![]() |
![]() |
![]() |
قال الله تعالى في مطلع هذه الآية (الرّجال قوّامون على النّساء) ولابدّ لتوضيح هذه العبارة من الإِلتفات إِلى أنّ العائلة وحدة إجتماعية صغيرة، وهي كالإِجتماع الكبير لابدّ لها من قائد وقائم بأمورها، لأن القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معاً، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابدّ أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون «رئيساً» للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إِشراف الرئيس.
إِنّ القرآن يصرّح ـ هنا ـ بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لابدّ أن يعطي للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام، فليس المقصود من هذا التعبير هو
الإِستبداد والإِجحاف والعدوان، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإِعتبار).
إنّ هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، وهي أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لابدّ أن يتولى أحدهما زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة (المعاون أو العضو)، وإلاّ سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة، وهكذا الحال بالنسبة إِلى العائلة، فلابدّ من إسناد إدارة العائلة إِلى الرجل.
وإِنّما تعطى هذه المكانة للرجل لكونه يتمتع بخصوصيات معينة مثل القدرة على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر، (على العكس من المرأة التي تتمتع بطاقة فياضة وطاغية من الأحاسيس والعواطف) ومثل امتلاك بنية داخلية وقوة بدنية أكبر ليستطيع بالأُولى أن يفكر ويخطط جيداً، ويستطيع بالثانية أن يدافع عن العائلة ويذّب عنها.
هذا مضافاً إِلى أنّه يستحق ـ لقاء ما يتحمله من الإِنفاق على الأولاد والزوجة، ولقاء ما تعهده من القيام بكل التكاليف اللازمة من مهر ونفقة وإِدارة مادية لائقة للعائلة ـ أن تناط إِليه وظيفة القوامة والرئاسة في النظام العائلي.
نعم يمكن أن يكون هناك بعض النسوة ممن يتفوقن على أزواجهنّ في بعض الجهات، إِلاّ أن القوانين ـ كما أسلفنا مراراً ـ تسن بملاحظة النوع ومراعاة الأغلبية لا بملاحظة الأفراد، فرداً فرداً، ولا شك أنّ الحالة الغالبة في الرجال أنّهم يتفوقون على النساء في القابلية على القيام بهذه المهمّة، وإِن كانت النسوة يمكنهنّ أن يتعهدن القيام بوظائف أُخرى لا يشك في أهميتها.
إنّ جملة (بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) إِشارة
أيضاً إِلى هذه الحقيقة، لأنّ القسم الأوّل من هذه الفقرة يقول: إن هذه القوامة إنّما هولأجل التفاوت الذي أوجده الله بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري، بينما يقول في القسم الثاني منها: وأيضاً لأجل أن الرجال كلفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإِنفاق والبذل.
ولكن غير خفي أن إِناطة مثل هذه الوظيفة والمكانة إِلى الرجل لا تدل على أفضلية شخصية الرّجل من الناحية البشرية، ولا يبرر تميزه في العالم الآخر (أي يوم القيامة) لأنّ التميز والأفضيلة في عالم الآخرة يدور مدار التقوى فقط، كما أنّ شخصية المعاونة الإِنسانية قد تترجح في بعض الجهات المختلفة على شخصية الرئيس، ولكن الرئيس يتفوق على معاونه في الإِرادة التي أنيطت إليه، فيكون أليق من المعاون في هذا المجال.
ثمّ إنّه سبحانه يضيف قائلا: (فالصّالحات قانتات حافظات للغيب)، وهذا يعني أن النساء بالنسبة إِلى الوظائف المناطة إِليهنّ في مجال العائلة على صنفين:
الطّائفة الأُولى: وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب، بل يحفظنهم في غيبتهم، يعني أنهنّ لا يرتكبن أية خيانة سواء في مجال المال، أو في المجال الجنسي، أو في مجال حفظ مكانة الزوج وشأنه الإِجتماعي، وأسرار العائلة في غيبته، ويقمن بمسؤولياتهنّ تجاه الحقوق التي فرضها الله عليهنّ والتي عبّر عنها في الآية بقوله: (بما حفظ الله) خير قيام.
ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة، وحفظ حقوقهنّ، وعدم إِضاعتها.
