![]() |
![]() |
![]() |
إذن فلا ضير في الحبّ والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج في المواقف العملية، وعلى هذا الأساس فإِن ما يجب على الرجل مراعاته هو العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية أي في نوع التعامل العملي خاصّة إِذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.
من هذا الكلام يتّضح بجلاء إن الذين أرادوا من ضمّ قوله تعالى: (وإِن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) إِلى قوله تعالى في الآية (129): (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقاً بحجّة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ كبير، لأن العدالة المستحيلة مراعاتها ـ كما أسلفنا ـ هي العدالة في المجال العاطفي، ـ وليس هذا من شرائط جواز التعدد في الأزواج، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة في المجال العملي.
ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية (129) من نفس هذه السّورة حيث يقول سبحانه: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) أي أنّكم إِذ لا تقدرون على مراعاة المساواة الكاملة في محبّة الزوجات وودّهنّ، فلا أقل أن لا تميلوا في حبّ بعض الأزواج ميلا شديداً يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها، فلا هي ذات زوج ولا أيم.
وخلاصة القول ونتيجته، هي أن الذين أمسكوا بقسم من هذه الآية، ونسوا القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش كل محقق، ويستغرب منه كل باحث.
أضف إِلى ذلك أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من الثبوت والوضوح في الفقه الإِسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقى مجال للجدل، ولا محل للنقاش، بل هو من ضروريات الفقه الإِسلامي ومسلماته، وبديهياته. ولنعطف عنان البحث الآن إِلى معرفة فلسفة هذا القانون الإِسلامي.
لقد أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود معينة) وقد أثارت هذه الإِباحة جماعة، فانطلقوا يوجهون إِليها الإِعتراضات والإِشكالات، وتعرض هذا القانون الإِسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإِسلامي متأثرين بالأحاسيس، ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص، والتأمل والتحقيق. وكان الغربيون أكثر هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوماً عليه، متسائلين كيف يجوز للإِسلام أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريماً ويتخذوا زوجات متعددة على نحو ما كان شائعاً في الجاهلية؟
كلاّ، إِنّ الإِسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريماً بالمعنى الذي تصورتم، ولا أنّه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط، ودون حدّ أو قانون.
ولتوضيح هذه الحقائق نقول: إِن دراسة البيئات المختلفة قبل الإِسلام تكشف لنا أنّ تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمراً عادياً وشائعاً، لدرجة أنّ بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزّوجات ممّا أبدعه الإِسلام، نعم إنّ ما فعله الإِسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإِنسانية، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة.
إنّ قوانين الإِسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإِنسانية، وتقوم على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر، لا الدعاية الظاهرة ولا المشاعر الموجهة توجيهاً غير صحيح، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل أيضاً، فقد لوحظت هي الاُخرى من هذه الزاوية، لأنّه لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ الرجال أكثر تعرضاً من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من الحوادث، المختلفة.
فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب، والمعارك.
كما أنّه لا يمكن إِنكار أنّ أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من أعمار النساء في هذا المجال، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على الإِنجاب) في سن معين من العمر قريب، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه الطاقة والقدرة مدّة أطول بكثير.
كما أنّ النساء ـ في فترة العادة الشهرية وشيء من فترة الحمل ـ يعانين من موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا النوع.
هذا كلّه مضافاً إِلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهنّ لبعض الأسباب، فلا
يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إِلى أنفسهن كزوجة أُولى، فإِذا لم يسمح بتعدد الزوجات، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج، كما نقرأ ذلك في الصحف المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إِلغائها بالمرّة، وحيث يعتبرن المنع من التعدد نوعاً من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهنّ.
بالنظر إِلى هذه الحقائق، وعندما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي:
1 ـ أنْ يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد، ويبقى العدد الإِضافي من النساء بلا أزواج إِلى اخر أعمارهن، ويكبتن حاجاتهنّ الفطرية ويقمعن غرائزهنّ الباطنية الملتهبة.
2 ـ أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثمّ يترك حرّاً لإِقامة علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن ازواجهن لسبب وآخر على غرار اتّخاذ الأخدان والعشيقات.
