ومن هنا يتّضح أنّ الإِسلام لا يسمح مطلقاً بأن يتزوج المسلمون بالنساء المحصنات حتى الكتابيات وغيرهنّ من أهل الديانات الاُخرى، ولهذا قرّر لهنّ العدّة، ومنع من الزواج بهنّ في تلك الفترة.

وفلسفة هذا الحكم تتمثل في أن هذا النوع من النساء إمّا يجب أن تعاد إِلى دار الكفر، أو يبقين هكذا بدون زوج بين المسلمين، أو تقطع علاقتهنّ بالزوج السابق، ويتزوجن من جديد بزوج آخر، وحيث أن الصورة الأُولى تخالف الأُسس التربوية الإِسلامية، كما أن الصورة الثانية عملية ظالمة، ولهذا لا تبقى إِلاّ صورة واحدة وهي الصورة الثالثة.

ويظهر من بعض الروايات التي ينتهي إِسنادها إِلى أبي سعيد الخدري أنّ


1 ـ مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.

[177]

الآية نزلت في سبايا غزوة أوطاس(1) وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سمح للمسلمين بأن يتزوجوا بهن بعد التأكد من كونهنّ غير حبالى أو يعاملن كما تعامل الأمة، وهو يؤيد الصورة الثالثة التي أشرنا إِليها في ما سبق.

ثمّ أن الله سبحانه أكّد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن شابههنّ حيث قال: (كتاب الله عليكم) وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه الأحكام أو العدول عنها أبداً.

ثمّ إنّه يشير سبحانه إِلى حلّية الزواج بغير هذه الطوائف من المذكورات في هذه الآية والآيات السابقة إِذ يقول: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) أي أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه الطوائف من النساء شريطة أن يتمّ ذلك وفق القوانين الإِسلامية وأن يرافق مبادىء الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.

وعلى هذا يكون معنى «محصنين» في الآية والذي هو إِشارة إِلى حال الرجال هو «عفيفين»، وعبارة «غير مسافحين» تأكيد لهذا الوصف، لأن السفاح (الذي هو وزن كتاب) يعني الزنا وأصله من السفح وهو صب الماء أو الأعمال العابثة والأفعال الطائشة وحيث أنّ القرآن يستخدم ـ في مثل هذه الموارد ـ الكنايات يكون المراد من السفاح الزنا واللقاء الجنسي الغير المشروع.

وجملة (أن تبتغوا بأموالكم) إِشارة إِلى أنّ العلاقة الزوجية إمّا يجب أن تتمّ من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع قيمتها(2).

كما أن عبارة «غير مسافحين» في الآية الحاضرة لعلها إِشارة إِلى حقيقة أنّ


1 ـ أوطاس منطقة وقعت فيها إحدى المعارك الإِسلامية وهو واد في ديار بني هوازن.

2 ـ لقد بحثنا بالتفصيل عن برنامج الإِسلام حول تحرير العبيد وما هناك من تخطيط دقيق في النظام الإِسلامي في هذا المجال عند تفسير الآيات المناسبة في سورة «محمّد»(صلى الله عليه وآله وسلم).

[178]

الهدف من الزواج يجب أن لا يكون فقط إِطفاء الشهوة، وتلبية الرغبة الجنسية، بل الزواج قضية حيوية هامّة تهدف غاية جد سامية يجب أن تكون الغريزة الجنسية في خدمتها أيضاً، ألا وهو بقاء النوع البشري، وحفظه من التلوث والإِنحراف.

الزّواج المؤقت في الإِسلام:

يقول سبحانه: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة) أي أنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهنّ، وهذا القسم من الآية إِشارة إِلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمّى بالمتعة، ويستفاد منها أن أصل تشريع الزواج المؤقت كان قطعياً ومسلماً عند المسلمين قبل نزول هذه الآية، ولهذا يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهنّ.

وحيث أن البحث في هذه المسألة من الأبحاث التّفسيرية والفقهية والإِجتماعية المهمة جداً يجب دراستها من عدّة جهات هي:

1 ـ القرائن الموجودة في هذه الآية التي تؤكد دلالتها على الزواج المؤقت.

2 ـ إِن الزواج المؤقت كان في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينسخ.

