ومع أنّ هذه الآية قد جاءت بصيغة الإِستفهام، إلاّ أِنّها تهدف إِلى كسب الإِعتراف من السامع بالحقيقة التي أوضحتها.

لقد بيّنت الآية ـ موضوع البحث ـ أُموراً ثلاثة تكون مقياساً للتفاضل بين الشرائع وبياناً لخيرها:

1 ـ الإِستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير، حيث تقول الآية: (أسلم

[468]

وجهه لله)(1).

2 ـ فعل الخير، كما تقول الآية: (وهو محسن) والمقصود بفعل الخير ـ هنا ـ كل خير يفعله الإِنسان بقلبه أو لسانه أو عمله، وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره صاحب تفسير الثقلين في تفسيره للآية ـ هذه ـ وهو جواب لمن سأل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)تحديد معنى الإِحسان، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أن تعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنّه يراك».

فالإِحسان في هذه الآية هو كل عمل ينجزه الإِنسان ويقصد به التعبد لله والتقرب إِليه، وأن يكون الإِنسان لدى إنجازه لهذا العمل قد جعل الله نصب عينيه، وكأنّه يراه، فإِن كان هو يعجز عن رؤية الله فإِن الله يراه ويشهد على أعماله.

3 ـ إِتّباع شريعة إِبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: (واتبع ملّة إِبراهيم حنيفاً)(2).

ودليل الإِعتماد على شريعة إِبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها: إِذ تقول: (واتّخذ الله إِبراهيم خليلا).

ما هو معنى الخليل؟

إِنّ كلمة «خليل» قد تكون مشتقة من المصدر «خلّة» على وزن «حجّة» الذي يعني الصداقة، وقد يكون اشتقاقها من المصدر «خلة» على وزن «ضربة» بمعنى الحاجة.


1 ـ الوجه في اللغة هو مقدمة الرأس، أو ذلك الجزء من البدن الذي يشمل الجبهة والعينين والأنف والفم والجبين، ولما كان الوجه بمثابة مرآة لروح الإِنسان وقلبه، وفيه الحواس التي تربط باطن الإِنسان بالعالم الخارجي، لذلك جاء في الآية التعبير عنه بذات الإِنسان ونفسه.

2 ـ إنّ عبارة «ملّة» الواردة في الآية أعلاه تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أن الأُولى لا تنسب إِلى الله، أي لا يقال «ملّة الله» ويمكن أن تضاف إِلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إِلى لفظ الجلالة فيقال: «دين الله» أو «شريعة الله» كما يمكن إضافتهما إِلى النّبي أيضاً، وعبارة «حنيف» تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

[469]

وقد اختلف المفسّرون في أي المعنيين أقرب إِلى مفهوم الآية موضوع البحث.

فرأى البعض منهم أنّ المعنى الثّاني أقرب لحقيقة هذه الآية، لأنّ إِبراهيم(عليه السلام)كان يؤمن بأنّه محتاج إِلى الله في كل شؤونه بدون استثناء، ولكن مفسّرين آخرين يرون أنّه ما دامت الآية تتحدث عن منزلة وهبها الله لنبيه إِبراهيم فالمقصود بكلمة «الخليل» الواردة هو «الصديق» لأننا لو قلنا أنّ الله قد انتخب إِبراهيم صديقاً له، يكون أقرب كثيراً إِلى الذهن من قولنا أن الله انتخب إِبراهيم ليكون محتاجاً إِليه. لأنّ الحاجة إِلى الله لا تقتصر على إِبراهيم وحده، بل يشاركه ويساويه فيها جميع المخلوقات، فالكل محتاجون إِلى الله دون استثناء، وكان تقول الآية (15) من سورة فاطر: (يا أيّها الناس أنتم الفقراء إِلى الله) وهذا على عكس الصداقة والخلّة مع الله التي لا يتساوى فيها كل المخلوقات.

وفي رواية عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «أنّه (الله) إِنّما اتّخذ إِبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إِلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إِلى خلته» وتدل هذه الرواية(1)أيضاً بأن عبارة «خليل» الواردة في الآية المذكورة إِنّما تعني الصديق ولا تعني غيره.

وعلى هذا الأساس لنرى ما الذي امتاز به إِبراهيم لينال هذه المنزلة العظيمة من الله، لقد ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال عللا مختلفة تكون بمجملها دليلا لهذا الإِنتخاب، ومن هذه الروايات قول الإِمام الصّادق(عليه السلام) «إِنّما اتّخذ الله إِبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحداً ولم يسأل أحداً غير الله»(2).

