![]() |
![]() |
![]() |
وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين، وغاية الأمر أنّ الإِنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني، أو الطرف الآخر من العقد.
وعلى أي حال، فإِنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.
وهناك عدّة أُمور في هذه الآية يجب الإِنتباه إِليها وهي:
1 ـ تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإِسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.
1 ـ تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.
ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والإِتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعاً (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإِسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).
والإِستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإِلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإِسلامية التي أخذ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العهد والميثاق فيها من الأُمّة، بل إِنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل جميع هذه الأُمور.
وتجدر الإِشارة هنا إِلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى سارياً مادام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزماً بالوفاء بالعهد إِذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.
2 ـ إِنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الإِجتماعية، إِذا بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الإِجتماعي، وإِذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الإِجتماعية وآثارها أيضاً.
ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإِسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين ابناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الإِضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث.
وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)لمالك
الأشتر(رضي الله عنه) مايلي:
«فإِنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعاً ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر»(1).
وجملة «لما استوبلوا من عواقب الغدر» معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر.
وينقل عن الإِمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ الله لا يقبل إِلاّ العمل الصالح، ولا يقبل الله إِلاّ الوفاء بالشروط والعهود»(2).
ونقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا دين لمن لا عهد له»(3).
والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الإِلتزام به بين إِنسان وإِنسان آخر ـ سواء كان مسلماً أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإِنسان بصورة عامّة، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد.
وفي حديث عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إِلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!»(4).
نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) بأن العهد حتى لو كان بالإِشارة يجب الوفاء به، وذلك في قوله: «إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إِلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان»(5).
* * *
1 ـ نهج البلاغة، رسائل الإِمام علي(عليه السلام)، الرسالة 53.
2 ـ سفينة البحار، الجزء الثّاني، ص 294.
3 ـ البحار، الجزء السادس عشر، ص 144.
4 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 162.
5 ـ مستدرك الوسائل، ج 2، ص 250.
وبعد أن تطرقت الآية إِلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إِلهياً أو إِنسانياً محضاً ـ أردفت ببيان مجموعة أُخرى من الأحكام الإِسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أن المواشي واجنتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية: (أُحلت لكم بهيمة الأنعام) وكلمة «الأنعام» صيغة جمع من «نِعم» وتعني الإِيل والبقر والأغنام(1).
أمّا كلمة «بهيمة» فهي مشتقة من المصدر «بهمة» على وزن «تهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهماً» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إِطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.
ومن جانب آخر فإِن جنين المواشي يطلق عليه اسم «بهيمة» لأنّه يكون مبهماً نوعاً ما.
وعلى الإساس المذكور فإِنّ حكم حلية (بهيمة الأنعام) يشمل إِمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أُمّها، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(2).
ولما كان حكم حلية حيوانات كالإِبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية، لذلك من المحتمل أن تكون الآية ـ موضوع البحث ـ إِشارة إِلى حلية أجنة هذه الحيوانات.
والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعاً، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات
1 ـ إِذا جاءت كلمة «نعم» مفردة فهي تعني الإِبل، وإِذا جاءت جمعاً فتعني الأنواع الثلاثة، مفردات الراغب مادة (نعم).
2 ـ لو قلنا: إنّ كلمة «بهيمة» تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة، لكانت إضافة كلمة «بهيمة» إِلى كلمة «أنعام» إضافة بيانية، أمّا إذا قلنا: إنها تعني الأجنة أيضاً، تكون هذه الإِضافة «لامية».
بالإِضافة إِلى حلية لحوم أجنتها أيضاً، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إِلاّ أنّه جاء مكرراً في هذه الآية كمقدمة للإِستثناءات الواردة فيها.
ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإِلهية نوعاً من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام.
وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول الآية: (إلاّ ما يتلى عليكم) والمورد الثّاني هو أن يكون الإِنسان في حالة إِحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: (غير محلّي الصيد وأنتم حرم)(1).
وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إِذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره، لإنه عالم بكل شيء، وهو مالك الأشياء كلها، وإِذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: (إِنّ الله يحكم ما يريد).
* * *
1 ـ طبيعي أن جملة «إِلا ما يتلى عليكم» هي جملة إستثنائية، وإن جملة «غير محلي الصيد» هي حال من ضمير «كم» وتكون نتيجة للإِستثناء بحسب المعنى.
يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَـئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلَـئِدَ وَلاَءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَأَنُ قَوْم أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِ وَالتَّقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)
لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإِلهية الإِسلامية المهمة، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله، وهي على الوجه التالي:
1 ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحلُّوا شعائر الله ...) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا، وبالنظر إِلى الأجزاء الأُخرى من هذه الآية، وإِلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة
العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آخر حجّة إِلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائماً(1).
2 ـ دعت الآية إِلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: (ولا الشهر الحرام ...).
3 ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي»(2) أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى بـ «القلائد»(3) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إِلى محل القربان للحج وتذبح فيه، فقالت الآية: (ولا الهدي ولا القلائد ...).
4 ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت عن مضايقة المتوجهين إِلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين توجهوا إِلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً أُخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: (ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضواناً ...).
يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين، أي المشركين أيضاً إِن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين.
1 ـ سورة البقرة، الآية 158 وسورة الحج، الآيتان 32 و36.
2 ـ الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إِلى بيت الله الحرام.
3 ـ القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإِنسان أو الحيوان، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.
ولكن نظراً لنزول آية تحريم دخول المشركين إِلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحاً، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.
5 ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإِحرام فقط، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإِحرام إِيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة: (وإِذا حللتم فاصطادوا).
6 ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة اُولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إِسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة اُولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإِسلام لهم ديناً، تقول الآية الكريمة: (ولا يجرمنّكم شئنان قوم إِن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا)(1).
ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكماً عاماً، وقانوناً كلياً يدعو المسلمين إِلى نبذ «الحقد» وعدم إِحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الإِنتقام من مسببيها.
ولمّا كانت خصلة الحقد إِحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جلياً أهمية هذا الحكم الإِسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي
1 ـ تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان، وتطلق ـ أيضاً على كل عمل مكروه، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجرمنكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.
الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.
7 ـ تؤكّد الآية ـ جرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إِكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للإِنتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إِسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان ...).
8 ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إِلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله، محذره من عذاب الله الشديد، فتقول: (واتقوا الله إِنّ الله شديد العقاب).
إِنّ الدعوة إِلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إِسلامياً عاماً، تدخل في إِطاره جميع المجالات الإِجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها، وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإِثم اللّذين يدخل إِطارهما الظلم والإِستبداد والجور بكل أصنافها.
ويأتي هذا المبدأ الإِسلامي تماماً على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر، وهو المبدأ القائل: «اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وكان في العصر الجاهلي إِذا غزت جماعة من إِحدى القبائل جماعة من قبيلة أُخرى، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إِذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضاً ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض، والتضامن والتعاون معاً حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم: لقد ألغى الإِسلام هذا المبدأ
الجاهلي، ودعى المسلمين إِلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.
والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي «البر» و«التقوى» معاً وعلى التوالي في الآية، حيث أنّ الكلمة الأُولى تحمل طابعاً إِيجابياً وتشير الى الأعمال النافعة، والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إِلى الإِمتناع عن الأعمال المنكرة ـ وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ فإِن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إِلى عمل الخير، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.
وقد استخدم الفقه الإِسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية، حيث حرّم قسماً من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإِعانة على المعاصي أو المنكرات، كبيع الأعناب إِلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إِلى أعداء الإِسلام وأعداء الحق والعدالة، أو تأجير محل للإِكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطاً تناولتها كتب الفقه الإِسلامي بالتوضيح).
إِنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإِسلامية، وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الإِهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية، والإِمتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إِلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة، كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الإِجتماعية.
أمّا في العلاقات الدولية، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتدية ـ أيّاً كانت ـ لقضي بذلك على جذور العدوان والإِستعمار والإِستغلال في العالم، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك، فلا يمكن توقع الخير أبداً من وضع كالذي يسود العالم اليوم.
لقد تناولت الأحاديث والروايات الإِسلامية هذه القضية بتأكيد كبير،
ونورد ـ هنا ـ بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر.
1 ـ نقل عن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال قوله: «إِذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برىء لهم قلما ولاق لهم دواة؟ قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(1).
2 ـ نقل عن صفوان الجمال، وهو أحد أنصار الإِمام السابع موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام)، بأنّه تشرف بلقاء الإِمام(عليه السلام) فقال له الكاظم(عليه السلام): يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.
قلت: جعلت فداك، أي شيء؟
قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون.
قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
فقال لي: ياصفوان، أيقع كراؤك عليهم؟
قلت: نعم.
قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار ... إِلى آخر الحديث(2).
وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب به عليّاً(عليه السلام) قائلا:
«يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأُمّة عشرة ... وبائع السلاح لأهل الحرب»(3).
* * *
1 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 131.