3 ـ الحاجة بل والضرورة الإِجتماعية إِلى هذا النوع من الزواج.

4 ـ الإِجابة على بعض الإِشكالات.

وأمّا بالنسبة إِلى النقطة الأُولى فلابدّ من الإِلتفات إِلى أُمور:

أوّلا: إنّ كلمة المتعة التي اشتق منها لفظة «استمتعتم» تعني الزواج المؤقت، وبعبارة أُخرى المتعة حقيقة شرعية في هذا النوع من الزواج، ويدل على ذلك أن هذه الكلمة استعملت في هذا المعنى نفسه في روايات النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وكلمات الصحابة مراراً وتكراراً(1).


1 ـ راجع كتاب كنز العرفان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين والبرهان، والغدير، ج 6.

[179]

ثانياً: إِنّ هذه اللفظة إِذا لم تكن بالمعنى المذكور يجب أن تفسّر حتماً بمعناها اللغوي وهو «الإِنتفاع» فيكون معنى هذا المقطع من الآية هكذا: «إِذا انتفعتم بالنساء الدائمات فادفعوا إِليهنّ أجورهنّ» في حين أننا نعلم إِن دفع الصداق والمهر غير مقيد ولا مشروط بالإِنتفاع بالزوجات الدائمات بل يجب دفع تمام المهر ـ بناء على ما هو المشهور(1) بين الفقهاء ـ أو نصفه على الأقل إِلى المرأة بمجرد العقد للزواج الدائم عليها.

ثالثاً: إِنّ كبار «الصحابة» و «التابعين»(2) مثل ابن عباس العالم (المفسّر الإِسلامي الكبير) وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعمران بن الحصين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة والسدي، وجماعة كبيرة من مفسّري أهل السنة، وجميع مفسّري أهل البيت، فهموا من الآية الحاضرة حكم الزواج المؤقت إِلى درجة أن الفخر الرازي ـ رغم ما عهد عنه من التشكيك الكثير في القضايا المرتبطة بالشيعة وعقائد هم قال بعد بحث مفصل: والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول أنّها منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فإِن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إِلاّ على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إِنّما الذي نقوله أن النسخ طرأ عليه(3).

رابعاً: اتفق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وهم أعلم الناس بأسرار الوحي، على تفسير الآية المذكورة بهذا المعنى (أي بالزواج المؤقت) وقد وردت في هذا الصعيد روايات كثيرة منها.


1 ـ المشهور أو الأشهر وجوب تمام المهر بمجرد عقد الزواج الدائم وإن كان الطلاق قبل الدخول يوجب إعادة نصفه إِلى الزوج.

2 ـ التابعون هم الذين جاؤوا بعد الصحابة ولم يدركوا عهد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

3 ـ التّفسير الكبير، ج 10، ص 53.

[180]

ما عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله»(1).

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال في جواب سؤال أبي بصير حول المتعة: نزلت في القرآن (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة)(2).

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أيضاً أنّه قال: في جواب عبد الله بن عمير الليثي الذي سأل عن المتعة: «أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه فهي حلال إِلى يوم القيامة»(3).

هل نسخ هذا الحكم؟:

لقد إتفق عامّة علماء المسلمين، بل قامت ضرورة الدين على أنّ الزواج المؤقت (المتعة) كان أمراً مشروعاً في صدر الإِسلام (والكلام حول دلالة الآية الحاضرة على مشروعية المتعة لا ينافي قطعية وجود أصل الحكم لأنّ المخالفين يرون ثبوت مشروعية هذا الحكم في السنة النبوية)، بل كان المسلمون في صدر الإِسلام يعملوا بهذا الحكم، والعبارة المعروفة المروية عن عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما، متعة النساء ومتعة الحج»(4)دليل واضح على وجود هذا الحكم في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، غاية ما في الأمر أن من خالف هذا الحكم ادعى أنّه قد نسخ في ما بعد، وحرم هذا النوع من الزواج.

ولكن الملفت للنظر هو أنّ الروايات الناسخة لهذا الحكم التي ادعوها مضطربة اضطراباً كبيراً، فبعضها يقول: إِنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه هو الذي نسخ هذا الحكم، وعلى هذا يكون الناسخ لهذا الحكم القرآني هو السنة النبوية، وبعضها


1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 467، وتفسير البرهان، ج 1، ص 360.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير البرهان ذيل الآية (وقد ورد هذا الحديث والحديثان السابقان عليه في كتاب الكافي).

