[319]

يجنّبوا أنفسهم وأُمّتهم الفشل والتقهقر والهزيمة على مدى تاريخهم المليء بالأحداث.

والشيء الآخر الذي يفهم من هذه الآية الكريمة، هو اختلاف أساليب مواجهة العدو بحسب ما تقتضيه الضرورة، ويعينه الظرف، ويحدد موقع العدو ـ فلو كان هذا الموقع يتطلب مقابلة العدو بجماعات منفصلة، لوجب استخدام هذا الأسلوب مع كل ما يحتاج إِليه من عدد وعدّة وغير ذلك، وقد يكون موقع العدو بصورة تقتضي مواجهة العدو في هجوم عام ضمن مجموعة واحدة متماسكة، وعند هذا يجب أن يعدّ المسلمون العدّة اللازمة والعدد الكافي لمثل هذا الهجوم الشامل.

ومن هنا يتّضح أنّ إصرار البعض على أن يكون للمسلمين أُسلوب كفاحي واحد دون اختلاف في التكتيك لا يقوم على منطق ولا تدعمه التجارب، إِضافة إِلى أنّه يتنافى مع روح التعاليم الإِسلامية.

لعل الآية ـ أعلاه ـ تشير أيضاً إِلى أنّ المسألة الهامّة هي تحقيق الأهداف الواقعية سواء تطلب الأمر أن يسلك الجميع أُسلوباً واحداً، أو أن ينهجوا أساليب متنوعة.

ويفهم من كلمة «جميعاً» أنّها تعني أنّ المسلمين كافّة مكلّفون بالمشاركة في أمر مواجهة العدو، ولا يختص هذا الحكم بطائفة معينة.

* * *

[320]

الآيتان

وَإِنَّ مِنكُمْ لَـمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَـبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً(72) وَلِئِنْ أَصَـبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَـلَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(73)

التّفسير

بعد صدور الأمر العام إِلى المسلمين بالجهاد والإِستعداد لمقابلة العدوّ في الآية السابقة تبيّن هاتان الآيتان موقف المنافقين من الجهاد، وتفضح تذبذبهم، فهم يصرّون على الإِمتناع عن المشاركة في صفوف المجاهدين في سبيل الله... (وإِن منكم(1) لمن ليبطّئن(2)...).

وحين يعود المجاهدون من ميدان القتال أو حين تصل أنباء معاركهم، فإِن


1 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الإية أعلاه تخاطب المؤمنين، لكنّها تتطرق إِلى المنافقين أيضاً، كما أنّ عبارة «منكم» جعلت المنافقين جزءاً من المؤمنين، وما ذلك إلاّ لأنّ المنافقين كانوا دائماً متغلغلين بين المؤمنين، ومن هنا فهم يحسبون على الظاهر جزءاً منهم.

2 ـ «ليبطئن» من «البطء» في الحركة، وهو فعل لازم ومتعد كما ذكر علماء اللغة، أي أنّهم يبطؤون في حركتهم ويدعون الآخرين إِلى البطء، ولعل استعمال الفعل في باب التفعيل هنا يعني أنّه متعد فقط، أي أنّهم يدفعون أنفسهم إِلى البطء تارةً، ويدفعون الآخرين إِلى ذلك تارةً أُخرى.

[321]

كان قد أصابهم مكروه في قتالهم يتحدث المنافقون بابتهاج بأنّ الله قد أنعم عليهم نعمة كبيرة إِذ لم يشاركوا المجاهدين في ذلك القتال، ويفرحون لعدم حضورهم في مشاهد الحرب الرهيبة (فإِن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إِذ لم أكن معهم شهيداً ...).

وحين تصل الأخبار بانتصار المسلمين المجاهدين ونيلهم المغانم، يتبدل موقف هؤلاء المنافقين فتبدو الحسرة عليهم ويظهر الندم على وجوههم، ويشرعون ـ وكأنّهم غرباء لا تربطهم بالمسلمين أية رابطة ـ بترديد عبارات التأسف: (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً).

في الآية إِشارة إِلى المفهوم المادي للنصر في نظر المنافقين، فالذي يرى الشهادة والقتل في سبيل الله مصيبةً وبلاءً، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في هذه السبيل نعمة إِلهية، لا ينظر إِلى النصر والفوز إِلاّ من خلال منظار كسب الغنائم والمتاع المادي لا غير.

