![]() |
![]() |
![]() |
القدير الذي يعفو عن عباده مع إمتلاكه القدرة على الإِنتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإِنّ الله كان عفواً قديراً).
سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييداً لظلمه وتشجيعاً لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إِلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين.
والجواب هو: أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم، والدليل على ذلك ما نقرؤه في الأحكام الإِسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية (لا تظلمون ولا تظلمون)(1) وقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(2) وقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إِلى أمر الله)(3).
كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: (وإِن تعفوا أقرب للتقوى)(4) وقوله: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).(5)
من الممكن أن يتبادر إِلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضاً بين هذين الحكمين، ولدى الإِمعان فيما ورد في المصادر الإِسلامية في هذا المجال، يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله، وإِنّ الدعوة إِلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.
1 ـ البقرة، 279.
2 ـ نهج البلاغة، الوصية رقم 48.
3 ـ الحجرات، 9.
4 ـ البقرة، 237.
5 ـ النور، 22.
ويجدر توضيح أنّ العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الإِنتصار على العدو وهزيمته النهائية، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو، ويكون العفو والصفح عنه سبباً لإِصلاحه واستقامته ودفعه إِلى إعادة النظر في سلوكه، والتاريخ الإِسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال، والحديث المشهور القائل «إِذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه»(1) خير دليل على هذا القول.
أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إِلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إِذا اعتبر العفو استسلاماً للظلم وخضوعاً أمامه ورضي به، فإِنّ الإِسلام لا يجيز مطلقاً مثل هذا العفو، وكما أنّ أئمّة الإِسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.
* * *
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة العاشرة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخُذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا(150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(151) والَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(152)
تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف أُخرى لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.
وتشير الآية الأُولى إِلى طائفة فرقوا بين الأنبياء ،فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.
والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون الإِيمان بالنّبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معاً كانوا يرفضون
الإِذعان لنبوة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.
وهذا التمييز بين الحقائق الثابتة وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، سببه أنّ هؤلاء كانوا يتبعون أهواءهم ونزواتهم ويسيرون وراء عصبياتهم الجاهلية، وينبع أحياناً من حسد هؤلاء ونظرتهم الضيقة.
وهذا دليل عدم إِيمان هؤلاء بالأنبياء وبالله، لأنّ الإِيمان ليس هو قبول ما طابق هوى النفس أو رفض ما يخالف الأهواء والميول، فهذه الحالة ما هي إِلاّ نوع من عبادة الهوى ولا صلة لها بالإِيمان، فالإِيمان الحقيقي هو ذلك الذي يدفع الإِنسان إِلى قبول الحقيقة ـ سواء طابقت هواه وميوله أو خالفتهما ـ ولذلك فإِنّ القرآن الكريم اعتبر الذين يزعمون أنّهم يؤمنون بالله وببعض الأنبياء كفاراً حقيقيين، وعلى هذا الأساس فإِن ما يتظاهرون به من إِيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقاً، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة.
والقرآن الكريم يهدد هؤلاء ـ وأمثالهم ـ بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: (واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية بـ «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإِيمان بالبعض الآخر منهم، إِنّما يوجّهون الإِهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذاباً مهيناً يتناسب واهانتهم تلك.
ويجدر هنا توضيح أنّ العداب قد يكون أليماً أحياناً، مثل: الجلد والتعذيب الجسدي، وقد يكون مهيناً كرش الشخص بالقاذورات، أو يكون العذاب عظيماً كأن يكون العقاب أمام أعين الناس، وقد يكون أثره عميقاً في نفس الإِنسان يستمر معه لمدّة طويلة ويسمى هذا بالعذاب الشديد، وما إِلى ذلك من أنواع العذاب.
وواضح أنّ وصف العذاب بواحد من الصفات يتناسب مع نوع الذنب، ولذلك فقد ورد في كثير من الآيات القرآنية أنّ عقاب الظالمين هو العذاب الأليم، لأنّه ينتاسب وألم الظلم الذي يمارسه الظالم على المظلوم، وهكذا بالنسبة للأنواع الأُخرى من العذاب، وقد قصدنا بهذا الشرح تقريب مسألة العذاب إِلى الأذهان، علماً بأنّ العذاب الأخروي شيء لا يمكن مقارنته بما هو موجود من عذاب في حياتنا الدنيوية هذه.
وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى موقف المؤمنين الذين آمنوا بالله وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل واخلصوا للحق، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة، وبيّنت أنّ الله سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية: (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم اُولئك سوف يؤتيهم أُجورهم ...).
وبديهي أنّ الإِيمان بجميع الأنبياء والرسل لا يتنافى ومسألة تفضيل بعضهم على البعض الآخر، لأنّ مسألة التفاضل هذه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأهمية وعظم المسؤولية التي تحمّلها كل منهم، وطبيعي أنّ المسؤوليات المناطة بالأنبياء(عليهم السلام)تتفاوت من حيث الأهمية والخطورة بالنسبة لكل منهم، وقد ثبت هذا الأمر بالدليل القطعي والمهم هنا أن لا يحصل تمايز أو تفريق في الإِيمان بالأنبياء والإِقرار بنبوّتهم.
وقد أكدت الآية في الختام أنّ الله سيغفر للمؤمنين الذين ارتكبوا اخطاء بالإِنجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إِن أخلص هؤلاء المؤمنون في إِيمانهم وعادوا إِلى الله، أي تابوا إِليه من اخطائهم السابقة، حيث تقول الآية: (وكان الله غفوراً رحيماً).
ويجب الإِنتباه هنا إِلى أنّ الآيات الأخيرة ذكرت الذين يعمدون إِلى التفرقة بين الأنبياء بأنّهم كفار حقيقيون، بينما لم تذكر الذين يؤمنون بجميع الأنبياء بأنّهم
مؤمنون حقاً وحقيقة، بل وصفتهم بالمؤمنين فقط، وقد يكون هذا التفاوت في الوصف هو لبيان أنّ المؤمنين حقّاً هم اُولئك الذين استقرّ الإِيمان في قلوبهم وظهرت آثاره على أعمالهم، وكما يقول الخبر المأثور بأنّ «الإِيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».
ويدلّ على هذا الأمر آيات وردت في بداية سورة الأنفال التي ذكرت المؤمنين بأوصاف عديدة: أوّلها الإِيمان بالله، ويلي ذلك إقامة الصّلاة وإِيتاء الزكاة والتوكل على الله والإِعتماد عليه، ثمّ يأتي التأكيد بعد سرد هذه الصفات في قول الله تعالى في الآية المذكورة: (اُولئك هم المؤمنون حقّاً...).
* * *
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمِّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَاجَآءَتْهُمُ الْبَيِّنـتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَـناً مُّبِيناً(153)وَرَفْعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَـقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَتَعْدُوا فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً(154)
جاء في تفاسير «التبيان» و«مجمع البيان» و«روح المعاني» حول سبب نزول هاتين الآيتين، أنّ عدداً من اليهود جاءوا إِلى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: لو كنت حقّاً نبيّاً مرسلا من قبل الله فأرنا كتابك السماوي كلّه دفعة واحدة، كما جاء موسى بالتوراة كلّها دفعة واحدة، فنزلت الآيتان جواباً لهؤلاء اليهود.
تشير الآية الأُولى إِلى طلب أهل الكتاب «اليهود» من النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء كاملا وفي دفعة واحدة، فتقول: (يسألك أهل
الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء...).
ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإِرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحياناً عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحياناً أُخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.
وبناء على هذا فقد كان الأجدر باليهود أن يطالبوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالدليل ويسألوه عن تعاليم سامية قيمة، لا أن يحددوا له طريقة لنزول الكتب السماوية ويطالبوه بأن ينزل عليهم كتاباً الطريقة التي عينوها.
ولهذا السبب فضح الله نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا، وأوضح للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران(عليه السلام)، فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم الله جهاراً وعلناً! تقول الآية: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة...).
وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد الله وتحديده، وقد أدى عنادهم هذا إِلى نزول عذاب الله عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما ارتكبوه من ظلم كبير، تقول الآية: (فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم).
ثمّ تشير الآية إِلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤا إِلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: (ثمّ اتّخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات ...).
ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم الله لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيّهم موسى(عليه السلام) ملكاً بارزاً وسلطاناً مبيناً، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: (فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً).
لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ ـ لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع الله جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين ـ من باب بيت المقدس ـ دليلا على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيّام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ الله منهم ميثاقاً غليظاً مؤكّداً، ولكنّهم لم يثبتوا ـ مطلقاً ـ وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود(1) يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (ورفعنا فوقهم الطّور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً).
فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ أسود صادقة مع النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما طلبته منه وإِن كان هؤلاء صادقين، لماذا إِذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحاً في كتابهم السماوي وحول العلامات الخاصّة بخاتم النّبيين؟ ولماذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)من براهين وأدلة واضحة بيّنة؟
وهنا تجدر الإِشارة إِلى أمرين، وهما:
أوّلا: لو اعترض معترض فقال: إن تلك الأعمال كانت خاصّة باليهود السابقين، فما صلتها باليهود في زمن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فنقول: إنّ اليهود في زمن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبدوا اعتراضاً واستنكاراً ـ أبداً ـ لأعمال أسلافهم السابقين، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.
1 ـ للإِطلاع أكثر على قضية جبل الطّور، وهل أنّ رفعه فوق رؤوس اليهود كان نتيجة زلزلة، أم هناك عامل آخر وكذلك فيما يتعلق بعجل السامري، ومساوىء اليهود، راجع الجزء الأوّل من هذا التّفسير في البحث الخاص بهذه المواضيع.
أمّا الأمر الثّاني: فيخصّ مسألة نزول التوراة دفعة واحدة، حيث قلنا في سبب نزول الآيتين الأخيرتين: «إِنّ اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي دفعة واحدة، في حين أنّ هذا الأمر لا يعتبر من الأُمور المؤكّدة، ولعل الشيء الذي أدى إِلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة» التي نزلت في ألواح دفعة واحدة على النّبي موسى(عليه السلام)، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام التوراة دفعة واحدة.
* * *
فَبَِما نَقْضِهِم مِّيثَـقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِأَيَـتِ اللهِ وَقَتْلِهِمْ الاَْنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا(155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَـناً عَظِيماً(156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمِسِيحَ عِيَسى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً(158)
تشير هذه الآيات إِلى نماذج أُخرى من انتهاكات بني إِسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء الله.
فالآية الأُولى تشير إِلى قيام اليهود بنقض العهود، وإِلى ارتداد بعضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب الله والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم الله الطاهرة.
فقد أنكر هؤلاء آيات الله وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل
الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إِذ عمدوا إِلى قتل الهداة والقادة إِلى طريق الحق من أنبياء الله، إِيغالا منهم في اتباع طريق الباطل والإِبتعاد عن طريق الحق.
لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والإِستهزاء، ووصل بهم الأمر إِلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الأُولى من الآيات الأربع الأخيرة: (فبما نقضهم(1) ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ...).
وهنا يؤكّد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقاً، بحيث لا ينفذ إِليها أي حقّ، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإِيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إِلاّ القليل منهم.
وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتاناً عظيماً، هي أُمّ لأحد أنبياء الله الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإِذن الله دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً).
وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: (وقولهم إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ...) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح(عليه السلام)، وإِلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: (وما قتلوه وما
1 ـ إنّ عبارة «فبما نقضهم» من ناحية الإعراب جار ومجرور، ويجب أن يكون لها عامل محذوف قد يكون تقديره «لعناهم» أو جملة «حرمنا عليهم» الواردة في الآية (160) التالية، وعلى هذا الأساس فإن ما ورد في هذا الإِطار يكون بمثابة جملة معترضة، تضفي في مثل هذه الحالة جمالا أكثر على الكلام القرآني البليغ.
صلبوه ولكن شبّه لهم...)
وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح(عليه السلام) كانوا ـ هم أنفسهم ـ في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: (وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن ...).
وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح(عليه السلام) حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر ـ كاليهود ـ كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.
وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح(عليه السلام) حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.
أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح(عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره ...؟!
ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).
يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح(عليه السلام) لم يقتل ولم يصلب، بل اشبته الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبداً!
أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ
المسيح(عليه السلام) قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا» وبصورة تفصيلية.
والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة، ومسألة الصلب أو قتل المسيح(عليه السلام) تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح(عليه السلام) مجرّد نبي ارسل لهداية وإرشاد البشرية، بل يعتقدون بأنّه «ابن الله» من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إِلى هذا العالم ليكون قرباناً يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.
فيقولون: إِنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإِيمان بهذا الموضوع.
ومن هذا المنطلق فهم ـ أحياناً ـ يدعون المسيحية بدين «الإِنقاذ» أو دين «الفداء» ويسمّون المسيح(عليه السلام) بـ «المنقذ» أو «المخلص» أو «الفادي».
واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعاراً لأنفسهم إِنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.
كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح(عليه السلام).
أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريم(عليه السلام)، كان نبيّاً كسائر انبياء الله أوّلا، ولم يكن هو الله ولا ابن الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.
وثانياً: إِنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إِنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإِنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإِيمان والعمل الصالح فقط.
وثالثاً: إِنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إِلى التلوث والهلاك.
وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح(عليه السلام) مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة، لمنع المسيحيين من الإِيغال في هذا الإِعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إِنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.
رابعاً: هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإِعتقاد بصلب المسيح(عليه السلام) هي:
1 ـ المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد بصلب المسيح(عليه السلام) ـ كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره(عليه السلام) ـ وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.
كما نعرف أيضاً أنّ حواري المسيح(عليه السلام) قد هربوا حين هجم الأعداء عليه، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر(1) وعلى هذا الأساس فإِنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح(عليه السلام) من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا حاضرين اثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إِلى تهيئة الأجواء المساعدة للإِشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح(عليه السلام)، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.
2 ـ إِنّ العامل الآخر الذي يجعل من الإِشتباه بشخص آخر بدل المسيح(عليه السلام)أمراً محتملا هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح(عليه السلام) والتي ذهبت إِلى بستان «جستيماني» هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أُمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود
1 ـ لقد ترك الحواريون المسيح(عليه السلام) في ذلك الوقت وهربوا كلهم ... (من إنجيل متى، الإِصحاح 26 الجملة 57).
ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح(عليه السلام) وبين المسيح نفسه.
3 ـ تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح(عليه السلام) قد تمّ ليلا، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.
4 ـ يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد إختار الصمت أمام «بيلاطيس» الحاكم الرومي لبيت المقدس ـ آنذاك ـ ولم يتفوه إِلاّ بالقليل دفاعاً عن نفسه ويستبعد كثيراً أن يقع عيسى المسيح(عليه السلام) في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.
ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر ـ كـ «يهوذا الأسخربوطي» الذي خان ووشى بعيسى المسيح(عليه السلام) وكان يشبهه كثيراً ـ قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.
نقرأ في الأناجيل أنّ «يهوذا الأسخربوطي» لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبداً، وأنّه ـ كما تقول هذه الأناجيل ـ قد قتل نفسه وانتحر(1).
5 ـ لقد بيّنا أنّ حواري المسيح(عليه السلام) ـ وكما ذكرت الأناجيل ـ قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيداً بين الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريباً منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريباً أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.
6 ـ ونقرأ في الأناجيل ـ أيضاً ـ أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه
1 ـ إِنجيل متى، الإِصحاح 37، الجملة 6.
(وليس لربّه) لأنّه ـ بحسب قوله ـ قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه(1)!
فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفاً سامياً كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه، بل كان إِنساناً ضعيفاً وجباناً، وعاجزاً، ومثل هذا الإِنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإِنسان هو المسيح(عليه السلام)(2).
7 ـ لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل «برنابا» قضية صلب المسيح(عليه السلام) (وهذا الإِنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون) كما أنّ بعضاً من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب(3) وقد ذهب بعض الباحثين إِلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم «عيسى» أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسائة عام(4).
كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح(عليه السلام).
* * *
1 ـ إِنجيل متى ـ الإِصحاح 27، الجملتان 46 و47.
2 ـ لقد اقتبسنا عدداً من القرائن المذكورة أعلاه من كتاب «بطل الصليب».
3 ـ تفسير المنار، الجزء السابع، ص 34.
