والمراد من آيات الله المذكورة في هذا المقام إما الآيات الواردة في التوراة حول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلائم نبوته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الإسلام، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته، وصحّة نبوته.

ثمّ جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن، تبغونها عوجاً وأنتم شهداء) أي قل يا رسول الله لهم لائماً ومندداً : إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحقّ، فلماذا تصرون على صرف الآخرين عنه، وصدهم عن سبيل الله، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس، في حين ينبغي ـ بل يتعين ـ أن تكونوا أول جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه.

فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ هذه الوساوس والمحاولات لإلقاء الفرقة وإضلال الناس، وإزاحتهم عن سمت الحقّ، وصدهم عن السبيل الإلهي القويم ؟ ولم تحملون أثقالاً إلى أثقالكم، وتتحملون إلى إثم الضلال جريمة الإضلال ؟، لماذا ؟

هل تتصورون أن كلّ ما تفعلونه سيخفى علينا ؟ كلاّ... (وما الله بغافل عمّا تعملون) إنه تهديد بعد تنديد، وإنه إنذار بعد لوم شديد.

ولعلّ وصفه سبحانه بعدم الغفلة في هذا المقام لأجل أن اليهود كانوا ـ لإنجاح محاولاتهم ـ يتكتمون ويتسترون، ويعمدون إلى حبك المؤامرات في الخفاء، لينجحوا في التأثير على المغفلين والبسطاء بنحو أفضل، وليجنوا المزيد من الثمار،

[616]

ولهذا قال لهم سبحانه إذا كان بعض الناس ينخدعون بوساوسكم ومؤامراتكم لغفلتهم فإن الله يعلم بأسراركم، وخفايا أعمالكم، وما هو بغافل عمّا تعملون، فعلمه محيط بكم، وعقابه الأليم ينتظركم.

وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادين عن سبيل الله القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الإنخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم، والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة كلّ ذلك هو الإبتعاد عن الإيمان، والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول : (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).

أجل إن نتيجة الإنصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاُولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والإقتتال، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة اُخرى.

من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر ـ في الآية ـ هو «الكفر الحقيقي، والإنفصال الكامل عن الإسلام» كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر ـ في حدّ ذاتها ـ شعبة من شعب الكفر، وعلامة من علائمه، وأثراً من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلاَّ المحبة والمودة والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلاَّ التقاتل والعداوة والتنافر.

ثمّ يتساءل ـ في عجب واستغراب ـ (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفّاراً والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار

[617]

الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية ؟

إن هذه العبارة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلاَّ الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم... ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو ـ في الحقيقة ـ من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون ؟

إنه حقّاً يدعو إلى الدهشة والإستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولاشك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال ـ إن ضلوا ـ لأنهم لم يضلوا إلاَّ عن بيّنة، ولم ينحرفوا إلاَّ بعد بصيرة... ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديداً جدّاً لذلك.

ثمّ في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء، وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).

هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له (قل)ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الآخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه (قل) وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم ـ دون غيرهم ـ لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحداً.

* * *

[618]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ  (102)  وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَ كُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنَّ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّن اللهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

سبب النّزول

كانت بين «الأوس» و«الخزرج» القبيلتين الكبيرتين القاطنتين في يثرب حروب طويلة دامية ومنازعات استمرت ما يقرب من مئة عام، وكانت المعارك والمناوشات تنشب بينهم بين فترة واُخرى وتكلف الجانبين خسائر جسيمة في الأموال والأرواح.

كلّ ذلك كان أيّام الجاهلية قبل بزوغ الإسلام وطلوع شمسه على تلك الربوع.

وقد كان ممّا وفق له الرسول ونجح فيه أكبر نجاح ـ بعد هجرته إلى

[619]

المدينة (يثرب) ـ هو تمكنه من وضع حد لتلك المعارك والمناوشات وتلك المذابح والمجازر، وإقرار الاخاء مكان العداء وإحلال السلام محل الحروب، وتشكيل جبهة متحدة متراصة الصفوف، قوية البنيان والأركان في المدينة المنورة.

