![]() |
![]() |
![]() |
يمكن الإستنتاج من (أُوتوا نصيباً من الكتاب) أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملاً، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حُرِّف.
هذه الآية تؤيّدها آيات أُخرى في القرآن، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه.
وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري.
كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء الله» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة المائدة قولهم : (نحن أبناء الله وأحبّاؤه). وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلاَّ لأيّام معدودات : (قالوا لن تمسّنا النار إلاَّ أيّاماً معدودات).
ولعلّ القصد من «الأيام المعدودات» هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى (عليه السلام)، وكان هذا ذنباً لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره.
أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم إرتكبوا فيها ذنوباً كبيرة غير قابلة للإنكار، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها.
هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها (وغرّهم
في دينهم ما كانوا يفترون).
وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول : لاشكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون).
يتّضح من (ما كسبت) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو، ولا يؤثّر فيه شيء آخر. هذه حقيقة أُشير إليها في كثير من الآيات الكريمة.
* * *
سؤالان
1 ـ أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو إفتراءاً وينسبه إلى الله، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود ؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم، وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال
السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها.
2 ـ يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد «بالعذاب لأيام معدودات» منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب.
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً. وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالإحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ إمتياز خاصّ للمسلمين، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً، بغضّ النظر عن عنصرها. أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الإمتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري. وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة : (بل أنتم بشر ممّن خلق).
* * *
قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (26) تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغْيْرِ حِسَاب (27)
يذكر المفسّر المعروف «الطبرسي» في «مجمع البيان» سببين لنزول هاتين الآيتين يتناولان حقيقة واحدة.
1 ـ عندما فتحت مكّة، بشّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بأنّ دولة الفرس ودولة الروم سرعان ما ستنضويان تحت لواء الإسلام. غير أنّ المنافقين الذين لم تكن قلوبهم قد استنارت بنور الإيمان ولم يدركوا روح الإسلام، اعتبروا ذلك مبالغة، وقالوا بدهشة : لم يقنع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة ومكّة، وهو يطمع الآن بفتح فارس والروم، فنزلت الآية المذكورة.
2 ـ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون مشغولون بحفر الخندق في أطراف المدينة،وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجدّ لكي ينجزوا هذا الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء. وفجأةً ظهرت صخرة كبيرة بيضاء صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن كسرها أو تحريكها. فجاء «سلمان» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض عليه الأمر. فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخندق وتناول المعوَل من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة، فانبعث منها الشرر، فصاح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)مكبّراً تكبيرة الإنتصار، فردّد المسلمون التكبير وراح صوتهم يدوّي في كلّ مكان. ومرّة أُخرى أنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مِعوَله على الصخرة، فانبعث الشرر وكسرت قطعة منها، وارتفع صوت تكبير الإنتصار من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين بعده. وللمرّة الثالثة ارتفع مِعوَل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل على الصخرة، وللمرّة الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها، وتحطّمت الصخرة، وارتفع صوت التكبير بين جنبات الخندق.
فقال سلمان : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت منك قط. فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القوم وقال : رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله. قال : ضربت ضربتي الأُولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أنّ أُمّتي ظاهرة عليها، ثمّ ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرئيل أن أُمّتي ظاهرة عليها. فابشروا، فاستبشر المسلمون وحمدوا الله. أمّا المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض : أمل باطل ووعد مستحيل ! هؤلاء يحفرون الخنادق خوفاً على أرواحهم من جيش صغير يخشون
مواجهته، ثمّ يحلمون فتح أعظم دول العالم. وعندئذ نزلت الآيات المذكورة.
دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى : (قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء).
إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأُمور، (وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير).
ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً. وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.
(بيدك الخير).
«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.
وعبارة (بيدك الخير) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين :
1 ـ الألف واللام في «الخير» هما للإستغراق.
2 ـ أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى : «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».
كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل، ولا شرّ فيه. فالخير للاشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً.
وبعبارة اُخرى : أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً.
(إنّك على كلّ شيء قدير).
هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته.
1 ـ إرشاد المفيد : نقلاً عن تفسير الميزان.
ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة، أو أنّها تقتصر على حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أنهت حكم جبّاري قريش.
ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الإستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظَلَمة وطغاة ـ مثل جنكيز ويزيد وفرعون ـ باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل : كيفما كنتم يولّى عليكم.
ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.
في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين.
خلاصة القول : إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الإختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.
في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية :
1 ـ (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...).
وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار، بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة، وهو
ما عُبّر عنه بدخوله في النهار، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة، وهو دخول وولوج النهار في الليل. وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض، كلّها من علائم قدرته المطلقة.
* * *
«الولوج» بمعنى الدخول. والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة. هذا التغيير ناشىء عن إنحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها. لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الإستواء تطول أيّامه تدريجياً، وتقصر لياليه تدريجياً، حتّى أوائل الصيف، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء. أمّا في جنوب خطّ الإستواء فالتناظر يكون معكوساً.
وبناءاً على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، دائماً، أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.
قد يقول قائل إنّ الليل والنهار في خطّ الإستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما، فالليل والنهار في خطّ الإستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما إثنتي عشرة ساعة على إمتداد السنة، وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار، لذلك فإنّ الآية ليست عامّة.
في الجواب على هذا التساؤل نقول : إنّ خطّ الإستواء الحقيقي خطّ وهمي، والناس عادةً يعيشون على طرفي الخط. كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان، وسكّان القطبين ـ إن كان فيهما سكّان ـ يعيشون في مناطق أوسع طبعاً
من نقطة القطب الحقيقية، وعليه فالإختلاف موجود في كلّ الحالات.
وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر، وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأةً في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات «الجو» حولها. فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر، ويبدأ الليل من حمرة الأُفق الغربي والغسق، ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء.
إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار ـ بأيّ معنى كان ـ آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأُخرى على الأرض. لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة. فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحرارتها، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها. ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة، فإنّ حاجتها هذه تلّبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة.
فلو كان الليل والنهار كما هو دائماً، لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس، ولخسر إلإنسان فوائد ذلك.
كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الإعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي، لا فجائي، وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما، فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض، لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء، وبذلك تتطابق قِواهم الجسمية وحياتهم الإجتماعية مع هذا التغيير ، وإلاَّ حدثت حتماً مشاكل لهم.
2 ـ (وتُخرِجُ الحيَّ مِن الميِّت وتُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيّ).
إنّ معنى خروج «الحيّ» من «الميّت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة
الحياة. فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت كائنات حيّة من كائنات عديمة الحياة. أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح باستمرار أجزاءً من خلايانا الحيّة وخلايا جميع الكائنات الحيّة في العالم، وتتبدّل إلى مواد حيّة.
أمّا خروج «الميّت» من «الحيّ» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.
إنّ الآية ـ في الواقع ـ إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.
لهذه الآية تفسير آخر أيضاً ـ لا يتعارض مع التفسير السابق ـ وهو مسألة الحياة والموت المعنويّين. فنحن كثيراً ما نرى أنّ بعض المؤمنين ـ وهم الاحياء الحقيقيّون ـ يخرجون من بعض الكافرين ـ وهم الأموات الحقيقيّون ـ . وقد يحدث العكس، حين يخرج الكفار من المؤمن.
إنّ القرآن يعبّر عن الحياة والموت المعنويّين بالإيمان والكفر في كثير من آياته.
وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة. فالإنسان يتميّز بحرّية الارادة وليس مثل الكائنات غير الحيّة في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعاً إجبارياً. وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس أبناء الكافرين ـ أُولئك الذين يريدون حقّاً أن يكونوا مؤمنين ـ ويغسل آثار الإيمان من أبناء المؤمنين ـ الذين يريدون حقّاً أن يكونوا كافرين ـ . وهذا الاستقلال في الإرادة، القادر على الإنتصار، حتّى في ظروف غير مؤاتية، من مظاهر قدرة الله أيضاً.
هذا المعنى يرد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في تفسير «الدرّ
المنثور» عن سلمان الفارسي أنّه قال : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسّر الآية (يخرج الحي من الميّت...) فقال : أي أنّه يخرج المؤمن من صلب الكافر، والكافر من صلب المؤمن.
