![]() |
![]() |
![]() |
* * *
إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(40)
«الذّرة» في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، وقال البعض: هي من أجزاء الهباء والغبار في الكّوة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها، وقيل أيضاً أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإِنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما.
ولكنّها أُطلقت تدريجاً على كل شيء صغير جدّاً، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإِلكترون والبروتون أيضاً. لأنّها إِذا كانت تطلق سابقاً على أجزاء الغبار، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجزاء الجسم، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء «الجسم المركب» هو «المولوكول» أو الجزيئة، وأصغر أجزاء «الجسم البسيط» هو «الذّرات»، أختيرت لفظة «الذّرة» في الإِصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإِلكترونية، وإِنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث أن
إِنّ الآية الحاضرة تقول: إِنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة، بل يضاعف الحسنة إِذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجراً عظيماً: (إِنّ الله لا يظلم مثقال ذرة وإِن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنها أجراً عظيماً).
إِنّ هذة الآية ـ في الحقيقة ـ تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إِنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلاّجزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.
ثمّ أنّه لابدّ من الإِنتباه إِلى أن لفظة «ضعف» و«المضاعف» تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة، وعلى هذا الأساس لاتنافي هذه الآية الآيات الاُخرى التي تقول: إِن أجر الإِنفاق قد يصل إِلى عشرة أضعاف، وقد يصل إِلى سبعمائة مرّة ... .
وعلى أي حال فإِنّها تحكي عن لطف الله بالنسبة إِلى عباده، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إِذا أتوا بحسنة واحدة.
يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم الله سبحانه؟ فإِنّ السبب فيه واضح، لأن الظلم عادة ـ إِمّا ناشىء عن الجهل ، وإمّا ناشىء عن الحاجة، وإمّا ناشىء عن نقص نفسي.
ومن كان عالماً بكل شيء، وكان غنيّاً عن كل شيء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساساً، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه (كما تذهب إِليه طائفة من الأشاعرة)، بل مع قدرته تعالى على الظلم ـ لا يظلم أبداً لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقاً لسلوكه وسيرته.
* * *
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاَءِ شَهِيداً(41) يَوْمَئِذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْتُسَوَّى بِهِمُ الاَْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً(42)
تعقيباً على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين. جاءت هذه الآية تشير إِلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: (فكيف إذا جئنا من كل أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)وهكذا يكون نبي كل أُمّة شهيداً عليها، مضافاً إِلى شهادة أعضاء الإِنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم، شاهداً على أُمّته أيضاً، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إِنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.
ثمّ إنّ نظير هذا المضمون قد جاء أيضاً في عدّة آيات قرآنية أُخرى، منها الآية (143) من سورة البقرة، والآية (89) من سورة النحل، والآية (78) من سورة الحج.
والآن يطرح هذا السؤال، وهو: كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم، وكيف تكون؟
إِذا كانت كلمة «هؤلاء» إِشارة إِلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان، فإِن الجواب على هذا السؤال يكون واضحاً، لأنّ كل نبيّ ما دام موجوداً بين ظهراني أُمّته فهو شاهد على أعمالهم، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأُمّة، ولهذا جاء في حق المسيح(عليه السلام)أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إِيّاه: (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم، وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(1).
ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة «هؤلاء» إِشارة إِلى شهود الأُمم السابقة، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيداً على شهداء الأُمم من الأنبياء، وقد أُشير في بعض الروايات إِلى هذا التّفسير(2) وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا: إِنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أُمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إِلى رسول الإِسلام، فإِنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضاً ـ على أعمال أُمّته وجميع الأُمم السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء من الأُمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الإِطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء الخلق، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح، لأنّ الآية المذكورة تقول: إِنّ المسيح لم يكن شاهداً على أُمّته جمعاء، بل كان شاهداً عليها مادام في الحياة (فتأمل).
1 ـ المائدة، 117.
2 ـ راجع تفسير نور الثقلين والبرهان في ذيل الآية.
أمّا إِذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال «فرد نموذجي» مقياساً ومعياراً لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خالياً عن أي إِشكال، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأُمّته، إِذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له، وحيث إن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعظم الأنبياء والرسل الإِلهيين كانت صفاته وأعماله معياراً لشخصية كل الأنبياء والرسل.
نعم لا يبقى هنا إِلاّ سؤال واحد هو: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟ بيد أنّه مع الإِنتباه إِلى أنّ أعمال الرجال المنوذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عملياً على أنّه من الممكن أن يرقى إِنسان ما إِلى هذه الدرجة، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيداً في النظر.
عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عندما رأوا بأُمّ أعينهم تلك المحكمة الإِلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إِنكار شهاداتهم، إِنهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إِذ يقول سبحانه: (يومئذ يودُّ الذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوى بهم الأرض).
وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إِذ يقول تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).
ولكن لفظة (لو تسوى) تشير إِلى مطلب آخر أيضاً، وهو: إِنّ الكفار مضافاً إِلى أنّهم يتمنون أن يصيروا تراباً، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضاً وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.
إِنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: (ولا يكتمون الله حديثاً) لأنّه لا سبيل إِلى الإِنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.
نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأُخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضاً ويكذبون(1) لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إِقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إِلى أي إِنكار، بل لابدّ من الإِعتراف بجميع الحقائق.
وقد روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة «ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً».(2)
هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (لا يكتمون الله حديثاً)أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصاً في ما يتعلق برسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفاً على جملة (لو تسوى بهم الأرض).
ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر «لا يكتمون» الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: «لم يكتموا».
* * *
1 ـ مثل الآية (22) و (23) من سورة الأنعام، والآية (18) من سورة المجادلة.
2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج1، ص482 ـ 483، نقلاً عن تفسير العياشي.
يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبَاً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَـمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً(43)
تستفاد من الآية الحاضرة عدّة أحكام إِسلامية هي:
1 ـ حرمة الصّلاة في حال السكر، أي لا يجوز للسكارى أن يقربوا الصّلاة لبطلان صلاتهم في حالة السكر، وفلسفة ذلك واضحة، فإِن الصلاة حديث العبد إِلى ربّه ومناجاته ودعاؤه، ولابدّ أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون).
وهنا يمكن أن يطرح أحد سؤالا هو: أليس مفهوم الآية هو المنع من شرب المسكرات إِذا بقي أثرها وسكرها إِلى وقت الصلاة، وهو ينطوي على دليل
جوازه في سائر الحالات؟
والإِجابة على هذا السؤال تأتي ـ بإِذن الله ـ مفصّلة عند تفسير الآية (90) من سورة المائدة، إِلاّ أن الجواب الإِجمالي هو: إِنّ الإِسلام استخدم لتطبيق الكثير من أحكامه أسلوب «التغيير التدريجي» فمثلا مسألة تحريم تعاطي الخمور هذه طبقها الإِسلام في مراحل، فهو أوّلا أعطاه صفة المشروب الغير المحبّذ في قبال «الرزق الحسن» (كما في الآية (67) من سورة النحل «ورزقاً حسناً») ثمّ منع من الإِقتراب إِلى الصلاة إِذا كان السكر الناشىء منها لا يزال باقياً (كما في الآية الحاضرة) ثمّ قارن بين منافعه ومضاره ورجحان مضاره ومساوئه، كما في سورة البقرة الآية (219)، وفي المرحلة الأخيرة نهى عن الخمر بصورة قاطعة وصريحة، كما في سورة المائدة الآية (90).
وأساساً ليس هناك من سبيل لتطهير المجتمع من جذور مفسدة إِجتماعية أو خلقية متجذرة في أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا الأُسلوب، وأجدى من هذا الطريق، وهو أن يهيأ الأفراد تدريجاً، ثمّ يتمّ الإِعلان عن الحكم النهائي.
كما أنّه لابدّ من الإِلتفات إِلى نقطة مهمّة، هي أنّ الآية الحاضرة لا تجيز بأي وجه من الوجوه شرب الخمر، بل هي تتحدث فقط عن مسألة الإِقتراب إِلى الصلاة في حال السكر، بينما التزمت الصمت بالنسبة إِلى حكم شرب الخمر في غير هذا المورد حتى يحين موعد المرحلة النهائية للحكم.
هذا مع الإِلتفات إِلى أنّ أوقات الصلوات الخمس خاصّة في ذلك الزمان الذي كانت العادة فيه إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بحكم أنّها كانت متقاربة كان الإِتيان بالصلاة في حال الوعي يقتضي أن ينصرف الأشخاص عن تناول المسكرات في الفترات الواقعة بين أوقات الفرائض انصرافاً كلياً، لأنّ السكر كان يستمر غالباً إِلى حين حلول وقت الفريضة وعلى هذا كان الحكم
المذكور في الآية الحاضرة أشبه بالحكم النهائي والتحريم الأبدي المطلق.