3 ـ أنْ يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة من الناحية «الجسمية» و«المالية» و«الخلقية» من جراء هذا الأمر، كما ويمكنه أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن، أن يسمح لهم بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعاً)، وهذه هي ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها.
وإِذا أردنا اختيار الطريق الأوّل يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية، ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر، ونتجاهل مشاعر هذه الطّائفة من هذه النّسوة، هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار، وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق، فإِن ما فيها من الجوانب اللاإِنسانية أظهر من أن تخفى على أحد.
وبعبارة أُخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأُولى، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة الثانية أيضاً.
إِنّ الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إِلى خصوص مشاكل الزوجة الأُولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من زاوية واحدة، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا، فهي يجب أن تطالع من ناحية الرجل، ومن ناحية الزوجة الأُولى، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضاً، ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة، ويتمّ على أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.
وإذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية، هذا مضافاً إِلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهنّ في متناول هؤلاء الرجال لإِرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل، ويعني ذلك سحق شخصيتهنّ سحقاً كاملا ـ في الحقيقة ـ إِذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسؤولية، ولا شك أن هذه الأُمور ممّا لا يسمح به أي عاقل مطلقاً.
وعلى هذا الأساس لا يبقى إِلاّ الطريق الثالث، وهو الطريق الذي يلبي الحاجات الفطرية والغريزية للنساء، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء ويحفظهنّ من عواقب الفحشاء والإِنزلاق إِلى الفساد، وبالتالي ينقذ المجتمع من مستنقع الأثام والذنوب.
على أن من الواجب أن نلتفت إِلى أنّ السماح بتعدد الزوجات مع أنّه ضرورة إِجتماعية في بعض الموارد ومع أنّه من أحكام الإِسلام القطعية، إِلاّ أن توفير شرائطه يختلف اختلافاً كبيراً عن الأزمنة الماضية، لأن الحياة كانت في العصور
السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة بين الزوجات المتعددات أمراً ممكناً وميسراً لأكثر الناس، في حين يجب على الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإِسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة العدالة من جميع الجوانب، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على الوفاء بجميع شروطه.
وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.
هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات (كالغربيين) قد واجهوا طوال تأريخهم ظروفاً ألجأتهم إِلى هذا المبدأ بصورة واضحة.
ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا، إِلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من المفكرين في سياق البحث عن حلّ لهذه المشكلة إِلى إعادة النظر في مسألة المنع عن تعدد الزوجات، إِلى درجة أنّهم طلبوا من الجامع «الأزهر» بالقاهرة البرنامج الإِسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة، ولكنهم اضطروا ـ وتحت ضغوط شديدة من جانب الكنائس ـ إِلى التوقف عن المضي في دراسة هذا البرنامج، وكانت النّتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.
هذا بغض النظر عن أنّه لا يمكن إِنكار ما يحس به طائفة من الرجال من الميل إِلى اتّخاذ زوجات متعددة، فإِن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى والهوس لم يكن جديراً بالنظر، أمّا إِذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إِنجاب الأولاد من جانب، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له ـ كما هو الحال في كثير من الموارد ـ من جانب آخر، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران
بالإِهتمام والرعاية.
كما أنّه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأُولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي، ولهذا يرى الرجل نفسه مضطراً إِلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه الحاجة من طريق غير مشروع لإِمكان إِشباعه من طريق مشروع، وفي هذه الصورة أيضاً لا يمكن إِنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل، ولهذا تكون إقامة العلاقات مع النساء المتعددات أمراً رائجاً عملياً حتى في البلاد التي تحظر تعدد الزوجات، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.
إِن المؤرخ الفرنسي المعروف «غوستاف لوبون» يعتبر قانون تعدد الزوجات الذي يقرّه الإِسلام ضمن حدود وشروط خاصّة ـ من مزايا هذا الدين، ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرّة غير المشروعة الرائجة في الغرب قائلا: «وفي الغرب حيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد الزوجات، وبرغم أنّ القوانين الغربية تمنع التعدد، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرّية الآثمة.
ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين، بل أرى ما يجعله أسنى منه»(1).
