[229]

تضيف الآية : (وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء) الضّمير في هاتين الجملتين يعود على داود الفاتح في هذه الحرب، وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان (عليهما السلام) ولكنّ جملة (وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء) تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة، لأنّ هذا ممّا يوصف به الأنبياء عادةً، ففي الآية 20 من سورة ص نقرأ عن داود (وشددنا ملكه وآتيناه الحكم) كما أنّ الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنّه كان داود النبي نفسه.

وهذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داود (عليه السلام) يحتاج إليها في حكومته العظيمة، لأنّ الله تعالى لا يُعطي منصباً ومقاماً لأحد العباد إلاّ ويؤتيه أيضاً الاستعداد الكامل والقابليّة اللاّزمة لذلك.

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلّي فتقول : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين).

فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشرّي الفساد وسرايته إلى المجتمع البشري قاطبة.

وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والإختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والإندثار بسبب طغيان الطّواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد...).

وهذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الّذين يقفون في مواقع أماميّة من مواجهة الطّواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم.

[230]

ويرد هنا سؤال، وهو أنّ هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر أحد الأركان الأربعة لفرضية داروِن في مسألة تكامل الأنواع ؟ تقول الفرضيّة أنّ الحرب والنّزاع ضروريٌّ بين البشر، وإلاّ فالسّكون والفساد سيعم الجميع، فتعود الأجيال البشريّة إلى حالتها الاُولى، فالتّنازع والصّراع الدائمي يؤدّي إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم، وهكذا يتمّ البقاء للأصلح بزعمهم.

الجواب :

إنّ هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماماً، وكذلك الآية المشابهة لها في سورة الحجّ ولكنّنا إذا اخذنا بنظر الإعتبار هذه الآيات رأيناها تدور حوّل محاربة الظّالمين والطّغاة، فلولا منع الله تبارك وتعالى لملؤوا الأرض ظلماً وجوراً، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلاً كليّاً مقدّساً في حياة البشريّة.

ثمّ أنّ ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادىء الأربعة لنظريّة داروِن في (تطوّر الأنواع) ليست قانوناً علميّاً مسلّماً، به بل هو فرضيّة أبطلها العلماء، وحتّى الّذين كانوا يؤيّدون نظريّة تكامل الأنواع لم يعد أيّاً منهم يعوّل عليها ويعتبرون تطوّر الأحياء نتيجة الطفرة(1).

وإذا ما تجاوزنا عن كلّ ذلك واعتبرنا فرضيّة تنازع البقاء مبدءً علميّاً فإنّه يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلّق بالحيوان دون الإنسان، لأنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبداً، لأنّ تكامل الإنسان يتحقّق في ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

ويبدو أنّ تعميم فرضيّة تنازع البقاء على عالم الإنسان انّما هو ضربٌ من الفكر الاستعماري الّذي يؤكّده بعض علماء الإجتماع في الدول الرأسمالية لتسويغ حروب حكوماتهم الدمويّة البغيضة وإطفاء الطّابع العلمي على سلوكياتهم


1 ـ لمزيد من الإطلاع راجع الكتاب «الفرضية الأخيرة في التكامل».

[231]

وجعل الحرب والنزاع ناموساً طبيعياً لتطوّر المجتمعات الإنسانية وتقدّمها، أمّا الأشخاص الّذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللاّإنسانيّة وراحوا يطبّقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن، لأنّ القرآن يقول بكلّ صراحة : (يا أيّها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة)(1).

ومن العجب أنّ بعض المفسّرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك (المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضيّة إلى الحدّ الذي اعتبروها أحد السنن الإلهيّة، ففسّروا بها الآية محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضيّة من إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات داروِن، ولكن كما قلنا أنّ الآية المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضيّة، ولا أنّ هذه الفرضيّة لها أساس علمي متين، بل أنّ الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لاتنازع البقاء.

وآخر آية في هذا البحث تقول : (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين).

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلاَّ منها دليلاً على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن كلّ خرافة واُسطورة (بالحقّ) حيث نزلت على نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله.

* * *


1 ـ البقرة : 208.

[232]

الجزء الثالث من القُرآن الكريم

من الآية 253

من سورة البقرة

[233]

الآية

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـات وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَـتِ وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

التّفسير

دور الأنبياء في حياة البشر :

هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم فيى حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية : (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض).