هؤلاء المتلونون الموجودون ـ مع الأسف ـ في كل المجتمعات، سرعان ما يغيرون أقنعتهم تجاه ما يواجهه المؤمنون من نصر أو هزيمة، هؤلاء لا يشاركون المؤمنين في معاناتهم ولا يساعدونهم في الملمات، لكنّهم يتوقعون أن يكون لهم في الإِنتصارات السّهم الأوفى، وأن يحصلوا على ما يحصل عليه المجاهدون المؤمنون من إمتيازات.

* * *

[322]

الآية

فَلْيُقَـتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالاَْخِرَةِ وَمَن يُقَـتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْيَغْلِبْ فَسَوْفَ نَؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(74)

التّفسير

إِعداد المؤمنين للجهاد:

بعد أن أوضحت الآية السابقة إِحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها ـ بلغة مشجعة مشوقة ـ إِلى المؤمنين فتدعوهم إِلى الجهاد في سبيل الله، ونزول هذه الآيات حين كان الإِسلام مهدداً من قِبَلِ مختلف الأعداء ـ سواء من الداخل أو الخارج ـ يدل على أهميتها في تربية الروح الجهادية لدى المسلمين.

وتوضح الآية في بدايتها أنّ أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق أُولئك النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة، مقابل فوزهم بالحياة الأُخروية الخالدة: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ...) أي أن المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة، بعد أن إنكشفت لهم دناءة الحياة المادية (وهو ما يفهم من لفظ الدنيا)، فهؤلاء أدركوا أن هذه الحياة لا قيمة لها تجاه الحياة الأبدية الخالدة، أمّا الذين يرون الأصالة في

[323]

الحياة المادية الدنيئة، ويعتبرونها أرفع وأكبر من الأهداف الإِلهية المقدسة والأهداف الإِنسانية السامية، فلا يمكن أن يكونوا أبداً مجاهدين صالحين.

وتستمر الآية مبينة أنّ مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين: إمّا النصر على الاعداء، أو الشهادة في سبيل الله، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من الله تعالى (... ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) وبديهي أن جنوداً كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة، فهم يرون النصر إِلى جانبهم في الحالتين: سواء تغلّبوا على العدو، أو نالوا الشهادة في سبيل الله، ومثل هذه المعنويات كفيلة بأن تمهد الطريق للإِنتصار على العدو، ويعتبر التاريخ خير شاهد على أنّ هذه المعنويات هي العامل في إنتصار المسلمين على أعداء فاقوهم عدداً وعُدّة.

ويؤكّد هذا الأمر حتى المفكرون من غير المسلمين ممن كتبوا عن إنتصارات المسلمين السريعة التي حققوها في عصر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي العصور التالية، فهؤلاء المفكرون يرون أن منطق الفوز بإِحدى الحسنيين أحد العوامل الحاسمة في تقدم المسلمين.

يقول مؤرخ غربي مشهور في كتاب له في هذا المجال: إِنّ المسلمين لم يكونوا ليخافوا الموت في سبيل دينهم الجديد، لما وعدوا به من هبات إِلهية في الآخرة، وأنّهم لم يعتقدوا بأصالة خلود هذه الحياة الدنيا، ولذلك فهم قد تنازلوا عن هذه الحياة في سبيل العقيدة والهدف(1).

والجدير ذكره هنا هو أنّ هذه الآية ـ وآيات أُخرى من القرآن الكريم ـ اعتبرت الجهاد أمراً مقدساً إِذا كان في سبيل الله، ومن أجل إِنقاذ البشر، وإِحياء مبادىء الحق والعدالة والطهارة والتقوى، على عكس الحروب التي تشن بهدف التوسع وبدافع من التعصب والتوحش والإِستعمار والإِستغلال.

* * *


1 ـ راجع غوستاف لوبون، تاريخ الحضارة الإِسلامية والعربية.

