2 ـ العمالقة قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا معصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام 1703 قبل الميلاد.

عن دائرة المعارف لفريد وجدي، ج 60، ص 232 (الطبعة الثّالثة).

[664]

الخرافية من ذلك، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ«عوج» في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير.

ويبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إِلى بعض الكتب الإِسلامية، وإِنّما هي من صنع بني إِسرائيل، والتي تسمّى عادة بـ «الإِسرائيليات» والدليل على هذا القول هو ما ورد نصاً في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة، نقرأ في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر «إِن الأرض التي ذهب بنو إِسرائيل إِليها لإِستقصاء أخبارها هي أرض تبيد ساكنيها وإِن جميع من فها هم أناس طوال وفيهم العمالقة من أبناء «عناق» بشكل كان بنو إِسرائيل الذين ذهبوا للتجسس هناك أشبة بالجراد قياساً بأحجام العمالقة الموجودين في تلك الأرض!».

بعذ هذا الحديث يشير القرآن الكريم إِلى رجلين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الإِجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إِلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسى(عليه السلام) فواجها بني إِسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الإمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإِذا دخلتموه فإِنّكم غالبون).

وتؤكد الآية ـ بعد ذلك على ضرورة الإِعتماد على الله في كل خطوة من الخصوات، والإِستمداد من روح الإِيمان بقوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إِن كنتم مؤمنين).

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و«كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإِثني عشر في بني إِسرائيل، كما ورد

[665]

سابقاً(1).

مع كل الإِحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة (من الذين يخافون)إلاّ أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة (أنعم الله عليهما ...) فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإِنسان من الله وحده ولا يخشى أحداً سواه.

وقد يسأل سائل في هذا المجال عن مصدر علم هذين الرجلين، وكيف أنّهما علما أن بني إِسرائيل ستكون لهم الغلبة إِن هم دخلوا المدينة ـ أو الأرض المقدسة ـ في هجوم مباغت؟

وجوابه: لعل علم هذين الرجلين بتلك الغلبة كان نابعاً من ثقتهما بأقوال النّبي موسى(عليه السلام) أو أنّهما اعتمدا على قاعدة كلية في الحروب، مفادها أن الجماعة المهاجمة إن استطاعت الوصول إِلى مقر ومركز العدو ـ أي تمكنت من محاربة العدو في داره ـ فإِنها سنتتصر عليه(2) عادة.

والمستهدفون في تلك الحرب هم قوم المعالقة، وهم بسبب ما كانوا عليه من طول خارق، كان أسهل عليهم أن يحاربوا في بر أو فضاء مفتوح بدل الحرب في مدينة، فيها ـ بحسب العادة ـ الأزقة والطرق الملتوبة (بغضّ النظر عن الجوانب الأسطورية التي تتحدث عن الطول الخارق لهؤلاء العمالقة)، أضف إِلى ذلك كله أنّ العمالقة ـ كما نقل ـ كانوا على رغم قاماتهم الطويلة أناساً جبناء رعاديد، يرهبهم كل هجوم مباغت، وكل هذه الأسباب أصبحت دليلا قوياً لدى الرجلين المذكورين ليقولا بحتمية إنتصار بني إِسرائيل.


1 ـ الباب الأوّل من سفر التثنية في التوراة المتداولية، فيه إِشارة إِلى أنّ اسمي هذين الرجلين هما «يوشع» و«كاليب».

2 ـ وقد أشار الإِمام علي بن أبي طالب في إِحدى خطبه الواردة في كتاب نهج البلاغة اليى هذه الحقيقة بقوله(عليه السلام): (فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) (الخطبة 27).

[666]

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إِسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإِقتراحات المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى(عليه السلام)وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (قالوا يا موسى إِنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون).

وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إِليها بنوإِسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى(عليه السلام)، فهم بقولهم «لن» و«أبداً» أكدوا رفضهم القاطع للدخلول إِلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسى(عليه السلام) ودعوته واستهزأوا بهما، بقولهم: (إِذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون ...) كما أنّهم ـ أيضاً ـ لم يعيروا التفاتاً لإِقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.

والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد، حيث جاء فيها أن جميع بني إِسرائيل لاموا موسى وهارون أخاه وقالوا جميعاً: ليتنا متنا جميعاً في أرض مصر أو في الفلاة، فلماذا جاء بنا الرّب إِلى هذه الأرض لكي نقتل بحدّ السيف، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا ... فحار موسى وأخاه هارون أمام القوم، ماذا يفعلان؟ أمّا يوشع بن نون وكاليب بن يفنة، اللذان كانا من مجموعة الرجال الذين ذهبوا للتجسس على تلك الأرض فقد شقا جيبهما ... .

ثمّ نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه للدعاء مناجياً ربّه قائلا: إِنّه لا يملك حرية التصرف إلاّ على نفسه وأخيه، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة، لكي يلقى هولاء جزاء أعمالهم ويبادروا إِلى إِصلاح أنفسهم، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: (قال ربّي إِنّي لا أملك إِلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين).

[667]

وبديهي إِنّ رفض بني إِسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر، وما استخدام القرآن لعبارة «الفاسق» بحق هؤلاء إِلا لأن كلمة «الفسق» لها معان واسعة، وتشمل كل خروج وإنحراف عن سنة العبودية لله، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم ـ حين التحدث عن إِنحراف الشيطان ـ قول الله تعالى: (ففسق عن أمر ربّه  ...)(1).

وتجدر هنا الإِشارة إِلى أنّ جملة: (من الذين يخافون ...) الواردة في الآيات السابقة تدل على وجود قلة من اليهود كانت تخشى الله، ومنهم الرجلان المذكوران في إِحدى الآيات الأخيرة وهما «يوشع» و«كاليب» بينما نلاحظ أن موسى(عليه السلام) لا يذكر هنا غير نفسه وأخيه، ولا يذكر ولو حتى بالتلميح أحداً من تلك القلّة، وقد يكون السبب هو أن هارون لكونه الوصي لأخيه موسى(عليه السلام)ولكونه أبرز شخصية في بني إِسرائيل من بعد موسى(عليه السلام) ... لذلك ذكر اسمه دون غيره.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إِسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إِذ استجاب الله دعاء نبيه موسى(عليه السلام)، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: (قال فإِنّها محرمة عليهم أربعين سنة ...).

وزادهم عذاباً إِذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: (يتيهون في الأرض ...) وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إِسرائيل باسم «التيه» أيضاً، وكانت جزءاً من صحراء سيناء، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إِسرائيل من عذاب في تلك المدة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى(عليه السلام) أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة: (فلا تأس على القوم الفاسقين).


1 ـ الكهف، 50.

[668]

وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة، هو أنّ موسى(عليه السلام) قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إِسرائيل، فطلب من الله العفو لقومه ـ كما ورد في التوراة المتداولة ـ فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إِسرائيل يستحقون ذلك العذاب، وهم لا يستحقون العفو الإِلهي لأنّهم أُناس فاسقون وعصاة، متكبرون، ومن كان هذا شأنه سيلاقي ـ حتماً ـ مثل هذا المصير.

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ حرمان بني إِسرائيل من الدخول إِلى الأرض المقدسة، لم يكن له طابع للإِنتقام (كما أن جميع العقوبات الإِلهية ليس فيها طابع إنتقامي، بل هي إِما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه.

وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة، حيث تحرر بنوإِسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإِحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص، لذلك فهم لم يبدوا استعداداً لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسى(عليه السلام) كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد، وجوابهم لموسى(عليه السلام) ـ الذي اشتمل على رفضهم الدخول إِلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة ـ خير دليل على هذه الحقيقة.

لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إِسرائيل من التيه والضياع في الصحراء، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإِلهية، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!

* * *

[669]

الآيات

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَْخَرِ قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِط يَدِىَ إِلَيْكَ لاَِقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَـلَمِينَ(28) إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوا أَبِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـبِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَؤُا الظَّـلِمينَ(29)

التّفسير

أوّل حادثة قتل على الأرض:

لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصّة ولدي آدم(عليه السلام) وكيف قتل أحدهما أخاه الآخر، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إِسرائيل حيث يحذرهم الله في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدي أحياناً إِلى أن يعمد أخ إِلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ الله أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ...).