4 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 158، ولقد روي الحديث المذكور عن تفسير القرطبي والطبري بعبارات تشابه العبارة أعلاه، كما أن هذا الحديث جاء في السنن الكبرى للبيهقي، ج 7، كتاب النكاح.

[181]

يقول: إِنّ ناسخه هو آية الطلاق إِذ يقول سبحانه: (إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدّتهن) في حين أنّ هذه الآية لا ترتبط بالمسألة المطروحة في هذا البحث لأنّ هذه الآية تبحث في الطلاق، في حين أن الزواج المؤقت (أو المتعة) لا طلاق فيه، والإِفتراق بين الطرفين في هذا الزواج يتمّ بانتهاء المدّة المقررة.

إِنّ القدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية هذا النوع من الزواج في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر قطعي ومفروغ عنه، وليس ثمّة أي دليل يمكن الإِطمئنان إِليه ويثبت نسخ هذا الحكم، ولهذا فلابدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم، بناء على ما هو مقرر وثابت في علم الأصول.

والعبارة المشهورة المروية عن «عمر» خير شاهد على هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا الحكم لم ينسخ في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ... وإِلخ.

ثمّ إن من البديهي أنّه لا يحق لأحد إِلاّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينسخ الأحكام، فهو وحده يحق له ـ وبأمر من الله سبحانه وإِذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام، وقد سد باب نسخ الأحكام بعد وفاة النّبي تماماً، وإِلاّ لإستطاع كل واحد أن ينسخ شيئاً من الأحكام الإِلهية حسب اجتهاده ومزاجه، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية، وهذا مضافاً إِلى أنّ الإِجتهاد في مقابل النص النّبوي لا ينطوي على أية قيمة أبداً.

والملفت للنظر أننا نقرأ في صحيح الترمذي الذي هو من صحاح أهل السنة المعروفة، وكذا عن الدارقطني(1) أن رجلا من أهل الشام سأل «عبد الله بن عمر» عن التمتع بالعمرة إِلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل، قال: فإِن أباك كان ينهى عنها، فقال: ويلك فإِن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر به أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قم عنّي(2).


1 ـ تفسير القرطبي، ج 2، ص 762، ذيل الآية (195) البقرة.

2 ـ المراد من متعة الحج التي حرّمها عمر هو لو أننا صرفنا النظر عن حج التمتع، فإن حج التمتع عبارة عن الأمر التالي: إن يحرم الشخص أوّلا، ثمّ بعد الإِتيان بمناسك «العمرة» يخرج من احرامه (فيحلّ له كل شيء حتى الجماع) ثمّ يحرم من جديد ليؤدي مناسك الحج من تاسع ذي الحجّة، وقد كان الناس في الجاهلية يبطلون هذا العمل ويستغربون ممن يدخل مكّة أيام الحج ثمّ يأتي بالعمرة ويخرج من إحرامه قبل أن يأتي بالحج، ولكن الإِسلام أباح هذا وقد صرّح بهذا الأمر في الآية (186) من سورة البقرة.

[182]

وقد ورد نظير هذا الحديث وبنفس الصورة التي قرأتها حول زواج المتعة عن «عبد الله بن عمر» في صحيح الترمذي(1).

وجاء في كتاب «المحاضرات» للراغب أنّ رجلا من المسلمين كان يفعلها (أي المتعة) فقيل له: عمّن أخذت حلّها؟ فقال: عن عمر، فقالوا: كيف ذلك وعمر هو الذي نهى عنها وعاقب على فعلها؟ فقال: لقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء، فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما أقبل نهيه من قبل نفسه(2).

ثمّ إن هناك مطلباً آخر لابدّ أن نذكر به هنا وهو أن الذين ادعوا نسخ هذا الحكم (أي انتساخه) قد واجهوا مشكلات عديدة.

