ثانياً: أشارت الآية الواردة في سورة النساء إِلى واحد من عوامل الإِنحراف عن العدالة، بينما الآية الأخيرة أشارت إِلى عامل آخر في نفس المجال، فهناك ذكرت الآية عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبررله.

ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأُولى في جملة: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ...) لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الإِندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية، لا من دافع الحب أو الكراهية، وعلى هذا الأساس فإِنّ المصدر الحقيقي للإِنحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى، وقد جاء في كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

[626]

والإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قولهما: «امّا إتّباع الهوى فيصدّ عن الحق»(1).

* * *

العدل ركن إِسلامي مهم:

قلما نجد قضية أعطى الإِسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل، فهي وقضية التوحيد سيان في تشعب جذورهما إِلى جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبعبارة أُخرى: كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والإِجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقاً عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبداً من روح العدل.

وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحداً من أُصول العقيدة والدين، وأساساً من أُسس الفكر الإِسلامي، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادىء المعرفة الإِلهية، إِلاّ أنّه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه، ولذلك كان ما أولته البحوث الإِجتماعية في الإِسلام من الإِهتمام بالعدل والإِعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادىء الإِسلامية الأُخرى من ذلك.

ويكفي إِيراد عدد من الأحاديث والرّوايات نماذج لدرك أهمية هذه الحقيقة:

1 ـ روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِيّاكم والظلم فإِنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة»(2).

وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور،


1 ـ ورد هذا الحديث نقلا عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب سفينة البحار في مادة (هوى)، وورد في كتاب نهج البلاغة في الخطبة 42 نقلا عن علي بن أبي طالب(عليه السلام).

2 ـ سفنية البحار، مادة (ظلم).

[627]

وإِنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.

2 ـ وقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «بالعدل قامت السموات والأرض»(1).

ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل، ومعناه أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل، بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها، ووجود واستقرار كل شيء في محله منها، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.

ويؤيد هذا القول حديث آخر هو: «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» لأنّ للظلم أثراً سريعاً في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والإِضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والإِجتماعية والأخلاقية والأزمات الإِقتصادية التي تعمّ العالم اليوم، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.

ويجب الإِنتباه جيداً إِلى أنّ اهتمام الإِسلام لم ينصب في مجرد العدالة، بل إنّه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة، وطبيعي أنّ محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر، وكتابتها في الكتب، لا يجدي نفعاً في استعادة العدالة المفقودة، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري، والفساد والاجتماعي في المجتمع الإِسلامي، بل إنّ عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلّى في يوم تطبق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين.

* * *

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية التالية وتمشياً مع الأُسلوب القرآني، فأعادت إِلى الأذهان


1 ـ تفسير الصافي، في تفسير الآية 7 من سورة الرحمن.

[628]

ما أعدة الله للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة، حيث تقول الآية: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم).

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكفارين الذين يكذبون بآيات الله، فقالت: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اُولئك أصحاب الجحيم).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إِطار «وعد الله» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات الله، وما هذا إِلاّ إِشارة إِلى فضل الله ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإِنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقاً، كما أنّها إِشارة ـ أيضاً ـ إِلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبداً، بل هو نتيجة عادلة لما إرتكبه الإِنسان من أعمال سيئة في حياته.

أمّا فيما يخص معنى عبارة «أصحاب الجحيم»(1) فهي مع ما في كلمة «أصحاب» من معنى الملازمة، أي أن الكافرين والمكذبين بآيات الله يلازمون جهنم، لكن هذه الآية لوحدها لا يمكن أن تكون دليلا على مسألة «الخلود» في نار جهنم، كما جاء توضيح ذلك في تفسيري «االتبيان» و«مجمع البيان» وتفسير «الفخر الرّازي»، لأنّ الملازمة ربما تكون دائمة، وقد تستمر لفترة طويلة ثمّ تنقطع، بدلالة التعبير القرآني الوارد في شأن ركاب سفينة نوح النّبي(عليه السلام) حيث وردت فيهم عبارة «أصحاب السفينة» وهم لم يكونوا ملازمين لتلك السفينة ملازمة دائمة.

