![]() |
![]() |
![]() |
2 ـ «وصابروا» وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والإِستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.
وعلى هذا فإِن القرآن يوصي المؤمنين أوّلا بالصبر والإِستقامة (التي تشمل
كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثمّ يوصي ثانياً بالصبر والثبات والإِستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أن الأُمّة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إِصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل انتصارها على الأعداء، وهذا يعني أن أكثر هزائمها أمام أعدائها إِنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.
كما وأنّه يستفاد من هذا التعليم «صابروا» أن على المسلمين أن يضاعفوا من صبرهم ومن ثباتهم كلما ضاعف العدو من صبره وثباته ومقاومته وعناده.
3 ـ «ورابطوا» وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شيء في مكان (كربط الخيل في مكان)، ولهذا يقال لمنزل المسافرين «الرباط»، ويقال أيضاً ربط على قلبه بمعنى أنّه أعطاه السكينة، وملأه بالطمأنينة وكأن قلبه انشد إِلى مكان، وارتكز على ركن وثيق، و«المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأن فيها يربط الجنود أفراسهم.
وهذه العبارة أمر صريح إِلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإِسلامية وحدودها حتى لا يفاجأوا بهجمات العدوّ المباغتة، كما أنّه حثّ على التأهب الكامل لمواجهة الشيطان، والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرّة وغفلة، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإِمام علي(عليه السلام) تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على الدّوام.
وخلاصة القول: إِن للمرابطة معنىً وسيعاً يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع.
ثمّ إنّ هناك في الفقه الإِسلامي باباً خاصّاً ـ في كتاب الجهاد ـ تحت عنوان «المرابطة» بمعنى الإِستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها وحفظها أمام حملات الأعداء الإِحتمالية، وقد ذكرت لها أحكام خاصّة يقف عليها كل من راجع الكتب الفقهية.
هذا وقد أطلق على العلماء ـ كما في بعض الأحاديث ـ صفة المرابط، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام):
«علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إِبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إِبليس...»(1).وتعتبر نهاية هذا الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود والقادة الذين يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإِسلام. وما ذلك إِلاّ أن العلماء حماة الدين وحرّاسه والأمناء المدافعون عن القيم الإِسلامية، والجنود حماة الثغور الجغرافية، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأُمّة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء، ولم تستطع الذّب عنها بنجاح، فإِنّها سرعان ما تصبيها الهزائم العسكرية والسياسية أيضاً.
4 ـ (واتّقوا الله) وهذا بالتالي آخر التعاليم والأوامر في هذا البرنامج، وهو بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى، ولابدّ للإِستقامة والمصابرة والمرابطة من أن تمتزج بعنصر التقوى، ولا يشوبها شيء من أنانية أو رياء أو أغراض شخصية.
(لعلّكم تفلحون) وهكذا تختم الآية هذا البرنامح بذكر النّتيجة التي تنتظر كلّ من يطبق هذا البرنامج، إِنه الفلاح والنجاح الذي يمكنكم الوصول إِليه عبر الأخذ بهذه التعاليم والأوامر، وإلاّ فلن تحصلوا على شيء من النجاح والإِنتصار.
1 ـ الإِحتجاج للطبرسي، الفصل الأول.
سؤال:
هناك سؤال يطرح نفسه وهو: لماذا تبدأ بعض العبارات والجمل القرآنية بلفظة «لعل» مثل قوله تعالى (لعلّكم تفلحون)، و(لعلّكم تتقون)، و(لعلّكم ترحمون) وهي كما نعلم تفيد الترديد الذي لا يليق بالله سبحانه العالم بكل شيء.
وقد صارت هذه المسألة ذريعة بأيدي بعض أعداء الإِسلام الذين انطلقوا يقولون: إِن الإِسلام لا يعطي وعوداً قطعية بالثواب، فوعوده مرددة غير مجزوم بها، لأنها تبدأ ـ في أغلبها ـ بلعلّ.
الجواب:
من حسن الإِتفاق أن هذا النمط من التعبير يشكّل جانباً من عظمة هذا الكتاب العزيز، وواقعيته في النظرة إِلى الأُمور وفي بيانها، ذلك لأن القرآن استخدم هذه اللفظة في كل مقام يتوقف الإِستنتاج فيه على شرائط ومقدمات قد أشار إِليها ولوح بها إِجمالا بلفظة «لعل».
