![]() |
![]() |
![]() |
ولعل استعمال لفظة «قريب» إِنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.
ولكن بعض المفسرين ذهب إِلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوه
بسرعة، ويتوبوا إِلى الله، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إِلاّ إِذا تاب الإِنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إِذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإِنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة ـ إِذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.
صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من إرتكاب المعصية تقبل أيضاً، إِلاّ أنّها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إِشارة إِلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقاً.
ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول: (فأُولئك يتوب عليهم وكان الله عليماً حكيماً) مشيراً بذلك إِلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.
ثمّ يقول تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر ...) وهو إِشارة إِلى من لا تقبل توبته.
وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإِنسان عند الإِحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي إِرتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة
محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى إقتراب ألسنة اللهب من جسمه.
ومن المسلم أن التكليف الإِلهي والإِختيار الرباني للبشر لايقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإِيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.
ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إِذ يقول: (حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)(1).
كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إِنّ العصاة يندمون عندما يشاهدون العذاب الإِلهي في الآخرة، ولكن لات حين مندم، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت، إِن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إِذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبه وهذا الندم لا يعد فضيلة، ولا مفخرة ولا تكاملا، ولهذا لا يكون أي تأثير.
على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إِمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه، وبعبارة أُخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.
هذا عن الطائفة الأُولى الذين لا تقبل توبتهم، وهم من يتوبون عندما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.
1 ـ يونس، 90 ـ 91.
وأمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفاراً، إِذ يقول سبحانه: (ولا الذين يموتون وهم كفار).
ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أُخرى في القرآن الكريم(1).
وهنا يطرح سؤال وهو: متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفاراً؟
إِحتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد، بل توبة الله، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.
ولكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمراً آخر وتقول: إِن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإِيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.
وتوضيح ذلك: إِنّنا نعلم إِن من شرائط قبول الأعمال «الموافاة على الإِيمان» بمعنى أن يموت الإِنسان مؤمناً، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية(2). وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إِذا تابوا حال الإِيمان في هذه الصورة أيضاً.
وخلاصة القول إِنّ قبول التوبة مشروط بأمرين.
الأوّل: أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.
والثّاني: أن يموت وهو مؤمن.
ثمّ أنّه يستفاد من هذه الآية أيضاً إن على الإِنسان أن لا يؤخر توبته، إِذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.
والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية
1 ـ آل عمران ـ 91، البقرة، 161، البقرة، 217 ، محمّد ـ 34.
2 ـ البقرة، 217.
الحاضرة بالموت حال الكفر، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.
ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: (أُولئك إِعتدنا لهم عذاباً أليماً)، ولا حاجة إِلى التذكير بأنّ للتوبة مضافاً إِلى ما قيل شرائط اُخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَيَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(19)
روي في مجمع البيان عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام): «نزلت في الرجل يحبس المرأة ـ من دون أن يعاملوها كالزّوجة ـ عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها»، أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.
وروي عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم بمهور كبيرة ثمّ يحبسونهن من دون حاجة إِليهن، ولا يطلقونهن لغلاء المهر وثقله، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.
وقد روى جماعة من المفسرين سبباً آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه الآية، بل يناسب الآية (22) من هذه السورة، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك الآية بإِذن الله تعالى.
قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إِلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي، وفي هذه الآية بالذات أُشير إِلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها، وتلك هي:
1 ـ لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن، فقالت الآية الحاضرة: (يا أيّها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) وبهذا استنكر الإِسلام هذه العادة السئية.
2 ـ لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضاً أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظاً، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: (ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ) أي من المهر.
ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أُشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية: (إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة) والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك، وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.
هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا، أو كل
سلوك ناشز مع الزوج؟ فيه كلام بين المفسرين إِلاّ أنّه روي في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) التصريح بأنه كل معصية من الزوجة(1) (طبعاً يستثنى من ذلك المعاصي الطفيفة لعدم دخولها في مفهوم الفاحشة التي تشير إِلى أهمية المعصية وخطرها، والذي يتأكد بكلمة «مبينة»).
