ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإندار والبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال (فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم).

أجل فلو أنّهم تركوا الشرك وأطفؤوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من إخوانكم، وحتّى بالنّسبة إلى الغرامة والتعوضيات الّتي تجب على سائر المجرمين بعد قيامهم للجريمة فإنّ هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.

وذهب البعض إلى أنّ جملة (فإن انتهوا) بمعنى ترك الشرك والكفر (كما ذكرناأعلاه).

[24]

وذهب البعض إلى أنّ المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو أطرافه.

ولكنّ الجمع بين هذين المعنيين ممكنٌ أيضاً.

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول : (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).

ثمّ تضيف : فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرّضوا لهم (فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين).

وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي :

1 ـ إزالة الفتنة.

2 ـ محو الشرك وعبادة الأوثان.

3 ـ التصدّي للظلم والعدوان.

ويُحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضاً وعلى هذا يكون الهدف الأوّل والثاني واحداً، وهناك أيضاً احتمال آخر وهو أنّ المراد من الظلم هنا هو الشرك أيضاً كما ورد في الآية (16) من سورة لقمان (إنَّ الشركَ لظُلمٌ عظيم).

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو التصدي للشرك وعبادة الأوثان والّذي يمثّل المصدر الأساس لكلّ أنواع الفتن والمظالم والعدوان.

وذهب البعض إلى أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الإبتداء بالحرب أو القتال في الحرم الإلهي الآمن، ولكنّ الإحتمال الأوّل وهو أنّ المراد من الآية هو الأهداف الثلاثة المتقدّمة أقوى، فصحيح أنّ الشرك هو أحد مصاديق الفتنة، ولكنّ الفتنة لها مفهوم أوسع من الشرك، وصحيح أيضاً أنّ الشرك أحد مصاديق الظلم، ولكنّ الظلم له مفهوم أوسع أيضاً، فعندما نرى تفسيره بالشرك أحياناً فهو لبيان المصداق.

[25]

وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات، وليس لغرض تحصيل الغنائم، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الاُخرى، أو من أجل غلبة العنصر القومي على آخر.

فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدّمة : إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان، وأيضاً التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.

* * *

بحوث

1 ـ مسألة الجهاد في الإسلام

نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعيّة المنحرفة أنّه لا وجود للجهاد لديهم إطلاقاً، فكلّ ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية، حتّى أنّ البعض عندما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوّة كأحد الأركان المهمّة في التعاليم الإسلاميّة يتعجّب كثيراً على إقتران الدين بالحرب.

ولكن مع ملاحظة أنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديّين والقارونييّن الّذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحيّة ويقفون بوجهها ولا يرضون إلاّ بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتّضح أنّ على المؤمنين والمتديّنين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق الّتي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.

[26]

وأساساً فإنّ الجهاد هو من علامات الحياة لكلّ موجود ويمثّل قانوناً عامّاً في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحيّة أعم من الإنسان والحيوان والنبات تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها، وسيأتي مزيد من التوضيح في هذا المجال في سورة النساء ذيل الآية 95 و 96.

وعلى كلّ حال فإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينيّة بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائديّة لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الّذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

2 ـ أهداف الجهاد في الإسلام

يصرّ البعض من المتغرّبين أنّ الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الحروب الّتي حدثت بعده في هذه الدائرة، في حين أنّه لا يوجد دليل على هذه المسألة، ولم تكن جميع غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفاعيّة، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه الإستنباطات الخاطئة لإستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم، تلك الأهداف المنطقيّة القابلة للعرض على الصّديق والعدو.

وكما تقدّم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقّب عدّة أهداف مباحة :

الف ـ الجهاد من أجل إطفاء الفتن

وبعبارة اُخرى الجهاد الإبتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ الله عزّوجلّ قد أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء (عليهم السلام) أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصوّر أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه

[27]

الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصيّة وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهيّة، فللأنبياء الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلاً وإلاّ فعليهم استخدام القوّة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدّعوة لنيل الحريّة في التبليغ.

وبعباره اُخرى : أنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة منادي الحقّ وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء، فلو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والإجتماعيّة، فلأتباع الدين الحقّ في الإستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة، ومن هنا كان (الجهاد الإبتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماويّة ضروريّاً.

وكذلك إذا استخدم البعض القوّة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم، فللمؤمنين الحقّ في الإستفادة من جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.