طبعاً لا يمكننا إنكار أنّ هناك بعض أدعياء الإِسلام ممن يستخدمون هذا القانون الإِسلامي من دون مراعاة الروح الإِسلامية فيه فيتخذون حريماً كلّه فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم، بيد أنّ هذا ليس هو عيب في هذا القانون الإِسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من الإِسلام، فهي ليست من أحكام الإِسلام في شيء. ترى أي حكم أو قانون جيد
1 ـ حضارة العرب، ص 398.
من الأحكام والقوانين لم يستغله النفعيون والمصلحيون استغلالا سيئاً؟
سؤال
ثمّ أنّ هاهنا من يسأل أنّه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه بالنسبة إِلى إمرأة أو نساء، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما نسمح للرجال ذلك؟
الجواب
إنّ الجواب على هذا السؤال ليس صعباً كما يمكن أن يتصور، وذلك:
أوّلا: إِنّ الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من الناس) أقوى وأشدّ بأضعاف من النساء، وأن المرض النفسي الذي تصرّح به أكثر الكتب النفسية والطبية هو «البرود الجنسي» لدى المرأة في حين أن الأمر في الرجال هو العكس، ولا يقتصر هذا الأمر على البشر، ففي عالم الحيوانات كذلك نجد ذكورها أسبق إِلى إِظهار الميول الجنسية من إِناثها.
ثانياً: إِنّ تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل إِجتماعية وحقوقية، في حين أنّ السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أنّنا سمحنا لإمرأة أن تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب، إِذ لا يعرف في هذه الصورة إِلى من ينتسب الولد، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول الأب قلّما يحظى حتى بحبّ الأُمّ واهتمامها به، وبهذه الصورة يصاب الولد الناشىء من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية، كما أنّه يكون ـ بطبيعة الحال ـ مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضاً.
ولعلّه لا يحتاج إِلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون إنعقاد النطفة، وحصول ولد لا يورث الإِطمئنان مطلقاً، ولا يكون دليلا قاطعاً
على عدم حمل الزوجة بولد، لأن ثمّة كثيراً من النساء يستخدمن هذه الوسائل، أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولاداً، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتماداً على هذه الوسائل.
لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمراً منطقياً، في حين أنّه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقاً ـ أمر منطقي، وعملي أيضاً.
* * *
وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً(4)
«النِّحلة» في اللغة تعني الدّين، كما أنّها بمعنى العطية أيضاً، يقول الرّاغب الأصفهاني في مفرداته: «واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظراً منه إِلى فعله فكان نحلته أعطيته النحل».
و«صدقاتهن» جمع الصداق وهي بمعنى المهر ...
والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزّوجة تتضمن إشارة إِلى إِحدى حقوق النساء المسلّمة، وتؤكّد قائلة: (وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة) أي أعطوا المهر للزوجة كمّلا واهتموا بذلك كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص (وفي هذه الصورة نكون قد أخذنا لفظة النِّحلة بمعنى الدَّين).
وأمّا إِذا أخذنا لفظة النِّحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة بالنحو التالي: «أعطوا النساء كامل مهرهنّ الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهنّ من ضعف
جسمي نِسبي».
ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانه ـ بصراحة ـ في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظاً لحقوقهنّ، يعمد في ذيل هذه الآية إِلى بيان ما من شأنه إحترام مشاعر كلا الطرفين، ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية، وكسب العواطف إِذ يقول: (فإِن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً) أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإِنّما أقرّ الإِسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإِنساني، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنباً إِلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.
لمّا كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إِذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلّم ـ إِلى أوليائها، فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقّاً مسلّماً لهم لا لها، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لإمرأة أُخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين.
ولقد أبطل الإِسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقّاً مسلّماً خاصاً بالمرأة، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.
على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإِسلام، فهو أمر يتبع إتفاق الزوجين، وإِن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور، ولكن هذا لا يكون حكماً إِلزامياً، بل هو أمر مستحب.
وها هنا ينطرح هذا السؤال، وهو إِذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلماذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغاً ـ قليلا أو كثيراً ـ إِلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إِساءة إِلى شخصية المرأة، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟
إِنّ هذه الأُمور هي التي تدفع بالبعض إِلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق، ويقوى هذا الأِتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط، بل يعرض وضعها للخطر.
