ومن هنا فإِنّنا مسؤولون عن أعمالنا، واستناد أعمالنا إِلى الله ـ بالشكل الذي أوضحناه ـ لا يسلب عنّا المسؤولية ولا يؤدي إِلى الإِعتقاد بالجبر.

وعلى هذا الأساس حين تنسب «الحسنات» و«السيئات» إِلى الله سبحانه وتعالى، فلفاعلية الله في كل شيء، وحين تنسب السيئة إِلى الإِنسان فلإِرادته وحريته في الإِختيار.

وحصيلة هذا البحث إِنّ الآيتين معاً تثبتان قضية الأمر «الأمر بين الأمرين» (تأمل بدقّة)!

3 ـ هناك تفسير ثالث للآيتين ورد فيما أثر عن أهل البيت(عليهم السلام)، وهو أنّ

[340]

المقصود من عبارة السّيئات جزاء الأعمال السيئة وعقوبة المعاصي التي ينزلها الله بالعاصين، ولما كانت العقوبة هي نتيجة لأفعال العاصين من العباد، لذلك تنسب أحياناً إِلى العباد أنفسهم وأحياناً أُخرى إِلى الله، وكلا النسبتين صحيحتان، إذ يمكن القول في قضية إِنّ القاضي هو الذي قطع يد السارق، كما يجوز أن يقال إِنّ السارق هو السبب في قطع يده لارتكابه السرقة.

* * *

[341]

الآيتان

مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً(80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(81)

التّفسير

سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الوحي:

توضح الآية الأُولى موضع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس وحسناتهم وسيئاتهم وتؤكد أوّلا بأن إِطاعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي في الحقيقة طاعة لله: (ومن يطع الرّسول فقد أطاع الله ...) أي لا إنفصال بين طاعة الله وطاعة الرّسول، وذلك لأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخطو أية خطوة خلافاً لإِرادة الله ... كل ما يصدر منه من فعل وقول وتقرير إِنّما يطابق إِرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته.

ثمّ تبيّن إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مسؤولا عن الذين يتجاهلون ويخالفون أوامره، كما أنه ليس مكلّفاً بإِرغام هؤلاء على ترك العصيان، بل إِن مسؤولية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هي الدعوة للرسالة الإِلهية التي بعث بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإِرشاد الضالين والغافلين تقول الآية: (ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً).

[342]

وتجدر الإِشارة هنا إِلى أن كلمة «حفيظ» صفة مشبهة باسم الفاعل، وتدل على ثبات واستمرار الصفة في الموصوف، بخلاف اسم الفاعل «حافظ»، فعبارة «حفيظ» تعني الذي يراقب ويحافظ بصورة دائمة مستمرة، ويستدل من الآية على أن واجب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو قيادة الناس وهدايتهم وإِرشادهم، ودعوتهم إِلى اتّباع الحقّ واجتناب الباطل، ومكافحة الفساد، وحين يصر البعض على اتّباع طريق الباطل والإِنحراف عن جادة الحقّ، فلا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مسؤول عن هذه الإِنحرافات، ولا المطلوب منه أن يراقب هؤلاء المنحرفين في كل صغيرة وكبيرة، كما ليس المطلوب منه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستخدم القوة لإِرغام المنحرفين على العدول عن انحرافهم، ولايمكنه بالوسائل العادية القيام بمثل هذه الأعمال.

وعلى هذا الأساس، فإِنّ الآية قد تكون ـ أيضاً ـ إِشارة إِلى غزوات كغزوة أُحد حيث كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مكلّفاً ـ فقط ـ بتجنيد الإِمكانيات المتوفرة من الناحية العسكرية في إِعداد خطة للدفاع عن المسلمين حيال هجمات الأعداء، وبديهي أن تكون إِطاعة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الأمر إِطاعة لله، ولو افترضنا أنّ أفراداً عصوا الرّسول في هذا المجال وأدى عصيانهم إِلى تراجع المسلمين، فالعاصون ـ وحدهم ـ هم المسؤولون عن ذلك، وليس الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

والأمر المهم الآخر في هذه الآية هو أنّها واحدة من أكثر آيات القرآن دلالة على حجّية السنّة النّبوية الشّريفة، فهي حكم بوجوب الاذعان للأحاديث الصحيحة المروية عنه(صلى الله عليه وآله وسلم)، واستناداً إِلى هذه الآية لا يجوز لأحد القول بقبول القرآن وحده وعدم قبول أحاديث وسنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الآية صريحة بأن إِطاعة أقوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه المروية عنه بطرق صحيحة، هي بمثابة إطاعة الله.

