حقّاً أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع، ونقوش رائعة، ولوحات خلابة كتاب بالغ العظمة، كتاب في كلّ حرف من حروفه، وكل سطر من أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرّده(3).


1 ـ سفينة البحار، مادة نوف، ج 2، ص 622.

2 ـ التعبير بأُولي الألباب ـ في هذه الآية وآيات عديدة اُخرى في الكتاب العزيز ـ إِشارة لطيفة إِلى أرباب العقول، لأن اللب من كلّ شيء خيره خالصه، ولا شك أنّ العقل هو خير ما في الإِنسان، وهو عصارة وجوده الإِنساني.

3 ـ لقد بحثنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في معنى اختلاف الليل والنهار وأسرارهما عند تفسير الآية 164 من سورة البقرة فراجع.

[48]

إِنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوت في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إِلى نفسه فؤاد كلّ لبيب وعقله شدّاً ـ يجعله يتذكر خالقه، في جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول سبحانه: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي أنّهم مستغرقون كامل الإِستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.

ولقد أُشير ـ في هذه الآية ـ إِلى الذكر أوّلا، ثمّ إِلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي، إنّ الذكر إِنّما يعطي ثماره القيّمة إِذا كان مقترناً بالفكر، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إِلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر. فما أكثر العلماء الذين يقفون ـ في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية ـ على مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع، ولكنّهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إِلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، بل ينظرون إِليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة، فإِنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإِنسانية، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاماً ليقوى به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.

إنّ التفكير في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإِنسان وعياً خاصّاً ويترك في عقله آثاراً عظيمة، وأوّل تلك الآثار هو الإِنتباه إِلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه، فالإِنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف، ومصنوع من دون غاية؟

لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافاً واضحة فيها، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر، وصمامات، وأبواب

[49]

وبطون، فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية، ومجعول لهدف، وكذا الحال في طبقات العين، بل وحتى الأجفان، والأظافر، كل واحد منها يؤدي دوراً، ويحقق غاية، فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جداً بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات ملحوظة، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف مطلقاً؟ (ربّنا ما خلقت هذا باطلا).

إِنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إِلاّ أن يقولوا بخشوع هذه الجملة: (ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم، وهذا الكون الذي لا يعرف له حدّ، وهذا النظام المتقن البديع اِلاّ على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيح، فكل هذا آية وحدانيتك، وكل هذا ينزّهك عن اللغو والعبث.

إِن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً، وكيف يعقل أن يكونواـ وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذات ـ قد خلقوا سدى، أو جاؤوا إِلى هذه الحياة عبثاً، وأنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم!!

إِنّهم لم يأتوا إِلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاماً سرعان ما تفنى وتنقضي، فذلك أمر لا يستحق كلّ هذا العناء والتعب كما لا يلبق بمكانة الإِنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا، بل هناك دار اُخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم، أن خيراً فخير، وإِن شرّاً فشر، وفي هذه اللحظة ينتبهون إِلى مسؤولياتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه، ولهذا يقول:

(فقنا عذاب النّار) ثمّ يقول: (ربّنا إنّك من تدخل النّار فقد أخريته ...).

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإِنّه مستعد لأن يتحمل كلّ شيء من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته، ولهذا فإِن أشدّ

[50]

عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

على أن النقطة الجديرة بالإِهتمام التي تنطوي عليها جملة (وما للظّالمين من أنصار) هي أن العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإِنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الإِنسان ونجاته هي أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار، لأنّهم فقدوا النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتركيز على لفظة «الظلم» إمّا لأجل خطورة هذه المعصية من بين المعاصي الاُخرى، وإمّا لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم الإِنسان لنفسه.

على أنّه ليست ثمّة أيّة منافاة بين هذه الآية ومسألة الشفاعة (بمعناها الصحيح) لأنّ الشفاعة (كما قلنا سابقاً في بحث الشفاعة) تحتاج إِلى قابلية وأهلية خاصّة في المشفوع له، وهذه الأهلية والصلاحية لشمول الشفاعة تحصل في ضوء بعض الأعمال الصالحة الخيرة.

