![]() |
![]() |
![]() |
والطريف أن الآية اختتمت بكلمة (خبيراً) ولم تختتم بكلمة «عليماً» لأنّ كلمة «خبير» تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعاً على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإِنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إِظهار الباطل حقاً، ويجازي على هذا العمل.
وتثبت الآية اهتمام الإِسلام المفرط بقضية العدالة الإِجتماعية، وإِن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الإِهتمام الذي يوليه الإِسلام لمثل هذه القضية الإِنسانية الإِجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإِسلامي السامي، وإِن هذا هو سرّ تخلف المسلمين.
* * *
1 ـ إن عبارة «تلووا» مشتقة من المصدر «لي» على وزن «طي» وتعني المنع والإِعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللي والبرم.
2 ـ تفسير التبيان، الجزء الخامس، ص 356.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَـبِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَـبِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـلا بَعِيداً(136)
نقل عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في شأن جمع من كبار شخصيات أهل الكتاب ـ مثل عبد الله بن سلام وأسد بن كعب وأخيه أسيد بن كعب ونفر آخر من هؤلاء ـ والسبب هو أنّهم قدموا منذ البداية على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: إِنّهم قد آمنوا به وبكتابه السماوي وبموسى والتوراة والعزير، ولم يؤمنوا ببقية الأنبياء، فنزلت هذه الآية وأعلمتهم ضرورة الإِيمان بجميع الأنبياء والكتب السماوية(1).
يتبيّن من سبب النّزول أنّ الكلام في الآية موجه إِلى جمع من مؤمني أهل
1 ـ تفسير مجمع البيان والمنار.
الكتاب الذين قبلوا الإِسلام، ولكنهم لعصبيات خاصّة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإِسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإِيمان والإِقرار والإِعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعاً يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد (علماً بأن لكل واحد منهم مرتبة خاصّة به، فكل واحد منهم جاء ليكمل ما أتى به النّبي أو الرّسول الذي سبقه من شريعة ودين).
ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإِنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإِمكانها الوقوف أمام الحقائق، لذلك تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا آمِنوا باللّه ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ...).
وبعض النظر عن سبب النّزول المذكور، فإِنّنا لدى تفسيرنا لهذه الآية نحتمل أن يكون الخطاب موجهاً فيها لعامّة المؤمنين، اُولئك الذين اعتنقوا الإِسلام إِلاّ أنّه لم يتغلغل بعد في أعماق قلوبهم، ولهذا السبب يطلب منهم أن يكونوا مؤمنين من أعماقهم.
كما يوجد احتمال آخر، وهو أنّ الكلام في هذه الآية موجه لجميع المؤمنين الذين آمنوا بصورة إِجمالية بالله والأنبياء، إِلاّ أنّهم ما زالوا لم يتعرفوا على جزئيات وتفاصيل العقائد الإِسلامية.
ومن هذا المنطلق يبيّن القرآن أنّ المؤمنين الحقيقيين يجب أن يعتقدوا بجميع الأنبياء والكتب السماوية السابقة وملائكة الله، لأن عدم الإِيمان بالمذكورين يعطي مفهوم إِنكار حكمة الله، فهل يمكن أن يترك الله الحكيم الملل السابقة بدون قائد أو زعيم يرشدهم في حياتهم؟!
وهل أنّ الملائكة المعنيين بالآية هم ملائكة الوحي ـ فقط ـ الذين يعد
الإِيمان بهم جزءاً لا يتجزأ من الإِيمان الضروري بالأنبياء والكتب السماوية، أو أنّهم جميع الملائكة؟ فكما أن بعض الملائكة مكلّفون بأمر الوحي والتشريع، يلتزم جمع آخر منهم بتدبير وإِرادة عالم الكون والخليقة; وإِن الإِيمان بهم في الحقيقة جزء من الإِيمان بالله سبحانه وتعالى وقد بيّنت الآية ـ في آخرها ـ مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيداً).
وفي هذه الآية اعتبر الإِيمان واجباً وضرورياً بخمسة مبادىء، فبالإِضافة إِلى ضرورة الإِيمان بالمبدأ والمعاد، فإن الإِيمان لازم وضروري بالنسبة إِلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.
إِنّ عبارة «ضلال بعيد» عبارة دقيقة، وتعني أنّ الذين لا يؤمنون بالمبادىء الخمسة المارة الذكر، قد انجرفوا خارج الصراط أو الطريق المبدئي، وأن عودتهم إِلى هذا الطريق لا تتحقق بسهولة.
