وهكذا يتبيّن أنّ مصدر الكثير من الأخطاء هو الجهل بمقدمات العمل أو مستلزماته أو عواقبه، لذلك فإِنّ من يحاط عن طريق الوحي الإِلهي إحاطة كاملة بالقضايا المختلفة ومقدماتها ومستلزماتها وعواقبها لن يقع في خطأ، ولن يرتكب أي زلل أبداً، ولن يضل الطريق، ولن يمارس ذنباً مطلقاً.

ويجب أن لا نقع في الوهم هنا، فإِنّ هذا العلم الذي بحوزة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب الله سبحانه وتعالى ليس عملا مفروضاً ولا يحمل طابع القسر والإِجبار، أي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مجبوراً أبداً على أن يعمل بعلمه، بل أنّه يمارس عمله بكامل اختياره، فكما أنّ الطبيب الذي ذكرناه في مثلنا السابق مع علمه بحالة

[446]

الماء الملوث فإِنّه ليس مرغماً على عدم شرب هذا الماء، بل هو بإرادته المطلقه يمتنع عن شربه.

وإِذا تساءل أحد: لماذا شمل الله نبيّه وحده بهذا الفضل الإِلهي، ولم يشمل الآخرين؟

كان الجواب: إنّ ذلك قد حدث للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي تتضمنها القيادة التي أُنيطت بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحمل اعباءها الثقيلة على عاتقه، ولأن الآخرين لا يحملون مثل هذه الأعباء الثقيلة، لذلك فإِن الله اللطيف الخبير يهب لعبده من القدرة والطاقة بمقدار ما يضع على عاتق هذا العبد من مسؤوليات، ولن يكلف الله نفساً إِلاّ وسعها فيجب التعمق في هذا الأمر.

* * *

[447]

الآية

لاَّ خَيْرَ فِى كَثِير مِّن نَّجْوَهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَـح بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(114)

التّفسير

النجوى أو الهمس:

لقد أشارت الآيات السابقة إِلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى هذا الأمر بشيء من التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً، لأنّها مشتقة من المادة «نجوه» على وزن «دفعه» أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى.

ويرى بعضهم أنّ كلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الإِجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.

[448]

والآية هنا تذكر أنّ أغلب الإِجتماعات السرّية التي يعقدها اُولئك تهدف إِلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إِذ تقول: (لا خير في كثير من نجواهم).

ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموماً أو حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإِنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: (إِلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إِصلاح بين الناس).

فإِذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الإِجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله، فإِنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والإِجتماعات السرّية ـ من حيث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: (إِنّما النجوى من الشيطان ...)(1)والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإِيجابي لا يحتاج في العادة إِلى أن يكون ـ أو يبقى ـ سرّياً أو مكتوماً عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية.

ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإِنسان على الإِستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الإِستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا تناجينم فلا


1 ـ المجادلة، 10.

[449]

تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى...)(1).

والنجوى إِذا حصلت إبتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأفضل أن لا يبادر الإِنسان إِلى النجوى إِلاّ إِذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

وبديهي أنّ سمعة الإِنسان تستلزم ـ أحياناً ـ اتباع أُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.

والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحياناً بصورة علنية لأصبح سبباً في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سبباً في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.

والحالة الأُخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإِصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سرياً أحياناً لضمان تحقيقه، إِذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإِصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإِصلاح بالتحدث إِلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.

إِذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.

والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى «الصدقة» وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إِنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إِصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.


1 ـ المجادلة، 9.

[450]

وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «إِنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم»(1).

ونقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لأبي أيوب: «ألا أدلك على صدقة يحبّها الله ورسوله تصلح بين الناس إِذا تفاسدوا وتقرب بينهم إِذا تباعدوا»(2).

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 550، وفي كتب أُخرى للتفسير.

2 ـ تفسير القرطبي، الجزء الثّالث ص 1955 في شرح الآية.

[451]

الآية

وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً(115)

سبب النّزول

لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة: إِنّ بشير بن الأبيرق كان قد سرق من أحد المسلمين، وأتهم إِنساناً بريئاً بهذه السرقة، واستطاع بالأجواء المزيفة التي اختلقها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبريء نفسه، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح أمره، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته، سار في طريق الكفر وارتد عن الإِسلام بصورة علنية رسمية.

فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إِشارة إِلى هذا الموضوع، بالإِضافة إِلى بيانها لحكم إِسلامي عام وكلي.