3 ـ (وترزق من تشاء بغير حساب).
هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص»، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النِعم على وجه العموم، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنِعم أيضاً.
وتعبير (بغير حساب) يشير إلى أنّ بحر النِعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئاً، لئلاّ تتبدّد ثرواتهم. أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده، ولا أحد يحاسبه، ولا حاجه له بالحساب.
يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة.
4 ـ ليس في الأمر إجبار
وهنا يُطرح سؤال آخر وهو : إننا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء، فكيف تقول هذه الآية أنّ كلّ هذه الأُمور بيد الله ؟
في الجواب نقول : إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس
لبلوغ العزّة والسعادة. وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة. وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأُمور إليه، وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر، لأنّ الإنسان هو الذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفاً صحيحاً أو خاطئاً.
* * *
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَىْء إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28)
ذكرت الآيات السابقة أن العزّة والذلّة وجميع الخيرات بيد الله تعالى. وبهذه المناسبة فإن هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدّة من موالاة الكفّار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزّة والقدرة والثروة. فإنها جميعاً بيد الله عزّوجلّ. ولذلك تقول الآية :
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) ولو إرتكب أحد المؤمنين ذلك فإنه يقطع إرتباطه مع الله تماماً (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.
وهذه الآية درس سياسيّ وإجتماعيّ مهمّ للمسلمين، فتحذّرهم من إتّخاذ
الأجنبي صديقاً أو حامياً أو عوناً ورفيقاً، في أيّ عمل من أعمالهم، ومن الإنخداع
بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبّة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.
لو أنّنا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أنّ المستعمرين جاؤوا دائماً في لبوس الصداقة والترحّم وحبّ الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع.
إنّ كلمة «استعمار» التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع، فهم بعد أن يتمكّنوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمَر، يبدأون بامتصاص
دمائه بكلّ قسوة وبغير رحمة.
(من دون المؤمنين) إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الإجتماعية لابدّ لهم من إتّخاذ الأولياء والأصدقاء، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين، لا من بين الكافرين.
(ليس من الله في شيء).
تقول الآية : إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله، ليسوا من الله في أيّ شيء من الأشياء، أي أنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر الله وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحّدة، وانقطعت إرتباطاتهم من جميع الجهات.
(إلاَّ أن تتّقوا منهم تقاة).
هذا إستثناء من الحكم المذكور، وهو أنّه إذا اقتضت الظروف ـ التقية ـ فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم. ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول : (يحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير) فالله ينذر الناس أوّلاً بغضب منه وبعقاب شديد، ثمّ إنّ مرجع الناس جميعاً إلى الله. وإن تولّوا أعداء الله نالوا عاجلاً نتيجة أعمالهم.
* * *
صحيح أنّ الإنسان قد يضحّي حتّى بحياته من أجل هدف كبير ولصيانة الشرف ونصرة الحقّ وقمع الباطل، ولكن هل يجيز عاقل لنفسه أن تتعرّض للخطر دون أن يكون أمامه هدف هام ؟
الإسلام يجيز الإنسان صراحة أن يمتنع عن إعلان الحقّ مؤقّتاً وأن يؤدّي واجبه في الخفاء حين يعرضه ذلك لخطر في النفس والمال والعرض وحين لا يكون للإعلان نتيجه مهمّة وفائدة كبيرة. كما جاء في هذه الآية، وكما جاء في الآية 106 من سورة النحل حيث يقول : (إلاَّ من أُكره وقلبه مطمئّن بالإيمان).
إن كتب التاريخ والحديث الإسلامي مازالت تحفظ حكاية «عمّار» وأبيه وأُمّه إذ وقعوا في قبضة عبدة الأصنام الذين راحوا يعذّبونهم لكي يرتدّوا عن الإسلام. فرفض والدا عمّار ذلك فقتلهما المشركون. غير أنّ عمّاراً قال بلسانه ما أرادوا أن يقوله، ثمّ هرع باكياً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفاً من الله، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن عادوا لك فعد لهم» أي إذا قبضوا عليك مرّة أُخرى وطلبوا منك أن تقول شيئاً فقله، وبهذا هدأ روعه وزال عنه خوفه.
لابدّ من الإشارة إلى أنّ حكم التقية يختلف باختلاف الظروف، فهي قد تكون واجبة، وقد تكون حراماً، وقد تكون مباحة.
تجب التقية حيثما تتعرّض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر. أمّا إذا كانت التقية سبباً في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظالم فهي هنا حرام.
وهذا جواب لجميع الإعتراضات التي ترد بهذا الشأن. لو أنّ المعترضين دقّقوا في البحث لأدركوا أنّ الشيعة ليسوا منفردين بهذا الاعتقاد، بل أنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية.
فجميع عقلاء العالم ـ حين يرون أنفسهم أمام طريقين : إمّا الإعلان عن عقيدتهم والمخاطرة بالنفس والمال والكرامة، أو إخفاء معتقداتهم ـ يمعنون النظر في الظروف القائمة. فإن كان الإعلان عن العقيدة يستحقّ كلّ هذه التضحية بالنفس والمال والكرامة اعتبروا إعلانها عملاً صحيحاً، وإن لم يكن للإعلان نتيجة تذكر تركوا ذلك.
في تاريخ النضالات الدينية والإجتماعية والسياسية حالات إذا أراد فيها المدافعون عن الحقّ أن يناضلوا علانية، فإنّهم يتعرّضون للإبادة هم ومبادؤهم أو يواجهون الخطر على الأقلّ، مثل الحالة التي مرّ بها شيعة علي (عليه السلام) على عهد بني أُمية. في مثل هذه الحالة يكون الطريق الصحيح والمعقول هو أن لا يبدّدوا قواهم، وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر في الخفاء. التقية في مثل هذه الحالات أشبه بتغيير أُسلوب النضال الذي يجنّبهم الفناء ويحقّق لهم النصر في الكفاح. إنّ الذين يرفضون التقية كلّية ويفتون ببطلانها لا ندري ما الذي يقترحونه في مثل هذه الحالات ؟ أيرون الفناء خيراً، أم استمرار النضال بشكل صحيح ومنطقي ؟ هذاالطريق الثاني هو ا لتقية، وأمّا الطريق الأوّل فليس بمقدور أحد أن يجيزه.
ويتضح ممّا تقدّم أن التقية هي أصل قرآني مسلّم، ولكنّها تكون مشروعة في موارد معينة ووفق ضوابط خاصّة. وما نرى من بعض الجهلاء أنّهم تصوّروا أن التقية من إختلاقات أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فهو دليل على عدم اطلاعهم على القرآن بصورة كافية.
* * *
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (29)
نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهياً شديداً، واستثنت من ذلك حالة «التقية».
إلاَّ أنّ بعضهم قد يتّخذ من «التقية» في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اُخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتّخذونها مبرّراً لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالِم بما ظهر وما خفي وتقول (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) ولا يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل : (ويعلم ما في السّماوات والأرض).
في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية،
تشير إلى أنّ معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين : (والله على كلّ شيء قدير).
* * *
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسِ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ (30)
تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كلّ امريء ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها (تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.
«الأمد» في اللغة الزمان المحدود، و «الأبد» اللامحدود، والأمد يقصد من استعماله غالباً انتهاء الزمان، وإن استعمل أحياناً أيضاً في مطلق الزمان المحدود.
بناءاً على ذلك، فإنّ المذنبين ـ كما تقول الآية ـ يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلاً، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البُعد الزماني أبلغ فى التعبير عن هذا الإستياء من طلب البُعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماماً في الفاصل الزماني.
فإذا عاش أحد ـ مثلاً ـ في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والإضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.
هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البُعد المكاني أيضاً (كما ورد في مجمع البيان نقلاً عن بعض المفسّرين)، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.
(ويحذّركم الله نفسه واللهُ رؤوفٌ بالعباد).
في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني (والله رؤوف بالعباد) توكيداً للجزء الأوّل (ويحذّركم الله نفسه)، وهذا أشبه بمن يقول لك : إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك.
هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة
«تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم. أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.
بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.
ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد» عمله. وتقول : إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله» القبيح فواصل مديدة. فهنا «العمل» نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجلّ الأعمال، ولا الثواب والعقاب.
![]() |
![]() |
![]() |