الطّائفة الثّانية: هنّ النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ، وتبدو عليهنّ علائم النشوز واماراته فإِن على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لابدّ من القيام بها مرحلة فمرحلة، وعلى كل حال يجب أن يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإِطار، وهذه الوظائف هي بالترتيب:
1 ـ المواعظة
إِنّ المرحلة الأُولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن)(1). وعلى هذا فإِن النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لابدّ قبل أي شيء أن يذكرن ـ من خلال الوعظ والإِرشاد ـ بمسؤولياتهنّ وواجباتهنّ ونتائج العصيان والنشوز.
2 ـ الهجر في المضاجع
وتأتي هذه المرحلة إِذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة (واهجروهنّ في المضاجع)، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهنّ.
3 ـ الضرب:
وأمّا إِذا تجاوزن في عصيانهنّ، والتمرد على واجباتهنّ ومسؤولياتهنّ الحدّ، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلاّ استخدام العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب (فاضربوهنّ) لدفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شيء من العنف، ولهذا
1 ـ «النشوز» من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.
سمح الإِسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهنّ ودفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ من خلال التنبيه الجسدي.
اشكال:
يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا: كيف سمح الإِسلام للرجال بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟
الجواب:
إِنّ الجواب على هذا الإِعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية، وأيضاً بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال، ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط:
أوّلا: إِنّ الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفة وواجباته، الذي لا تنفع معه أية وسيلة أُخرى، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإِسلام في حياة البشر، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إِلى تحمل مسؤولياته والقيام بواجباته، فإِن هذه القوانين ربّما لا تقتصر على وسيلة الضرب، بل تتجاوز ذلك ـ في بعض الموارد الخاصّة ـ إِلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حدّ الإِعدام والقتل.
ثانياً: إنّ التّنبيه الجسدي المسموح به هنايجب أن يكون خفيفاً، وأن يكون الضرب ضرباً غير مبرح، أي لا يبلغ الكسر والجرح، بل ولا الضرب البالغ حد السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية.
ثالثاً: إِنّ علماء التحليل النفسي ـ اليوم ـ يرون أن بعض النساء يعانين من حالة نفسية هي «المازوخية» التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه الحالة قد تشتد في المرأة إِلى درجة تحس باللّذة والسكون والرضا إِذا ضربت
ضرباً طفيفاً.
وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إِلى مثل هؤلاء الأفراد الذين يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم.
ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إِلى الطاعة، وعادت المرأة إِلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على المرأة، ويعمد إِلى إِيذائها، ومضايقتها حتى تعود إِلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: (فإِن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا).
ولو قيل: إِن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضاً، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضاً؟ أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك، أم لا؟
نقول في الإِجابة على ذلك: نعم إِنّ الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة الجسدية أيضاً ـ كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات ـ غاية ما هنالك أن هذه العقوبات حيث لا تتيسر للنساء، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع من العقوبة الجسدية).
وقصّة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق، فعمد الإِمام علي(عليه السلام) إِلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع، معروفة.
ثمّ أنّ الله سبحانه ذكّر الرجال مرّة أُخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة (إِنّ الله كان علياً كبيراً).
* * *
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَـحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً(35)
في هذه الآية إِشارة إِلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين، فهي تقول: (وإِن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها)ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين، ثمّ يقول تعالى: (إن يريدا إِصلاحاً يوفق الله بينهما) أي ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإِصلاح، فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما الله ووفق بين الزوجين بسببهما.
ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية، يقول سبحانه في ختام هذه الآية: (إِنّ الله كان عليماً خبيراً).
إِنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إِليها الآية الحاضرة، هي إِحدى مبتكرات الإِسلام العظيمة، فإِن هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إِليها المحاكم
الاُخرى، من جملتها.
1 ـ إِن البيئة العائلية بيئة عاطفية، ولذلك فإِن المقياس الذي يجب أن يتبع في هذه البيئة، يختلف عن المقاييس المتبعة في البيئات الاُخرى، يعني كما أنّه لا يمكن العمل في «المحاكم الجنائية» بمقياس المحبّة والعاطفة، فإِنّه لا يمكن ـ في البيئة العائلية ـ العمل بمقياس القوانين الجافة. الضوابط الصارمة الخالية عن روح العاطفة، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإِمكان، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإِصلاح بين الزوجين، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم خاصّة دون بقية المحاكم الاُخرى.