[670]

ولعل استخدام كلمة «بالحق» في هذه الآية جاء للإِشارة إِلى أن القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم(عليه السلام).

ولا شك أنّ كلمة «آدم» الواردة في الآية، تشير إِلى أبي البشرية الحاضرة، وإِنّ ما ذهب إِليه البعض مع أنّها إشارة إِلى شخص من بني إِسرائيل اسمه «آدم» لا أساس له من الواقع، لأنّ هذه الكلمة استخدمت مراراً في القرآن للدلالة على اسم أبي البشرية، فلو صحّ الإفتراض الأخير لوجب أن تشتمل الآية ـ أو الآيات ـ التي بعدها على قرينة تصرف الإِسم عن مسماه الحقيقي الأوّل، ولا يمكن لآية (من أجل ذلك ...) التي سيأتي تفسيرها قريباً، أن تكون قرينة على الإِفتراض المذكور كما سيأتي تفصيله.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول: (إِذ قربا قرّباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ...).

وقد أدت هذه الواقعة إِلى أن يهدد الأخ ـ الذي لم يتقبل الله القربان منه ـ أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: (قال لأقتلنّك)أما الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً إِلى أن عدم قبول القربان منه إِنّما نتج عن علّة في عمله، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكداً أنّ الله يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: (قال إِنّما يتقبل الله من المتقين).

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إِلى قتله، فإِنه ـ أي الأخ الذي تقبل الله منه القربان ـ لن يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف الله ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإِثم حيث تقول الآية: (لئن بسطت إِلى يدك لتقتلني ما أَنا بباسط يدي لأقتلك إِنّي أخاف الله رب العالمين).

وأضاف هذا الأخ الصالح ـ مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله ـ أنّه لا يريد أن

[671]

يتحمل آثام الآخرين، قائلا له: (إِنّي أريد أن تبوأ(1) بإِثمي وإِثمك) (أي لأنّك إِن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحاً لتعوض به، فما عليك إِلاّ أن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية: (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين).

نقاط مهمّة يجب الإِنتباه لها:

1 ـ إِن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ـ ولا في آيات أُخرى ـ أي اسم لأبناء آدم(عليه السلام): لكن الروايات الإِسلامية تدل على أن ولدي آدم المذكورين في هذه الآية كان اسم أحدهما «هابيل» والآخر «قابيل» وقد ورد في سفر التكوين من التوراة في الباب الرابع أنّ ولدي آدم المذكورين اسمهما «قائن» و«هابيل».

وقد ذكر المفسّر المعروف «أبو الفتوح الرازي» أن هذين الإِسمين قد وردا بألفاظ مختلفة، فالاسم الأوّل جاء فيه «هابيل» و«هابل» و«هابن»، «أما الاسم الثّاني فجاء فيه «قابيل» و«قايين» و«قابل» و«قابن» أو «قبن»، وعلى أي صورة كان الاسم فإِنّ الإِختلاف بين الروايات الإِسلامية ونص التوراة بخصوص اسم «قابيل» نابع عن الإِختلاف اللغوي، ولا يشكل أمراً مهماً في هذا المجال.

والغريب في الأمر أنّ أحد الكتاب المسيحيين قد أورد الإِختلاف المذكور دليلا اعترض به على القرآن، فقال: إِنّ القرآن أورد لفظة «قابيل» بدل «قائن»!

والجواب هو أنّ مثل هذا الإِختلاف اللغوي أمر شائع وبالأخص في مجال الأسماء ـ فمثلا كلمة «إِبراهيم» الواردة في القرآن قد وردت في التوراة على شكل «أبراهام»، كما أنّ القرآن الكريم لم يأت مطلقاً باسم «هابيل» و«قابيل»


1 ـ إن كلمة «تبوء» مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

[672]

وقد ورد هذان الإِسمان في الروايات الإِسلامية فقط(1).

2 ـ إِنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إِلى الله، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم، بينما نقلت الروايات الإِسلامية ـ والتوراة في سفر التكوين، الباب الرابع ـ أن «هابيل» كان يمتلك ماشية فاختار أفضل أغنامه ومنتوجاتها للقربان المذكور، وأن «قابيل» الذي كان صاحب زرع، قد اختار لقربانه أردأ الأنواع من زرعه.