وتفيد روايات أُخرى أن إِبراهيم قد حاز هذه الدرجة لكثرة سجوده لله، وإِطعامه للجياع وإِقامة صلاة الليل، أو لسعيه في طريق مرضاة الله وطاعته.


1 ـ مجمع البيان في هامش الآية الشريفة.

2 ـ عيون أخبار الرضا، وتفسير الصافي في هامش الآية المذكورة وفي تفسير البرهان الجزء الأوّل، ص 417.

[470]

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإِحاطته بجميع الأشياء، حيث تقول: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً)وهذه إِشارة إِلى أنّ الله حين انتخب إِبراهيم خليلا له، ليس من أجل الحاجة إِلى إِبراهيم فالله منزّه عن الإِحتياج لأحد، بل أن هذا الإِختيار قد تمّ لما لإِبراهيم من صفات وخصال وسجايا طيبة بارزة لم توجد في غيره.

* * *

[471]

الآية

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـبِ فِى يَتَـمَى النِّسَآءِ الَّـتىِ لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَنِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـمَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً(127)

التّفسير

عود على حقوق المرأة:

تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن له أنّ الله هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إِليك يا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حول الأحكام الخاصّة بحقوق النساء، فتقول: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ...).

وتضيف الآية إِنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهنّ، ولم تكونوا لتتزوجوا بهنّ، ولم تدفعوا أموالهنّ إِليهنّ لكي يتزوجن من آخرين، فإِنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة، (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى

[472]

النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ وترغبون أن تنكحوهنّ ...)(1).

ثمّ توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإِرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول: (والمستضعفين من الولدان).

كما تعود الآية فتكرر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكر أن الله يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط ...).

وفي الختام تجلب الآية الإِنتباه إِلى أن أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إِذا كان في حق اليتامى والمستضعفين ـ فإِنّه لا يخفى على الله ـ وإِنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: (وما تفعلوا من خير فإِنّ الله كان به عليماً).

هذا ويجب الإِلتفات إِلى أنّ عبارة (يستفتونك) مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإِجابة على كل سؤال معضل، ولما كانت هذه الكلمة تعود في الأصل إِلى كلمة «فتى» أي الشاب اليافع، فمن الممكن أن الفتوى كانت تستخدم للتعبير عن الإِجابة على الأسئلة المستحدثة، وبعد ذلك أصبحت تطلق بصورة شاملة على كل أنواع الأجوبة الخاصّة بالمسائل المنتخبة.

* * *


1 ـ بناء على التّفسير الذي أوردناه بشأن الآية أعلاه يتبيّن لنا أنّ عبارة «ما يتلى» مبتدأ وخبرها جملة «يفتيكم فيهنّ» التي حذفت للقرينة الموجودة في القسم السابق من الآية. كما أنّ عبارة «ترغبون» هنا تعني عدم الميل والرغبة، حيث تشير القرائن إِلى تقدير «عن» بعد عبارة «ترغبون» في هذه الآية والفرق بين «رغب عنه» و«رغب فيه» واضح.

[473]

الآية

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الاَْنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(128)

سبب النّزول

لقد ورد في الكثير من كتب التّفسير والحديث، في سبب نزول هذه الآية، أنّه كان في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شخص يدعى «رافع بن خديج» وكانت له زوجتان، إِحداهما كبيرة السن عجوز، والأُخرى شابة، فطلق «رافع» زوجته العجوز (اثر خلافات بينهما) لكنه ـ قبل أي تنتهي عدّتها ـ عرض عليها الصلح مشترطاً عليها أن لا تضجر إِذا قدم عليها زوجته الشابة، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم الفصل والفراق بينهما، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الإِقتراح الأوّل، فاصطلحا، فنزلت هذه الآية الكريمة مبيّنة حكم هذا العمل.

[474]

التّفسير

الصّلح خير:

لقد قلنا سابقاً ـ في هامش الآيتين (34 و35) من نفس سورة النساء ـ إِنّ كلمة «نشوز» مشتقة من المصدر «نشز» بمعنى «الأرض المرتفعة» وحين تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك «التكبر» و«الطغيان».

وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إِشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إِذا أحست من زوجها التكبر والإِعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: (وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً).

ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعاً وعن طيب خاطر ومن غير إِكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة «فلا جناح» أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.

وعند النظر إِلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:

الأُولى: إِنّ حكماً مثل تقسيم أيّام الأُسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإِمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إِذا شاءت أو بصورة جزيئة.