ثمّ إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إِلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإِلهيين، ولهذا فهم يترصّدون نداء من يدعوهم إِلى الإِيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها، ويتأكدوا من صدقها وصحّتها ويؤمنون بها بكلّ وجودهم، ولهذا يقولون في محضر ربّهم:

(ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإِيمان أن أمنوا بربكم فأمنا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار).

أي ربّنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كلّ جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربّنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

[51]

لقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإِنساني إِتصالا عجيباً، وتركوا التفرد والأنانية إِلى درجة أنّهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم ـ سواء أكان مماتاً طبيعياً أو بالشهادة في سبيل الله ـ كممات الأبرار الصالحين أيضاً، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.

وهنا يطرح سؤال وهو: ماذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟

والجواب هو: مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإِجابة على هذا السؤال، فإِن الآية 31 من سورة النساء تقول: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) فيستفاد من ذلك أنّ السيئات تطلق على المعاصي الصغيرة، ولهذا فإنّ العقلاء ذوي الألباب يطلبون من اللّه في أدعيتهم وضراعاتهم أنْ يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة، ويستر ـ عقب ذلك ـ على ذنوبهم الصغيرة، ويمحو آثارها من الوجود.

ثمّ أن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربّهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإِيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إِليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: (ربّنا أتنا ما وعدتنا على رسلك)أي ربّنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة: (ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد).

إِنّ التركيز على «الخزي» يؤكّد مرّة أُخرى هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون «الخزي» من أشد ما يلحق بالإِنسان من الأذى، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.

وفي مستدرك الوسائل نقلا عن أبي الفتوح الرّازي في تفسيره، أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: من كان له إِلى الله حاجة فليقل خمس مرات ربّنا يعطى حاجته، ومصداق

[52]

ذلك في كلام الله في قوله تعالى: (ربّنا ما خلقت هذا باطلا) إِلى آخر الآيات فيها ربّنا خمس مرّات ثمّ قال تعالى: (فاستجاب لهم ربّهم)(1).

ومن الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات، إِنما يتحقق إِذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل، وأن يحل مضمون هذه الآيات الذي يكشف عن طريقة تفكير اُولي الألباب وشدّة حبّهم لله، وإِحساسهم بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والقيام بواجباتهم، في فؤاد قارئها وقلبه، فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأُولي الألباب عند مناجاتهم لله، وتضرعهم إليه.

* * *


1 ـ مستدرك الوسائل، ج 1، ص 369.

[53]

الآية

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَـمِل مِّنكُم مِّنْ ذَكَر أَوْ أُنثَى بَعْضُكُمْ مِّن بَعْض فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـرِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلىِ وَقَـتَلُوا وَقُتِلُوا لاَُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(195)

سبب النّزول

هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول أُولي الألباب والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم، والشروع بفاء التفريع ـ في هذه الآية ـ أوضح دليل على هذا الإِرتباط، ومع ذلك ذكرت أسباب نزول متعددة لها في الأحاديث وأقوال المفسرين، لكنها لا تنافي ـ في حقيقتها ـ الإِرتباط الذي ذكرناه لهذه الآية مع الآيات السابقة.

ومن جملة ذلك ما نقل عن أمّ سلمة (وهي إحدى زوجات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) أنّها قالت للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله هذه الآية.

كما نقل أيضاً أنّ عليّاً(عليه السلام) لما هاجر بالفواطم (وهن فاطمة بنت أسد، وفاطمة

[54]

بنت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة بنت الزبير) من مكّة إِلى المدينة، ولحقت به أُم أيمن ـ وهي إحدى زوجات النّبي المؤمنات ـ في أثناء الطريق نزلت الآية الحاضرة(1).

والمسألة كما قلناه، فإِن الأسباب المذكورة لنزول الآية لا تنافي الإرتباط الذي أشرنا إليه بين هذه الآية. والآيات السابقة، كما أنه لا تنافي أيضاً بين هذين السببين المذكورين للآية أيضاً.

