التّفسير

تستمرّ هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها.

تقول الآية : ما دامت العدّة لم تنته، وحتّى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة : (فأمسكوهنّ بمعروف).

وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها (أو سرّحوهنّ بمعروف).

ولكن كلّ رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف

[169]

وأن لا يخالطه شيء من روح الإنتقام. ثمّ تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول :

(ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه).

هذه الجملة في الحقيقة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأن الجاهليّين كانوا يتّخذون من الطّلاق والرجوع وسيلة للإنتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة : إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والإعتداء، إذ أنّ ذلك ـ فضلاً عن كونه ظلماً للزوجة ـ ظلم لنفس الزوج أيضاً.

والآن علينا أن نعرف لماذا يكون ظلم الزوج زوجته ظلماً لنفسه أيضاً ؟

أولاً : إنّ الرجوع المبني على غمط الحقوق لايمكن أن يمنح الهدوء والاستقرار.

ثانياً : الرجل والمرأة ـ بالنظرة القرآنية ـ جزءان من جسد واحد في نظام الخلقة، فكلّ غمط لحقوق المرأة هو ظلم وعدوان على الرجل نفسه.

ثالثاً : إنّ من يستسيغ ظلم الآخرين يكون غرضاً لنيل العقاب الإلهي، فيكون بذلك قد ظلم نفسه.

ثمّ يحذّر القرآن الجميع :(ولا تتّخذوا آيات الله هزواً)

هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى بعض التقاليد الجاهلية المترسّخة في أفكار الناس، ففي الرواية أنّ بعض الرجال في العصر الجاهلي يقولون حين الطّلاق : أنّ هدفنا من الطّلاق هو اللّعب والمزاح، وكذلك الحال عندما يعتقون عبداً أو يتزّوجون من امرأة.

فنزلت الآية أعلاه لتحذّرهم بأنّ كلّ من يطلّق زوجته أو يعتق عبده أو يتزوّج من إمرأة أو يزوّجها من شخص آخر، ثمّ يدّعي أنّه كان يمزح ويلعب فإنّه لا يُقبل

[170]

منه، ويتحقّق ما أقدم عليه في الواقع العملي بشكل جاد(1).

ويُحتمل أيضاً أنّ الآية ناظرة إلى حال الأشخاص الّذين يستغلّون الأحكام الشرعيّة لتبرير مخالفاتهم ويتمسّكون بالظّواهر من أجل بعض الحيل الشرعيّة، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الإستهزاء بآيات الله، ومن ذلك نفس مسألة الزّواج والطّلاق والرّجوع في زمان العدّة بنيّة الإنتقام وإلحاق الضرّر بالمرأة والتّظاهر بأنَّه يستفيد من حقّه القانوني.

فعلى هذا لاينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهيّة والتمسّك فقط بالظّواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتّخاذ آيات الله ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يُعتبر ذنب عظيم ويترتّب عليه عقوبة أليمة.

ثمّ تضيف الآية (واذكروا نعمة الله عليكم وما اُنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعضكم به واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بكلّ شيء عليم).

هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا : أوّلاً : أنّ الله تعالى عدّ تلك التصرّفات من خرافات وتقاليد الجاهليّة الشنيعة بالنّسبة إلى الزّواج والطّلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النّعمة العظيمة وتؤدّوا حقّها، وثانياً : بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالإستفاده من موقعيّتكم، ويجب أن تعلموا أنّ الله تعالى مُطّلعٌ حتّى على نيّاتكم(2).

* * *


1 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 964، ومثله في تفسير المراغي : ج 2 ص 179.

2 ـ فعلى هذا تكون جملة «وما نزل عليكم من الكتاب والحكمة» عطف «نعمة الله» أو من قبيل عطف الخاصّ على العامّ وفي هذه الصورة يكون مفهوم «نعمة الله» واسعاً حيث يشمل جميع النعم الإلهية التي منها نعمة المحبّة والاُلفة التي جعلها الله بين الزوجين.

[171]

الآيـة

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ الِنّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الاَْخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لكم وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232)

سبب النّزول

كان أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو «معقل بن يسار» يعارض زواج أُخته «جملاء» من زوجها الأوّل «عاصم بن عدي» لأنّ عاصماً كان قد طلّقها من قبل، ولكن بعد انقضاء العدّة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد. فنزلت الآية ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج.

وقيل إنّ الآية نزلت في معارضة «جابر بن عبدالله» زواج ابنة عمّه من زوجها السابق(1).