3 ـ لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله ـ والذي ورد في هذا المجال هو ما نقلته بعض الروايات الإِسلامية من أنّ هذين الشخصين كانا قد وضعا قربانهما على قمة جبل، فنزلت صاعقة فاحرقت قربان هابيل دلالة على قبوله، وبقي قربان قابيل على حاله لم يمسه شيء، وكانت لهذه العلامة سابقة معروفة أيضاً.

لكن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إِنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدم(عليه السلام)، وما كان سبب ذلك غير أنّ هابيل كان إِنساناً ذا سريرة نقية يحبّ التضحية والعفو في سبيل الله فتقبل الله لذلك قربانه، بينما كان قابيل رجلا ملوث القلب حسوداً معانداً فرفض الله قربانه، والآيات التالية توضح حقيقة ما جبلت عليه نفسا هذين الأخوين من خير وشر.

4 ـ يستنتج من هذه الآيات ـ بصورة جلية ـ أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإِنساني هو «الحسد» ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الإِجتماعية.

* * *


1 ـ وقد كتب العلاّمة الفقيد الشّيخ «محمّد جواد البلاغي» رسالة في هذا المجال سماها بـ «الأكاذيب الأعاجيب» جمع فيها أكاذيب من نمط الكذبة التي جاء ذكرها أعلاه.

[673]

الآيتان

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَـسِرِينَ(30)فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الاْرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَـوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـدِمِينَ(31)

التّفسير

التّستر على الجريمة:

تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم(عليه السلام)، فتبيّن الآية الأُولى منهما أن نفسى قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول: (فطوعت له نفسه قتل أخيه).

ونظراً لأنّ كلمة «طوع» تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب «قابيل» بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إِلى الإِنتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإِنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره

[674]

الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لتقل أخيه، وتدل عبارة «طوعت» مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

وتشير الآية ـ في آخرها ـ إِلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول (فأصبح من الخاسرين) فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإِنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إِلى يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.

وقد حاول البعض الإِستدلال من كلمة «أصبح» على أن جريمة القتل قد وقعت ليلا، في حين أنّ كلمة «أصبح» من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في زمن معين ليلا مكان أم نهاراً، بل تدل على حدوث شيء ما، كما جاء في الآية (103) من سورة آل عمران في قوله تعالى: (... فأصبحتم بنعمته إِخواناً ...).

وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإِنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءاً من طعامه ـ كما هي عادة الغربان ـ وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول الآية الكريمة، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه)(1).


1 ـ جاء في مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث» معناها في الأصل هو البحث عن شىء في التراب ثمّ استعملت في مختلف أنواع البحوث، أمّا كلمة «سوأة» فهي تعني كل شيء يستاء الإِنسان من رؤيته، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميت، وعلى عورة الإِنسان، ويجب الإِنتباه هنا إِلى أنّ الفاعل في جملة «ليريه» قد يكون هو الله، أي أنّ الله أراد أن يري «قابيل» كيف يدفن أخاه، وذلك احتراماً لـ «هابيل» ويحتمل أن يكون الغراب هو الفاعل في الجملة المذكورة.

[675]

ولا غرابة في أن يتعلم إِنسان شيئاً من طير من الطيور، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها منها البشر على طول التاريخ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإِنسان مدين في جزء من معلوماته الطبية للحيوانات!

ثمّ تشير الآية الكريمة إِلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية: (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ...).

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: (فأصبح من النادمين).

فهل كان ندمه على جريمته، خوفاً من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إِشفاقاً على نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإِنسان ـ عادة ـ من قلق واستياء بعد إرتكاب كل عمل قبيح؟

مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى «قابيل» فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإِنسان المذنب تكرار الذنب، خوف من الله واستقباحاً للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إِلى صدور مثل هذه التوبة عن «قابيل»، وقد تكون الآية التالية إِشارة إِلى عدم صدور التوبة عنه.

ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل»(1).


1 ـ مسند أحمد بن حنبل كما جاء في تفسير «في ضلال القرآن»، ج 2، ص 703، في تفسير الآية.

