الأَمْثَلُ

في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثّاني

الآيات

وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأكُلُواْ فَرِيقاً أَمْوَالِ النَّاسِ بِالاْثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

التّفسير

المباديء الأوليّة للإقتصاد الإسلامي :

هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاُصول المهمّة والكليّة للإقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الإقتصاديّة، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الإقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة ولذا نلاحظ أنّ الفقهاء العظام تمسّكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى (ولا تأكلوا أَموالكم بينكم بالباطل).

أمّا المراد من «الباطل» في هذه الآية الشريفة فقد ذكر له عدّة تفاسير، ذهب أحدها إلى أنّ معناه الأموال الّتي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان، وذهب آخرون أنّ المراد هو الأموال الّتي يحصل عليها الشّخص من القمار وأمثاله.

ويرى ثالث أنّها إشارة إلى الأموال الّتي يكتسبها الشخص بواسطة القَسَم

[6]

الكاذب (وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التّجاريّة).

ولكنّ الظاهر أنّ مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل لأنّ الباطل يعني الزّائل وهو شامل لما ذكر من المعاني، فلو ورد في بعض الرّوايات ـ كما عن الإمام الباقر (عليه السلام)أنّ معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)في تفسيره بـ (القمار) فهو في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له.

فعلى هذا يكون كلّ تصرّف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولاً لهذا النهي الإلهي. وكذلك فهكذا أنّ جميع المعاملات الّتي لا تتضمّن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.

ونفس هذا المضمون ورد في سورة النساء الآية 29 مع توضيح أكثر حيث تخاطب المؤمنين (يا أيُّها الَّذينَ آمَنوُا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُم بَينكُمْ بِالبِاطِلِ إلاّ تكونَ تجارةً عَن تراض مِنْكُمْ).

إنّ إستثناء التّجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز للمعاملات المشروعة والمبّاحة، فلا تنفي الهبة والميراث والهديّة والوصيّة وأمثالها، لأنّها تحققّت عن طريق مشروع وعقلائي.

والملفت للنظر أنّ بعض المفسّرين قالوا : أنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182 ـ 187) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما، فهناك نهيٌ عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهيٌ عن أكل أموال الناس بالباطل الّذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة النفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. ذلك التقوى الَّذي ورد في الآية بعنوان الهدف النّهائي للصوم(1).

ولابدّ من ذكر هذه الحقيقة وهي أنّ التعبير بـ (الأكل) يُعطي معناً واسعاً حيث


1 ـ اقتباس من تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 252

[7]

يشمل كلّ أنواع التصرّفات ، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.

ثمّ يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والّذي يتصوّر بعض الناس أنّه حقّ وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول : (وتُدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)(1).

(تدلوا) من مادّة (إدلاء)، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج الماء، وهو تعبير جميل للموارد الّتي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل بعض الأهداف الخاصّة.

وهناك إحتمالان في تفسير هذه الجملة :

الأول : هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسماً من ماله إلى القضاة على شكل هديّة أو رشوة (وكليهما هنا بمعنىً واحد) ليتملّك البقيّة، فالقرآن يقول : إنّكم بالرّغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهراً، ولكنّ هذا العمل يعني أكلٌ للمال بالباطل، وهو حرام.

الثّاني : أن يكون المراد أنّكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل الماليّة بهدف وغرض غير سليم، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد، وعندما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص بشكايته لدى القاضي، وبما أنّ المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي لصالح الطرف الآخر، فهذا العمل حرام أيضاً وأكلٌ للمال بالباطل.

ولا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معناً واسعاً يشمل كلا المعنيين في جملة (لا تدلوا)، بالرغم من أنّ كلّ واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين الإحتمالين.


1 ـ جمله «تدلوا» عطف على تأكلوا، فعلى هذا يكون مفهومها «لا تدلوا».

[8]

والملفت للنظر أنّه ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : «إنّما أنا بشر وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له فإن قضيت له بحق مُسلّم فإنّما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها»(1) أي لا تتصوروا أنه من أمواله ويحل له أكله لأن رسول الله حكم له بهذا المال، بل هي قطعة من نار.