[324]

الآية

وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً(75)

التّفسير

الإِستعانة بالعواطف والمشاعر الإِنسانية:

كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إِيمانهم بالله واليوم الآخر، وقد اعتمدت أيضاً قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إِلى الجهاد، أمّا هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إِلى العواطف والمشاعر الإِنسانية وتستثيرها في هذا الإِتجاه ـ فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب الطغاة الجبارين، وتطالب المؤمنين ـ مستثيرة عواطفهم في هذا الإِتجاه ـ عن طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني منها المستضعفون وتدعوهم إِلى الجهاد في سبيل الله من أجل إِنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية: (وما لكم لا

[325]

تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين(1) من الرجال والنّساء والولدان ...).

ولأجل إثارة المشاعر أكثر، تنبّه الآية المؤمنين بأنّ المستضعفين المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والإِرهاب والإِضطهاد قد إنقطع أملهم في النجاة ويئسوا من كل عون خارجي، فأخذوا يدعون الله لإِخراجهم من ذلك المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش: (الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) ويطلب المستضعفون من الله ـ أيضاً ـ أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم: (واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً).

الآية ـ في الواقع ـ نشير إِلى أنّ الله قد استجاب دعاء المستضعفين، فهذه الرسالة الإِنسانية الكبرى قد أوكلت إِليكم أنتم أيّها المسلمون المخاطبون، فقد أصبحتم أنتم «الولي» المرتقب وأنتم «النصير» من قبل الله تعالى لإِنقاذ المستضعفين، من هنا عليكم أن تنهضوا بهذه المسؤولية وتستثمروا هذه المكانة الكبرى المناطة إِليكم ولا تضيعوها.

والآية هذه يستفاد منها أيضاً عدّة أُمور، هي:

1 ـ إِنّ الجهاد في سبيل الله وكما أُشير إِليه من قبل ـ ليس من أجل إنتزاع الأموال والسلطة والثروات من أيدي الأخرين، كما أنّه لا يستهدف إِيجاد أسواق لإستهلاك البضائع أو لفرض عقائد خاصّة بالقوّة، بل أنه يستهدف نشر الفضيلة والإِيمان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من النساء والرجال والولدان، ومن هذا المنطلق يتّضح أنّ للجهاد هدفين شاملين جامعين أشارت الآية إِليهما، أحدهما «ربّاني»، وآخر «إِنساني» يكمل أحدهما الآخر، ولا ينفصلان، بل


1 ـ إنّ الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوّة، والمستضعف هو من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين، سواء كان الإِستضعاف فكرياً أم ثقافياً أم كان أخلاقياً أو اقتصادياً أم سياسياً أم إجتماعياً، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الإِستضعاف.

[326]

كلاهما يعودان إِلى حقيقة واحدة.

2 ـ إِنّ الإِسلام يرى أن المحيط السالم الذي يمكن للإِنسان أن يعيش فيه، هو ذلك المحيط الذي يوفّر الحرية للإِنسان، ويضمن له العمل بما يعتقد دون مانع أو أذى، ويرى الإِسلام ـ أيضاً ـ أنّ المحيط الذي يسوده الكبت والإِرهاب والقمع، ولا يستطيع المسلم فيه إِظهار عقيدته أو إِعلان إِسلامه، فهو محيط لا يجدر بالإِنسان المسلم أن يبقى فيه، لذلك فإِن الآية تنقل عن المؤمنين دعاءهم إِلى الله لكي يخلصهم من مثل هذا الجو المليء بالقمع والإِرهاب.

وعلى الرغم من أن مكّة كانت ملجأ وملاذاً للمهاجرين، فإِنّ تفشي الظلم فيها جعل المؤمنين يدعون الله لإِنقاذهم من ظلم أهل هذه المدينة، وييسر لهم سبيلا إِلى الخروج منها.

3 ـ وفي نهاية الآية نرى أنّ المؤمنين الذين يعانون من محيطهم الظالم، يسألون الله أن يبعث لهم من يتولى شؤونهم، وأن يمدهم ـ أيضاً ـ بمن ينصرهم على الظالمين ويخلصهم من مخالبهم، ويفهم من هذه الآية أهمية القيادة الصالحة، وأهمية قدرة هذه القيادة في إنقاذ المظلومين وضرورة إمتلاكها من العدد والعدّة ما يمكنها من القيام بسمؤوليتها الخطيرة هذه.

بذلك نستنتج من الآية العناصر التي يجب أن تتوفر في كل قيادة إِسلامية، وهي كمايلي:

أ ـ أن تكون القيادة صالحة (بما في كلمة الصلاح من شمولية)

ب ـ أن تكون قوية مقتدرة (أن تملك العدد والعدّة الكافيين، بالإِضافة إِلى الخطط العسكرية التي تضمن نجاح استخدام القوّة الموجودة).

