وعبارة (سل بني إسرائيل) في الحقيقة تستهدف كسب الإعتراف منهم بشأن النعم الإلهيّة، ثمّ التفكير بالسّبب الّذي أدّى بهم إلى الهاوية والتمزّق مع كلّ هذه الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكلّ مَن لا ينتفع بالمواهب الإلهيّة بصورة سليمة.

ولاتنحصر مسألة تبديل النّعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل، بل أنّ جميع الأقوام والشّعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي الشديد في الدنيا وفي الآخرة.

فالعالم المتطوّر صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهيّة للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجلّ بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاُخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كلّ ناحية.

(نعمة الله) في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهيّة وتبديلها يعني تحريفها، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كلّ الإمكانات والمواهب الإلهيّة، والمعنى الثاني أرجح.

* * *

[86]

الآيـة

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنوُاُْ وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب(212)

سبب النّزول

عن ابن عبّاس المفسّر المعروف قال : أنّها نزلت في رؤساء قريش الّذين بُسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين الفقراء كعبد الله بن مسعود وعمّار وبلال وخباب ويقولون : لو كان محمّد نبيّاً لاتّبعته أشرافنا، فنزلت الآية لتردّ عليهم.

التّفسير

الكافرون عبيد الدّنيا :

نزول الآية طبقاً للرّواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكمّلة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كليّة، تقول الآية (زيّن للّذين كفروا الحياة الدنيا) ولذلك أفقدهم الغرور والتكبّر شعورهم.

[87]

(ويسخرون من الّذين آمنوا) في حين أنّ المؤمنين والمتّقين في أعلى عليّين في الجنّة، وهؤلاء في دركات الجحيم (والّذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة).

لأنّ المقامات المعنويّة تتّخذ صور عينيّة في ذلك العالَم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السّماء،وليس ذلك بعجيب (والله يرزق من يشاءبغيرحساب).

وهذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين، وهناك احتمال آخر أيضاً وهو أنّ الجملة الأخيرة تشير إلى أنّ الله تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب، وذلك بتقدّم الإسلام واتّساعه حيث تحقّق هذا الوعد الإلهي.

وكون ذلك الرّزق الإلهي بدون حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهيّة ليست بمقدار أعمالنا إطلاقاً، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليست لهما حدود ونهاية.

* * *

ملاحظة

إنّ الحياة الماديّة في منظار الكافرين ـ الّذين لا يتّعدى اُفق تفكيرهم إطار العالم المادّي ـ جميلة وجذّابة ومعيار تقويم كلّ شيء، ومن هنا فإنّهم ينظرون بفكرهم الضيّق إلى الفقراء نظرة تحقير واستهانة واستهزاء، ولا يقيمون وزناً للقيم المعنويّة والإنسانيّة.

ويبقى هنا سؤالٌ عن معنى فعل المجهول (زُيّن) فمن الّذي يُزيّن الدنيا في أنظار الكافرين ؟ الجواب على هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في تفسير الآية (14) من سورة آل عمران.

* * *

[88]

الآيـة

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَهً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَ أَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنوُاْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم (213)

التّفسير

طريق الوصول إلى الوحدة :

بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفّار في الآيات السّابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اُصوليّ كلّي وجامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة الّتي مرّ بها.

في البداية تقول الآية (كان النّاس اُمّة واحدة)(1).

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة وكيفيّة ظهور الدّين لإصلاح


1 ـ «اُمّة»بمعنى الجماعة التي ترتبط بنوع من الرابطة الموحدة لأفرادهاسواءكانتوحدة دينية أو زمانية أومكانية.

[89]

المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل :

المرحلة الاُولى : مرحلة حياة الإنسان الإبتدائيّة حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الإجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والإختلافات، وكان يعبد الله تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدّي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح (عليهما السلام).

المرحلة الثانية : وفيها اتّخذت حياة الإنسان شكلاً اجتماعيّاً، ولابدّ أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقّق إلاّ في الحياة الإجتماعيّة.