ومع انتفاء الشك حول خلود الكفار في نار جهنم، فالآية الكريمة ـ موضوع البحث ـ لم تتحدث بشيء عن هذا «الخلود» بل يستنتج هذا من آيات قرآنية أُخرى.

* * *


1 ـ إنّ كلمة جحيم تعني النار الشديدة الإِلتهاب، وقد أُطلقت في القرآن على نار جهنم كما في هذه الآية، وعلى نار الدنيا كالنار التي سعروها لحرق النّبي إِبراهيم(عليه السلام) الآية (97) من سورة الصافات.

[629]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)

التّفسير

لقد ذكرت الآيات السابقة بعضاً من النعم الإِلهية، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعاً من النعم التي أنعم الله بها عليهم، لكي يؤدوا شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادىء العدالة، فتقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم ...).

وقد دأب القرآن الكريم في كثير من آياته على تذكير المسلمين بالنعم المختلفة التي أنعم الله بها عليهم، وذلك من أجل تعزيز دافع الإِيمان لديهم، ولإِستثارة وتحفيز دافع الشكر والصمود فيهم ليقفوا بوجه المشاكل، والآية الأخيرة من سنخ تلك الآيات.

واختلف المفسّرون حول الواقعة التي تشير إِليها الآية موضوع البحث، فبعضهم قال: بأنّها إِشارة إِلى إِنقاذ المسلمين من قبيلة «بني النضير» اليهودية التي

[630]

تواطأت على قتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في المدينة.

وذهب البعض الآخر من المفسّرين على أنّها إِشارة إِلى واقعة «بطن النخل» التي حصلت في العام السادس من الهجرة النبوية في واقعة «الحديبية» حيث قرر المشركون هناك في ذلك الحين ـ بزعامة (خالد بن الوليد) ـ الهجوم على المسلمين أثناء أدائهم لصلاة العصر، فعلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المؤامرة فصلّى صلاة الخوف القصيرة، ممّا أدى إِلى إِحباط المؤامرة.

وقد ذكر مفسّرون آخرون وقائع أُخرى من حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين المليئة بالحوداث، وقالوا بأنّ هذه الآية إِشارة لتلك الوقائع.

ويرى مفسّرون آخرون أن هذه الآية إِشارة إِلى كل الوقائع والأحداث التي حصلت طيلة التاريخ الإِسلامي حتى ذلك الوقت.

ولو تغاضينا عن كلمة «قوم» الواردة في هذه الآية بصيغة النكرة التي تدل على وحدة المجموعة المعنية، فإِنّ هذا التّفسير يمكن اعتباره من أحسن التفاسير في هذا المجال.

والآية على كل حال تلفت إنتباه المسلمين إِلى الأخطار التي تعرضوا لها، وكان يحتمل أن تدفع بالوجود الإِسلامي إِلى الفناء والزوال وإِلى الأبد، ولكن فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإِسلام والمسلمين من تلك الأخطار.

كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إِلى ضرورة إلتزام التقوى والإِعتماد على الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة، وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

وواضح أنّ التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الإِستسلام لحوادث الزمان، بل يعني أنّ الإِنسان حين يستخدم طاقاته والإِمكانيات المتوفرة لديه، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إِلى أنّ هذه

[631]

الطاقات والإِمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى، وإِذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند الإِنسان أوّلا، ومن ثمّ لا يدع إِلى نفسه طريقاً للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنّه يعلم بأنّ سنده وحاميه هو الله الذي فاقت قدرته كل القدرات.

إِضافة إِلى ما ذكر، فإِنّ تقديم الأمر بالتقوى على قضية التوكل يستشف منه أنّ حماية الله ورعايته تشمل حال المتقين.

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ عبارة «التقوى» المشتقة من المصدر «وقاية» معناها حماية النفس وإِبعادها عن عناصر السوء والفساد.

* * *

[632]

الآية

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَـقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لاَُّكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّأَتِكُمْ وَلاَُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَْلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ظَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ(12)

التّفسير

لقد أشارت هذه الآية أوّلا إِلى قضية الوفاء بالعهد، وقد تكررت هذه الإِشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، وربّما كانت إِحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه، هي إِعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة.

