* * *


1 ـ البرهان، ج 1، ص 344، الحديث 9.

[113]

الآية

لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَآ تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْكَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً(7)

سبب النّزول

كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإِناث، وكانوا يعتقدون أنّه لا يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح، ولا يذود عن الحريم والمال، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإِرث، ويورثون الرجال الأباعد، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم.

حتى إِذا مات أنصاري يدعى «أوس بن ثابت» وقد ترك صغاراً من بنات وأولاد، فاقتسم أبناء عمومته «خالد» و«عرفجة» أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته وأولاده الصغار من تركته أبداً، فشكت زوجته إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن في ذلك حكم إِلى ذلك الحين، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذينك الشخصين، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري، وأن يتركا تلك الأموال إِلى ورثة الميت من الطبقة الأُولى وهم زوجته وأولاده، بانتظار أن تنزل آيات أُخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.

[114]

التّفسير

خطوة أُخرى لحفظ حقوق المرأة:

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ خطوة أُخرى على طريق مكافحة العادات والأعراف الخاطئة التي تؤدي إِلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلَّمة الطبيعية، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة، لأن العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإِرث، ولا يسهمون لهم من المواريث، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطىء الظالم إذ قال سبحانه: (للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثر).

ثمّ قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع (نصيباً مفروضاً) حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

ثمّ أنّ الآية الحاضرة ـ كما هو ملاحظ ـ تذكر حكماً عامّاً، وشاملا لجميع الموارد، ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أنّ الأنبياء لا يورثون، أي أنّهم إِذا تركوا شيئاً من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم، خلاف الآية (طبعاً المقصود من الأموال التي يتركها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي تلك الأموال الخاصّة به، وأمّا الأموال المتعلقة ببيت المال الذي هو من حق المسلمين عامّة، فالحكم الإِسلامي فيها هو صرفها في مواردها:.

كما أنّه يتبيّن من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الاُخرى التي تأتي في ما بعد حول الإرث أنّ القول بالتعصيب (وهو إعطاء شيء من التركة إِلى عصبة الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب، وذلك في بعض الموارد كما يذهب إليه علماء السنة) يخالف هو أيضاً ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال

[115]

الإِرث، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد، وهذا ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإِسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات المشابهة لها.

* * *

[116]

الآية

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ اُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَـمِى وَالْمَسَـكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفاً(8)

التّفسير

حكم أخلاقي:

نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإِرث حتماً إِذ تقول: (وإِذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه).

وعلى هذا الأساس يتضمّن محتوى هذه الآية حكماً أخلاقياً إِستحبابياً في شأن طبقات محجوبة عن الإِرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إِلى المورث، فالآية تقول: إِذا حضر مجلس تقسيم الإِرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية والثالثة، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإِرث، وبهذا تكونون قد منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك الشعور بسبب حرمانهم من الإِرث، ولا شك أنّ هذا العمل من شأنه أن يقوي أواصر القرابة الإِنسانية بينكم.

إِنّ كلمتي «اليتامى» و«المساكين» وإِن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية، غير أن الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت، لأنّ الأقرب

[117]

يحجب ـ في قانون الإِرث ـ الأبعد من الإِرث، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه الطبقات قسمة الميراث فإِنّه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئاً من الميراث هدية (يتوقف مقدارها على إِرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار دون الصغار).

هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواءاً كانوا من قرابة الميت أم لا، ولكن هذا الإِحتمال يبدو بعيداً في النظر، لأن الأجانب ليس لهم طريق إِلى المجالس العائلية غالباً.

كما أنّه يعتقد بعض المفسّرين أن الآية تتضمن حكماً وجوبياً لا إِستحبابياً، بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب، وجب تعيين وتحديد مايلزم أعطاؤه لهاتين الطائفتين، في حين ترك الأمر فيه إِلى إِرادة الورثة.

ثمّ أنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إِذ يقول: (وقولوا لهم قولا معروفاً) يعني أنّه مضافاً إِلى تقديم مساعدة مادية إِلى هؤلاء أشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإِنساني لكسب مودّتهم، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم، وهذا الدستور علامة أُخرى ودليل آخر على أن الأمر بإِعطاء شيء من الميراث إِلى اليتامى والمساكين إِنما هو على نحو الندب لا الوجوب.