التّفسير

النّتيجة الطّيبة لموقف أولي الألباب:

في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزاً من إِيمان أُولي الألباب والعقول النّيرة، وبرامجهم العملية، وطلباتهم وأدعيتهم، وفي هذه الآية يقول سبحانه: (فاستجاب لهم ربّهم)، والتعبير بلفظة «ربّهم» حكاية عن غاية اللّطف، ومنتهى الرحمة الإِلهية بالنسبة إليهم، ثمّ يضيف قائلا: (إِنّي لا أُضيع عمل عامل منكم) دفعاً للإِشتباه والتوهم الذي قد يسبق إِلى الذهن بأنه لا ارتباط بين الفوز والنجاة، وبين أعمال الإِنسان ومواقفه، ففي هذه العبارة إِشارة واضحة إِلى أصل «العمل»، وإِشارة أيضاً إِلى عامله، حتى يتبيّن أن الملاك والمحور الأصلي لقبول الدعاء وإستجابته هو الأعمال الصالحة الناشئة من الإِيمان، وأنّ الأدعية التي تستجاب فوراً هي تلك التي يدعمها العمل الصالح.

ثمّ أنّه سبحانه يقول: (من ذكر أو أُنثى، بعضكم من بعض)، وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإِلهي يختص بطائفة معينة كالذكور دون الإِناث مثلا، فلا فرق في هذا الأمر بين أن يكون العامل ذكراً أو يكون أُنثى، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إِلى مصدر واحد (بعضكم من بعض) أي تولد بعضكم من بعض، النساء من الرجال، والرجال من النساء، فلا تفاوت في هذه المسألة


1 ـ مجمع البيان، ج 2، ص 559، والميزان، ج 4، ص 95 ـ 96.

[55]

إِذن بين الذكر أو الاُنثى، فلماذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

ويمكن أن تكون عبارة (بعضكم من بعض) إشارة إلى أنّكم جميعاً أتباع دين واحد، ورواد منهج واحد وأنصار حقيقة واحدة، فلا معنى لأن يفرق الله سبحانه بين جماعة واُخرى ويميز بين طائفة وطائفة، وجنس وآخر.

ثمّ أنّه سبحانه يستنتج من ذلك إِذ يقول: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم واُوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا لأُكفّرن عنهم سيئاتهم)، أي أنّ الله سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم، جاعلا من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم، ليطهروا من أدرانها تطهيراً.

ثمّ يقول تعالى: (ولأدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار) مضافاً إِلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.

وهذا هو الثواب الإِلهي لهم على ماقاموا به من تضحية وفداء (ثواباً من عندالله والله عنده حسن الثواب) ... إِنّ لهم أفضل الأجر عند الله وأحسنه، وقوله: (والله عنده حسن الثواب) إشارة إِلى أنّ الأجر الإِلهي والمثوبات الإِلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

هذا ويستفاد ـ جيداً ـ من هذه الآية أن الإِنسان لابدّ أن يتطهّر من أدران الذنوب في ظل العمل الصالح أوّلا، ثمّ يدخل في رحاب القرب الرّباني والنعيم الإِلهي، لأنّه سبحانه قال أوّلا: (لأُكفّرن عنهم سيئاتهم) ثمّ قال: (لأدخلنّهم جنّات).

وبعبارة اُخرى: أنّ الجنّة مقام المتطهرين، ولا طريق لمن لم يتطهر إِليها.

القيّمة المعنويّة للرّجل والمرأة:

إِن الآية الحاضرة ـ كبقية الآيات القرآنية الاُخرى ـ تساوي بين الرجل

[56]

والمرأة عند الله، وفي مسألة الوصول إِلى الدرجات المعنوية، ولا تفرق بينهما بسبب اختلافهما في الجنس، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق في المسؤوليات الإِجتماعية دليلا على اختلافهما في إِمكانية الحصول على درجات التكامل الإِنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة، بل تعتبرهما في مستوى واحد ـ من هذه الجهة ـ ولذلك ذكرتهما معاً.

إِن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إِلى حد كبير الإِختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والإِنضباط حيث يختار شخص كرئيس، وآخر كمعاون ومساعد، فإِنّه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علماً، وأكثر تجربة في مجال عمله، ولكن هذا التفاوت والإِختلاف في مراتب المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقاً على أن شخصية الرئيس وقيمته الوجودية أكثرمن شخصية معاونيه ومساعديه، وقيمتهم الوجودية.