* * *
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لَيَغْفِرَلَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا(137) بَشِّرِ الْمُنَـفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنيِنَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً(139)
تماشياً مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إِلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء، فهم في يوم إِلى جانب المؤمنين، وفي يوم آخر إِلى جانب الكفار، ثمّ إِلى جانب المؤمنين، وفي النهاية إِلى جانب الكفار المعاندين، حتى يموتوا على هذه الحالة!
فالآية الأُولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء، فتؤكد بأنّ الله لن يغفر لهم أبداً، ولن يرشدهم إِلى طريق الصواب: (إنّ الذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا).
إِنّ هذا السلوك الحربائي في التلون المتوالي، إمّا أن يكون نابعاً من الجهل وعدم إِدراك الأّسس الإِسلامية، وإمّا أن يكون خطّة نفّذها المنافقون والكفار المتطرفون من أهل الكتاب لزعزعة إِيمان المسلمين الحقيقيين، وقد سبق شرح هذا الموضوع في الآية (72) من سورة آل عمران.
ولا تدل الآية ـ موضوع البحث ـ على عدم قبول توبة أمثال هؤلاء، ولكنها تتناول أفراداً يموتون وهم في كفر شديد، فإِنّ هؤلاء ـ نتيجة لأعمالهم ـ لا يستحقون العفو والهداية إِلاّ إِذا غيروا اسلوبهم ذلك.
ثمّ تؤكّد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: (بشر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً).
واستخدام عبارة (بشر) في الآية إِنّما جاء من باب التهكم والإِستهزاء بالأفكار الخاوية الواهية التي يحملها هؤلاء المنافقون، أو أنّ العبارة مشتقة من المصدر «بشر» بمعنى الوجه، وفي هذه الحالة تحتمل معاني واسعة فتشمل كل خبر يؤثر في سحنة الإِنسان، سواء كان الخبر مفرحاً أو محزناً.
وقد أشارت الآية الأخيرة إِلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفار اصدقاءاً وأحباءاً لهم بدلا من المؤمنين، بقولها: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين).
ثمّ يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين، وهل أنّهم يريدون حقّاً أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية: (أيبتغون عندهم العزة) بينما العزة والشرف كلها لله (فإِنّ العزّة لله جميعاً) لأنّها تنبع من العلم والقدرة، وأن الكفار لا يمتلكون من القوّة والعلم شيئاً، ولذلك فإِنّ علمهم لا شيء أيضاً، ولا يستطيعون إِنجاز شيء لكي يصبحوا مصدراً للعزّة والشرف.
إِنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزّة
في شؤونهم الإِقتصادية والسياسية والإِجتماعية والثقافية عن طريق إِنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإِسلام، بل إنّ عليهم أن يعتمدوا في ذلك على الذات الإِلهية الطاهرة التي هي مصدر للعزة والشرف كله، وأعداء الإِسلام لا عزّة لديهم لكي يهبوها لأحد، وحتى لو امتلكوها لما أمكن الركون إِليهم والإِعتماد عليهم، لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقاً، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الإِنتهازي.
* * *
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَـتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيث غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَـفِقِينَ وَالْكَـفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً(140)
نقل عن ابن عباس أنّ نفراً من المنافقين كانوا يحضرون اجتماعات لعلماء اليهود، حيث كانوا يستهزئون بآيات القرآن في تلك الإِجتماعات، فنزلت هذه الآية وأوضحت النهاية المشؤومة لهذه اللقاءات.
لقد ورد في الآية (68) من سورة الانعام أمر صريح إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يعرض عن أُناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، وطبيعي أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحده بل يعتبر حكماً وأمراً عاماً يجب على جميع المسلمين اتّباعه، وقد جاء هذا الحكم على شكل خطاب موجه إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)،
وفلسفته جلية واضحة، لأنّه يكون بمثابة كفاح سلبي ضد مثل تلك الأعمال.
والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرّة أُخرى، وتحذر المسلمين مذكرة إياهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الإِستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إِذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره).
بعد ذلك تبيّن الآية لنا نتيجة هذا العمل، وتؤكد أن من يشارك في مجالس الإِستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير اُولئك المستهزئين، تقول الآية: (إِنّكم إِذاً مثلهم).
ثمّ تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإِن الله يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: (إِنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً).
1 ـ إِنّ المشاركة في مجالس المعصية تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية، حتى لو بقي المشارك ساكتاً أو ساكناً و لم يشارك في الإِستهزاء بنفسه، لأنّ السكوت في مثل هذه الأحوال دليلا على رضا صاحبه بالذنب المرتكب.