فالسكوت عند الإِستماع إِلى القرآن والإِنتباه والتوجه إِلى ألفاظ الآيات القرآنية مثلا لا يكفي ـ بمجرده ـ لإِحراز الرحمة الإِلهية، بل لابدّ من فهم الآيات ودرك معانيها، ومقاصدها، وتطبيق توصياتها، وتعاليمها وأوامرها ونواهيها، ولهذا يعلق سبحانه شمول الرحمة بقوله: (وإِذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم ترحمون)(1).
وعلى هذا الأساس لو كان القرآن يقول أنكم سترحمون حتماً كان بعيداً عن الواقعية، لأنّ لتحقق هذا الموضوع كما قلنا شرائط أُخرى أيضاً، فيكون التعبير الجازم تجاهلا لهذه الشرائط، ولكنّه إِذا قال «لعلّكم» فإِنّه يكون قد أخذ تلك الشرائط بنظر الإِعتبار وحسب لها حسابها.
بيد أن عدم الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة جرّ البعض إِلى الإعتراض على مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية إِلى درجة أن بعض علمائنا ـ أيضاً ـ ذهب إِلى
1 ـ الأعراف، 204.
القول بأن «لعل» ليست مستعملة في مثل هذه الموارد في معناها الحقيقي، وهذا كما ترى خلاف للظاهر دونما دليل.
وفي المقام نجد الآية الحاضرة مع أنها أشارت إِلى أربع نقاط من أهم التعاليم الإِسلامية، ولكن حتى لا يغفل المسلمون عن بقية البرامج والتعاليم الإِسلامية البناءة استخدمت كلمة «لعل» للإِيذان بأن هناك أيضاً من الظروف والشرائط ما له دخل في تحقق هذه الرحمة ينبغي أن تؤخذ بعين الإِعتبار.
وعلى كلّ حال لو أن المسلمين اليوم جعلوا الآية الحاضرة شعارهم ومنهجهم في حياتهم اليومية وطبقوا مفادها لإنحل الكثير من مشاكلهم التي يعانون منها الآن بشدّة.
إِن الضربات الموجعة التي يتلقاها الإِسلام والمسلمون اليوم ليست ـ في الحقيقة ـ إِلاّ بسبب تجاهل هذه التوصيات الإِسلامية الأربع أو تناسيها كلّها أو بعضها.
ولو أنّ المسلمين أعادوا إِلى نفوسهم روح الثبات والإِستقامة، ولو أنّهم ضاعفوا جهودهم في مقابل مضاعفة الأعداء لجهودهم، ولو أنّهم ـ حسب ما في هذه الآية ـ شددوا من مراقبتهم للثغور الجغرافية والفكرية والإِعتقادية وحافظوا على حالة الإِستعداد والتأهب الدائمة لمواجهة أي خطر داهم، أو أي عدوّ مباغت، ولو أنّهم ـ فوق كل هذا ـ تسلحوا بسلاح التقوى والورع، أفراداً وجماعات، وطهروا بيئاتهم من أدران الفساد لضمنوا النصر والظفر.
رباه، وفقنا جميعاً للأخذ بتعاليم كتابك السماوي العزيز في حياتنا، وجد علينا برحمتك الواسعة، ومنَّ علينا بلطفك، آمين يا أرحم الراحمين ويا ربّ العالمين.
* * *
مَدنيّة
وعَدَدُ آياتِهَا
مَائَة وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ آية
قبل الخوض في تفسير آيات هذه السورة يلزم أن نذكر للقارىء الكريم بعدّة نقاط هي:
كل آيات هذه السورة (باستثناء الآية 58 حسب نقل بعض المفسرين) نزلت في المدينة المنورة، وتقع من حيث ترتيب النّزول بعد سورة الممتحنة، لأنّ التّرتيب الفعلي للسّور القرآنية ـ كما نعلم ـ لا يطابق ترتيبها في النزول، بمعنى أن كثيراً من السّور التي نزلت في مكّة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن الكريم، وكثيراً من السّور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.
على أنّنا قد نوهنا في بداية المجلد الأوّل من هذه المجموعة التّفسيرية، بأنّ ثمّة دلائل تؤكد أن جمع السّور القرآنية على الشكل الفعلي قد تمّ في زمن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه، وعلى هذا الأساس يكون النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بأن ترتب السّور على النحو الموجود الآن (بأن يكون أوّلها الحمد وآخرها النّاس) لأسباب مختلفة منها أهمية المواضيع التي تضمنتها السور، والترتيب الطبيعي لهذه السور بدون أن يكون قد تغيّر من هذا الترتيب أو زيد أو نقص في الحروف والآيات والسور.