ب ـ الجهاد الدفاعي

هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوماً وعدواناً عليه ولا يدافع عن نفسه ؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الاُخرى ولا تقوم تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرّج ؟

هنا نجد أنّ جميع القوانين السماويّة والبشريّة تبيح للفرد أو الجماعة الدّفاع عن النفس والإستفادة ممّا وسعهم من قوّة في هذا السبيل، ويسمّى مثل هذا الجهاد بـ (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واُحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلاميّة الّتي لها جنبة دفاعيّة.

وفي هذا الزمان نجد أنّ الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين

[28]

ويشعلون نيران الحروب للسّيطرة على البلاد الإسلاميّة ونهب ثرواتها، فكيف يُبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان ؟

ج ـ الجهاد لحماية المظلومين

ونلاحظ فرعاً آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة، وهو الجهاد لحماية المظلومين، فتقرأ في الآية (75) من سورة النساء (وَ ما لكم لا تُقاتلوُنَ في سَبيلِ اللهِ وَ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ والنّساء والوِلْدان الّذين يقولون ربَّنا أخْرِجْنا مِنْ هذه الْقَريَة الظّالمِ أهلها وأجْعَلْ لَّنا مِن لّدُنك وَليّاً وأجْعَلْ لّنا مِنْ لَدُنك نَصيراً).

وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك في سبيل المستضعفين المظلومين، وأساساً إنّ هاتين الغايتين متحدّتان، ومع الأخذ بنظر الإعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كلّ نقطة من العالم القريبة منها أو البعيدة، وفي الداخل أو الخارج.

وبعبارة اُخرى : أنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظّالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتّى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوّة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرّجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة الّتي تحكي عن حقانيّة هذا الدّين.

د ـ الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان

الإسلام يدعوا البشريّة إلى اعتناق الدّين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حريّة العقيدة، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتّفكير في أمر إعتناق الرّسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقليّة المعاهدة (أهل الذّمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصّة بسيطة وميسورة، لكنّ

[29]

الشرك والوثنيّة ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقّان الإحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والإنحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الّذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

كلمة حريّة العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه العقيدة والأفكار على أقلّ تقدير أساس من الصحّة، أما الإنحراف والخرافة والضلال فليست بأشياء تستحق الإحترام، ولذلك يأمر الإسلام بضرورة إقتلاع جذور الوثنيّة من المجتمع ولو كلّف ذلك خوض الحرب، وضرورة هدم آثار الشرك والوثنيّة بالطرق السلميّة أوّلاً، فإن تعذّرت الطرق السلميّة فبالقوّة.

أجل فالإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنيّة ويعدالمسلمين بمستقبل مشرق للبشريّة في العالم تحت ظل حكومة التوحيد وزوال كلّ أنواع الشرك والوثنيّة.

وممّا تقدّم من ذكر أهداف الجهاد يتّضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اُسس منطقية وعقلية، فلم يجعله وسيلة للتّسلّط والسيطرة على البلدان الاُخرى وغصب حقوق الآخرين و تحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الاُخرى، ولكنّنا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدّة والقوّة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.

والظّاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدّم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّاميّة وبرنامجه السّليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنّوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

[30]

3 ـ لماذا شرّع الجهاد في المدينة

نعلم أنّ الجهاد وجب على المسلمين في السنّة الثانية بعد الهجرة، ولم يكن قد شُرّع قبلها، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلّة عدد المسلمين في مكّة بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلّح في مثل هذه الحالة هو الإنتحار بعينه، ومن جهة اُخرى كان العدو في مكّة قويّاً جدّاً، فمكّة في الواقع كانت مركز القوى المعادية للإسلام، ولم يكن بالإمكان حمل السّلاح فيها.

أمّا حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة إزداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدّعوة داخل المدينة وخارجها، وتأسّست الحكومة الإسلاميّة الصالحة، وتهيّأت وسائل الجهاد ضدّ العدو على صعيد العدّة والعدد، وبما أنّ المدينة المنوّرة كانت بعيدة عن مكّة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدّوا أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم.

* * *

[31]

الآيـة

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

التّفسير

احترام الأشهر الحُرم والمقابلة بالمِثل :

هذه الآية الشريفة تكمّل البحث الوارد في الآيات السّابقة عن الجهاد بشكل عام، فهي في الواقع إجابة على من يتصوّر أنّه لا يمكن القتال في الأشهر الحُرُم، فكيف أمر الإسلام بالقتال فيها.

ولتوضيح الأمر : كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) خاصّة في حرم مكّة والمسجد الحرام، وبعبارة اُخرى أنّ الإسلام أمضى هذه السنّة التي كانت موجودة من قبل، فكان نبي الإسلام ملتزم بهذا الحضر، لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوماً مباغتاً على المسلمين في هذه الأشهر الحُرم متجاهلين حرمتها ضانيّن أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة، وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحقّقوا هدفهم.