ولكن حيث أن جذور النزاع كانت قوية وعديدة جداً، كان ذلك الإتحاد يتعرض أحياناً لبعض الهزات بسبب بعض الإختلافات المنسية التي كانت تطفو على السطح أحياناً فتشتعل نيران النزاع بعد غياب، ولكن سرعان ما كانت تختفي مرّة اُخرى بفضل تعليمات النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكمته، وتدبيره.

وقد لاحظنا في الآيات السابقة نموذجاً من تلك الإختلافات المتجددة التي كانت تبرز على أثر التحريكات التي كان يقوم بها الأعداء الأذكياء، ولكن هذه الآيات تشير إلى نوع آخر من الإختلافات التي كان يسببها الأصدقاء الجاهلون، والعصبيات العمياء والحمقاء.

يقال : افتخر رجلان من الأوس والخزرج هما «ثعلبة بن غنم» و «أسعد بن زرارة» فقال ثعلبة : منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي رضي الله بحكمه في بني قريظة، وقال أسعد منا أربعة أحكموا القرآن : أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم : فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فركب حماراً وأتاهم، فأنزل الله هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

التّفسير

[620]

الدعوة إلى التقوى :

في الآية الأُولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للإتحاد والتآخي.

وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والإعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة، ولهذا يركز الإهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الإختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى، ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته).

يبقى ا ن نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى (حق تقاته) ولكن ممّا لا شكّ فيه أن «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كلّ إثم ومعصية، وكلّ تجاوز وعدوان، وإنحراف عن الحقّ.

ولذا نقل عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير الدرّ المنثور ، وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبار ـ في تفسير قوله : (حق تقاته) أنهما قالا : «أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى (ويشكر فلا يكفر)».

ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية، يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حقّ التقوى وأسمى درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول : (فاتقوا الله ما استطعتم)فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأُخرى ممّا لا أساس له مطلقاً، ولا داعي له أبداً.

على أنه ليس من شكّ في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصاً ـ في الحقيقة ـ لمفاد

[621]

الآية الأُولى وتقييداً بالاستطاعة والقدرة، وحيث أن لفظة النسخ كانت ـ عند القدماء ـ تطلق على التخصيص، لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل بأن الآية الثانية ناسخة للأُولى هو كونها مخصصة للأُولى لا غير.

ثمّ إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى إنتهت الآية بما يعتبر تحذيراً ـ في حقيقته ـ للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم، تحذيراً مفاده : أن مجرد إعتناق الإسلام والإنضمام إلى هذا الدين لا يكفي، إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته، فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو بالإنسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء، والضغائن المندثرة فتكون عاقبته الخسران، وضياع كلّ شيء ولهذا قال سبحانه (ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون).

الدعوة إلى الإتحاد

بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت «الآية الثانية» تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا).

ولكن ما المقصود من «حبل الله» في هذه الآية ؟ فقد ذهب المفسّرون فيه إلى إحتمالات مختلفة، فمنهم من قال بأنه القرآن، ومنهم من قال : بأنه الإسلام، ومنهم من قال بأنهم الأئمّة المعصومون من آل الرسول وأهل بيته المطهرين.

وقد وردت كلّ هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من

[622]

أهل بيته (عليهم السلام).

ففي تفسير «الدرّ المنثور» عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كتاب «معاني الأخبار» عن الإمام السجّاد أنهما قالا : «كتاب الله حبل ممدود من السماء».

وروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال : «آل محمّد (عليهم السلام) هم حبل الله الذي أمرنا بالإعتصام به فقال : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا».

ولكنه ليس هناك ـ في الحقيقة ـ أي إختلاف وتضارب بين تلك الأقوال والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كلّ وسيلة للإرتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين.

وبعبارة اُخرى فإن كلّ ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق «الإرتباط بالله» سبحانه ـ الواسع ـ والذي يستفاد من معنى حبل الله.

