تقتصر على حلّ المنازعات والإختلافات بين الناس، بل يمكن بها حلّ المشاكل المستعصية الأُخرى أيضاً. فمثلاً، كما جاء في الأحاديث : وطأ شخص شاة، ثمّ أطلقها بين الغنم بحيث لا يمكن التعرّف عليها، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والإمتناع عن أكل لحمها، وذلك لأنّ الإمتناع عن أكل لحمها جميعاً يشكل ضرراً كبيراً، كما أنّ أكل لحومها جميعاً غير جائز. فهنا تحلّ القرعة المشكلة.

* * *

[499]

الآيتان

إِذْ قَالَتِ الْمَلائَكَةُ يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاَ وَمِنَ الصَّـالِحِينَ (46)

التّفسير

هذه الآية تبيّن حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم بأمر من الله قائلين لها إنّ الله سوف يهب لكِ ولداً اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند الله.

(إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم).

ولابدّ من الإشارة هنا إلى بضع مسائل :

1 ـ في هذه الآية وفي آيتين أُخريين يوصف المسيح بأنّه «الكلمة» وهو تعبير موجود في كتب العهد الجديد أيضاً.

[500]

كلام المفسّرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح. إلاّ أنّ أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن : (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1).

أو لأنّ البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أُمّه.

كما أنّ لفظة «الكلمة» وردت في القرآن بمعنى «المخلوق» : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً)(2).

ففي هذه الآية «كلمات ربي» هي مخلوقات الله. ولمّا كان المسيح أحد مخلوقات الله العظيمة فقد سمّي بالكلمة، وهذا يتضمّن أيضاً ردّاً على الذين يقولون بالوهيّة المسيح (عليه السلام).

2 ـ «المسيح» بمعنى الماسح أو الممسوح. وإطلاقها على عيسى إما لأنّه كان يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله، إذ كانت هذه الموهبة قد خصّصت له منذ البداية، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته.

أو لأنّ الله قد مَسح عنه الدنس والإثم وطهّره.

3 ـ يصرّح القرآن في هذه الآية بأنّ عيسى هو ابن مريم، وهو تصريح يدحض مفتريات المفترين عن الوهيّة المسيح. إذ أنّ من يولد من امرأة وتطرأ عليه جميع التحوّلات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادّي لا يمكن أن يكون إلهاً، ذلك الإله المنزّه عن كلّ أنواع التغيّرات والتحوّلات.

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى (عليه السلام) وهي تكلّمه في المهد (ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين). فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أُمّه تكلّم في المهد كلاماً فصيحاً أعرب فيه عن عبودّيته لله، وعن كونه نبيّاً.


1 ـ يس : 82 .

2 ـ الكهف : 109.

[501]

ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أُمّه.

«المهد» هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثاً، سواء أكان متحرّكاً أم ثابتاً والظاهر من آيات سورة مريم أنه (عليه السلام) تكلّم منذ بداية تولده ممّا يستحيل على كلّ طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة. ولكن الكلام في مرحلة الكهولة(1). امر عادي. ولعلّ ذكره في الآية اعلاه مقارناً للحديث في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهوله والكمال لم يجانب الصواب والحقّ والحكم.

وتشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلاَّ بالحقّ منذ ولادته حتّى كهولته، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.

ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنّبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا، إذ أنّنا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى (عليه السلام) قد رُفِع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) ويعيش معه بين الناس ويؤيّده.

وبعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها (ومن الصالحين). ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والإعتزاز، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأُخرى.

* * *


1 ـ «الكهولة» هي متوسط العمر، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين، وما قبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

[502]

الآية

قَالَتْ رَبّ ِ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَايَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47)

التّفسير

إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأنّ الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كلّ كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل. فلِكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك عن طريق الإتّصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة. لذلك حقّ لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها : كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتّصال جنسي مع أيّ بشر ؟ (قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر).

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء، فنظام الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره، والله قادر على تغيير هذا النظام وقتما يشاء، فيخلق وفق أسباب وعوامل أُخرى غير عادية ما يشاء : (كذلك الله يخلق مايشاء).

ثمّ لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول (إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُن فيكون).

[503]

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

بديهيّ أن لفظة «كن» تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لايعتورها الأخذ والرد. أي أنّه ما إن يشاء أمراً ويصدر أمره بالخلق حتّى تتحقّق مشيئته في عالم الوجود.