وتوضيح ذلك هو، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضرراً لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة، وذلك:
أوّلا: إِنّ الرجل ـ بحكم قابلياته الجسدية الخاصّة ـ يمتلك ـ عادة ـ سلطاناً ونفوذاً وفرصاً أكثر في المجتمع، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إِنكارها عند الحديث حول المرأة، ولكن الوضع الإِجتماعي وحياة البشر ـ حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح ـ وكما هو مشهود للجميع ـ إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّاً هي في الأغلب في أيدي الرجال.
هذا مضافاً إِلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لإِختيار الزوجات، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإِمكانيات للمرأة، فإِن النساء الثيبات ـ خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ،
وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ ـ يمتلكن فرصاً أقل للحصول على أزواج لهنّ.
بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإِمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإِمكانات التي يفقدها الرجل بذلك، ويكون الصداق والمهر ـ في الحقيقة ـ بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية، هذا مضافاً إِلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والإِفتراق.
صحيح أنّ المهر ـ في نظر القوانين الإِسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة إنعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة، ويحق للمرأة المطالبة به فوراً، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدَّين المتعلق في الذّمة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها، إِلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعاً هناك استثناءات لهذا الموضوع، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد).
وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطىء، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإِسلامية، لأن الإِسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إِلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إِضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إِذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعاً لابدّ من الإِنتباه إِلى أن على الزوج ـ إِذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج ـ أن يدفع إِلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها).
من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنّه ثمن المرأة، ولعل التعبير بالنِّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إِشارة إِلى هذه النقطة.
* * *
وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهآءَ أَمْوَلَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَـماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفاً(5)وَابْتَلُوا الْيَتَـمَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدَاً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِداراً أَن يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَلَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً(6)
الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرّت في الآيات السّابقة.
يقول الله سبحانه: (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم) بل انتظروا رشدهم، ونضجهم في المسائل الإِقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.
قال الرّاغب في المفردات: «السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الإِضطراب، واستعمل في خفّة
النفس لنقصان العقل في الأُمور الدّنيوية، والأخروية».
ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأُمور الإِقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الإِقتصادية وإِصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: (فإِن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم).
وعلى هذا الأساس فإِنّ الآية الحاضرة وإِن كانت تبحث حول اليتامى، لكنّها تتضمّن حكماً كلياً وقانوناً عامّاً لجميع الموارد، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الإِرتباط، إِليه إِذا كان سفيهاً غير رشيد، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإِسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافاً إِلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة «السّفيه» روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد.
ففي رواية عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) نقرأ أنّ شخصاً يدعى إِبراهيم بن عبد الحميد يقول: سألت أبا عبدالله عن قول الله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) قال: «كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه(1) فلا تعطوهم أموالكم».
وفي رواية أُخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أميناً على الأموال.
وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة، وهذا التعبير إِنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإِنسان ماله، وعقله أيضاً،
1 ـ تفسير البرهان، ج 1، في ذيل هذه الآية.
ويبتاع الجنون ... ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية، ويتسبب في أضرار إِجتماعية كثيرة وكبيرة.
ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أُخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليه، فعن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قوله: (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم)قال: «من لا تثق به(1)».
ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعاً، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليهم، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم، وفي بعض الموارد الاُخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة.
وهنا ينطرح سؤال وهو، إِذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلماذا قال تعالى: (أموالكم) ولم يقل «أموالهم»؟
يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة إِجتماعية وإِقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإِسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إِذ قال: «أموالكم» ولم يقل «أموالهم»، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط، بل هي مرتبطة بكم أيضاً، فإِذا لحق بها ضرّر، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضاً، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص.
ثمّ إِنّ هناك تفسيراً آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من «أموالكم»، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى، فيكون المعنى إِذا أردتم مساعدة الإيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئاً من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإِشفاق
1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ذيل الآية المبحوثة وهكذا في تفسير نور الثقلين.
ـ إِليهم، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك، بل عليكم أن تعملوا شيئاً آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي، وهو أن تقوموا بالإِنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد، فإِذا بلغوا هذه المرتبة، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ماشئتم، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال.