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 332. ونقل أكثر المفسّرين مثل : القرطبي، تفسير الكبير، روح المعاني، في ظلال القرآن أحد سبب نزول أو كلاهما في ذيل الآية المبحوثة.

[172]

وربّما كان حقّ المنع هذا يعطي في الجاهلية للأقربين.

لاشكّ أنّ الأخ وابن العمّ لا ولاية لهما ـ في فقهنا ـ على الاُخت وابنة العم. إلاّ أنّ هذه الآية تتحدّث عن حكم عام ـ كما سنرى ـ يشمل الأولياء وغير الأولياء، وتقول أنّه حتّى الأب والأُم وابن العم، وكذلك الغرباء لا حقّ لهم في الوقوف بوجه هذا الزواج.

التّفسير

ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهنّ ورأيهنّ.

وإختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أيّ تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثمّ تطلّق لم يكن لها حقّ الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمّة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجيّة بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيّلاتهم وأوهامهم.

إلاّ أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحقّ، إذ أنّ الزوجين ـ وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الإنفصال ـ يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حقّ الإعتراض عليهما. تقول الآية (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من الرجال الأقارب، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأوّل. بمعنى أنكم إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدّد مع رجال آخرين، حيث إن بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية

[173]

شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين، وما ذلك سوى نزعة جاهلية فحسب(1).

في الآية السابقة «بلوغ الأجل» يعني بلوغ أواخر أيام العدّة، ولكن في هذه الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدّة، بقرينة الزواج المجدّد. فالغاية في الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.

ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات ـ أي اللّواتي سبق لهنًّ الزواج ثمّ طلّقن أو مات أزواجهنّ ـ إذا شئن الزّواج ثانية فلا يلزمهنّ موافقة أوليائهنّ أبداً.

ثمّ تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول : (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر)ثمّ من أجل التأكيد أكثر تقول : (ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الّذين ينتفعون بها هم الّذين لهم أساس عقائدي من الإيمان بالله والمعاد ولا يتبّعون أهوائهم.

وبعباره اُخرى أنّ هذه الجملة تقول : أنّ نتيجة العلم بهذه الأحكام يصبُّ في مصلحتكم، لكنّكم قد لاتدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلّة معارفكم، والله هو العالم بكلّ الأسرار، ولذلك قرّر هذه الأحكام وشرّعها لما فيها من تزكيتكم وحفظ طهارتكم.

والجدير بالذّكر أنّ الآية تشير إلى أنّ العمل بهذه الأحكام يستوجب : (التزكية) و (الطهارة) فتقول (أزكى لكم وأطهر) يعني أنّ العمل بها يطهّر أفراد العائلة من مختلف الأدناس والخبائث، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل


1 ـ رجح البعض التفسير الثاني لأن المخاطب في الآيات السابقة هو الأزواج ولكنه يشكل بأن تعبير «أزواجهن» يكون تعبيراً مجازياً بالنسبة إلى الأزواج مضافاً إلى انه لا ينسجم مع شأن النّزول.

[174]

المعنوي، لأنّ «التّزكية» في الأصل (الزّكاة) بمعنى النمو.

وذكر بعض المفسّرين إنّ جملة (أزكى لكم) تشير إلى الثواب المترتّب على الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطّهارة والنّقاء من الذّنوب. ومن البديهي أنّ الزّوجين بالرّغم من كلّ تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا بسبب بعض الحوادث المؤسفة، ولكن بعد الإنفصال والفرقة ومشاهدة الآثار الوخيمة المترتّبة على هذه الفرقة يندمان ويصمّمان على العودة إلى الحياة المشتركة، وهنا لاينبغي التشدّد والتعصّب لمنع عودتهما لأنّ ذلك يخلّد آثاراً سلبيّة وخيمة في روحيّة كلٌّ منهما، وقد يؤدّي إلى إنحرافهما وتلوّثهما بالرّذيلة، وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإنّ مصيرهم سوف يكون تعيساً جدّاً، ومسؤوليّة هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزّوجين من المصالحة.

* * *

[175]

الآيـة

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَتُكَلَّفُ نَفْسٌ إلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاض مِنْهُمَا وَتَشَاوُر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بصِيرٌ (233)

التّفسير

أحكام الرّضاع السّبعة :

هذه الآية في الواقع إستمرار للأبحاث المتعلّقة بمسائل الزّواج والحياة الزّوجيّة، وتبحث مسألة مهمّة هي مسألة (الرّضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة وفي نفس الوقت ذات معنىً عميق الجزئيات المتعلّقة بالرّضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب :

[176]

1 ـ تقول الآية في أوّلها (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين). (والدات) جمع (والدة) وهي في اللّغة بمعنى الاُم، ولكنّ كلمة الاُم لها معنىً أوسع وهي قد تُطلق على الوالدة وعلى الجدّة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشيء وأساسه.

وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حقّ الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للاُم، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدّة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد أُعطيت للأب، ولكن لمّا كانت تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدّة ترتبط إرتباطاً لا ينفصم بلبن الأُم وعواطفها، فقد أُعطيت حقّ الإحتفاظ به، كما تجب مراعاة عواطف الأُمومة، لأنّ الأُم لا تستطيع في هذه اللحظات الحسّاسة أن ترى حضنها خالياً من وليدها وأن لا تبالي به، وعليه فإنّ تخصيصها بحقّ الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقاً ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الأُم، والتعبير بـ «أولادهن» إشارة لطيفة إلى هذا المعنى. وبالرغم من أن الجملة مطلقة ظاهراً وتشمل النساء المطلقات وغير المطلقات، ولكن الجملة اللاحقة توضح أن الآية تقصد النساء المطلقات مع وجود هذا الحقّ لسائر الاُمهات، ولكن في صورة عدم وجود الطلاق فلا أثر عملي لهذا الحكم.

2 ـ ليس من الضروري أن تكون مدّة رضاعة الطفل سنتين حتماً، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة (لمن أراد أن يتمّ الرضاعة) ولكن للأُم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحّة الطفل وسلامته.

في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت (عليهم السلام) أنّ دورة رضاعة الطفل الكاملة سنتان كاملتان، ودورتها غير الكاملة 21 شهراً(1)، ولعلّ هذا يأخذ أيضاً بنظر


1 ـ وسائل الشيعة : ج 15 ص 177 (باب أقلّ مدّة الرضاع وأكثره) ج 2 و 5، وورد في بعض هذه الروايات إذا نقص عن (21) شهراً كان ظلماً للرضيع.

[177]

الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية (15) من سورة الأحقاف التي تقول (وحملُهُ وفصالُهُ ثلاثون شهراً). ولمّا كانت فترة الحمل 9 أشهر، فتكون فترة الرضاعة الإعتيادية 21 شهراً.

ولمّا لم يكن في آية سورة الأحقاف ما يفيد الإلزام والوجوب، فإنّ للوالدات الحقّ في تخفيض فترة الـ 21 شهراً بما يتّفق وصحّة الوليد وسلامته.

3 ـ نفقة الأُم في الطعام واللباس، حتّى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الأُم من الإنصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق.

(وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف).

هنا تعبير «المولود له» بدلاً من «الأب» يستلفت الإنتباه، ولعلّه جاء لاستثارة عواطف الأُبوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وأُمه خلال هذه الفترة، فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده، وليس غريباً عنه.

إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الأُم ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.

ولرفع كلّ غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كلّ أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته (لا تكلّف نفس إلاّ وسعها). ويرى البعض أن هذه الجملة بمثابة العلّة لأصل الحكم. والبعض الآخر بعنوان تفسير الحكم السابق (والنتيجة واحدة).

4 ـ لايحقّ لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمراً مرتبطاً بما قد يكون بينهما من اختلافات، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها.

(لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده).

على الأب أن يحذر انتزاع الوليد من أحضان أُمه خلال فترة الرضاعة

[178]

فيعتدي بذلك على حقّ الأُم في حضانة وليدها. كما أنّ على الأُم التي أُعطيت هذا الحقّ أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله.

وذكر إحتمال آخر في تفسير الآية وهو أنّ المراد أنّ الأب ليس له أن يسلب الزّوجة حقّها في المقاربة الجنسيّة بسبب الخوف من الحمل وفي النتيجة الإضرار بالمُرضع، ولا الاُم بإمكانها منع زوجها من هذا الحقّ لهذا السبب، ولكنّ التفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية(1).

التعبير بـ (ولدِها) و (ولدُه) من أجل تشويق الآباء والاُمهّات برعاية حال الأطفال الرُّضع، مضافاً إلى أنّه إشارة إلى أنّ الرّضيع متعلّق لكليهما خلافاً لما هو المرسوم من تقاليد الجاهليّة من أنّ الولد متعلّق بالأب خاصّة وليس للاُم سهم من الحقّ فيه.