التّفسير

حين يرتكب الإِنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:

أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إِلى أثرها في

[452]

غسل الذنوب عن الإِنسان.

والطّريق الثّاني: هو أن يسلك الإِنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إِلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإِنّ الله سوف لن يهديه إِلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إِلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: (ومن يشاقق الرّسول من بعدما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ عبارة (يشاقق) مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكّد جملة (من بعدما تبيّن له الهدى) هذا المعنى أيضاً، وفي الحقيقة فإِنّ من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيراً خيراً ممّا ذكرته الآية له، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة، فهو في الدنيا ـ كما تقول الآية ـ يستمر منجرفاً في الطريق الأعوج الذي اختاره، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة الحق والصواب، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه بيده، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.

وأمّا بالنسبة لقول الآية: (نُوله ما تولى) فهو إِشارة إِلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة، وقد بيّنا تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

وحين تقول الآية: (نصله جهنم) فهي تشير إِلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

وهناك تفسير آخر حول جملة (نوله ما تولى) وهو أن هؤلاء وأمثالهم، يوكل أمرهم إِلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.

[453]

حجية الإِجماع:

يعتبر الإِجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري الإِسلام حول مسألة فقهية. وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإِثبات حجية الإِجماع، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مرّ البحث في تفسيرها، إِذ يعتبرها البعض دليلا على حجية الإِجماع لأنّها تقول أنّ من يختار طريقاً غير طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة.

وبناء على هذه الآية، فإِنّ أي طريق يختاره المؤمنون ـ في أي مسألة كانت ـ يجب على الجميع السير في هذا الطريق.

والحقيقة أنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإِجماع، لا من قريب ولا من بعيد (وطبيعي إِنّنا نقبل حجّية الإِجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم، ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإِجماع، وليس الآية المذكورة).

والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإِجماع، هو أنّها تعين أوّلا: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النّبي صراحة وعن علم وإِدراك، ويختارون طريقاً غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشكّلان باتحادهما العلّة لذلك المصير المشؤوم، مع التأكيد بأن هذا المصير إِنّما يتحقق لدى اختيار الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية. وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإِجماع، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.

والأمر الثّاني: هو أنّ المقصود بعبارة (سبيل المؤمنين) الواردة في الآية، هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده، وهو مبدأ الإِسلام، وليس معناه الفتاوى الفقهية أو الأحكام الفرعية، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإِضافة إِلى ما قيل في سبب نزولها.

والحقيقة هي أنّ السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه

[454]

مخالفة للنّبي، وكلا العنصرين يعودان إِلى موضوع واحد.

وينقل أنّه حين كان أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الكوفة، جاءه جمع من الناس وطلبوا منه أن يعين لهم إِماماً لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح جماعة، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلّى هذه الصّلاة جماعة) وما كان من الإِمام غير أن يمتنع عمّا طلبوا منه، ونهى عن إِقامة جماعة كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم الصريح الحازم من الإِمام علي(عليه السلام) أصرّت على عنادها، وأخذت بالصراخ والعويل، داعية الناس إِلى الإِحتجاج على حكم الإِمام.

فجاءت جماعة أُخرى إِلى الإِمام علي(عليه السلام) واخبرته بما أخذ يفعله اُولئك القوم وبعصيانهم لأمره، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاؤوا ليصلّي بهم تلك الجماعة غير الشرعية(1) ثمّ تلى الإِمام هذه الآية الأخيرة، وفي هذا الخبر دليل آخر على التّفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية.

* * *


1 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 551.

[455]

الآية

إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُأَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـلا بَعِيداً(116)

التّفسير

الشّرك ذنب لا يغتفر:

تشير هذه الآية مرة أُخرى إِلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إِسلامهم إِلى الكفر.

ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية، في نفس سورة النساء في الآية (48) وما إِعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إِلا دليل على بلاغة القرآن، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.

والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض، فما دام المرض لم يهاجم موقعاً مهماً في جسم الإِنسان ولم يشل أحد هذه المواقع، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن، ولكن لو هاجم المرض مركزاً حساساً في جسم الإِنسان ـ مثل الدماغ ـ وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم، فإِنّ أبواب الأمل

[456]

بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.

والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزاً حساساً في روح الإِنسان، وينشر الظلمة في نفسه، وإِذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإِنسان، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة ... لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإِنسان الآمل في غفران ذنوبه الأُخرى، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء).