«تلك» اسم إشارة للبعيد. والإشارة إلى البعيد ـ كما نعلم ـ تستعمل أحياناً لإضفاء الإحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه، هنا أيضاً أُشير إلى الرسل باسم الإشارة «تلك» لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.

واختلف المفسّرون في المقصود بالرسل هنا، هل هم جميع الرسل والأنبياء ؟

[234]

أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات هذه السورة فقط، مثل إبراهيم، موسى، عيسى، داود، اشموئيل ؟ أم هم جميع الرسل الذين ذكرهم القرآن حتّى نزول هذه الآية ؟

ولكن يبدو أنّ المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعاً، لأنّ كلمة «الرسل» جمع حلّيَ بالألف واللام الدالّتين على الإستغراق، فتشمل الرسل كافّة.

(فضّلنا بعضَهم على بعض).

يتّضح جليّاً من هذه الآية أنّ الأنبياء ـ وإن كانوا من حيث النبوّة والرسالة متماثلين ـ هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لإختلاف مهمّاتهم، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضاً.

(منهم من كلّم اللهُ).

هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى (عليه السلام)المعروف باسم «كليم الله»، كما أنّ الآية 163 من سوره النساء تقول عنه (وكلّم الله مُوسى تكليماً).

أمّا القول بأنّ المقصود هو نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ التكليم المنظور هنا هو التكليم الذي كان في ليله المعراج مع الرسول، أو أنّ المراد هو الوحي الإلهي الذي ورد في آية 51 من سورة الشورى (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحي...)حيث اُطلق عليه عنوان التكلّم، فإنّه بعيد جدّاً، لأنّ الوحي كان شاملاً لجميع الأنبياء، فلا يتلائم مع كلمة «منهم» لأنّ (من) تعبضيّة.

ثمّ تضيف الآية (ورفع بعضهم درجات)

ومع الإلتفات إلاّ أنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدّرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معيّنين وعلى

[235]

رأسهم نبيّ الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها، فمن تكون رسالته الابلاغ أكمل الأديان لابدّ أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين، خاصّةً وأنّ القرآن يقول فيه في الآية 41 من سورة النّساء (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)(1).

والشاهد الآخر على هذا الموضوع، وهو أنّ الآية السابقة تشير إلى فضيلة موسى (عليه السلام)، والآية التالية تبيّن فضيلة عيسى (عليه السلام)، فالمقام يتطلّب الإشارة إلى فضيلة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم. فإذاكان اسم نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء بين اسميهما، فلا عجب في ذلك، أوَليس دينه الحدّ الوسط بين دينيهما وأنّ كلّ شيء قد جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة ؟ ألا يقول القرآن : (وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً)(2) !

ومع ذلك، فإنّ العبارات المتقدّمة في هذه الآية تدلّ على أنّ المقصود من (رفع بعضهم درجات) هم بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية : (ولو شاءَاللهُ ما اقتتل الذين من بعدهم) أي لو شاء الله ما أخذت اُمم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعدرحيل أنبيائها.

(وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس).

أي أنّنا وهبنا عيسى (عليه السلام) براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينيّة الساميّة.

أمّا المراد من (روح القدس) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي، أو قوى اُخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله ؟ تقدّم البحث مشروحاً في الآية 87 من سورة البقرة، وعندما تؤكّد هذه الآية على أنّ عيسى (عليه السلام) كان مؤيّداً


1 ـ النساء : 41.

2 ـ البقرة : 143.

[236]

بروح القدس فلأنّه كان يتمتّع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الرّوح المقدّسة.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الاُمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والإختلافات التي جرت بينهم فتقول : (ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات) فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الإختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهيّة أن جعل الله الإنسان حرّاً ولكنّه أساء الإستفادة من هذه الحريّة (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر).

ومن الواضح أنّ هذا الإختلاف بين الناس ناشىءٌ من اتّباع الأهواء والشّهوات وإلاّ فليس هناك أيّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيّين حيث كانوا يتّبعون هدفاً واحداً.

ثمّ تؤكّد الآية أنّ الله تعالى قادرٌ على منع الإختلافات بين النّاس بالإرادة التكوينيّة وبالجبر، ولكنّه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان ولذلك تركه مختاراً (ولو شاء الله ما أقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يريد).

ولا شكّ في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحريّة، ولكنّ وجود الحريّة في المجموع يُعتبر ضروريّاً لتكامل الإنسان، لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملاً.