2 ـ لو تعذر النهي عن المنكر بالشكل الإِيجابي له، فلابدّ أن يتحقق النهي ولو بالصورة السلبية، مثل أن يبتعد الإِنسان عن مجالس المعصية ويتجنب الحضور فيها.
3 ـ إِنّ الذين يشجعون أهل المعاصي بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية، إِنّما يجازون ويعاقبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.
4 ـ لا ضير من مجالسة الكفار إِن لم يدخلوا في حديث فيه استهزاء وكفر بالآيات الإِلهية ولم تكن هذه المجالسة تحمل خطراً آخر، ويدل على إِباحة المشاركة في مجالس الكفار التي لا يعصون فيها الله قوله تعالى في الآية: (حتى يخوضوا في حديث غيره).
5 ـ إِنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إِنّما تدل على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامل، وذلك لأن المسلم الحقيقي الواقعي لا يمكنه أن يشارك في مجلس يعصى فيه الله ويستهزأ بآياته الكريمة وأحكامه السامية، دون أن يبدي إعتراضاً على هذه المعاصي، أو ـ على الأقل ـ أن عدم رضاه عليها بترك هذا المجلس.
* * *
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَـفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا(141)
تبيّن هذه الآية ـ وآيات أُخرى تالية ـ قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائماً لإِستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: (الذين يتربصون بكم فإِن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ...).
وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإِسلام فيتقربون إِلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة
بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الإِستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإِسلام تقول الآية: (وإِن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ...).(1)
وعلى هذا المنول تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى إنتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإِظهار المنّة على المسلمين، وفي حالة إِنكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار، وتدفعهم إِلى الإِصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيىء لهم أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.
ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبيّن أنّهم ـ لا محالة ـ سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك ـ أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة ـ سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة).
ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية ـ في آخرها ـ بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجالا للإِنتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
وهنا يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم إنتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنّها تشمل عدم إنتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضاً؟
ولما كانت كلمة «سبيل» نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاماً،
1 ـ إن عبارة «إستحوذ» مشتقة من «حوذ» وهي تعني هنا دفع أو ساق إِلى القيام بأمر معين.
لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإِضافة إِلى عدم إنتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والإِقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر.
وما نشاهده من إنتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إِنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا ـ في الحقيقة ـ المسلمين، المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإِيمانية، وتخلوا عن مسؤولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة، فلا كلام عن الإِتحاد والتضامن والأُخوة الإِسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي، كما لم يبادروا إِلى إكتساب العلم الذي أوجبه الإِسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إِلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة، حيث قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أُطلب العلم من المهد إِلى اللّحد».
ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.
وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظراً للعمومية الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضاً.
وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة «الفتح» بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة «النصيب» وهو إِشارة إِلى أن إنتصار الكفار إِنّما هو نصيب محدود وزائل، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.
* * *
إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ يُخَـدِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَـدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَيَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا(142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَـؤُلاَءِ وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا(143)
لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، في عبارة قصيرة، وهي: ـ
1 ـ إِنّ هؤلاء ـ لاجل تحقيق أهدافهم الدنيئة ـ يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا الله تعالى أيضاً، ولكنهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إِذ هم ـ لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة ـ يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: (إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ...).
ويستفاد التّفسير المذكور أعلاه بالواو الحالية الواردة مع عبارة: (وهو خادعهم).
هناك قصّة مشهورة مفادها أن أحد الأكابر كان ينصح أهل الحرف من
مواطنيه، بأن ينتبهوا لكي لا يخدعهم المسافرون الغرباء، فقال أحدهم: كيف يمكن للغرباء البسطاء الذين لا يعرفون شيئاً عن وضع المدينة وأهلها، أن يخدعوا أهل الحرف فيها نحن بمقدورنا خداع اُولئك الغرباء، فأجابهم بأن قصده من الإِنخداع بالغرباء هو هذا المعنى، أي أن تنالوا من هؤلاء ثروة تافهة بالخداع، وتفقدوا بذلك ثروة الإِيمان العظيمة!
2 ـ إِنّ المنافقين بعيدون عن رحمة الله، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة الله والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إِليها وهم كسالى خائرو القوى، تقول الآية في هذا الأمر: (وإِذا قاموا إِلى الصّلاة قاموا كسالى...).
3 ـ ولما كان المنافقون لا يؤمنون باللّه وبوعوده، فهم حين يقومون بأداء عبادة معينة، إِنّما يفعلون ذلك رياءاً ونفاقاً وليس من أجل مرضاة الله، تقول الآية: (يراؤن الناس ...).
