3 ـ أنهم يصفحون عمن ظلمهم (والعافين عن الناس).

[699]

إن كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن
لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم الغيظ» بخطوة أُخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.

ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.

4 ـ أنهم محسنون : (والله يحب المحسنين).

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.

وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسىء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.

وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.

إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.

ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن الله تعالى يقول : (والكاظمين الغيظ) فقال

[700]

لها : قد كظمت غيظي. قالت : (والعافين عن الناس) قال : «قد عفوت وقد عفى الله
عنك» قالت : (والله يحب المحسنين) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله(1).

إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.

5 ـ إنهم لا يصرون على ذنب : (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).

و«الفاحشة» مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش ـ في الأصل ـ يعني «تجاوز الحدّ» الذي يشمل كلّ ذنب.

هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافاً إلى الإتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنباً، (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ، ولم يصروا على ما فعلوا).

يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب مادام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة ـ لدى المتقين ـ حتّى تزول عنهم سريعاً ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.

إن المتقين يحسون إحساساً عميقاً بأنه لا ملجأ لهم إلاّ الله، فلابدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (ومن يغفر الذنوب إلاّ الله).

وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافاً إلى «الفاحشة» «ظلم النفس» (أو ظلموا أنفسهم) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و «ظلم النفس» إشارة إلى الذنوب الصغيرة.


1 ـ راجع تفسير الدر المنثور، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.

[701]

ثمّ إنه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال :(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).

وقد نقل عن إلامام الباقر (عليه السلام) أنه قال : «الإصرار : أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار»(1).

وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : «لما نزلت هذه الآية (وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا ؟

قال : نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين.

فقال : أنا لها بكذا وكذا.

قال : لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.

فقال : لست لها.

فقال : الوسواس الخناس أنا لها.

قال : بماذا ؟ قال : أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الإستغفار.

فقال : أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة»(2).

ومن الواضح أن النسيان ناشىء من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.

ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا ـ في أقرب فرصة ـ إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان


1 و 2 ـ تفسير العياشي في ذيل الآية.

[702]

الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.

هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.

والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.

وكان ذلك إذ قال سبحانه : (أُولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم * وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).

لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن : مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.

والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولاً، ثمّ إلى المواهب المادية.

ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله : (ونعم أجر العاملين) أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعاملين لا للكسالى، الذين يتهربون من مسؤولياتهم، ويتملصون من إلتزاماتهم.

* * *

[703]

الآيتان

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَانظُرُواْ كيَفْ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَـذاَ بَيَانٌ لِلّنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلّمُتَّقِينَ (138)

التّفسير

النظر في تاريخ الماضين وآثارهم :

يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأن الإرتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

وهذا يعني أن لله في الأُمم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والإندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والإندحار للأُمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

[704]

أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأُمم، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة.

وبكلمة واحدة : إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الأُمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول : (فسيروا في الأرض * فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).

إن آثار الماضين خير عِبرة للقادمين، وبالنظر فيها والإعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.

السياحة والسير في الأرض :

إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأُمم والعهود السابقة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلاّ وثائق التاريخ الحية والناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون.

إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأُمم البائدة من روح وفكر، وثقافات ومبادىء، وعظمة أو صغار، في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة وسوى صور خاوية عنها.

أجل، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، وبرج بابل، وقصور كسرى، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، ومئات من نظائرها الاُخرى

[705]

من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي ـ رغم صمتها ـ على ألف حديث وحديث، وألف كلمة وكلمة.

ولهذا عمد كبار الشعراء إلى الإستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا منها الدروس والعبر والعظات، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش في صدورهم، وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة، تجاه ما تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات.

ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال :

ان آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار

إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل ـ في الحقيقة ـ مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس والروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم.

ذلك لأننا عندما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد استعادت حياتها، ودب فيها الروح، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية، وكأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأُولى، وكأن جميع الأشياء تنطق وتتحدث، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، وهذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أُولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، وأفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، واللذائذ الخاطفة.

ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، والنظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر.

أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض، ويوليها أهمية كبرى، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى، بل لدراسة آثار الأُمم

[706]

الماضية والتدبر فيها، والإعتبار بها، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، والذي تأمر به الآيات العديدة ومن ذلك :

1 ـ (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)(1).

2 ـ (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)(2) وآيات اُخرى...

3 ـ (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)(3).

إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة، ويخلص الإنسان من الجمود والركود.

وقد أشار الإمام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله :

«فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر...

واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الإجتناب للفرقة واللزوم للالفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور


1 ـ النمل : 71.

2 ـ الحج : 46.

3 ـ العنكبوت : 20.

[707]

وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي...»(1).

ولكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي ـ مع الأسف ـ كبقية التعاليم الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون، بل إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين حصروا الزمان والمكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، وبقوا في معزل عن التحولات الإجتماعية، وأشغلوا أنفسهم باُمور حقيرة وقضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية.

ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والإنقطاع عن الحياه الإجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض، ويقيمون الجسور والعلاقات مع الأُمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر، ويقفوا على متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا التعليم الإسلامي الصريح، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتّى يتحقق التحول المطلوب في حياة الأُمة الإسلامية، وتحل الحركة الصاعدة محل الجمود والتقهقر، والتقدّم المطرد مكان التخلّف والتراجع.

ولما كان التعليم الإلهي العظيم ـ رغم كونه موجهاً إلى عامة المخاطبين ـ لا ينتفع به ولا يستلهمه إلاّ المتقون قال سبحانه تعقيباً على الآية السابقة (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين).

أجل، إن المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الأُمور لأنهم يبحثون عن كلّ ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحقّ.

* * *


1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 192.

[708]

الآيات

وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ ءَامُنَواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ  (140)  وَلُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِين (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّونَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنُظرُون (143)

سبب النّزول

لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة «أُحد».

وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلاً ودراسة لنتائج غزوة «أُحد» وأسبابها

[709]

لكونها تمثل دروساً كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة ـ كما أسلفنا ـ انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم «حمزة» عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثمّ دفن جميع الشهداء عند «أُحد» في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة ـ في هذه اللحظات ـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الإنكسار، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درساً في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها ـ فنزلت الآيات المذكورة هنا.

التّفسير

دراسة نتائج غزوة أُحد :

في الآية الأُولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).

أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الإنتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو ـ كما في

[710]

اللغة ـ كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.

على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

ثمّ إنه سبحانه يقول : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) و بذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.

و«القرح» جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.

فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال ـ في بدر ـ حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم فـ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن ؟

ويذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولاً، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانياً، ألا وهي قوله سبحانه : (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء).

ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث

[711]

في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالإنتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة فى معركة واحدة وما يتبعها من الآثار اُمور دائمة ثابتة باقية، بل لابدّ من الإنتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى إنتصار، فالحياة صعود ونزول، و أحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها. (وتلك أيام(1)نداولها بين الناس) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول : (وليعلم الله الذين آمنوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّاً عن أدعياء الإيمان.

وبعبارة اُخرى : إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أُمة من الأُمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الإنتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.

ثمّ إنه في قوله : (ويتخذ منكم شهداء) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.

إن الأُمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي


1 ـ «الأيام» جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يطلق على فترات الإنتصارات الكبرى في حياة الشعوب، و «نداولها» من المداولة بمعنى إذا صار الشيء من بعض القوم إلى البعض الآخر.

[712]

وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.

ويمكن أن يكون المراد من «الشهداء» هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله (ويتخذ منكم شهداء) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـ شهوداً ـ لتعرفوا كيف أن عدم الإنضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.

وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الإنتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.

ثمّ إنه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله : (والله لا يحب الظالمين) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.

الحوادث المرة ميدان تربية :

أجل، إن لمعركة «أُحد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه : (وليمحص(1) الله الذين آمنوا) أي أن الله أراد ـ في هذه الواقعة ـ أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الإنتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الإختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما ـ قال الإمام علي (عليه السلام)  : «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال».