4 ـ تبيّن الآية أنّ المؤمنين يطلبون حاجاتهم من الله العلي القدير وحده، ولا يلجأوون إِلى غيره في حوائجهم، حتى أنّهم يسألون الله أن يمدهم بمن يتولى الدفاع عنهم وينصرهم على الظالمين.

* * *

[327]

الآية

الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّـغُوتِ فَقَـتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَـنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـنِ كَانَ ضَعِيفاً(76)

التّفسير

لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد، وأبرزت عناصره والمخاطبين به ودوافعه، وفي هذه الآية نلاحظ أنّها تحث المجاهدين على القتال، وتبيّن أهدافهم، مؤكّدة أنّهم يقاتلون في سبيل الله ولمصلحة عباد الله، وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) أي أنّ الحياة في كل الأحوال لا تخلو من الكفاح والصراع، غير أن جمعاً يقاتلون في طريق الحق، وجمعاً يقاتلون في طريق الشيطان والباطل.

لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما رهبة وخوف: (فقاتلوا أولياء الشيطان).

كما توضح هذه الآية حقيقة مهمّة، هي أنّ الطاغوت والقوى المتجبرة ـ مهما إمتلكت من قوة ظاهرية ـ ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها، وبهذا تطمئن الآية

[328]

المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت مهما أُوتوا من عدّة أو عدد، لأنّهم خالون من الهدف فارغون من الإِيمان، ولذلك كانت خططهم كلها ضعيفة خاوية كقدرتهم ولأنّهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو الله العزيز القدير، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء: (إِنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً).

أما سبب قوة المؤمنين من أنصار الحق فيعود إِلى أنهم يسيرون في طريق أهداف وحقائق تنسجم مع قانون الخليقة والوجود، وتتمتع بالصفة الأزلية الأبدية، فهم يجاهدون في سبيل تحرير الإِنسان ومحو آثار الظلم والعدوان بينما الطاغوت وأنصاره يقاتلون من أجل منافعهم الشخصية أو يعملون في خدمة الطواغيت والمستكبرين من أجل إستغلال البشر إِرضاءاً لشهواتهم الفانية الزائلة، الأمر الذي يدفع في النهاية بالمجتمع إِلى الإِنحطاط والزّوال، لأنّ عمل الطواغيت يتناقض وسرّ الوجود ويتعارض مع قوانين الفطرة والطبيعة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن المؤمنين باعتمادهم على القوى الروحية يتمتعون بثقة عالية بالنفس وبهدوء باطني يمهّد لهم سبيل النصر والفوز على العدو، بل ويهبهم القوّة والقدرة على الإِندفاع لمواجهة الأعداء، بينما العدو والكافر لا يعتمد على أساس قوي أبداً.

وتجدر الملاحظة هنا أنّ الآية قرنت الطاغوت بالشيطان، وهذا يدل على أن القوى الطاغوتية المتجبرة إِنّما تستمد القوة والعون من منبع ضعيف يتمثل في القوى الشيطانية والجوفاء.

هذا المضمون تذكره ـ أيضاً ـ الآية (27) من سورة الأعراف: (إنّا جعلنا الشّياطين أولياء للذين لا يؤمنون).

* * *

[329]

الآية

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَآ إِلَى أَجَل قَرِيب قُلْ مَتَـعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّـمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلا(77)

سبب النّزول

روى جمع من المفسّرين كالشّيخ الطوسي في التبيان، والقرطبي وصاحب المنار عن ابن عباس أنّ نفراً من المسلمين كانوا أثناء وجودهم في مكّة قبل الهجرة يعانون من ضغط المشركين وإذاءهم، فجاءوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يسمح لهم بقتال الأعداء فأجابهم النّبي في حينه أنّه لم يؤمر بالجهاد.