المرحلة الثالثة : هي مرحلة التناقضات والإصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الإجتماعيّة، وهذه الإختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحل هذه الإختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

المرحلة الرابعة : وتتميّز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية (فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين).

فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحس أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحل التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه).

المرحلة الخامسة : هي التمسّك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماويّة لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الإختلافات الفكريّة والعقائديّة

[90]

والإجتماعيّة والأخلاقيّة).

المرحلة السادسة : واستمر الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشيطانيّة وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانيّة، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء والكتب السماويّة بشكل خاطيء وتطبيقها على مرادهم، وبذلك رفعوا علم الإختلاف مرّة ثانية. ولكن هذا الإختلاف يختلف عن الإختلاف السابق، لأنّ الأوّل كان ناشئاً عن الجهل وعدم الإطّلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، في حين أنّ منبع الإختلافات الثانية هو العناد والإنحراف عن الحقّ مع سبق الإصرار والعلم، وبكلمة : (البغي)، وبهذا تقول الآية بعد ذلك (وما اختلف فيه إلاّ الّذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم).

المرحلة السابعة : الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ والهداية ويتغلّبون على كلّ الإختلافات بالإستنارة بالكتب السماويّة وتعليم الأنبياء، فتقول الآية : (فهدى الله الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والإختلاف.

وختام الآية تقول (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الرّاغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الإختلافات والمشاجرات الدنيويّة مع الكفّار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والإطمئنان، ويبيّن لهم طريق النجاة والإستقامة.

* * *

[91]

بحوث

1 ـ الدين والمجتمع

يستفاد من الآية أعلاه ضمنياً أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الإنفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلَّ الإختلافات والتناقضات الإجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان، فلا يمكنها حل الإختلافات والتناقضات في حياه البشر بشكل كامل، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نرَ له نظيراً حتّى في المجتمعات المتخلّفة.

وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي.

2 ـ بداية التشريع

ويتّضح من الآية أيضاً أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اُولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

3 ـ الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى

ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و...) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الاُخرى، ومع الإلتفات إلى

[92]

الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الإختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لابدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات.

وعندما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة ومدينة في تلك الأيّام، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب.

وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تُحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان (فتأمّل بالدّقة).

4 ـ حلّ الإختلافات من أهم أهداف الدّين

هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي، ولكن من أهمّ الأهداف أيضاً هو رفع الإختلافات، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة و المناطق الجغرافية دائماً تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة إتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود، ويُزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجاً من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة.

وعندما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الإختلاف والنّزاع بين طوائف البشر، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى، وإلاّ

[93]

فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سبباً للوحدة في كلّ مكان.

5 ـ الدّليل على عصمة الأنبياء

يذكر (العلاّمة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يُقسّم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه،

2 ـ العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة،

3 ـ العصمة من الذنب وما يؤدّي إلى هتك حرمة العبوديّة لله. يقول : إنّ الآية مورد البحث دليلٌ على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة، لأنّ الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للنّاس وبيان العقيدة الحقّة في الإعتقاد والعمل، وبذلك يمكنهم هداية النّاس عن هذا الطريق، ومن الواضح أنّ هذا الهدف لا يتحقّق بدون العصمة في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة.

القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضاً، لأنّه لو صدر خطأ في تبليغ الرّسالة لكان بنفسه عاملاً على الإختلاف، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيّين بارتكابهم الذنب فيكون أيضاً عاملاً وسبباً للإختلاف، وبهذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة(1).

* * *


1 ـ إقتباس من تفسير الميزان، ج 2، ص 134، في ذيل الآية (213) من سورة البقرة.

[94]

الآية

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاََ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214)

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ الآية نزلت عندما حوصِر المسلمون واشتدّ الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم وتعِدَهم بالنصر.

