![]() |
![]() |
![]() |
* * *
يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَـبِ وَيَعْفُوا عَن كَثِير قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَـبٌ مُّبِينٌ(15) يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَنَهُ سُبُلَ السَّلَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم(16)
بعد أنّ تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامّة وتدعوهم إِلى الإِسلام الذي طهر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما، والذي يهديهم إِلى الصراط السّوي المستقيم، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج.
وتبيّن الآية ـ في البداية ـ أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المبعوث إِليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصّة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس، وإِن هذا الرّسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إِليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها، فتقول الآية في هذا المجال: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من
الكتاب ويعفو عن كثير...).
وتدّل هذه الجملة القرآنية على أنّ أهل الكتاب كانوا قد أخفوا وكتموا الكثير من الحقائق، لكن نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أظهر من تلك الحقائق ما يفي منها بحاجة البشرية في عصر الإِسلام، مثل بيان حقيقة التوحيد وطهارة الأنبياء وتنزههّم عمّا نسب إِليهم في التوراة والإِنجيل المزورين، كما بيّن تحريم الربا، والخمرة وأمثالهما، بينما بقيت حقائق تخص الأُمم السابقة والأزمنة الغابرة ممّا لا أثر لذكرها في تربية الأجيال الإِسلامية، فلم يتمّ التطرق إِليها.
وتشير الآية الكريمة ـ أيضاً ـ إِلى أهمية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإِرشاد وتربية البشرية، فتقول: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) النور الذي يهدي به الله كل من يبتغي كسب مرضاته إِلى سبل السلام، كما تقول الآية الأُخرى: (يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ...) وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إِلى نور التوحيد والعلم والإِتحاد، حيث تقول الآية: (ويخرجهم من الظلمات إِلى النّور بإِذنه ...).
وإضافة إِلى ذلك كلّه يرشدهم إِلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبداً، كما تقول الآية: (ويهديهم إِلى صراط مستقيم).
لقد اختلف المفسّرون في المعنى المراد من كلمة «النّور» الواردة في الآية، فذهب البعض منهم إِلى أنّها تعني شخص النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال مفسّرون آخرون: إِنّ المعنى بالنور هو القرآن المجيد.
وحين نلاحظ آيات قرآنية عديدة تشبه القرآن بالنور، يتبيّن لنا أنّ كلمة «النور» الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ إِنّما تعني القرآن، وعلى هذا الأساس فإِنّ عطف عبارة «كتاب مبين» على كلمة (النور» يعتبر من قبيل عطف التوضيح،
كما نقرأ في الآية (57) من سورة الأعراف: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه اُولئك هم المفلحون) وفي الآية (8) من سورة التغابن نقرأ ما يلي: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ...) وآيات عديدة أُخرى تشير إِلى نفس المعنى، بينما لا نجد في القرآن آية اُطلقت فيها كلمة النور على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وإِضافة إِلى ما ذكر فإِنّ الضمير المفرد الوارد في عبارة «به» الواردة في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، يؤكّد هذا الموضوع أيضاً، وهو أن النور والكتاب المبين هما اشارتان لحقيقة واحدة.
ومع إنّنا نجد روايات عديدة تفسّر كلمة «النّور» على أنّها إِشارة إِلى الإِمام علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين (عليه السلام) أو الأئمّة الإِثني عشر(عليهم السلام) جميعهم، لكن الواضح هو أنّ هذا التّفسير يعتبر من باب بيان بواطن الآيات، لأنّنا كما نعلم أنّ للآيات القرآنية ـ بالإِضافة إِلى معانيها الظاهرية ـ معان باطنية يعبّر عنها بـ «بواطن القرآن» أو «بطون القرآن»، ودليل قولنا هذا أنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يكن لهم وجود في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يدعو القرآن أهل الكتاب للإِيمان بهم.
أمّا الأمر الثّاني الوارد في الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهو أنّ القرآن يبشر اُولئك الذين يسعون لكسب مرضاة الله بأنّهم سيحظون في ظل القرآن بنعم عظيمة ثلاثة هي:
أوّلا: الهداية إِلى سبل السلامة التي تشمل سلامة الفرد والمجتمع، والروح والجسد والعائلة، والسلامة الأخلاقية، وكل هذه الأُمور تدخل في الجانب العملي من العقيدة.
وثانياً: نعمة النجاة من ظلمات الكفر والإِلحاد.