3 ـ عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله: (وعاشروهن بالمعروف)، أي عاشروهن بالعشرة الإِنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثمّ عقب على ذلك بقوله: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً).
فحتى إِذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إِلى الإِنفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم، إِذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيراً كثيراً، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأُمور إِلى الحدّ الذي لا يطاق، خاصّة وإِن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إِلى مبرر صحيح، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أُسس واقعية إِلى درجة أنّهم قد يرون الأمر الحسن سيئاً والأمر السيء حسناً في حين ينكشف الأمر على حقيقة بعد مضي حين من الزمن، وشيء من المداراة.
ثمّ إنّه لابدّ من التذكير بأن للخير الكثير في الآية الذي يبشر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهن مفهوماً واسعاً، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 257.
وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْج مَّكَانَ زَوْج وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنَطاراً فَلاَتَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً(20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعض وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً(21)
كان التقليد المتبع قبل الإِسلام أنه إِذا أراد الرجل أن يطلق زوجته، ويتزوج بأُخرى أن يتّهم الزوجة الأُولى بالزنا والخيانة الزوجية فراراً من دفع مهرها، أو يعمد إِلى معاملتها بقسوة حتى ترد مهرها الذي قد أخذته من قبل إِلى الرجل، ليستطيع أن يعطي ذلك المبلغ للزوجة الجديدة التي يبغي الزواج بها، ويمهرها به.
فنزلت هذه الآيات تستنكر هذا العمل القبيح الظالم بشدّة، وتشجبه وتقبحه وتدعو إِلى إِنصاف الأزواج وعدم ظلمهنّ في مهورهنّ.
نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسماً آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت الآية الأُولى تقول: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنّ
قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فهي تخبر المسلمين ـ إِذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة أُخرى ـ أنّه لا يحق لهم أبداً أن يبخسوا من صداق الزوجة الأُولى شيئاً أو يستردوا شيئاً من الصداق إِذا كانوا قد سلموه إِلى الزوجة مهما كان مقداره كثيراً وثقيلا، والذي عبّر عنه في الآية بالقنطار، والقنطار ـ كما سبق يعني المال الكثير وقد جاء في المفردات للراغب: أنّ القنطار جمع القنطرة، والقنطرة من المال ما فيه عبور الحياة تشبيهاً بالقنطرة(1).
لأن المفروض أن تطليق الزوجة الأُولى ـ هنا ـ يتمّ لأجل مصلحة الزوج، وليس لأجل انحراف الزوجة عن جادة العفاف والطهر، ولهذا لا معنى لأن تهمل حقوقها القطعية.
ثمّ إِنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إِلى الأُسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إِذ تقول في استفهام إِنكاري: (أتأخذونه بهتاتاً وإِثماً مبيناً) أي هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ، واتهامهنّ بالفاحشة، وهو إِثم واضح ومعصية بيّنة، وهذا يعني أن أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية اُخرى واضحة، وظلم آخر بيّن.
ثمّ أضاف سبحانه ـ في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين ـ وضمن استفهام إِنكاري بهدف تحريك العواطف الإِنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك، وقد عشتم مع الزوجة الأُولى زمناً طويلا، وكانت لكم معهنّ حياة مشتركة، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحاً واحدة في جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم ـ أيّها الأزواج ـ أن تبخسوا حق الزوجة الأُولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله:
1 ـ ولمزيد التوضيح راجع الجزء الثاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (15) من سورة آل عمران.
(وكيف تأخذونه وقد أفضى(1) بعضكم إِلى بعض) أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟
وهذا يشبه قولنا لمن عاشا صديقين حميمين زمناً طويلا ثمّ تنازعا: كيف تتنازعان وقد كنتما صديقين حميمين سنوات طويلة وأعواماً عديدة؟
وفي الحقيقة أن إرتكاب مثل هذا الفعل في حق الزوجة شريكة الحياة ما هو اِلاّ ظلم للنفس.