ومضت أيّام على طلب هؤلاء، حتى هاجر المسلمون إِلى المدينة وتهيأت هناك ظروف وشروط الجهاد المسلح، وأمر الله المسلمين بالجهاد، فأخذ بعض من أُولئك النفر الذين كانوا يصرّون على النّبي للسماح لهم بالجهاد وقتال الأعداء في مكّة يظهرون الكسل والتهاون في تنفيذ الأمر الإِلهي، ولم يبدوا أي حماس أو رغبة في الجهاد، كما كانوا يظهرون ذلك في مكّة، فنزلت هذه الآية وهي تحثّ

[330]

المسلمين على الجهاد وتؤنب المتهاونين والمتقاعسين عن هذا الواجب الحسّاس.

وقد تطرقت الآية الكريمة إِلى عدد من الحقائق في هذا الصدد.

التّفسير

قوم بضاعتهم الكلام دون العمل:

تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب، وأصرّوا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم ـ حينئذ ـ بالصبر والإِحتمال، ودعوا إِلى إِقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، إستولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإِلهي ويتهاونون في أدائه.

تقول الآية: (ألم تر إِلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلمّا كتب عليهم القتال إِذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية ...) فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا أسرع الله في إِنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر الله هذا الأمر ولو قليلا! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة(1) (وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إِلى أجل قريب ...).

والقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّلا من خلال عبارة: (يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية) أي أن هؤلاء بدل أن يخافوا الله القادر القهار، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إِنسان ضعيف عاجز، بل أصبح خوفهم من هذا


1 ـ تدل بعض الأحاديث أنّ هذا النفر من المسلمين كان قد سمع بحديث نهضة المهدي المنتظر، فكان البعض منهم يترقب أن يؤخر الجهاد إِلى زمن المهدي(عليه السلام)، تفسير نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 518.

[331]

الإِنسان أكبر من خشيتهم الله العلي القدير.

ثمّ يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم ـ فرضاً ـ حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد الله بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة، وإِن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم، (قل متاع الحياة الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا)(1).

من الضروري الإِلتفات إِلى عدة نقاط في تفسير هذه الآية، وهي:

1 ـ لماذا أُمرت أُولئك النفر بإِقامة الصلاة وأداء الزكاة دون غيرهما من الفرائض الكثيرة الاُخرى؟

والجواب على هذا السؤال يتلخص في أنّ الصلاة هي سر الإِتصال بالله سبحانه عزّ وجل، والزكاة تعتبر مفتاحاً لباب الإِتصال بعباد الله، وعلى هذا الأساس فقد صدرت الأوامر للمسلمين بأن يعدّوا أنفسهم وأرواحهم ومجتمعهم للجهاد في سبيل الله، عن طريقة إِقامة الصلة الوثيقة بينهم وبين الله وعباده، وبعبارة أُخرى أن يسعوا إِلى بناء أنفسهم وإِعدادها، وبديهي أن أي جهاد يحتاج بالضرورة إِلى إِعداد النفس والروح، وإِلى توثيق عُرى التلاحم الإِجتماعي، وبدون ذلك لا يمكن إِحراز أي إنتصار.

والإِنسان يقوي صلته بالله من خلال الصلاة ويربّي بها روحه ومعنوياته، فيكون بذلك مستعداً لتقديم أغلى التضحيات بما في ذلك التضحية بالنفس، كما أنّ الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لرأب كل صدع إِجتماعي، بالإِضافة إِلى كونها دعماً إِقتصادياً في سبيل إِعداد ذوي الخبرة والتجربة والعُدة الحربية، وما


1 ـ الفتيل يعني الشعيرة الرفيعة جداً الموجودة بين فلقتي نواة التّمر، وقد تطرقنا إِلى شرح ذلك في الآية (49) من سورة النساء وفي هذا المجلد من تفسيرنا هذا.

[332]

يحتاجه المسلمون في قتال الأعداء ليكونوا على استعداد لمواجهة العدو إِذا صدر الأمر إِليهم بذلك.

2 ـ المعروف أنّ حكم الزكاة ورد في آيات نزلت في المدينة (أي أنّها آيات مدنية) ولم يكلف المسلمون بأداء الزكاة في مكّة ـ فكيف إِذن يمكن القول إِن هذه الآية تتحدث عن وضع المسلمين في مكّة؟

يجيب على هذا السؤال الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسير «التّبيان» فيقول: إِنّ المقصود بالزكاة الواردة في هذه الآية هو الزكاة المستحبة التي كانت معروفة في مكّة، أي أنّ القرآن المجيد كان يحثّ المسلمين حتى في مكّة على تقديم المساعدات المالية إِلى مستحقيها ولدعم إقتصاد المجتمع الإِسلامي الجديد في مكّة.