إِنّ القرآن الكريم يقول بصراحة: (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فأُولئك يدخلون الجنّة، يرزقون فيها بغير حساب)(1).

ويقول في آية اُخرى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(2).

هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الاُخرى نزلت في عصر كان المجتمع البشري فيه يشك في إِنسانية جنس المرأة أساساً، بل ويعتقد أنها كائن ملعون، وأنها منبع كل إِثم وإنحراف وموت وفساد.

لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة إِلى درجة أنها تعتقد أحياناً إِنّ عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل، وكان الكثير من اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة كائن نجس وشرير وأنّها من عمل


1 ـ غافر، 40.

2 ـ النحل، 97.

[57]

الشّيطان، وكان الرّوم وبعض اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة ليست ذات روح إِنسانية أساساً، وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون غيره.

والملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون ـ حتى إِلى الآونة الأخيرة ـ في أن المرأة هل تملك ـ مثل الرجل ـ روحاً إِنسانية أم لا؟ وأن روحها هل تخلد بعد الموت أم لا؟

وقد توصلوا ـ بعد مداولات طويلة ـ إِلى أن للمرأة روحاً برزخية، وهي نوع متوسط بين الروح الإِنسانية والروح الحيوانية، وأنه ليس هناك روح خالدة ـ بين أرواح النساء ـ إِلاّ روح مريم(1).

من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإِسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

إِنّ بعض الإِختلاف في نوع المسؤوليات الإِجتماعية الذي يقتضيه اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضرّ بالمرأة وقيمتها المعنوية أساساً، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة، فأبواب السعادة والتكامل الإِنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا ذلك عند البحث في قوله تعالى: (بعضكم من بعض).

* * *


1 ـ راجع كتاب وستر مارك، وكتاب «حقوق المرأة في الاسلام» والكتب الباحثة في مذاهب البشر وعقائدهم.

[58]

الآيات

لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـدِ(196) مَتَـعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ(197) لَـكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا نُزُولا مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلاَْبْرَارِ(198)

سبب النّزول

كان أكثر مشركي مكّة أهل تجارة، وقد كانوا يحصلون من هذا الطريق على ثروة ضخمة، يتنعمون بها، وهكذا كان يهود المدينة أهل تجارة، وكانوا يعودون من رحلاتهم التّجارية على الأغلب موفورين، في حين كان المسلمون بسبب أوضاعهم الخاصّة، لا سيما بسبب الهجرة، والحصار الذي كان مشركو مكّة قد فرضوه عليهم، يعانون من وضع إِقتصادي صعب جداً، وبكلمة واحدة كانوا يعيشون في عسرة شديدة.

فكانت مقارنة هاتين الحالتين تطرح على البعض السّؤال التالي: كيف يتنعّم أعداء الله في العيش الرخي، بينما يقاسي المؤمنون ألم الجوع والفقر المدقع؟

[59]

فنزلت الآيات الحاضرة تجيب على هذا التساؤل(1).

التّفسير

سؤال مزعج:

السّؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النّبي يعتبر سؤالا عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان.

فإِنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطّغاة، والفراعنة والفسّاق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية، والرخاء العريض، ويقيسونه ـ غالباً ـ بحياة الشدّة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم أُولئك العصاة ـ مع ما هم عليه من الإِثم والفساد والجريمة ـ بمثل تلك الحياة الرخية، بينما يعيش هؤلاء ـ مع ما هم عليه من الإِيمان والتقوى والصلاح ـ في مثل هذه الشدّة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإِيمان إِلى الشك والتّردد.

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة، وحللنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إِلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص.

تقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (لا يغرّنّك تقلب الذين كفروا في البلاد)والمخاطب في هذه الآية وإِن كان شخص النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلا أنه من الواضح البيّن أن المراد هو عموم المسلمين.

ثمّ تقول: (متاع قليل) أي أنّ هذه النّجاحات المادية التي يحرزها


1 ـ تفسير مجمع البيان والمنار والميزان.

[60]

المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل، ولذّة عابرة.

(ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد) فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إِلى مصير مشؤوم، ذلك هو الجحيم الذي ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إِنّ هذه الآية تشير ـ في الحقيقة ـ إِلى نقطتين:

الأُولى: إِنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضاً.

وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإِسلام.

فحيث أنّ الحكومة الإِسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابّة لا تمتلك كل عناصر القوّة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة ودونما رحمة، وخاصّة أنّ هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكّة جعلتهم في وضع حرج جدّاً إِلى درجة أنّهم فقدوا كل شيء في الهجرة، ولا يختص مثل هذا الوضع بهم، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل من يناصر ثورة تغييرية، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد تغييره بها.

ولكننا نعلم أنّ هذا الوضع لم يدم طويلا، فما لثبت الحكومة الإِسلامية إِلاّ أن ترسخت جذورها وقويت دعائمها، واشتدّ أمرها، وقويت شوكتها، وانحدرت الأموال إِلى مركز الإِسلام من كل صوب وحدب، فانعكس الوضع تماماً، إِذ عاد المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه: (متاع قليل).

[61]

الثّانية: إِن النّجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إِنّما هي لكونهم لا يتقيدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل سبيل، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، حراماً كان أم حلالا، بل إنّهم يجوزون لأنفهسم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم، في حين يتقيد المؤمنون بمبادىء الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوغون لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق، ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء.

هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثّقيلة، وأُولئك لا يشعرون بأية مسؤولية، ولا يعترفون بأي ضابطة، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإِرادة البشرية الحرّة، وعالم الإِختيار الحر، كان طبيعياً أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحراراً ليتصرفوا كيف شاؤوا، ولينتهوا في المآل إِلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها بأيديهم، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه، بقوله في ختام هذه الآية: (ثمّ مأواهم جهنم وبئس المهاد).

معرفة نقاط الضّعف والقوّة معاً:

ثمّ أن هناك سبباً آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين، وتأخر بعض المؤمنين هو أن الطائفة الأُولى رغم خلوهم من عنصر الإِيمان يتحلون ـ أحياناً ـ ببعض نقاط القوّة التي يحققون في ظلّها ما يحققون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخرهم وانحطاطهم.

فنحن نعرف أشخاصاً ـ رغم انقطاعهم عن الله ـ يتسمون بالجدّية الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالإِستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلباته، ومقتضياته ومستجداته، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء

[62]

مكاسب كبيرة ويحرزوا إنتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر ـ في الحقيقة ـ إِلاّ مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إِسنادها إِلى الدين وإعطائها صفته وصبغته.

وفي المقابل، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية، لكنهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإِحجام، ويفتقرون إِلى الشهامة والإِستقامة ويفقدون عنصر الثبات والإِستمرار والإِتحاد والتعاون، وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإِخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة، ولكن هذه الهزائم والإِخفاقات ليست أبداً بسبب إِيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإِخفاق.

إنّهم يتصورون (وبالأحرى يظنون) بأنهم سيتنصرون بمجرد الصلاة والصوم في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة.

إِنّ لكلّ شيء سبباً، ولكل نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصّة، وقد أتى الدِّين بكل ذلك، وبيّنه في تعالميه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغيره هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.

وخلاصة القول: إِنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف، ونقاط قوّة، ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة.

مثلا: هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق في هذا المجال النجاح تلو النجاح، ولكنّه إِذ يفتقد عنصر الإِيمان بالله فإِنّه يفتقر إِلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة، والأهداف الإِنسانية العالية.

[63]

يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم، وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد، بل لكل واحد منها مورده ومجاله الخاص.

ثمّ إِنّ الله سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة، بيّن هنا ـ في الآية التي تلت تلك الآية ـ مصير المؤمنين، إِذ قال: (لكن الذين اتقوا ربّهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي إِن الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إِلى المكاسب المادية، أو أنّهم بسبب إِيمانهم تعرضوا للحصار الإِقتصادي والإِجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإِنّه تعالى سيعوضهم عن كل ذلك بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها (نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار).

و«النّزل» في اللغة هو ما يعدّ للضيف من الكرامة والبر، وقال البعض: أنّه أول ما يقدم إِلى الضّيف النازل من شراب أو فاكهة.

