وقد جاء الإِسلام بكلمة «السّلام» مصطلحاً للتحية بين المسلمين، والآية موضوع البحث مع كونها عامة شاملة لأنواع التحية، لكن المصداق الأوضح والأظهر لها يتجسد في كلمة «السّلام».

وبناء على ذلك فإنّ المسلمين مكلّفون بردّ السّلام بأحسن منه، أو على الأقل بما يماثله.

وفي آية أُخرى إِشارة واضحة إِلى أنّ السّلام هو التحية حيث تقول: (فإِذا

[362]

دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم تحية من عند الله)(1) ويمكن الإِستدلال من هذه الآية على أن عبارة (السلام عليكم» هي في الأصل «سلام الله عليكم» أي ليهبك الله السلامة والأمن، وهكذا يتّضح لنا أنّ السلام يعتبر دلالة على الحبّ والود المتبادل، كما هو دلالة على نبذ الحرب والنزاع والخصام.

وقد دلت آيات قرآنية أُخرى على أنّ السّلام هو تحية أهل الجنّة، حيث يقول سبحانه: (أُولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً)(2).

ويقول تعالى: (تحيتهم فيها سلام ...)(3).

كما أنّ آيات قرآنية أُخرى دلت على أنّ السلام أو أي صيغة أُخرى تعادله، كان سائداً بين الأقوام التي سبقت الإِسلام، وهذا هو ما تشير إِليه الآية (25) من سورة الذاريات في قصة إِبراهيم مع الملائكة حيث تقول: (إِذ دخلوا عليه قالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون).

والشعر الجاهلي فيه دلائل تثبت أن السلام كان ـ أيضاً ـ تحية أهل الجاهلية(4).

إِنّ تحية الإِسلام تبرز أهميتها وقيمتها العظيمة، لدى مقارنتها بما لها من نظائر لدى الأُمم والأقوام الاُخرى.

النصوص الإِسلامية تؤكد كثيراً على السّلام والتّحية، حيث يروى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه»(5).


1 ـ النّور، 61.

2 ـ الفرقان، 75.

3 ـ إِبراهيم، 23.

4 ـ روي أن «نوبة» وهو من شعراء الجاهلية قال:

ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علي ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح

5 ـ أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.

[363]

كما يروى عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ الله يقول: «البخيل من يبخل بالسّلام»(1)

وعن الإِمام الباقر(عليه السلام): «إِنّ الله يحبّ إِفشاء السلام»(2).

وقد رود في الروايات والأحاديث آداب كثيرة للتحية والسلام، منها أنّ السلام يجب أن يشيع بين جميع أبناء المجتمع وأن لا ينحصر في إِطار الأصدقاء والأقارب، فقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سئل: أي العمل خير: فأجاب(صلى الله عليه وآله وسلم): «تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف»(3).

كما ورد في الأحاديث أن من آداب التحية أن يسلم الراكب على الراجل، والراكب على دابة غالية الثمن يسلم على من يركب دابة أقل ثمناً، وقد يكون الأمر حثّاً على التزام التواضع، ونهياً عن التكبر أو محاربة له، فالتكبر غالباً ما يستولي على أهل المال والجاه وهذا عكس ما نشاهده في عصرنا حيث يتحتم على الطبقات الدانية من المجتمع أن تبادر الطبقات العليا بالسّلام، وبذلك يضفون على هذا الأمر طابعاً استعبادياً وثنياً، بينما كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل من يبادر الآخرين بالسلام، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يبتدىء بالسلام حتى على الصبية الصغار، وبديهي أنّ هذا الأمر لا ينافي ما ورد في الروايات من حثّ صغار السن على مبادرة كبارهم بالسلام والتحية والإِحترام، لأنّ هذا السلوك يعتبر نوعاً من الآداب الإِنسانية الحميدة، ولا ارتباط له بالتمييز الطبقي.

ومن جانب آخر نجد روايات تأمر بعدم السّلام على المرآبين والفاسقين وأمثالهم، ويعتبر هذا الأمر سلاحاً لمحاربة الفساد والربا، أمّا إِذا كان السلام يؤدي إِلى التأثير على المفسد والمنحرف، ويجعله يرتد عن غيه ويترك الفساد والإِنحراف، فلا مانع منه ولا بأس به.