[676]

ويستدل من هذا الحديث أيضاً على أنّ من سنّ سُنّة سيئة، سيبقى يتحمل وزرها مادامت باقية في الدنيا.

ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدم(عليه السلام) قصّة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإِسلامية، كما أنّ عبارة «بالحق» الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهداً على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعاً رمزياً من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقاً.

ولا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثالا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإِيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالإِنحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.

وكم هو العدد الكبير من اُولئك الإبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون ـ في النهاية ـ فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إِلى إِخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب ـ المذكور في الآية القرآنية  الأخيرة ـ فتحثّهم وتدفعهم إِلى إِخفاء جرائمهم، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران.

* * *

[677]

الآية

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِى الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَـتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الاَْرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)

التّفسير

وحدة الإِنسانية وكرامتها:

إِنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إِنسانية كلية بعد الآيات التي تطرقت إِلى قصّة ولدي آدم(عليه السلام).

ففي البداية تشير الآية إِلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمّة، وهي أن قتل أيّ إِنسان، إِن لم يكن قصاصاً لقتل إِنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإِفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري باجمعه، كما أنّ إِنقاذ أيّ إِنسان من الموت، يعد بمثابة إِنقاذ الإِنسانية كلّها من الفناء، حيث تقول الآية الكريمة: (من أجل(1) ذلك كتبنا على بني إِسرائيل أنّه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في


1 ـ إنّ كلمة «أجل» التي هي على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة، ثمّ استعملت لكل عمل ذي عاقبة، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علّة الشيء.

[678]

الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً).

ويرد هنا سؤال وهو: كيف يكون قتل إِنسان واحد مساوياً لقتل الناس جميعاً، وكيف يكون إِنقاذ إِنسان من الموت بمثابة إِنقاذ الإِنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال ... جاء في تفسير «التبيان» ستة أجوبة عليه، وفي «مجمع البيان» خمسة أجوبة، وفي «كنز العرفان» أربعة أجوبة، ولكن بعضاً من هذه الأجوبة يبتعد كثيراً عن معنى هذه الآية.

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية، فإِنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لانّه: أوّلا: إِن من يقتل إِنساناً بريئاً ويلطخ يده بدم بريء يكون ـ في الحقيقة ـ مستعداً لقتل أناس آخرين يساوونه في الإِنسانيه والبراءة، فهو ـ في الحقيقة ـ إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بريء، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إِنسان يقوم ـ بدافع حب النوع الإِنساني ـ بإِنقاذ إِنسان آخر من الموت، يكون مستعداً للقيام بعملية الإِنقاذ الإِنسانية هذه بشأن أيّ إِنسان آخر، فهذا الإِنسان المنقذ يحبّ إِنقاذ الناس الأبرياء، لذلك لا فرق لديه بين إِنسان بريء وآخر مثله.

ونظراً لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال، فإِننا نستدل بأن موت وحياة إِنسان واحد، مع أنّه لايساوي موت وحياة المجتمع، إِلاّ أنّه يكون شبيهاً بذلك.

وثانياً: إِنّ المجتمع يشكل في الحقيقة كياناً واحداً، واعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد، وأنّ أي ضرر يصيب أحد اعضائه يكون أثره واضحاً ـ بصورة أو بأُخرى ـ في سائر الأعضاء، ولأنّ المجتمع البشري يتشكل من الأفراد، لذلك

[679]

فإِن فقدان أي فرد منهم يعتبر خسارة للجميع الإِنساني الكبير، لأنّ هذا الفقدان يترك أثراً بمقدار ما كان لصاحبه من أثر في المجتمع، لذلك يشمل الضرر جميع أفراد المجتمع.

ومن جانب آخر فإِن إحياء فرد من أفراد المجتمع، يكون ـ لنفس السبب الذي ذكرناه ـ بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع، لأنّ لكل إِنسان أثر بمقدار وجوده في بناء المجتمع الإِنساني وفي مجال رفع احتياجاته، فيكون هذا الأثر قليلا بالنسبة للبعض وكثيراً بالنسبة للبعض الآخر.