وثالثاً: الهداية إِلى النور، وفي هذا دلالة على الطابع العقائدي، ويتمّ كل ذلك من خلال أقصر وأقرب الطرق وهو الذي أشارت إِليه الآية بـ(الصراط المستقيم).
وبديهي أن هذه النعم لا يحظى بها إلاّ من أسلم وجهه للّه، وخضع للحق بالعبودية والطاعة، وكان مصداقاً للعبارة القرآنية القائلة: (من اتّبع رضوانه)بينما لا يحضى المنافقون والمعاندون وأعداء الحق بأيّ فائدة مطلقاً، كما تشير إِلى ذلك آيات قرآنية عديدة.
وبديهي ـ أيضاً ـ أنّ كل هذه النتائج والآثار، إِنّما تحصل بمشيئة الله وإِرادته وحده دون سواه، كما تشير عبارة «بإِذنه» الواردة في الآية الأخيرة.
* * *
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(17)
جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثاً تطرقت إِليه آيات سابقة، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح(عليه السلام)، وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إِلاّ الكفر الصريح، حيث قالت: (لقد كفر الذين قالوا إِنّ الله هو المسيح ابن مريم ...).
ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى.
فهم أوّلا: يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إِلى هذا الأمر حيث قالت: (لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إِنّما الله
إِله واحد ...)(1).
وثانياً: إنّهم يقولون: إِنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإِله الأب(2) والقرآن الكريم يبطل هذا الإِعتقاد ـ أيضاً ـ في الاية (73) من سورة المائدة حيث يقول: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إِله إِلاّ إِله واحد ...) وسيأتي بإِذن الله تفسير هذه الآية قريباً في نفس هذا الجزء.
وثالثاً: إِنّ المسيحيين يقولون: إِنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد، حيث يعبرون عن ذلك أحياناً بـ «الوحدة في التثليث»، وهذا الأمر أشارت إِليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين: (إِنّ الله هو المسيح ابن مريم ...) وقالوا: إِنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإِن هذين الإِثنين يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!
وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث، الذي يعتبر من أكبر إنحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية، ونفي نفياً شديداً (راجع تفسير الآية 171 ـ من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في بيان بطلان عقيدة التثليث).
ويتبيّن ـ ممّا سلف ـ أنّ بعض المفسّرين مثل «الفخر الرازي» قد توهّموا في قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله، وذلك لعدم إِلمام هؤلاء المفسّرين بالكتب المسيحية، مع أنّ المصادر المسيحية المتداولة تصرح بقضية «الوحدة في التثليث» ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب لم تكن متداولة في زمن الرازي، أو أنّها لم تصل إِليه وإِلى أمثاله الذين شاركوه
1 ـ لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا.
2 ـ نقرأ في المصادر المسيحية أنّ «الإله الأب» هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس، الصفحة 345) كما نقرأ أنّ الرّب هو الموجود بنفسه، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كلّ الكائنات، وإِنّه هو الروح اللامتناهية الأزلية الأبدية ... (قاموس الكتاب المقدس، ص 344).
في هذا الرأي.
بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة أُلوهية المسيح(عليه السلام) تقول: (قل فمن يملك من الله شيئاً إِن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأُمّه ومن في الأرض جميعاً ...)وهذه إِشارة إِلى أنّ المسيح(عليه السلام) إنّما هو بشر كأُمه وكسائر أفراد البشر، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر ـ لكونه مخلوقاً ـ في مصاف المخلوقات الأُخرى يشاركها في الفناء والعدم، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إِلهاً أزلياً أبدياً؟!
وبتعبير آخر: لو كان المسيح(عليه السلام) إِلهاً لإِستحال على خالق الكون أن يهلكه، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق، ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إِلهاً، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقاً (تدبّر جيداً).
إِنّ ذكر عبارة «المسيح بن مريم» بصورة متكررة في الآية، قد يكون إِشارة إِلى هذه الحقيقة، وهي إعتراف المسيحيين ببنوّة المسيح(عليه السلام) لمريم، أي أنّه ولد من أُم وأنّه كان جنيناً في بطن أُمّه قبل أن يولد، وحين ولد طفلا احتاج إِلى النموّ ليصبح كبيراً، فهل يمكن أن يستقر الإِله في محيط صغير كرحم الأُمّ، ويتعرض لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأُمّ حين كان جنياً وحين الرضاعة؟!