من الجدير بالإلتفات أنّه بشأن خلق عيسى قال : «يخلق» ولكنّه بشأن خلق يحيى قبل بضع آيات قال.: «يفعل». ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير ناشىء من إختلاف طريقة خلق هذين النبيّين، فأحدهما خُلق بطريقة طبيعية، والآخر خُلق بطريقة خارقة للطبيعة. وهناك ملاحظة اُخرى وهي أنّ هذه الآيات تذكر في بدايتها محادثة الملائكة مع مريم. وهنا محادثتها مع الله عزّوجلّ، وكأنها بلغ بها الوجد والجذبة الإلهيّة أن زالت الوسائط واتّصلت مع مبدأ العزة، فأخذت تحدثه وتسمع منه مباشرة. (وطبعاً لا إشكال في تكلّم غير الأنبياء مع الله تعالى إذا لم يكن بصورة الوحي).

* * *

[504]

الآيتان

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالاِْنجِيلَ (48)وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنّـِي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَة مِن رَّبّكُمْ أَنّـِي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (49)

التّفسير

بقية امتيازات المسيح (عليه السلام) :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح (عليه السلام) (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين اُخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالأُولى تقول : (ويُعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام، ثمّ تبيّن مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة، وهما التوراة والإنجيل.

[505]

إنّ الذين يختارهم الله لقيادة الناس وهدايتهم، لا بدّ أن يكونوا في أعلى درجة من العلم والمعرفة وأن يقدّموا أسمى التعاليم والقوانين البنّاءة، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يظهروا أدلّة واضحة على علاقتهم بالله، لتوكيد مهمّتهم. وبهذين الوسيلتين تكتمل عملية هداية الناس، وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى هذين الأمرين. ففي الأُولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية. وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة. ثمّ تبيّن الهدف من كلّ ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين (ورسولاً إلى بني إسرائيل).

من الجدير بالذكر أنّ الآية تفيد أنّ رسالة عيسى كانت موجّهة إلى بني إسرائيل فقط. وهذا لا يتنافى مع كونه من أُولي العزم، لأنّ أُولي العزم هم الأنبياء الذين جاؤوا بدين جديد، حتّى وإن لم يكن عالميّ الرسالة. وقد جاء في تفسير «نور الثقلين» حديث عن إقتصار رسالة عيسى على بني إسرائيل(1).

إلاَّ أنّ بعض المفسّرين يرون إحتمال عالمية رسالة المسيح، وأنّها لم تكن محصورة ببني إسرائيل، على الرغم من أنّ بني إسرائيل كانوا على رأس الذين اُرسل إليهم لهدايتهم. يورد المرحوم العلاّمة المجلسي في «بحار الأنوار» أخباراً عن أُولي العزم من الأنبياء تؤيّد أنّها كانت رسالات عالمية(2).

ثمّ تضيف الآية (اني قد جئتكم بآية من ربكم) وليست آية واحدة، بل آيات عديدة (لأن التنوين جاء هنا لبيان عظمة هذه الآية، لا لبيان وحدتها».

ولمّا كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإنّ هذه الآية ـ عند بيان معجزات السيّد المسيح (عليه السلام) ـ تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن الله، وتقول على لسان المسيح (عليه السلام) (أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله).


1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 343.

2 ـ بحار الأنوار : ج 11 ص 32 الطبعة الجديدة.

[506]

إنّ قضية إحياء الموتى التدريجي بإذن الله ليست عويصة، لأنّنا نعلم أنّ جميع الكائنات الحيّة مخلوقة من التراب والماء، إلاَّ أنّ المعجزة في أن هذا الخلق الذي تحقّق على إمتداد سنوات طويلة. فما الذي يمنع من أن يكثّف الله تلك العوامل والأسباب بحيث تتمّ مراحل الخلق بسرعة فائقة، ويتحوّل الطين إلى كائن حي ؟

بديهيّ أنّ تحقّق هذا الأمر في ذلك المحيط، وفي أي محيط آخر، سند حيّ ودليل واضح على علاقة صاحب المعجزة بعالم ما وراء الطبيعة، وعلى قدرة الله اللامتناهية.

ثمّ تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها، وتقول على لسانه : (وأُبريء الأكمه والأبرص(1) وأحيي الموتى بإذن الله). لاشكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصّة لدى علماء الطبّ في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكلّ امرىء في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئاً عنها. فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه، أو ما ادّخروه، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي : (وأُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم) وأخيراً يقول إنّ هذه كلّها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم : (إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين).

* * *

بحوث

1 ـ أكانت معجزات المسيح عجيبة ؟

يصرّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ على تأويل المعجزات التي ذكرها القرآن للمسيح بشكل من الأشكال. من ذلك قولهم إنّ المسيح اكتفى بمجرّد


1 ـ «اكمه» قيل أنه يعني أعمى، وذهب بعض إلى أنه العشو الليلي، ولكن اغلب المفسّرين وأرباب اللغة ذهبوا إلى أنه يعني الأعمى منذ الولادة. وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأن المراد هو عدم وجود أصل العين.