1 ـ أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.

2 ـ أصول الكافي، الجزء الثاني، باب التسليم.

3 ـ تفسير في ظلال القرآن، في هامش الآية.

[364]

ولا يفوتنا هنا أن نوضح أنّ المراد من رد التحية بالأحسن هو أن نعقب السلام بعبارات مثل «ورحمة الله» أو «ورحمة الله وبركاته».

ورد في تفسير «الدّر المنثور» أنّ شخصاً أتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: السّلام عليكم. فاجابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): وعليك السّلام ورحمة الله. ثمّ جاءه آخر وقال: السّلام عليكم ورحمة الله.

فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته. فجاءه ثالث وقال: السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «وعليك» ـ وعندما سئل عن علّة هذا الجواب القصير، قال: إنّ القرآن يقول: اذا حيّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها، ولكنك لم تبق شيئاً»(1).

وفى الحقيقة أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّ التحية بأحسن منها في الموردين السابقين، أمّا في المورد الثّالث ردّها بالمساوي كلمة «وعليك» تعني أنّ كل ما قلتَه لي مردود عليك.

* * *


1 ـ الدور للمنثور، ج 2، ص 8.

[365]

الآية

اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً(87)

التّفسير

جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات، فالآية السابقة بعد أن أمرت بردّ التحية قالت: (إنّ الله كان على كل شيء حسيباً).

والآية موضوع البحث تشير إِلى قضية غيبية مهمّة هي قضية يوم البعث والحساب، حيث محكمة العدل الإِلهية العامّة للبشر أجمعين، وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإِيمان (الله لا إِله إِلاّ هو ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه).

وعبارة (ليجمعنّكم) تدلّ على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلّهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وفي موضع آخر من القرآن (الآيتان 93 و94 من سورة مريم) أشير أيضاً إِلى هذه الحقيقة ... حقيقة بعث جميع عباد الله ـ من سكن منهم على هذه الكرة الأرضية أو على كرات أُخرى ـ في يوم واحد.

وعبارة (لا ريب فيه) الواردة في الآية وفي آيات أُخرى، إِنّما هي إِشارة

[366]

إِلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة، مثل دليل «قانون التكامل» و«حكمة الخلق» و«قانون العدل الإِلهي»، المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ الله هو أصدق الصادقين: (من أصدق من الله حديثاً) من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به الله من بعث ونشور وغيره من الوعود، فالكذب لا يصدر إِلاّ عن جهل أو ضعف وحاجة، والله أعلم العالمين، وإِليه سبحانه يحتاج العباد دون أن يحتاج هو إِلى أحد مطلقاً، فهو منزّه عن صفات الجهل والضعف والعجز، ولذلك فهو أصدق الصادقين، بل إن الكذب بالنسبة إِلى الله تعالى لا مفهوم له إِطلاقاً.

* * *

[367]

الآية

فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَـفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا(88)

سبب النّزول

نقل جمع من المفسّرين عن ابن عباس أن نفراً من أهل مكّة من الذين كانوا قد أظهروا الإِسلام امتنعوا عن ترك مجاورة ومداهنة المنافقين، وأحجموا لذلك عن الهجرة إِلى المدينة، وكان هؤلاء في الحقيقة يساندون ويدعمون عبدة الأوثان المشركين، إِلاّ أنّهم اضطروا في النهاية إِلى الخروج من مكّة (وساروا مع المسلمين حتى وصلوا إِلى مشارف المدينة، ولعلّهم فعلوا ذلك لدرء الفضيحة عن أنفسهم أو بهدف التجسس على المسلمين المهاجرين) وكانوا يظهرون الفرح لانطواء حيلتهم على المسلمين، كما حسبوا أن دخولهم إِلى المدينة سوف لا تعترضه أي مشاكل من قبل الآخرين ـ لكن المسلمين إِنتبهوا الى حقيقة هؤلاء، غير أنّهم انقسموا إِلى فئتين، فئة منهم رأت ضرورة طرد أُولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في الحقيقة يدافعون عن المشركين أعداء الإِسلام، والفئة الثانية من المسلمين الذين كانوا لسذاجتهم يرون ظاهر الأُمور دون باطنها، وخالفوا طرد المنافقين واعترضوا بزعمهم أنّه لا يمكن محاربة أو طرد من يشهد لله بالوحدانية