5 ـ ثمّ تبيّن الآية حكماً آخر يتعلّق بما بعد وفاة الأب فتقول : (وعلى الوارث مثل ذلك).

يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الاُم في مرحلة الرّضاعة للطفل، وهناك احتمالات اُخرى في تفسير الآية الشريفة ولكنّها ضعيفة.

6 ـ وتتحدّث الآية أيضاً عن مسألة فطام الطّفل عن الرّضاعة وتجعله بعهدة كلّ من الأبوين على الرّغم ممّا جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرّضاعة، إلاّ أنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحّة الطّفل وسلامته الجسميّة، وتقول الآية : (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).

وفي الواقع أنّ الأب والاُم يجب أن يراعيا مصالح الطّفل ويتشاوران في ذلك


1 ـ على التفسير الأوّل فعل «لاتضار» فعل معلوم، وعلى التفسير الثاني فعل مجهول وإن كان تلفظ الاثنين واحداً، تأمل جيداً.

[179]

للوصول إلى التّوافق والتّراضي، فيضعان برنامج مدروس لفطام الطّفل من الرّضاع دون أن يحدث لهما مشاجرة في هذه المسألة والتي قد تؤدّي إلى ضياع حقوق الطّفل.

7 ـ أحياناً تمتنع الاُم من حضانة الطّفل وحقّها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصّورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف).

وهناك عدّة تفاسير لجملة (إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف) فذهب بعض المفسّرين.

وأنّه لا مانع من اختيار مرضعة بدل الاُم بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الاُم بالنسبة إلى المدّة الفائتة من الرّضاعة، بل يجب إعطاءها حقّها في المدّة الفائتة التي أرضعت فيها الطّفل حسب ما تقتضيه الأعراف والعادات.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ العبارة ناظرة إلى حقّ المرضعة، فيجب أداء حقّها وفقاً لمقتضيات العرف والعادة، وذهب آخرون إلى أنّ المراد من هذه الجملة هو اتّفاق الأب والاُم في مسألة انتخاب المرضعة، فعلى هذا تكون تأكيداً للجملة السابقة، ولكنّ هذا التفسير ضعيف ظاهراً، والصحيح هو التفسير الأوّل والثاني، وقد اختار المرحوم (الطبرسي) التفسير الأولّ(1).

وفي الختام تحذّر الآية الجميع و تقول (واتّقوا الله واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير).

فلا ينبغي للإختلافات التي تحصل بين الزّوجين أن تؤدّي إلى إيقاد روح الإنتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطّفل إلى الخطر، فلابدّ أن يعلم


1 ـ تفسير مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 336.

[180]

الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالهم بدقّة.

هذه الأحكام المدروسة بدقّة والمشفوعة بالتّحذيرات تبيّن بوضوح درجة اهتمام الإسلام بحقوق الأطفال وكذلك الاُمّهات حيث يدعو إلى رعاية الحدّ الأكثر من العدالة في هذا المجال.

أجل، فإنّ الإسلام ـ وعلى خلاف ما هو السائد في العالم المادي المعاصر حيث تسحق فيه حقوق الطبقة الضعيفة ـ يهتم غاية الإهتمام بحفظ حقوقهم.

* * *

[181]

الآيتان

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ الِنّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

التّفسير

خرافات تبعث على تعاسة المرأة :

إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها. ولمّا كان بناء الأرملة بزوج جديد بعد موت زوجها السابق مباشرةً لا ينسجم مع ما تكنّه من حبّ واحترام لزوجها المتوفى، ولا مع الإطمئنان إلى عدم وجود

[182]

حمل في رحمها منه، وقد يؤدّي إلى جرح مشاعر أهل زوجها الأول، فقد جاءت الآية تشترط للزواج الجديد أن يمرّ على موت زوجها السابق أربعة أشهر وعشرة أيّام.

إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليداً وطقوساً خاصّة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل. كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره. وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كلّ نظافة أو زينة أو اغتسال(1).

إلاَّ أنّ الآية المذكورة تلغي كلّ هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجيّة بإقرار العدّة.

(والذين يُتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف).

وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحياناً في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الإعتبار في زواجها المجدّد تقول الآية في ختامها : (والله بما تعملون خبير)وسيُجازي كلّ شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.

وجملة (لا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف) والتي تشير إلى أنّ المخاطب فيها هم الرّجال من أقرباء المرأة تدلّ على أنّهم كانوا يرون في تحرّر


1 ـ الإسلام وعقائد الإنسان : ص 617.