3 ـ وتشير هذه الآية الكريمة إِلى حقيقة مهمة، هي أنّ المسلمين في مكّة كان لهم منهج، ثمّ أصبح لهم في المدينة منهج آخر، ففي مكّة انشغل المسلمون ببناء شخصيتهم الإِسلامية بعد أن تحرروا من أدران الجاهلية، فكان سعي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في مكّة منصباً على تربية هؤلاء الذين نبذوا عبادة الأصنام ليجعل منهم أناساً يسترخصون النفس والنفيس في مواجهة ما يعترض سبيل المسلمين من تحديات، فما أحرزه المسلمون من إنتصارات باهرة في المدينة المنورة، كان حصيلة عملية بناء الشخصية الإِسلامية، هذه العملية التي تعهدت بها رسالة الإِسلام في مكّة.

لقد تعلم المسلمون الكثير في مكّة ومارسوا تجارب جمّة واكتسبوا استعداداً روحياً ومعنوياً عظيماً خلال العهد المكي، ودليل هذا الأمر هو نزول قرابة التسعين سورة ـ من مجموع سور القرآن الكريم البالغة مائة وأربع وعشرة سورة ـ في مكّة، وقد تناولت هذه السور في الغالب الجوانب العقائدية التربوية الخاصّة بإِعداد الشخصية الإِسلامية ـ أمّا في المدينة فقد انصرف المسلمون إِلى

[333]

تشكيل الحكومة الإِسلامية وإِقامة أُسس المجتمع الإِسلامي السليم.

ويدل هذه ـ أيضاً ـ على عدم نزول حكم الجهاد والزكاة الواجبين في العصر المكي لأنّ الجهاد من واجبات الحكومة الإِسلامية مثل تشكيل بيت المال فإِنّه من شؤون الحكومة الإِسلامية أيضاً.

* * *

[334]

الآيتان

أَيْنََما تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بِرُوج مُّشَيَّدَة وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ االلهِ فَمَالِ هَـؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَيَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً(78) مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَـكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً(79)

التّفسير

نستنتج من الآيات السابقة واللاحقة أنّ هاتين الآيتين تقصدان مجموعة من المنافقين تسللوا إِلى صفوف المسلمين، وقد قرأنا في الآيات السابقة أن هؤلاء قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسؤولية الجهاد، وقد ظهر عليهم الضجر والإِستياء حين نزول حكم الجهاد، فردّ عليهم القرآن الكريم وأنبّهم لموقفهم هذا بقوله: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى)(1) موضحاً أن الحياة بكل زخارفها سرعان ما تزول، وإِنّ ما يناله المؤمنون الذين يخشون الله


1 ـ الآية 77 من نفس السورة.

[335]

ولا يعصونه من الخير والثواب هو خير من كل ما في هذه الدنيا من خيرات.

وفي هذا المقطع القرآني ردّ آخر على أُولئك المنافقين، حيث بيّن أن الموت آتيهم يوماً لا محالة، حتى إِذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنّهم، ومادام الموت يدرك الإِنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على طريق مثمر وصحيح كالجهاد؟!

وممّا يلفت الإِنتباه أنّ القرآن الكريم يطلق في مواقع متعددة اسم «اليقين» على الموت، كما في الآية (99) من سورة الحجر، والآية (48) من سورة المدثر ـ ومعنى هذه العبارة القرآنية هو أن الإِنسان مهما كانت عقيدته ـ يؤمن بوجود الموت إِيماناً لا يخامره فيه شك مطلقاً، ومهما أنكر المرء من حقائق لا يستطيع إنكار الموت الذي يشهده بأم عينه أو يسمع عنه كل يوم، والإِنسان الذي يحب الحياة ويخال أن الموت هو الفناء الذي لا حياة بعده أبداً يخاف من ذكر الموت ويفر من مظاهره.

الآيتان الأخيرتان تؤكدان حقيقة عدم جدوى الفرار من الموت، فهو يدرك الإِنسان يوماً ما لا محالة، وهو حقيقة قطعية يقينية في عالم الوجود.

