[257]

على أدبارها).

ولعلّنا لسنا بحاجة إِلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والإِنحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) من أنّ المراد: «نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّاً لها بأنّها لا تفلح أبداً»(1).

توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب، وبخاصّة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن الإِذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتاً واستكباراً وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئاً فشيئاً، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إِلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عناداً وعتواً، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية (6).

وعلى هذا، فإِن المراد من «الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.

وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إِذ قال: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت)(2).

وهنا يطرح سؤال وهو: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما بـ «أو»؟


1 ـ مجمع البيان، ج 2، ص 55، في ذيل الآية الحاضرة.

2 ـ أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصّتهم في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (163 ـ 166) وهم جماعة من اليهود كانوا قد كلفوا بتعطيل العمل والكسب في يوم السبت، ولكنّهم اشتغلوا بالصيد في ذلك اليوم بالرغم من نهى نبيّهم، فتجاوزوا في الطغيان الحدّ، فابتلاهم الله بأشد العقوبات.

[258]

ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية: (كما لعنا أصحاب السبت) ونحن نعلم أن أصحاب السبت ـ كما يتّضح من مراجعة الأعراف ـ قد مسخوا مسخاً ظاهرياً وجسدياً.

وذهب آخرون إِلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضاً على جانب معنوي بفارق واحد، هو أنّ التهديد الأوّل إِشارة إِلى الإِنحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثّاني إِشارة إِلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن).

خلاصة القول: إنّ أهل الكتاب بإِصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.

ثمّ إِنّ هنا سؤالا آخر هو: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟

لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإِسلامية، وذهبت شوكتهم وقدرتهم. وإِنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من طاقاتهم، ولا يزالون إِلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.

ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله: (وكان أمر الله مفعولا) ليؤكّد هذه التهديدات، فإِنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إِرادة الله ومشيئته.

* * *

[259]

الآية

إِنَّ اللهَ لاَيَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثمَاً عَظِيماً(48)

التّفسير

أرجى آيات القرآن:

الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إِلا «الشرك» فإِنّه لا يغفر أبداً، إِلاّ أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحداً، وبعبارة أُخرى: ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إَزالة الإِيمان، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإِنسان إِذا كان مقروناً بالشرك (إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

إِنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة إِنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم ـ بهذه الآية ـ بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً)(1).


1 ـ الإِفتراء، مشتقة من مادة فرى على وزن (فرد) بمعنى القطع، وحيث أنّ قطع بعض أجزاء الشىء السالم يفسد ذلك الشيء ويخربه إستعمل في كل مخالفة، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.

[260]

وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إِلى رحمة الله ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

وهذه الآية ـ كما قال ابن عباس «ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية»(1).

لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إِلى الأبد، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إِلى هؤلاء، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان، وعلى هذا الأساس فإِنّ هذه الآية تهدف ـ في الحقيقة ـ إِلى مسألة تربوية.

فإِذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال «وحشي» غلام هند وقاتل بطل الإِسلام حمزة بن عبدالمطلب عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن مع نزول هذه الآية، وينتهي عن جرائمه وشقاوته، فإِن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي.

ويمكن أن يقال: إِنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية، لما فيها من الوعد بالعفو عن «جميع الذنوب ما عدا الشرك».

ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من


1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 57.

[261]

كل قيد وشرط، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعاً من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران، وكما أشرنا إِلى ذلك في ما سبق، فإِن مشيئة الله ـ في هذه الآية والآيات المشابهة لها ـ بمعنى الحكمة الإِلهية، لأن مشئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبداً، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإِلهي من دون قابلية وصلاح لذلك.

وعلى هذا الأساس فإِن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق ـ بمراتب كثيرة ـ إِمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.

أسباب مغفرة الذنوب:

ثمّ إنّ النقطة الجديرة بالإِنتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإِلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم، و بعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة.