وقيل : إنّ عبدالله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أُحد : إلى متى

[95]

تتعرّضون للقتل ولو كان محمّد نبيّاً لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية(1).

التّفسير

الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية :

يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان بالله وحده كاف لدخولهم الجنّة، ولذلك لم يوطنوا أنفسهم على تحمّل الصعاب والمشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أُمورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

الآية تردّ على هذا الفهم الخاطىء وتشير إلى سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ والتحدّيات على طريق الإيمان ليكون ذلك اختباراً لصدق إيمانهم، ومثل هذا الإختبار قانون عامّ سرى على كلّ الاُمم السابقة.

ويتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل ـ مثلاً ـ وما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصِروا بين البحر وجيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقدَ فيها بعضهم نفسه، لكن لطف الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.

وهذا الذي عرضه القرآن عن بني إِسرائيل عامّ لكلّ (الذين خلوا من قبلكم)وهو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها. فكلّ الاُمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلى فولاذ أكثر مقاومةً وأصلب عوداً. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الإختبار من هو اللائق، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الإجتماعية.

المسألة الأُخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية : أنّ الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول


1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 308.

[96]

(متى نصر الله) ؟ !، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضاً على المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب والدعاء.

فتقول الآية (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء...).

وبما أنّهم كانوا في غاية الإستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكّل وتفويض الأمر إلى اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية (ألا أنّ نصر الله قريب).

(بأساء) من مادّة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في الأصل تعني الشّدة وأمثالها، وتُطلق على كلّ نوع من العذاب والمشّقة، ويُطلق على الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوه وشدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

وكلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، وهي ما يُسرّ الإنسان ويجلب له النفع، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يُصيب الإنسان، سواءً في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.

جملة (متى نصر الله) قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى الشّدة والمحنة، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضاً على المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب والدعاء، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

وما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متى نصر الله) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، وجملة (ألا إنّ نصر الله قريب) قيلت من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بعيد جدّاً.

وعلى ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعاً، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر والتوفيق والمواهب الاُخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيّات في هذا السبيل، وفي الحقيقة إنّ هذه المشاكل والصّعوبات ما هي إلاّ إمتحان

[97]

وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

وعبارة (الّذين خلوا من قبلكم) تقول للمسلمين : أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قِبَل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتُلوا أيضاً بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنّهم مسّتهم البأساء والضرّاء حتّى استغاثوا منها.

وأساساً فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يُحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشّدائد حتّى يكونوا كالفولاد الخالص وتتفتّح قابليّاتهم الداخليّة وملكاتهم النفسانيّة ويشتد إيمانهم بالله تعالى، ويتميّز كذلك المؤمنون والصّابرون عن الأشخاص الإنتهازيّين، ونختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف : يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام : قال قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه;

ثمّ قال : والله ليتمن هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه وكلّكم يستعجلون»(1).

* * *


1 ـ الدر المنثور : ج 1 ص 243، تفسير الكبير : ج 6 ص 20.

[98]

الآيـة

يَسْـَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)

سبب النّزول

(عمرو بن الجموح) شيخ ثريّ سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا ينفق ولمن يعطي ؟ فنزلت الآية(1).

التّفسير

يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل (يسألونك ماذا ينفقون).


1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 309، كذلك تفسير روح المعاني : ج 2 ص 91، والتفسير الكبير : ج ص 232.

[99]

وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثمّ تطرّقت أيضاً إلى الأشخاص المستحقّين للنفقة، وسبب نزول الآية كما مرّ يبيّن أنّ السؤال اتّجه إلى معرفة نوع الإنفاق ومستحقّيه.

بشأن المسألة الاُولى : ذكرت الآية كلمة «خير» لتبيّن بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كلّ عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كلّ رأسمال مادّي ومعنوي مفيد.

وبالنسبة للمسألة الثانية : ـ أي موارد الإنفاق ـ فتذكر الآية أولاً الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين ـ إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتّب على كلّ إنفاق ـ يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

(وما تفعلوا من خير فإنّ الله به عليم).