ثمّ أنّه سبحانه تعالى: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) أي كيف تبخسون الزوجة حقّها في الصداق وقد أخذت منكم ـ لدى عقد الزواج بينكما ـ ميثاقاً غليظاً وعهداً موثقاً بأن تؤدوا إِليهنّ حقوقهنّ كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم لها حالة العقد؟
ثمّ يجب أن نعرف أنّ الآية الحاضرة وإِن وردت في مقام تطليق الزوجة الأُولى لغرض إِحلال زوجة أُخرى مكانها إِلاّ أنّها لا تختصّ بهذا المورد خاصّة، بل تعمّ كل موارد الطلاق الذي يتمّ باقتراح من جانب الزوج ولا تكون لدى الزوجة رغبة في الإِفتراق، فإِنّه يجب على الزوج في هذه الحالة أن يعطي الصداق بكامله إِلى الزوجة إِذا أراد أن يطلقها، وأن لا يسترد شيئاً من الصداق إِذا كان قد أعطاه إِياها، سواء قصد أن يتزوج بامرأة أُخرى أو لا.
وعلى هذا تكون عبارة: (وإن أردتم استبدال زوج) ناظرة في الحقيقة إِلى ما كان سائداً في العهد الجاهلي، وليس له أي دخل في أصل الحكم، فهو ليس قيداً.
على أنّه ينبغي التنبيه أيضاً إِلى أن لفظة «استبدال» تعني طلب البديل، ولهذا يكون قد أخذ فيها قيد الإِرادة، فإِذا قرنت بكلمة «أردتم» فإِنما ذلك لأجل التنبيه
1 ـ الإِفضاء أصله من الفضاء، وهو السعة، وبذلك يكون معنى الإِفضاء إيجاد السعة، لأن الإِنسان بسبب الإِتصال والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنه وسع دائرة وجوده، ولهذا استعمل الإِفضاء بمعنى الملامسة والإِتصال.
إِلى نقطة في المقام، وهي أنكم ـ عند تهيئة المقدمات والعزم على استبدال زوجة اُخرى ـ يجب أن لا تبدأوا من المقدمات الغير المشروعة الظالمة، فتضيعوا مهر زوجتكم إِذا أردتم زوجة أُخرى.
* * *
وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَـحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلا(22)
كانت العادة في الجاهلية أنّه إِذا مات رجل وخلف زوجة وأولاداً، وكان الأولاد من زوجة أُخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله، أي أنّه كان يحق لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد، وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في المتاع والمال، وقد حدث مثل هذا ـ بعد ظهور الإِسلام ـ لأحد المسلمين، فقد مات أحد الانصار يُدعى «أبو قيس» وخلف زوجة وولداً من زوجة أُخرى، فاقترح الولد عليها الزواج بها، فقالت تلك المرأة له: إِني أعتبرك مثل ابني وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأمره واستوضحه الحكم، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «ارجعي إِلى بيتك» فأنزل الله هذه الآية تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدّة.
هذه الآية ـ كما ذكرنا في شأن النّزول ـ تبطل عادة سيئة من العادات
الجاهلية المقيتة فتقول: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء) أي لا تنكحوا زوجة أبيكم.
ولكن حيث أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النّهي بقوله: (إِلاّ ما قد سلف).
ثمّ أنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إِذ يقول أوّلا: (إِنّه كان فاحشةً) ثمّ يضيف قائلا: (ومقتاً) أي عملا منفراً لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة، بل تمقته وتكرهه، ثمّ يختم ذلك بقوله: (وساء سبيلا) أى أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن.
حتى أنّنا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين.
ومن الواضح أنّ هذا الحكم إِنّما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في المقام، فإِن الزواج بإمراة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأُمّ، لأن امرأة الأب في حكم الأُمّ الثانية، ومن ناحية أُخرى إِعتداء على حريم الأب وهتك له، وتجاهل لاحترامه.