إنّ هذه السّورة تعتبر من حيث عدد الكلمات والأحرف ـ أطول السور بعد
سورة البقرة، وتحتوي على (176) آية، وتسمّى بسورة النساء نظراً لتضمنها أبحاثاً كثيرة وحديثاً مفصلا حول أحكام «المرأة» وحقوقها.
هذه السّورة ـ كما قلنا ـ نزلت في المدينة، بمعنى أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان مقبلا على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إِنساني قويم، نزلت هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع، وإِيجاد البيئة الإِجتماعية الصالحة النقية.
ومن ناحية أذخرى فإنّ أكثر أفراد هذا المجتمع الجديد كانوا قبل ذلك من الوثنيين بما فيهم من لوثات الجاهلية وانحرافاتها ورواسبها، لذلك يتعين قبل أي شيء تطهير عقولهم، وتزكية أرواحهم ونفوسهم من تلك الرّواسب، وإِحلال القوانين والبرامج اللازمة لإِعادة بناء المجتمع محل تلك العادات والتقاليد الجاهلية الفاسدة.
وعلى العموم فإِن المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السّورة هي عبارة عن:
1 ـ الدّعوة إِلى الإِيمان والعدالة، وقطع العلاقات الودّية بالأعداء الألداء، والخصوم المعاندين.
2 ـ ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات غير الصالحة.
3 ـ العناية بالمحتاجين إِلى الحماية مثل الأيتام، وبيان التعاليم اللازمة لصيانة حقوقهم.
4 ـ قانون الإِرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل في قبال الكيفية القبيحة التي كان عليها وضع التوريث في ذلك الزمان، حيث كان يحرم الضعفاء بحجج واهية، وأعذار غير وجيهة.
5 ـ القوانين المتعلقة بالزّواج والبرامج التي تصون العفاف العام.
6 ـ القوانين العامّة لحفظ الأموال العامّة.
7 ـ حفظ وتحسين حالة الوحدة الأساسية للمجتمع، أي العائلة.
8 ـ الحقوق والواجبات الفردية المتقابلة في المجتمع.
9 ـ التعريف بأعداء المجتمع الإِسلامي وتحذير المسلمين منهم.
10 ـ الحكومة الإِسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.
11 ـ حثّ المسلمين على مجابهة الأعداء وجهادهم.
12 ـ الكشف عن الأعداء والخصوم الذين قد يتوسلون بالعمل السري.
13 ـ أهمية الهجرة ووجوبها عند مواجهة مجتمع فاسد غير قابل للتأثير فيه وتغييره.
14 ـ البحث مجدداً عن الإِرث ونظام التوريث، وضرورة تقسيم الثروات المكدسة بين الوارثين.
عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كما في رواية أنّه قال: «من قرأها (أي سورة النساء) فكأنّما تصدق على كلّ مؤمن ورث ميراثاً، وأُعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً»(1).
ومن البيّن أنّ المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة، بل تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإِدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق تعاليم هذه السّورة في الحياة الفردية والإِجتماعية.
ومن المسلم أن المسلمين لو استلهموا من مفاهيم هذه السورة في حياتهم لنالوا كل هذا الأجر مضافاً إِلى النتائج الدنيوية.
* * *
1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 1.
يَـأيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً(1)
(يا أيّها النّاس) الخطاب في الآية الأُولى من هذه السّورة موجه إِلى كافة أفراد البشر، لأنّ محتويات هذه السورة ـ هي في الحقيقة ـ نفس الأُمور التي يحتاج إِليها كل أفراد البشر في حياتهم.
ثمّ إِنّ الآية تدعو إِلى التقوى باعتبارها أساساً لأيّ برنامج إِصلاحي للمجتمع، فاداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة، وحماية الأيتام، ورعاية الحقوق العائلية، وما شابه ذلك كلها من الأُمور التي لا تتحقق بدون التقوى، ولهذا تفتتح هذه السورة ـ التي تحتوي على جميع هذه الأُمور ـ بالدعوة إِلى التزام التقوى: (اتّقوا ربّكم).
وللتعريف بالله الذي يراقب كلّ أعمال الإِنسان وتصرفاته أُشير في الآية إِلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساساً للوحدة الإِجتماعية في عالم البشر: (الذي
خلقكم من نفس واحدة).
وعلى هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري، واللغوي، والمحلي، والعشائري وما شابه ذلك ممّا يسبب في عالمنا الرّاهن آلافاً من المشاكل في المجتمعات. ولا مجال لهذه الأُمور وما يترتب عليها من الأمجاد الكاذبة والتفوق الموهوم في المجتمع الإِسلامي، لأنّ كافة البشر على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأقطارهم يرجعون إِلى أب واحد وأُمّ واحدة.