* * *

بحث

وباء الرشوة :

من الأوبئة الإجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الإجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنّت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم. الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوّة أن يدافعوا عن مصالحهم، بينما لا يملك الضعفاء إلاَّ أن يلوذوا بالقانون ليحميهم، ولا تتحقّق هذه الحماية في جوّ الإرتشاء، لأنّ القوانين ستصبح أُلعوبةً بيد القادرين على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والإعتداء على حقوقهم.

ولهذا شدّد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر، فهي تفتّت الكيان الإجتماعي، وتؤدي إلى تفشّي الظلم والفساد والتمييز بين الأفراد في المجتمع الإنساني، وتصادر العدالة من جميع مؤسّساته.

جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الأُخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهيّة العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرّمة غير مشروعة.

وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسّل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت


1 ـ في ظلال القرآن، ج 1، ص 252.

[9]

أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)أملاً في أن يستعطف الإمام تجاه قضية رفعها إليه، ويسمّي ما قدّمه هديّة، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً، قال :

«هبَلتك الهُبول، أعَنْ دين الله أتيتني لتخدعني ؟... والله لو اُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصِيَ الله في نملة أسلبُها جَلبَ شعيرة ما فعلته، وأنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها. ما لِعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى ؟ !...»

الإسلام أدان الرشوة بكلّ أشكالها، وفي السيرة أنّ واحداً ممّن ولاَّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قَبِلَ رشوة قدِّمت إليه بشكل هدية، فقال له الرسول : «كيف تأخذ ما ليس لك بحق ؟ !» قال : كانت هدية يا رسول الله. قال : «أرايت لو قعد أحدكم في داره ولم نولّه عَمَلاً أكان الناسُ يهدونه شيئاً ؟ !»(1).

ومن أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكلّ أشكالها الخفيّة وغير المباشرة، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء، كي لا يؤثّر فيه بائع من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة.

أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الإجتماعية بشكل حقيقيّ عمليّ في الحياة ؟ !

إن مسألة الرشوة مهمّة في الإسلام إلى درجة أن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول عنها : «وأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم»(2).

وورد في الحديث النبوي المعروف : «لعن الله الراشي والمرتشي والماشي بينهما»(3).

* * *


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 224.

2 ـ وسائل الشيعة : ج 12 باب 5 من أبواب ما يكستسب به ح 2

3 ـ بحار الأنوار : ج 101 ص 274 و ج 11 باب الرشا في الحكم.

[10]

الآيـة

يَسْـَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189)

سبب النّزول

روي أنّ معاذ بن جبل قال : يا رسول الله إنّ اليهود يُكثرون مسألتنا عن الأهلّة فأنزل الله هذه الآية. وقيل : إنَّ اليهود سألوا رسول الله : لِمَ خُلِقَتْ هذه الأهلّة ؟ فنزلت هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد مادّية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

التّفسير

التقويم الطبيعي :

كما اتّضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرّجة وعن أسبابها ونتائجها،

[11]

فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله (يَسْألونَكَ عَنِ الأهَلّةِ).

(أهلّة) جمع «هلال» ويعني القمر في اللّيلة الاُولى والثانية من الشهر، وقال بعضهم أنّ التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أوّل الشّهر وبعد ذلك يُسمّى (قمر)، وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار.

ويرى المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان وآخرون من المفسّرين أنّ مفردة «الهلال» هي في الأصل من (استهلال الصبي) ويعني بكاء الطفل من بداية تولّده، ثمّ استُعمل للقمر في بداية الشهر، وكذلك اسُتعمل أيضاً في قول الحجّاج في بداية مناسكهم : «لبيّك لبيّك». بصوت عال، فيقال (أهلّ القوم بالحج) ولكن يُستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ أصل هذه المفردة هو الهلال في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي) أي بكائه عند ولادته.

وعلى كلّ حال يُستفاد من جملة (يسألونك) الّتي هي فعل مضارع يدل على التكرار أنّ هذا السؤال قد تكرّر مرّات عديدة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ تقول الآية (قل هي مواقيت للنّاس والحجّ).

فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجيّة ، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم اُمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم اُمور عباداتهم المحدّدة بزمان معيّن كالحجّ والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالإستهلال ينظّم الناس اُمور عبادتهم وشؤون دنياهم.

هذا التقويم الطبيعي ميسور لجميع البشر متعلّمهم وأمّيّهم، في جميع بقاع الأرض،وبموجبه يمكن تعيين أوّل الشهرووسطه وآخره،بل كلّ يوم من أيّامه بدقّة.