كما أنّ هناك موضوعاً لابدّ من التذكير به، وهو أنّ الآية الحاضرة فسّرت في روايات عديدة في كتب الشيعة والسنة بسكر النوم، يعني لا تقربوا الصلاة ما لم تطردوا النوم عن عيونكم كاملة لتعلموا ما تقولون.
ولكن يبدو للنظر أن هذا التّفسير مستفاد من مفهوم: (حتى تعلموا ما تقولون)وإِن لم يدخل في مصداق «السكارى»(1).
وبعبارة أُخرى، يستفاد من جملة: (حتى تعلموا ما تقولون) المنع عن الصلاة في كل حالة لا يتمتع فيها الإِنسان بالوعي الكامل، سواء كان بسبب حالة السكر، أو بسبب ما تبقى من النوم.
كما أنّه يستفاد من هذه الجملة أيضاً أنّ الأفضل عدم إقامة الصلاة عند الكسل أو قلّة التوجه، لأنّ الحالة السابقة توجد في هذه الصورة بشكل ضعيف، ولعلّه لهذا السبب جاء في ما روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) من أنّه قال: «لا تقم إِلى الصلاة متكاسلا، ولا متناعساً ولا متثاقلا وقد نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يقوموا إِلى الصلاة وهم سكارى ...»(2).
2 ـ بطلان الصلاة في حال الجنابة الذي أشير إِليه بعبارة (ولا جنباً) ثمّ استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: (إلاّ عابري سبيل) أي إِذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجيء في ذيل الآية).
غير أن هناك تفسيراً آخر جاء لهذه الآية في الروايات والأخبار(3)، هو أنّ المقصود من الصلاة في الآية هو محل الصلاة ـ أي المسجد ـ أي لا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة، ثمّ استثنى العبور في المسجد بقوله: (إلاّ عابري
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 483، وتفسير القرطبي، ج 3، ص 1171.
2 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 483، وقد جاء نظير هذا المضمون في صحيح البخاري أيضاً.
3 ـ وسائل الشيعة، ج 1، ص 486.
سبيل) يعني يجوز لكم العبور في المسجد وأنتم على جنابة وإن لم يجز لكم المكث واللبث فيه.
ويستفاد من بعض الروايات أنّ جماعة من المسلمين، وصحابة النّبي كانوا قد بنوا بيوتهم حول المسجد النّبوي بحيث تفتح أبوابها في المسجد، فسمح لهم بأن يعبروا من المسجد وهم على جنابة دون أن يتوقفوا فيه.
ولكن لابدّ أن ننتبه إِلى أن هذا التّفسير يستلزم أن تكون لفظة الصلاة في الآية الحاضرة قد أتت بمعنيين: أحدهما الصلاة نفسها، والآخر محل الصلاة، لوجود بيان حكمين مختلفين في الآية: أحدهما المنع والنهي عن الإِقتراب إِلى الصلاة في حالة السكر، والآخر الإِجتناب عن دخول المساجد في حالة الجنابة (طبعاً لا مانع ولا ضير في استعمال لفظة واحدة في معنيين أو أكثر كما قلنا في علم الأصول، ولكنّه خلاف الظاهر، وهو لا يجوز بدون قرينة، نعم يمكن أن تكون الروايات المذكورة قرينة على ذلك).
3 ـ جواز الصلاة، أو عبور المسجد بعد الإِغتسال، هو المبين بقوله: (حتى تغتسلوا).
4 ـ التيمم لذوي الأعذار، ثمّ تشير الآية إِلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول: (وإِن كنتم مرضى أو على سفر) وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت ـ في الحقيقة ـ كل موارد التيمم، فالمورد الأوّل هو ما إِذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن، والمورد الآخر هو ما إِذا تعذر على الإِنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء)إشارة إِلى علل الإِحتياج إِلى التيمم وأسبابه، ومعناه إِذا أحدثتم حدثاً أو جامعتم النساء (فلم تجدوا ماء) أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله (فتيمموا صعيداً طبياً).
ثمّ أنّه سبحانه يبيّن طريقة التيمم بقوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم).
ثمّ أنّه في ختام الآية يشير إِلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم، لأنّ الله كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة (إنّ الله كان عفواً غفوراً).