وعبارة (يدرككم) الواردة في الآية الأُولى تعني الملاحقة، واللاحق هو الموت الذي يدرك الإِنسان، وتوحي بأنّ الفرار لا ينقذ الإِنسان من هذا المصير الحتمي.

وتؤكد الحقيقة المذكورة الآية الثّامنة من سورة الجمعة إِذ تقول: (قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإِنّه ملاقيكم).

إِذن ليس من العقل والمنطق أن يدرك الإِنسان هذه الحقيقة ويفر بعد ذلك من ميدان الجهاد، ويحرم نفسه أشرف ميتة وهي الشهادة في سبيل الله، فيموت على فراشه فلو عاش الإِنسان بعد فراره من الجهاد أيّاماً أو شهوراً أو سنوات لتكرر ما فعل ولتكررت أمامه المشاهد الماضية، فهل من العقل أن يحرم الإِنسان نفسه

[336]

لأجل هذه المتكررات من الثواب الأبدي الذي يناله المجاهد في سبيل الله؟!

وهنا أمر ثان يجب الإِنتباه له في الآية الأُولى من هاتين الآيتين، وهو عبارة (بروج مشيدة)(1) التي تؤكد أنّ الموت لا تحول دونه القلاع والحصون المنيعة العالية، والسرّ في هذا الأمر هو أنّ الموت الطبيعي لا يداهم الإِنسان من خارج وجوده ـ خلافاً لما يتصورون ـ ولا يحتاج إِلى اجتياز القلاع والحصون، بل يأتي من داخل وجود الإِنسان حيث تقف أجهزة الإِنسان عن العمل بعد نفاذ قدرتها المحدودة على البقاء.

نعم، الموت غير الطبيعي يأتي الإِنسان طبعاً من خارج وجوده، وبذلك قد تنفع القلاع والحصون في تأخير هذا النوع من الموت عنه.

ولكن ماذا ستكون النهاية والنتيجة؟ هل بمقدور القلاع والحصون أن تحول دون وصول الموت الطبيعي الذي سيدرك الإِنسان ـ دون شك ـ في يوم من الإيّام؟!

من أين تأتي الإِنتصارات والهزائم؟

يشير القرآن في هاتين الآيتين إِلى وهم آخر من أوهام المنافقين، حين يوضح أن هؤلاء إِذا أحرزوا نصراً أو غنموا خيراً قالوا: إِنّ الله هو الذي أنعم عليهم بذلك، وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة: (وإِن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله).

أمّا إِذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال، ألقوا اللوم على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وافتروا عليه بقولهم إِنّ ما نالهم من سوء هو من عنده، متهمين خططه


1 ـ «مشيدة» في الاصل من مادة «شيد» على وزن فيل، بمعنى الجص والمواد الاُخرى التي تستخدم لتقوية البنيان، وبما أن أكثر المواد استعمالا في البناء في تلك الازمنة هو الجص فان هذه الكلمة تطلق عليه عادة، فيكون معنى «بروج مشيدة» هو القلاع الرصينة والمتينة، وقد تستعمل ويراد بها المرتفعة والعالية. وذلك أيضاً لنفس السبب لانّه من دون استخدام الجص لم يكن بالامكان بناء تلك الابنية المرتفعة.

[337]

العسكرية بالضعف، من ذلك ما حدث في غزوة أُحد، تقول الآية: (وإِن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ...).

ويحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الآية قد نزلت بشأن اليهود، ويرون أنّ المقصود بالحسنة والسيئة ـ هنا ـ هو ما كان يحدث من وقائع سارة وضارة، حيث كان اليهود حين بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ينسبون كلّ حدث سار ونافع إِلى الله، ويعزون حدوث الوقائع الضّارة إِلى وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيهم، بينما اتصال الآية بالآيات السابقة والتالية ـ التي يدور الحديث فيها عن المنافقين ـ يدل على أنّ المقصود في هذه الآية الأخيرة هم المنافقون.

ومهما يكن من أمر، فإنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكداً إنّ الإِنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقاً بالله ويعبده ولا يعبد سواه، إِنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والإِنتصارات والهزائم هي بيد الله العليم الحكيم، فالله هو الذي يهب الإِنسان ما يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية، وفي هذا المجال تقول الآية: (قل كلّ من عندالله).