لعلّ في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطّلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا انفاقهم تأكيداً لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الإحسان عليم بكلّ شيء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

* * *

بحث

التجانس في السؤال والجواب :

ذهب البعض إلى أنّ مورد السؤال في هذه الآية عن الأشياء التي يجب الإنفاق منها، ولكنّ الجواب كان عن مصارف هذه النفقات والصّدقات، أي الأشخاص المستحقّين لها، وذلك بسبب أنّ معرفة موارد الصّرف أهم وأولى،

[100]

ولكنّ هذا الفهم من الآية اشتباه محض، لأنّ القرآن الكريم أجاب عن سؤالهم وكذلك بيّن موارد الإنفاق، وهذا من فنون الفصاحة والبلاغة بحيث يجيب على السؤال ويضيف عليه بيان مسألة مهمّة ضروريّة.

وعلى أيّ حال فإنّ جملة (ما أنفقتم من خير) تبيّن أنّ الإنفاق أمر جميل وحسن في كلّ موضوع ومن كلّ شيء ويستوعب جميع الاُمور الحسنة سواءً كانت في الأموال أو الخدمات أو الموضوعات الماديّة أو المعنويّة.

ثمّ أنّ كلمة (خير) ذُكرت بصورة مطلقة أيضاً، وتدلّ على أنّ المال والثروة ليست شيئاً مذموماً بذاته، بل هي من أفضل وسائل الخير بشرط الإستفادة السليمة والصحيحة منها.

وكذلك فإنّ التعبير بكلمة (خير) يُمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الإنفاق يجب أن يكون خالياً من كلّ أذى ومنّة بالنسبة إلى الأشخاص المعوزين حتّى يمكن أن يطلق عليه كلمة (خير) بشكل مطلق.

* * *

[101]

الآيـة

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)

التّفسير

التضحية بالنفس والمال :

الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل الله، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء، فتقول الآية (كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم).

التعبير بكلمة (كُتِب) إشارة إلى حتميّة هذا الأمر الإلهي ومقطوعيّته.

(كُره) وإن كان مصدراً، إلاّ أنّه استُعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل الله أمر مكروه وشديد على الناس العاديّين، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقّات والمصائب، وأمّا بالنّسبة لعشّاق الشّهادة في سبيل الحقّ ومن له قدم راسخ في المعركة

[102]

فالحرب مع أعداء الحقّ بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولاشكّ في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصّةً في بداية الإسلام.

ثمّ تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة وتقول : (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم).

وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهراً، إلاّ أنّه (وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شر لكم).

ثمّ تضيف الآية وفي الختام (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فهنا يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم في الاُمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب ومعلوماتهم بالنّسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر، وكما أنّ الناس لم يُدركوا شيئاً من أسرار الخِلقة في القوانين التكوينيّة الإلهيّة، فتارةً يهملون شيئاً ولا يعيرونه اهتماماً في حين أنّ أهميّته وفوائده في تقدّم العلوم كبيرة، وهكذا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها، وقد يكره شيئاً في حين أنّ سعادته تكون فيه، أو أنّه يفرح لشيء ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته.

فهؤلاء النّاس لايحقّ لهم مع الإلتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم الله اللاّمحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة، بل يجب أن يعلموا يقيناً أنّ الله الرّحمن الرحيم حينما يُشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحجّ فكلّ ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.

ثمّ أنّ هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الإنضباط والتسليم أمام القوانين الإلهيّة وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه

[103]

بالعالم اللاّمحدود يعني علم الله تعالى.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا كان الجهاد مكروهاً

وهنا يمكن أن يُطرح هذا السؤال وهو أنّ الجهاد الّذي هو أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة كيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة اُمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة، فالمفروض على الاُمور المتوافقة مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة ؟

في الجواب عن هذا السؤال يجب الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ المسائل والاُمور الفطريّة تتناغم وتوافق مع طبع الإنسان إذا اقترنت بالمعرفة، مثلاً الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في موارد أن يعرف الإنسان مصاديق النفع والضرر بالنّسبة له، فلو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق ولم يُميّز بين الموارد النافعة من الضّارة، فمن الواضح أنّ فطرته ونتيجة لهذا الإشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح.