[183]

المرأة بعد وفاة زوجها عيباً وإثماً، ويعتقدون بأنّ التضييق عليها والتشدّد في أمرها من واجباتهم، فهذه الآية تأمر بصراحة بترك هذه الإمرأة حرّة في اختيارها ولا إثم عليكم من ذلك (ويستفاد ضمناً من هذه العبارة سقوط ولاية الأب والجد أيضاً عليها) ولكن في نفس الوقت تتضمّن الآية تحذيراً للمرأة بأنّه لا ينبغي أن تسيء الاستفادة من هذه الحريّة، بل تتقدّم إلى اختيار الزوج الجديد بخطّوات مدروسة واُسلوب لائق (بالمعروف).

وحسب ما وصلنا من أئمّة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنَّ أن يتزينَّ مطلقاً، بل ينبغي التجرّد من كلّ زينة، ولاشكّ أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدّة توجب ذلك أيضاً.

لقد حرّر الإسلام المرأة من الخرافات الجاهليّة واقتصر على هذه العدّة القصيرة بحيث ظنَّ بعضهم أنّ لها أن تتزوّج حتّى خلال هذه الفترة، ومن ذلك أنّ امرأة قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تستجيزه أن تكتحل وهي في العدّة فنهاها رسول الله وذكّرها بما كان يفرض على المرأة في الجاهليّة خلال سنة كاملة بعد الوفاة من حداد شديد وإرهاق فظيع مشيراً إلى سماحة الإسلام في هذا الأمر(1)وإنّه ممّا يلفت النّظر أنّ الأحكام الإسلاميّة بشأن العدّة تأمر المرأة بإلتزام العدّة حتّى وإن لم يكن هناك أيّ احتمال بأن تكون حاملاً، حيث إنّ عدّتها لاتبدأ بتاريخ موت زوجها، بل بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها وإن يكن بعد شهور، وهذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الهدف من هذا التشريع هو الحفاظ على احترام الحياة الزوجيّة وحرمتها إضافهً إلى ما لهذا التشريع من أهميّة بالنّسبة لاحتمال حمل المرأة.


1 ـ المنار : ج 2 ص 422.

[184]

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمّة للنّساء في العدّة (بمناسبة البحث عن عدّة الوفاة في الآيات السّابقة) فتقول : (ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنّكم ستذكرونهنَّ ولكن لا تواعدوهنَّ سرّاً إلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً).

فهذه الآية تبيح للرّجال أن يخطبوا النّساء اللّواتي في عدّة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النّفس (أو أكننتم في أنفسكم) وهذا الحكم في الواقع من أجل الحفاظ على حريم الزّواج السّابق من جهة، وكذلك لايحرم الأرملة من حقّها في تعيين مصيرها من جهة اُخرى، فهذا الحكم يُراعي العدالة وكذلك حفظ احترام الطّرفين.

ومن الطّبيعي أن تفكّر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرّجال بالزّواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزّواج بالأرامل، ولكن من جهة لابدّ من حفظ حريم دائرة الزّوجيّة السّابقة كما ورد من الحكم آنفاً يدلّ بوضوح على رعاية كلّ هذه المسائل المذكورة، ونفهم من عبارة (ولكن لا تواعدوهنّ سرّاً) أنّه مضافاًإلى النهي عن الخطبة العلنيّة فإنّه لايجوز كذلك أن تصارحوهنّ بالخطبة سرّاً أيضاً إلاّ إذا كان الكلام بهذا الشأن يتّفق مع الآداب الإجتماعيّة في موضوع موت الزّوج، أي أن يكون الكلام بالكناية وبشكل مبطّن.

وعبارة (عرّضتم) من مادّة (التّعريض) والتي تعني كما يقول الرّاغب في المفردات : الحديث الّذي يُحتمل معنيين الصدق والكذب أو الظّاهر والباطن.

وعلى قول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ التّعريض ضدالتصريح، وهو في الأصل من مادّة (عرض) الذي هو بمعنى جانب الشيء(1).


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2، ص 338.

[185]

ويضرب أئمة الإسلام في تفسير هذه الآية بشأن الخطبة الخفيّة أو القول المعروف كما يقول القرآن أمثلة عديدة، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)قال (يلقاها فيقول إنّي فيك راغب وإنّي للنّساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك)(1).