* * *
هنا لابدّ من التنبيه إِلى نقاط عديدة:
1 ـ إِنّ عبارة (فلم تجدوا ماء) المبدؤة بفاء التفريع ترتبط بعبارة (أو على سفر) يعني أنّكم إِذا كنتم في سفر ولم تجدوا ماء للوضوء أو الغسل، فتحتاجون إِلى التيمم، لأنّ الإِنسان قلما تتفق له هذه الحالة وهو في البلد، ومن هنا يتبيّن بطلان ما قاله بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ من أن مجرّد السفر وحده كاف للتكليف بالتيمم بدل الوضوء حتى لو كان الشخص المسافر واجداً للماء، فإِنَّ فاء التفريع في قوله (فلم تجدوا) يبطل هذا الكلام، لأنّ المفهوم منه هو أنّ السفر قد يوجب أحياناً عدم التمكن من الماء، وهنا لا مناص من التيمم، لا أنّ السفر بوحده يسوغ التيمم، والعجب أنّ الكاتب المذكور تحامل على فقهاء الإِسلام في هذا المجال من دون مبرر لهذا التحامل.
2 ـ إنّ كلمة (أو) في قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) هي بمعنى (الواو) لأن مجرّد المرض أو السفر لا يوجب التيمم، بل يجب التيمم إِذا تحققت موجبات التيمم أو الغسل في هذا الحال.
3 ـ إِنّ «العفة في البيان» المعهودة من القرآن دفعت بالقرآن في هذه الآية ـ كما في الآيات الكثيرة الاُخرى ـ إِلى أن يعبّر عن قضاء الحاجة بعبارة تفهم المراد من جانب، ولا تكون غريبة وغير مناسبة من جانب آخر إِذ يقول: (أو جاء أحد منكم من الغائط).
وتوضيح ذلك أنّ «الغائط» ـ خلاف ما يفهم منه هذا اليوم ـ يعني في أصل اللغة المنخفض من الأرض الذي كان يقصده الإِنسان وسكان الصحارى والمسافرون في تلك العهود لقضاء الحاجة فيه ليسترهم عن أعين الناظرين، وعلى هذا يكون معنى هذه الجملة هو: إِذا عاد أحدكم من المكان المنخفض من الأرض الذي هو في جملته كناية عن قضاء الحاجة.
والملفت للنظر أن القرآن استعمل لفظة «أحد منكم» بدل ضمير الجمع المخاطب المصدر بالفعل أي «جئتم» ليحافظ على خصيصة «عفة البيان» التي تجلى بها القرآن الكريم أكثر فأكثر.
وهكذا الحال عند ما يتحدّث عن الجماع فإِنّ القرآن يشير إِلى هذا الموضوع بعبارة (أو لامستم النساء) ولفظة اللمس كناية جميلة عن المقاربة الجنسية.
4 ـ سنتحدث بتفصيل حول بقية خصوصيات التيمم عند تفسير قوله تعالى: (صعيداً طيباً) في ذيل الآية (6) من سورة المائدة إِن شاء الله.
يتساءل كثيرون: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيراً من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟
في جواب هذه الأسئلة نشير إِلى نقطتين مهمتين:
الأُولى: الفائدة الخلقية، فإِن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة، لأن الإِنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول: يا ربّي إِنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إِلى أبعد حدود الخضوع والتواضع، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إِلى القيام بالصلاة وسائر العبادات
المشروطة بالغُسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإِنسان روح الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدرّبه على العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.
الثّانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إِن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد ـ في الأغلب ـ بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الإِنتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر، ولهذا عند ما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريباً وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إِلى بؤرة عفونة قاتلة.
إِنّ للتربة خاصّية تشبه مواد «الأنتوبيوتيك» التي لها أثر فعال جدّاً في قتل وإِبادة الميكروبات.
وعلى هذا لا يكون التراب عارياً عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال للتلوثات، ويمكنه ـ من هذه الجهة ـ أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.
ولكن يجب الإِنتباه إِلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهراً نظيفاً، كما أشار اليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إِذا يقول: (طيباً).
والجدير بالإِنتباه أنّ التعبير بـ«الصعيد» المشتق من «الصعود» يشير إِلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء
والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإِذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضاً كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات. (وسنتحدث في هذا المجال أيضاً عند تفسير المقطع الأخير من الآية (6) في سورة المائدة).
* * *
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَـبِ يَشْتَرُونَ الضَّلَـلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَآئِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً(45)
في هذه الآيات يخاطب الله سبحانه نبيّه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والإِستغراب قائلا: (ألم تر إِلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) أي عجيب أمر هؤلاء الذين أُتوا نصيباً من الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإِرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى، فإِنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أنتم أيضاً.
وبهذا الطريق فإِنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحول إِلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم، لأنّهم لم يكونوا أبداً بصدد الحقيقة، بل كانوا ينظرون إِلى كل شيء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.