والآية في بدايتها تشير إِلى العهد الذي أخذه الله من بني إِسرائيل على أن يعملوا بأحكامه، وإرسالة إِليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعمياً وقائداً ليكون كل واحد منهم زعيماً لطائفة واحدة من طوائف بني إِسرائيل الإِثنتي عشر ـ حيث تقول الآية الكريمة: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إِسرائيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيباً).

[633]

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليماً بأسرار قومه، وكأنّه قد صنع ثقباً كبيراً يطلع من خلاله على أسرارهم، كما تطلق كلمة نقيب أحياناً على الشخص الذي يكون بمثابة المعرف للجماعة، وحين تطلق كلمة «مناقب» على الفضائل والمآثر، يكون ذلك لأنّ الفضائل لا تعرف إِلاّ عن طريق البحث والتنقيب في آثار الشخص.

وذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ كلمة «نقيب» الواردة في الآية موضوع البحث إِنما تعني ـ فقط ـ العارف بالأسرار، لكننا نستبعد هذا الأمر استناداً لما يدلنا عليه التاريخ والحديث وهو أن نقباء بني إِسرائيل هم زعماء الطوائف الإِسرائيلية، جاء في تفسير «روح المعاني» عن ابن عباس قوله:

«إِنّهم كانوا وزراء ثمّ صاروا أنبياء بعد ذلك». أي أنّهم كانوا وزراء للنّبي موسى(عليه السلام) ثمّ نالوا منزلة النّبوة بعده(1).

ونقرأ في أحوال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حين قدم أهل المدينة في ليلة العقبة لدعوته(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منطقة العقبة، أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل المدينة لينتخبوا من بينهم اثني عشر نقيباً على عدد نقباء بني إِسرائيل، وبديهي أنّ مهمّة هؤلاء كانت زعامة قومهم وليس فقط إِخبار النّبي بتقارير عن أوضاعهم(2).

لقد وردت روايات عديدة من طرق السنة، وهي تلفت الإِنتباه ـ لما فيها من إِشارة إِلى خلفاء النّبي الأئمّة الإِثني عشر(عليهم السلام) وبيان أن عددهم يساوي عدد نقباء بني إِسرائيل ـ ننقل هنا قسماً من هذه الروايات:

1 ـ ينقل «أحمد بن حنبل» ـ وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة، عن «مسروق» أنّه


1 ـ تفسير روح المعاني، ج 6، ص 78.

2 ـ سفينة البحار، في مادة «نقيب».

[634]

سأل عبد الله بن مسعود: كم عدد الذين سيحكمون هذه الأُمّة؟ فرد ابن مسعود قائلا: «لقد سألنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «اثني عشر كعدّة نقباء بني إِسرائيل»(1).

2 ـ وجاء في تاريخ «ابن عساكر» نقلا عن ابن مسعود، أنّهم سألوا النّبي عن عدد الخلفاء الذين سيحكمون هذه الأُمّة، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّ عدّة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى»(2).

3 ـ وورد في «منتخب كنز العمال» عن جابر بن سمرة قوله «سيحكم هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إِسرائيل»(3).

وجاء مثل هذا الحديث أيضاً في كتاب (ينابيع المودة) في الصفحة 445 وكذلك في كتاب (البداية والنهاية)، ج 6 في الصفحة 247 أيضاً.

* * *

وتشير الآية بعد ذلك إِلى وعد الله لبني إِسرائيل حيث تقول: (وقال الله إِنّي معكم).

وإِنّ هذا الوعد سيتحقق إِذا التزم بنوإِسرائيل بالشروط التالية:

1 ـ أن يلتزموا بإِقامة الصّلاة كما تقول الآية: (لئن أقمتم الصّلاة).

2 ـ وأن يدفعوا زكاة أموالهم: (وآتيتم الزكاة).

3 ـ أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل، حيث تقول الآية (وآمنتم برسلي وعزرتموهم)(4).


1 ـ مسند أحمد، ص 398، طبعة مصر، سنة 1313.

2 ـ كتاب فيض القدير في شرح الجامع الصغير، ج 2، ص 459.

3 ـ منتخب كنز العمال في حاشية مسند أحمد، ج 5، ص 312.