التعبير بـ «حبل الله» لماذا ؟

إن النقطة الجديرة بالإهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأُمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابدّ للخروج من هذا القاع، والإرتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلاَّ حبل الله المتين، وهو الإرتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي.

أعداء الأمس وإخوان اليوم :

[623]

ثمّ إن القرآن بعد كلّ هذا يعطي مثالاً حيّاً من واقع الأُمة الإسلامية لأثر الإرتباط بالله وهو يذكر ـ في نفس الوقت ـ بنعمة الإتحاد والأُخوة ـ تلك النعمة الكبرى ـ ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الإختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول : (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).

والملفت للنظر هو تكرار كلمة (نعمة) في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحققّ إلاَّ في ظل التعاليم الإسلامية والإعتصام بحبل الله.

والنقطة الأُخرى الجديرة بالإهتمام أيضاً هي أن الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال (فألف بين قلوبكم) أي أن الله ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة إجتماعية عظيمة للإسلام، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات وإختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية، فإن أفراداً من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أُمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى ؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الإجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف، وألف بين القلوب، وأنسى الأحقاد، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد أُمة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

[624]

اعتراف العلماء والمؤرخين :

وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين، حتّى غير المسلمين منهم، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة، وإظهارها في كتاباتهم، وها نحن نذكر نماذج من ذلك :

يقول «جان ديون پورث» العالم الإنجليزي المشهور : «لقد حول محمّد العربي البسيط، القبائل المتفرقة والجائعة، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم، إمتازت، فيما بعد ـ بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة، واستطاع في أقل من ثلاثين عاماً وبهذا الطريق أن يتغلب على الامبراطورية الرومانية، ويقضي على ملوك إيران، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطىء بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى)(1).

ويقول توماس كارليل : «لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقاً، وشمل نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلاَّ قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند، وأُخرى في الأندلس، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة»(2).

ويقول الدكتور «غوستاف لوبون» : معترفاً بهذه الحقيقة : «... وإلى زمان


1 ـ من كتاب عذر تقصير به پيشگاه محمّد وقرآن (بالفارسية) ص 77.

2 ـ الإسلام والعلم الحديث ص 33، والمخططات الإستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف ص 38.

[625]

وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة، أو الدين»(1).

ويكتب «نهرو» العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلاً :

«إن قصة إنتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم اُعجوبة من أعجوبات التاريخ، ولقد كان محمّد واثقاً بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأُمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة»(2).

لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتّى أن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول : (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها).

وتعني «شفا» في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك «الشفة» ، كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البُرء من المرض، لأن الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا : أنكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملاً في كلّ آن ومتوقعاً في كلّ لحظة، لتصبحوا بعد السقوط رماداً، وخبراً بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً، وبدل الإنهيار إعتلاء ومجداً، وهداكم إلى حيث الأمن والأمان في رحاب الأُخوة والمحبة.


1 ـ حضارة العرب لغوستاف لوبون.

2 ـ لمحات من تاريخ العالم ص 23 ـ 24.

[626]

والنار في هذه الآية : هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا ؟ فيها خلاف بين المفسّرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.

فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والإنهيار، وما منَ به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضاً من نار جهنم، وعذابه الأليم.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل الله مع الإعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيداً من الإهتمام، ومزيداً من العناية.

دور الإتحاد في بقاء الأُمم

رغم كلّ ما قيل عن أهمية الإتحاد وآثاره العظيمة في التقدّم الإجتماعي عند الشعوب والأُمم فإن من الممكن القول والإدعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة لا تزال مجهولة، وغير معروفة كما ينبغي.

إن العالم يشهد اليوم سدوداً كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق، وقد أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدراً، أن تغطي

[627]

مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة.

فلو أننا فكرنا قليلاً لوجدنا أن هذه القوّة العظيمة لم تنشأ إلاَّ من تجمع القوى الصغيرة، الجزئية ـ أي تجمع قطرات المطر، وحبات الغيث الحقيرة ـ ومن هنا تدرك أهمية إجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية، وتجمعها، وما يرافقها من جهود جماعية.