ومن المنطلق نفسه تثبت حقيقة أُخرى، هي ضرورة إطاعة أئمة أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي ما أكد عليها حديث «الثقلين» الوارد في المصادر الإِسلامية السنية والشيعية، وفيه بيّن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ صراحة ـ حجية أحاديث أئمة أهل

[343]

البيت(عليهم السلام)، ومنه نستنتج أنّ إِطاعة أوامرهم هي إِطاعة للرسول وبالنتيجة إِطاعة لله تعالى، ولما كانت أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بمثابة أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يستطيع أحد أن يقول: إِنّي أقبل القرآن وأرفض أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، فذلك نقض للآية المذكورة أعلاه وللآيات المشابهة.

ولذلك نقرأ في الأحاديث التي أوردها صاحب تفسير البرهان في تفسير هذه الآية مايؤكّد هذه الحقيقة:

إِنّ الله وهب نبيّه حقّ الأمر والنهي في الآية المذكورة، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره وهب هذا الحق لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) وسائر الأئمّة(عليهم السلام) من بعده، والناس ملزمون بإِطاعة أوامر هذه النخبة الطاهرة(عليهم السلام)، لأن أوامر ونواهي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة من أهل بيته الكرام هي أوامر ونواهي الله، وطاعتهم طاعة لله، وهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وكل ما جاؤوا به للمسلمين هو من عند الله.(1)

أمّا الآية الثّانية ففيها إِشارة إِلى وضع نفر من المنافقين أو المتذبذبين من ضعاف الإِيمان، الذين يتظاهرون حين يحضرون عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بأنّهم مع الجماعة، ويظهرون الطاعة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليدفعوا بذلك الضرر عن أنفسهم وليحموا مصالحهم الخاصّة، بدعوى الإِخلاص والطاعة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(ويقولون طاعة).

وبعد أن ينصرف الناس من عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويختلي هؤلاء بأنفسهم يتجاهلون عهودهم في إطاعة النّبي ويتآمرون في ندواتهم الخاصّة ـ السرية الليلية ـ على أقوال النّبي: (فإِذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ...).

نعرف من هذه الآية أنّ المنافقين في زمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا لا يألون جهداً في التآمر على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يخططون في إجتماعاتهم السرّية للوقوف


1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 396.

[344]

بوجه الدعوة.

ولكن الله يأمر نبيّه بأن لا يلتفت إِلى مكائد هؤلاء، وأن لا يخافهم ولا يخشى خططهم وأن يتجنب الإِعتماد عليهم في مشاريعه، بل يتوكل على الله الذي هو خير ناصر ومعين: (فاعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا).

* * *

[345]

الآية

أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـفاً كَثِيراً(82)

التّفسير

خلوّ القرآن من الإِختلاف دليل حي على إِعجازه:

هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم ـ بصيغة السؤال ـ أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والإِختلاف، وإِذا تحقق لديهم عدم وجود الإِختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من الله تعالى.

والتّدبر من مادة «دبر» وهو مؤخر الشيء وعاقبته «والتدبر» المطلوب في هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشيء، والفرق بين التدبر والتفكر هو أنّ الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود، أمّا التدبر فهو التحقيق في نتائجه وآثاره.

ونستدل من هذه الآية على عدّة أُمور:

1 ـ إِنّ الناس مكلّفون بالبحث والتحقيق في أُصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد

[346]

والمحاكاة في مثل هذه الحالات.

2 ـ إِنّ القرآن ـ خلافاً لما يظن البعض ـ قابل للفهم والإِدراك للجميع، ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.

3 ـ أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ، وأنّه منزل من الله الحكيم العليم خلوه المطلق من كل تناقض أو إختلاف.

ولتوضيح هذه الحقيقة نقول:

الجوانب الروحية للإِنسان تتغير باستمرار، «قانون التكامل» ـ في الظروف العادية الخالية من الأوضاع الإِستثنائية ـ يستوعب الإِنسان وجوانبه الروحية وأفكاره، وبمرور الأيّام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإِنسان وفكره وأحاديثه.

لو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على نمط واحد، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضاً عن نهايته.

هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإِنسان في خضم أحداث كبرى كالتي تصاحب إِرساء قواعد ثورة فكرية وإجتماعية وعقائدية شاملة، الشخص الذي يعيش مثل هذه التحولات الإِجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة كلامه، ولا يمكنه أن يوجد إنسجاماً كاملا في أقواله، خاصّة إِذا كان هذا الشخص غير متعلم، وكان ناشئاً في بيئة إجتماعية متخلفة.

والقرآن كتاب نزل خلال مدّة (23) عاماً بحسب ما يحتاجه الناس من تربية وتوجيه في الظروف المختلفة، وموضوعات القرآن متنوعة، فهو لا يشبه كتاباً عادياً متخصصاً في بحث إِجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي، بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة، وتارةً يطرح القوانين والأحكام والآداب والسنن، وتارةً يقص علينا أخبار الأُمم السابقة، وتارة يتناول المواعظ والنصائح والعبادات وإرتباط العبد بخالقه.

[347]

وكما يقول (غوستاف لوبون): القرآن ـ كتاب المسلمين السماوي ـ لا يقتصر على التعاليم الدينية، بل يتناول ـ أيضاً ـ الأحكام السياسية والإِجتماعية للمسلمين.

مثل هذا الكتاب ـ بهذه الخصائص ـ لا يمكن أن يكون ـ عادة ـ خالياً من التناقض والتضاد والإِختلاف والتأرجح، أمّا حين نرى هذا الكتاب ـ مع كل ذلك ـ متناسقاً متوازناً في آياته خالياً من كل تضاد وإختلاف نستطيع أن نفهم ـ بوضوح ـ أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري، بل هو من قبل الله تعالى، كما تذكر الآية الكريمة أعلاه.

* * *

[348]

الآية

وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـنَ إِلاَّ قَلِيلا(83)

التّفسير

نشر الإِشاعات:

تشير هذه الآية إِلى حركة منحرفة أُخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإِيمان، تتمثل في سعيهم إِلى تلقف أي نبأ عن إنتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إِشاعةً عمد أعداء المسلمين إِلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إِلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، (وإِذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به..).

بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إِلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إِلى حالة من الغرور حيال إنتصارات خيالية وهمية، أو إِلى إضعاف معنوياتهم بإِشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها، (ولو ردّوه إِلى الرّسول وإِلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين

[349]

يستنبطونه منهم ...).

«يستنبطونه» من مادة «نبط» التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والإِستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.

(أُولي الأمر) في الآية هم المحيطون بالأُمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقياً منها وما كان إِشاعة فارغة. وهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بالدّرجة الأُولى.

ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.

روي عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) في تفسير (أُولي الأمر) في هذه الآية قال: «هم الأئمّة» كما في تفسير نور الثقلين، وهناك روايات أُخرى أيضاً في هذا المجال بنفس المضمون.

ولعل هناك من يعترض على هذه الرّوايات قائلا: إِنّ الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) لم يكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية، ولم يتعين أحد منهم في ذلك الوقت بمنصب الإِمامة أو الولاية، فكيف يمكن القول بأنّهم هم المعنيون بهذه الآية؟

والجواب على هذا الإِعتراض: هو أنّ هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية الاُخرى لا تقتصر على زمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل تحمل حكماً عاماً يشمل كل الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإِشاعات التي يبثّها الأعداء أو البُسطاء من المسلمين بين الأُمّة.

أضرار إختلاق الإِشاعة ونشرها:

لقد اُبتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهبية، بسبب بروز ظاهرة إختلاق الإِشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح الإِجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد.

[350]

وتبدأ الإِشاعة بأن يختلق منافق كذبة، ثمّ ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها، بل يهولونها ويفرعونها ممّا يؤدي إِلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس وأفكارهم وأوقاتهم، وإِلى إِثارة القلق والإِضطراب بينهم، وكثيراً ما تؤدي الإِشاعة إِلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤدي إِلى خلق حالة من اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات.

ومع أنّ بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإِرهاب تعمد إِلى الإِشاعة كأُسلوب من الكفاح السلبي، إنتقاماً من الحكومات الطاغية الجائرة، فالإِشاعة بحدّ ذاتها تعتبر خطراً كبيراً على المجتمعات السليمة، فإِذا إتجهت الإِشاعة إِلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق الهامّة للمجتمع، فإِنّها ستؤدي إِلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء، وقد تصادر مكانتهم الإِجتماعية، وتحرم المجتمع من خدماتهم.