مضافاً إِلى أنّ هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب النزاع على نكاح زوجته، وبسبب الإِختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر (أي في من يتزوج بها).
بل إِنّ هذا النوع من النكاح يوجب الإِختلاف والتنافس البغيض بين الأب والولد، لأنّ هناك تنافساً وحسداً بين الزوجة الأُولى والزوجة الثّانية غالباً، فإِذا تحقق هذا النكاح (أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد) في حياة الوالد (أي بعد طلاقها من الأب طبعاً) كان السبب في الحسد واضحاً، لأنّ امرأة الأب
ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع، ممّا يؤدي إِلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة الاُخرى أكثر، وأمّا إِذا تحقق بعد وفاته فإِنّه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعاً من الحسد بالنسبة لأبيه.
هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع من النكاح إِشارات إِلى هذه الحِكَم الثلاث لتحريم نكاح إمرأة الأب على وجه الترتيب.
* * *
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهـتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَتُكُمْ وَعَمَّـتُكُمْ وَخَـلَـتُكُمْ وَبَنَاتُ الاَْخِ وَبَنَاتُ الاُْخْتِ وَأُمَّهَـتُكُمُ الَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَتُكُم مِّنَ الرَّضَـعَةِ وَأُمَّهَـتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَـئِبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الَّـتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلـئِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَاقَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(23)
في هذه الآية أشار سبحانه إِلى النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:
1 ـ الولادة التي يعبّر عنها بالإِرتباط النّسبي.
2 ـ الزّواج الذي يعبّر عنه بالإِرتباط السّببي.
3 ـ الرّضاع الذي يعبّر عنه بالإِرتباط الرّضاعي.
وقد أشار في البداية إِلى النساء المحرمات بواسطة النّسب وهنّ سبع
طوائف إِذ يقول (حرمت عليكم أُمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأُخت).
ويجب التّنبيه إِلى أنّ المراد من «الأُمّ» ليس هي التي يتولد منها الإِنسان دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الأُمّ وإن علون، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الاُخرى.
ومن الواضح جدّاً أنّ الإِنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من النسوة، ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات (إِلاّ من شذ وهو قليل)، وحتى المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية ينكرونه ويشجبونه اليوم، وإِن حاول البعض أن يردّ هذه المبغوضية إِلى العادة والتقليد القديم، ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكي ـ عادة ـ عن فطرية هذا القانون، لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمراً عامّاً ودائمياً.
هذا مضافاً إِلى أنّ هناك حقيقة ثابتة اليوم، وهي أنّ الزواج بين الأشخاص ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة، ويؤدي إِلى انبعاث أمراض خفية وموروثة، وتشددها و تجددها (لأنّ هذا النوع من الزواج يولد هذه الأمراض، بل يساعدها على التشدد والتجدد والإِنتقال) إِلى درجة أنّ البعض لا يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين (فضلا عن المحارم المذكورة هنا) مثل الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة(1) ويرون أنّه يؤدي هو الآخر أيضاً إِلى أخطار تصاعد الأمراض الوارثية.
1 ـ طبعاً إنّ الإِسلام لم يحرّم التزاوج بين أبناء وبنات العمومة، لأنّ هذا النوع من التزاوج ليس مثل الزواج بالمحارم في الخطورة، واحتمال ظهور مثل هذه الحوادث الخطيرة في هذا النوع من الزواج أقل، وقد لاحظنا بأنفسنا موارد ونماذج عديدة من نتائج هذا النوع من الزواج حيث يكون الأولاد ـ في هذه الحالة ـ أكثر سلامة وأفضل فكراً وموهبة من غيرهم.
إِلاّ أنّ هذا النوع من الزواج إِذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين (كما هو الغالب) فإِنّه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين الذين تشتدّ عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه.