وتوضيح ذلك: أنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل التوصل إِلى العفو والمغفرة الإِلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة أُمور:

1 ـ التوبة والعودة إِلى الله تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الإِجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدّالة على هذا المعنى كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه: (وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)(1).

2 ـ الأعمال الصّالحة المهمّة جدّاً والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة


1 ـ الشورى، 25.

[262]

كما يقول سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات)(1).

3 ـ الشّفاعة التي مرّ شرحها في المجلد الأول عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

4 ـ الإِجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (31 و32) من هذه السورة.

5 ـ العفو الإِلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له، كما مرّ بحثه في تفسير هذه الآية.

هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإِلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإِلهية، ولا يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط، بل تشمل هذه المشيئة والإِرادة خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة الإِلهية بنحو من الأنحاء.

ومن هنا يتّضح لماذا لا يكون الشرك ممّا يشمله العفو والغفران الإِلهي، فالسبب في ذلك هو: إنّ المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة، وارتكب ما يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنّواميس الكونية.

* * *


1 ـ هود، 114.

[263]

الآيتان

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا(49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً(50)

سبب النّزول

روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم أُموراً وامتيازات، فهم ـ كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم ـ كانوا يقولون: (نحن أبناء الله) وربّما قالوا: (لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى) (الآية (18) من سورة المائدة، والآية (111) من سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

التّفسير

تزكية النفس(1):

قال تعالى في الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين: (ألم تر إلى الذين يزكّون


1 ـ يزكّون من مادة «تزكية» بمعنى تطهير، وتأتي احياناً بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة اذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنّها تعتبر امراً محموداً، وإلاّ لو كانت مجرّد ادّعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.

[264]

أنفسهم) وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وادعاء الفضيلة لها.

ثمّ يقول سبحانه: (بل الله يزكي من يشاء) فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقاً لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشئية البالغة، وليس اعتباطاً أو عبثاً. ولذلك فهو لا يظلم أحداً مقدار فتيل: (ولا يظلمون فتيلا)(1).

وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقاً من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

إِن هذا الخطاب وإِن كان موجهاً إِلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم بعض الفضائل دونما دليل، ويعتبرون أنفسهم شعوباً مختارة فيقولون أحياناً: (لن تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة)(2) ويقولون تارة أُخرى: (نحن أبناء الله وأحباؤه)(3) إلا أنّ مفهومه لا يختص بقوم دون قوم، وجماعة دون جماعة، بل يشمل كل الأشخاص أو الأُمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي، وهذه الصفة الذميمة.

إِنّ القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم ـ الآية 32) فيقول: (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).

إِنّ مصدر هذا العمل هو الإِعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى شيئاً فشيئاً في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إِلى التكبر والإِستعلاء على الآخرين.

إِنّ هذه العادة الفاسدة ـ مع الأسف ـ من العادات الشائعة بين كثير من


1 ـ الفتيل في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جداً، وأصله من مادة «فتل» بمعنى البرم.

2 ـ البقره، 80.

3 ـ المائدة، 18.

[265]

الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الإِجتماعية والحروب وحالات الإِستعلاء والاستعمار.

إِنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأُمم الاُخرى تحت وطأة هذا الشعور والإِحساس الكاذب، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خولا وعبيداً.

لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والإِنحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم «العنصر الأعلى» بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.

ولقد تسبب الإِحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإِسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.

ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإِسلام يعانون ـ أيضاً ـ من هذا الإِحساس والشعور الخاطىء وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإِسلام، ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير ـ في الآية اللاحقة الثانية ـ على هذا التصور وشجب هذا الوهم، وهم التفوق العنصري، ويعتبره نوعاً من الكذب على الله والإِفتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً إِذ يقول سبحانه: (انظر كيف يفترون على الله الكذب، وكفى به اثماً مبيناً) أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إِلى الله من ناحية أُخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلاّ هذا لكفى في عقوبتهم.