من كل ما ذكرناه إِتّضح أنّه لا مبرر أبداً لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإِرث، لعدم وجود أية منافاة وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.

* * *

[118]

الآية

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـفاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً(9)

التّفسير

دعوة إِلى العطف على اليتامى:

يشير القرآن الكريم ـ بهدف إِثارة مشاعر العطف والإِشفاق لدى الناس بالنسبة إِلى اليتامى ـ إِلى حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً، وتلك الحقيقة هي: إِن على الإِنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم.

أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتماً، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم، واحزنوا لما يحزنهم.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم) هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إِيذائهم.

[119]

وأساساً: إِنّ القضايا الإِجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن ـ من اليوم إِلى الغد، ومن الغد إِلى المستقبل البعيد، فالذين يُروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إِيذاء اليتامى فإِن ذلك سيكون سبباً لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضاً، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضاً.

لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإِلهية، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقاً للشرع والحق، قولا ممزوجاً بالعواطف الإِنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أُولئك من الجراح، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإِلى هذا يشير قوله سبحانه: (فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً).

إنّ هذا التعليم الإِسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إِشارة إِلى ناحية نفسية في مجال تربية التيامى ـ جديرة بالإِهتمام والرعاية، وهي: إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم، وهو ذو تأثير كبير جدّاً في بناء مستقبلهم، لأن الطفل اليتيم إِنسان كغيره، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأُمّه. أنه ليس «حَمَل» يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح، ويعود عند الغروب، بل هو إِنسان يجب ـ مضافاً إِلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية، والعناية العاطفية، وإِلاّ نشأ قاسياً مهزوماً، عديم الشخصية، بل وحاقداً خطيراً.

إِيضاح ضروري:

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبدالله(عليه السلام) مبتدءاً: «من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه، قال (أي الراوي) فذكرت في

[120]

نفسي فقلت: يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إِن الله يقول: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم)».

إِنّ السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين، فيتساءلون: كيف يحمل البارىء تعالى جزاء شخص على شخص آخر، بل وماذا فعل أبناء العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟

إِنّ جواب هذا السؤال يتضح من الإِيضاح الذي ذكر في الحديث السابق وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئاً فشيئاً، وينتقل إِلى الأجيال اللاحقة، وعلى هذا الأساس فإِن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوماً ما أيضاً، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل، وأمّا نسبته إِلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل خواص العلّة والمعلول منسوبة إِلى الله ومستندة إِليه تعالى، ولا يظلم ربّك أحداً أبداً.

وخلاصة القول: اذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضاً.

* * *

[121]

الآية

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَـمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)

التّفسير

الوجه الحقيقي لأفعال البشر:

لقد ذكرنا في مطلع هذه السّورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع صالح وسليم، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما تبقّى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإِسلام من العادات السيئة أوّلا، لتتهيأ الأرضية لإِقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود.

وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا إبتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع، وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.

تقول هذه الآية: (إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إِنّما يأكلون في بطونهم ناراً).

ولقد ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن الذين يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب

[122]

المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلا أُولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النّار)(1).

ثمّ أنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: (وسيصلون سعيراً).

و«يصلى» من «الصلى» بمعنى الدخول في النار والإِحتراق بلهيبها، وأمّا «السعير» فبمعنى النار المشتعلة.

ويقصد القرآن من هذه الجملة إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى مضافاً إِلى أنّهم يأكلون النار ـ في الحقيقة ـ في هذه الدنيا سيدخلون عمّا قريب ناراً مشتعلة الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.

ويستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافاً إِلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنّه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإِسلامية.

إِنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً وجوراً، وإِن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.

إِنّ بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسباً وتشابهاً دائماً، فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم، ويؤذي روحه، فكذا يكون الوجه الواقعي للعمل ناراً محرقة.

إِنّ الإِنتباه إِلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع للذين يؤمنون بهذه الحقائق، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب، فهل يوجد ثمّة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار، ويضعها في فمه ويبتلعها؟


1 ـ البقرة، 174.