4 ـ الميزان، الجزء الثّالث، ص 345.
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(159)
هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية، وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة:
1 ـ إِنّ الآية تؤكّد أنّ أي إِنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح(عليه السلام) حيث تقول: (وإِن من أهل الكتاب إِلاّ ليؤمنّن به قبل موته ...) وأن هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإِنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وترفع عن عينيه الحجب فيرى بعد ذلك الكثير من الحقائق ويدركها، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالأُلوهية يدركون في تلك اللحظة خطأهم وإنحرافهم.
وبديهي أنّ مثل هذا الإِيمان لا ينفع صاحبه، كما أنّ فرعون والأقوام الأُخرى وأقوام استولى عليهم العذاب، فقالوا: آمنا فلم ينفعهم إِيمانهم أبداً، فالأجدر بالإِنسان أن يؤمن قبل أن تدركه لحظة العذاب عند الموت، حين لا ينفع الإِيمان صاحبه.
وتجدر الإِشارة ـ هنا ـ إِلى أنّ الضمير في عبارة «قبل موته» يعود لأهل الكتاب بناء على التّفسير الذي ذكرناه.
2 ـ قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الإِعتقاد بربوبية المسيح(عليه السلام)، ويحدث هذا ـ طبقاً للروايات الإِسلامية ـ حين ينزل المسيح(عليه السلام) من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه، وواضح أن عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإِسلام، لأن الشريعة السماوية التي جاء بها إِنّما نزلت قبل الإِسلام، ولذلك فهي منسوخة به.
وبناء على هذا التّفسير فإِن الضمير في عبارة «قبل موته» يعود إِلى عيسى المسيح(عليه السلام).
وقد نقل عن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «كيف بكم إِذا نزل فيكم ابن مريم وإِمامكم منكم»(1) وطبيعي أنّ هذا التّفسير يشمل اليهود والمسيحيين الموجودين في زمن ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ونزول عيسى المسيح(عليه السلام)من السماء.
وجاء في تفسير «علي بن إِبراهيم» نقلا عن «شهر بن حوشب» إِنّ الحجاج ذكر يوماً أن هناك آية في القرآن قد أتعبته كثيراً وهو حائر في معناها، فسأله «شهر» عن الآية، فقال الحجاج: إِنّها آية (وإِن من أهل الكتاب ...) وذكر أنّه قتل يهودا ومسيحيين ولم يشاهد فيهم أثراً لمثل هذا الإِيمان.
فأجابه «شهر» بأنّ تفسيره للآية لم يكن تفسيراً صحيحاً، فاستغرب الحجاج وسأل عن التّفسير الصحيح للآية.
فأجاب «شهر» بأنّ تفسير الآية هو أن المسيح ينزل من السماء قبل نهاية العالم، فلا يبقى يهودي أو غير يهودي إِلاّ ويؤمن بالمسيح قبل موته، وأن المسيح
1 ـ مسند أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن البيهقي، كما جاء في تفسير الميزان.
سيقيم الصّلاة خلف المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فلما سمع الحجاج هذا الكلام قال لـ «شهر» ويلك من أين جئت بهذا التّفسير؟ فأجابه «شهر» بأنّه قد سمعه من محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).
وعند ذلك قال الحجاج: «والله جئت بها من عين صافية»(1).
وتقول الآية في الختام: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) أي شهادة المسيح(عليه السلام) على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة الله ولم يدعهم لإِتّخاذه إِلهاً من دون الله، بل دعاهم إِلى الإِقرار بربوبية الله الواحد القهار.
سؤال:
وقد يعترض البعض بأنّ المسيح(عليه السلام) ـ كما جاء في الآية (117) من سورة المائدة ـ إِنّما يقصر شهادته على الزمن الذي كان هو موجوداً فيه بين قومه ويتنصل عن الشهادة بالنسبة للأزمنة التي جاءت بعده، وذلك بدلالة الآية التي جاءت على لسانه وهي تقول: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) لكن الآية التي هي موضوع بحثنا الآن تدل على أنّ المسيح(عليه السلام) يشهد على الجميع يوم القيامة، سواء اُولئك الذين كانوا في عصره وزمانه أو الذين لم يكونوا في ذلك الزمان.
![]() |
![]() |
![]() |