4 ـ إنّ عبارة «عزرتموهم» مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون، أمّا حين تسمى بعض العقوبات الإِسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون في الحقيقة عوناً للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب، وهذا دليل على أنّ العقوبات الإِسلامية لا تتسم بطابع الإِنتقام بل تحمل طابعاً تربوياً لذلك سمّيت بالتعزير.

[635]

4 ـ وبالإِضافة إِلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، أن لا يمتنع بنوإِسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإِنفاق المستحب التي تعتبر نوعاً من معاملات القرض الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية: (وأقرضتم الله قرضاً حسناً).

ثمّ أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى: (لأكفّرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنّكم جنّات تجري من تحتها الأنهار).

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل).

لقد أوضحنا في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا لماذا اصطلح القرآن المجيد على الإِنفاق، أنّه قرض لله سبحانه؟

ويبقى في هذا المجال ـ أيضاً ـ سؤال أخير وهو لماذا تقدمت مسألتا الصّلاة والزكاة على الإِيمان بموسى(عليه السلام)، في حين أنّ الإِيمان يجب أن يسبق العمل؟

ويجيب بعض المفسّرين على هذا السؤال بقولهم: إِن المراد بعبارة «الرسل» الواردة في الآية هم الأنبياء الذين جاءوا بعد النّبي موسى(عليه السلام) وليس موسى نفسه، لذلك فإِن الأمر الوارد هنا بخصوص الإِيمان بالرسل يحمل على أنّه أمرّ لمّا يستقبل من الزمان، فلا يتعارض لذلك وروده بعد الأمر بالصّلاة والزكاة، كما يحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون المراد بعبارة «الرسل» هم «نقباء» بني إِسرائيل حيث أخذ الله الميثاق من بني إِسرائيل بأن يكونوا أولياء معهم، (ونقرأ في تفسير «مجمع البيان» أنّ بعضاً من المفسّرين القدماء، احتملوا أن يكون نقباء بني إِسرائيل رسلا من قبل الله، ويؤيد هذا الإِحتمال الرأي الأخير الذي ذهبنا إِليه).

* * *

[636]

الآية

فَبَِما نَقْضِهِم مِّيثَـقَهُمْ لَعَنَّـهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَـسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِّمَآ ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَة مِّنْهُم إِلاَّ قَلِيلا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ(13)

التّفسير

إِنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إِلى نقض بني إِسرائيل للعهد الذي أخذه الله عليهم والذي ذكرته الآية السابقة.

كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجلعنا قلوبهم قاسية)(1).

والحقيقة هي أن هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم، فقد حرموا من رحمة الله، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.


1 ـ إنّ كلمة «لعن» تعني في اللغة «الطرد والإِبعاد» وحين ينسب اللعن إِلى الله فإِنه يعني الحرمان من رحمته، أمّا كلمة «قاسية» فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد، ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

[637]

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول: (يحرفون الكلم عن مواضعه ...)و(ونسوا حظاً مما ذكروا به ...).

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبيّ الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) والتي أُشير إِليها في آيات قرآنية أُخرى، جزءاً من الأُمور التي نسيها بنوإِسرائيل ـ كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إِشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية، وإِنّ ما وصل إِلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءاً من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسى(عليه السلام).

ثمّ تتطرق الآية إِلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود ـ بصورة عامّة ـ إِلاّ ما ندر منهم، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة وأُخرى، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (ولا تزال تطلع على خائنة(1) منهم إِلاّ قليلا منهم ...).

وفي الختام تطلب الآية من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم، مؤكّدة أنّ الله يحب المحسنين، وذلك في قوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح إِنَّ الله يحب المحسنين).