أوّلا: أنّه صرّح في روايات عديدة في مصادر أهل السنة بأنّ هذا الحكم لم ينسخ في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبداً، بل نهي عنه في عهد عمر، وعلى هذا يجب على مدعي النسخ أن يجيبوا على هذه الروايات البالغة ـ عدداً ـ عشرين رواية، جمعها العلاّمة الأميني(رحمه الله) مفصلة في الجزء السادس من «الغدير» وها نحن نشير إِلى نموذجين منها.

1 ـ روي في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه كان يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر حتى ـ ثمّ ـ نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(3).

2 ـ وفي حديث آخر في كتاب «الموطأ» لمالك و«السنن الكبرى» للبيهقي


1 ـ شرح اللمعة الدمشقية، ج 2، كتاب النكاح.

2 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 159 الهامش.

3 ـ الغدير، ج 6، ص 205 و 206.

[183]

روي عن «عروة بن زبير» إنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إنّ ربيعة بن أميّة استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج عمر رضي الله عنه يجرّ رداءه فزعاً فقال: هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته، (أي أمنع منها من الآن)(1).

وفي كتاب «بداية المجتهد» تأليف «ابن رشد الأندلسي» نقرأ أيضاً أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول: تمتعنا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ثمّ نهى عنها عمر الناس(2).

والمشكلة الاُخرى هي أنّ الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدّاً، فبعضها يقول نسخ في خيبر وبعضها يقول: نسخ يوم فتح مكّة، وبعض يقول: في معركة تبوك وآخر يقول: يوم أوطاس وما شابه ذلك، ومن هنا يتبيّن إِن هذه الأحاديث المشيرة إِلى النسخ موضوعة برمتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح.

من كل ما قلناه اتّضح أنّ ما كتبه صاحب تفسير المنار حيث قال: «وقد كنّا قلنا في (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع: من المنار أن عمر نهى عن المتعة اجتهاداً منه وافقه عليه الصحابة ثمّ تبيّن لنا أنّ ذلك خطأ فنستغفر الله منه»(3).

إِنّه حديث العصبية لأنّ هناك في مقابل الرّوايات المتضاربة المتناقضة التي تتحدث عن انتساخ حكم المتعة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) روايات تصرّح باستمرار المسلمين على ممارسة هذا الأمر (أي المتعة) إِلى عهد عمر، وعلى هذا ليس المقام مقام الإِعتذار ولا الإِستغفار، فالشواهد التي ذكرناها سابقاً تشهد بأن


1 ـ الغدير، ج1، ص205 و 206.

2 ـ بداية المجتهد كتاب النكاح.

3 ـ تفسير المنار، ج 5، ص 16.

[184]

كلامه الأوّل مقترن بالحقيقة وليس كلامه الثّاني كذلك.

ولا يخفى أنّه لا «عمر» ولا أي شخصية أُخرى حتى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)وهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقادرين على نسخ أحكام ثبتت في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بل لا معنى للنسخ ـ أساساً ـ بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وانسداد باب الوحي وانقطاعه، وحملهم كلام «عمر» على الإِجتهاد مثير للعجب، لأنّه من «الإِجتهاد» في مقابل «النص».

وأعجب من ذلك أن جماعة من فقهاء السنة اعتبروا الآيات المرتبطة بأحكام الزواج مثل الآية (6) من سورة المؤمنين ناسحة لآية المتعة، وكأنّهم تصوروا أن زواج المتعة ليس زواجاً أصلا، في حين أنّه أحد أقسام الزواج.

الزّواج المؤقت ضرورة إِجتماعية:

إِنّه قانون عام إِن الغريزة البشرية الطبيعية إِذا لم تلّب بصورة صحيحة سلك الإِنسان لإِشباعها وتلبيتها طريقاً منحرفاً، لأن من الحقائق المسلمة غير القابلة للإِنكار أن الغرائز الطبيعية لا يمكن أن يقضى عليها بالمرّة وحتى أننا إِذا استطعنا أن نقضي عليها ـ افتراضاً ـ لم يكن هذا العمل عملا صحيحاً، لأنّه حرب على قانون من قوانين الخلقة.

وعلى هذا فإِنّ الطريق الصحيح هو أن نشبع هذه الحاجة، ونلبي هذه الغريزة بطريقة معقولة، وأن نستفيد منها في سبيل البناء.