[123]

إِنّه من غير الممكن ـ والحال هذه ـ أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم ظلماً، ولو أنّنا وجدنا ثمّة من لا يقدم على هذا الفعل، بل ولا يفكر في المعصية أبداً (كالأولياء)، فلأنهم يرون ـ بفضل ما لديهم من الإِيمان والعلم، وما حصلوا عليه من تربية خلقية ـ حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية، فلا يفكرون في إقتراف هذه الأعمال السيئة، فضلا عن الهمّ باقترافها.

إِنّ الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إِليها، ولكن الإِنسان العاقل الذي جرب حرارة النار وذاق ألمها، كيف يمكن أن يفكر يوماً بذلك.

هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدّة عن أكل مال اليتيم والعدوان على حقوقه، وتؤكد على أنّها كبيرة موبقة، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا النوع مشمولا لهذا الحكم الصارم وموضوعاً لهذه العقوبة القاسية.

ففي حديث عن الإِمام الصادق أو الإِمام الباقر(عليه السلام) لما سئل في كم يجب لأكل مال اليتيم من النار؟ قال: في درهمين(1).

* * *


1 ـ تفسير البرهان عند تفسير الآية.

[124]

الآيتان

يُوصِيكُمُ اللهُ فِى أَوْلَـدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَاتَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَحِد مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فِلاُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُِمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة يُوصِى بِها أوْ ديْن ءَبآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعَاً فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَاتَرَكَ أَزْوَجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّة يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْن وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الـثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّة تُوصُونَ بِهَآ أَوْدَيْن وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَحِد مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوآ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّة يُوصَى بِهَآ أَوْدَيْن غَيْرِ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12)

[125]

سبب النّزول

لمّا مات «عبد الرحمن بن ثابت الأنصاري» «أخو حسان بن ثابت» الشاعر المعروف في صدر الإِسلام وقد خلف امرأة وخمسة أخوان، اقتسم اخوانه ميراثه بينهم ولم يعطوا زوجته شيئاً ممّا تركه من المال، فشكت ذلك إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فنزلت الآيات الحاضرة التي تبيّن وتحدد سهم الأزواج من الإِرث بنحو دقيق.

كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: مرضت فعادني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأغمي عليَّ، فطلب النّبي ماء وتوضأ لبعضه وصب بعضه الآخر علي فأفقت فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي (أي كيف يجب أن يكون أمره من بعد وفاتي) فسكت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئاً، فنزلت آية المواريث تبيّن نظام الإِرث وتحدد أسهم الورثة.

الإِرث حق طبيعي:

قبل أن نعمد إِلى تفسير الآيات الحاضرة لابدّ أن نشير إِلى عدّة نقاط.

أوّلا: قد يتصور كثيرون أنّ من الأفضل أن تعود أموال الشخص بعد وفاته إِلى الملكية العامّة، وأن تضاف إِلى بيت مال المسلمين، ولكن الإِمعان في هذا العمل يكشف لنا عن كونه خلاف العدل، لأن مسألة الإِرث والتوارث مسألة طبيعية منطقية جداً، فكما أن الأباء والأمهات ينقلون قسماً من صفاتهم الجسمية والروحية إِلى أبنائهم ـ حسب قانون الوراثة الطبيعي ـ فلماذا يستثنى من ذلك أموالهم فلا تنتقل إِلى أبنائهم؟

هذا مضافاً إِلى أنّ الأموال المشروعة هي نتاج جهود الإِنسان المضنية، ومساعيه وأتعابه فهي في الحقيقة طاقاته المتجسدة في صورة المال وهيئة الثروة، ولهذا لابدّ من الإِعتراف بأن كل شخص هو المالك الطبيعي لحاصل

[126]

جهوده وثمرة أتعابه، وهذا هو حكم فطري.

وعلى هذا، فعندما يمتنع أن يتصرف الشخص في أمواله بعد وفاته ويحال بينه وبين ثروته بسبب الموت، تصبح هذه الأموال من حق أقرب الناس إِليه، والذين يعتبرون ـ في الحقيقة ـ بشخصيتهم ووجودهم امتداداً لشخصيته ووجوده.