وتتّضح أهمية مكافحة هذا الأمر ـ أكثر فأكثر ـ إِذا لاحظنا أنّ ذلك قد تمّ في زمن كان يعاني بقايا ورواسب نظام قبلي وعشائري ظالم، ونعني عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا وقد ورد نظير هذا التعبير في موارد أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، وسنشير إِلى كل ذلك في موضعه.
والآن يجب أن نرى من هو المقصود من «نفس واحدة»؟
هل المراد من «نفس واحدة» هو شخص معين، أو أنه واحد نوعي (أي جنس المذكر)؟
لا شك أنّ ظاهر هذا التعبير هو الشخص المعين، والواحد الشخصي، وهو إشارة إِلى أوّل إِنسان قد سمّاه القرآن الكريم بـ «آدم» ويعتبره أبا البشر.
كما وقد عبر عن البشر ببني آدم في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
فاحتمال أن يكون المراد من نفس واحدة هو الواحد النوعي بعيد عن ظاهر الآية جدّاً.
ثمّ أنّ قوله تعالى: (وخلق منها زوجها) قد فهم منها بعض المفسرين أن «حواء» قد خلقت من جسم آدم واستشهدوا لذلك بروايات وأحاديث غير معتبرة تقول: إنّ حواء خلقت من أضلاع آدم (وهو أمر قد صرّح به في سفر التكوين من التوراة أيضاً).
لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنية يرتفع كلّ إِبهام حول تفسير هذه الآية، ويتضح أن المراد منها هو أن الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر) ففي الآية (21) من سورة الروم نقرأ (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إِليها) كما نقرأ: في الآية (72) من سورة النّحل (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً).
ومن الواضح أنّ معنى قوله تعالى: (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً) هو أنهّ خلقهم من جنسكم لا أنّه خلقهن من أعضاء جسمكم.
ووفقاً لرواية منقولة عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) كما في تفسير العياشي ـ أنه كذّب بشدّة فكرة خلق حواء من ضلع آدم، وصرح(عليه السلام) ـ بأنه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.
قال سبحانه: (وبثّ منهما رجالا كثيراً ونساءاً) هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك.
وبعبارة أُخرى أنّ النسل البشري الموجود إِنّما ينتهي إِلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أُنثى.
وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم، لأنه إِذا تمّ تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله: «منهما».
وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضاً، ولا داعي للتعجب والإِستغراب إِذ طبقاً للإِستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِنّ هذا النوع من الزواج كان مباحاً حيث لم يرد بعد حكم بحرمة
ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئاً في زمان، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.
غير أنّه قد صرّح في أحاديث أُخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.
ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأُولى، لأنها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.
ثمّ أنّ هاهنا احتمالا آخر يقول: إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إِنسان سكن الأرض.
وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإِنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور «آدم» في الأرض زمن طويل، فلابدّ إذن من القبول النظرية التي تقول: بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا، فما المانع من أن يكون «أبناء آدم» قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر إنقراضه؟
ولكن هذا الإِحتمال هو أيضاً لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إِلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).
بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإِنساني من وشيجة القربى قال سبحانه: (واتّقوا
الله الذي تساءلون(1) به والأرحام).
إنّ أهمية التقوى، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجدداً في نهاية الآية الحاضرة، وأن يدعو سبحانه الناس إِلى التزام التقوى، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إِليها جملة أُخرى إِذ قال: (اتّقوا الله الذي تساءلون به)أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.
ثمّ أنّه يقول: «والأرحام» وهو عطف على «الله»، ولهذا كانت القراءة المعروفة هي نصب «والأرحام» فيكون معناها: واتقوا الأرحام، ولا تقطعوا صلاتكم بهم.
إِنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدل أوّلا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إِلى درجة أنّه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، وهو إِشارة ـ ثانياً ـ إِلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية، وهو أنكم جميعاً من أب واحد وأُمّ واحدة، وهذا يعني ـ في الحقيقة ـ أنّ جميع أبناء آدم أقرباء وأرحام، وهذا الإِرتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر، وقبيلة وأُخرى، تماماً كما يتحاب أفراد القبيلة الواحدة.
ثمّ يختم الآية بقوله: (إِنّ الله كان عليكم رقبياً).
والرقيب أصله من الترقب، وهو الإِنتظار من مكان مرتفع، ثمّ استعمل بمعنى الحافظ والحارس، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.
وإرتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب على مكان مرتفع، ويمارس النظارة من ذلك الموقع، وقد يكون من الناحية
1 ـ تساءلون: من مادة تسائل، وتسائل بالله من قولهم أسالك بالله أن تفعل كذا. وهذا يدل على تعظيم الناس لله تعالى.
المعنوية.
يقول سبحانه: (إِنّ الله كان عليكم رقيباً) أي أنّه يحصي عليكم نياتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعاً، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث (والتعبير بـ «كان» المفيد للماضي، إِنّما هو للتأكيد).
* * *
وَءَاتُوا الْيَتَـمَى أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَلَهُمْ إِلَى أَمْوَلِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيرَاً(2)
روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مالا كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه، فخاصمه إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت: (وأتوا اليتامى أموالهم ...) فلما سمع الغطفاني ذلك إِرتدع وقال: أعوذ بالله من الحوب الكبير(1).
كثيراً ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغار أباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث، فتلك حالة كثيراً ما تقع، فإِن المجتمعات المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر، ولذلك يكثر فيها عدد الأيتام، وهو ما يجب أن تهتمّ به الحكومة الإِسلامية، بل ويهتمّ به كل المسلمين،
1 ـ الدّر المنثور، ج 2، ص 117.
فيتكفّلوا أمر اليتامى وشؤونهم.
وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى.
1 ـ (وآتوا اليتامى أموالهم) أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والنّاظر والوكيل لا على نحو تصرّف المالك.
2 ـ (ولا تتبدلوا الخبيث بالطّيب) أي لا تأخذوا أموالهم الطّيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من اموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليم ـ في الحقيقة ـ يهدف إِلى المنع ممّا قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والردىء مكانه، بحجّة أن هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل، أو لأن بقاء مال اليتيم يؤول إِلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.
3 ـ (ولا تأكلوا أموالهم إِلى أموالكم) يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردىء من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإِضرار باليتامى وضياع حقوقهم. ولفظة «إِلى» في العبارة بمعنى (مع) في الحقيقة.
ثمّ إنّه سبحانه، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله: (إِنّه كان حُوباً كبيراً).
يقول الرّاغب في مفرداته: «الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإِثم» وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأ ـ في الأغلب ـ من الحاجة، أو بحجّة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإِثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإِشارة إِلى هذه الحقيقة.
إِنّ ملاحظة الآيات القرآنية المختلفة ـ في هذا المجال ـ تكشف عن أن الإِسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى، ويهدد الخائنين في أموال اليتامى بالعقوبات الشديدة، ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إِلى مراقبة أموالهم والمحافظة عليها مراقبة شديدة، ومحافظة بالغة، وسيأتي تفصيل كلّ هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة، وفي ذيل الآيات (152) من سورة الأنعام، و (34) من سورة الإِسراء.
إنّ اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام، ولهذا كانوا يهيئون طعاماً خاصّاً لأنفسهم ولأولادهم، وطعاماً مستقلا لليتامى ولا يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإِجحاف بهم، وقد شقّ هذا على الجميع ـ اليتامى والأولياء ـ ولهذا أمرهم سبحانه في الآية (220) من سورة البقرة قائلا (وأن تخالطوهم فإخوانكم) أي إِن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس(1).
* * *
1 ـ وللتوسع والتفصيل الأكثر راجع ما ذكرناه في تفسير هذه الآية في سورة البقرة في الجزء الثاني من هذا التّفسير.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـمَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَحِدَةً أَوْمَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُوا(3)
لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص، فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإِسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات، ثمّ يتزوجون بهنّ، ثمّ يمتلكون أموالهنّ، وربما ينكحوهنّ بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهنّ، بل وربّما يتركوهنّ لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة، وبالتالي لم يكونوا يعطونهنّ ما يليق بهنّ ـ كزوجات ـ بل وحتى كبقية النساء العاديات ـ من الإِحترام والمكانة، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إِذا أرادوا الزواج بهنّ أن يلاحظوا جانب العدل معهن، وإِلاّ فليختاروا الأزواج من غيرهنّ(1).
يقول سبحانه في هذه الآية: (وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وقد جاء هذا الكلام بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها،
1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 5 و 6.
فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصّة.