4 ـ ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشيء من ذكر الله، فإِنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادرٌ وقليل، تقول الآية: (ولا يذكرون الله إِلاّ قليلا).
5 ـ إِنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة لطريقة الحياة معينة، ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إِلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: (مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء...).
ويحسن هنا الإِلتفات إِلى أنّ كلمة «مذبذب» اسم مفعول من الأصل «ذبذب» وهي تعني في الأصل صوتاً خاصاً يسمع لدى تحريك شيء معلق إِثر تصادمه بأمواج الهواء، وقد اُطلقت كلمة «مذبذب» على الإِنسان الحائر الذي يفتقر إِلى
الهدف أو إِلى أي خطّة وطريقة للحياة.
هذا واحد من أدق التعابير التي أطلقها القرآن الكريم على المنافقين، كما هي إِشارة إِلى إمكانية معرفة المنافقين عن طريق هذا التذبذب الظاهر في حركتهم ونطقهم، كما يمكن أن يفهم من هذا التعبير أن المنافقين هم كشيء معلق يتحرك بدون أي هدف وليس لحركته أي اتجاه معين، بل يحركه الهواء من أي صوب كان اتجاهه ويأخذه معه إِلى الجهة التي يتحرك فيها.
وتيبن الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم أُناس قد سلب الله عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إِلى طريق النجاة، لأنّ الله كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم.
تقول الآية الكريمة في ذلك: (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)، (وقد شرحنا معنى الإِضلال، وبيّنا كيف أنّه لا يتنافي مع حرية الإِرادة والإِنتخاب، وذلك في الجزء الأوّل من هذا التّفسير في هامش الآية (26) من سورة البقرة).
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَـفِرِينَ أَوْلِيآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـناً مُّبِيناً(144) إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَلَهُمْ نَصِيراً(145)إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(156)
لقد أشارت الآيات السابقة إِلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية ـ هذه ـ تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الإِعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين).
وتبيّن أنّ الإِعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقاً صارخاً للقانون الإِلهي وشركاً بالله، ونظراً لقانون العدل الإِلهي فإِن هذه الجريمة تستحق عقاباً شديداً، حيث تؤكد الآية: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)(1).
1 ـ إنّ كلمة «سلطان» مشتقه من مادة أو مصدر «سلاطة» على وزن «مقالة» وهي تعني القوة والقدرة على التغلب على الاخرين، وفي كلمة «سلطان» معنى لاسم المصدر حيث تطلق على كل أنواع التسلط، ولهذا السبب تطلق كلمة «سلطان» أيضاً على «السبب» الذي يسلط الإِنسان على الآخرين من أمثاله، كما تطلق على أصحاب القدرة والنفوذ، ولكنها في الآية المذكورة أعلاه إنما تعني الحجة والدليل.
وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين اصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبداً، تقول الآية: (إِنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار ولن تجد لهم نصيراً).(1)
ويتبيّن من هذه الآية أن النفاق في نظر الإِسلام أشد أنواع الكفر، وإِن المنافقين أبعد الخلق من الله، ولهذا السبب فإِن مستقرهم ومكانهم النهائي في أحط نقطة من نقاط جهنم، وهم يستحقون هذا العقاب، لأنّ ما يلحق البشرية من ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطراً من كل الأخطار، فإِنّ هؤلاء بسبب احتمائهم بظاهر الإِيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة، وبديهي أن يكون حال اعداء ـ كهؤلاء ـ يظهرون بلباس الأصدقاء، أشدّ خطراً من الأعداء المعروفين الذين يعلنون عداوتهم صراحة، وفي الواقع فإِنّ النّفاق هو اُسلوب وسلوك كل فرد ابتر ومنحط ومشبوه وجبان وملوث بكل الخبائث ومن لا شخصية له.
وقد أوضحت الآية الثّالثة من الآيات الأخيرة، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثاً للتوبة من أعمالهم وإِصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إِلى رحمة الله والتمسك بحبله والإِخلاص لله بالإِيمان به تقول الآية: (إِلاّ الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله).
1 ـ إنّ كلمة «درك» تعني أحط نقطة في أعماق البحر، ويسمى آخر حبل متصل بالحبال التي توصل الإِنسان إِلى قعر البحر، بـ «الدرك» أيضاً، ويظهر أن هذه المعاني مأخوذة من معنى «درك الشيء» أي الوصول إليه ـ كما تسمّى السلالم التي توصل الإِنسان إِلى موضع سفلى كالسرداب والبئر بـ «الدرك» وهذه العبارة تقابل السلالم التي يتسلق بها الإِنسان إِلى أعلى حيث تسمّى بالدرجات.
فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين، تقول الآية: (فاُولئك مع المؤمنين ...).
وإِنّ الله سيهب ثواباً وأجراً عظيماً لكل المؤمنين (وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً).
وممّا يلفت النظر أنّ الآية تبيّن أن هؤلاء التائبين مع المؤمنين، وذلك للتدليل على أن منزلة المؤمنين الثابتين أكبر وأعظم من منزلة هؤلاء، فالمؤمنون الراسخون في إِيمانهم هم الأصل، وهؤلاء هم الفروع، وما يظهر عليهم من نور وصفاء إِنّما هو بسبب وجودهم في ظل المؤمنين الراسخين.
وهناك أمر ثان يجب الإِنتباه إِليه في هذه الآية، وهو أنّها بيّنت مسير المنافقين بصورة واضحة وصريحة، إِذ عينت لهم أحط نقطة من الجحيم مكاناً ومستقراً، بينما شخصت للمؤمنين الأجر والثواب العظيم الذي لا حدّ له ولا حصر، بل هو منوط بعظمة الله ولطفه جلت عظمته.
* * *
مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)
لقد أظهرت وبيّنت الآيات السابقة صوراً من عقاب الكافرين والمنافقين، والآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ تشير إِلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإِلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الإِنتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوّة، كما أنّه ليس تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الأُمور إِنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبداً إِلى شيء.
إِذن فالعقاب الذي يلحق الإِنسان لما يرتكبه من معاص، إِنما هو انعكاس للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي ـ سواء كانت فعلية أو فكرية ـ ولذلك يقول الله تعالى عزّ من قائل في هذه الآية: (ما يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم).
وبالنظر إِلى أنّ حقيقة الشكر هي أن يستغل الإِنسان النعم التي وهبها الله له
في الجهات المخصصة لها في الطبيعة والخلق، يتّضح لنا أنّ القصد من الآية إِنّما هو: إِنّ من يؤمن ويعمل الخير ويستغل الهبات الإِلهية في المجالات التي خصصت لها من حيث الخلق ـ دون إِساءة هذا الإِستغلال ـ فلا شك أنّ هذا الإِنسان المؤمن لا يصيبه أي عقاب من الله، ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ الله عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه الله. فتقول الآية: (وكان الله شاكراً عليماً).
وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإِيمان لأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الإِنسان ما لم يدرك نعم الله وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إِلى معرفة الله والايمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إِنّما هي وسائل لمعرفته.
وقد ورد في كتب العقيدة الإِسلامية في بحث «وجوب معرفة الله» عن جمع من الباحثين أنّهم استدلوا على معرفة الله بوجوب شكر النعم وجعلوا من الوجوب الفطري لشكر المنعم دليلا على لزوم معرفته (فدقق).
* * *
لاَّيُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مِن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً(148) إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْتَعْفُوا عَن سُوء فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً(149)
في هذه الآية إشارتان إِلى التكاليف الأخلاقية الإِسلامية:
الأُولى: تبيّن أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذىء، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: (لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول ...).
إِن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإِساءة إِلى سمعتهم، وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إِنسان نقاط ضعف خفية، ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده، فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد، لذلك منع الإِسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم، لتبقى الأواصر الإِجتماعية قوية مستحكمة، ورعاية للجوانب الإِنسانية الأُخرى في هذا المجال.
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ كلمة «سوء» تشمل كل أنواع القبح والفضيحة، والمقصود من عبارة «الجهر ... من القول» هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي، سواء كان بصورة شكوى، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.
وقد اُستدل بهذه الآية ـ أيضاً على تحريم الغيبة، إِلاّ أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة، بل يشمل كل أنواع الكلام البذىء والمذموم.
إِلاّ أنّ الآية الكريمة لم تحرم (القول بالسوء) تحريماً مطلقاً، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إِلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إِذا وقع الإِنسان مظلوماً حين قالت الآية: (إِلاّ من ظلم) وبهذا الدليل يستطيع المظلوم ـ في مقام الدفاع عن نفسه ـ أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوىء الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.
وحقيقة هذا الإِستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إِساءة استغلال حكم المنع والتحريم، ولكي لا يكون هذا الحكم سبباً في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.
واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إِطار بيان مساوىء الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.
ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إِساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: (وكان الله سميعاً عليماً).
وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوىء التي يجب أن تكتم إِلاّ في حالة استثنائية) كما تبيح ـ أو بالأحرى تحثّ ـ الفرد على إِصدار العفو على من إرتكب السوء بحقّه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز
![]() |
![]() |
![]() |