2 ـ الوسائل، ج 12، ص 131 ـ 132.
3 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 71.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِاللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ والْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالاَْزْلَـمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلَـمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة غَيْر مُتَجَانِف لاِّثْم فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)
لقد تمّت الإِشارة في بداية السورة إِلى الحلال من لحوم المواشي، وورد ـ أيضاً ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أُخرى على سبيل التأكيد.
والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:
أوّلا: الميتة.
ثانياً: الدم.
ثالثاً: لحم الخنزير.
رابعاً: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان يفعل الجاهليّون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
خامساً: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإِنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحياناً للإِنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إِلى هذا النوع باسم «المنخنقة».
وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضاً(1).
سادساً: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة»(2).
ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إِكراماً لأصنامهم وتقرباً لها.
سابعاً: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».
ثامناً: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».
تاسعاً: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».
وقد يكون جزءاً من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم
1 ـ وسائل الشيعة، ج 16، ص 173.
2 ـ الموقوذة = المضروبة بعنف حتى الموت.
نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطاً مناسباً جداً لنمو مختلف أنواع الجراثيم، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الاُخرى من الجسد، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالباً ما يحصل هذا التسمم عندما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.
من جانب آخر فإِنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.
لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإِسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة (إلاّ ما ذكيتم) بعد موارد التحريم مباشرة.
ويرى بعض المفسّرين أن هذا الإِستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان: (وما أكل السبع) لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الإِستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.
وهنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟
والجواب هو: إِنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إِطار مفهوم الميتة، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإِن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية
ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إِلى البيان والتوضيح.
عاشراً: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.
والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرم الإِسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: (وما ذُبح على النّصب).
وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إِنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً. وفي الحقيقة فإِن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: (وما أُهل لغير الله به) وقد ذكر تشخيصاً في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.
أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز»، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر»، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإِقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة باسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة باسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.
وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإِسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم
القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.
ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: (ذلكم فسق).(1)
إِنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإِسلامية الأُخرى، هو أنّ الإِسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أُسلوباً معتدلا تمام الإِعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الأُخرى.
ويختلف اُسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.
ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.
فقد أباح الإِسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإِفراط أو التفريط.
وقد عيّن الإِسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإِنسان الإِستفادة منها، وهي: ـ
1 ـ لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالباً ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة، وبذلك قد تكون سبباً في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها، بينما الحيوانات التي تأكل
1 ـ بالرغم من أنّ «ذلكم»، اشارة لمفرد، إلاّ أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد، فلا اشكال في هذا الاستعمال.
العشب يكون غذاؤها سليماً وخالياً من الأمراض.
وقد تقدم أيضاً في تفسير الآية (72) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضاً، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف، وبناء على هذا الدليل ـ أيضاً ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلاّلة، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.
2 ـ أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإِنسانية.
3 ـ أن لا يترك لحم الحيوان أثراً سيئاً أو ضاراً على جسم أو نفس الإِنسان.
4 ـ لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.
5 ـ لقد بيّن الإِسلام أحكاماً خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإِنسان.
* * *
بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً: الأُولى منهما تقول: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون).
والثّانية هي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً).
إِنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.
فأيّ يوم يا ترى هو ذلك «اليوم» الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة
المصيرية، وهي يأس الكفار، وإِكمال الدين، وإِتمام النعمة، وقبول الله لدين الإِسلام ديناً ختامياً لكل البشرية؟
لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال، وممّا لا شك فيه ولا ريب أن يوماً عظيماً في تاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كهذا اليوم ـ لا يمكن أن يكون يوماً عادياً كسائر الأيّام، ولو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإِضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية.
وقيل أنّ بعضاً من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لإتّخذوه عيداً لأنفسهم ولاهتموا به اهتماماً عظيماً(1).
ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إِسلامية عديدة، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟
ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللحوم؟
بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إِعطاء تلك الأهمية العظيمة، ولا يمكن أن يكون سبباً لإِكمال الدين، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الاحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إِيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإِسلام، وبعبارة أُخرى فإِنّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا يترك أثراً في نفوس الكفار، فماذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا وبعضها الآخر حراماً؟!
فهل المراد من ذلك «اليوم» هو يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها
1 ـ تفسير المنار، ج 6، ص 155.
النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (كما احتمله بعض المفسّرين)؟
وجواب هذا السؤال هو النفي أيضاً، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سبباً ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل هذا اليوم أيضاً، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئاً مهمّاً مخيفاً بالنسبة للكفار.
![]() |
![]() |
![]() |