وواضح أنّ نظام الحياة الإجتماعية يحتاج إلى تقويم، أيْ إلى وسيلة تعيّن التاريخ الدقيق، ومن هنا وضع الله سبحانه هذا التقويم الطبيعي للناس في كلِّ

[12]

زمان ومكان.

من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادةً على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفّرة لدى جميع الناس، ولا يؤثّر عليها مرور الزمان شيئاً.

أمّا المقاييس غير الطبيعية فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتّى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحّدة.

لذلك نرى أنّ المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس ورؤية الهلال.

وهنا يتّضح امتياز الأشهر القمريّة عن الشمسيّة، فالبرغم من أنّ كلاً منهما يترتّب على حركات الكواكب السماويّة، ولكنّ الأشهر القمريّة قابلة للمشاهدة من الجميع، في حين أنّ الأشهر الشمسيّة لايمكن تشخيصها إلاّ بواسطة المنجميّن وبالوسائل الخاصّة لديهم، فيعرفون مثلاً أنّ الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أيّ صورة فلكيّة وأيّ برج سماوي.

وَ هنا يُطرح هذا السؤال : هل أنّ الأشخاص الّذين سألوا عن الأهلّة كان هدفهم هو الإستفسار عن فائدة هذه التغيّرات، أو السؤال عن كيفيّة ظهور الهلال وتكامله إلى مرحلة البدر الكامل ؟

ذهب بعض المفسّرين إلى الإحتمال الأوّل، والبعض الآخر ذهب إلى الثاني وأضاف : بما أنّ السؤال عن الأسباب وعلل التغييرات ليست ذات فائدة لهم ولعلّ فهم الجواب أيضاً سيكون عسيراً على أذهانهم، فلهذا بيّن القرآن النتائج المترتبّة على تغييرات الهلال لكي يتعلّم الناس أن يتوجّهوا دوماً صوب النتائج.

ثمّ أنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحجّ وتعيين موسمه بواسطة الهلال الّذي ورد في أوّل الآيه إلى إحدى عادات الجاهليّين

[13]

الخرافيّة في مورد الحجّ ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول : (وَ لَيسَ البرُّ بأنْ تُؤْتوا البُيوتَ مِنْ ظُهورها ولكنَّ البِرَّ مَنِ اتّقى وأتوا البُيوتَ مِن أبْوابِها واتّقُوا الله لَعلّكُمْ تُفْلِحوُن).

ذهب كثير من المفسّرين إلى أن الناس في زمن الجاهليّة كانوا يمتنعون لدى لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا العمل، ولهذا السبب فإنّهم كانوا يفتحون كُوّه وثقب خلف البيوت لكي يدخلوا بيوتهم منها عند إحرامهم، وكانوا يعتقدون أنّ هذا العمل صحيح وجيّد، لأنّه بمعنى ترك العادة(1) والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك بترك هذه العادة.

ويرى بعضهم أنّ هذا العمل كان بسبب أنّهم لا يستظلّون بسقف في حال الإحرام، ولذلك فإنّ المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من الباب يكون أفضل، ولكنّ القرآن يصرّح لهم أنّ الخير والبر في التقوى لا في العادات والرّسوم الخرافيّة، ويأمر بعد ذلك فوراً بأن يدخلوا بيوتهم من أبوابها.

وهذه الآية لها معنىً أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان لابدّ له عندما يقدم على أيّ عمل من الأعمال سواء كان دينياً أو دنيوياً لابدّ له من أن يرده من طريق الصحيح لا من الطرق المنحرفة، كما ورد هذا المعنى في رواية جابر عندما سأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن ذلك(2).

وهكذا يكون بامكاننا العثور على ارتباط جديد بين بداية الآية ونهايتها، وذلك أنّ كلّ عمل لابدّ أن يرده الإنسان من الطريق الصحيح، فالعبادة في الحجّ أيضاً لابدّ أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرّر وتعيينه بواسطة الهلال.


1 ـ تفسير البيضاوي : ذيل الآية المذكورة.

2 ـ مجمع البيان، المجلد الأوّل، ص 284 في تفسير الآية.