وضمناً يُستفاد من هذه الآية الّتي تعرّضت إلى مسألة الجبر مرّة اُخرى بطلان الإعتقاد بالجبر،حيث تثبت أنّ الله تعالى ترك الإنسان حرّاً فبعضٌ آمن وبعضٌ كفر.

* * *

مسألة :

هل الأديان تسبّب الإختلافات ؟

يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من

[237]

الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لابدّ من الإنتباه إلى ما يلي :

أولاً : أنّ الإختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعاً بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانياً : إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعاً وانتشرت في مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الإقتصادية والسياسية، وفي أيّام اُخرى بقوالب ومسمّيات أُخرى ؟ ! وعليه فالدِين لا ذنب له في هذا، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ثالثاً : إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سبباً في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعاً : أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة،وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على

[238]

الظالمين والمستغلّين، من أمثال فرعون والنمرود. إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهاداً في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوباً تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها. إنّ حروب رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أُخرى، كانت كلّها من هذا القبيل.

* * *

[239]

الآية

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـاعَةٌ وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ (254)

التّفسير

الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة :

بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة عن الاُمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والإختلافات الّتي حدثت بعد الأنبياء (عليهم السلام) تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمّة عليهم الّتي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول : (يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم).

جملة (ممّا رزقناكم) لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب، وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لايبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان

[240]

الحكومة، وبهذه المناسبة يشير تعبير (ممّا) أنّ هذا الإنفاق يكون بجزء من المال الّذي يملكه الشخص لا كلّه.

وقد رجّح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شموليّة الآية للإنفاق الواجب والمستحب، وذهب إلى أنّ ذيل الآية لا يُعتبر تهديداً، بل هو إخبار عن الحوادث المخوفة يوم القيامة(1).

ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية الّتي تقول إنّ الكافرين هم الظالمون يتضح أنّ ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق الواجب.

ثمّ تضيف الآية (من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة)(2).

عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك، لأنّ العالم الآخر الذي هو محلّ حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئاً، فلا معاملات ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب، ولا هذه الصداقات المادّية التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك، لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين، ولا تنفعكم شفاعة، لأنكم بتخلّفكم حتّى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير بأن يشفع لكم. وعليه فإنّ جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.

(والكافرون هم الظالمون) لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.

ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضّح ما يلي :


1 ـ مجمع البيان : ج 1 و ج 2 ص 360.

2 ـ «خُلّة» مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أن المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا اُطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.

[241]

أولاً : إنّ الكافرين يظلمون أنفسهم، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات، وأنّ أعمالهم هذه هي التي تثقل كواهلهم في العالم الآخر، لذلك فإنّ الله لم يظلمهم أبداً.

ثانياً : يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضاً، لأنّ الكفر منبع القسوة وتحجّر القلب والتمسّك بالمادة وعبادة الدنيا، وهذه كلّها من مصادر الظلم، لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكفر في الآية يعني التمرّد والعصيان والتخلّف عن إطاعة أمر الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق. واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن وغيره من النصوص الإسلامية.

* * *

[242]

الآية

اللهُ لاَ إِلَـهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىء مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَيَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)

آية الكرسي من أهم آيات القرآن :

يكفي لبيان أهميّة وفضيلة هذه الآية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله (اُبي بن كعب) : أي آية من آيات كتاب الله أفضل ؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم. قال : فضرب يده في صدري ثمّ قال : ليهنك العلم، والذي نفس محمّد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين يقدس الملك لله عن ساق العرض.

وفي حديث آخر عن عليّ (عليه السلام) عن رسول الله قال : سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة، وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف

[243]

مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إن لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي.(1)

والروايات الواردة في كتب العلماء الشيعة والسّنة في فضيلة هذه الآيات الشريفة كثيرة جدّاً ونختتم كلامنا هذا بروايتين عن رسول الله قال : اُعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرض ولم يؤتها نبيٍّ كان قبلي(2).

وفي حديث آخر أنّ أخوين جاء إلى رسول الله فقالا نريد الشام في التّجارة فعلمنا ما نقول ؟ فقال : نعم، إذا آويتما إلى منزل، فصليا العشاء الآخرة، فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة، فليسبّح تسبيح فاطمة، ثمّ ليقرأ آية الكرسي فإنه محفوظ من كلا شيء حتّى يصبح. وجاء في ذيل الحديث أن لصوصاً تبعوهما وسعوا في سرقة ما معهما إلاّ أنهم لم يفلحوا في ذلك(3).