[368]

ولمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنّبوة، وقالوا: أنّه لا يمكن استباحة دماء هؤلاء لمجرّد عدم هجرتهم مع المسلمين: فنزلت هذه الآية الكريمة وهي تلوم الفئة الأخيرة على خطئها، وترشدها إِلى طريق الحقّ الصواب(1).

التّفسير

استناداً إِلى سبب النزول الذي ذكرناه، تتّضح لنا الصّلة الوثيقة بين هذه الآية والآيات التي تليها، وكذلك الآيات السابقة التي تناولت مواضيع وقضايا عن المنافقين.

فهذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إِلى فئتين، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: (فما لكم في المنافقين فئتين ...)(2) وتنهي المسلمين عن الإِختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم، وتعاونوا مع المشركين، وأحجموا عن مشاركة المجاهدين، فظهر بذلك نفاقهم، ودلت على ذلك أعمالهم، فلا يجوز للمسلمين أنّ ينخدعوا بتظاهر هؤلاء بالتوحيد والإِيمان، كما لا يجوز لهم أن يشفعوا في هؤلاء، وقد أكّدت الآية السابقة أن: (من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها).

وتبيّن الآية بعد ذلك: إِنّ الله قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح، وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإِنّ الله قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامّة فأصبحوا كمن يقف على رأسه بدل رجليه: (... والله أركسهم بما كسبوا ...)(3).


1 ـ ذكرت أسباب أُخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها، وقيل أنّها نزلت في واقعة أُحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول، بل تسنجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه.

2 ـ في هذه الجملة، جملة أُخرى محذوفة تتضح لدى الإِمعان في الأجزاء الاُخرى من الآية والتقدير: «فمالكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...».

3 ـ «أركسهم»: مَن ركس وهو قلب الشيء على رأسه، وتأتي أيضاً بمعنى ردّ أوّل الشيء إِلى آخره.

[369]

وتدل عبارة «بما كسبوا» على أنّ كل ارتداد أو خروج عن جادة الحقّ وطريق الهداية والسعادة والنجاة، إِنّما يتمّ بعمل الإِنسان وفعله، وحين ينسب الإِضلال إِلى الله سبحانه عزّ وجلّ، فذلك معناه أنّ الله القدير الحكيم يجازي كل إِنسان بما كسبت يداه ويثيبه بقدر ما يستحق من ثواب.

وفي الختام تخاطب الآية أُولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه الله من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه، لأنّ الله قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا).

إِذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه ... وهذه سنة إِلهية ... فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إِلى حماية أعداء الله؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل(1).

* * *


1 ـ في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة، فراجعه.

[370]

الآية

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً(89)

التّفسير

لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإِسلام، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط إنحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إِلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين: (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).

ولهذا السبب فإِنّ المنافقين أسوأ من الكفار، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائماً لإِفساد المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبداً، تقول الآية الكريمة: (فلا تتخذوا منهم أولياء ...) إِلاّ إِذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

[371]

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إِلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إِلى دار الإِسلام (أي يهاجروا من مكّة إِلى المدينة) فتقول الآية: (حتى يهاجروا في سبيل الله ...) أمّا إِذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإِن تظاهرهم بالإِسلام ليس إِلاّ من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.

وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن يقتلوهم إِذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: (فإِن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم).

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول: (لا تتخذوا منهم ولياً ولا نصير).

والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إِصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة مالم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإِخلاص، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.

والطريف هنا أنّ الإِسلام ـ مع إهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم ـ نراه يشدد كثيراً في التحذير من خطر المنافقين، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة، ورغم تظاهرهم بالإِسلام يصرح القرآن بأسرهم، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.

وما هذا التشديد إِلاّ لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإِسلام تحت ستار الإِسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.

[372]

سؤال:

قديرى البعض أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.