على أننا لا يمكننا أن ننكر أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإِنسانية إِلى درجة أن بعض المحللين النفسانيين إعتبرها الغريزة الإِنسانية الأصيلة التي إليها ترجع بقية الغرائز الاُخرى.

فإذا كان الأمر كذلك ينطرح سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه ـ وفي كثير من الظروف والأحوال ـ أن يتزوج بالزواج الدائم في سن

[185]

خاص، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر في رحلة طويلة ومهمّة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإِرضاء.

خاصّة وإِنّ هذه المسألة قد اتّخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج ـ بسبب طول مدّة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الإِجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سن مبكرة، أي في السن التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب ـ اتّخذت صفة أكثر عنفاً وضراوة، ترى ما الذي يجب عمله في هذه الحالة؟

هل يجب حثّ الناس على أن يقمعوا هذه الغريزة (كما يفعل الرهبان والراهبات)؟

أو أنّه يجب أن يفسح لهم المجال لأن يتحرروا جنسياً فيفعلوا ما شاؤوا أن يفعلوا، فتتكرر الصورة المقرفة؟

أو أن نسلك طريقاً ثالثة تخلو عن مشاكل الزواج الدائم، كما وتخلو عن مفاسد التحرر الجنسي أيضاً؟

وخلاصة القول إِن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الإِحتياجات الجنسية، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس، فنحن لذلك أمام خيارين لا ثالث لهما وهما: إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء، وفكرة المتعة، على هذا السؤال الملح؟

إِنّ أُطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية، أو لا تتلاءم مع ظروف

[186]

الدراسة، كما لا تنطوي على اضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

مؤاخذات على الزواج المؤقت:

نعم هناك مؤاخذات تؤخذ على الزواج المؤقت لابدّ أن نذكرها هنا، ونجيب عليها باختصار.

1 ـ ربّما يقال: ما الفرق بين «الزواج المؤقت» و«الزنا»، أليس كلاهما بيع للجسد لقاء دفع مبلغ معين، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إِجراء ما يسمّى بالصيغة، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

والجواب هو: إِن الذين يرددون هذا الكلام كأنّهم لم يطّلعوا أصلا على مفهوم الزواج المؤقت وحقيقته، لأنّ الزواج المؤقت ليس عبارة عن مجرّد كلمتين تقال وينتهي كل شيء، بل ثمّة مقررات نظير ما في الزواج الدائم، يعني أن المرأة المتمتع بها تكون ـ طوال المدّة المضروبة في الزواج المؤقت خاصّة بالرجل المتمتع، ثمّ عندما تنتهي المدّة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد، يعني أن تمتنع من الزواج مطلقاً برجل آخر لمدّة خمسة وأربعين يوماً على الأقل، حتى يتبيّن أنّها حملت من الرجل الأوّل أو لا، على أنّها يجب أن تعتد حتى إذا توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضاً وإذا حملت من ذلك الرجل وأتت بوليد وجب أن يتكفله ذلك الرجل كما يتكفل أمر ولده من الزواج الدائم ويجري عليه من الأحكام كل ما يجري على الولد الناشىء من الزواج الدائم، في حين أن الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟

نعم إِنّ بين الزواج المؤقت والزواج الدائم بعض الفروق من حيث التوارث

[187]

بين الزوجتين(1) والنفقة وبعض الأحكام، ولكن هذه الفروق لا تسبب في أن يجعل «الزواج المؤقت» في رديف البغاء، خلاصة القول: إِنّ المتعة نوع من الزواج بمقررات الزواج والنكاح.

2 ـ إِنّ «الزواج المؤقت» يتيح لبعض الأشخاص من طلاب الهوى أن يسيء استعمال هذا القانون، وأن يرتكبوا كل فاحشة تحت هذا الستار لدرجة أن ذوي الشخصيات من الناس لا تقبل بمثل هذا الزواج، بل وتأنف منه كما أن ذوات الشخصية من النساء يأبين ذلك أيضاً.