ولنرى هل أنّ المراد في الآية أن يعفو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأخطاء السابقة للأقلية الصالحة من اليهود، أم أنّ المراد هو العفو عن الأغلبية الطالحة منهم؟

إِنّ ظاهر الآية يدعم ويؤيّد الإِحتمال الثّاني، لأنّ الأقلية الصالحة لم ترتكب ذنباً أو خيانة لكي يطلب من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العفو عنهم ـ والظن الغالب هو أنّ العفو


1 ـ إنّ كلمة «خائنة» مع كونها اسماً للفاعل، فهي في هذه الآية تكون بمعنى المصدر وتطابق كلمة الخيانة ... وقد جرت عادة العرب على استخدام مثل هذه الإِستعمالات في أشعارهم حيث جاؤوا باسم الفاعل وعنوا به المصدر في كلمات مثل «العافية» والخاطية» وقد احتملوا أيضاً أنّ تكون كلمة «خائنة» صفة للطائفة.

[638]

والصفح المطلوبان في الآية يشملان ـ فقط ـ تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادىء الإِسلامية، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

الممارسات التّحريفية لليهود:

إِنّ ما يستشف من مجموع الآيات الواردة في القرآن الكريم بخصوص الممارسات التحريفية لليهود، هو أنّهم كانوا يمارسون أنواع التحريف في الكتب السماوية الخاصّة بهم.

وكان تحريفهم يتخذ أحياناً طابعاً معنوياً، أي أنّهم كانوا يفسّرون العبارات الواردة في تلك الكتب بشكل يناقض المعنى الحقيقي لها، فهم كانوا يحفظون الألفاظ كما هي لكنهم كانوا يغيرون معانيها وهو (التحريف المعنوى)، وكانوا ـ أيضاً ـ يقومون بتحريف الألفاظ في بعض الأحيان، فهم بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» كانوا يقولون «سمعنا وعصينا» كما كانوا أحياناً يخفون بعض الآيات الإِلهية، فما كان يطابق أهواءهم أظهروه، وأخفوا الآيات التي لم تكن لتتلاءم مع ميولهم ورغباتهم وهو «التحريف اللفظي»، وقد وصلت بهم الوقاحة إِلى حد أنّهم مع موجود الكتاب السماوي بين أيديهم كانوا يخادعون الناس بوضع أيديهم على الحقائق الواردة فيها، لكي لا يستطيع الناظر قراءتها.

وستأتي تفاصيل هذا الموضوع لدى تفسير الآية (41) من نفس هذه السورة في قصّة «ابن صوريا».

هل يجعل الله قلب الإِنسان قاسياً؟

نقرأ في الآية ـ موضوع البحث ـ إِنّ الله ينسب لنفسه فعل جعل القسوة في

[639]

قلوب مجموعة من اليهود! والذي نعرفه هو أنّ هذه القسوة ما هي إلاّ نتيجة لإِرتكاب الذنوب والإِنحرافات، فكيف إِذن ينسب الله فعل جعل القسوة في قلوب اُولئك اليهود إِلى نفسه؟ ولو كان هذا الفعل من الله، فكيف يكون اُولئك الأشخاص مسؤولين عن أعمالهم، ألا يعتبر هذا نوعاً من الجبر؟

ولدى الإِمعان بدقة في الآيات القرآنية المختلفة، ومنها الآية موضوع البحث، يتبيّن لنا أنّ الأشخاص إِنما يحرمون ـ بسبب اخطائهم وذنوبهم ـ من لطف الله ورحمته وهدايته، وأن أعمالهم هذه في الحقيقة مصدر لمجموعة من الإِنحرافات الفكرية والأخلاقية، بحيث يستحيل على الإِنسان ـ أحياناً ـ أن يجنب نفسه عواقبها ونتائجها.

وبما أنّ العلل ـ أو الأسباب ـ تعطي آثارها بإِذن الله، لذلك نسب مثل هذه الآثار في القرآن الكريم إِلى الله، ففي الآية موضوع البحث نقرأ أنّ اليهود ـ نتيجة لنقضهم الميثاق ـ (جعل الله قلوبهم قاسية)، كما نقرأ في الآية (27) من سورة إِبراهيم قوله تعالى (ويضل الله الظالمين) وفي الآية (77) من سورة التوبة نقرأ قوله سبحانه: (فاعقبهم نفاقاً في قلوبهم إِلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).