والجدير بالإِنتباه أنّ الآية الأخيرة تذكر بالإِضافة إِلى اسم المسيح(عليه السلام) اسم أُمّه وتذكرها بكلمة «أُمه» وبهذه الصورة تميز الآية أُمّ المسيح(عليه السلام) عن سائر أفراد البشر، ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة، يعبدون أُمّ المسيح أيضاً، والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأُم المسيح، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيماً وتعبداً.
وإِلى هذا الأمر تشير الآية (116) من سورة المائدة فتقول: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إِلهين من دون الله ...) وهذا الخطاب حكاية عمّا يحصل من حوار في يوم القيامة.
وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال اُولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح
من غير أب دليلا على أُلوهيته فتقول: (ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).
فالله قادر على أن يخلق إِنساناً من غير أب ومن غير أُم كما خلق آدم(عليه السلام)، وهو قادر أيضاً على أن يخلق إِنساناً من غير أب كما خلق عيسى المسيح(عليه السلام)، وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمّهاتهم، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته، وليس دليلا على أي شيء آخر سوى هذه القدرة.
* * *
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَـرَى نَحْنُ أَبْنَـؤُا اللهِ وَأَحِبَّـؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)
استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض إنحرافات اليهود والنصارى، تشير الآية الأخيرة إِلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله واحباؤه).
ولم يكن هذا الإِمتياز الوهمي الذي إِدعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه، إِذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إِلى أمثال هذه الإِدعاء.
ففي الآية (111) من سورة البقرة، أشار القرآن إِلى إدعائهم الذي زعموا فيه أن أحداً غيرهم لا يدخل الجنّة، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى، وقد فند القرآن هذه الإِدعاء.
كما جاء الآية (80) من سورة البقرة إدعاء آخر لليهود، وهو زعمهم أن نار
جهنم لن تمسهم إِلا في أيّام معدودة، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.
وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إِلى ادعائهم البنوة لله، وزعمهم أنّهم أحباء لله، ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الإِبن الحقيقي لله، وقد صرحوا بهذا الأمر(1) وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إِنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إِليهم انتماء قومياً أو عقائدياً يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح.(2)
وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإِمتيازات والدعاوى الوهمية، فهو لا يرى للإِنسان امتيازاً إِلاّ بالإِيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإِبطال الإِدعاء الأخير: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم)فهؤلاء ـ بحسب اعترافهم أنفسهم ـ يشملهم العذاب الإِلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الإِدعاء وهذا الإِعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الإِدعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإِلهية، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.
ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول: (بل أنتم بشر ممن خلق ...) والقانون الإِلهي عام، فإِن الله (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ...).
وبالإضافة إِلى ذلك فإِنّ كل البشر هم من خلق الله، وهم عباده وأرقاؤه، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إِطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم، حيث
1 ـ تقول المصادر المسيحية بأنّ عبارة «ابن الله» هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم، وإِنّ هذا اللقب لا يطلق على أحد غيره إلاّ إذا دلت القرينة على أنّ المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس، ص 345).
2 ـ ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمّي نفسها جماعة «ابن الله».
تقول الآية: (ولله ملك السموات والأرض وما بينهما ...).
وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إِلى الله، حيث تؤكد الآية هنا بقولها: (وإِليه المصير).
وقد يسأل البعض: أين ومتى إدعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي).
الجواب هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة، من ذلك ما جاء في إِنجيل يوحنا في الإِصحاح 8 ـ الآية 41 وما بعدها، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله: «إِنّكم تمارسون أعمال أبيكم، فقال له اليهود: نحن لم نولد من الزنا وإِن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى: لو كان أبوكم هو الله لكنتم احببتموني ...».
وقد ورد في الروايات الإِسلامية ـ أيضاً ـ في حديث عن ابن عباس مضمونه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعا جمعاً من اليهود إِلى دين الإِسلام وحذّرهم من عذاب الله، فقال له اليهود: كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه(1)!
وورد في تفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضوع البحث، حديث على غرار الحديث المذكور أعلاه، مضمونه أنّ جمعاً من اليهود حين هددهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعذاب الله قالوا: لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه، وهو إِن غضب علينا يكون غضبة كغضب الإِنسان على ولده، وهو غضب سريع الزوال.
* * *
1 ـ تفسير الرازي، ج 11، ص 192.
يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِن بَشِير وَلاَ نَذِير فَقَدْ جَآءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(19)
تكرر هذه الآية الخطاب إِلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتبيّن لهم أنّ النّبي المرسل إِليهم مرسل من عند الله، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق، لكي لا يقولوا بعد هذا إِنّ الله لم يرسل إِليهم من يهديهم إِلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذرهم من الإِنحراف والإِعوجاج، وينذرهم بعذاب الله، حيث تقول الآية: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ...).