1 ـ «التمحيص» والمحص أصله : تخليص الشيء ممّا فيه من عيب.

[713]

ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الإنتصارات الظاهرية.

والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن اُستاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال له : «رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفاً مع أصحابه من أُحد وهو يقول : «لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة» أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالإحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الإستعداد وتسديد النظر(1).

وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون فى خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً. وإلى هذا أشار بقوله : (وليمحق(2) الكافرين).

فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا ـ في دوامة الحوادث ـ من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابدّ أولاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير. أي التطهر ثمّ التطهير.

وفي الحقيقة كما أن القمر ـ مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به ـ يفقد نوره شيئاً فشيئاً أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلاّ عندما تنسحب الشمس من الأُفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والإعوجاج والإنحراف.


1 ـ المنار : ج 4 ص 46.

2 ـ المحق : النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.

[714]

فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وإرتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين إنزياح الكفر والشرك وإندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الإجتماعية.

هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأُولى منها المقدمة والثانية النتيجة.

ثمّ إنه يفيدنا القرآن درساً من واقعة «أُحد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد إختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم ؟

لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جداً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.

وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.

مزاعم جوفاء

ثمّ إنه كان هناك جماعة من المسلمين ـ بعد معركة «بدر» واستشهاد فريق من أبطال الإسلام ـ يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون : ليتنا نلنا الشهادة في «بدر»، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلاً، فسرعان ما وقعت معركة أُحد الرهيبة المؤلمة،

[715]

فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذباً وتظاهراً ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتّى فروا خوفاً وجبناً، وظنا بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبخهم وتعاتبهم إذ تقول : (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)فلماذا فررتم وهربتم من الشيء الذي كنتم تتمنونه طويلاً وكيف يفر المرء من محبوبه، وهو يراه وينظر إليه ؟

دراسة سريعة لعلل الهزيمة في «أُحد» :

لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أُحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي :

1 ـ الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الإنتصار، وإن الله ـ لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للإنتصار من إختيار الخطة الصحيحة، والإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.

2 ـ عدم الإنضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.

3 ـ حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي

[716]

العهد بالإسلام إلى الإنصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأُمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.

4 ـ الغرور الناشىء عن الإنتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه.

هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.

* * *

[717]

الآيتان

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّـاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَـاباً مُّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّـاكِرِينَ (145)

سبب النّزول

إن الآية الأُولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أُخرى من حوادث معركة «أُحد» وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أن محمّداً قد قتل.

ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها «عمرو بن قمئة الحارثي» النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه، فسأل الدم، وغطى

[718]

وجهه الشريف(1) فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله، ولكن «مصعب بن عمير» وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه حتّى قتل دون النبي، فتوهم العدو أن النبي قد قتل، ولهذا صاح : إلاَّ أن محمّداً قد قتل، ليخبر الناس بذلك الأمر.

وقد كان لإنتشار هذا الخبر أثره الإيجابي فى معنويات الوثنيين بقدر ما ترك من الأثر السيء في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي، وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين، بينما كان هناك أقلية من المسلمين مثل الإمام علي (عليه السلام) وأبو دجانة وطلحة وآخرون، يصرون على الثبات والمقاومة ويدعون الناس إليه.

فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم : «يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وموتوا على ما مات عليه» ثمّ شد بسيفه وحمل على الكفّار وقاتل حتّى قتل، ثمّ لم يمض وقت طويل حتّى تبين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيد الحياة، وتبين على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه، فنزلت الآية الأُولى ـ من الآيتين الحاضرتين ـ توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة.

التّفسير

لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد :

تعلّم الآية الأُولى من هاتين الآيتين حقيقة أُخرى للمسلمين استلهاماً من


1 ـ ولقد جاء في بعض كتب التاريخ أن هذه الإصابات لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جراء هجمات أفراد عديدين من العدو.

[719]

أحداث معركة «أُحد» إذ تقول : (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونال الشهادة في هذه المعركة ـ افتراضاً ـ ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالداً إلى الأبد.