والجواب هو: وأي قانون في عالمنا الراهن لم يسأ استعماله؟ وهل يجوز أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الإِجتماعية الملحة بحجّة أن هناك من يسيء استعماله، أم أن علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

لو أنّ البعض استغل موسم الحج لبيع المخدرات على الحجيج ـ افتراضاً ـ فهل يجب أن نمنع من هذا التصرف الشائن، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المؤتمر الإِسلامي العظيم؟

وهكذا الأمر في المقام، واذا لاحظنا بعض الناس من ذوي الشخصيات يكره الأخذ بهذا القانون الإِسلامي (أي الزواج المؤقت) لم يكشف ذلك عن عيب في القانون، بل يكشف عن عيب في العاملين به، أو بتعبير أصح: يكشف عن عيب في الذين يسيئون استخدام القانون.

فلو أنّ الزواج المؤقت اتّخذ في المجتمع المعاصر صورته الصحيحة، وقامت الحكومة الإِسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح، وضمن ضوابطه ومقرراته الخاصّة به، أمكن المنع من سوء استخدام المستغلين لهذا القانون، كما لم يعد ذوو الشخصيات يكرهون هذا القانون ويرفضونه عند وجود ضرورة


1 ـ طبعاً ليس هناك أي فرق بين أولاد الزواج المؤقت وأبناء الزواج الدائم من هذه النواحي.

[188]

إِجتماعية أيضاً.

3 ـ يقولون: إِنّ «الزواج المؤقت» يسبب في أن يحصل في المجتمع أطفال بلا أُسر، تماماً كما يحصل من البغاء من الأولاد الغير الشرعيين.

والجواب هو: إِنّ الإِجابة على هذه المؤاخذة تتّضح تماماً ممّا قلناه، لأنّ الأولاد غير الشرعيين غير مرتبطين بآبائهم ولا أُمهاتهم من الناحية القانونية، في حين إن الأولاد الناتجين من الزواج المؤقت لا يختلفون في أي شيء عن الأولاد الناشئين من الزواج الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الإِجتماعية، وهذا الإِعتراض نشأ من عدم الإِنتباه إِلى هذه الحقيقة الساطعة في صعيد الزواج المؤقت.

«راسل» والزواج المؤقت:

في خاتمة هذا البحث من المفيد الإِشارة إِلى موضوع هام ذكره في هذا المجال العالم الإِنجليزي المعروف «برتراند راسل» في كتابه: «الزواج والأخلاق» تحت عنوان «زواج إِختياري».

لقد كتب راسل بعد أن ذكر اقتراحاً لأحد قضاة محاكم الشباب يدعى «بن بي ليندسي» في مجال «الزواج الودّي أو الزواج الإِختياري» قائلا: وفق هذا الإِقتراح يجب أن يكون الشباب قادرين على أن يدخلوا في نوع جديد من الزواج يختلف عن الزواج المتعارف (الدائم) من ثلاث نواح:

أوّلا: أن لا يقصد الطرفان الحصول على أبناء، ولهذا يجب أن يتعرفوا على أفضل السبل لمنع الحمل.

وثانياً: أن يتمّ الإِفتراق بين الطرفين بأبسط الطرق وأسهلها.

وثالثاً: أن لا تستحق المرأة أي نفقة من الرجل بعد وقوع الإِفتراق والطلاق بينهما.

[189]

ثمّ إنّ راسل بعد أن يذكر خلاصة ما اقترحه «ليندسي» يقول: وإِنّي لأتصور أن مثل هذا الأمر لو اعترف به القانون لأقبل جمهور كبير من الشباب وخاصّة الطلبة الجامعيين على الزواج المؤقت ولدخلوا في حياة مشتركة مؤقتة، حياة تتمتع بالحرية، وخالصة من كثير من التبعات والعواقب السئية للعلاقات الجنسية الطائشة، الراهنة»(1).

إِنّ هذا الطرح ـ كما تلاحظ أيّها القارىء الكريم ـ حول الزواج المؤقت يشابه إِلى حدّ كبير قانون الزواج المؤقت الإِسلامي، غاية ما هنالك إِنّ الشروط التي قرّرها الإِسلام في صعيد «الزواج المؤقت» أوضح وأكمل من نواحي كثيرة ممّا اعتبر في ذلك الطرح (الذي اقترحه ليندسي)، هذا مضافاً إِلى أن المنع من تكون الولد في الزواج المؤقت الإِسلامي غير محضور وإنّ الإِنفصال سهل، كما أنّه لا تجب النفقة في هذا الزواج على الرجل.