وقد ورد هذا المضمون أو ما يماثله في كلام كثير من الفقهاء والجدير بالذّكر أنّ الآية أعلاه على الرّغم من أنها وردت بعد الآية التي تذكر عدّة الوفاة، ولكنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ الحكم أعلاه لايختصّ بعدّة الوفاه بل يشمل غيرها أيضاً.

يقول المرحوم الفقيه والمحدّث المعروف صاحب الحدائق : (وقد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز التعريض بالخطبة لذات العدّة الرجعية لأنّها زوجة، فيجوز للمطلّقة ثلاثاً من الزوج وغيره، ولايجوز التصريح لها منه ولا من غيره، أمّا المطلّقة تسعاً للعدّة ينكحها بينها رجلان فلا يجوز التعريض لها من الزوج ويجوز من غيره، ولا يجوز التصريح في العدّة منه ولا من غيره.

أمّا العدّة البائنة فيجوز التعريض من الزوج وغيره والتصريح من الزوج دون غيره)(2).

وإذا أردتم التفصيل راجعوا الكتب الفقهية بالأخص كتاب الحدائق في استمرار هذا البحث.

ثمّ تضيف الآية (ولا تعزموا عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله) فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدّتها يقع العقد باطلاً، بل أنّه إذا أقدم على هذا العمل عالماً بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبداً.

وبعد ذلك تعقّب الآية : (واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا


1 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 232 ح 905.

2 ـ الحدائق : ج 24 ص 90.

[186]

أنّ الله غفور حليم).

وبهذا لابدّ أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع على أعمالكم ونيّاتكم وفي نفس الوقت لايؤاخذ المذنبين بسرعة.

جملة (لاتعزموا) من مادّة (عزم) بمعنى قصد، فعندما تقول الآية (ولا تعزموا عقده النّكاح) فهو في الواقع نهيٌ مؤكّد عن الإقدام العملي على عقد الزّواج ويعني التّحذير حتّى من نيّة وقصد هذا العمل في زمان العدّة.

* * *

[187]

الآيتان

لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ الِنّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَـاعَاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الُْمحْسِنِينَ (236) وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ أَو يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ أللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237)

التّفسير

كيفيّة أداء المهر :

في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام اُخرى للطّلاق أستمراراً للأبحاث السّابقة.

تقول الآية في البداية (لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء ما لم تمسّوهنّ(1) أو


1 ـ «مس»في اللغة بمعنى الملامسة،وهناكناية عن الجماع و«فريضة»بمعنى الواجب،وهناجاءت بمعنى المهر.

[188]

تفرضوا لهنّ فريضة) وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسيّة وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرّجل أو كلا الزّوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان إستمرار الحياة الزّوجيّة هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذّات، لأنّ الطّلاق في المراحل اللاّحقة سيكون أصعب.

وعلى كلّ حال فهذا التعبير في الآية جوابٌ على من يتصوّر أنّ الطّلاق قبل المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحاً، فالقرآن يقول أنّ هذا الطّلاق صحيح ولا إثم عليه (وقد يمنع من كثير من المفاسد).

وذهب البعض أن (جناح) في هذه الآية بمعنى (المهر) الّذي يثقل على الزّوج، يعني أنّ الرّجل حين الطّلاق وقبل المقاربة الزوجيّة وتعيين المهر ليس مكلّفاً بدفع أي شيء بعنوان المهر إلى المرأة، وبالرّغم من أنّ بعض المفسّرين(1) أورد كلاماً طويلاً حول هذا التفسير، ولكن استعمال كلمة «جناح» بمعنى المهر يعتبر غريباً وغير مأنوس.

واحتمل آخرون أنّ معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة الجنسيّة في جميع الأحوال (سواء كانت في العادة الشهريّة أو لم تكن) والحال أنّ الطّلاق بعد المواقعة الجنسيّة يجب أن يكون في الزّمان الطّهر الّذي لم يواقعها فيه حتماً(2)، ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً لأنّه لا ينسجم مع جملة (أو تفرضوا لهنّ فريضة).

ثمّ تبيّن الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول : (ومتّعوهنّ) أي يجب أن تمنح المرأة هديّة تناسب شؤونها فيما لو جرى الطّلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار قدرة الزّوج الماليّة في هذه الهديّة،


1 ـ تفسير الكبير : ج 6 ص 137.

2 ـ المصدر السابق.

[189]

ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين).

(الموسع) بمعنى المقتدر والثّري و (المقتر) بمعنى الفقير (من مادّة قتر وكذلك وردت بمعنى البخل أيضاً) كقوله تعالى (وكان الإنسان قتورا)(1).