على هذا الأساس نجد الكثيرين لا يتركون الكد والعمل، والكسب والتجارة حتى آخر لحظة من حياتهم رغم ما يملكون من ثراء طائل، وذلك لبغية أن يوفروا لأبنائهم مستقبلا زاهراً ويقيموا لهم حياة سعيدة بعدهم، وهذا يعني أن الإِرث وقانون التوريث قادر على إعطاء العجلة الإِقتصادية دفعة قوية ويزيد من حركتها ودورانها ونشاطها، وأمّا إِذا عرف الشخص أنّ أمواله بعد موته، وامتناع تصرفه في تلك الأموال بسبب الوفاة تعود إِلى الملكية العامة، فإِنّه قد يفقد قسطاً كبيراً من نشاطه الإِقتصادي، ويصاب بالفتور والكسل.

ويشهد بهذا الأمر ما وقع في فرنسا قبل حين، عندما أقدم مجلس النواب الفرنسي ـ كما قيل ـ على إِلغاء قانون الإِرث قبل مدّة وأقرّ بدل ذلك إِلحاق أموال الأشخاص بعد موتهم إِلى خزانة الدولة، وصيرورتها أموالا عامّة، فتؤخذ من قبل الدولة وتصرف في المصارف العامّة بحيث لا يحصل ورثة الميت على أي شيء من التركة، فكان لهذا القانون أثر سيء وظاهر على الحركة الإِقتصادية، فقد لوحظ اختلال كبير في أوضاع التصدير والإِستيراد، كما خف النشاط الإِقتصادي هناك بشكل ملحوظ، فأقلق ذلك بال الحكومة، وكان السبب الوحيد وراء هذه الحالة هو «إِلغاء قانون الإِرث» ممّا دفع بالدولة إِلى إِعادة النظر في هذا القرار.

وعلى هذا لا يمكن إِنكار أن قانون الإِرث ومبدأ التوريث مضافاً إِلى كونه قانوناً طبيعياً فطرياً، له أثر قوي وعميق في تنشيط الحركة الأقتصادية.

[127]

الإِرث في الأمم السابقة:

لما كان لقانون الإرث جذوراً فطرية فإِنّه شوهد وجود الإِرث والتوريث في الشعوب والأمم السابقة في أشكال وصور مختلفة.

أمّا بين اليهود ـ وإِن ادعى البعض عدم وجود مبدأ التوارث عندهم ـ ولكننا حينما نراجع التوراة نجدها تذكر هذا القانون في سفر الأعداد بصورة صريحة إِذ يقول:

وتكلم بني إسرائيل قائلا: أيّما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إِلى إِبنته، وإن لم تكن له إِبنة تعطوا ملكه لإِخوته، وإن لم يكن له أخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه أخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاءاً كما أمر الرّب موسى(1) يدور لدى بني إسرائيل.

ويستفاد من هذه العبارات أنّ مبدأ التوارث كان على محور النسب فقط، ولهذا لم يرد ذكر عن سهم الزوجة في الميراث.

وأمّا في الدين النصراني فالمفروض أن يكون مبدأ الإرث المذكور في التوراة معتبراً أيضاً، وذلك لما نقل عن المسيح(عليه السلام) من أنّه قال: «أنا لم أبعث لأُغير من أحكام التوراة شيئاً» ولهذا لا نجد في كتابات الفتاوى الدينية أي كلام حول الإِرث، نعم ورد في هذه الكتب بعض مشتقات الإِرث في بعض الموارد، ولكنها تعني جميعاً الإِرث المعنوي الأُخروي.

هذا وقد كان التوارث لدى العرب الجاهليين يتحقق بإِحدى هذه الطرق الثلاث:

1 ـ بالنسب، وكان المقصود منه عندهم هم الأبناء الذكور والرجال خاصّة، فلا يرث الصغار والنساء أبداً.


1 ـ سفر الأعداد الإِصحاح السابع والعشرون: 8 ـ 11.

[128]

2 ـ بالتبني، وهو من طرده أهله من الأبناء، فتكفله وتبناه شخص آخر أو عائلة أُخرى، وفي هذه الصورة يتحقق التوارث بين المتبني والمتبني له.

3 ـ بالعهد، يعني إِذا تعاهد شخصان أن يدافع كل واحد منهما عن الآخر طيلة حياتهما ويرث أحدهما الآخر بعد وفاته، فإِنّه يقع التوارث بينهما بعد وفاة أحدهما.