ولقد عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته الطاهرين ـ عليهم صلوات الله أجمعين ـ عن أهمية الإتحاد والإجتماع بعبارات متنوعة مختلفة.

فتارة يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وشبك بين أصابعه(1).

واُخرى يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «المؤمنون كالنفس الواحدة»(2).

وثالثة يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى»(3).

* * *


1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي ج 2 ص 450 نقلاً عن البخاري كتاب المظالم باب 5.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[628]

الآيتان

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تُكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ وَأُوْلَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)

التّفسير

الدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد :

بعد الآيات السابقة التي حثت على الأخوة والإتحاد جاءت الإشارة ـ في الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين ـ إلى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما ـ في الحقيقة ـ بمثابة غطاء وقائي إجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول (ولتكن منكم اُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

لأن فقدان «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الإجتماعية بأن تنخرها من الداخل، وتأتي على كلّ جذورها

[629]

كما تفعل الأرضة، وأن تمزق وحدة الأُمة وتفرق جمعها، ولهذا فلابدّ من مراقبة مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة، ولا يتم ذلك إلاَّ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبداً لأن فلاحها رهن بذلك : (وأولئك هم المفلحون).

يبقى أن نعرف أن «الأُمة» مأخوذة لغة من «الأُم» وهو كلّ ما انضم إليه الأشياء الاُخرى، أو كلّ شيء ضم إليه سائر ما يليه، والأُمة كلّ جماعة يجمعهم أمر جامع إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأُمة على الأفراد المتفرقين، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحد.

سؤال

وهنا يطرح سؤال وهو : أن الظاهر من جملة «منكم أمة» هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عامّاً، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان إنتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسؤولية المسلمين جميعاً.

وبعبارة أُخرى أن جملة «منكم أمة» ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان كفائيان لا عينيان.

في حين أن آيات اُخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون اُخرى، كما في آية لاحقة وهي قوله سبحانه (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).

أو ما جاء في سورة «العصر» :

(إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر) فإن

[630]

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة.

والجواب :

إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» مرحلتين : «المرحلة الفردية» التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين، و«المرحلة الجماعية» وهي التي تعتبر من مسؤولية الأُمة بما هي أُمة، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الإعوجاجات والإنحرافات الإجتماعية، وتضع حدّاً لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة.

ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فرداً فرداً، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات.

وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجباً كفائياً، وحيث إنه من واجب الأُمة بما هي أُمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية، وشؤونها بطبيعة الحال.

إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحقّ يعتبران ـ بحقّ ـ من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم تأسيس «فريق المراقبة» للنظارة على الأوضاع الإجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي.

وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الإجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم «دائرة الحسبة» ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة

[631]

باسم الآمرين بالمعروف،. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف.

ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة. إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا الفرد.

وحيث إن هذا البحث يعتبر من أهم الأبحاث القرآنية وقد أشارت إليه آيات كثيرة فى الكتاب العزيز لذلك يلزم أن نذكر أُموراً في هذا المجال :

1 ـ ما هو «المعروف» وما هو «المنكر» ؟

«المعروف» هو كلّ ما يعرف وهو مشتق من عرف، و «المنكر» كلّ ما ينكر وهو مشتق من الإنكار، وبهذا النحو وصفت الأعمال الصالحة بأنها اُمور معروفة، والأعمال السيّئة والقبيحة اُمور منكرة، لأن الفطرة الإنسانية الطاهرة تعرف القسم الأول وتنكر القسم الثاني.

2 ـ هل الأمر بالمعروف واجب عقلي أو تعبدي ؟

يعتقد جماعة من علماء المسلمين أن وجوب هاتين الفريضتين لم يثبت إلاَّ بالدليل النقلي، وأن العقل لا يحكم بوجوب النهي عن منكر لا يتعدى ضرره إلى غير فاعله.