من هنا كافح الإِسلام بشدة «إختلاق الإِشاعات» والإِفتراء والكذب والتهمة، مثل ما حارب نشر الإِشاعات كما في هذه الآية.

وتؤكد الآية في ختامها على أنّ الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إِشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإِيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإِنقاذ الإِلهي ما نجى من الإِنزلاق في خط الشيطان إِلاّ قليلا: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إِلاّ قليلا) أي أنّ النّبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أمّا أكثرية المجتمع فلابدّ لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها(1).

* * *


1 ـ يتبيّن ممّا قلناه أن عبارة «إِلاّ قليلا» هي إستثناء من ضمير «اتبعتم» ولا يوجد في الآية تقديم أو تأخير (تأمل بدقّة).

[351]

الآية

فَقَـتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلا(84)

سبب النّزول

ورد في بعض التفاسير مثل «مجمع البيان» و«القرطبي» و«روح المعاني» في سبب نزول هذه الآية أنّه حين عاد أبوسفيان ومعه جيش قريش منتصرين في واقعة أُحد توعدوا المسلمين بالمواجهة مرّة أُخرى في موسم «بدر الصغرى» أي وقت إِقامة السوق التّجارية في شهر ذي القعدة الحرام في منطقة بدر، وحين حان موعد المواجهة دعا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين للإِستعداد والتوجه إِلى المنطقة المذكورة، إِلاّ أنّ نفراً من المسلمين ـ الذين كانوا إِلى ذلك الحين مازالوا يعانون من مرارة الهزيمة في واقعة أُحد ـ رفضوا التحرك مع النّبي، فنزلت هذه الآية، فجدد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الدّعوة إِلى المسلمين بالتحرك، فما تبعه غير سبعين رجلا منهم الذين حضروا موقع المواجهة، ولكن أباسفيان الذي كان قد تملكه الرعب من مواجهة المسلمين جبن ولم يحضر إِلى المكان الموعود وعاد الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مع اصحابه سالماً إِلى المدينة.

[352]

التّفسير

كل انسان مسؤول عمّا كلّف به:

بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمراً جديداً وخطيراً إِلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مكلّف بمواجهة الاعداء وجهادهم حتى لوبقي وحيداً ولم يرافقه أحد من المسلمين إِلى ميدان القتال. لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)مسؤول عن اداء واجبه هو، وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة الى الجهاد: (فقاتل في سبيل الله لا تكلّف الاّ نفسك وحرض المؤمنين).

الآية تشتمل على حكم إِجتماعي مهم يخصّ القادة، ويدعوهم إِلى إِلتزام الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصّة القادة الإِلهيون الذين يعتمدون على الله ... مصدر كل قدرة وقوّة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدّعوة، لذلك تقول الآية: (عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشد بأساً(1) وأشدّ تنكيلا(2)).

معنى كلمتي «عسى» و«لعل» في كلام الله:

في كلمة «عسى» طمع وترج، وفي كلمة «لعل» طمع وإِشفاق، هنا يتبادر إِلى


1 ـ البأس والبأساء بمعنى الشدّة والقهر والغلبة.

2 ـ التنكيل من نكل في الشيء، أي ضعف وعجز، والنكل: قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والتنكيل: أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.

[353]

الذهن سؤال هو: لو كان التمني والترجي جائزين بالنسبة للإِنسان لعدم علمه بالغيب ولمحدودية قدرته وعجزه عن فعل وإِنجاز كل ما يريد، فكيف يجوز استخدامهما من قبل الله العالم بالغيب والشهادة والقادر على كل شيء؟! والطمع والترجي يكونان في جاهل عاجز والله منزّه عن ذلك؟

ذهب كثير من العلماء إِلى تأويل معنى كلمتي «عسى» و«لعل» الواردتين في كلام الله فقالوا: بأنّهما إذا وردتا في كلامه سبحانه عزّ وجل فإِنّهما تفقدان معانيهما الحقيقية الأصلية وتكتسبان معاني جديدة، وقالوا: إِن كلمة «عسى» إِذا أتت في كلام الله جاءت بمعنى «الوعد» وإِن كلمة «لعل» تأتي في كلامه ـ عزّ من قائل ـ بمعنى «الطلب».