[32]

الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤوليّة مواجهة العدوان حتّى في الأشهر الحُرم فتقول الآية (الشّهر الحرام بالشهر الحرام)أي أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحُرم وقاتلوكم فيها فلكم الحقّ أيضاً في المقابلة بالمِثل، لأن (والحُرُمات قصاص).

(حُرُمات) جمع «حُرمة» وتعني الشيء الّذي يجب حفظه واحترامه، وقيل للحرم : حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه. ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب، ولهذا أيضاً كانت بعض الأعمال محرّمة في الشهر الحرام والأرض الحَرم.

وهذه العبارة (والحُرمات قصاص) تتضمّن جواباً رابعاً لاُولئك الّذين اعترضوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لإباحته الحرب في الأشهر الحُرم، أو أرض مكّة المكرّمة الحرم الإلهي الآمن، وتعني أنّ احترام الأشهر الحُرم ضروري أمام العدو الّذي يراعي حرمة هذه الأشهر، أمّا العدو الّذي يهتك هذه الحرمة فلا تجب معه رعاية الإحترام وتجوز محاربته حتّى في هذه الأشهر، واُمر المسلمون أن يهبّوا للجهاد عند اشتعال نار الحرب كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشّهور.

ثمّ تشرّع الآية حكماً عامّاً يشمل ما نحن فيه وتقول : (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا الله واعلموا أنّ الله مع المتقين).

فالإسلام ـ وخلافاً للمسيحيّة الحاليّة الّتي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدِر له الأيسر)(1) ـ لايقول بمثل هذا الحكم المنحرف الّذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظّالم، وحتّى المسسيحيّون في هذا الزّمان لا يلتزمون مطلقاً بهذا الحكم أيضاً، ويردّون على كلّ عدوان مهما كان قليلاً بعدوان أشد، وهذا أيضاً مخالف لدستور الإسلام في الرّد، فالإسلام يقول : يجب التصدّي للظّالم


1 ـ انجيل متّى ـ الباب 5 ـ الرقم 39.

[33]

والمعتدي، ويُعطي الحقّ للمظلوم والمُعتدى عليه المقابلة بالمِثل، فالإستسلام في منطق الإسلام يعني الموت، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.

والجدير بالذكر أنّ مفهوم الآية يشمل دائرة وسيعة ولا ينحصر بمسألة القصاص في مقابل القتل أو الجنايات الاُخرى، بل يشمل حتّى الاُمور الماليّة وسائر الحقوق الاُخرى.

وهذا طبعاً لايتعارض مع مسألة العفو والصفح عن الإخوان والأصدقاء النادمين.

أحياناً يتصوّر بعض العوام أنّ معنى الآية هو أنّه لو قتلَ شخصٌ شخصاً آخر فإنّ معنى المقابلة بالمثل تبيح لأب المقتول أن يقتل ابن القاتل، وإذا ضرب أخاه فيجوز له أن يضرب أخا الضّارب، ولكن هذا اشتباه كبير، لأنّ القرآن يقول (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) لا الأفراد الأبرياء.

وأيضاً لا ينبغي أن يتصوّر أنّ مفهوم الآية هو أنّه أن أقام شخص بإحراق بيت آخر فيجوز للمُعتدى عليه أن يقوم بحرق بيت المعتدي، بل مفهومه أن يؤدّي المعتدي ما يُعادل قيمة البيت المحترق إلى المُعتدى عليه.

وعبارة (واتّقوا الله واعلموا أنّ الله مع المتّقين) تأكيد آخر على ضرورة عدم تجاوز الحدّ في الدّفاع والمقابلة، لأنّ الإفراط في المقابلة يُبعد المواجهة عن إطار التقوى.

وقوله تعالى (واعلموا أن الله مع المتّقين) إشارة إلى أنّ الله لا يهمل المتقي في خِضمّ المشكلات، بل يعينه ويرعاه، لأنّ من كان مع شخص آخر فمفهومه أنّه يعينه في مشكلاته ويحميه مقابل الأعداء.

* * *

[34]

الآيـة

وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ (195)

التّفسير

الإنفاق والخلاص من المآزق :

هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الإستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربيّة، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدّرجة الاُولى، ولكنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعمّ من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً.

من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة).

[35]

وهذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن اُولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين (تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون)(1).

فعبارة (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد اُخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الإحتياطات اللاّزمة لذلك، كما لايجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّاً أن يكون مسموماً وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

وتصوّر بعض الجهلاء من أنّ كلّ ألوان الجهاد الإبتدائي هو إلقاء النفس في التّهلكة وحتّى أنهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء مصداق لهذه الآية، وهذا ناشىء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلاّ فلابدّ من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.