وعلى هذا يكون معنى الآية أن الجنات المذكورة مع كل ما فيها من المواهب المادية هي أوّل ما يقدَّم يوم القيامة إِلى المؤمنين المتقين، وأمّا الضيافة المهمّة والعليا فهي النعم والمواهب المعنوية التي عبر عنها سبحانه بقوله: (وما عند الله خير للأبرار).

* * *

[64]

الآية

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَـشِعِينَ للهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَـتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(199)

سبب النّزول

هذه الآية ـ حسب ما يذهب إِليه أكثر المفسّرين ـ نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء، والتحقوا بصفوف المسلمين، وكانوا يشكلون عدداً معتدّاً به من النصارى واليهود.

ولكنّها حسب اعتقاد بعض المفسّرين أنّها نزلت في النّجاشي ملك الحبشة العادل، وإِن كان مفهومها أوسع من ذلك المورد.

ففي السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب بالذات توفي النجاشي، فبلغ خبر وفاته إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِلهام إِلهي في اليوم الذي مات فيه وقال:(صلى الله عليه وآله وسلم) «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم»، قالوا: ومن؟ قال: النجاشي، فخرج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع وكشف له من المدينة إِلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلى عليه، فقال بعض المنافقين: انظروا إِلى هذا يصلّي على علج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية ردّاً على

[65]

مقالتهم(1).

هذا ويستفاد من هذه الرواية أن النجاشي إعتنق الاسلام بالكامل وإِن لم يظهر ذلك.

التّفسير

أهل الكتاب ليسوا سواء:

قلنا ـ في ما سبق ـ ان القرآن الكريم إِذا تطرق إِلى أُمور حول إِتباع الشرائع الاُخرى لم ينظر إِلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حساباً واحداً، ولم تتسم أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية، بل ينطلق في أحكامه من أسس إِعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلّة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.

والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وخضعت للحق.

فالآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلّة المؤمنة، وبينت خمساً من صفاتها الممتازة هي:

1 ـ (يؤمن بالله) (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق).

2 ـ (وما أُنزل إِليكم) (أي يؤمنون بالقرآن).

3 ـ (وما أُنزل إِليهم) أي إِيمانهم بنبيّ الإِسلام نابع في الحقيقة من إِيمانهم بكتبهم السّماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النّبي ودعت إِلى الإِيمان به إِذا ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.


1 ـ أسباب النزول للواقدي.

[66]

4 ـ (خاشعين لله) أي أنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإِرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإِيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والإِستكبار تجاه منطق الحقّ.

5 ـ (لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا) أي أنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظاً على مراكزهم وإِبقاءاً على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولا إِلى بعض المكاسب المادية.

والإِشارة إِلى «الثّمن القليل» في الآية للتلويح بما كان عليه أُولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمّة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس.

هذا مضافاً إِلى أن كل أجر دون الأجر الإِلهي حقير، وكل مكسب يحصل عليه الإِنسان عوضاً عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.

وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإِنسانية العالية هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم (أُولئك لهم أجرهم عند ربّهم).

والتعبير هنا بلفظة «ربّهم» إِشارة إِلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم، كما أنه إشارة أيضاً إِلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق.

(إِنّ الله سريع الحساب) فلا يتأخر عن إِعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطىء عن مجازاة المنحرفين والظالمين.

وهذه العبارة بشارة إِلى الصالحين المؤمنين، كما هي أيضاً تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين(1).

* * *


1 ـ للوقوف على تفصيل أكثر حول معنى هذه العبارة راجع، الآية 202 من سورة البقرة.

[67]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200)

التّفسير

هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران، وتحتوي على برنامج يتكون من أربع نقاط لعامّة المسلمين، وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إِلى المؤمنين إِذ تقول: (يا أيّها الذين آمنوا).

1 ـ «اصبروا»: إِن أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وانتصارهم هو الإِستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث الذي هو ـ في الحقيقة ـ أصل كلّ نجاح مادي، وعلّة كل انتصار معنوي، وهو الأمر الذي يستحق حديثاً مفصلا لما له من أثر جدّ مهم في الإِنتصارات والنجاحات الفردية والإِجتماعية، وهو الذي قال عنه الأِمام علي(عليه السلام) في حكمه وكلماته القصار: «إِن الصبر من الإِيمان كالرأس من الجسد».