والمسألة الثّانية: إِنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: (والصلح خير) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبيّن قانوناً كلياً عاماً شاملا، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإِنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إِلاّ في

[475]

الحالات الإِستثنائية الطارئة.

وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.

وقد كان هذا النوع من التفكير سبباً في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإِنسان لا يقاس بالحيوانات الأُخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإِحساس، وإِنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإِن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل(1).

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إِلى أنّ الإِنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إِنسان يسعى إِلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: (وأحضرت الأنفس الشح).

ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإِصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إِلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إِلى إِنهاء الكثير من الصراعات الإِجتماعية.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إِليهم في نهايتها ودعوا إِلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إِلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الإِنحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: (وإِن تحسنوا وتتقوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).

* * *


1 ـ من أجل معرفة تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع راجع الجزء الثّاني من هذا التّفسير في فصل «الصراع من أجل البقاء».

[476]

الآيتان

وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلِّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَسِعاً حَكِيماً(130)

التّفسير

العدالة شرط في تعدد الزّوجات:

نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة ـ التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إِلى فعل الخير والتزام التقوى ـ إنّها تعتبر نوعاً من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم.

وقد يرد إعتراض وهو: إِنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إِذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

ورداً على الإِعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحبّ بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإِنسان من سعي في هذا المجال فتقول الآية: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو

[477]

حرصتم)ويتبيّن من عبارة (ولو حرصتم) هذه وجود أشخاص بين المسلمين كانوا يسعون كثيراً لتحقيق تلك العدالة المطلوبة، ولعل سعيهم ذلك كان من أجل الحكم المطلق الذي طالب المسلمين باتّباع العدل من زوجاتهم والذي ورد في الآية الثّالثة من سورة النساء، التي تقول: (... وإِن خفتم ألا تعدلوا فواحدة).

بديهي أنّ أي حكم سماوي لا يمكن أن ينزل على خلاف فطرة البشر، كما لا يمكن أن يكون تكليفاً بما لا يطاق، ولمّا كانت العلاقات القلبية تنتج عن عوامل يكون بعضها خارجاً عن إِرادة الإِنسان، لم يحكم الله بتحقيق العدالة في مجال الحبّ القلبي بين الزوجات، أمّا فيما يخص الأعمال وأسلوب التعامل ورعاية الحقوق بين الأزواج ممّا يمكن للإِنسان تحقيقه، فقد تمّ التأكيد على تحقيق العدالة فيه.

ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإِحدى الزوجات إِذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبّهم لهنّ جميعاً، كي لا يضيع حق الأُخريات ولا يحرن في أمرهنّ ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ...).

وتحذر الآية في آخرها اُولئك الذين يجحفون في حقّ زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإِصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم الله برحمته وعفوه، فتقول الآية: (وأن تصلحوا وتتقوا فإِن الله كان غفوراً رحيماً ...).

لقد وردت روايات اشتملت على مواضيع تخص مسألة تحقيق العدالة بين الزّوجات، وتبيّن عظمة هذا الحكم والقانون الإِسلامي.

من هذا الروايات ما روي عن علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الاُخرى»(1).


1 ـ تفسير التبيان، الجزء الثّالث، ص 350.

[478]

وروي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن أبائه(عليهم السلام) «أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف به بينهن».(1)

وكان معاذ بن جبل له إمرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاُخرى؟(2) أي أيّهما يقدم أوّلا في الدفن لكي يتجنب ما من شأنه أن يخدش العدل المفروض اتباعه بين الزوجات.

جواب على سؤال ضروري:

كنّا قد نوهّنا ـ في هامش الآية (3) من نفس هذه السورة ـ بأنّ بعضاً ممن ليس لهم علم استنتجوا ـ من ضم تلك الآية إِلى هذه الآية ـ أن تعدد الزوجات مشروط بتحقيق العدالة بينهنّ، وأنّه لمّا كان تحقيق العدالة أمراً غير ممكن، فلذلك قالوا بأنّ الإِسلام قد منع تعدد الزوجات.