وحين نقرأ في الروايات أنّ جزاء وعقاب قاتل النفس المحرمة، يكون كجزاء قاتل جميع أفراد البشر، إِنّما ذلك إِشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه، ولا يعني أنّ الناس متساوون مع بعضهم في كل الجهات، ولذلك نقرأ في تفسير هذه الروايات ـ أيضاً ـ أن عقاب القاتل يتناسب مع عدد الأفراد الذين قتلهم تناسباً طريداً قلة وزيادة.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمية حياة وموت الإِنسان في نظر القرآن الكريم، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإِنسانية.

وتلفت الإِنتباه في هذا المجال روايات عديدة ذكرت أنّ هذه الآية مع أنّها تتحدث ـ أو يشير ظاهرها ـ إِلى الحياة والموت الماديين، إِلاّ أنّ الأهمّ من ذلك هو الموت والحياة المعنويين، أي إِضلال النفرد أو إِنقاذ من الضلال، وقد سأل شخص الإِمام الصّادق(عليه السلام) عن تفسير هذه الآية فأجابه (عليه السلام) قائلا: «من حرق أو غرق ـ ثمّ سكت(عليه السلام) ـ ثمّ قال: تأويلها الأعظم أنّ دعاها فاستجابت له».

وفحوى قول الإِمام الصّادق(عليه السلام) في هذه الرواية هو الإِنقاذ من الحريق أو الغرق ثمّ يستطرد الإِمام(عليه السلام) ـ بعد سكوت ـ فيبيّن أن التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إِلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر، وتحقق القبول من

[680]

الجانب الآخر المخاطب بهذه الدّعوة(1).

والسوال الآخر الذي يمكن أن يرد في هذا المجال أيضاً، هو عن سبب ورود اسم بني إِسرائيل بالذات في هذه الآية، مع أنّها تشمل حكماً لا يخص هذه الطائفة؟

ويمكن القول في الحواب بأن سبب الإِتيان باسم بني إِسرائيل في هذه الآية هو أن هذه الطائفة قد شاعت بينها حوادث القتل وإِراقة الدماء، وبالأخص ما كان منها ناشئاً عن الحسد وحبّ الذات والأنانية وحبّ التسلط، وما زال الذين يتعرضون للقتل على أيدي هذه الطائفة ـ في الوقت الحاضر ـ هم الأبرياء من الناس غالباً، ولهذا السبب ورد هذا الحكم الإِلهي ـ لأوّل مرّة ـ في سيرة بني إِسرائيل!

وتشيرالآية في آخرها ـ إِلى انتهاكات بني إِسرائيل، فتؤكّد أن هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإِرشادهم، إِلاّ أنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإِلهية، واتبعوا سبيل الإِسراف في حياتهم، حيث تقول الآية: (ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرقون).

ويجدر الإِنتباه إِلى أنّ كلمة «إِسراف» لها معان واسعة، تشمل كل تجاوز أو تعد عن الحدود، ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

* * *


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 620 وقد وردت في هذا المجال روايات أُخرى بنفس المضمون.

[681]

الآيتان

إِنَّمَا جَزَؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الاَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(34)

سبب النّزول

ورد في سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين، أنّ جماعة من المشركين قدموا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلنوا إِسلامهم لكنّهم ـ لعدم تعودهم على طقس ومناخ المدينة ـ أصيبوا ببعض الأمراض، فنصحهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذهبوا إِلى منطقة ذات مناخ جيد من الصحراء خارج المدينة، كانت مرتعاً لإِبل الزكاة، وأجاز لهم الإِنتفاع بلبن تلك الإِبل بما يكفيهم، ففعلوا وتعافوا ممّا كانوا يعانون منه من الأمراض، لكنّهم بدل أن يقدموا الشكر على صنيع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، وعمدوا إِلى قتل الرعاة المسلمين والتمثيل بهم وسمل عيونهم، ونهبوا إِبل الزكاة وإرتدوا عن الإِسلام إِلى الشرك، فأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِلقاء القبض عليهم والقصاص منهم بمثل ما إرتكبوه بحق اُولئك الرعاة الأبرياء، وجزاء لهم على جرائمهم فسملت عيونهم