وواضح أنّ هذه الآثار السيئة تنبع من عمل الإِنسان نفسه، ولا تناقض في هذا الأمر حرية الإِرادة والإِختيار، لأنّ مقدمات تلك الآثار تكون من عمل الإِنسان وتصدر عنه بعلمه واختياره، ولأنّ آثار عمله هي النتيجة الحتمية للعمل نفسه، وعلى سبيل المثال لو أنّ إِنساناً تناول شيئاً من المشروبات الكحولية، وحصلت لديه حالة من السكر، فقام على أثر هذه الحالة بارتكاب جريمة معينة، فهو وإِن كان لا يمتلك إِرادته في حالة السكر، إِلاّ أنّه قبل ذلك أقدم على شرب الخمرة مختاراً ومدركاً لما يفعل، وبذلك هيّأ بنفسه مقدمات العمل الجنائي، وهو يعمل احتمال صدور هذا العمل منه في حالة السكر، ولذلك فهو مسؤول عن هذا

[640]

العمل، فلو قيل في مثل هذه الحالة: إِنّ شخصاً قد شرب الخمرة فسلبنا منه عقله، فتورط نتيجة عمله في ارتكاب جريمة، فهل في هذا القول أي تناقض أو هل يستشف منه مفهوم الجبر؟

وخلاصة القول فإِنّ كل أنواع الهداية والضلال وأمثالها التي تنسب في القرآن الكريم إلى الله سبحانه، إِنّما تحصل بشكل حتمي كنتيجة للمقدمات والأعمال التي تصدر من الإِنسان نفسه، وعلى أثرها يستحق إمّا الهداية أو الضلال، وفي غير ذلك فإِنّ العدل والحكمة الإِلهيين، لا يسمحان مطلقاً أن يساق إِنسان إِلى طريق الهداية دون أي مبرر، أو أن يساق آخر إِلى طريق الضلال دون وجود سبب لذلك(1).

* * *


1 ـ لقد وردت تفاصيل أُخرى في هذا المجال ـ أيضاً ـ في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

[641]

الآية

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـرَى أَخَذْنَا مِيثَـقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)

التّفسير

العداء الأبدي:

لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إِسرائيل للعهد الذي أخذه الله منهم، أمّا الآية الأخيرة ـ هذه ـ فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسماً من أوامر الله التي كلّفوا بها ـ فتقول الآية في هذا المجال: (ومن الذين قالوا إِنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكروا به) فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى ـ أيضاً ـ كانوا قد عقدوا مع الله عهداً على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام الله، وأن لا يكتموا علائم خاتم النّبيين(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنّهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود مع فارق واحد، وهو أنّ القرآن الكريم يصرّح بالنسبة لليهود بأنّ القليل منهم كانوا من الصالحين، بينما يذكر القرآن بأنّ مجموعة من النصارى اختارت طريق الإِنحراف، حيث يفهم من هذه التعبير أنّ المنحرفين من اليهود كانوا أكثر من المنحرفين من

[642]

النصارى.

إِنّ تاريخ تدوين الأناجيل المتداولة يدل على أنّها كتبت بعد المسيح(عليه السلام)بسنين طويلة وبأيدي بعض المسيحيين، وهذا هو دليل وجود الكثير من التناقض الصريح فيها، ويدلنا هذا ـ أيضاً ـ على أنّ كتبة الأناجيل قد نسوا ـ بصورة تامّة ـ أجزاء غير قليلة من الإِنجيل الأصلي، ووجود اخرافات في الأناجيل المتداولة من قبيل قصة صنع المسيح(عليه السلام) للخمرة(1) الأمر الذي يرفضه العقل ويتنافى حتى مع بعض آيات التوراة والإِنجيل المتداولين، وكذلك قصّة مريم المجدلية(2) وغيرها من القصص، كلها دليل على ذلك التناقض.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني، فقد وردت تفاسير مختلفة حولها، ومنها أن المسيح قد تربى في صباه ببلدة الناصرة، وقيل ـ أيضاً ـ أنّ هذه الكلمة هي نسبة إِلى نصران، وهي قرية يوليها المسيحيون احتراماً خاصاً، ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون وجه التسمية ناشئاً عن قول المسيح(عليه السلام) كما تحكيه الآية عنه إِذ تقول: (كما قال عيسى بن مريم للحواريين من انصاري إِلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله)(3) فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيح(عليه السلام) يقول القرآن في هذه الآية: (ومن الذين قالوا إِنّا نصارى ...) وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الإِدعاء الكاذب، وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة، كما تقول الآية: (فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إِلى يوم القيامة).