يقول الإِمام علي(عليه السلام) في حديثه المعروف لـ «همام» الذي يذكر فيه صفات المتقين:

«لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن

[266]

أعمالهم مشتفقون إِذا زكى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي، اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ما يظنون، واغفرلي ما لا يعلمون».

* * *

[267]

الآيتان

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَـبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّـغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـؤُلاَءِ أَهْدَىْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا(51) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً(52)

سبب النّزول

قال كثير من المفسّرين ـ في شأن نزول الآيتين الحاضرتين: أنّه بعد معركة «أُحد» توجه أحد أقطاب اليهود وهو «كعب بن الأشرف» مع سبعين شخصاً من اليهود إِلى مكّة للتحالف مع مشركي مكّة ضد رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض ما كان بينهم وبين رسول الله من الحلف.

فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكّة: أنكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإِن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين (وأشاروا إِليها) وآمن بهما، ففعل.

ثمّ إقترح كعب بن الأشرف على أهل مكّة قائلا: يا أهل مكّة ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدن على

[268]

قتال محمّد، ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبوسفيان لكعب: إِنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إِلى الحقّ، نحن أم محمّد؟

قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (وهي الناقة العظيمة السنام) ونسقيهم الماء، ونقرى الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمرّ بيت ربّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقاطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمّد الحديث.

فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.

فأنزل الله تعالى الآيات الحاضرة إِجابة لهم ورداً عليهم:

التّفسير

المداهنون:

إِن الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين تعكس ـ بملاحظة ـ ما ذكر في سبب النزول قريباً ـ صفة أُخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إِلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، وتجاهلوا كل ما قرؤوه في كتبهم، أو عملوا به حول صفات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمة الإِسلام، بل وذهبوا ـ بغية إِرضاء المشركين ـ إِلى ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإِسلام الحنيف، مع أنّ اليهود كانوا من أهل الكتاب، وكانت المشتركات بينهم وبين الإِسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين، ولهذا يقول سبحانه في هذه الآية مستغرباً: (ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت) وهي الأصنام؟

ولكنّهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: (ويقولون للذين كفروا هؤلاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا).

[269]

الجبت والطّاغوت:

استعملت لفظة «الجبت» في هذه الآية من القرآن الكريم خاصّة، وهو اسم جامد لا تعريف له في اللغة العربية، ويقال أنّه يعني «السّحر» أو «السّاحر» أو «الشّيطان» بلغة أهل الحبشة، ثمّ دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى، أو بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة، ويقال: أنه في الأصل «جبس» ثمّ أبدل «س» إِلى «ت».

وأمّا لفظة «الطّاغوت» فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم، وهي ـ كما قلنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير لدى الحديث عن الآية (256) من سورة البقرة ـ صيغة مبالغة(1) من مادة الطغيان، بمعنى التعدي وتجاوز الحدّ، ويطلق على كل شيء موجب لتجاوز الحدّ (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى الشيطان، والصنم والحاكم الجبار المتكبر، وكل معبود سوى الله، وكل مسيرة تنتهي إِلى غير الحق، طاغوتاً.

هذا هو المعنى الكلي لهاتين اللفظتين.

أمّا المراد منهما في الآية المبحوثة الآن، فذهب المفسرون فيه مذاهب شتى.

فقال البعض بأنّهما اسمان لصنمين سجد لهم اليهود في القصّة السابقة.

وقال آخرون: الجبت هنا هو الصنم، والطّاغوت هم عبدة الأصنام، أو حماتها الذين كانوا يمثلون تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها ليخدعوا الناس(2)، وهذا المعنى أوفق لما جاء في سبب النزول وتفسير الآية، لأنّ اليهود سجدوا للأصنام كما خضعوا أمام عبدتها الوثنيين أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه بيّن ـ في الآية الثانية ـ مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلا: (أُولئك الذي لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً).


1 ـ تفسير المنار، ج 3، ص 35، وذهب البعض إِلى أنه مصدر استعمل بالمعنى الوصفي وصيغة المبالغة.

