وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصّة.

وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنّ جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر بالنوع المؤقت من الزّواج، أو يشمل النوعين: الدائم والمؤقت؟

لا يرى علماء السنّة فرقاً بين نوعي الزواج في هذا المجال، ويعتقدون بأنّ الآية عامّة، بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أنّ الآية مقتصرة على الزواج المؤقت، وتؤيّد روايات وردت عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هذا الرأي أيضاً.

والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.

وأوّل هذه القرائن هو قوله تعالى: (إِذا آتيتموهنّ أُجورهنّ) ولو أن لفظة «الأجر» تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت، إِلاّ أنّها غالباً ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت، أي أنّها تناسب هذا الأخير أكثر.


1 ـ لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (25) من سورة النساء، أنّ كلمة «أخدان» جمع «خدن» وهي تعني في الأصل الصديق، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.

[608]

أمّا القرينة الثّانية فهي قوله تعالى: (غير مسافحين ولا متخذي أخدان ...)فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت، لأنّ الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو الصداقة السرية لكي ينهى عنه، بينما يشتبه بعض السذج من الناس ـ أحياناً ـ في الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع المرأة.

أضف إِلى ذلك كلّه ورد هذه التعابير في الآية (25) من سورة النساء، وكما نعلم فإِنّ تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.

مع ذلك كلّه فإِنّ هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات بصورة مطلقة، ولا يرون القرائن المذكورة المذكورة كافية لتخصيص الآية، كما يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات «للإِطلاع على تفاصيل أكثر في المجال يجدر الرجوع إِلى كتب الفقه».

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة، ومن ذلك إنتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد تمادى إِنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي، ففي حين كان الإِنسان الجاهلي ينتخب الأَخلاء سرّاً وفي الخفاء، أصبح إِنسان اليوم لا يرى بأساً من إِعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعاً صريحاً ومفضوحاً من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إِلى الشرق وأصبحت مصدراً للكثير من النكبات والكوارث.

ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل الكتاب كما أجازت إِطعامهم وفق الشروط التي ذكرت، بينما في قضية الزواج أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج بالرجال من أهل الكتاب.

[609]

وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إِلى الشرح والتفصيل، لأنّ النساء بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لإِكتساب أفكار أزواجهنّ، من الرجال.

ولكي تسد الآية طريق إِساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون الإِنحراف إِلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم، حذرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت: (ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).

وهذه إِشارة إِلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإِضافة إِلى كونها تؤدي إِلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون ـ أيضاً ـ سبباً لتغلغل الإِسلام إِلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إِلى نيل العقاب الإِلهي الصارم الشديد.

وهناك احتمال آخر في تفسر هذا الجزء من الآية نظراً لبعض الروايات الواردة وسبب النّزول المذكور، وهو أن نفراً من المسلمين اعلنوا ـ بعد نزول هذه الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات ـ استياءهم من تطبيق هذه الأحكام، فحذرتهم الآية من الإِعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه الحكم، وأنذرتهم بأنّ أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.

* * *

[610]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْجَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْلَـمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَّيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَج وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)

التّفسير

تطهير الجسم والرّوح:

لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الرّوح و النفس الإِنسانية، فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم، التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإِنسانية ـ فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا

[611]

قمتم(1) إِلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إِلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلى الكعبين).

لم توضّح الآية مناطق الوجه التي يجب غسلها في الوضوء، لكن الروايات التي وردت عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) قد بيّنت بصورة مفصلة طريقة الوضوء التي كانت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل بها.

1 ـ إِنّ حدود الوجه طولا من منابت الشعر على الجبهة حتى منتهى الذقن، وعرضاً ما يقع من الوجه بين الأصبع الوسطى والإِبهام ـ وهذا هو ما يسمّى ويفهم من الوجه عرفاً، لأنّ الوجه هو ذلك الجزء من الجسم الذي يواجه الإِنسان لدى التلاقي مع نظيره.

2 ـ لقد ذكرت الآية حدود ما يجب غسله من اليدين في الوضوء، فأشارت إِلى أنّ الغسل يكون حتى المرفقين ـ وقد جاء التصريح بالمرفقين في الآية لكي لا يتوهم بأنّ الغسل المطلوب هو للرسغين كما هو العادة في غسل الأيدي.

ويتبيّن من هذا التوضيح أنّ كلمة «إِلى» الواردة في الآية هي لمجرّد بيان حد الغسل وليست ليبان اُسلوبه كما التبس على البعض، حيث ظنوا أنّ المقصود في الآية هو غسل اليدين ابتداء من أطراف الأصابع حتى المرفقين (وراج هذا الأُسلوب لدى جماعات من أهل السنة).

ولتوضيح هذا الأمر نقول: أنّه حين يطلب إِنسان من صباغ أن يصبغ جدار غرفة من حد ارضيتها لغاية متر واحد، فالمفهوم من ذلك أنّه لا يطلب أن يبدأ


1 ـ وردت روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) تؤكّد أنّ المراد بجملة «قمتم» هو القيام من النوم، حيث لدى الإِمعان في محتويات الآية يتأكد لنا هذا الأمر أيضاً، لأن الجمل التالية التي تبين فيها الآية حكم التيمم قد وردت فيها عبارة (أو جاء أحد منكم من الغائط)، فلو كانت الآية تبيّن في بدايتها حكم جميع من ليسوا على وضوء، فإن عطف الجملة الأخيرة ـ وبالأخص ـ بحرف «أو» لا يتلاءم وظاهر هذه الآية، لأنّ المقصود فيها يدخل ضمن عنوان من هو ليس على وضوء أيضاً. أمّا إذا كان الآية في بدايتها تتكلم بصورة خاصة عن الذين يقومون من النوم، أى أنها تبيّن فقط ما أصطلح عليه بـ«حدث النوم» فإن الجملة المذكورة تصبح مفهومة بشكل تام.

[612]

الصباغ عمله من تحت إِلى فوق، بل إنّ ذكر هذه الحدود هو فقط لبيان المساحة المراد صبغها لا أكثر ولا أقل، وعلى هذا الأساس فإِن الآية أرادت من ذكر حدود اليد بيان المقدار الذي يجب غسله منها لا أُسلوب وكيفية الغسل.

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أُسلوب الغسل وفق سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ المرفق ـ أيضاً ـ يجب غسله اثناء الوضوء، لأن الغاية في مثل هذه الحالات تدخل ضمن المغيّي، أي أن الحدّ يدخل في حكم المحدود(1).

3 ـ إِنّ حرف (بــ) الوارد مع عبارة «برؤوسكم» في الآية يعني التبعيض، كما صرّحت به بعض الروايات وأيده البعض من علماء اللغة، والمراد بذلك بعض من الرأس، أي مسح بعض من الرأس حيث أكدت روايات الشيعة أنّ هذا البعض هو ربع الرأس من مقدمته، فيجب مسح جزء من هذا الربع حتى لو كان قليلا باليد، بينما الرائج بين البعض من طوائف السنّة في مسح كل الرأس وحتى الأذنين لا يتلاءم مع ما يفهم من هذه الآية الكريمة.

4 ـ إِنّ اقتران عبارة «ارجلكم» بعبارة «رؤوسكم» دليل على أنّ الأرجل يجب أن تمسح هي ـ أيضاً ـ لا أن تغسل، وما فتح اللام في «ارجلكم» إِلاّ لأنّها معطوفة محلا على «رؤوسكم» وليست معطوفة على «وجوهكم»(2).

5 ـ تعني كلمة «كعب» في اللغة النتوء الظاهر خلف الرجل، كما تعني ـ أيضاً ـ


1 ـ لقد ذكر «سيبويه» الذي هو من مشاهير علماء اللغة العربية أنّه متى ما كان الشيء الوارد بعد (إلى) والشيء الوارد قبلها من جنس واحد، ويدخل هذا (المابعد) في الحكم ـ أمّا لو كانا من جنسين مختلفين فيعتبر خارجاً عن الحكم ـ فلو قيل: أمسك إِلى آخر ساعة من النهار، يكون المفهوم من هذه الجملة أن الإِمساك يشمل الساعة الأخيرة أيضاً، بينما لو قيل: أمسك إِلى أول الليل فإن أوّل الليل لا يدخل ضمن حكم الإِمساك (المنار، ج 6، ص 223).

2 ـ ليس هناك من شك بأنّ عبارة «وجوهكم» تفصلها مسافة كبيرة نسبياً عن عبارة «أرجلكم» لذلك يستبعد أن تكون الأخيرة معطوفة على «وجوهكم»، إضافة إِلى ذلك فإنّ الكثير من القراء قد قرأوا عبارة «أرجلكم» بكسر اللام.

[613]

المفصل الذي يربط مشط الرجل بالساق(1).

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: (وإِن كنتم جنباً فاطهروا ...) والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم، لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء، وعلى هذا الأساس فإِنّ العبارة المذكورة تعني جميع الجسم ـ وقد جاء حكم مشابه لهذا الحكم في الآية (43) من سورة النساء حيث تقول: (حتى تغتسلوا).

إِنّ كلمة «جُنباً» ـ وكما أوضحنا سابقاً في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا، لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء ـ مصدر، وقد وردت بمعنى اسم الفاعل، وتعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» لأنّ الجذر الأصلي هو «جنابة» بمعنى «بُعد»، وسبب إِطلاق هذا اللفظ على الإِنسان المجنب لأن هذا الإِنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

وتطلق هذه الكلمة «جنب» على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وإِطلاق «جار الجنب» على البعيد هو لنفس المناسبة.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إِلى الإِغتسال قبل الصّلاة على أن غسل الجنابة يجزيء، وينوب عن الوضوء أيضاً.

* * *

ومن ثمّ بادرت الآية إِلى بيان حكم التيمم حيث قالت: (وإِن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء


1 ـ لقد ذكر القاموس ثلاثة معان للكعب وهي: النتوء الظاهر خلف الرجل، والمفصل، والنتوئين البارزين على جانبي الرجل ـ وقد بيّنت السنّة الشريفة أن المراد في الآية ليس النتوءات المذكورات ولكن العلماء اختلفوا في هل أن المراد هو النتوء البارز خلف الرجل أو هو المفصل؟ ـ وعلى أي حال ـ فإن الإِحتياط يوجب أن يكون المسح حتى المفصل.

[614]

فتيمموا صعيداً طيباً....).

وهنا يجب الإِلتفات إِلى أن جملتي (أو جاء أحد منكم من الغائط) و(أو لامستم النساء) هما ـ كما أشرنا سابقاً ـ معطوفتان على بداية الآية، أي على جملة: (إِذ قمتم إِلى الصّلاة) فالآية أشارت في البداية حقيقة إِلى قضية النوم، وتطرقت في آخرها إِلى نوعين آخرين من موجبات الوضوء والغسل.

أمّا لو عطفنا الجملتين على جملة (على سفر) فسنواجه مشكلتين في هذه الآية وهما أوّلا: إِنّ عودة الإِنسان بعد التخلي لا يمكن أن تكون كحالة المرض أو السّفر فلا تناظر بين تلك وهاتين الحالتين، لذلك ترانا مضطرين إِلى أن نأخذ حرف «أو» الوارد في الآية بمعنى الواو العاطفة (وأكّد هذا الأمر جمع من المفسّرين) وهذا خلاف لظاهر الآية.

بالإِضافة إِلى ذلك فإِنّ ذكر التغوط بصورة خاصّة من بين كل موجبات الوضوء سيبقى بدون مبرر، لكننا لو فسّرنا الآية بالصورة التي قلناها سابقاً فلا يبقى بعد ذلك مبرر لهذين الإِعتراضين الأخيرين، (ومع أنّنا اعتبرنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء)، وجرياً على ما فعله الكثير من المفسّرين، اعتبرنا كلمة «أو» بمعنى الواو العاطفة، إِلاّ أنّ الذي ذكرناه مؤخراً ـ هنا ـ يعتبر أقرب إِلى القبول من ذلك.

أمّا الموضوع الآخر فهو تكرار موضوع الجنابة مرّتين في هذه الآية، ويحتمل أن يكون هدف هذا التكرار هو التأكيد على هذه القضية، أو قد تكون كلمة «جنباً» الواردة بمعنى الجنابة التي تحدث أثناء النوم أو بسبب الإِحتلام، بينما المراد من جملة (أو لامستم النساء) هو الجنابة الحاصلة نتيجة المقاربة الجنسية بين الرجل والمرأة، وإِذا فسّرنا كلمة «قمتم» الواردة في الآية بالقيام من النوم (كما ورد في روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وأيضاً اشتملت الآية على قرينة بهذا الخصوص) يكون تفسيرنا هذا تأييداً للمعنى الذي أوردناه بخصوص تكرار موضوع الجنابة.

[615]

لقد بيّنت الآية ـ بعد ذلك ـ اُسلوب التيمم بصورة إِجمالية فقالت: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ...) والواضح هنا هو أنّ المراد ليس حمل شيء من التراب ومسح الوجه واليدين به، بل أنّ المقصود هو ضرب الكفين على تراب طاهر ثمّ مسح الوجه واليدين بهما، لكن بعض الفقهاء استدلوا بعبارة «منه» الموجودة في الآية وقالوا بضرورة أن يلاصق الكفين شيء ولو قليل من التراب(1).

بقيت مسألة أخيرة في هذا المجال، وهي مسألة معنى كلمتي (صعيداً طيباً)فقد ذهب الكثير من علماء اللغة إِلى أنّ لكلمة «صعيد» معنيين هما التراب أوّلا، أو كل شيء يغطي سطح البسيطة أي الكرة الأرضية ثانياً، سواء كان تراباً أو صخراً أو حصى أو حجراً أو غير ذلك من الأشياء، وقد أدى هذا إِلى حصول اختلاف في آراء الفقهاء حول الشيء الذي يجوز التيمم به، هل هو التراب وحده أو أنّ الحجر والرمل وأمثالهما ـ أيضاً ـ يجوز التيمم بهما؟

وحين نرجع إِلى الأصل اللغوي لكلمة «صعيد» الذي يدل على «الصعود والإِرتفاع» فإِن المعنى الثّاني لهذه الكلمة يبدو أقرب إلى الذهن.

وتطلق كلمة «طيب» على الأشياء التي تلائم الطبع والذوق الإِنساني، وقد أطلق القرآن الكريم هذه الكلمة في موارد كثيرة مثل: «البلد الطيب» و«مساكن طيبة» و«ريح طيبة» و«حياة طيبة» وغيرها ... وكذلك فإِنّ كل شيء طاهر يعتبر طيباً، لأنّ طبع الإِنسان ينفر من الأشياء النجسة المدنّسة، ومن هذا نستدل على أنّ تراب التيمم يجب أن يكون تراباً طاهراً أيضاً.

وقد أكّدت الروايات الواردة إِلينا عن أئمّة الإِسلام(عليهم السلام) على هذا الموضوع


1 ـ لقد أوضحنا في تفسير الآية (43) من سورة النساء، بصورة مفصلة، أحكام التيمم وفلسفتها الإِسلامية وكيف أن التيمم لا يعتبر مغايراً للوقاية الصحيّة، بل فيه جانب وقائي صحي أيضاً، وكذلك حول معنى «غائط» وقضايا أُخرى فليراجع ... .

[616]

بصورة متكررة، ونقرأ واحدة من هذه الروايات وهي تقول: «نهى أمير المؤمنين أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق»(1).

والجدير بالنظر أنّ عبارة «التيمم» الواردة في القرآن والحديث بمعنى التكليف الشرعي الذي مضى الحديث عنه، جاءت في اللغة بمعنى «القصد» والقرآن الكريم يقرر أنّ الإِنسان لدى قصد التيمم عليه أن يختار قطعة طاهرة من الأرض من بين القطعات المختلفة للتيمم منها. قطعة ينطبق عليها مفهوم «الصعيد» معرضة للأمطار والشمس والرياح، وبديهي أن تكون قبل اتخاذهما للتيمم مثل هذه القطعة من الأرض التي لم تتعرض لوطء الأقدام، فيها الصفات التي تستوعبها كلمة «طيب» وعندئذ فإِن هذه القطعة من الأرض ـ بالإِضافة إِلى كونها لا تضرّ بالصحّة ـ تكون أيضاً ـ وكما أسلفنا لدى تفسيرنا للآية (43) من سورة النساء ـ ذات أثر أيضاً في قتل الجراثيم والميكروبات، كما يؤكّده العلماء من ذوي الإِختصاص في هذا المجال.

فلسفة الوضوء والتيمم:

لقد تناولنا فلسفة التيمم بالبحث بصورة وافية في الآية (43) من سورة النساء، أمّا بالنسبة لفلسفة الوضوء فالشيء الذي لا يختلف عليه إِثنان، هو أنّ للوضوء فائدتين واضحتين:

إِحداهما صحية والأُخرى أخلاقية معنوية، فغسل الوجه واليدين في اليوم خمس مرّات أو على الأقل ثلاث مرات، لا يخفى أثره في نظافة الإِنسان وصحته، أمّا الفائدة الأخلاقية المعنوية فهي في الأثر التربوي الذي يخلفه قصد التقّرب إِلى الله في نفس الإِنسان حين يعقد النيّة للوضوء بالأخصّ حين ندرك أنّ المفهوم النفسي للنية يعني أن حركة الإِنسان أثناء الوضوء والتي تبدأ من الرأس


1 ـ وسائل الشيعة، ج 2، ص 969.

[617]

وتنتهي بالقدمين ـ هي خطوات في طاعة الله.

ونقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) قوله: «إِنّما أُمر بالوضوء وبدىء به لأن يكون العبد طاهراً إِذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إِيّاه، مطيعاً له فيما أمره نقياً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار»(1).

وتتوضح فلسفة الوضوء أكثر في الحديث عن فلسفة الغسل، والذي سنتناوله فيما يلي:

فلسفة الغسل:

قد يسأل البعض لماذا أمر الإِسلام بغسل كامل الجسم لدى حصول «الجنابة» في حين أن عضواً معيناً واحداً يتلوث أو يتسخ في هذه الحالة؟

فهل هناك فرق بين البول الخارج من ذلك العضو، وبين «المني» الخارج منه أثناء الجنابة بحيث يجزي غسل العضو وحده في حالة التبول، بينما يجب غسل الجسم كله بعد خروج المني من العضو؟

لهذا السّؤال جوابان، مجمل ومفصل، وهما كما يلي: فالجواب المجمل يتلخص في أن خروج المني من الإِنسان لا ينحصر أثره في العضو الذي يخرج منه، أي أنّه ليس كالبول والفضلات الأخرى.

والدليل على هذا القول هو تأثر الجسم كله أثناء خروج المني من العضو بحيث تطرأ على خلايا الجسم كلها حالة من الإِسترخاء والخمول، وهذه الحالة هي الدليل على تأثير الجنابة على أجزاء الجسم كلها، وقد أظهرت بحوث العلماء المتخصصين ـ في هذا المجال ـ أن هناك سلسلتين عصبيتين نباتيتين في جسم الإِنسان، هما السلسلة السمبثاوية (الأعصاب المحركة) والسلسلة شبه


1 ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 257.

[618]

السمبثاوية (الاعصاب الكابحة) تمتدان في كافة أجزاء الجسم وأجهزته الداخلية، وتتولى السلسلة السمبثاوية تحفيرأ جهزة الجسم على العمل وتسريع عملها، بينما السلسلة شبه السمبثاوية تعمل عكس الأُولى، فتحدّ عمل أجهزة الجسم وتبطئها فالأُولى تلعب دور جهاز دفع البنزين في السيارة من أجل تحريكها والأُخرى يكون دورها دور الكابح فيها لإِيقافها عن الحركة، وبالتوازن الحاصل في عمل هاتين السلسلتين العصبيتين تعمل جمع أجهزة جسم الإِنسان بصورة متوازنة أيضاً.

وقد تحدث في جسم الإِنسان ـ أحياناً ـ فعاليات تعيق استمرار هذا التوازن فيطغى عمل أحد السلسلتين العصبيتين على عمل الجملة الأُخرى، ومن هذه الفعاليات وصول الإِنسان إِلى الذروة في اللذة الجنسية، أي ما يسمى بحالة «الأُوركازم» التي تقترن بخروج المني من عضو الإِنسان، وفي هذه الحالة يطغى عمل السلسلة العصبية شبه السمبثاوية الكابح على عمل السلسلة العصبية الأُخرى التي هي السمبثاوية الدافعة فيختل التوازن بصورة سلبية في جسم الإِنسان، وقد ثبت بالتجربة أن الشيء الذي يمكنه إِعادة التوازن بين عمل تلك السلسلتين العصبيتين، هو وصول الماء إِلى جسم الإِنسان، ولما كانت حالة «الأوركازم» التي يصل إِليها الإِنسان لدى «الجنابة» تؤثر بصورة محسوسة عل أجهزة جسم الإِنسان وتخل بتوازن السلسلتين العصبيتين المذكورتين، لذلك أمر الإِسلام بأن يباشر الإِنسان غسل كل جسمه بعد كل مقاربة جنسية، أو لدى خروج «المني» منه، حيث يعود بهذا الغسل التوازن بين عمل السلسلتين العصبيتين السمبثاوية وشبه السمبثاوية في كل أجزاء الجسم، فتعود لها حالتها الطبيعية في الحركة والحياة(1).


1 ـ ونقرأ في رواية عن الإِمام الثامن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قوله: «إنّ الجنابة خارجة من كل جسده فلذلك وجب عليه تطهير جسده كله» وفي هذه الرواية إشارة للبحث الذي تناولناه أعلاه ـ من وسائل الشيعة، ج 1، ص 466.

[619]

وبديهي أنّ فائدة الغسل لا تنحصر في الذي تحدثنا عنه قبل قليل، بل أنّ الغسل يعتبر أيضاً نوعاً من العبادة التي لها آثار أخلاقية لا تنكره، ولهذا السبب يبطل الغسل إن لم يكن مقترناً بنيّة الطاعة والتقرب إِلى الله سبحانه، لأنّ الحقيقة هي أنّ الجسم والروح كليهما يتأثران أثناء خروج «المني» من الإِنسان أو لدى حصول المقاربة الجنسية ـ فالروح تجر بذلك وراء الشهوات المادية ويدفع الجسم إِلى حالة الخمول والركود.

وغسل الجنابة يعتبر غسلا للجسم بما يشمله من عملية إِيصال الماء إِلى جميع أجزائه، ويعتبر غسلا للروح بما يحتويه من نية الطاعة والتقرب إِلى الله، أي أنّ لهذا الغسل أثرين مادي وروحي، يدفع الأثر المادي منه الجسم إِلى استعادة حالة النشاط والفعالية، ويدفع الأثر الروحي الإِنسان للتوجه إِلى الله وإِلى المعنويات.

أضف إِلى ذلك كلّه أنّ وجوب غسل الجنابة في الإِسلام هو أيضاً من أجل إِبقاء جسم الإِنسان المسلم طاهراً، كما هو رعاية للجانب الصحي في حياة الإِنسان، وقد يوجد الكثير من الناس ممن لا يعتنون بنظافة أجسامهم لكن هذا الأمر والواجب الإِسلامي يجبرهم على غسل أجسامهم بين فترة وأُخرى ولا يقتصر التهاون في غسل الجسم على إِنسان العهود القديمة، بل حتى في عصرنا الحاضر هناك الكثير ممن لا يعتنون بغسل أجسامهم، بل يتهاونون في هذا الأمر الحياتي المهم (وطبيعي أن حكم غسل الجنابة حكم عام، وقانون كلي يشمل حتى الشخص الذي غسل جسمه قبل حصول الجنابة بقليل).

إِنّ الجوانب الثلاثة المذكورة فيما سبق ـ توضح بمجموعها سبب وجوب الغسل لدى خروج المني من الإِنسان سواء كان في أثناء النوم أو اليقظة وكذلك

[620]

بعد المقاربة الجنسية (حتى لو لم تؤد إِلى خروج المني).

وقد أوضحت الآية ـ في آخرها ـ أنّ الأوامر الإِلهية ليس فيها ما يحرج الإِنسان أو يوجد العسر له، بل إِنها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس، فقالت الآية (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلّكم تشكرون).

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإِلهية والضوابط الإِسلامية هي في الحقيقة لمصلحة الناس ولحماية منافعهم، وليس فيها أي هدف آخر، وإِنّ الله يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية ـ موضوع البحث ـ أن يحقق للإِنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً.

ويجب هنا الإِنتباه إِلى أن جملة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم، إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الإِستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخونة أمّا ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه.

ولا يخفي ـ أيضاً ـ أنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.

* * *

[621]

الآية

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)

التّفسير

العهود الرّبانية:

تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإِسلامية بالإِضافة إِلى موضوع إِكمال النعمة الإِلهية على المسلمين، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات، فاستقطبت انتباه المسلمين إِلى أهمية وعظمة النعم الإِلهية التي أعظمها وأهمها نعمة الإِيمان والهداية والإِسلام، تقول الآية: (واذكروا نعمة الله عليكم ...) ومع أن كلمة «نعمة» جاءت بصيغة المفرد في هذه الآية، إلاّ أنّها وردت اسم جنس لتفيد العموم، حيث عنى بالنعمة جميع النعم، كما يحتمل أيضاً أن يكون المراد نعمة الإِسلام بصورة خاصّة، والتي أشارت إِليها الآية السابقة بصورة إِجمالية حيث قالت: (وليتمّ نعمته عليكم ...)فأي نعمة أعظم من أن ينال الإِنسان ـ في ظل الإِسلام ـ كل الهبات الإِلهية والمفاخر والإِمكانيات الدنيوية، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب، وكان الفساد والظلم يعم

[622]

مجتمعهم آنذاك، وقد تحولوا بفضل الإِسلام إِلى مجتمع يسوده الإِتحاد والتماسك والعلم، ويرفل بالنعم والإِمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إِلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين الله، فتقول (وميثاقه الذي واثقكم به إِذ قلتم سمعنا وأطعنا ...).

هناك احتمالان حول المعنى المراد بلفظة «العهد» الواردة في الآية وموضوعه.

الإِحتمال الأوّل: أن يكون هو ذلك العهد الذي عقده المسلمون في بداية ظهور الإِسلام في واقعة «الحديبية» أو واقعة «حجة الوداع» أو «العقبة» مع الله، أو بصورة عامّة هو العقد الذي عقده جميع المسلمين بصورة ضمنية مع الله بمجرّد قبولهم الإِسلام.

والإِحتمال الثّاني: هو أن يكون العهد المقصود في الآية الكريمة الأخيرة هو ذلك العهد المعقود بين كل فرد إِنساني ـ بحكم فطرته وخلقه ـ وبين الله، والذي يقال عنه بأنّه تم في «عالم الذر»(1).

وبيان ذلك هو أنّ الله حين خلق الإِنسان أودع فيه استعدادات ومواهب كثيرة، ومنها نعمة العلم التي بها يتتبع أسرار الخليقة، وتتحقق لديه معرفة الحق، وكذلك نِعم كالعقل والذكاء والإِدراك ليعرف الإِنسان بها أنبياء الله ويلتزم بأوامرهم، والله سبحانه حين أودع هذه النعم لدى الإِنسان أخذ منه عهداً بأنّ يستغلها خير استغلال، وأن لا يهملها أويسىء استعمالها، فردّ الإِنسان بلسان الحال والإِستعداد «سمعنا وأطعنا».

ويعتبر هذا العهد أوسع وأحكم وأعم عهد أخذه الله من عباده البشر، وهذا هو العهد الذي يشير إِليه الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطبته الأُولى الواردة في كتاب «نهج البلاغة» بقوله: «ليستأدوهم ميثاق فطرته» أى ليطلب منهم أداء


1 ـ سيرد شرح مفصل عن «عالم الذر» وسبب تسميته بهذا الإِسم في تفسير الآية (172) من سورة الأعراف، بإِذن الله.

[623]

الميثاق الفطري الذي أخذه منهم والوفاء به.

وبديهي أنّ يشمل هذ العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية.

ولا مانع مطلقاً من أن تكون في هذه الآية إِشارة إِلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها الله أو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة، وهنا يتوضح لنا الحديث القائل بأنّ المراد من الميثاق هو العهد الذي أخذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص ولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1) ويتفق هذا التّفسير مع ما ورد أعلاه.

وقد أكّدنا مراراً أنّ التفاسير التي ترد على الآيات القرآنية، ما هي إلاّ إِشارة لواحد من المصاديق الجلية المعنية في كل آية، ولا تعني مطلقاً انحصار المعنى بالتّفسير الوارد.

وتجدر الإِشارة ـ أيضاً ـ إِلى أنّ كلمة «ميثاق» مشتقّة من المصدر «وثاقة» أو «وثوق» وتعني الشدّ المحكم بالحبل وأمثاله، كما يطلق على كل عمل يؤدي إِلى راحة البال واطمئنان الخاطر، حيث أنّ العهد يكون بمثابة عقدة تربط شخصين أو جماعتين أحدهما بالآخر، ولذلك سمّى «ميثاقاً».

وفي النهاية تؤكّد الآية على ضرورة التزام التقوى، محذرة أنّ الله محيط بأسرار البشر، وعالم بما يختلج في صدورهم، بقولها: (واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور).

وتدل عبارة (ذات الصدور) على أنّ الله عالم بأدقّ أسرار البشر المكنونة في أعماق نفوسهم والتي لا يمكن لأيّ مخلوق معرفتها غير صاحب السرّ وخالقه، أي الله العالم بذات الصدور.

وقد شرحنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا سبب نسبة العواطف والمشاعر والنويا والعزائم إِلى القلب أو إِلى مكنونات الصدور.

* * *


1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 454.

[624]

الآيات

يَـأيَّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّمِينَ للهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُم شَنَأَنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِأَيَـتِنَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَحِيم(10)

التّفسير

دعوة مؤكّدة إِلى العدالة:

إِنّ الآية الأُولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إِلى تحقيق العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف.

فتخاطب هذه الآية أوّلا المؤمنين قائلة: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط).

ثمّ تشير إِلى أحد أسباب الإِنحراف عن العدلة، وتحذّر المسلمين من هذا الإِنحراف مؤكّدة أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سبباً للإِعتداء على حقوق

[625]

الآخرين، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شيء، فتقول الآية الكريمة: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ...) وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول (أعدلوا هو أقرب للتقوى).

وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة: (واتقوا الله إِنّ الله خبير بما تعملون).

والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء، يتحدد من عدّة جهات:

أوّلا: إِنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إِلى إِقامة العدل والشهادة لله، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إِلى القيام لله والشهادة بالحق والعدل، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة لله، لا لأقارب وذوي الشاهد، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.