1 ـ إنجيل يوحنا، الإِصحاح 2، الآيات 2 ـ 12.

2 ـ إنجيل لوقا، الإِصحاح 7، الآيات 36 ـ 47.

3 ـ يوسف، 14.

[643]

كما ذكرت الآية نوعاً آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها باعينهم حيث تقول الآية: (سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون).

وتجدر الإِشارة هنا إِلى عدّة أُمور، هي:

1 ـ إِنّ عبارة «اغرينا» مشتقة من المصدر «إِغراء» وتعني الصاق شيء بشيء آخر، كما تعني الترغيب أو حمل الشخص على القيام بعمل معين، بحيث يدفع الشخص إِلى الإِرتباط بأهداف معينة.

وعلى هذا الأساس يكون مفهوم الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن نقض النصارى لعهدهم وارتكابهم المعاصي أديا إِلى أن تنتشر العداوة فيما بينهم ويعمهم النفاق والخلاف، (والمعلوم أن آثار الأسباب التكوينية والطبيعية تنسب إِلى الله) وما نراه اليوم من صراعات كثيرة بين الدول المسيحية، كانت في يوم ما سبباً لإِندلاع الحربين العالميتين، وهي كذلك سبب للتكتلات المقترنة بالعدالة والبغضاء المستمرة فيما بينهم، أضف إِلى ذلك الخلافات المذهبية الكثيرة التي تسود بين الطوائف المسيحية التي مازالت سبباً لإِستمرار الصراع والإِقتتال فيما بينهم.

وقد ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ المراد من استمرار العداوة، هو العداوة والبغضاء الموجودة بين اليهود والنصارى واستمرارها حتى فناء العالم، ولكن الملاحظ من ظاهر الآية هو استمرار العداوة بين المسيحيين أنفسهم(1).

وغني عن البيان أنّ مثل هذه العاقبة لا تقتصر على المسيحيين وحدهم، فلو أن المسلمين ساروا في نفس هذا الطريق فإِن مصيرهم سيكون مشابهاً لمصير المسيحيين أيضاً.

2 ـ إِنّ كلمة «العداوة» مشتقة من المصدر «عدو» وهي بمعنى التجاوز


1 ـ وعلى هذا الأساس فإن الضمير في كلمة «بينهم» تعود إِلى كلمة «النصارى» المذكورة في بداية الآية.

[644]

والإِنتهاك، أمّا كلمة «البغضاء» المشتقة من المصدر «بغض» فهي تعني النفور والإِستياء الشديد من شيء معين، ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين المذكورتين هو أنّ لكلمة «بغض» طابع وجداني أكثر ممّا هو عملي، كما في كلمة «العداوة» التي لها طابع عملي، وقد يكون لكلمة «بعض» أو «بغضاء» مفهوم أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني.

3 ـ يستدل من الآية هذه على أنّ النصارى كطائفة دينية (أو اليهود والنصارى معاً) سيكون لهم وجود في هذه الدنيا حتى يوم القيامة، وقد يقول معترض في هذا المجال: أنّ الأخبار الإِسلامية تفيد بأن ديناً واحداً سيعم العالم كله بعد ظهور المهدي (عج) ولن تكون هناك أديان أُخرى غيرهذا الدين الذي هو الإِسلام الحنيف، فكيف إِذن يمكن الجمع والتوفيق ورفع هذا التناقض الظاهر؟

والجواب هو أنّه يحتمل أن يبقى من المسيحية واليهودية حتى بعد ظهور المهدي(عج) شيء ضئيل على شكل أقلية ضعيفة جداً، لأن ما نعلمه هو بقاء حرّية الإرادة للبشر حتى في عصر المهدي(عج) وإنّ الدين الإسلامي في ذلك العصر لا يأخذ طابعاً إِجبارياً، مع أن الأغلبية العظمى من البشر ستتبع طريق الحق وتميل إِليه، والأهم من هذا كله فإِن الحكم في الأرض سيكون للإِسلام وحده.