وقد قلنا: بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة، وما ذلك إِلاّ لتزيل آثار الشرك والوثنية ـ وإِلى الأبد ـ من نفوس اُولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.

ولكن تتمة الآيتين تختلف في إِحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، حيث تقول الآية الأخيرة: (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيداً) بينما الآية السابقة تقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إِثماً عظيماً).

وفي الحقيقة فإِنّ الآية السابقة تشير إِلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإِلهي، ومعرفة الله، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإِنسان والتي لا يمكن تلافيها، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية.

ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر اُحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الإِصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية).

* * *

[457]

الآيات

إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـناً مَّرِيداً(117) لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً(118) وَلاَُضِلَّنَّهُمْ وَلاَُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاَْنْعَـمِ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الْشَيْطَـنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً(119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـنُ إِلاَّ غُرُوراً(120) أُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً(121)

التّفسير

مكائد الشّيطان:

إِنّ الآية الأُولى ـ من مجموع الآيات الخمس الأخيرة ـ تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إِليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إِنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إِذ يتركون عبادة الله خالق ومنشىء عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إِيجابي في الوجود، بل هي ـ أحياناً مضللة كالشّيطان: (إن يدعون من دونه إِلاّ إناثاً وإن يدعون إِلاّ شيطاناً مريداً).

[458]

وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و«شيطان مريد».

وكلمة «إناث» مشتقة من المصدر «أنث» على وزن «أدب» وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول: «أنث الحديد» إذا لانّ في النار، وقد سمي جنس المرأة بـ«الاناث» لأنّها أكثر رقّة ولطفاً وليناً من الرجل.

لكن بعض المفسّرين يرى هنا ـ أنّ القرآن يشير في هذه الآية إِلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنماً من هذه الأصنام ووضعت له إسماً مؤنثاً. فالصنم «اللات» سمّي هكذا ليكون مؤنثاً لكلمة لفظ الجلالة «الله»، أمّا الصنم «عزى» فهو مؤنث كلمة «أعز» وكذلك أصنام أُخرى مثل «مناة» و«نائله» وأمثالها.

بينما يرى بعض اخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة «اناث» الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإِنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والإِنحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإِرادة والإِختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.

أمّا كلمة «مريد» وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإِنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.

أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل «مرود» بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.

والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إِلى نوعين: بعضها ضعيف

[459]

الإِرادة مطلقاً، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إِنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

بعد ذلك كله تشير الآية إِلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته (لعنه الله).

وفي الحقيقة فإِنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أنّ من يكون بعيداً عن رحمة الله كالشيطان، يكون خاوياً من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيراً أو حسناً في حياة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل سيكون ضاراً أيضاً.

ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه:

أوّلها: أن يأخذ من عباد الله نصيباً معيناً، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله، لأنّ من يستسلم لإِرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اُولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إِيمان لهم، أو ضعاف الإِيمان.

والثّانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: (ولأُضلنهم).

والثّالثة: اشغلهم بالاُمنيات العريضة وطول الامل (ولأُمنينهم)(1).

أمّا الخطّة الرّابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إِلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: (ولأمرنّهم فليبتكن أذان الأنعام) وهذه إِشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون


1 ـ إنّ عبارة «ولاُمنيّنهم» تعود إِلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشيء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ «مني» فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

[460]

المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإِنتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإِنسان، هي ما ورد على لسانه في الآية إِذ تقول: (ولأمرنهم فليغيّرن خلق الله ...) وهذه الجملة تشير إِلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإِنسان منذ خلقة إِياه ـ النزعة إِلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإِضافة إِلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشيطان والإِنجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإِنسان عن الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إِلى الطرق المعوجة الشاذة.

والشاهد على والقول أيضاً الآية (30) من سورة الرّوم، إِذ تقول: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم).

ونقل عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإِنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله(1).

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإِنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إِلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً، وهو أنّ أي إِنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون الله، فقد ارتكب إِثماً وذنباً واضحاً إِذ تقول الآية: (ومن يتخذ الشّيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً).

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إِعطائه الوعود الكاذبة


1 ـ تفسير التبيان، الجزء الثّالث، ص 334.

[461]

لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإِغواء والخداع: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إِلاّ غروراً)(1).