فهل يتصوّر أحد أنّ الشّخص الّذي يرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطر فيحميه بنفسه ويذبّ عنه معرّضاً نفسه للخطر فداءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما صنع علي (عليه السلام) في حرب اُحد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتّهلكة وإنّه صنع حراماً ؟ وهل


1 ـ التوبة : 92.

[36]

يعني ذلك أن يقف موقف المتفرّج حتّى يُقتل رسول الله ويقول أنّ إلقاء النفس في التّهلكة حرام ؟

والحقّ أنّ مفهوم الآية واضح والتمسّك بها في مثل هذه الموارد نوع من الجهل والحِمق.

أجل، إذا لم يكن الهدف مهمّاً ولايستحق أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيله، أو أنّه يكون مهمّاً ولكن بإمكانه تحقيقه بوسائل وطرق اُخرى أفضل، ففي هذه الموارد لا ينبغي إلقاء النفس في الخطر (كموارد التقيّة مثلاً من هذا القبيل).

وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول (أحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين).

أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا ؟ فهناك عدّة احتمالات في كلمات المفسّرين، منها : أنّ المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الإختلال في معاشكم)، والآخر هو الإقتصاد والإعتدال في مسألة الإنفاق، وإحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبّة و تجنّب أي لون من ألوان المنّة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

* * *

بحوث

1 ـ الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع

هناك إرتباط معنوي بين جملة (وأنفقوا في سبيل الله) و (لا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة) بملاحظة أنّ عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة، والظّاهر أنّ الرّابطة بين هاتين العبارتين هو أنّكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد فقد ألقيتم أنفسكم في التّهلكة.

[37]

ويمكن أن يكون الإرتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول : إنّ هذه الآية بالرّغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنّها تبيّن حقيقة كليّة واجتماعيّة، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتّضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.

ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي (عليه السلام) (حصّنوا أموالكم بالزّكاة)(1).

وبتعبير بعض المفسّرين أنّ الإمتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدّي إلى موت الرّوح الإنسانيّة في الفرد بسبب البخل، وكذلك يؤدّي إلى موت المجتمع بسبب الضعف الإقتصادي وخاصّةً في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان والخير(2).

2 ـ سوء الإستفادة من مضمون الآية

تقدّم أنّ بعض أهل الدنيا من طلاّب العافية تمسّكوا في هذه الجملة من هذه الآية (ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة) للفرار من الجهاد في سبيل الله حتّى أنّهم وسموا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء الّتي كانت سبب نجاة الإسلام وبقائه أمام الأعداء كبني اُميّة أنّها مصداق لهذه الآية، وغفلوا عن أنه لو كان الأمر كما يقولون لانسدَّ باب الجهاد تماماً.


1 ـ نهج البلاغة، الحكمة 146.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 276.

[38]

وأساساً هناك تباين بين مفهومي التهلكة والشّهادة، فالتّهلكة تعني الموت بدون دليل موجّه، في حين أنّ الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدّس ونيل الحياة الأبديّة الخالدة.

ويجب الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ نفس الإنسان ليست أثمن شيء في وجوده، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والإعتقاد بالإسلام وحفظ القرآن وأهدافه المقدّسة، بل حفظ حيثيّة وعزّة المجتمع الإسلامي، فهذه أهداف أسمى من التّهلكة، ولم ينهَ عنها الشرع المقدّس إطلاقاً. وقد ورد في الحديث أنّ مجموعة من المسلمين توجّهوا إلى القسطنطنيّة للجهاد، فهجم أحد المسلمين الشجعان على جيش الرّوم و في صفوفهم فقال الحاضرين (القى بيده إلى التّهلكة) فقال أبو أيّوب الأنصاري :

3 ـ ما هو المنظور من الإحسان

المراد من الإحسان عادةً هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارةً يأتي بمعنىً أوسع ويشمل بذلك كلّ عمل صالح بل حتّى الدوافع في العلم الصالح أيضاً كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

ومن البديهي أنّه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنّه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد بأنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة ويتجنّب كلّ ذنب ومعصية.

* * *

[39]

الآيـة

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَام أَو صَدَقَة أَوْ نُسُك فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

التّفسير

بعض أحكام الحجّ المهمّة :

لايُعلم بدقّة تاريخ نزول الآيات المتعلّقة بالحجّ في القرآن الكريم، ولكن يرى بعض المفسّرين العظام أنّها نزلت في حجّة الوداع(1)، في حين يرى بعضهم أنّ


1 ـ الميزان، المجلد 2، ص 75 (ذيل الآية مورد البحث).