2 ـ تفسير التبيان، وتفسير روح المعاني.

[270]

إِنّ اليهود ـ كما تقول هذه الآية ـ لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.

إِن الآيات الحاضرة وإِن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصّة، ولكنها لا تختص بهم حتماً، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإِيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إِلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة.

فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة الله في الدنيا والآخرة، وغالباً مايؤول أمرهم إِلى الهزيمة والفشل.

إِنّ الجدير بالإِنتباه هو أنّ هذه الحالة أو الصفة الذميمة المذكورة لا تزال باقية على قوّتها عند هؤلاء القوم، فإِنا نجد كيف أنهم لا يمتنعون عن أي مداهنة مهما كانت الشروط للوصول إِلى أهدافهم، ولهذا ظلوا يعانون من هزائمهم المنكرة طول تاريخهم الماضي والحاضر.

* * *

[271]

الآيات

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّيُوْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً(53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـهُم مُّلْكاً عَظِيماً(54) فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً(55)

التّفسير

في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا ـ لإِرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم ـ إِلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إِلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.

1 ـ إِنّ اليهود ليس لهم ـ من جهة المكانة الإِجتماعية ـ تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أُمورهم، ولم يفوض الناس إِليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: (أم لهم نصيب من الملك

هذا مضافاً إِلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأن روح الإِستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إِلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه، بل خصّوا كل شيء

[272]

بأنفسهم دون غيرهم (فإِذاً لا يؤتون الناس نقيراً)(1).

فبالنظر إِلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائماً إِلى الإِستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.

2 ـ إِنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أية قيمة، إنّهم إِذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، لذلك لا يحبّون أن يناط هذا المقام الإِلهي إِلى أي أحد من الناس، ولذا يحسدون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإِلهية وأُعطوا ذلك المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإِطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

ثمّ أن الله سبحانه يقول معقباً على هذا: ولماذا تتعجبون من إِعطائنا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم الله سبحانه وأعطى ال إِبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى و سليمان وداود) ولكنّكم ـ مع الأسف ـ أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: (فقد آتينا آل إِبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً).

والمراد من الناس في قوله: (أم يحسدون الناس) ـ كما أسلفنا ـ هم رسول الله وأهل بيته(عليهم السلام)، لإِطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس، وأمّا إِطلاقها على شخص واحد (هو النّبي خاصّة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة على إِرادة


1 ـ «النقير» مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شيء بحيث يوجد فيه ثقباً واشتق منه المنقار، وقال بعض: النقير وقبَة صغيرة جدّاً في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشيء الطفيف.

[273]

الواحد فقط(1).

هذا مضافاً إِلى أنّ كلمة آل إِبراهيم قرينة أُخرى على أنّ المراد من «الناس» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، لأنّه يستفاد ـ من قرينة المقابلة ـ أنّنا إِذا أعطينا لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة ـ فلا داعي للعجب ـ فقد أعطينا لآل إِبراهيم أيضاً تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.

وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأنّ المراد من «الناس» هم أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في ذيل هذه الآية أنّه قال في تفسير الآية: «جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون في آل إِبراهيم وينكرونه في آل محمّد»(2)؟

وفي رواية أُخرى عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) يجيب الإِمام على من يسأل عن المحسودين في هذه الآية قائلا: «نحن محسودون»(3).

وروي في الدّر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية: «نحن الناس دون الناس».

ثمّ قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً). أي أنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إِبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإِيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإِيمان وحال دون انتشاره، أُولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذاباً وعقوبة.

وسينتهي إِلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *


1 ـ الناس اسم جمع ويؤيد ذلك ضمير الجمع الراجع إليه في الآية.

2 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 376، وقد جاء في تفسير روح المعاني حديث مشابه لهذا الحديث في المضمون (روح المعاني، ج 5، ص 52).

3 ـ المصدر السابق.