ثمّ إِنّ الله سبحانه قال: ـ بعد ذكر وجوب دفع المهر ـ (ولا جناح عليكم في ما تراضيتم به من بعد الفريضة) وهو بذلك يشير إِلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إِذا تراضى طرفا العقد، وعلى هذا الأساس يكون الصداق نوعاً من الدين الذي يخضع للتغيير من زيادة أو نقصان إِذا تراضيا. (ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم وإِن كانت الآية الحاضرة ـ كما شرحنا ذلك سلفاً ـ تدور حول الزواج المؤقت).

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في تفسير الآية أيضاً وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان ـ بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدّة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين، وهذا يعني أن مدّة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إِشرافها على الإِنتهاء (أي قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجات أن يضيفا على المدّة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج، مدّة أُخرى معينة لقاء إِضافة مقدار معين


1 ـ من كتاب (زناشوئي وأحلاق)، ص 189 ـ 190.

[190]

من المال إِلى الصداق المتفق عليه أوّلا (وقد أُشير في روايات أهل البيت(عليهم السلام) إِلى هذا التّفسير أيضاً).

ثمّ أنّه سبحانه قال: (إِنّ الله كان عليماً حكيماً) يريد بذلك أن الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمّن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ الله عليم بمصالحهم، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

* * *

[191]

الآية

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الُْمحْصَنَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُم مِّن فَتَيَـتِكُمُ الْمُؤْمِنَـتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِكُم بَعْضُكُمْ مِّن بَعْض فَانِكحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَـت غَيْرَ مُسَـفِحَـت وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـحِشَة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الُْمحْصَنَـتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(25)

التّفسير

التّزوج بالإِماء:

تعقيباً على الأبحاث السابقة المتعلقة بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإِماء، فتقول أولا: (ومن لم يستطع منكم طولا(1) أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات، وليس لديه ما يقدر على


1 ـ «الطول» على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإِمكانية المالية وما شابه ذلك.

[192]

مهرهنّ ونفقتهنّ، فإِن له أن يتزوج ممّا ملكت أيمانكم من الإِماء، فإِن مهورهنّ أقل، ومؤنتهنّ أخفّ عادةً.

على أنّ المراد من الأَمة هنا هي أَمة الغير، إِذ لا يجوز لصاحب الأمة أن يتزوج بأمته ويتعامل معها كما يتعامل مع زوجته بشروط مذكورة في الكتب الفقهية.

كما أن التعبير بـ «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإِماء الكتابيات.

ثمّ إنّ الملفت للنظر في المقام هو أنّ القرآن عبر عن الإِماء بالفتيات جمع فتاة، هو مشعر عادة بالإِحترام الخاص الذي يولي للنساء، وهي تستخدم غالباً في الشّابات من الإِناث.

ثمّ إن الله سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله: (والله أعلم بإيمانكم) ويريد بذلك أنكم لستم مكلّفين ـ في تشخيص إِيمان الإِماء ـ إِلاّ بالظاهر، وأمّا الباطن فالله هو الذي يعلم ذلك، فهو وحده العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر.

وحيث إن البعض كان يكره التزوج بالإِماء ويستنكف من نكاحهنّ قال تعالى: (بعضكم من بعض) أي أنّكم جميعاً من أب واحد، وأُمّ واحدة، فإِذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإِماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإِنسانية عنكم، واللائي يشبهنّ غيرهنّ من ناحية القيمة المعنوية، فقيمتهنّ تدور مدار التقوى والإِيمان لا غير.

وخلاصة القون إنّ الإِماء من جنسكم، وكلّكم كأعضاء جسم واحد.

نعم لابدّ أن يكون التزوج بالإِماء بعد إِذن أهلهنّ وإِلاّ كان باطلا، وإِلى هذا أشار سبحانه بقوله: (فانكحوهن بإِذن أهلهنّ) والتعبير عن المالك بالأهل إِنّما هو للإِشارة إِلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإِماء على أنهنّ متاع أو بضاعة، بل يجب

[193]

أن يكون التعامل معهنّ على أنهنّ من أعضاء العائلة، فلابدّ أن يكون تعاملا إِنسانياً كاملا.