وقد حرّر الإِسلام قانون الإِرث الطبيعي الفطري مما علق به من الخرافات، ولحق به من رواسب التمييز العنصري الظالم الذي كان يفرق بين الرجل والمرأة حيناً، وبين الكبار والأطفال حيناً آخر، وجعل ملاك التوارث في ثلاثة أُمور لم تكن معروفة إِلى ذلك الحين:

1 ـ النّسب وذلك بمفهومه الوسيع، وهم كل علاقة تنشأ بين الأشخاص بسبب الولادة في مختلف المستويات من دون فرق بين الرجال والنساء والصغار والكبار.

2 ـ السبب وهي العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب المصاهرة والتزاوج.

3 ـ الولاء وهي العلاقات الناشئة بين شخصين من غير طريق القرابة (السبب والنسب) مثل ولاء العتق، يعني إِذا أعتق رجل عبده، ثمّ مات العبد وخلف من بعده مالا ولم يترك أحداً ممن يرثونه بالسبب أو النسب، ورثه المعتق، وفي هذا حيث على التحرير والإِعتاق، وكذلك ولاء ضمان الجريرة، وهو أن يركن شخص إِلى آخر ـ لا سبب بينهما ولا نسب ـ ويتعاهدان أن يضمن كل منهما جناية الآخر ويدافع كل منهما عن الآخر، ويكون إِرث كل منهما للآخر، و«ولاء الإِمامة» يعنى إِذا مات أحد ولم يترك من يرثونه ممن ذكر ورثه الإِمام(عليه السلام)، أي أن أمواله تنتقل إِلى بيت المال الإِسلامي، وتصرف في شؤون المسلمين العامّة.

هذا، ولكل واحدة من هذه الطبقات أحكام وشرائط خاصّة مذكورة في الكتب الفقهية المفصلة.

[129]

التّفسير

قال الله تعالى في الآية الأُولى من هذه الآيات (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين) وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الأُولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والأُمهات)، ومن البديهي أنّه لا رابطة أقوى وأقرب من رابطة الأُبوة والبنوة ولهذا قدموا على بقية الورثة من الطبقات الاُخرى.

ثمّ إنّ من الجدير بالإهتمام من ناحية التركيب اللفظي جعل الأُنثى هي الملاك والأصل في تعيين سهم الرجل، أي أن سهمها من الإِرث هو الأصل، وإِرث الذكر هو الفرع الذي يعرف بالقياس على نصيب الأُنثى من الإِرث إِذ يقول سبحانه: (وللذكر مثل حظ الأُنثيين)، وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإِرث والميراث، حرماناً كاملا.

وأمّا فلسفة هذا التفاوت بين سهم الأُنثى والذكر فذلك ما سنتعرض له عمّا قريب إِن شاء الله.

ثمّ يقول سبحانه وتعالى: (فإِن كن نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك) أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهن الثلثان أي قسم الثلثان بينهن.

ثمّ قال (وإِن كانت واحدة فلها النصف) أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.

وها هنا سؤال:

القرآن يقول في هذا المجال «فوق اثنتين» أي لو كانت بنات الميت أكثر من بنتين استحققن ثلثي التركة يقسّم بينهن، وهذا يعني أن القرآن ذكر حكم البنت الواحدة، وحكم البنات فوق اثنتين، وسكت عن حكم «البنتين»، فلماذا؟

[130]

الجواب:

بملاحظة المقطع الأوّل من الآية الحاضرة يتضح جواب هذا السؤال، ونعني قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأُنثيين)، ولو إِجمالا، لأن ورثة الميت إِن انحصروا في ابن واحد وبنت واحدة كان للابن الثلثان وللبنت الثلث، فإِذا كانتا بنتين كان لهما الثلثان حسب هذه العبارة.

وخلاصة القول: أنّه إِذا قال للذكر مثل حظ الأُنثيين وكان أوّل العدد ذكراً وأُنثى وللذكر الثلثان وللأُنثى الثلث، عُلِمَ من ذلك أن للبنتين الثلثين، ولعل لوضوح هذا الأمر لم تتعرض الآية لبيانه (أي لذكر سهم الأختين) واكتفت بذكر سهم البنات المتعددات فوق اثنتين، وهو الثلثان.

على أن هذا المطلب يتّضح أيضاً بمراجعة الآية الأخيرة من سورة النساء، لأنّها جعلت نصيب الأُخت الواحدة النصف (مثل نصيب البنت الواحدة) ثمّ تقول: (فإِن كانتا اثنتين فلهما الثلثان) فمن هذا يتضح أن سهم البنتين هو الثلثان أيضاً.