[40]

جملة (فإن اُحصرتم فما استيسر من الهدي) ناظرة إلى حادثة (الحديبيّة) الواقعة في السنّة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام(1).

ففي هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة :

1 ـ في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحجّ ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط (وأتمّوا الحجّ والعمرة لله) من هنا لاينبغي أن يشوب أعمال الحجّ نيّة اُخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملاً وتامّاً بمقتضى جملة (وأتمّوا).

2 ـ ثمّ أنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الاحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول (فإن اُحصرتم فما استيسر من الهدي) فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من احرامه(2).

وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالإستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم.

ونعلم أيضاً أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيراً أو بقرة أو خروفاً، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنةً، ولهذا كانت جملة (فما استيسر من الهدي)تشير غالباً إلى الغنم.

3 ـ ثمّ أنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحجّ فتقول : (ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه).

فهل أنّ هذا الأمر يتعلّق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم


1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 277.

2 ـ ذكر احتمالان في تفسير الآية، أحدهما أن «ما» في «ما استيسر» مبتدأ، وخبرها محذوف بتقدير «عليكم» فتكون الجملة «فعليكم ما استيسر من الهدي» والثاني أن «ما» مفعول لفعل مقدّر تقديره  : «فاهدوا ما استيسر من الهدي».

[41]

الحجّ، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة، أو أنّه يشمل جميع الحجّاج ؟ اختار بعض المفسّرين الرأي الأوّل وقالوا أنّ المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو الحرم.

وقال آخرون أنّ المراد هو المكان الّذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدلّ بفعل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في واقعة الحديبيّة الّتي هي مكان خارج الحرم المكّي، حيث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضاً.

يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي : (ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي مُنع به).

ولكنّ ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج وتقول : لا يحقّ لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلاّ أن يذبح هديه في محلّه (ذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة).

وعلى كلّ حال، فالمراد من بلوغ الهدي محلّه هو أن يصل الهدي إلى محل الذبح فيُذبح، وهذا التعبير كناية عن الذبح.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير الثاني يكون أنسب ظاهراً بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.

4 ـ ثمّ تقول الآية (فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيام أو صدقة أو نُسُك).

(نُسُك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى العبادة أيضاً(1) ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسّر النُسُك


1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 290.

[42]

بالعبادة : هذا الإصطلاح يأتي في أعمال الحجّ و (نسيكة) بمعنى (ذبيحة).

ويرى بعض المفسّرين أيضاً أنّ الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضّة، وقيل للعبادة (نُسُك) بسبب أنّها تطهّر الإنسان وتخلّصه من الشوائب(1).

وعلى أيّ حال فإنّ ظاهر الآية أنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث اُمور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة). والوارد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الصوم في هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيّام والصّدقة على ستّة مساكين، وفي رواية اُخرى على عشرة مساكين، وكلمة (نُسُك) تعني شاة(2).

5 ـ ثمّ تضيف الآية (فإذا آمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي)وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الابل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

وحول الأصل في كلمة (الهدي) فهناك قولان حسب ما أورده المرحوم الطبرسي : الأوّل أنّه مأخوذ من (الهدية) وبما أنّ الأضحية هي في الواقع هديّة إلى بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة، والآخر أنها من مادّة (الهداية) لأن الحيوان المقرّر للذّبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام، أو يكون هدايته إلى بيت الله.

ولكنّ ظاهر كلام الراغب في المفردات أنّه مأخوذ من الهديّة فقط فيقول : (هَدْي) جمع ومفرده (هديّة).

وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أنّ لهذه الكلمة أصلان : الهداية والهديّة،


1 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 152.

2 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 291 (ومثل هذا المعنى ورد في تفسير القرطبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حول الصوم وإطعام المسكين ذيل هذه الآية).

[43]

ولكنّ لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية، لأنّ الهديّة تعني الشيء الّذي يهدى إلى الشخص الآخر، أي يساق إليه هديّة (فتأمّل بدّقة).

6 ـ ثمّ أنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص الغير قادرين على ذبح الهدي في حجّ التمتع فتقول : (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة).

فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيّام، يصوم ثلاثة أيّام منها (يوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة) في أيّام الحجّ ـ وهذه هي من الأيّام الّتي يجوز فيها الصوم في السفر ـ ويأتي بصيام سبعة أيّام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن.

واضح أن مجموع ثلاثة أيّام في الحج وسبعة بعدالرجوع يساوي عشرة، لكنّ القرآن عاد فأكّد بأنّها عشرة كاملة.