الجواب:

الحقيقة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اتّبع هذا الأُسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإِسلام، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أُسلوباً غير هذا.

* * *

[373]

الآية

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـقٌ أَوْجَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَـتِلُوكُمْ أَوْيُقَـتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَـتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَـتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا(90)

سبب النّزول

وردت روايات عديدة تفيد أنّ إِثنتين من القبائل العربية في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وهما قبيلتا «بني ضمرة» و«أشجع» كانت إِحداهما وهي قبيلة بني ضمرة قد عقدت مع النّبي اتفاقاً بترك النزاع، وكانت القبيلة الثانية حليفة للقبيلة الأُولى دون أن تعقد مثل هذا الإِتفاق مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول الروايات إن بعض المسلمين أخذوا يشككون في وفاء «بني ضمرة» للمسلمين، واقترحوا على النّبي أن يهاجم هذه القبيلة قبل أن تبادر هي بالهجوم على المسلمين، فرد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا:

«كلاّ، فإِنّهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرّحم، وأوفاهم بالعهد».

وبعد فترة علم المسلمون أنّ قبيلة «أشجع» وعلى رأسها «مسعود بن رجيلة» قد وصلت حتى مشارف المدينة، وهي في سبعمائة رجل، فبعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفداً للتعرف على سبب مجيئهم إِلى ذلك المكان، فأجابت هذه القبيلة

[374]

بأنّها جاءت لكي تعقد اتفاقاً مع المسلمين مماثلا لاتفاق «بني ضمرة» معهم، وما أن علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذا الأمر حتى أمر أصحابه بأن يأخذوا مقداراً من التمر هدية لهذه القبيلة، ثمّ التقى بهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بأنّهم لعجزهم عن موازرة المسلمين في قتال الأعداء، ولعدم رغبتهم في المشاركة في قتال ضد المسلمين، لما تربطهم بهم من صلة الجوار، لذلك يرومون عقد اتفاق أو ميثاق مع المسلمين بتحريم العدوان بينهما، فنزلت الآية المذكورة بهذا الشأن وهي تبيّن للمسلمين ما يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الحالة.

ويقول مفسرون آخرون إنّ قسماً من هذه الآية قد نزل في شأن قبيلة «بني مدلج» التي جاءت إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبرته أنّها تريد الإِتفاق معه على عدم اللجوء إِلى العدوان فيما بينهما، وذلك لرغبتها في البقاء على الحياد تجاه المسلمين ودعوتهم.

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم:

بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإِسلام، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين:

1 ـ من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم (إلاّالذين يصلون إِلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).

2 ـ من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم).

ومن الواضح أنّ أفراد الطائفة الأُولى يجب أن يكونوا مستثنين من هذا

[375]

القانون احتراماً للعقود والعهود، وأمّا المجموعة الثانية ـ وإِن لم تكن معذورة، بل عليها أن تستجيب للحق بعد معرفته ـ فقد أعلنت حيادها، ولذلك فمجابهتها يتعارض مع مبادىء العدالة والمروءة.

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين إَزاء كل هذه الإِنتصارات الباهرة، وكي لايعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة تقول الآية: (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم).

وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل إنتصار، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضرراً لأنفسهم.

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إِليهم وهي تريد الصلح والسلام (فإِن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إِليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).

يلفت النظر أنّ القرآن في هذا الموضع ومواضع أُخرى يذكر مقترح السلام بعبارة «إلقاء السلام» وقد يكون ذلك إشارة إِلى التباعد بين الجانبين المتنازعين قبل الصلح، حتى أنّ أحد الجانبين يطرح اقتراحه باحتياط وعن بعد ليلقيه على الجانب الآخر.

* * *

[376]

الآية

سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً(91)

سبب النّزول

لقد ذكروا أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية، وأشهرها هو أنّ نفراً من أهل مكّة كانوا حين يحضرون عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتظاهرون بالإِسلام كذباً وخداعاً، وما أن يرجعوا إِلى قريش يعودون لعبادة الأصنام، وقد انتخب هؤلاء هذا النوع من السلوك درءاً لخطر المسلمين وخطر قريش عن أنفسهم، بالإِضافة إِلى سعيهم لإِمرار مصالحهم لدى الطرفين، فنزلت هذه الآية وأمرت المسلمين بالتعامل مع هؤلاء بعنف وشدّة.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين:

إِنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها

[377]

الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين انتهازيين، همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامّة لدى المسلمين، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (ستجدون آخرين يريدون أنْ يأمنوكم يأمنوا قومهم ...).