هذا مضافاً إِلى ورود مثل هذا التعبير في الأدب العربي، إِذ يقول العرب أحياناً «فوق اثنتين» ويكون مرادهم هم «اثنتان فما فوق».

وبغض النظر عن كل ما قيل أنّ الحكم المذكور من الأحكام القطعية المسلمة من وجهة نظر الفقه الإِسلامي والأحاديث الشريفة، والرجوع إِلى السنة المطهرة (أي الأحاديث) كفيل برفع أي إِبهام في الجملة المذكورة إِن كان.

لماذا يرث الرّجل ضعف المرأة؟:

مع أنّ ما يرثه الرجل هو ضعف ما ترثه المرأة، إِلاّ أنّه بالإِمعان والتأمل يتّضح أنّ المرأة ترث ـ في الحقيقة ـ ضعف ما يرثه الرجل إِذا لاحظنا القضية من جانب آخر، وهذا إِنّما هولأجل ما يوليه الإِسلام من حماية لحقوق المرأة.

توضيح ذلك: إِن هناك وظائف أنيطت بالرجل (وبالأحرى كلِّف بادائها تجاه

[131]

المرأة) تقتضي صرف وإِنفاق نصف ما يحصل عليه الرجل على المرأة، في حين لا يجب على المرأة أي شيء من هذا القبيل.

إِنّ على الرجل (الزوج) أن يتكفل نفقات زوجته حسب حاجتها من المسكن والملبس والمأكل والمشرب وغير ذلك من لوازم الحياة كما أن عليه أن ينفق على أولاده الصغار أيضاً، في حين أُعفيت المرأة من الإِنفاق حتى على نفسها، وعلى هذا يكون في إِمكان المرأة تدخر كل ما تحصله عن طريق الإِرث، وتكون نتيجة ذلك أن الرجل يصرف وينفق نصف مدخوله على المرأة، ونصفه فقط على نفسه، في حين يبقى سهم المرأة من الإِرث باقياً على حاله.

ولمزيد من التوضيح نلفت نظر القارىء الكريم إِلى المثال التالي: لنفترض أنّ مجموع الثروات الموجودة في العالم والتي تقسم تدريجاً ـ عن طريق الإِرث ـ بين الذكور والإِناث هو (30) ميليارد دينار، والآن فلنحاسب مجموع ما يحصل عليه الرجال ونقيسه بمجموع ما تحصل عليه النساء عن طريق الإِرث.

فلنفترض أن عدد الرجال والنساء متساو فتكون حصة الرجال هو (20) ميليارداً، وحصة النساء هي (10) ميلياردات.

وحيث أن النساء يتزوجن ـ غالباً ـ فإِن الإِنفاق عليهنّ يكون من واجب الرجال، وهذا يعني أن تحتفظ النساء بـ (10) ميلياردات (وهو سهمهنّ من الإِرث)، ويشاركن الرجال في العشرين ميليارداً، لأن على الرجال أن يصرفوا من سمهمهم على زوجاتهم وأطفالهم.

وعلى هذا يصرف الرجال (10) ميلياردات على النساء (وهو نصف سهمهم من الإِرث) فيكون مجموع ما تحصل عليه النساء ويملكنه هو (20) ميليارداً وهو ثلثا الثروة العالمية في حين لا يعود من الثروة العالمية على الرجال إِلاّ (10) ميلياردات، أي ثلث الثروة العالمية (وهو المقدار الذي يصرفه الرجال على أنفسهم).

[132]

وتكون النتيجة أنّ سهم المرأة التي تصرفه وتستفيد منه وتتملكه واقعاً هو ضعف سهم الرجل، وهذا التفاوت إنّما لكونهنّ أضعف من الرجال على كسب الثروة وتحصيلها (بالجهد والعمل)، وهذا ـ في حقيقته ـ حماية منطقية وعادلة قام بها الإِسلام للمرأة، وهكذا يتبيّن أنّ سهمها الحقيقي أكثر ـ في النظام الإِسلامي ـ وإِن كان في الظاهر هو النصف.