بملاحظة ما ذكرناه في سبب النزول يتّضح تفسير هذه الآية والمراد منها، كما يتّضح الجواب أيضاً على السؤال المطروح هنا، وهو: لماذا تبتدىء الآية بذكر اليتامى، وتنتهي بمسألة الزواج، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية، وهذه النهاية، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج، غاية ما في الباب أنّ الآية تقول: إِذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهنّ على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهنّ، وتتزوجوا بغيرهنّ من النساء تجنباً لظلم اليتيمات والإِجحاف بحقوقهنّ، والجور عليهنّ.
فالذي يستفاد من ذات الآية ـ وإِن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكرناه في سبب النزول، وهو أن الخطاب موجه إِلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحثّ في الآية السابقة على حفظ أموالهنّ ضمن اليتامى.
فهذه الآية تعليم آخر ووصية أُخرى بهم، ولكنّها هذه المرّة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات، وإن على أوليائهنّ أن يعاملوهنّ في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهنّ في مسألة المال، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة، وإِلاّ فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهنّ، ويختاروا الأزواج من غيرهنّ من النساء.
هذا وممّا يؤيد ويوضح هذا التّفسير ما جاء في الآية (127) من نفس هذه السّورة(1) حيث حثّ سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات، وسيأتي1 ـ وهو قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ...).
تفصيل ذلك في محله.
كما أن ثمّة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الإِتجاه، وتؤيد هذا التّفسير.(1)
وما نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) من الأخبار بسقوط أو حذف شيء كثير من القرآن بين مطلع هذه الآية، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا، فهذه الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شيء من الآيات القرآنية وإِسقاطها أو وقوع التحريف فيه إمّا أنّها من موضوعات أعداء الإِسلام وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته، وإمّا لأنّها ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الإِرتباط الطبيعي بينهما، ولهذا توهّموا بأنّ هناك حذفاً وإسقاطاً وقد تطور هذا الوهم حتى اتّخذ صورة الحديث المروي والخبر المنقول، في حين يتّضح الإِرتباط الوثيق بين هذه الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإِمعان.
وتعني «مثنى» في اللّغة اثنتين اثنتين، و«ثلاث» ثلاثاً ثلاثاً، و«رباع» أربعاً أربعاً، وحيث أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إِلى المسلمين كافة، كان المعنى: إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهنّ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الإِجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهنّ، وتظلموهنّ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث أنّ الخطاب هنا موجّه إِلى عامّة المسلمين، وكافتهم عبر بالمثنى، والثلاث، والرّباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصّة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 438 وتفسير المنار في تفسير هذه الآية.
ولابدّ من التنبيه إِلى أن «الواو» هنا أتت بمعنى «أو»، فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول: وانكحوا تسعاً لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة.
هذا مضافاً إِلى أنّ حرمة الزّواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإِسلامي، وأحكامه القطعية المسلمة.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات، طبعاً بشروطها التي سنذكرها قريباً.
ثمّ أنّه سبحانه عقب على ذلك بقوله: (وإِنّ خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة) أي التزوج بأكثر من زوجة إِنّما يجوز إِذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهنّ، أمّا إِذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.
ثمّ يقول: (أو ما ملكت أيمانكم) أي يجوز أن تقتصروا على الإِماء اللاتي تملكونهنّ بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخف شروطاً (وإن كن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهنّ من الحقوق أيضاً).
ويقول: (ذلك أدنى ألاّ تعولوا) أي أن هذا العمل (وهو الإِقتصار على زوجة واحدة أو الإِقتصار على الإِماء وعدم التزوج بزوجة حرّة ثانية) أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين (وسيكون لنا حديث مفصل عن الرّق في الإِسلام عند تفسير الآيات المناسبة إِن شاء الله).
قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإِسلامية يجب أن يتّضح أوّلا المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد، فما هو المقصود من العدل هنا ياترى؟
أهي العدالة في الجوانب المادية كالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق الرّفاه والمتطلبات المعيشية؟ أم أنّ المراد أيضاً هو العدالة في نطاق القلب والعواطف والأحاسيس الإِنسانية؟ وبعبارة صريحة: العدالة في الحبّ والرغبة، مضافاً إِلى العدالة في الجوانب المادية؟
لا شكّ أنّ مراعاة العدالة في الميل القلبي، والحبّ، والرغبة شيء خارج عن نطاق القدرة البشرية.
فمن ذا يستطيع أن يضبط حبّه من جميع الجوانب، ويعطيه الحجم الذي يريد، والحال أنّ موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته، وإطار إرادته؟
ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في الآية 129 من نفس هذه السّورة ـ النساء: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) أي لا يمكنكم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل القلبي، والحبّ والمودّة.
![]() |
![]() |
![]() |