[507]

الادّعاء بأنّه يفعل كذا وكذا بإذن الله، ولكنّه لم يفعل منها شيئاً أبداً ! فإذا كان هذا الرأي قابلاً للنقاش هنا، فإنّ ما جاء في الآية 110 من سورة المائدة لا مجال فيه لأيّ نقاش : (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير...) لأنّ الآية تقول صراحةً إنّ واحدة من نِعم الله عليك أنّك كنت تصنع من الطين طيراً حيّاً بإذن الله.

إنَّ الإصرار على أمثال هذه التأويلات لا موجب له أبداً. لأنّه إذا كان الهدف إنكار أعمال الأنبياء الخارقة للعادة، فإنّ القرآن يصرّح بها في كثير من المواضع، فإذا استطعنا ـ فرضاً ـ أن نؤوّل المعجزات فكيف بسائر المعجزات التي لا يمكن تأويلها ؟

ثمّ إنّنا إذا كنا نقول إنّ الله هو الذي يحكم قوانين الطبيعة، وليست هي التي تحكمه، فما الذي يمنع هذه القوانين الطبيعية أن تتغيّر بأمر منه في ظروف استثنائية فتظهر حوادث بطرق غير طبيعية.

أمّا إذا تصوّر هؤلاء أن ذلك يتعارض مع وحدة أفعال الله وخالقيّته وكونه لا شريك له، فإنّ القرآن قد أجاب على هذا. فوقوع هذه الحوادث أينما وقعت مشروط بأمر الله، أي أنّ أحداً بقواه الخاصّة غير قادر على القيام بأمثال هذه الأعمال إلاَّإذاشاء،وبإمداد من قدرته اللامتناهية وهذاهوالتوحيد عينه، لا الشرك.

2 ـ الولاية التكوينية

تفيد هذه الآية وآيات أُخرى سوف نتطرّق إليها ـ إن شاء الله ـ أنّ رسل الله وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره ـ إذا اقتضى الأمر ـ أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين، وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً للقوانين الطبيعية. فاستعمال أفعال مثل «أُبريء» و «أُحيي الموتى» وبضمير المتكلّم تدلّ على أنّ هذه الأفعال من عمل الأنبياء أنفسهم، وأنّ القول بأنّ هذه الأفعال كانت تقع بسبب دعائهم فقط هو

[508]

قول لا يقوم عليه دليل، بل أنّ ظاهر الآيات يدلّ على أنّهم كانوا يتصرفون بعالم التكوين ويقومون بتلك الأفعال.

ولكن لكي لا يتصوّر أحد أنّ الأنبياء والأولياء كان لهم استقلال في العمل، وأنّهم أقاموا جهازاً للخلق في مقابل جهاز خلق الله، وكذلك لكي لايكون هناك أيّ إحتمال للشرك وللعبادة المزدوجة، تكرّر قول «بإذن الله»، (تكرّر في هذه الآية مرّتين، وفي الآية 110 من سورة المائدة أربع مرّات).

وما الولاية التكوينية إلاَّ القول بأنّ الأنبياء والأئمّة يستطيعون ـ إذا لزم الأمر ـ أن يتصرّفوا في عالم الخلق بإذن الله. وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى الله وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

وبذلك يتضح جواب الذين ينكرون ولاية أهل الله التكوينية يعتبرونها ضرباً من الشرك. فما من أحد يقول بأنّ للأنبياء والأئمّة جهازاً للخلق مستقلاً في قبال الله. إنّما هم يفعلون ما يفعلون بإذن الله وبأمر منه. غير أنّ منكري الولاية التكوينية يقولون إنّ مهمّة الأنبياء تنحصر في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته وأحكامه، وقد يتوسّلون أحياناً بالدعاء إلى الله في بعض الأُمور التكوينية، وأنّ هذا هو كلّ ما يقدرون عليه، مع أنّ هذه الآية والآيات الأُخرى تفيد غير ذلك.

كما يُستنتج من هذه الآية أنّ كثيراً من معجزاتهم ـ على الأقل ـ قد فعلوها بأنفسهم، وإن كان ذلك بإذن الله وبعون من القدرة الإلهية. في الواقع يمكن القول بأنّ المعجزة من عمل الأنبياء ـ لأنّهم هم الذين يقومون بها ـ كما هي من عمل الله لأنّها تتمّ بإذنه وبالإستعانة بقدرته.

3 ـ الجدير بالإلتفات هنا إن تكرار القول «بإذن الله» والاعتماد على مشيئته في هذه الآية من أجل أن لا يبقى عذر لمدعي اُلوهية المسيح، ولكيلا يعتبره الناس ربّاً، أما عدم تكرارها في الأخبار بالغيب لوضوح الأمر.