ومن حسن الصدف أنّنا نقف على هذه النقطة إِذا راجعنا التراث الإِسلامي حيث أنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإِسلام وخالج بعض الأذهان، فكان الناس يسألون أئمّة الدين عن سرّ ذلك بين حين وآخر، وكانوا يحصلون على إِجابات متشابهة في مضمونها ـ على الأغلب ـ وهو أن الله إِذ كلف الرجال بالإِنفاق على النساء وأمهارهنّ، جعل سهمهم أكثر من سهمهنّ.

إِن أبا الحسن الرضا(عليه السلام) كتب إِليه في ما كتب من جواب مسائله علّة إِعطاء النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث: لأن المرأة إِذا تزوجت أخذت، والرجل يعطي، فلذلك وفرّ على الرجال، وعلُة أُخرى في إِعطاء الذكر مثل ما يعطى الأُنثى لأن الأُنثى من عيال الذكر إِن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إِن احتاج فوفرّ على الرجال لذلك(1).

إِرث الأب والأُمّ:

وأمّا ميراث الآباء والأُمهات الذين هم من الطبقة الأُولى، وفي مصاف الأبناء أيضاً، فإِن له كما ذكرت الآية الحاضرة (أي الآية الأُولى من هذه المجموعة) ثلاث حالات هي:

الحالة الأُولى: إِنّ الشخص المتوفى إِن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب


1 ـ البرهان، ج 1، ص 347.

[133]

والأُمّ السدس: (ولأبويه لكل واحد منهما السّدس ممّا ترك إِن كان له ولد).

الحالة الثّانية: إِن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والأُمّ، ورثت الأُمّ ثلث ما ترك، يقول سبحانه: (فإِن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأُمّه الثلث)وإِذا كنّا لا نجد هنا أي ذكر عن سهم الأب فلان سهمه واضح وبيّن وهو الثلثان، هذا مضافاً إِلى أنّه قد يخلف الميت زوجة فينقص في هذه الصورة من سهم الأب دون سهم الأُم، وبذلك يكون سهم الأب متغيّراً في الحالة الثانية.

الحالة الثالثة: إِذا ترك الميت أباً وأُمّاً وأُخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم يترك أولاداً، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الأُم إِلى السدس، وذلك لأن الأخوة يحجبون الأُم عن إِرث المقدار الزائد عن السدس وإِن كانوا لا يرثون، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه: (فإِن كان له أخوة فلأُمّه السدس).

وفلسفة هذا الحكم واضحة، إِذ وجود أُخوة للميت يثقل كاهل الأب، لأن على الأب الإِنفاق على أُخوة الميت حتى يكبروا، بل عليه أيضاً أن ينفق عليهم بعد أن يكبروا، ولهذا يوجب وجود أخوة للميت من الأبوين أو من الأب خاصّة تدني سهم الأُمّ، ولا يوجب تدني سهم الأب، ولا يحجبونها عن إِرث ما زاد على السدس إِذا كانوا من ناحية الأُمّ خاصّة، إِذ لا يجب لهم على والد الميت شيء من النفقات. كما هو واضح.

سؤال:

ويردهنا سؤال، وهو أن القرآن استعمل في المقام صيغة الجمع إِذ قال: (فإِن كان له أُخوة) ونحن نعلم أن أقل الجمع هو ثلاثة، في حين يذهب جميع الفقهاء إِلى أن الأخوين يحجبان أيضاً، فكيف التوفيق بينهما؟

الجواب:

إِنّ الجواب يتّضح من مراجعة الآيات القرآنية الاُخرى، وإذ لا يلزم أن يكون

[134]

المراد كلّما استعملت صيغة الجمع، الثلاثة فما فوق، بل استعملت أحياناً على شخصين فقط كما في الآية (78) من سورة الأنبياء (وكنّا لحكمهم شاهدين).

والآية ترتبط بقضاء داود وسليمان، وقد استخدم القرآن الكريم ضمير الجمع في شأنهما، فقال «لحكمهم».

ومن هنا يتّضح أنّه قد تستعمل صيغة الجمع في شخصين أيضاً، ولكن هذا يحتاج طبعاً إلى قرينة وشاهد، والشاهد في المقام هو ورود الدليل من أئمّة الدين على ذلك، وإجماع المسلمين، إذ أجمع فقهاء المسلمين سنة وشيعة (إلاّ ابن عباس) إِن الحكم المذكور في الآية يشمل الأخوين أيضاً.

الإِرث بعد الوصية والدّين:

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فلابدّ من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أوّلا، ثمّ تقسيم البقية بين الورثة.