ثمّ إنّه سبحانه قال: (وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف) ومن هذه الجملة يستفاد أن الصّداق الذي يعطى لهنّ يجب أن يكون متناسباً مع شأنهن ومكانتهن، وأن يعطى المهر لهنّ، يعني أن الامة تكون هي المالكة للصداق، وإِن ذهب بعض المفسرين إِلى أن في الآية حذفاً، أي أن الأصل هو (وآتوا مالكهنّ أجورهنّ) غير أن التّفسير لا يوافق ظاهر الآية، وإِن كانت تؤيده بعض الروايات والأخبار.

هذا ويستفاد أيضاً من ظاهر الآية أنه يمكن للعبيد والإِماء أن يملكوا ما يحصلون عليه بالطرق المشروعة.

كما يستفاد من التعبير بـ «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإِماء في تعيين مقدار المهر، بل هو حقهنّ الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إِليهنّ بالقدر المتعارف.

ثمّ إن الله سبحانه ذكر شرطاً آخر من شروط هذا الزواج، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإِماء اللائي لم يرتكبن البغاء إِذ قال: (محصنات) سوآءً بصورة علنية (غير مسافحات) أو بصورة خفية (ولا متخذات أخذان)(1) أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ويمكن أن يرد هنا سؤال هو أنّ النهي عن الزنا بلفظة (غير مسافحات)تكفي وتغني عن النهي عن اتّخاذ الأخدان، فلماذا الوصف الثاني أيضاً؟

ويجاب على هذا: بأن البعض ـ في عهد الجاهلية ـ كان يرى أنّ المذموم فقط هو الزنا العلني والسفاح الظاهر، وأمّا اتّخاذ الأخلاء والرفاق أو الرفيقات في


1 ـ الأخدان جمع «خدن» وهي بمعنى الرفيق والخل في الأصل، ولكنها تستعمل عادة في الأشخاص الذين يقيمون علاقات جنسية غير مشروعة مع الجنس الآخر، ولابدّ أن نعرف أن القرآن أطلق لفظة الخدن على المرأة كما أطلقها على الرجل.

[194]

السرّ فلا بأس به، وبهذا يتّضح سبب ذكر القرآن وتصريحه بكلا النوعين.

ثمّ إن الله سبحانه قال: (فإِذا أحصنّ فإِن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب).

وتتضمن الآية بحثاً حول عقوبة الإِماء إِذا خرجن عن جادة العفة والطهر، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإِماء، وبعض الأحكام حول حقوقهنّ.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أن الإِماء إِذا زنين فجزاؤهنّ نصف جزاء الحرائر إِذا زنين، أي خمسون جلدة.

ثمّ إِنّ هاهنا نقطة جديرة بالإِنتباه هي أنّ القرآن الكريم يقول في هذا المقام (إِذا أحصنّ) فيكون معناه أنّ الجزاء المذكور إِنّما يترتب على زنا الأمة إِذا أحصنت، فماذا يعني ذلك؟

لقد احتمل المفسّرون هنا احتمالات عديدة، فبعضهم ذهب إِلى أنّ المراد هو الأمة ذات بعل (وذلك حسب الإِصطلاح الفقهي المعروف والآية السابقة).

وذهب آخرون إِلى أنّ المراد هي الأمة المسلمة، بيد أن تكرار لفظة المحصنة مرتين في الآية يقضي بأن يكون المعنى واحداً في المقامين، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإِن جزاء النساء المحصنات هو الرجم لا الجلد، فيتّضح أنّ التّفسير الأوّل وهو تفسير المحصنة بالأَمة ذات بعل غير مقبول، كما أنّ التّفسير الثّاني وهو كون المراد من المحصنة هو المسلمة ليس له ما يدل عليه.

فالحقّ هو أنّ مجيء لفظة (المحصنات) في القرآن الكريم بمعنى المرأة العفيفة الطاهرة ـ على الأغلب ـ يجعل من القريب إِلى النظر أن تكون لفظة المحصنة هنا في الآية الحاضرة مشيرة إِلى هذا المعنى نفسه، فيكون المراد أنّ الإِماء اللأتي كن يرتكبن الفاحشة بضغط وإجبار من أوليائهنّ لا يجري عليهنّ