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكساً على رؤوسهم (كلّما ردّوا إِلى الفتنة أُركسوا فيها ...).

وعمل هؤلاء وسلوكهم على عكس سلوك الطائفة السابقة التي أرادت أن تبقى على الحياد فقد تجنبت الفئة السابقة إِيذاء المسلمين، أمّا هذه الأخيرة فقد انطوت سريرتها على إِيذاء المسلمين والوقوف ضدهم.

وقد اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من إنتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: إعتزال المسلمين، أو مصالحتهم، أو الكف عن إِيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: (فإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِليكم السّلم ويكفّوا أيديهم ...).

وإِذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد، فالمسلمون مكلّفون عند ذلك بإِلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا، كما تقول الآية: (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم).

ولما كانت الحجّة قد تمّت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: (أُولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً).

وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطاناً مادياً ظاهرياً عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوّة.

وتشير عبارة «ثقفتموهم» الواردة في الآية إِلى احتياج المسلمين إِلى الدقة

[378]

والمهارة في التعرف على هذه الفئة المنافقة الخطيرة، لما لها من قابلية عجيبة على التلون والخداع والإِنفلات من العقاب، فعبارة «ثقفتموهم» مشتقة من المصدر «ثقافة» الذي يعني الحصول على شيء باستخدام الدقّة والمهارة، بينما الفعل «وجد» يعني الحصول على الشيء بصورة مطلقة.

* * *

[379]

الآية

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُّؤْمِنَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(92)

سبب النّزول

ذكروا أنّ مشركاً من أهل مكّة وهو «الحارث بن زيد» كان يعذب أحد المسلمين ـ ولفترة طويلة ـ بالتعاون مع أبي جهل، وكان اسم هذا المسلم «عياش بن أبي ربيعة» ولم يكن تعذيبه بسبب جرم إقترفه، بل كان يعذب لمجرّد أنّه آمن بالإِسلام، وبعد هجرة المسلمين إِلى المدينة هاجر «عياش» إِليها، فصادف يوماً «الحارث بن زيد» في إِحدى طرقات المدينة فقتله ظنّاً منه أنّه ما زال عدواً للمسلمين، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم، فعلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذا الحادث، فنزلت الآية الشّريفة وهي تبيّن حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.

[380]

التّفسير

أحكام القتل النّاتج عن الخطأ:

لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطراً كبيراً على الإِسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن تفادياً لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئاً، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إِلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدّماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإِسلام، تقول الآية الكريمة: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأً).

هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إِطلاقاً أن يسفك دماً بريئاً، لأنّ المشاعر الإِيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلاّ خطأ! من هذه الحقيقة يتّضح أنّ مرتكب جريمة القتل متهم أوّلا في إيمانه.

وعبارة «إلاّ خطأً» لا تعني السماح بإرتكاب قتل الخطأ! لأنّ مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق، ولا يكون مرتكبه حين الإِرتكاب على علم بخطأه أنّها ـ إِذن ـ تقرير لحقيقة عدم إرتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إِلاّ عن خطأ.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إِلى ثلاثة أنواع:

فالنّوع الأوّل: هو أن يحرر القاتل عبداً مسلماً، ويدفع الدية عن دم القتيل إِلى أهله إِذا كان القتيل ينتمي إِلى عائلة مسلمة (ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إِلى أهله) فإِذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فليس على القاتل أن يدفع شيئاً: (إلاّ أن يصدّقوا ...).

والنّوع الثّاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إِذا كان القتيل مسلماً،

[381]

ولكن من عائلة معادية للإِسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إِلى أهل القتيل، لأنّ الإِسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإِضافة إِلى ذلك فإِنّ الإِسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإِسلام، فلا معنى إِذن لجبران الخسارة.