ثمّ يقول سبحانه: إِنّ هؤلاء وإِن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إِلاّ أنّهم أعداؤكم الحقيقيون (والله أعلم بأعدائكم).
وأية عداوة أشدُّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة
باللسان وتارة عن طريق إِظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين.
ولكن لا تخافوا عداوتهم أبداً ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان، فكفاكم أنّ الله قائدكم ووليكم وناصركم: (وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً).
لأنّه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً، فإذا تجاهلتم أحاديثهم ووساوسهم لم يبق أي مجال للخوف والقلق.
ثمّ إنّه يستفاد من عبارة: (أوتوا نصيباً من الكتاب) أنّ ما كان عندهم من الكتاب لم يكن كل ما في الكتاب السماوي «التوراة»، بل كان بعضه وقسماً منه، وهذا يتفق مع حقائق التاريخ المسلمة أيضاً، تلك الحقائق التي تؤكد ضياع أو تحريف أقسام من التوراة الحقيقية مع مضي الزمن.
* * *
مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرُ مُسْمَع وَرَعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا(46)
تعقيباً على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإِسلام، وتشير إِلى جانب من أعمالهم ومواقفهم.
فتقول أوّلا: إِنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة الأوامر الإِلهية: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها.
وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.
أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: (ويقولون سمعنا
وعصينا)يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا» وهذا يشبه تماماً كلام من يقول مستهزءً: «منك الأمر ومنّا عدم السماع»، هذا والعبارات الاُخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.
ثمّ يشير إِلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إِنّهم يقولون: (واسمع غير مسمع) وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين، ـ مضافاً إِلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون ـ يتوسلون بسلاح الإِستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين، وربّما استخدموا مضافاً إِلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع تغييرات في معانيها تكميلا لإستهزائهم وسخريتهم، مثل جملة «راعنا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإِسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإِيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إِلى الرعونة (1) الذي يعني الحمق، قصداً منهم إِلى أن عمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ـ والعياذ بالله ـ خداع الناس واستغلال سذاجتهم.
وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم
1 ـ راعنا إذا أُخذت مشتقة من مادة الرعي تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة والمراقبة، وبمعنى أمهلنا، وإذا أُخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخدعنا وأجعلنا حمقاء عندك»، يقولون ذلك على سبيل الإِستهزاء والسب، ولابدّ من الإِلتفات إِلى أن راعنا على الوجه الأوّل تكون بدون تشديد النون، وعلى الوجه الثاني بتشديد النون، ويستفاد من جملة من الروايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون في راعنا ومد آخرها.
والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة: (ليا بألسنتهم وطعناً في الدين).
(واللي على وزن الحي بمعنى الفتل، مثل فتل الحبل وما شابهه، ويأتي أيضاً بمعنى التغيير والتحريف).
(ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم) أي أنّهم إِن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق، وسوء الأدب، والجرأة والقحة وقالوا: سمعنا كلام الله وأطعنا، فاستمع إِلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إِدراكاً كاملا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك منفعتهم، وأكثر انسجاماً وتوافقاً مع العدل والمنطق والعدل والأدب.
(ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا).
أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللّهم إِلاّ بعضهم ممن يمتلك فؤاداً طاهراً وعقلا يقظاً، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق، والإِستماع إِلى نداء الحق والإِيمان به.
وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإِخباراته الغبيية، لأنّه ـ كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية ـ لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإِسلامي ولم يذعن للحق اِلاّ جماعة قليله، وأمّا غيرهم ـ وهم الأكثرية الساحقة ـ فقد بقوا ـ وإِلى الآن ـ على عدائهم الشديد، وخصومتهم للإِسلام، ولم يزالوا يكيدون له المكائد، ويحيكون ضده المؤامرات.
* * *
يَـأيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْنَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـبَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولا(47)
تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الإية إليهم أنفسهم، إِذ قال سبحانه: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم) أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنّكم أولى من غيركم ـ ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم ـ بالإِيمان بهذا الدين الطاهر.
ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يُصابوا بإِحدى عقوبتين، الأُولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إِلى خلف كما يقول سبحانه: (من قبل أن نطمس(1) وجوهاً فنردّها1 ـ الطمس هو إِزالة الأثر بالمحو، مثل أن نهدم بيتاً ثمّ نزيل أثره بالمرة ـ ولكنه يطلق ـ كناية ـ على ما فقد أثره وخاصيته.
![]() |
![]() |
![]() |