[14]

التفسير الثالث المذكور لهذه الآية هو أنّ الإنسان عندما يبحث عن الخيرات والبر لابدّ أن يتوجّه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله، ولكنّ هذا التفسير يمكن إدراجه في التفسير الثاني حيث ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام)عن الإمام الباقر (عليه السلام) (آل محمّد أبواب الله وسبله والدّعاة إلى الجنّة والقادة إليها والأدلاّء عليها إلى يوم القيامة)(1).

هذا الحديث قد يشير إلى أحد مصاديق المفهوم الكلّي للآية لأنّه يقول أنّ عليكم أن تردوا في جميع اُموركم الدينيّة عن الطريق الصحيح لها، يعني أهل بيت النبوّة الّذين هم طبقاً لحديث الثقلين قرين القرآن، ولذلك يمكنكم أن تأخذوا معارفكم الدينيّة منهم، لأنّ الوحي الإلهي نزل في بيوتهم، فهم أهل بيت الوحي وصنائع القرآن وثمار تربيته.

جملة (ليس البرّ) يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اُخرى أيضاً، وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينيّة بمثابة مَن يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثمّ يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.

ضمناً يجب الإلتفات إلى هذه النكتة في قوله تعالى (لكنّ البرّ من اتّقى)أنّ وجود المتقّين بمثابة الينابيع المستفيضة بالخيرات، بحيث أنّهم قد يطلق عليهم كلمة (البر) نفسه(2).

* * *

بحوث

1 ـ أسئلة مختلفة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

وردت في 15 مورد من الآيات القرآنية جملة (يسألونك) وهذه علامة على


1 ـ مجمع البيان : في تفسير الآية.

2 ـ وذهب البعض إلى وجود حذف في الجملة وتقديره : لكن البر من اتقى ذلك.

[15]

أنّ الناس يسألون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسائل مختلفة كراراً ومراراً، والملفت للنظر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافاً إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنّه يستقبلهم بصدر رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.

وأساساً فإنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحقّ مشروع حتّى للأعداء أيضاً، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.

وأساساً فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كلّ مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للنّاس، ووجود كلّ هذه الأسئلة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)هو علامة على تحرّك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.

فمن هنا يتّضح أنّ الأشخاص الّذين يعارضون طرح الأسئلة المنطقيّة في المجتمع يخالفون بذلك روح تعاليم الإسلام، وعملهم هذا مخالف لروح تعاليم الإسلام.

2 ـ التقويم ونظام الحياة

أنّ الحياة الفرديّة والإجتماعية لايمكن لها أن تقوم من دون نظم صحيح، نظم في التخطيط، ونظم في المديريّة والإجراء، فمن خلال نظرة سريعة إلى عالم الخلق من المنظومات الشمسيّة في السماء إلى بدن الإنسان وبناء هيكله وأعضائه المختلفة ندرك جيداً هذا الأصل الشامل والحاكم على جميع المخلوقات.

وعلى هذا الأساس جعل الله سبحانه وتعالى هذا النظم تحت اختيار الإنسان وقرّر أن تكون الحركات المنظّمة للكرة الأرضيّة حول نفسها وحول الشمس

[16]

وكذلك دوران القمر حول الأرض بانتظام وسيلة لتنظيم حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة وترتيبها وفق برنامج معيّن.

ولنفترض أنّ هذا النظم في الكون لم يكن موجوداً ولم يكن لدينا مقياس معيّن لقياس الزّمان، فماذا سيحصل من اضطراب في حياتنا اليوميّة ؟ ! ولهذا فإنّ الله تعالى ذكر هذا النظم الزماني في الأجرام السماويّة بعنوان أحد المواهب المهمّة الإلهيّة للإنسان، ففي سورة يونس في الآية الخامسة يقول (هُو الّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ القَمرَ نوراً وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَموُا عَدَدَ السّنينَ والحِساب ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إلاّ بِالحَقّ يُفصّلُ الآياتِ لِقوم يَعْلَمونَ).

ومثل ذلك ما ورد في سورة الإسراء الآية (12) حول النظام الحاكم على اللّيل والنهار(1).

* * *


1 ـ بحثنا في هذا الموضوع ذيل الآية (12) من سورة الاسراء، وكذلك ذيل الآية (5) من سورة يونس.