2 ـ إِنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين ـ تحت طائلة الدفاع عن النفس ـ أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر، بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا ـ بحكم المحكمة ـ إِلى البيت لما عادا إِلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة، بل لبقيا يعيشان بقية حياتهما كشخصين غريبين مجبرين على القيام بوظائف معينة، ولقد دلّت التجربة وأثبتت أنّ الزوجين اللذين يضطران إِلى التحاكم إِلى مثل هذه المحاكم لحل ما بينهما من الخلاف لم يعودا ذينك الزوجين السابقين.
بينما لا تطرح أمثال هذه الأُمور في محاكم الصلح العائلية للإِستحياء من الحضور، أو إذا اتفق أن طرحت هذه الأُمور فإنّها تطرح في جو عائلي، وأمام الأقرباء فإنّها لن تنطوي على ذلك الأثر السيء الذي أشرنا إليه.
3 ـ إِنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة
إِلى المحكمة، هل يعود الزوجان إِلى البيت على وفاق، أو ينفصلا مع طلاق؟
في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماماً، فإِن الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة، فإِن لافتراق أو صلح الزوجين أثراً كبيراً في حياة الحكمين من الناحية العاطفية، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ولهذا فإِنّهما يسعيان ـ جهد إِمكانهما ـ أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما، وأن يعيدا المياه إِلى مجاريها كما يقول المثل.
4 ـ مضافاً إِلى كلّ ذلك فإِن مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات، ولا تحتاج إِلى أية ميزانيات باهظة، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع الذي تعاني منه المحاكم العادية، فهي تستطيع أن تقوم بأهدافها وتحقق أغراضها من دون أية تشريفات وفي أقل مدّة من الزمن.
ولا يخفى أنّه يجب أن يختار الحكمان من بين الأشخاص المحنّكين المطلعين المعروفين، في عائلتي الزوجين بالفهم وحسن التدبير.
مع هذه المميزات التي عددناها يتبيّن أنّ هذه المحكمة تحظى بفرصة للإِصلاح بين الزوجين.
إِنّ مسألة الحكمين وما يشترط فيهما من الشروط، ومدى صلاحيتهما وما يحكمان به في مجال الزوجين، قد ذكر في الكتب الفقهية بالتفصيل، منها أن يكون الحكمان بالغين عاقلين عادلين بصيرين بعملهما.
وأمّا مدى نفوذ حكمهما في حق الزوجين، فقد ذهب بعض الفقهاء إِلى نفوذ كل مايصدر أنّه من حكم في هذا المجال، وظاهر التعبير به «حكم» في الآية الحاضرة يفيد هذا المعنى أيضاً، لأن مفهوم الحكمية والقضاء هو نفوذ الحكم مهما كان، ولكن أكثر الفقهاء يرون نفوذ ما يراه الحكمان في مورد التوفيق بين
الزوجين ورفع الإِختلاف والنزاع بينهما، بل يرون نفوذ ما يشترطه الحكمان على الزوجين، وأمّا حكمهما في مجال الطلاق والإِفتراق بين الزوجين فغير نافذ لوحده، وذيل الآية الذي يشير إِلى مسألة الإِصلاح أكثر ملاءمة مع هذا الرأي، وللتوسع في هذا المجال يجب مراجعة الكتب الفقهية.
* * *
وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَـناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُوراً(36)
الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية بما فيها الحقوق الإِلهية، وحقوق العباد، وآداب العشرة مع الناس، ويستفاد منها عشرة تعاليم:
إِنّ الآية تدعو الناس قبل أي شيء إِلى عبادة الله والخضوع له وحده، وترك الشرك والوثنية التي هي أساس كل البرامج والمناهج الإِسلامية.
إِنّ الدّعوة إِلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح، وتخلص النية، وتقوي الإِرادة، وتشدد من عزيمة الإِنسان على الإِتيان بأي برنامج مفيد.
وحيث أنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإِسلامية لذلك فقد
أشارت إِلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً).
ثمّ إنّها تشير إِلى حقّ الوالدين وتوصي بالإِحسان إِليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيراً، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الإِهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إِلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم(1).
من هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطاً بين هاتين المسألتين، والقضية في الحقيقة كالتالي: حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأُولى، فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية، لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين، لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها، في مصاف الشرك بالله سبحانه.
هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإِسراء ولقمان بإِذن الله تعالى.
ثمّ أنّها توصي بالإِحسان إِلى كلّ الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم إهتماماً بالغاً تارة تحت عنوان «صلة الرحم» وأُخرى بعنوان «الإِحسان إِلى القُربى» وقد أراد الإِسلام بهذا ـ في الحقيقة ـ أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافاً إِلى إيجاد أواصر و علاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الإِجتماعية التي هي أكثر انسجاماً مثل
1 ـ سورة البقرة، الآية 83، سورة الأنعام، الآية 151، سورة الإِسراء، الآية 23 مضافاً إِلى الآية الحاضرة.