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً، فتقول الآية: (اُولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً)(2).

* * *


1 ـ الغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شيء يخدع الإِنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإِنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

2 ـ المحيص مشتق من المصدر «حيص» ويعني العدول والإِنصراف عن الشيء، وعلى هذا الأساس فإن المحيص هو وسيلة الإِنصراف والفرار.

[462]

الآية

وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحتِهَا الاَْنهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا(122)

التّفسير

لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان ولياً لهم، إِنّما ينالهم ضرر واضح ومبين، وأنّ الشيطان يعدهم زيفاً وخداعاً ويلهيهم بالأُمنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة، وإِن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير.

أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل اُولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار).

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون في الجنّة يتمتعون بما أُوتوه من خير دائماً أبداً، تؤكّد هذه بعبارة (خالدين فيها أبداً).

وإِنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيت تقول الآية:

[463]

(وعد الله حقّاً).

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبداً ـ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: (ومن أصدق من الله قيلا)وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إِمّا عن العجز وإِمّا الجهل والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.

* * *

[464]

الآيتان

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـبِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً(123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ مِن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً(124)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير أُخرى ـ أنّ المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيّهم قد بعث قبل نبيّ الإِسلام وإِن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأنّ نبيّهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها.

وفي رواية أُخرى، نقل أنّ اليهود كانوا يدعون أنّهم هم الشعب المختار، وأنّ نار جهنم لا تمسّهم إِلاّ لأيّام معدودات، كما ورد في سورة البقرة ـ الآية (80) (وقالوا لن تمسّنا النّار إِلاّ أيّاماً معدودة ...) وأن المسلمين كانوا يقولون، ردّاً على كلام اليهود هذا: بأنّهم خير الأُمم لأنّ الله قال في شأنهم: (كنتم خير أُمّة

[465]

أخرجت للناس ...)(1) ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.

التّفسير

امتيازات حقيقية وأُخرى زائفة:

لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإِسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إِلى دعاوى وأُمنيات هذا الإِنسان مطلقاً، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإِنسان وإِيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأُمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ...)وتستطرد فتقول: (من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً).

وكذلك الذين يعملون الخير، ويتمتعون بالإِيمان، سواء أكانوا من الرجال أو النساء ـ فإِنّهم يدخلون الجنّة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فاُولئك يدخلون الجنّة ولا يظلمون نقيراً)(2).

وبهذه الصورة يعمد القرآن إِلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبراً الإِعتبارات والإِرتباطات المصطنعة الخيالية والإِجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إِذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإِيمان بمباديء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وفي تفسير الآية الأُولى من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة


1 ـ آل عمران، 110.

2 ـ لقد أوضحنا المراد من عبارة «نقير» في تفسير الآية 53 من نفس هذه السورة.

[466]

والسنّة، مفاده أنّ المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا يبكون خوفاً، لمعرفتهم بأنّ الإِنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيراً صدور ذنوب منه، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إِنسان بجريرته، فإِنّ الأمر سيكون في غاية الصعوبة، لذلك لجؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أن هذه الآية قد أفقدتهم كل أمل، فأقسم النّبي لهم بالله أنّه ما جاءت به الآية هو الصحيح، ولكنه بشّرهم بأنّها ستكون خير محفز لهم للتقرب إِلى الله والقيام بالأعمال الصالحة، وإِنّ ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة سيكون كفارة لذنوبهم(1).

سؤال:

من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية: (ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً) على أن قضية الشفاعة ونظائرها قد اُلغيت بهذه الآية بصورة تامّة، فيعتبرونها دليلا لإِلغاء الشفاعة بصورة مطلقة.

الجواب:

لقد أشرنا سابقاً إِلى أن الشفاعة لا تعني أنّ الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله، بل الصحيح هو أنّ الشفعاء لا يشفعون لأحد إِلاّ بإِذن الله، وعلى هذا الأساس فإِنّ مثل هذه الشفاعة ستعود في النهاية إِلى الله وتعتبر فرعاً من ولاية ونصرة وعون الله.

* * *


1 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 553.

[467]

الآيتان

وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا(125) وَللهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُّلِ شَىْء مُّحِيطاً(126)

التّفسير

لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإِيمان والعمل، كما بيّنت أن إِتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإِنسان شيئاً، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت أفضيلة شريعة الإِسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتّبع ملّة إِبراهيم حنيفاً).