هذا مضافاً إِلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم عادة، لأنّ المحارم ـ في الأغلب ـ يكبرون معاً، ويشبّون معاً، ولهذا لا ينطوي الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة، لأنّهم تعودوا على التعامل فيما بينهم، فلا يكون أحدهم جديداً على الآخر، بل العلاقة لديهم علاقة عادية ورتيبة، ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياساً لإِنتزاع القوانين الكلية العامّة أو سبباً لنقض مضاداتها، ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية، ولهذا إِذا تمّ التزواج بين المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة مهزوزة وقصيرة العمر.
(وأُمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة)
يشير الله سبحانه في هذه الآية إِلى المحارم الرّضاعية والقرآن وإِن اقتصر في هذا المقام على الإِشارة إِلى طائفتين من المحارم الرضاعية، وهي الأُم الرضاعية والأُخت الرضاعية فقط، إِلاّ أنّ المحارم الرضاعية ـ كما يستفاد من روايات عديدة ـ لا تنحصر في من ذكر في هذه الآية، بل تحرم بالرّضاعة كل من يحرمن من النساء بسبب «النسب» كما يصرّح بذلك الحديث المشهور المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب»(1).
على أن بيان مقدار الرّضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة فيه، وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية.
وفلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي، أن نشوء ونبات لحم المرتضع1 ـ من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 155، وغيره.
وعظمه من لبن إمرأه معينة تجعله بمثابة إبنها الحقيقي، فالمرأة التي ترضع طفلا مقداراً معيناً من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم، فإِنّ هذا النوع من الرضاع يجعل الطفل شبيهاً بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم جزء من بدنها، فإِذا هم جميعاً (أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنّهم اُخوة بالنسب.
ثمّ إنّ اللّه سبحانه يشير ـ في المرحلة الأخيرة ـ إِلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهنّ ويذكرهنّ ضمن عدّة عناوين:
1 ـ (وأُمهات نسائكم) يعني أن المرأة بمجرّد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم أُمها وأُم أُمها وإِن علون على ذلك الرجل.
2 ـ (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ) يعني أنّ مجرّد العقد على إمرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثّاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضاً مضافاً على العقد عليها.
إِنّ وجود هذا القيد في هذا المورد (دخلتم بهنّ) يؤيد كون حكم أُمّ الزوجة الذي مرّ في الجملة السابقة (وأمهات نسائكم) غير مشروط بهذا الشرط، وبعبارة أُخرى إِن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكّد إِطلاق الحكم هناك، فتكون النتيجة أن بمجرّد العقد على إمرأة تحرم أُمّ تلك المرأة على الرجل وإِن لم يدخل بتلك المرأة، لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الرّبيبة.
ثمّ أنّ قيد (في حجوركم) وإِن كان ظاهره يفهم منه أنّ بنت الزوجة من زوج آخر إِذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه، ولكن هذا القيد بدلالة الروايات، وقطعية هذا الحكم ـ ليس قيداً احترازياً ـ بل هو في الحقيقة إِشارة إِلى نكتة التحريم ـ لأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أُمّهاتها على زواج آخر، هنّ في الأغلب في سنين متدنية من العمر، ولذلك غالباً ما يتلقين نشأتهنّ وتربيتهنّ في حجر الزوج الجديد مثل بناته، فالآية تقول إِن بنات نسائكم من غيركم
كبناتكم أنفسكم، فهل يتزوج أحد بابنة نفسه؟ واختيار وصف الربائب التي هي جمع الرّبيبة (لتربية الزوج الثاني إِيّاها فهي مربوبته) إِنّما هو لأجل هذا.
ثمّ يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا: (فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم) أي إِذا لم تدخلوا باُمّ الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهنّ.
3 ـ (وحلائل(1) أبنائكم الذين من أصلابكم) والمراد من حلائل الأبناء زوجاتهم، وأمّا التعبير بـ «من أصلابكم» فهو في الحقيقة لأجل أن هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصاً ثمّ يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماماً، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإِسلام.