نعم، فالبشير والنذير هو نبيّ الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله وعقابه، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء، حيث تؤكّد الآية هذا بقوله تعالى: (فقد جاءكم بشير ونذير).
أمّا كلمة «فترة» الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.
وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام) عدداً من الأنبياء والرسل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى(عليه السلام) والنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة إِصطلاح (فترة من الرسل) والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريباً(1).
أمّا ما جاء في القرآن ـ في سورة يس الآية 14 ـ وما ذكره المفسّرون، فيدلان على أنّ ثلاثة من الرسل ـ على الأقل ـ قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين النّبي عيسى(عليه السلام) ونبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ذكر البعض أنّ أربعة من الرسل بعثوا في تلك المدة، وعلى أي حال لابدّ أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة اُولئك الرسل والنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك عبّر القرآن عن تلك الفترة الخالية من الرسل بقوله: (على فترة من الرسل).
سؤال:
وقد يعترض البعض بأنّه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أنّ الإِعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة من رسول أو إِمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟
الجواب:
إنّ القرآن الكريم حين يقول: (على فترة من الرسل) إِنّما ينفي وجود الرسل في تلك المدّة، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في ذلك الوقت.
1 ـ ويرى البعض أنّ هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام، وآخرون يرون أنّها أقل من هذه المدّة واستناداً على قول البعض فإنّ الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيح(عليه السلام) وهجرة نبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ووفق التاريخ الميلادي تبلغ 621 عاماً و95 يوماً (تفسير ابن الفتوح الرازي، ج 4، هامش الصفحة 154).
وبعبارة أُخرى، فإِنّ الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق واسع، وكانوا يبشرون وينذرون الناس، ويثيرون الحركة والنشاط في المجتمعات، ويوقظونها من سباتها بهدف إِيصال ندائهم الى الجميع، بينما لم يكن جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمّة، بل يحتمل ـ أيضاً ـ إِنهم لظروف وعوامل اجتماعية خاصّة، كانوا يعيشون بين الناس أحياناً متخفين متنكرين.
ويقول أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في إِحدى خطبه الواردة في كتاب «نهج البلاغة» في هذا المجال ما يلي: «اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إِمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم»(1).
وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين، لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والإِنحرافات والجهل بالتعاليم الإِلهية، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي اُولئك الذين يريدون الفرار والتخلي عن المسؤوليات، لذلك فإِن الله يبطل هذه الحجة عن طريق الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائماً بين أبناء البشر.
وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة الله عزَّ وجلَّ فتقول: (والله على كل شيء قدير) وهذا بيان بأنّ إِرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصياتهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.
* * *
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَءَاتَـكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَـلَمِينَ(20) يَـقَوْمِ ادْخُلُوا الاَْرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَآرِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَسِرِينَ(21) قَالُوا يَـمُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَخِلُونَ(22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَلِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ(23) قَالُوا يَـمُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـتِلاَ إِنَّا هَـهُنَا قَـعِدُونَ(24) قَالَ رَبِّ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـسِقِينَ(25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الاَْرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـسِقِينَ(26)
جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إِلى الحق والسعي لمعرفته أوّلا، وإِيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً، ولكي تحفزهم إِلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها، ويذكرهم القرآن في الآية الأُولى بما قاله النّبي موسى(عليه السلام) لأصحابه حيث تقول: (وإِذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ...).
ولا يخفى أنّ عبارة (نعمة الله) تشمل جميع الأنعم الإِلهية، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثاً من أهم هذه النعم، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم، فتقول الآية: (إِذ جعل فيكم أنبياء ...) وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّاً، وإِنّ السبعين رجلا الذين ذهبوا مع موسى(عليه السلام) إِلى جبل «الطور» كانوا كلهم بمنزلة الأنبياء.
وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجى اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث، لذلك أصبحت هذه النعمة أكبر النعم المعنوية التي أنعم الله بها على بني إِسرائيل.
بعد هذا تشير الآية إِلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول: (وجعلكم ملوكاً ...) وتعتبر هذه النعمة ـ أيضاً ـ مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى بنوإِسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإِرادة، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمران(عليه السلام)وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.