«العشيرة» و«العائلة» ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.
ثمّ أشارت إِلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإِحسان إِليهم، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد تناسيهم وإِهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الإِجتماعي بصورة عامّة، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إِلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جُناة.
وعلى هذا يكون الإِحسان إِلى اليتامى إِحساناً إِلى الفرد وإِلى المجتمع معاً.
ثمّ يذكّر سبحانه ـ في هذه الآية ـ بحقوق الفقراء والمساكين، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأُسس والقيم الإِنسانية، فلابدّ من تقديم العون إِليهم، ومعالجة حرمانهم.
وأمّا إِذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الإِنحراف عن مبادىء وأُسس العدالة الإِجتماعية فإِنّه لابدّ من مكافحتهما أيضاً.
ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى، وهناك احتمالات متعددة حول المراد من «الجار ذي القربى» أبداها المفسرون، فبعضهم قال: معناه الجار القريب في النسب، غير أن هذا التّفسير يبدو بعيداً بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت
إِلى حقوق الأقرباء في هذه الآية، فلابدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي، لأن الجيران الأقربين مكاناً يستحقون احتراماً وحقوقاً أكثر من غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إِلى الإِنسان من الناحية الدينية والإِعتقادية.
ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين، والمراد ـ كما أسلفنا ـ هو البعد المكاني، لأنّ كل أربعين داراً من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران، كما تصرح بعض الروايات(1)، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريباً (لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتاً لإتّضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة الآف بيت، ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت.
والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّح ـ في هذه الآية ـ مضافاً إِلى ذكر الجيران القربين ـ بحقّ الجيران البعيدين، لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط، ولهذا لم يكن بدّاً في نظر الإِسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضاً.
كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين، لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإِسلام بالجيران المسلمين، فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين (اللّهم إِلاّ الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم).
إنّ لحقّ الجوار في الإِسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإِمام أمير المؤمنين(عليه السلام) المعروفة: «ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنّه
1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 480.
وروي في حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال ذات يوم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، فقيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(2).
كما نقرأ في حديث آخر أيضاً أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إِلى جاره»(3).
وروي عن الإِمام الصّادق جعفر بن محمّد(عليهما السلام) أنّه قال: «حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار»(4).
في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئاً، بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإِسلامي في حق الجار بشكل خاص، فإِنّ الإِسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإِنساني وزناً خاصّاً، ويوليها اهتماماً كبيراً، في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إِلى الزوال يوماً بعد يوم، وتعطي مكانها إِلى القسوة والجفاء والخشونة.
ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب، غير أنّه لابدّ من الإِنتباه إِلى أنّ لـ «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإِنسان مرافقة ما سواء كان صديقاً دائمياً أو صديقاً مؤقتاً
1 ـ تفسير القرطبي، ج 3، ص 1754.
2 ـ تفسير المنار، ج 5، ص 192، طبعة بيروت.
3 ـ تفسير الصافي، ص 130.
4 ـ تفسير الصافي، ص 120.
(كالذي يرافق الإِنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة «الصاحب بالجنب» في بعض الروايات بالرفيق مثل «رفيقك في السفر» أو الذي يقصد الإِنسان رجاء نفعه مثل: (المنقطع إِليك يرجو نفعك» ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم، بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضاً، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمراً كلياً وجامعاً بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء، سواء كان صديقاً واقعياً، أو زميلا، أو رفيق سفر، أو مراجعاً، أو تلميذاً، أو مشاوراً، أو خادماً.
وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة، وقد روى صاحب تفسير المنار، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن علي(عليه السلام)، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضاً.
وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإِن كان يمكن أن يكون متمكّناً ذا مال في بلده، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن الطريق) إِنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إِلى عائلة أو قبيلة أو شخص، بل لابدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر، وبرزت لديهم حاجة إِلى المساعدة والعون.
وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإِحسان إِلى العبيد والأرقاء، وبهذا تكون الآية ـ في الحقيقة ـ قد بدأت بحق الله، وختمت بحقوق العبيد، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.
على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد، بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أُخرى أيضاً.