والحق أنّ هاتين الكلمتين لا يتغير معناهما إِذا وردتا في كلام الله، ولا يستلزمان الجهل أو العجز، لكن استخدامهما يأتي في مواضع يكون الوصول فيها إِلى الهدف بحاجة إِلى مقدمات عديدة، فإِن لم تتوفر إِحدى هذه المقدمات أو بعضها لم يمكن القطع بتحقق ذلك الهدف، بل تأتي مسألة تحقق الهدف على شكل إِحتمال، ويكون الحكم في هذا المجال إِحتمالياً.

على سبيل المثال يقول القرآن الكريم: (وإِذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون)(1) ولا يعني هنا أنّ رحمة الله تشمل كل من يستمع أو ينصت إِلى القرآن أثناء قراءته، بل أنّ الإِستماع والإِنصات يكونان مقدمة من مقدمات نيل رحمة الله، وهناك مقدمات أُخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بأحكامه.

ويتّضح من هذا أنّ تحقيق مقدمة واحدة لا يكفي لحصول النتيجة المطلوبة ولا يمكن الجزم أو القطع بحتمية تحقق النتيجة، بل كل ما يمكن الحكم به هو احتمال حدوثها، والحقيقة إن مثل هذه الكلمات حين تأتي في كلام الله، يكون


1 ـ الآية 204 من سورة الأعراف.

[354]

الهدف منها تنبيه السامع إِلى وجود مقدمات وشروط أُخرى يجب تحقيقها للوصول إِلى الهدف بالإِضافة إِلى الشرط أو المقدمة المذكورة المصرح بها في الكلام.

وقد تبيّن لنا أنّ نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالإِستماع والإِنصات إِلى القرآن فقط، بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الاُخرى لذلك.

من هنا فإِنّ هذه الآية التي نبحث فيها تقول إِن قدرة الكفار وقوتهم لا تزول ولا تضمحل بمجرّد دعوة المؤمنين إِلى الجهاد وترغيبهم فيه، بل يجب هنا ـ أيضاً ـ أن يسعى المؤمنون لتوفير المقدمات الاُخرى للقضاء على قدرة الكفار، منها إِعداد وسائل القتال والإِلتزام بالخطة التي يضعها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والسير عليها من أجل الوصول إِلى الهدف النهائي.

وهكذا يتبيّن لنا أنّ لا ضرورة لصرف كلمتي «عسى» و«لعل» وأشباههما عن معانيها الحقيقية متى ما وردت في كلام الله تعالى(1).

* * *


1 ـ يذكر الراغب في «المفردات» إحتمالا آخر في تفسير «عسى» و«لعل» هو أنّ الله تعالى إِذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإِنسان منه راجياً، لا لأن يكون الله هو الذي يرجو. أي انه يقول للإِنسان كن انت راجيا لا انا الذي ارجو.

[355]

الآية

مَّن يَشْفَعْ شَفَـعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَـعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كلِّ شَىْء مُّقِيتاً(85)

التّفسير

عواقب التّحريض على الخير أو الشرّ:

لقد أشير في الآية السابقة إِلى أنّ كل إِنسان مسؤول عن عمله وعمّا هو مكلّف بأدائه، ولا يُسأل أي إِنسان عن أفعال الآخرين.

أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطىء للآية السابقة، فبيّنت أنّ الإِنسان إِذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيباً من ذلك الخير أو الشر:

(من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها ...).

وهذا بحدّ ذاته ـ حثّ على دعوة الآخرين إِلى فعل الخير والتزام جانب الحق، ونهي الغير عن فعل الشر، كما تبيّن هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الإِجتماعية لدى المسلمين، ودعوتهم إِلى نبذ الأنانية أو الإِنطوائية، وإِلى عدم تجاهل الآخرين، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشرّ

[356]

والباطل.

وكلمة «الشّفاعة» الواردة في الآية من «الشّفع» وهو ضم الشيء إِلى مثله، وقد يكون هذا الضم أحياناً في عمل الإِرشاد والهداية، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكون الشفاعة السيئة أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف.

وإِذا حصلت الشفاعة للعاصين لإِنقاذهم من نتائج أعمالهم السيئة، فهي بمعنى الإِغاثة للعاصين اللائقين للشفاعة، بعبارة أُخرى قد تحصل الشفاعة قبل القيام بممارسة الذنب، وفتعني الإِرشاد والنصح، كما تحصل بعد ارتكاب الذنب أو الخطأ، وتعني ـ هنا ـ إِنقاذ المذنب أو الخاطىء من عواقب ونتائج جريرته، وكلا الحالتين يصدق عليهما معنى ضم شيء إِلى آخر.

ومع أنّ مفهوم الآية عام شامل لكل دعوة إِلى الخير أو الشر، ولكن ورود الآية ضمن آيات الدعوة إِلى الجهاد يجعل معنى الشفاعة الحسنة دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)المسلمين إِلى الجهاد، وحثّهم عليه، ويجعل معنى الشفاعة السيئة دعوة المنافقين المسلمين إِلى ترك الجهاد وعدم المشاركة فيه، والآية تؤكد بأن كلا الشفيعين ينال نصيباً من شفاعته.

ثمّ إن ورود كلمة الشفاعة هنا ضمن الحديث عن القيادة (القيادة إِلى الحسنات أو إِلى السيئات) قد يكون إِشارة إِلى أن حديث القائد (قائد خير كان أم قائد شرّ) لا يدخل قلوب الآخرين إِلاّ إِذا ألغوا كل امتياز يفرقهم عن هؤلاء الآخرين، فلابدّ لهم أن يكونوا قرناء للناس ومنضمّين إِليهم كي تكون لهم الكلمة النافذة، وهذه مسألة هامة في تحقيق الأهداف الإِجتماعية.

وما ورد عبارة «أخوهم» أو «أخاهم» في الحديث عن الأنبياء والرسل، ضمن آيات سور الشعراء والأعراف وهود والنمل والعنكبوت، إِلاّ للإِشارة إِلى هذه المسألة.

والشيء الآخر الذي تجدر الإِشارة إِليه هنا، هو أنّ القرآن أتى بعبارة

[357]

«نصيب» لدى الحديث عن الشفاعة الحسنة، بينما استخدم عبارة «كفل» حين تحدث عن الشفاعة السيئة، والفرق بين التعبيرين هو أنّ الأُولى تستخدم حين يكون الحديث عن حصّة من الربح والفائدة والخير، أمّا الثّانية فتستخدم إِذا كان الكلام عن الخسارة والضرر والشرّ، فالنصيب تعبير عن نصيب الخير، والكفل تعبير عن حصّة الشرّ(1).

وهذه الآية، تبيّن نظرة إِسلامية أصيلة إِلى المسائل الإِجتماعية، وتصرّح أنّ الناس شركاء في مصائر ما يقوم به قسم منهم من أعمال عن طريق الشفاعة والتشجيع والتوجيه، من هنا فكل كلام أو عمل ـ بل كل سكوت ـ يؤدي إِلى تشجيع الآخرين على الخير، فإِنّ المشجع يناله سهم من نتائج ذلك العمل دون أن ينقص شيء من سهم الفاعل الأصلي.

في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به، فهو شريك، ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به، فهو شريك».

ويبيّن هذا الحديث الشريف ثلاث مراحل لدعوة الأشخاص إِلى الخير أو إِلى الشر.

المرحلة الأُولى: الأمر، وهي الأقوى.

والثّانية: الدلالة وهي الوسطى.

والثّالثة: الإِشارة وهي المرحلة الضّعيفة.

وعلى هذا الأساس فإِن حثّ الآخرين أو تحريضهم على ممارسة فعل معين، سيجعل للمحرض نصيباً من نتيجة هذا الفعل يتناسب ومدى قوّة التحريض وفق المراحل الثلاث المذكورة.

وبناء على هذه النظرة الإِسلامية، فإِن مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم


1 ـ الكفل هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق، من هنا فكل ذنب وحصة رديئة كفل، والكفالة كل عمل ينطوي على تعب وعناء.

[358]

مذنبين، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو إِعداد الأجواء المساعدة، بل حتى عن طريق إِطلاق كلمة صغيرة مشجعة، وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها.

ويستشف من الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية أنّ الشفاعة بكلا جانبيها تطلق ـ أيضاً ـ على الدعاء بالخير أو بالشر للآخرين، وإِنّ الدعاء للآخرين أو عليهم يعتبر نوعاً من الشفاعة لدى الله تعالى.

نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال له الملك: فلك مثلاه، فذلك النصيب»(1).