أما النّوع الثّالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ، فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غيرمسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهداً وميثاقاً، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إِلى أهله، كما أمر ـ أيضاً ـ بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراماً للعهود والمواثيق تقول الآية: (وإِن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلّمة إِلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة...).

واختلف المفسّرون في قتيل الحالة الثالثة، هل يجب أن يكون من المسلمين، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين؟

وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل «المسلم».

كما اختلف المفسّرون في جواز دفع الدية إِلى أهل القتيل غير المسلمين، حيث أنّ الدية تعتبر جزءاً من الإرث، والكافر لا يرث المسلم، ولكن ظاهر الآية يدل على وجوب دفع الدية إِلى أهل مثل هذا القتيل، وذلك تأكيداً من الإِسلام لاحترامه للعهود والمواثيق.

وذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ الدية تدفع في هذه الحالة إِلى المسلمين من ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أنّ الكافر لا يرث المسلم وأنّ الدية هي جزء من الإِرث، وقد وردت إِشارات إِلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضاً.

بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين، وذلك حين تقول: (من قوم بينكم وبينهم ميثاق ...) لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك الزمان

[382]

بين المسلمين وبين غيرهم، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم ـ حينذاك ـ عهود أو مواثيق، (وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيراً من الأمر).

وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إِلى أُولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم ـ لفقرهم ـ دفع المال دية عن القتيل، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن إرتكابهم للقتل الخطأ، وتبيّن حكم هؤلاء، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي إرتكبوه، بدلا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعاً من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إِلى الله، علماً أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إِنما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال، والله يعلم بخفايا الأُمور وقد أحاط علمه بكل شيء حيث تقول الآية: (توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً).

لقد وردت في الآية ـ موضوع البحث ـ أُمور عديدة يجدر الإِنتباه إِليها وهي:

1 ـ ذكرت الآية ثلاثة أنواع من التعويض عند حصول قتل عن خطأ، وكل نوع في حدّ ذاته تعويض عن الخسارة الناجمة عن هذا القتل.

فتحرير رقبة عبد مسلم يعتبر تعويضاً عن خسارة إِجتماعية ناتجة عن القتل الواقع على إِنسان مسلم، إِذ بعد أن خسر المجتمع فرداً نافعاً من أفراده بسبب وقوع القتل عليه، حصل على تعويض مماثل وذلك بدخول إنسان نافع آخر بين أفراده عن طريق التحرير.

وأمّا التعويض المادي «الدية» فهو مقابل الخسارة المادية اللاحقة بأهل القتيل نتيجة فقدهم إِياه، والحقيقة أن الدية ليست ثمناً لدم القتيل المسلم البريء، لأن دمه لا تعادله قيمة، بل هي ـ وكما أسلفنا ـ نوع من التعويض عن خسارة مادية لاحقة بذوي القتيل بسبب فقدانه.

وأمّا الخيار الثّالث الوارد في حالة تعذر تقديم التعويض المادي، فيتمثل في

[383]

صيام شهرين متتابعين يقوم به القاتل، فهو تعويض أخلاقي ومعنوي لخسارة معنوية لحقت بالقاتل نفسه بسبب إرتكابه لحادث قتل، فالكفارة تتحقق في الدرجة الأُولى في تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز القاتل فصيام شهرين متتابعين ـ ويجب الإِتنباه هنا إِلى أن تحرير العبيد يعتبر بحدّ ذاته عبادة، لما له من أثر معنوي على العبد الذي يتحرر من قيود الرق.

2 ـ ورود عبارة (إلاّ أن يصدّقوا) بالنسبة إِلى أهل القتيل الذين هم من المسلمين، أي أن يتنازلوا عن «دية» قتيلهم، حيث لم ترد هذه العبارة بالنسبة لغير المسلمين ـ وسبب ذلك واضح، وهو لأن الأرضية للصفح والعفو متوفرة لدى المسلمين حيال أمثالهم، بينما لا تتوفر مثل هذه الأرضية لدى غير المسلمين تجاه المسلمين، كما أن المسلم يجب أن لا يقبل معروفاً أو منّة من غير المسلم في هذه الحالات.