هذا مضافاً إِلى أنّ الإِسلام قد نظم برنامجاً دقيقاً لتحرير العبيد تدريجاً، والذي يؤول في النتيجة إِلى تحريرهم المطلق، وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إِن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية (إِنّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخوراً) وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضاً لسخط الله، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإِلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة.
وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: كنت عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ هذه الآية «إِن الله لا يحبّ كل مختال فخور» فذكر الكبر فعظمه، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله: إِنّي لأُحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: «فأنت من أهل الجنّة، أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس»(1).
والخلاصة أنّ ما يستفاد من العبارة الاخيرة أنّ مصدر الشرك وهضم حقوق الاخرين هو الانانية والتكبر غالباً، ولا يتسنى للشخص اداء تلك الحقوق، وخاصّة حقوق الايتام والمساكين والارقاء إلاّ من تحلّى بروح التواضع و نكران الذات(2).
* * *
1 ـ غمص الناس: احتقرهم واستصغرهم ولم يرهم شيئاً. انظر لسان العرب (غمص).
2 ـ «مختال» من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيماً وكبيراً، وسمي الخيل خيلا لأن مشيته تشبه مشية المتكبر، «فخور» من مادة «فخر» والفرق بينها وبين الأُولى ان المختال اشارة إِلى تخيلات الكبر في مجالها الذهني والاُخرى يراد بها الاعمال الصادرة عن كبر في المجال الخارجي.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(37)وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَـنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً(38)وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً(39)
الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث ـ هي في الحقيقة ـ تعقيب على الآيات السابقة وإِشارة إِلى المتكبرين إِذ تقول: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)هذا مضافاً إِلى أنّهم يسعون دائماً أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئاً (ويكتمون ما أتاهم الله من فضله).
ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن
«البخل» ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإِيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإِلهية العظيمة للمحسنين. إِنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إِليهم يجرّ إِليهم التعاسة والشقاء.
وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والإِستكبار هو العذب المهين.
ثمّ إنّه لابدّ من الإِلتفات إِلى أنّ البخل لا يختص بالأُمور المالية، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإِلهية، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأُمور الاُخرى من هذا القبيل.
ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أُخرى من صفات المتكبرين إِذ يقول: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإِنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه، ولهذا فإِنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الإِستحقاق، بل يفكرون دائماً في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إِنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إِليه من أغراض شخصية، وأهداف خاصّة، كتقوية نفوذهم وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولهذا السبب يفتقر إِنفاقهم إِلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإِنفاق، بل دافعهم هو الوصول إِلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل، وهذا هو أيضاً من آثار التكبر ونتائج الأنانية.
إِنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقاً وقريناً لهم: (من يكن الشّيطان له قريناً فساء قريناً) إِنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إِنّه هو الذي يقول لهم: إِنّ الإِنفاق
بإِخلاص يوجب الفقر (الشّيطان يعدكم الفقر)(1) ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإِنفاق والبذل (كما أُشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أُشير إِلى ذلك في الآية الحاضرة).
من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السيء من الأثر في مصير الإِنسان، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إِلى السقوط الكامل.
كما يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» بـ«الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قريناً ورفيقاً لأنفسهم.
وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم الله ...) أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إِلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله، بإِخلاص لا رياء، وكسبوا بذلك رضا الله، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟
فلماذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولماذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقاً أُخرى لا تنتج سوى الشقاء، ولا تنتهي بهم إِلاّ إِلى الضرر والخسران؟
وعلى كل حال فإِنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: (وكان الله بهم عليماً).
والجدير بالإِنتباه أنّ الإِنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإِنفاق مراءاة نُسب إِلى الأموال «ينفقون أموالهم»، وفي هذه الآية نسب إِلى (ممّا رزقهم الله)، وهذا التفاوت والإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون إِشارة إِلى
1 ـ البقرة، 268.
ثلاث نقاط:
أوّلا: إِنّه في الإِنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته، في حين تلحظ في الإِنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق(ممّا رزقهم الله).
ثانياً: إِنّه في الإِنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال، وأنّه لا مجال للمنّ إِذا هم أنفقوا شيئاً من ذلك، ولذلك يمتنعون من الكبر والمنّ.
ثالثاً: إِنّ الإِنفاق رياء ينحصر غالباً في المال، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه، ولكن الإِنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإِلهية من المال، والعلم والجاه، والمكانة الإِجتماعية وما شابه ذلك من الأُمور المادية والمعنوية.
![]() |
![]() |
![]() |