ولكن نظراً إلى العلاقات الإجتماعية، وما للمنكر من الآثار السيئة التي لا تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الإجتماعية إذ يمكن سراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع تتضح الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين.

وبعبارة أُخرى : ليس هناك في المجتمع ما يكون «ضرراً فردياً» ينحصر

[632]

نطاقه على الفرد خاصة، بل كلّ ضرر فردي يمكن أن ينقلب إلى «ضرر إجتماعي» ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهداً في الإبقاء على سلامة البيئة الإجتماعية وطهارتها من كلّ دنس.

وقد أشير إلى هذا في بعض الأحاديث.

فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها... فقال الذين في أسفلها : إننا ننقبها من أسفلها فتستقى، فإن أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً»(1).

ولقد جسد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بهذا المثال الرائع ـ موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما،وبذلك قرر حقّ الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنه حقّ طبيعي ناشىء من اتحاد المصائر في المجتمع، وارتباط بعضها ببعض.

3 ـ أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هناك علاوة على الآيات القرآنية الكثيرة، أحاديث مستفيضة في المصادر الإسلامية المعتبرة تتحدث عن أهمية هاتين الفريضتين الإجتماعيتين الكبيرتين، قد أُشير فيها إلى العواقب الخطيرة المترتبة على تجاهل وترك هاتين الوظيفتين في المجتمع، نذكر من باب المثال طائفة منها :

1 ـ عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتضف من الأعداء، ويستقيم الأمر»(2).


1 ـ راجع سنن الترمذي : ج 4 كتاب الفتن الباب 12 ومسند أحمد : ج 4 ص 268.

2 ـ وسائل الشيعة : ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 395.

[633]

2 ـ قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفه الله في أرضه، وخليفة رسول الله وخليفة كتابه»(1).

3 ـ جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير الناس ؟

قال : «آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم»(2).

4 ـ في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون، وتستغفرون فلا تغفرون»(3).

هذه الأُمور كلّها هي الآثار الطبيعية لموقف المجتمع الذي يعطل هاتين الوظيفتين الإجتماعيتين العظيمتين، لأن ترك النظارة العامّة على ما يجري في المجتمع يلازم خروج الأُمور من قبضة الصالحين، والإفساح للأشرار بأن يتسلموا أزمة الأُمور ومقدرات المجتمع ويحكموا فيه بأهوائهم، فيقع ما يقع من المآسي وتصاب الجماعة بما ذكره الحديث المتقدم من التبعات والمفاسد.

وما ذكر في الحديث من عدم قبول توبتهم أيضاً لأنة لا معنى لقبول التوبة مع استمرارهم على السكوت اللهم إلاَّ أن يعيدوا النظر في سلوكهم.

5 ـ عن علي (عليه السلام) : «وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاَّ كنفثة في بحر لجىء»(4).

كل هذه التأكيدات هي لكون هاتين الوظيفتين العظيمتين خير ضمان لإجراء وتنفيذ بقية الوظائف الفردية والإجتماعية، ولأنهما بمثابة الروح لها، فبتركهما


1 و 2 و 3 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

4 ـ نهج البلاغة قصار الكلم، الكلمة رقم 374.

[634]

تندرس كلّ الأحكام والقيم الأخلاقية وتفقد قيمتها وتختفي من حياة المجتمع.

4 ـ هل الأمر بالمعروف يوجب سلب الحريات ؟

في الإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول بأن النمط الجماعي للحياة وإن كان ـ بلا ريب ـ ينطوي على فوائد كثيرة لأفراد البشر، بل إن هذه المزايا هي التي دفعت الإنسان ليختار الحياة الإجتماعية، إلاَّ أنه ينطوي في مقابل ذلك على بعض التقييدات لحريات الأفراد، ولكن بما أن ضرر هذه التقييدات الجزئية ضئيل تجاه الفوائد الجمة التي تنطوي عليها الحياة الإجتماعية إختار الإنسان النمط الإجتماعي منذ الأيّام الأُولى من حياته على هذا الكوكب متحملاً كلّ التقييدات.