وفي مورد الجهاد نجد أنّ الأشخاص السطحيّين لا يرون فيه سوى الضرب والجرح والمصائب، ولهذا قد يكون مكروهاً لديهم وأمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وعظمته وافتخاره وحريّته تكمن في الإيثار والجهاد، وبذلك يرحّبون بالجهاد ويستقبلوه بفرح وشوق، كما هو الحال في الأشخاص الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفرّة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها، إلاّ أنّهم بعد أن يروا

[104]

تأثيرها الإيجابي في سلامتهم ونجاتهم من المرض، فحين ذاك يتقبّلوا الدّواء برحابة صدر.

2 ـ القانون الكلّي

ما ورد في الآية الشريفة آنفاً لا ينحصر بمسألة الجهاد والحرب مع الأعداء، بل أنّ الآية تكشف عن قانون كلّي وعام، وهو أنّ الآية تجعل من جميع الشدائد والمصاعب في سبيل الله سهلة وميسورة ولذيذة للإنسان بمقتضى قوله تعالى (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

فعلم الله تعالى ورحمته ولطفه لعباده يتجلّى في كلّ أحكامه المقدّسة فيرى ما فيه نجاتهم وسعادتهم، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمنون هذه الأوامر والأحكام الإلهيّة فيعتبروها كالأدوية الشافية لهم ويطبّقونها بمنتهى الرضا والقبول.

* * *

[105]

الآيتان

يَسْئلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرُ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَـاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلَئكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ (217)إنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)

سبب النّزول

قيل إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية(1) من المسلمين وأمر عليهم عبدالله


1 ـ السرية : هي الحرب الإسلامية التي لم يشترك فيها رسول الله (ص)، وقيل إنّها مجموعة من الجيش تتكون من 5 إلى 300 رجل.

   والسرية من «السري» أي الشيء النفيس، وإنّما سمّيت بذلك لأن أفرادها ممتازون.

   وقال المطرزي : السرية من «السرى» وهو المشي ليلاً، لأنّ هذه المجموعة كانت تستتر بالليل في حركتها، وذهب إلى ذلك أيضاً ابن حجر في الملتقطات.

[106]

ابن جحش الأسدي ـ وهو ابن عمّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم النبيّ المدينة، فانطلقوا حتّى هبطوا نخلة ـ وهي أرض بين مكّة والطائف ـ فوجدوا بها عمرو بن الحضرميّ في قافلة تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الأخرة، وكانوا يرون أنه من جمادي وهو رجب ـ من الأشهر الحرم ـ فاختلف المسلمون أيقتلون الحضرميّ ويغنمون ماله، لعدم علمهم بحلول الشهر الحرام، أم يتركونه احتراماً لحرمة شهر رجب، وانتهى بهم الأمر أن شدّوا على الحضرميّ فقتلوه وغنموا ماله، فبلغ ذلك كفّار قريش فطفقوا يعيّرون المسلمين ويقولون إنَّ محمّداً أحلّ سفك الدماء في الأشهر الحرم، فنزلت الآية الاُولى.

ثمّ نزلت الآية الثانية حين سأل عبدالله بن جحش وأصحابه عمّا إذا كانوا قد أدركوا أجر المجاهدين في انطلاقتهم أو لا (1) ؟ !

التّفسير

القتال في الأشهر الحُرُم :

كما مرّ بنا في سبب النّزول ويُشير إلى ذلك السياق أيضاً فإنّ الآية الاُولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والإستثنائات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه) ثمّ تُعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر (قل قتال فيه كبير) أي إثم كبير.

وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة الّتي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحُرم