![]() |
![]() |
![]() |
الجواب:
والجواب على هذا الإِعتراض هو أنّنا لو أمعنا النظر في مضمون الآيتين المذكورتين، لرأينا أنّهما تدلان على أنّ الآية الأخيرة التي هي موضوع البحث ـ تتحدث عن الشهادة حول تبليغ الرسالة ونفي الألوهية عن المسيح(عليه السلام) بينما الآية (117) من سورة المائدة تشهد على أعمال اُولئك القوم.
فالآية الأخيرة تذكر أنّ عيسى المسيح(صلى الله عليه وآله وسلم) سيشهد على جميع الذين نسبوا
1 ـ تفسير البرهان، الجزء الأوّل، ص 426.
له الأُلوهية، سواء من كانوا في زمانه أو من جاءوا بعد ذلك الزمان، وأن المسيح (عليه السلام) يؤكّد أنّه لم يدع هؤلاء القوم إِلى مثل هذا الأمر أبداً، بينما الآية (117) من سورة المائدة تذكر على لسان المسيح(عليه السلام) أنّه علاوة على الدعوة لرسالته بالأُسلوب الصحيح، فهو قد حال طيلة فترة بقائه بين قومه ـ دون إنحرافهم، إِلاّ أنّهم إنحرفوا بعده ونسبوا له الألوهية في زمن لم يكن هو موجوداً بينهم، ليشهد على أعمالهم وليحول دون إنحرافهم.
* * *
فَبِظُلْم مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـت أُحِلَّتْ لَهُمْ بِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَو وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(161) لَّـكِنِ الرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنَونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوةَ والْمُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً(162)
لقد أشارت الآيات السابقة إِلى نماذج من انتهاكات اليهود، أما الآيات الأخيرة فإِنما ذكرت نماذج أُخرى من تلك الإِنتهاكات، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة.
فالآية الأُولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ الله قد حرم بعضاً من الإشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في
طريق الله، حيث تقول الآية: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً) كما عاقبهم الله بالحرمان من تلك الطيبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولإِستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا المجال: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ...).
وتؤكّد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي، بل سيذيقهم الله ـ أيضاً ـ عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود، تقول الآية الكريمة: (واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً).
وتجدر الإِشارة ـ هنا إِلى عدة أمور، وهي:
1 ـ إِنّ المقصود بالطيبات المحرمة على اليهود هي تلك التي ذكرتها الآية (146) من سورة الأنعام، والتي شملت بعض الحيوانات وشحوم حيوانات أُخرى كالبقر والأغنام التي أحبّها اليهود، ولم يكن هذا التحريم تحريماً تكوينياً، بل كان تحريماً تشريعياً قانونياً، أي أن اليهود منعوا من استعمال هذه النعم مع أنّها كانت متيسرة في أيديهم.
وقد جاء ذكر بعض هذا التحريم في التوراة المتداولة بيد اليهود حالياً، في «سفر الآويين» في الفصل الحادي عشر، ولكن لم تشر التوراة الحالية إِلى الطابع العقابي لهذا التحريم(1).
2 ـ أمّا هل أنّ هذا التحريم يتميز بطابع شمولي، أي هل يشمل غير الظالمين من اليهود، أم يخص الظالمين وحدهم؟ فإِنّ ظاهر الآية المذكورة أعلاه والآية (146) من سورة الأنعام، يدلان على أنّ التحريم له طابع عام بدلالة عبارة «لهم» على عكس العقاب الأُخروي الذي تخصصه الآية (للكافرين منهم) وعلى هذا الأساس فإِن هذا التحريم له طابع عقابي بالنسبة للظالمين من اليهود، كما يحمل
1 ـ راجع الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.
طابع الإِختبار والإِمتحان بالنسبة لأخيارهم الذين يشكلون الأقلية فيهم.
وقد ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ هذا التحريم يشمل الظالمين من اليهود فقط، كما تدل بعض الروايات على هذا الرأي ـ أيضاً ـ فقد جاء في تفسير البرهان في تفسير الآية (146) من سورة الأنعام، نقلا عن الإِمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ زعماء بني إِسرائيل كانوا قد حرموا على فقراء طائفتهم أكل لحوم الطيور وشحوم الحيوانات، ولهذا السبب حرم الله على هؤلاء الظالمين مثل هذه الطيبات عقاباً لهم على ظلمهم وجورهم(1)».
3 ـ وتدل هذه الآية ـ أيضاً ـ على أنّ تشريع تحريم «الربا» لم يقتصر على الإِسلام وحده، بل كان محرماً لدى الأقوام والديانات السابقة، والتوراة المتداولة حالياً والمحرفة إِنّما تحرم على اليهود أخذ الربا من ابناء عقيدتهم فقط، ولا تعتبر أخذه من أبناء الديانات الأخرى حراماً عليهم(2).
وقد أشارت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة إِلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مراراً في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإِسلام لم يذم ابناء أي طائفة أو عنصر لإنتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والإِنتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إِليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر اُولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً)(3).
1 ـ تفسير البرهان، الجزء الأوّل، ص 559.
2 ـ التوراة، سفر التثنية، الفصل 23، الجملتان 19 و20.
3 ـ لقد شرحنا بنوع من التفصيل، معنى عبارة «الراسخون في العلم» وذلك في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.
وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإِسلام حين بعث النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّية الإِسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإِسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وسائر المسلمين.
* * *
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّنَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـرُونَ وَسُلَيْمَـنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً(163)وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَـهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً(164) رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّيَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً(165) لَّـكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً(166)
لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم.
أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود، وتؤكّد أنّ الله أوحى إِلى نبيّه محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح، وكما أوحى إِلى إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب(عليهم السلام) وأنزل الوحي على
الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان(عليهم السلام)، وكما أنزل الله على داود(عليه السلام) كتاب الزّبور، حيث تقول الآية: (إِنّا أوحينا إِلى نوح والنّبيين من بعده وأوحينا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً).
وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإِلهي، وإِنّهم جميعاً يسيرون في طريق واحد، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.
وقد تكون هذه الآية خطاباً للمشركين والكفار من عرب الجاهلية، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.
ثمّ تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل، وأنبياء لم يحك الله قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إِلى خلقه، وأنزل عليهم الوحي من عنده، تقول الآية: (ورسلا قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ...).
وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّاً، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي، فتقول: (وكلم الله موسى تكليماً...).
وعلى هذا الأساس فإِنّ صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، ويُنذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة، تقول الآية: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا
يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل).
فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إِرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة، وبهذا تؤكد الآية (وكان الله عزيزاً حكيماً) فحكمته توجب تحقيق هذا العمل، وقدرته تمهد السبيل إِلى تنفيذه، وعلى عكس ذلك فإِن إِهمال هذا الأمر المهم، إمّا أن يدل على الإِفتقار إِلى الحكمة والمعرفة، أو أنّه دلالة على العجز، والله منزّه عن كل هذه العيوب.
أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ:(لكن الله يشهد بما أنزل إِليك).
ولم يكن اختيار الله لمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لمنصب النّبوة أمراً عبثاً ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الإِختيار نابعاً من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم، ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية: (أنزله بعلمه).
ويمكن ـ أيضاً ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر، وهو أن ما نزل على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من آيات إِنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي، وإِن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحاً على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإِن الشاهد على صدق ادعاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الآيات القرآنية، ولا يحتاج إِلى دليل آخر لإِثبات دعوته، فلو لم يكن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبداً ـ وهو المعروف بالأُمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمباديء الأخلاقية والبرامج الإِجتماعية.
والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة: (والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً).
ويجب ـ هنا ـ الإِنتباه إِلى عدّة أُمور، وهي:
1 ـ إِنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة (إِنا أوحينا إِليك الكتاب كما أوحينا...) إِنّها تهدف إِلى بيان حقيقة من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه، وإِنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيه(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِلى هذا الموضوع أيضاً فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعاً أو مستنداً على تلك الروايات(1).
2 ـ نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داود ـ ولايتنافي هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أُولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإِسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين، هما:
النّوع الأوّل: الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة انبياء هم «اُولوا العزم».
النّوع الثّاني: الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة، بل كان فيها الحكم والنصائح والإِرشادات والوصايا وأنواع الدعاء، وكتاب «الزّبور» الذي نزل على داود(عليه السلام) من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و«مزامير داود» أو «زبور داود» الذي ورد اسمه في «العهد القديم» دليل على هذا الأمر الذي اثبتناه، مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم» لم يسلم من التحريف، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأُخرى من التحريف أيضاً، إِلاّ أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه
1 ـ راجع تفاسير الصافي، ص 139، والبرهان الجزء الأوّل، ص 427، ونور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 573.
الكتب قد احتفظت نوعاً ما بشكلها القديم.
وكتاب «مزامير داود» يشتمل على مائة وخمسين فصلا، يسمى كل فصل منه «مزموراً» وهو من أوّله إِلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإِرشاد والدعاء والمناجاة.
ونقل عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّه سأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي: بأن عددهم يبلغ مائة وأربعاً وعشرين ألفاً، فسأل أبوذر(رضي الله عنه) عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء ... فسأل أبوذر مرة أُخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على اُولئك الأنبياء والرسل، فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بأنّها مئة وأربع كتب، نزل عشرة منها على آدم، ونزل خمسون منها على شيث، وثلاثون على إِدريس، وعشرة كتب على إِبراهيم، حيث يصبح مجموع هذه الكتب مئة كتاب، والأربعة الأخرى هي التوراة، والإِنجيل والزبور والقرآن(1).
3 ـ إِنّ عبارة «أسباط» هي صيغة للجمع ومفردها «سبط» ومعناها طوائف بني إِسرائيل، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف(2).
4 ـ لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحياناً يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإِلهام القلبي، وأُخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها انبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.
ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمران(عليه السلام)، فكان
1 ـ مجمع البيان، الجزء الأوّل، ص 476.
2 ـ لقد ورد ذكر الأسباط بالتفصيل في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
يسمع الصوت، أحياناً من شجرة وادي الأيمن، وأحياناً في جبل طور، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله»، ولعل مجيء اسم النّبي موسى(عليه السلام) في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسى(عليه السلام)على غيره من أنبياء الله(عليهم السلام).
* * *
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَـلا بَعِيداً(167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً(168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيَهآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(169)
جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إِلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر، فهؤلاء ـ بالإِضافة ـ إِلى انحرافهم وضلالهم سعوا إِلى تحريف وإِضلال الأخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين ـ أيضاً ـ باتّباع هذا السبيل، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: (إِنّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلّوا ضلالا بعيداً).
فلماذا ـ يا ترى ـ استحق هؤلاء الإِبعاد عن طريق الحق؟ إِنّهم استحقوا ذلك لدعوتهم الآخرين إِلى طريق الضلال، حيث من المستبعد جدّاً أن يتخلوا عن طريق هم يدعون الآخرين لإِتّباعه ـ فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد، ووضعوا
أقدامهم في طريق الضلال والإِنحراف، وابتعدوا بذلك كثيراً عن طريق الحق والصواب.
أمّا الآية الأُخرى فتشير إِلى الذين كفروا وظلموا، إِذ ظلموا الحق أوّلا لعدم التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك ـ أيضاً ـ إِذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إِلى طريق الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبداً عفو الله، وإِن الله لا يهديهم أبداً إِلاّ إِلى طريق جهنم، تقول الآية: (إِنّ الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إِلاّ طريق جنهم...).
فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائماً وأبداً، كما تقول الآية: (خالدين فيها أبداً ...).
وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد الله حق، وأن تهديده يتحقق لا محالة، فليس ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية: (وكان ذلك على الله يسيراً).
ونشاهد في الآيتين المذكورتين تأكيداً من طراز خاص حول هذا النوع من الكفار والعقوبات التي ينالونها ـ فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد، ومن جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة (لم يكن الله ...) أنّ العفو عن هؤلاء الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنّه خلود أبدي، لأنّ هؤلاء وأمثالهم بالإِضافة إِلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم، سعوا إِلى إبعاد وحرف الآخرين عن هذا السبيل، وبذلك تحملوا مسؤولية وإِثماً عظيماً.
* * *
يَـأَيُّهَا النَّاسُ قَدْجَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأَمِنُوا خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(170)
لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإِيمان، أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إِلى الإِيمان وتبيّن نتيجة هذا الإِيمان، وتستخدم في ترغيب الناس إِلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والإِندفاع نحو الإِيمان.
وهذه الآية تشير في البداية إِلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إِليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إِليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: (يا أيّها الناس قد جاءكم الرّسول(1)بالحق)(2).
1 ـ يبدو من سياق الآية أنّ حرفي «الـ» الداخلة على كلمة «رسول» هما «الـ» العهدية، وفيها إِشارة إِلى النّبي الذي كانوا ينتظرون قدومه، ولم يقتصر هذا الإِنتظار على اليهود والنصارى وحدهم، بل أنّ المشركين ـ أيضاً ـ كانوا يتوقعون ـ لما سمعوه من أهل الكتاب ـ ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ لقد فسّرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) كلمة «الحق» الواردة في الآية إِشارة إِلى ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد بيّنا سابقاً إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق، وهي لا تدل على الحصر.
ثمّ تردف الآية بأن هذا النّبي قد جاء إِلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: (من ربّكم).
وبعد ذلك تؤكّد الآية ـ على أنّ إِيمان الأفراد إِنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أن الإِنسان إِذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإِيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية: (فآمنوا خير لكم).
كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبداً، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إِلى أي شيء من الآخرين، تقول الآية في هذا الصدد: (وإن تكفروا فإنّ لله ما في السموات والأرض).
وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة، فتقول الآية: (وكان الله عليماً حكيماً).
ومن المنطلق نفسه فإِنّ ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الإِجتماعية للبشر بواسطة الأنبياء(عليهم السلام)، لم يكن ـ مطلقاً ـ لحاجة الله إِلى ذلك، بل إنّه نابع من علمه وحكمته، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإِيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟
* * *
يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَأَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلَـثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ وَحِدٌ سُبْحَـنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى الْسَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(171)
تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إِلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الإِنحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إِلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار.
فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق، حيث تقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إِلاّ الحق ...).
لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إِحدى أخطر منابع الإِنحراف
في الأديان السماوية، فالإِنسان بما أنّه يميل إِلى ذاته يندفع بهذا الميل إِلى إِظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإِنسان التصور الواهي بأن الإِيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة ـ إِلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الإِنحراف الرهيب.
والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين ـ الذي هو عبادة الله وتوحيده ـ ولهذا السبب فقد عامل الإِسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إِذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفراً من الآخرين.
بعد ذلك تشير الآية الكريمة إِلى عدّة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة اُلوهية المسيح(عليه السلام)، وهذه النقاط هي:
1 ـ لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح(عليه السلام) بمريم(عليها السلام) (إنّما المسيح عيسى بن مريم)، وإِشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم ـ إِنّما تؤكّد أنّ المسيح(عليه السلام) هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن اُمّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم(عليها السلام) كما يولد أفراد البشر من بطون اُمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر اُمّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيح(عليه السلام) هذه ـ أن يكون إِلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!
وعبارة الحصر التي هي «إنّما» الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح(عليه السلام)بمريم(عليها السلام) وتؤكّد على أنّه وإِنّ لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم(عليها السلام).
2 ـ تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيح(عليه السلام) هو رسول الله ومبعوث إِلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وإِن هذه المنزلة ـ أي منزلة النّبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية.
والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيح(عليه السلام) الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، إِنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.
3 ـ تبيّن الآية أن عيسى المسيح(عليه السلام) هو كلمة الله التي ألقاها إِلى مريم(عليها السلام)حيث تقول: (وكلمته ألقاها إِلى مريم).
وقد وردت عبارة: «كلمة» في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية، وهذه إِشارة إِلى كون المسيح مخلوقاً بشرياً، إِذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاته عزَّ وجلّ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا ـ نحن البشر ـ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإِنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.
وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة «كلمة» في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية (109) من سورة الكهف والآية (29) من سورة لقمان، وبديهي أنّ الكلمات الإِلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسى(عليه السلام) يعتبر إِحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد من غير أب، إِضافة إِلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإِلهية.
4 ـ تشير الآية إِلى أنّ عيسى المسيح(عليه السلام) هو روح مخلوقة من قبل الله، حيث تقول (وروح منه) وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة أُخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم، إِنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة، وفي المسيح(عليه السلام) وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.
وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الإِستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيح(عليه السلام) هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستنداً إِلى عبارة «منه» ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة «من» ليست للتبعيض، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء.
وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل يوماً في نقاش مع «علي بن الحسين الواقدي» وهو أحد المفكرين الإِسلاميين في ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: «توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيح(عليه السلام)هو جزء من الله ...» وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث، فرد عليه «الواقدي» مباشرة تالياً هذه الآية: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ...)(1)، وأضاف مبيّناً أنّ كلمة «من» لو كانت تفيد التبعيض، لإقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض ـ بناء على هذه الآية ـ جزءاً من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة(2).
إِنّ ما يثير العجب ـ إِضافة إِلى ما ذكر ـ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أُمّ دون أب دليلا على الوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم(عليه السلام)كان قد ولد من غير أب، ولا أُم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.
بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإِيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إِن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية: (فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم...).
1 ـ الجاثية، 13.
2 ـ تفسير المنار، الجزء السادس، ص 84.
وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة: (إِنّما الله إله واحد ...) وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضاً ـ بوحدانية الله، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.
فكيف ـ إِذن ـ يمكن أن يكون لله ولد، وهو منزّه من نقص الحاجة إِلى زوجة أو ولد، كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية: (سبحانه أن يكون له ولد ...) والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعاً، والمسيح(عليه السلام) ـ أيضاً ـ واحد من خلق الله، فكيف يمكن الإِدعاء بهذا الإِستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون إبناً للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية: (له ما في السموات وما في الأرض ...)والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته، تقول الآية: (وكفى بالله وكيلا).
والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إِلى الأبد لا يحتاج مطلقاً إِلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إِلى ولد يخلفه من بعد الموت؟
ليس في الإِنحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإِلهي، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد! أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد.
![]() |
![]() |
![]() |