والآية ـ هذه ـ تحمل في آخرها تقريعاً وتأنيباً للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة، حيث تقول: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً).

وبعد هذا ـ في الآية التالية ـ يصرّح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإِنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وإنتصار هو من عند الله، وإِن ما يحصل للإِنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإِنسان نفسه تقول الآية: (ما أصابك من حسنة فمن عند الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ...) وتردّ الآية في آخرها على أُولئك الذين كانوا يرون وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)سبباً لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: (وأرسلناك للنّاس رسولا وكفى بالله شهيداً).

[338]

جواب على سؤال مهم:

السّؤال المهم الذي يتبادر إِلى الذهن حين قراءة هاتين الآيتين الأخيرتين هو: لماذا نسب الخير والشر في الآية الأُولى كلّه لله؟ ولماذا حصرت الآية التالية الخير ـ وحده ـ لله، ونسبت الشرّ إِلى الإِنسان؟

حين نمعن النظر في الآيتين تواجهنا عدّة أُمور، يمكن لكل منها أن يكون هو الجواب على هذا السؤال.

1 ـ لو أجرينا تحليلا على عناصر تكوين الشر لرأينا أنّ لها اتجاهين: أحدهما إِيجابي والآخر سلبي، والإِتجاه الأخير هو الذي يجسد شكل الشر أو السيئة ويبرزه على صورة «خسارة نسبية» فالإِنسان الذي يقدم على قتل نظيره بسلاح ناري أو سلاح بارد يكون قد ارتكب بالطبع عملا شريراً وسيئاً، فما هي إِذن عوامل حدوث هذا العمل الشرير؟

إِنّها تتكون من: أوّلا: قدرة الإِنسان وعقله وقدرة السلاح والقدرة على الرمي والتهديف الصحيحين واختيار المكان والزمان المناسبين، وهذه تشكل عناصر الإِتجاه الإِيجابي للقضية، لأنّ كل عنصر منها يستطيع في حدّ ذاته أن يستخدم كعامل لفعل حسن إِذا استغل الإِستغلال الحكيم، أمّا الإِتجاه السلبي فهو في استغلال كل من هذه العناصر في غير محله، فبدلا من أن يستخدم السلاح لدرء خطر حيوان مفترس أو للتصدي لقاتل ومجرم خطير، يُستخدم في قتل إِنسان بريء، فيجسد بذلك فعل الشر، وإِلاّ فإِنّ قدرة الإِنسان وعقله وقدرته على الرمي والتهديف، وأصل السلاح وكل هذه العناصر، يمكن أن يستفاد منها في مجال الخير.

وحين تنسب الآية الأُولى الخير والشرّ كلّه لله، فإِن ذلك معناه أنّ مصادر القوّة جميعها بيد الله العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشرّ لله، لأنّه هو واهب القوى.

[339]

والآية الثّانية: تنسب «السيئات» إِلى الناس إنطلاقاً من مفهوم «الجوانب السلبية» للقضية ومن الإِساءة في استخدام المواهب الإِلهية.

تماماً مثل والد وهب ابنه مالا ليبني به داراً جديدة، لكن هذا الولد بدلا من أن يستخدم هذا المال في بناء البيت المطلوب، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه في مجالات الفساد والفحشاء، لا شك أنّ الوالد هو مصدر هذا المال، لكن أحداً لا ينسب تصرف الابن لوالده، لأنه أعطاه للولد لغرض خيري حسن، لكن الولد أساء استغلال المال، فهو فاعل الشرّ، وليس لوالده دخل في فعلته هذه.

2 ـ ويمكن القول ـ أيضاً ـ بأنّ الآية الكريمة إِنّما تشير إِلى موضوع «الأمر بين الأمرين».

وهذه قضية بحثت في مسألة الجبر والتفويض، وخلاصة القول فيها أنّ جميع وقائع العالم خيراً كانت أم شرّاً ـ هي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدير لأنّه هو الذي وهب الإِنسان القدرة والقوّة وحرية الإِنتخاب والإِختيار، وعلى هذا الأساس فإِنّ كل ما يختاره الإِنسان ويفعله بإِرادته وحريته لا يخرج عن إِرادة الله، لكن هذا الفعل ينسب للإِنسان لأنّه صادر عن وجوده، وإِرادته هي التي تحدد اتجاه الفعل.