4 ـ (وأن تجمعوا بين الأُختين) يعني أنّه يحرم الجمع بين الأُختين في العقد، وعلى هذا يجوز الزواج بالأُختين في وقتين مختلفين وبعد الإِنفصال عن الأُخت السابقة.
وحيث أنّ الزواج بأُختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية، وكان ثمّة من ارتكبوا هذا العمل فإِن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: (إِلاّ ما قد سلف) يعني إِنّ هذا الحكم كالأحكام الاُخرى لا يشمل الحالات السابقة، فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إِحدى الأُختين، ويفارقوا الاُخرى، بعد نزول هذا الحكم.
1 ـ الحلائل جمع الحليلة، وهي من مادة حل، وهي بمعنى المحللة، أي المرأة التي تحل للإِنسان، أو من مادة حلول معنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية، لأن كل واحد منهما يحل مع الآخر في الفراش.
يبقى أن نعرف أنّ سرّ تحريم هذا النمط من الزواج (أي التزوج بأُختين في وقت واحد) في الإِسلام لعلّه أن بين الأُختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة طبيعية ـ علاقة حبّ ومودّة، فإِذا أصبحتا متنافستين في ظل الإِنتماء إِلى زوج واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودّة والمحبّة والعلاقة الودية بطبيعة الحال، وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأُختين يضرّ بحياتهما، لأن كلّ واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين نفسيتين متضادتين هما دافع الحب، وغريزة التنافس، وهو صراع نفسي مقيت ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها.
ثمّ إن بعض المفسّرين احتمل أن تعود جملة (إِلاّ ما قد سلف) إِلى كل المحارم من النسوة اللاتي مرّ ذكرهنّ في مطلع الآية فيكون المعنى: إِذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإِحدى النساء المحرم عليه نكاحهنّ لم يشمله حكم تحريم الزواج بهنّ هذا، وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في ما بعد من الأولاد شرعيين، وإِن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء، ويفارقوهنّ.
وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: (إِنّ الله كان غفوراً رحيماً) هذا المعنى الأخير.
* * *
وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ كِتَـبَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَأَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(24)
هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ وتضيف قائلة:
(والمحصنات من النّساء) أي ويحرم الزواج بالنساء، اللاتي لهنّ أزواج.
والمحصنات جمع المحصنة وهي مشتقة من «الحصن»، وقد أُطلقت على المرأة ذات الزوج لأنّها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور، وكذا أُطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب، أو اللاتي يعشن في كنف رجل وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهنّ ويحصنها من الفجور والزنا.
وقد تطلق هذه اللفظة على الحرائر مقابل الإِماء، لأن حريتهنّ تكون بمثابة حصن يحفظهنّ من أن يتجاوز حدوده أحد دون إِذنهنّ، إِلاّ أنّه من الواضح أن
المراد بها في الآية الحاضرة هو ذوات الأزواج.
إِن هذا الحكم لا يختص بالنساء المحصنات المسلمات، بل يشمل المحصنات حتى غير المسلمات، أي أنّه يحرم الزواج بهنّ مهما كان دينهنّ.
نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللاتي أسرّهنّ المسلمون في الحروب، فقد اعتبر الإِسلام أسرهنّ بمثابة الطلاق من أزواجهنّ، وأذن أن يتزوج بهنّ المسلمون بعد انقضاء عدتهنّ(1) أو يتعامل معهنّ كالإِماء كما قال سبحانه: (إِلاّ ما ملكت أيمانكم).
ولكن هذا الإِستثناء (استثناء منقطع يعني أن هذه النساء المحصنات اللاتي وقعن أسيرات في أيدي المسلمين لا يعتبرن محصنات لأن علاقتهنّ بأزواجهنّ قد انقطعت بمجرد وقوعهنّ أسيرات، تماماً كما تنقطع علاقة النساء غير المسلمات بأزواجهن باعتناقهنّ الإِسلام في صورة استمرار الزوج السابق على كفره، فيكن في مصاف النساء المجردات من الأزواج (أي غير المحصنات).
![]() |
![]() |
![]() |