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الأهميّة والفضيلة لآية الكرسي إنّما هي للمحتوى العميق والمغزى المهم لها والّذي سوف نلحظه ضمن تفسيرها.

التّفسير

مجموعة من صفات الجمال والجلال :

تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصّفات العُليا لله عزّوجلّ فتقول : (الله لا إله إلاّ هو).

(الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود،


1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 260.

2 ـ تفسير البرهان : ج 2 ص 245، بحار الأنوار : ج 89 ص 264، ج 7 (باب فضائل سورة يذكر فيها البقرة وآية الكرسي) ولأجل الإطلاع أكثر راجع بحار الأنوار : ج 89 ص 262 ـ 272.

3 ـ بحار الأنوار : ج 89 ص 266 باب فضائل سورة البقرة ح 11 (بتلخيص).

[244]

لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره.

وبعبارة (لا إله إلاَّ الله) يبيّن القرآن وحدانيه خالق الوجود التي هي أساس الإسلام، ولكن هذه الحقيقة ـ كما قلنا ـ موجودة في لفظة «الله».

لذلك فإنّ (لا إله إلاّ هو) تأكيد لتلك الحقيقة نفسها.

«الحي» من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة، كمثيلاتها تدلّ على الدوام والإستمرار. وحياة الله حياة حقيقية، لأنّ حياته عين ذاته، وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره. في الآية 58 من سورة الفرقان يقول : (وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت).

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت، وعليه فإنّ الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد، أمّا حياة الإنسان التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية، لذلك نقرأ في الآية 64 من سورة العنكبوت : (وما هذهِ الحياةُ الدنياإلاَّ لهوٌ ولَعِبٌ وَ أنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحَيوان).وعلى ذلك فإنّ الحياة الحقيقية هي التي تختصّ بالله.

ولكن ما مفهوم «اللهُ حيُّ» ؟

في التعبير السائد نقول للكائن أنّه حيٌّ إذا كان يتّصف بالنموّ والتغذية والتكاثر والجذب والدفع، وقد يتّصف بالحسّ والحركة. ولكن لابدّ من الإنتباه إلى أنّ بعضاً من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات. هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفه الله، حين يقيس صفات الله بصفاته.

«الحياة» بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة، وعليه فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة.

[245]

حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ. أمّا النموّ والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة، أمّا الذي لا نقص فيه فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات.

«القيوم» صيغة مبالغة من القيام. لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كلّ الكائنات بوجوده، وبعباره أُخرى : جميع كائنات العالم تستند إليه.

بديهيّ أنّ القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة المعروفة، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها، ولن يغفل عنها لحظة واحدة، فهو قائم دائماً وأبداً وباستمرار دون توقّف.

ويتّضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كلَّ صفات الفعل ـ وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات مثل الخالق، الرزاق، الهادي، المحيي، وأمثالها ـ .

فالقيام بالخلق وتدبير أُمور العالم يشمل كلّ هذه الأُمور، فهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يهدي. وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في «القيّوم».

ومن هنا يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام، في حين أنّه مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك، لأنّ مفهومه كما قلنا يُعطي معنى القائم بالذّات وغيره متقوّم به ومحتاج له.

[246]

وفي الحقيقة أنّ (الحيّ) يشمل جميع الصّفات الإلهيّة كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك، و (القيّوم) تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الإسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين.

ثمّ تضيف الآية (لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم).

(سنةٌ) من مادّة (وَسَنَ) وتعني كما يقول كثير من المفسّرين أنّها الإغفاءة والإسترخاء الّذي يكون في بداية النوم، وبعبارة اُخرى أنّه النّوم الخفيف، و (نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمّة، وفي الواقع أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين، ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم) وجملة (لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم) هي في الواقع تأكيدٌ لصفة القيّوم التي يوصف بها الله، لأنّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة. أي إنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته.

لذلك فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائياً، بل انّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله، مثل «السِنَة».

أمّا سبب تقديم «السِنَة» على «النوم» في الآية مع أنّ القويّ يُذكر عادة قبل الضعيف، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم، إذ تنتاب المرء «السِنَة» أوّلاً ثمّ تزداد عمقاً حتّى تورده في النوم العميق.

وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي ودميومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر.

يلاحظ أنّ تعبير (لا تأخذه) تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة، وهو يصوّر

[247]

استيلاء النوم على الإنسان تصويراً مجسّداً، وكأنّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه.

مالكية الله المطلقة

(له ما في السماوات وما في الأرض).

لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملك خاصّ لله، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه.

وعليه، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه، بل أنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي، لذلك فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الإلتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي، وإلاَّ فإنّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز.

الشروط المطلوبة للتصرّف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت للناس.

من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملاً مهمّاً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والإحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة(1).

(من ذا الذي يشفعُ عنده إلاَّ بإذنه) وهذا في الواقع ردّ على ادّعاء المشركين


1 ـ شرحنا معنى الاحلام في سورة يوسف شرحاً وافياً.

[248]

الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية 3 من سورة الزمر (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)(1).

وهذه الآية من نوع الإستفهام الإستنكاري، أي ما من أحد يتقدّم بشفاعة إليه بإذنه. هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيّومية الله ومالكيّته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود. أي أننا إذا رأينا أحداً يشفع عند الله، فليس معنى ذلك أنّه يملك شيئاً وأنّ له تأثيراً مستقّلاً، بل أنّ مقامه في الشفاعة هبة من الله. ولمّا كانت شفاعته بإذن الله، فإنّ هذا بذاته دليل آخر على قيّومية الله ومالكيّته.

* * *

بحث

الشفاعة ليست محسوبية :

«الشفاعة»(2) هي العون الذي يقدّمه قويّ لضعيف لكي يساعده على اجتياز مراحل تكامله بسهولة ونجاح.

إلاَّ أنّ الكلمة تستعمل عادةً في التوسّط لغفران الذنوب. غير أنّ مفهوم الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم الوجود، على سبيل المثال التربة والماء والهواء وأشعة الشمس هي العوامل الأربعة التي تشفع لبذرة النبات وتعينها على الوصول إلى مرحله النضج لتصبح شجرة أو نبتة متكاملة. ولو نظرنا إلى الشفاعة في الآية الكريمة بهذا المعنى الواسع أدركنا أنّ وجود العوامل والأسباب المختلفة لا يحدّد مالكيّة الله المطلقة ولا يقلّل منها، لأنّ تأثير هذه العوامل كافّة لا يكون إلاَّ بإذن الله وأمره، وهذا أيضاً


1 ـ وردت «ما» في جملة (ما في السموات وما في الأرض) للموجودات غير العاقلة، ومع أن الموجودات العاقلة أيضاً مملوكة لله سبحانه جاءت «ما» للتغليب لأن الغلبة الأكثرية للموجودات غير العاقلة.

2 ـ تحدّثنا عن الشفاعة في المجلد الأول الآية (48) من سورة البقرة بصورة مفصلة.

[249]

دليل على قيّوميته ومالكيّته.

بيدَ أنّ بعضهم يظنّ أنّ الشفاعة في المفاهيم الدينية تشبه التوصيات والمحسوبيات والمنسوبيات، وأنّ مفهومها العام هو السماح للإنسان أن يرتكب ما يشاء من المعاصي، ثمّ يتوسّل بالشفاعة لغفران ذنوبه كلّها بيسر وسهولة ! !

ولكن الأمر ليس كذلك، فلا المعترضون أدركوا شيئاً من منطق الدين في موضوع الشفاعة، ولا العاصون المتجرّئون على حدود الله فهموا ذلك. فالشفاعة التي يقوم بها بعض عباد الله المقرّبين يمكن اعتبارها ـ كما قلنا ـ شفاعة تكوينية تتحقّق بوساطة عوامل طبيعية، كما تتحقّق في بذرة النبات. وكما أنّ البذرة لاتنمو إن لم تكن فيها عوامل الحياة حتّى لو سطعت عليها الشمس وهبّت عليها الرياح وهطل عليها المطر الهتون سنوات طويلة، كذلك شفاعة أولياء الله لغير المؤهّلين، لن يكون لها أيّ أثر، أو قُل إنهم لايمكن أن يشفعوا لأمثال هؤلاء.

الشفاعة تستلزم نوعاً من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له. لذلك فإنّ على من يرجو الشفاعة أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقّع شفاعته. وهذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له بحيث إنّها تقرّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهّلاً لنيل تلك الشفاعة.