[17]

الآيات

وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإنِ انتَهُوْاْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192)  وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكوُنَّ الدِّينُ للهِ فَإنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسرين سببين لنزول الآية الاُولى من هذه الآيات محل البحث :

الأوّل : إنّ هذه الآية هي أوّل آية نزلت في جهاد أعداء الإسلامِ وبعد نزول هذه الآية شرع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قتالهم إلاّ الكفّار الّذين لم يكونوا في حرب مع المسلمين، واستمرّ هذا الحال حتّى نزل الأمر (اقتلوا المشركين) الّذي أجاز جهاد

[18]

وقتال جميع المشركين(1).

الثاني : من أسباب النزول ما ورد عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في صلح الحديبيّة، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبيّة، ثمَّ صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود العام المقبل، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره. فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون به(2).

والظاهر أن شأن النزول الأوّل يناسب الآية الاُولى، والثاني يناسب الآيات التالية،وعلى أية حال فإن مفهوم الآيات يدلّ على أنهانزلت جميعاً بفاصلة قصيرة.

التّفسير

القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.

تقول الآية : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).

عبارة (فِي سَبِيلِ الله) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للإستيلاء


1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلد 5، ص 127.

2 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 284 (ذيل الآية مورد البحث) وورد مثلها في تفاسير اُخرى.

[19]

على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام. حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والإنحراف.

وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل الله».

«سبيل» كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ. ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ، واُخرى طريق الباطل، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.

ولا شكّ أن سلوك طريق الحقّ «سبيل الله» أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلاّ أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للاشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.

وعبارة (الذين يقاتلونكم) تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفاً ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.

وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم (الذين يقاتلونكم) محدود بدائرة خاصّة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع. ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الإنحاء.

ويستفاد من الآية أيضاً أن المدنيين ـ خاصّةً النساء والأطفال ـ لا يجوز أن

[20]

يتعرّضوا لهجوم، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.

ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول : (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).

أجل، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأُصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الإفتقار. يوصي مثلاً بعدم الإعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أوليست لديهم أصلاً قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.

الإمام عليّ (عليه السلام) يقول لافراد جيشه ـ كما ورد في نهج البلاغة ـ وذلك قبل شروع القتال في صفين :

«لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة اُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم»(1).

والجدير بالذكر أن بعض المفسّرين ذهب طبقاً لبعض الروايات أن هذه الآية ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل (كفوا أيديكم)(2). وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بالآية (وقاتلوا المشركين كافة)(3). ولكن الصحيح أن هذه الآية لا


1 ـ نهج البلاغة ـ الكتب والرسائل ـ رقم 14.

2 ـ سورة النساء، 77.

3 ـ التوبة، 36.

[21]

ناسخة ولا منسوخة، لأن منع المسلمين من قتال الكفّار كان في زمن لم يكن للمسلمين القوّة الكافية، ومع تغيّر الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية، فعلى هذا يكون تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء، ولكن القرائن تدلّ على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر الحاضر، أي له معنىً واسع يشمل هذه الموارد أيضاً.

* * *

في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول : إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم). ثمّ يضيف الله تعالى (والفتنة أشدُّ من القتل).

أمّا المراد من (الفتنة) ما هو ؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين و أرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فَتْن) على وزن مَتْن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب(1)، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.

فتارة جاءت بمعنى الإمتحان مثل (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون)(2).


1 ـ روح المعاني، المجلد الثاني، ص 65.

2 ـ العنكبوت : 2.

[22]

وتارةً وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى (يا بني آدم لا يَفْتَتِنَنّكُم الشّيطان)(1).

وتارةً بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله (يوم هم على النّار يُفتنون ذوقوا فتنتكم)(2).

وتارةً وردت بمعنى الضّلال مثل قوله (ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)(3).

وتارةً بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى : (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).

ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الإمتحان الّذي يقترن عادةً بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وايجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.

والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والإجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها ااشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب


1 ـ الأعراف : 27.

2 ـ الذاريات : 13 ، 14.

3 ـ المائدة : 41.

[23]

المسلمين : أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

وقد أورد بعض المفسّرين احتمالاً آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الإجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الاُمور أحياناً أشد من القتل أو سبباً في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية (73) من سورة الأنفال قوله تعالى (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.

ثمّ تشير الآية إلى مسألة اُخرى في هذا الصدد فتقول : إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام،إلاّ أن يبدئوكم بالقتال (ولاتقاتلوهم عندالمسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه).

(فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.