وقد ظن البعض أنّ المراد من كلمة «الملوك» الواردة في الآية هم الملوك والسلاطين الذين ظهروا من سلالة بني إِسرائيل، في حين أنّ المعروف هو أنّ بني إِسرائيل لم يحكموا إِلاّ فترة قصيرة، فلم يحظ منهم إِلاّ القليل بمنزلة الملوكية، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تقول: (وجعلكم ملوكاً) وهذه إِشارة إِلى تمتع جميع بني إِسرائيل بهذه المنزلة، ويتبيّن من هذا أنّ المراد بكلمة «ملوك» الواردة في الآية أن بني إِسرائيل قد تملكوا مصائرهم ومقدارتهم بعد أن كانوا مكبلين بقيود العبودية في ظل الحكم الفرعوني.
إِضافة إِلى ذلك فإِنّ كلمة «ملك» في اللغة لها معان عديدة منها «السلطان» ومنها «المالك لزمان الأُمور» ومنها ـ أيضاً ـ المالك لرقبة شيء معين(1).
ونقل في تفسير «الدر المنثور» عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حديثاً جاء فيه: «كانت بنوإِسرائيل إِذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً ...».
وتشير هذه الآية في اخرها إِلى أنّ الله قد وهب بني إِسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: (وآتاكم ما لم يؤث أحداً من العالمين) وكانت هذه النعم والوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة بني إِسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة، وإِنفلاق البحر لهم، ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى»، وقد أوردنا تفاصيل ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا هذا، لدي تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إِسرائيل إِلى الأرض المقدسة نقلا عن لسان نبيّهم موسى(عليه السلام) فتقول: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).
وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة (الأرض القدسة) الواردة في الآية،
1 ـ نقرأ في كتب أن الملك هو «من كان له المُلك، والمُلك هو ما يملكه الإِنسان ويتصرف به ـ أو ـ العظمة والسلطة».
وحول موقعها الجغرافي من العالم.
فيرى البعض أنّها أرض «بيت المقدس» حيث القدس الشريف، وآخرون يرون أنّها «أرض الشام» وفئة ثالثة ترى أنّها «الأردن وفلسطين» وجماعة أُخرى تقول أنّها أرض «الطور».
ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الإِحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض ـ كما يشهد التاريخ ـ تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ونشر تعاليم الأنبياء ... لهذه الأسباب كلها سمّيت بـ «الأرض المقدسة» مع أنّ هذا الإِسم يطلق عن منطقة «بيت المقدس» بصورة خاصّة أحياناً (وقد بينا هذا الأمر في الجزء الأوّل من كتابنا هذا).
ويستدل من جملة (كتب الله عليكم ...) إِنّ الله قد قرر أن يعيش بنوإِسرائيل في الأرض المقدسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) إِن لم يلتزموا بهذا الأمر سيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.
وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ تناقض بين فشل جيل من بني إِسرائيل الذين خوطبوا بهذه الآية في دخول الأرض المقدسة، وإبتلائهم بالتيه والضياع لمدة أربعين عاماً في الصحارى والقفار، حتى نجح الجيل التالي من بعدهم بدخول تلك الأرض، لا يوجد أيّ تناقض بين ما ذكر وبين جملة (كتب الله عليكم...) لأنّ هذا التقدير الإِلهي والقرار الرباني إِنّما قيد بشروط لم ينفذها ذلك الجيل الأوّل من بني إِسرائيل، وتوضح هذا الأمر الآيات التالية.
وقد واجه بنو إِسرائيل دعوة موسى(عليه السلام) للدخول إِلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الإِنتصارات في
ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إِلى بذل جهد في هذا المجال، وردّ هؤلاء على طلب موسى(عليه السلام) بقولهم كما تنقله الآية: (قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين(1) وإِنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإِن يخرجوا منها فإِنا داخلون).
ويدل جواب بني إِسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإِنّ في كلمة «لن» التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الإِمتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.
وكان على بني إِسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإِلهية الطبيعية، فإِن بني إِسرائيل بدخلوهم إِليها ـ في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة ـ كانوا سيواجهون العجز في إِدارة تلك الأرض الواسعة الغنية، ولم يكونوا ليبدوا أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.
أمّا المراد من عبارة (قوماً جبارين) فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة»(2) الذين كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة، بحيث ذهب الكثير إِلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير
1 ـ يجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة «جبار» مأخوذةً أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إِصلاح الشيء بالقسر والإِرغام، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيراً) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإِصلاح، ومن جهة أُخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة (جبار) على الله سبحانه وتعالى فذلك إِمّا لتسلطه على كل شيء، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إِلى الإِصلاح.
![]() |
![]() |
![]() |