ويفهم من الروايات الإِسلامية أنّ أوّل من طرح هذا الرأي هو «ابن أبي العوجاء» وكان من أصحاب المذهب المادي، ومن المعاصرين للإِمام الصّادق(عليه السلام)، وجاء طرحه لرأيه هذا في نقاش له مع المفكر الإِسلامي المجاهد «هشام بن الحكم» فلما أعيى «هشاماً» الجواب توجه من بلدته الكوفة إِلى المدينة المنورة «لمعرفة الجواب» فقدم على الإِمام الصّادق(عليه السلام) فتعجب الإِمام من مقدمه قبل حلول موسم الحج أم العمرة، ولكن هشاماً أخبر الإِمام بسؤال ابن أبي العوجاء، فكان جواب الإِمام الصّادق(عليه السلام) على السؤال هو أنّ المقصود بالعدالة الواردة في الآية الثّالثة من سورة النساء، هي العدالة في النفقة (وضرورة رعاية الحقوق الزوجية وأُسلوب التعامل مع الزوجة) أمّا العدالة الواردة في الآية (29)1 من نفس السورة (والتي اعتبر تحقيقها أمراً مستحيلا) فالمقصود بها العدالة في


1 ـ المصدر السابق.

2 ـ المصدر السابق.

[479]

الميول القلبية، (وعلى هذا الأساس فإِن تعدد الزوجات ليس ممنوعاً ولا مستحيلا إِذا روعيت فيه الشروط الإِسلامية)، فلما رجع هشام بالجواب إِلى ابن ابي العوجاء حلف هذا الاخير أن هذا الجواب ليس من عندك.

ومعلوم أنّ تفسيرنا لكلمتي العدالة ـ الواردتين في الآية الثّالثة والآية (129) من سورة النساء ـ بمعنين يختلف أحدهما عن الآخر، إِنّما هو للقرينة الواضحة الواردة مع كل من الآيتين المذكورتين، لأنّ الآية الأخيرة تأمر الإِنسان أن لا يميل ميلا شديداً لإِحدى زوجاته ويترك الأُخريات في الحيرة من شأنهنّ، ولهذا فهي تدل على جواز تعدد الزوجات مع اشتراط أن لا يحصل إجحاف بحق إِحداهنّ لحساب الأُخرى، مع الإِذعان باستحالة تحقق المساواة في الحب القلبي لكلا الزوجتين، أمّا في الآية الثّالثة من سورة النساء فقد ورد التصريح في أوّلها بجواز تعدد الزوجات.

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين ـ الزوج والزوجة ـ واستحال الإِصلاح بينهما، فإِنّهما ـ والحالة هذه ـ غير مرغمين على الإِستمرار في مثل هذه الحياة المُرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإِن الله العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: (وإِن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً).

* * *

[480]

الآيات

وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً(131) وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِأَخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً(133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً(134)

التّفسير

لقد أوضحت الآية السابقة أن إِذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن يجدا حلا بديلا عن الإِنفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل، لأن الله سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجتهما برحمته وبركته.

أمّا في الآية ـ موضوع البحث ـ فإِنّ الله يؤكّد قدرته على إِزالة ورفع تلك الإِحتياجات، لأنّه مالك ما في السموات وما في الأرض (ولله ما في السموات وما في الأرض) وإِنّ من يملك ملكاً لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاذ

[481]

لها أبداً، لن يكون عاجزاً ـ مطلقاً ـ عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكّد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير الآية إِلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعاً كما طلب منكم مراعاة التقوى (ولقد وصينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإِيّاكم أَنِ اتَّقوا الله ...).

بعد ذلك تتوجه الآية إِلى مخاطبة المسلمين، فتؤكد لهم أن الإِلتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس لله بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنّهم إِذا عصوا وبغوا، فإِنّ ذلك لا يضرّ الله أبداً، لأنّ اللّه هو مالك ما في السّموات وما في الارض، فهو غير محتاج إلى أحد أبداً، ومن حقّه أن يشكره عباده دائماً وأبداً، (وإن تكفروا فإِن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيّاً حميداً).

الغنى وعدم الحاجة هما من صفات الله سبحانه وتعالى ـ حقيقة ـ لأنّه عزَّ وجلّ غني بالذات، وارتفاع حاجات غيره وزوالها إِنّما يتمّ بعونه ومدده، وكل المخلوقات محتاجة إِليه احتياجاً ذاتياً، لذلك فهو يستحق ـ لذاته ـ أن يشكره عباده ومخلوقاته، كما أنّ كمالاته التي تجعله أهلا للشكر ليست خارجة عن ذاته، بل هي كلّها في ذاته، وهو ليس كالمخلوقات التي تمتلك صفاتاً كمالية عرضية خارجية مكتسبة من الغير.

وفي الآية التالية جرى التأكيد ـ وللمرة الثّالثة ـ على أنّ كل ما في السموات وما في الأرض هو ملك لله، وإِنّ الله هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا).

وقد يرد سؤال ـ هنا ـ عن سبب تكرار موضوع واحد لثلاث مرات وفي فواصل متقاربة جدّاً، وهل أن هذا التكرار من أجل التأكيد على الأمر الوارد في هذا الموضوع، أم هناك سرّ آخر؟

وبالإِمعان في مضمون الآيات يظهر لنا أن الموضوع المتكرر ينطوي في كل

[482]

مرّة على أمر خاص:

ففي المرّة الأُولى حيث تحمل الآية وعداً لزوجين بأنّهما إِذا انفصلا فإِن الله سيغنيهما ولأجل إِثبات قدرة الله على ذلك، يذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض.

أمّا في المرّة الثّانية فإِنّ الآية توصي بالتقوى، ولكي لا يحصل وهم بأن إطاعة هذا الأمر ينطوي على نفع أو فائدة لله، أو أن مخالفته ينطوي على الضرر له، فقد تكررت الجملة للتأكيد على عدم حاجة الله لشيء، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض.

وهذا الكلام يشبه في الحقيقة ما قاله أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في مستهل خطبة الهمّام الواردة في كتاب نهج البلاغة حيث قال(عليه السلام): «بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم آمناً عن معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه»(1).

ويذكر الله ملكيته لما في السموات وما في الأرض للمرّة الثّالثة كمقدمة للموضوع الذي يلي في الآية (133)، ثمّ يبيّن ـ عز من قائل ـ أنّه لا يأبه في أن يزيل قوماً عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعداداً وعزماً وأكثر دأباً في طاعة الله وعبادته، والله قادر على هذا الأمر (إن يشأيذهبكم أيّها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً).

وفي تفسير «التبيان» وتفسير «مجمع البيان» نقلا عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حين نزلت هذه الآية ربت على كتف سلمان الفارسي وقال بأن المعنى بالآخرين في الآية هم قوم من العجم من بلاد فارس.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تنبؤ بالخدمات الكبيرة التي قدمها المسلمون الإِيرانيون إِلى الإِسلام.


1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 193.

[483]

والآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية، ورد الحديث فيها عن أُناس يزعمون أنّهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإِسلام، دون أن يكون لهم هدف إِلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إِلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأنّ الله عنده ثواب الدنيا والآخرة معاً (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة).

فلماذا لا يطلب ـ ولا يرجوا ـ هؤلاء، الثوابين معاً؟! والله يعلم بنوايا الجميع، ويسمع كل صوت، ويرى كل مشهد، ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم، (وكان الله سميعاً يصيراً).

وتكرر هذه الآية الأخيرة حقيقة أنّ الإِسلام لا ينظر فقط إِلى الجوانب المعنوية والأُخروية، بل أن ينشد لأتباعه السعادتين المادية والمعنوية معاً.

* * *

[484]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِالْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَتَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)

التّفسير

العدالة الإِجتماعية:

على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإِقامة العدالة (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ...).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة «قوامين» هي جمع لكلمة «قوّام» وهي صيغة مبالغة من «قائم» وتعني «كثير القيام» أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءاً من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الإِنحراف عن العدل مخالفاً ومناقضاً لطبعهم وروحهم.

[485]

والإِتيان بكلمة «القيام» في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإِنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإِن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإِرادة الرّاسخة والإِجراء لإِنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إِلى القيام لدى ممارسة عمله.

ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة «القائم» تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إِلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإِن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إِلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين  والأقربين ...).

وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون.

وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إِلى المدينة يتجنبون الإِدلاء بالشهادة لإِعتبارات القرابة والنسب، إِذا كانت الشهادة تؤدي إِلى الاضرار بمصالح اقربائهم، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(1).

ولكن ـ وكما تشير الآية الكريمة ـ فإِنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإِيمان،


1 ـ تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 455.

[486]

لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماماً للإِعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل.

وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإِدلاء بالشهادة لصالح ـ أو ضد ـ بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إِلاّ إِذا كانت القرائن تشير إِلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع).

وتشير الآية بعد ذلك عوامل الإِنحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإِدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإِنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الإِمتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما).

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إِذ تقول الآية: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)(1).

ويتّضح من هذه الجملة ـ بجلاء ـ أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أُخرى، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد ـ فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب


1 ـ يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقاً إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل، وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا: فلا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتبعوا الهوى في سبيل الإِنحراف عن الحق.

[487]

الحق عن حقّه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: (وإن تلووا(1) أو تعرضوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).

وجملة (أن تلووا) تشير ـ في الواقع ـ إِلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة «تعرضوا» إِلى الإِمتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإِمام الباقر(عليه السلام)(2).