ولا ينافي هذا التّفسير ما تطرقنا إِليه سابقاً، بل يعتبر توسعاً في معاني الشفاعة، فكل إِنسان يقدم مساعدة لنظيره الإِنسان، سواء كانت عن طريق الدعوة إِلى فعل الخيرات أو الدعاء له أو عن أي طريق آخر، فسينال نصيباً من ثمار هذه المساعدة.

وبهذا الأسلوب من المشاطرة الفعلية الخيرة يخلق الإِسلام لدى الإِنسان روحاً إِجتماعية تخرجه من أنانيته وإِنطوائيته وتجعله يعتقد أن لن يصيبه ضرر إِذا سعى في حاجة أخيه الإِنسان أو ساعد على تحقيق مصالح غيره، بل سيناله الخير، وسيكون شريكاً لأخيه فيما سعى إِلى تحقيقه له من مصالح ومنافع.

والآية ـ هذه ـ تؤكد أيضاً حقيقة ثابتة أُخرى، وهي أنّ الله قادر على مراقبة الإِنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال، ثمّ محاسبته عليها، واثابته على خيرها، ومعاقبته على شرها (وكان الله على كل شيء مُقيتاً).

وعبارة «مقيت» مشتقة من «القوت» وهو الغذاء الذي يساعد جسم الإِنسان على البقاء وعلى هذا يكون «مقيت» اسم فاعل من باب افعال، وتعني هنا


1 ـ تفسير الصافي، في تفسير الآية الكريمة.

[359]

الشخص الذي يعطي الآخرين قوتهم وغذاءهم، وهو بهذه الوسيلة يكون حافظاً لحياتهم ولهذا تأتي كلمة «مقيت» بمعنى «حافظ» والحافظ يمتلك القدرة على الحفظ، ومن هنا تكون كلمة «مقيت» بمعنى «المقتدر» أيضاً، كما أن المقتدر يمتلك حساب من يعملون ضمن قدرته فتكون عندئذ كلمة «المقيت» بمعنى «الحسيب» أيضاً، وقد يكون معنى الكلمة في الآية شاملا لكل هذه المعاني.

* * *

[360]

الآية

وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْء حَسِيباً(86)

التّفسير

دعوة إِلى مقابلة الودّ بالودّ:

رغم أنّ بعض المفسّرين يرون أنّ العلاقة بين هذه الآية والآيات السابقة ناشئة عن كون الآيات تلك تناولت موضوع الجهاد والحرب، والآية الأخيرة تدعو المسلمين إِلى أن يواجهوا كل بادرة سليمة من قبل العدو بموقف يناسبها، ولكن هذه الصلة لا تمنع أن تكون الآية الأخيرة حكماً عاماً يشمل كل أقسام تبادل المشاعر الخيرة النّبيلة بين مختلف الأطراف والأفراد، وهذه الآية تأمر المسلمين بمقابلة مشاعر الحبّ بما هو أحسن منها، أو على الأقل بما يساويها أو يكون مثلها، فتقول الآية: (وإِذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها).

و«التّحية» مشتقة من «الحياة» وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين، سواء كانت التحية بصيغة «السّلام عليكم» أو «حياك الله» أو ما شاكلهما من صيغ التحية والسلام، ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة «السلام» المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أنّ

[361]

مفهوم التحية يشمل ـ أيضاً ـ التعامل الودي العملي بين الناس.

في تفسير علي بن إِبراهيم عن الباقر والصّادق(عليهما السلام) أن: «المراد بالتّحية في الآية السلام وغيره من البر».

وفي «المناقب» أنّ جارية أهدت إِلى الإِمام الحسن(عليه السلام) باقة من الورد فأعتقها، وحين سئل عن ذلك استشهد بقوله تعالى: (وإِذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها).

وهكذا يتّضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الردّ على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبّة سواء كانت بالقول أو بالعمل ـ وتبيّن الآية في آخرها أنّ الله يعلم كل شيء، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها، وأنّه لا يخفى عليه شيء أبداً، حيث تقول: (إِنّ الله كان على كل شيء حسيباً).

السّلام، تحية الإِسلام الكبرى:

لا يخفى أنّ لكل جماعة إِنسانية تقاليد خاصّة في التحية لدى التلاقي فيما بينهم، بها يتبادلون مشاعر الحبّ والصفاء، والمودة، والتحية كما هي صيغة لفظية يمكن أن تكون ـ أيضاً ـ حركة عملية يستدل منها على مشاعر الحبّ والودّ المتبادلة.