وهذا في الواقع درس إِجتماعي كبير يُعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإِشفاق والعاطفة، لأن هذه الأعمال وإِن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضراراً وويلات كبيرة، فلابدّ إِذن من إِدارة أُمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إِليهم أو تشغيلهم في أُمور سهلة وصغيرة.
من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقاً بهم وإِشفاقاً عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال، وأكثرها بعداً عن العقل والمنطق الصحيح.
ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله: (التي جعل الله لكم قياماً) هو تعبير جميل ورائع جداً عن الأموال والثّروات، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه، فلا يصحّ إِعطاؤها إِلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إِصلاحها، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضراراً كبيرة بالمجتمع.
ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإِسلام من الإِهتمام بالأُمور والشؤون الإِقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإِنجيل الحاضر: «فقال يسوع
لتلاميذه: الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إِلى ملكوت السماوات»(1) في حين يرى الإِسلام أنّ الأُمّة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إِلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الإِقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.
غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إِلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة، والتخلف.
ثمّ أن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما:
أوّلا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إِذ يقول: (وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً).
والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة «فيها» أي في أموال اليتامى لا «منها» أي من أموالهم إِذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإِنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم، إِذ لو قال سبحانه: وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئاً فشيئاً، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئاً كبيراً من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إِلى سن الرشد، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة «منها» بلفظة «فيها» يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى، ويحاولوا الإِنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.
1 ـ إِنجيل متى الإِصحاح، 19 ـ 23.
ثانياً: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إِذ قال سبحانه: (وقولوا لهم قولا معروفاً) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً.
ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إِذ يقول سبحانه: (وابتلوا اليتامى حتى إِذا بلغوا النكاح) فإِذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إِدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: (فإِن آنستم منهم رشداً فادفعوا إِليهم أموالهم) وها هنا نقاط لابدّ من الإِلتفات إِليها.
1 ـ إنّه يستفاد من التعبير بـ «حتى» أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإِدارة الأُمور المالية على الوجه الصحيح.
كما أنّه يستفاد ـ ضمناً ـ أنّ المراد من الإِختبار والإِبتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إِلى إِعطائهم أموالهم، بل لابدّ أن تهيئوهم ـ قبل البلوغ ـ للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.
وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقداراً من المال، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم إستقلاله فإِذا تبيّن أنّه قادر على الإِتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن، وجب تسليم أمواله
إِليه وإِلاّ فلابدّ أن تستمر تربيته وإِعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإِدارة شؤونه وتدبير معيشته، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.
2 ـ إِنّ التعبير بجملة (إذا بلغوا النكاح) إِشارة إِلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إِلى درجه القدرة على الزواج، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لابدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة، ولا شك أنّ الإِنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إِلى أهدافه، ولهذا فإِن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الإِقتصادية المستقلة.
وبعبارة أُخرى أنّ الثروة لا تعطى إِليهم إِلاّ عندما يصلون إِلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إِلى المال بشدّة ويصلون إِلى البلوغ الفكري، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.
3 ـ إِنّ التعبير بجملة (آنستم به رشداً) إِشارة إِلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم، لأنّ الإِيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة «الإِنسان» الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إِنّما تتمّ بالإِستعانة من إِنسان العين ـ في الحقيقة ـ ولهذا عبر عن المشاهدة بالإِيناس).
ثمّ أنّه سبحانه قال: (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا) وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إِلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبداً.
ثمّ أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: (ومن كان غنيّاً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن يراعوا جانب العدل والإِنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأُجرة، هذا إِذا كان الولي فقيراً، أما إِذا كان غنيّاً فلا يأخذ من مال اليتيم شيئاً أبداً.
وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إِليه من
مضمون الآية.
ومن هذه الآحاديث ما روي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) إِذ قال: «فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إِذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتاً كبيراً) طبعاً فلا يأكل منه شيئاً».(1)
ثمّ يقول سبحانه: (فإِذا دفعتم إِليهم أموالهم فاشهدوا عليهم) لكي لا يبقى أي مجال للإِتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.
واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعاً عنده لا يخفى عليه شيء أبداً ولا يفوته صغير ولا كبير فإِذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإِنّه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها: (وكفى بالله حسيباً).
![]() |
![]() |
![]() |