[274]

دور الحسد في الجرائم:

«الحسد» يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إِلى الحسود، أم لم تصل إِليه، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه.

إِن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الإِجتماعية، من ذلك.

1 ـ إِنّ الحاسد يصرف كل أو جلّ طاقاته البدنية والفكرية ـ التي يجب أن تصرف في ترشيد الأهداف الإِجتماعية ـ في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم، ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الإِجتماعية معاً.

2 ـ إِنّ الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم، فلو أنّنا درسنا العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا ـ بوضوح ـ أنّ أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد، ولعلّه لهذا السبب شُبّه الحسد بشرارة من النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر، وتعرضه للضرر.

يقول أحد العلماء: إنّ الحسد من أخطر الصفات، ويجب أن يعتبر من أعدى أعداء السعادة، فيجب أن يجتهد الإِنسان لدفعه والتخلص منه.

إِنّ المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة متخلفة، والحساد ـ في الأغلب ـ عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب وآلام جسدية وعصبية، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية، فإِّننا نلاحظ الآن بحوثاً مفصلة في الطب حول الأمراض التي تختص بمثل هذه.

هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمّة الدين وقادة الإِسلام، ففي رواية عن الإِمام علي(عليه السلام) نقرأ قوله: «صحة الجسد من قلّة الحسد» و«العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد».

[275]

بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضرّ بالحاسد قبل أن يضرّ بالمحسود، بل ويؤدي إِلى القتل والموت تدريجاً.

4 ـ إِنّ الحسد يعدّـ من الناحية المعنوية ـ من علائم ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلّة الإِيمان، لأنّ الحاسد ـ في الحقيقة ـ يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك، ولهذا يسعى الحاسد إِلى أن يرجع المحسود إِلى الوراء، هذا مضافاً إِلى أنّه بعمله يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب، وعلى إِعطائه سبحانه النعم إِلى من تفضل بها عليه من الناس، ولهذا جاء في الحديث الشريف عن الإِمام الصادق(عليه السلام) «الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً»(1).

فهذا هو القرآن الكريم يصرّح بأنّ أوّل جريمة قتل اُرتكبت في الأرض كان منشؤها الحسد(2).

وجاء في نهج البلاغة عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ الحسد يأكل الإِيمان كما تأكل النار الحطب»(3) وذلك لأنّ الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته شيئاً فشيئاً، وهذا الأمر يؤدي به إِلى الخروج عن جادة الإِيمان.

إِنّ آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والإِجتماعية كثيرة جدّاً، وما ذكرناه إِنّما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار والمضار.

* * *


1 ـ متسدرك الوسائل، ج 2، ص 327.

2 ـ المائدة، 27.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 86.

[276]

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَيَـتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لَيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56) والَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلحَِـتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلا(57)

التّفسير

تعقيباً على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين والكافرين.

فالآية الأُولى تقول: (إِنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نُصليهم(1) ناراً كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إِنّ الله كان عزيزاً حكيماً).

وعلّة تبديل الجلود ـ على الظاهر ـ هي أنّه عندما تنضج الجلود يخف الإِحساس بالألم لدى الإِنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس


1 ـ «نصليهم» من مادة «الصلى» بمعنى الإِلقاء في النار، والإِشتواء بالنّار، أو التدفؤ بالنار، و«نضجت» من مادة «نضج» بمعنى أدركت شيها، وصارت مشوية.

[277]

الإِنسان بالألم إحساساً كاملا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلاّ نتيجة الإِصرار على تجاهل الأوامر الإِلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإِعراض عن طاعة الله.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: (إِنّ الله كان عزيزاً حكيماً) أي أنّه قادر بعزّته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطاً، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.

ثمّ يقول سبحانه في الآية الثانية: (والذين آمنوا وعملوا الصّالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا)(1).

أي أنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنّات تجري من تحت أشجارها الانهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافاً إلى ما يعطون من أزواج مطهّرات يسيريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبداً.