وقد خلقت هذه القضية ـ التي لها حدان متناقضان ـ مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين.

فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها «مجازية» وقبول

[550]

مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس، لأمكن تبرير هذا الأمر، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.

وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين، والتي توزع للناس الجهلاء، من أن التثليث شيء مجازي، إِنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقاً مع المصادر الأساسية للمسيحية، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.

ويواجه المسيحيون ـ هنا ـ قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن 1 = 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الإِبتدائية. ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل، وطلبوا الإِذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية.

وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل، وسبباً لجر الدين إِلى متاهات خطيرة، الأمر الذي اضطرهم إِلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل، أو ليس فيه الطابع العقلاني، وأنّه ذو طابع تعبدي محض.

وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان!

ويجب الإِلتفات ـ هنا ـ إِلى عدّة نقاط حول هذا الإِعتقاد المسيحي:

1 ـ لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إِلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: «إِنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة، (القاموس المقدس، ص 345، طبعة بيروت).

[551]

وذكر المؤرخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر.

ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين وارداً من عقيدة الثالوث الهندي، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة(1).

2 ـ إِنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمراً غير معقول أبداً، ويرفضها العقل بالبداهة، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائماً ـ ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض ـ لأننا لو أزحنا العقل جانباً عند قبول مبادىء الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.

وفي هذه الحالة، أي دليل يوجب على الإِنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إِلى التبشير لدينهم لا للأديان الأُخرى؟

ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها إنفصال الدين عن العقل.

وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال: إِن الدين لا يمتلك طابعاً عقلانياً ومنطقياً، وأنّه ذو طابع تعبدي محض!

3 ـ إِنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها ـ في مجال إِثبات التوحيد، ووحدانية الذات الإِلهية ـ ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث ـ فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.


1 ـ اُنظر دائرة المعارف للقرن العشرين (لفريد وجدي) في مادة (ثالوث» ...

[552]

وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإِثنين متناهيين ومحدودين، لأن وجود الأوّل يفتقر إِلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إِلى وجود وخصائص الأوّل، وعلى هذا الأساس فإِن كلا الوجودين محدودان.

وبعبارة أُخرى: إِنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات، فلابدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إِلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إِلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إِلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضاً، وعلى هذا الأساس فإِن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما، بل هما متناهيان محدودان، والنتيجة هي أن ذات الله ـ الذي هو وجود لا متناه ـ لا يمكن أن تقبل التعدد أبداً.

وهكذا فإِنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإِلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدوداً، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي، وكذلك فإِن أي مركب في تكوينه يكون محتاجاً إِلى أجزائه التي تكونه، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.

وإِذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجة أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج، وهو العلّة الأُولى لعالم الوجود، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإِلى الأبد.

4 ـ بالإِضافة إِلى كل ما ذكر، كيف يمكن للذات الإِلهية أن تتجسد في هيكل إِنساني لتصبح محتاجة إِلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟

إِنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي، أو تجسيده في هيكل إِنسان ووضعه جنيناً في رحم أُمّ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص، كما أنّ افتراض وجود الابن لله ـ وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة ـ إِنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعداً مطلقاً.

[553]

بدليل أنّ أي إِنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عند ما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإِنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري، يشعر بالسخط والإِشمئزاز، وإِذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأساً في كلمات مثل «الله الأب» و«الله الابن» فما ذلك إِلاّ لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.

5 ـ لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إِلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.

من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معاً يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد.

أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إِنسان في ثلاث مرايا في آن واحد، فهذا الإِنسان مع كونه واحداً إِلاّ أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.

كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إِلى نقطة واحدة؟!

لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر، فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأُخرى من حيث النظرة العلمية، وهي ليست بمجموعها شيئاً واحداً من خلال هذه النظرة.

وإِذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد، إِنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إِلاّ.

والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إِلاّ انعكاساً للنور، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم

[554]

معين غير ذات الجسم، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي إتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء.

أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالإِمتداد الداخلي الحاصل للزوايا، والذي يوصلها جميعاً إِلى نقطة واحدة.

والذي يثير العجب ـ أكثر من ذلك ـ هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية «التوحيد في التثليث» مع نظرية «وحدة الوجود» التي يقول بها الصوفيون(1) والأمر الواضح من غير دليل ـ في هذا المجال ـ هو إِنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى، بل الإِذعان بأنّها هي عين ذاته.

عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث، بل تصبح جميع الموجودات ـ صغيرها وكبيرها ـ جزءاً أو مظهراً لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تتطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال، علماً بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.

6 ـ يقول بعض المسيحيين ـ أحياناً ـ إِنّها حين يسمّون المسيح(عليه السلام) بـ «ابن الله» إِنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) بـ «ثار الله وابن ثاره» أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث سمى فيها بـ «يدالله»، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة «ثار» بأنّها تعني الدم، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيد(عليه السلام)


1 ـ المراد بوحدة الوجود عند الصوفية، هي وحدة الموجود، ويستدلون بها على أن الوجود ليس أكثر من واحد يظهر في صور مختلفة، وإن هذا الواحد هو الله.

[555]

تعني «دم الله وابن دمه».

إِنّ هذا الأمر هو عين الخطأ:

أوّلا: لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبداً لتعني بها الدم، بل اعتبرت الثأر دائماً ثمناً للدم، ولذلك فإِن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى، أي أنّ الحسين(عليه السلام) لم يكن ملكاً أو تابعاً لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعاً لعالم الوجود وذات الله المقدسة، ولذلك فإِن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد ـ كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي استشهد في سبيل الله، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضاً.

وثانياً: حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة «يد الله» فإِن هذا التعبير ـ حتماً ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إِلاّ.

فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة «ابن الله» الواردة عندهم في حق المسيح(عليه السلام) أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيح(عليه السلام)وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إِليه بعض المسيحيين من الإِدعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس.

ولإِيضاح هذا الأمر نحيل القاري إِلى كتاب «القاموس المقدس» في مادة «الله» حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة «ابن الله» هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إِلاّ إِذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله(1).

* * *


1 ـ القاموس المقدس، طبعة بيروت، ص 345.

[556]

الآيتان

لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلَـئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً(172) فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً(173)

سبب النّزول

روى جمع من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بشأن طائفة من مسيحيي نجران، حين زاروا النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) واستفسروا منه عن سبب اعتراضه على نبيّهم المسيح(عليه السلام)، فسألهم النّبي(عليه السلام) عن أي إعتراض هم يتحدثون؟ فقالوا للنبي(عليه السلام): «إِنّك تقول بأنّ المسيح هو عبد الله ورسوله...» فنزلت الآيتان جواباً على قولهم هذا.

[557]

التّفسير

المسيح هو عبدالله:

على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما، إِلاّ أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الأُلوهية عن المسيح(عليه السلام)وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الأُولى إِلى دليل آخر لدحض دعوى أُلوهية المسيح، فتقول مخاطبة المسيحيين: كيف تعتقدون بأُلوهية عيسى(عليه السلام) في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه، كما لم يستنكف الملائكة المقرّبون من هذه العبادة؟ حيث قالت الآية: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون).

وبديهي أنّ من يكون عبداً لا يمكن أن يصبح معبوداً في آن واحد، فهل يمكن أن يعبد فرد نفسه؟ أو هل يكون العابد والمعبود والرّب فرداً واحداً؟

وفي هذا المجال ينقل بعض المفسّرين حادثة طريفة تحكي أن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لكي يدين ويفند عقيدة التثليث المنحرفة قال لكبير المسيحيين في ذلك الحين ـ وكان يلقب بـ «الجاثليق» ـ بأنّ المسيح(عليه السلام) كان حسناً في كل شيء لولا وجود عيب واحد فيه، وهو قلة عبادته لله، فغضب الجاثليق وقال للإِمام الرضا(عليه السلام): ما أعظم هذا الخطأ الذي وقعت فيه، إِنّ عيسى المسيح كان من أكثر أهل زمانه عبادة، فسأله الإِمام(عليه السلام) على الفور: ومن كان يعبده المسيح؟! فها أنت قد أقررت بنفسك أنّ المسيح كان عبداً ومخلوقاً لله وأنّه كان يعبد الله ولم يكن معبوداً ولا ربّاً؟ فسكت الجاثليق ولم يحر جواباً.(1)

بعد ذلك تشير الآية إِلى أن الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له بالعبودية، يكون امتناعهم هذا ناشئاً عن التكبر والأنانية وإِنّ الله سيحضر هؤلاء


1 ـ مناقب ابن شهر آشوب، ج 4، ص 352.

[558]

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه، فتقول الآية: (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إِليه جميعاً).

وإِنّ الله العزيز القدير سيكافىء في يوم القيامة اُولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقاموا بالأعمال الخيرة، ويعطيهم ثوابهم كاملا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله، فإِنهم سينالون منه عذاباً أليماً شديداً، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم ولياً أو حامياً من دون الله، حيث تقول الآية: (فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأمّا الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً).

في هذه الآية نقطتان يجب الإِنتباه إِليهما، وهما:

1 ـ إِنّ كلمة «استنكاف» تأتي بمعنى الإِمتناع أو الإِستياء الشديد من شيء، ولها معان واسعة، وتحدد معناها ـ هنا ـ بما أتى بعدها من قرينة في عبارة (استكبروا) لإنّ الإِمتناع عن عبادة الله ورفض الخضوع له بالعبودية إمّا ناشىء عن الجهل أو الغفلة. وأحياناً أُخرى ينشأ هذا الإِمتناع عن التكبر والأنانية والغرور، ومع أن الإِمتناعين يعتبران ذنباً، إِلاّ أن الإِمتناع الأخير يفوق الأوّل قبحاً بمراتب كبيرة.

2 ـ إِنّ الآية جاءت بعبارة توضح عدم استنكاف الملائكة المقرّبين عن عبادة الله، وذلك ردّاً على المسيحيين الذين يثلثون الآلهة (الأب ولابن وروح القدس) ولتدحض عن هذا الطريق فرضية وجود المعبود الثّالث الذي ادعاه المسيحيون ومثلوه في أحد الملائكة المسمى بـ«روح القدس» ولتثبت التوحيد ووحدانية ذات الله سبحانه وتعالى.

وقد تكون هذه الآية إِشارة إِلى الشرك الذي وقع فيه الوثنيون العرب، والشرك الذي تورط به المسيحيون حيث أنّ مشركي الجاهلية كانوا يعتبرون

[559]

الملائكة أابناء الله سبحانه، أو يعدونهم جزءاً منه، فجاءت هذه الآية لترد عليهم وتدخص أقوالهم هذه.

وعند التعمق في هذين الأمرين يتبيّن لنا ـ بجلاء ـ أنّ الآية لم تأت لبيان التفاضل بين الملائكة والأنبياء، بل جاءت فقط لدحض عقيدة «الأقنوم الثّالث» أو دحض عقيدة المشركين العرب في الملائكة، وليس فيها أي دلالة على مسألة التفاضل بين المسيح(عليه السلام) وبين الملائكة.

* * *

[560]

الآيتان

يَـأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـنٌ مِّن رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورَاً مُّبِيناً(174) فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة مِّنْهُ وَفَضْل وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً(175)

التّفسير

النّور المبين:

بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضاً من إنحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادىء وتعاليم الأنبياء، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النّجاة والخلاص من تلك الإِنحرافات.

لقد توجه الخطاب أوّلا إِلى عامّة الناس، مبيناً أنّ الله قد بعث من جانبه نبيّاً يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إِلى طريق السعادة الأبدية، حيث تقول الآية الأُولى: (يا أيّها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم وانزلنا إِليكم نوراً مبيناً).

ويعتقد بعض العلماء أنّ كلمة «برهان» المشتقة من المصدر «بره» على وزن «فرح» تعني الإِبيضاض ـ ولمّا كانت الأدلة الواضحة تجلى للمسامع وجه الحق وتجعله واضحاً مشرقاً أبيض لذلك سميت بـ«البرهان».

[561]

والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث ـ وكما يقول جمع من المفسّرين وتؤكّد ذلك القرائن ـ هو شخص نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات أُخرى بالنور أيضاً.

وقد فسّرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) ـ والتي أوردتها تفاسير «نور الثقلين» و«على بن إِبراهيم» و«مجمع البيان» ـ أن «البرهان» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و«النّور» هو علي بن أبي طالب(عليه السلام).

ولا يتنافى هذا التّفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله، حيث يمكن أن يقصد بعبارة «النور» معان عديدة لتشمل «القرآن» و«أمير المؤمنين علي(عليه السلام)» الذي يعتبر حافظاً ومفسّراً للقرآن ومدافعاً عنه.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم الله عاجلا في رحمته الواسعة، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم إِلى الطريق المستقيم. تقول الآية: (فأمّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إِليه صراطاً مستقيماً)(1).

* * *


1 ـ راجع تفسير سورة الحمد في تفسيرنا هذا الجزء الأوّل للإِطلاع على تفسير عبارة «الصراط المستقيم».

[562]

الآية

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـلَةِ إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالا وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلَيمٌ(176)

سبب النّزول

نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبدالله الأنصاري قوله بأنّه كان يعاني من مرض شديد، فعاده النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ عنده ورشّ عليه من ماء وضوئه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فذكر جابر ـ وهو يفكر في الموت ـ للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ ورثته هن اخواته فقط، واستفسر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن كيفية تقسيم الإِرث بينهنّ، فنزلت هذه الآية والتي تسمّى ـ أيضاً ـ بـ «آية الفرائض» وبيّنت طريقة تقسيم الإِرث بينهنّ (وقد وردت الرّواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير «مجمع البيان» و«التبيان»و«المنار» و«الدر المنثور» وغيرها من التفاسير ...).

ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).


1 ـ تفسير الصافي في هامش الآية.

[563]

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه كمية الإِرث للأُخوة والأخوات، وقد بيّنا في أوائل سورة النساء ـ في تفسير الآية الثانية عشر منها ـ إِنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإِرث للأخوة والأخوات وإِن إِحدى هاتين الآيتين هي الآية الثانية عشرة من سورة النساء، والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

وعلى الرغم ممّا ورد من إختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإِرث، إِلاّ أنّ كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعاً من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في بداية السورة.

فالآية الأُولى تخصُّ الأُخوة والأخوات غير الأشقاء، أي الذين هم من أُمّ واحدة وآباء متعددين.

أمّا الآية الثانية أي الأخيرة، فهي تتناول الإِرث بالنسبة للأخوة الأشقاء، أي الذين هم من أُمّ واحدة وأب واحد، أو من أُمهات متعددات وأب واحد.

والدليل على قولنا هذا، أن من ينتسب إِلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين إِرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى.

فالأُخوة والأخوات غير الأشقاء ـ أي الذين هم من أُمّ واحدة وآباء متعددين ـ يرثون بمقدار حصّة أُمّهم من الإِرث والتي هي الثلث.

أمّا الأخوة والأخوات الأشقاء ـ أي الذين هم من أُمّ واحدة وأب واحد، أو من أب واحد وأُمهات متعددات ـ فهم يرثون بمقدار حصّة والدهم من الإِرث التي هي الثلثان.

ولمّا كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصّة الثلث من الإرث للأخوة والأخوات، وتتناول الآية الأخيرة حصّة الثلثين، لذلك يتّضح أنّ الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص

[564]

المتوفى عن طريق أُمهم، وأنّ الآية الأخيرة تخصّ الأخوة والأخوات الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأُمّ معاً.

والروايات الواردة عن الأئمّة(عليهم السلام) في هذا المجال تؤكّد هذه الحقيقة أيضاً.

وعلى أي حال فإِن كانت حصّة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان، فإِنّ الباقي من الإِرث يوزع بناء على القانون الإِسلامي بين الباقين من الورثة، وهكذا وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين، نتطرق الآن إِلى تفسير الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.

وتجدر الإِشارة هنا إِلى أنّ الآية جاءت لتفصل إِرث الكلالة أي إِرث الأخوة والأخوات(1) فتقول الآية: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ...) أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إِلى عدد من الأحكام، وهي:

1 ـ إِذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة، فإِنّ هذه الأُخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة: (إن امرؤُا هلك ليس له ولد وله أُخت فلها نصف ما ترك ...).

2 ـ وإِذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وأُمها معاً ـ فإِنّ أخاها الوحيد يرثها، تقول الآية: (وهو يرثها إِن لم يكن لها ولد ...).

3 ـ وإِذا مات شخص وكانت له أختان فقط، فإِنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة: (فإِن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ...).

4 ـ وإِذا كان ورثة الشخص المتوفى عدداً من الأُخوة والأخوات أكثر من اثنين، فإِن ميراثه يقسم جميعه بينهم، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف


1 ـ لمعرفة معنى «الكلالة» وسبب إطلاقها على الأخوة والأخوات، راجع تفسير الآية الثانية عشرة من سورة النساء.

[565]

حصّة الأُخت الواحده منه. تقول الآية الكريمة: (وإِن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأُنثيين ...).

وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبيّن للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الإِنحراف والضلالة، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إِليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكل شيء، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (يبيّن الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم)(1).

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية ـ موضوع البحث ـ إِنّما تبيّن إِرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى، ولم تتطرق الآية إِلى وجود الأب والأم للشخص المتوفى، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإِن الأب والأُمّ يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأُولى من الوارثين، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

إنتهى تفسير سورة النساء

* * *


1 ـ وجملة «أن تضلوا» بمعنى «أن لا تضلوا» حيث تكون كلمة «لا» مقدرة، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان بمثل هذه التعابير البليغة.

سُورَة الـــمَائِـدَة

مدنيّة

وعَددُ آياتِها مَائة وَعشرُون آية

محتويات سورة المائدة

إِنّ هذه السورة من السور المدنية، وتشتمل على مئة وعشرين آية، وقيل أنّها نزلت بعد سورة الفتح، وتدل روايات على أنّها نزلت كلّها في فترة حجّة الوداع بين مكة والمدينة(1).

وتشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإِسلامية بالإِضافة إِلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأوّل منها الإِشارة إِلى قضية الخلاف بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقضايا أُخرى مثل: عقيدة التثليث المسيحية، ومواضيع خاصّة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول أُممهم.

أمّا القسم الثّاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق، وقضايا العدالة الإِجتماعية، والشهادة العادلة، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية إبني آدم، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإِضافة إِلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة، وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة بـ «سورة المائدة» فهو لورود قصّة نزول المائدة السماوية على حواري المسيح(عليه السلام) في الآية (114) منها.

* * *


1 ـ تفسير المنار ـ الجزء السادس، ص 116، ويجب الإِنتباه إِلى أنّ المقصود بالسورة المدنية، هو نزولها بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إِلى المدينة، حتى لو لم تكن السورة قد نزلت في المدينة نفسها.

[570]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاَْنْعَـمِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّىِ الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)

التّفسير

الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق:

تدل الروايات الإِسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبي(عليه السلام) بشهرين أو ثلاثة»(1).

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إِشارة إِلى المعنى المذكور أعلاه.

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ


1 ـ تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل، ص 430، يجب الإِنتباه إِلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها، لذلك نرى بعضاً من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضاً.

[571]

في هامش الآية (281) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامنا السابق كان عن آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإِسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الأُمّة وخلافة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها: (يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إِليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الإِلتفات إِلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شداً محكماً، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقداً».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إِلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقداً، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاماً كافياً، ولا تطلق على كل العهود، وإِذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإِجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظراً لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة

[572]

على الإِستغراق، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضاً إِطلاقاً تاماً، لذلك فإِن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقداً محكماً.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإِلهية والإِنسانية والإِتفاقيات السياسية والإِقتصادية والإِجتماعية، والتجارية، وعقود الزواج، وأمثال ذلك، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإِنسان العقائدية والعملية، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظراً لطرفيه ينقسم إِلى ثلاثة أنواع، فأحياناً يكون عقداً بين العبد وربّه، وطوراً بين الفرد ونفسه، وحيناً بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(1).