![]() |
![]() |
![]() |
ثمّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ ومن المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة!
أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.
والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإِسلام وبعثة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقاً وبينهما فارق زمني بعيد جدّاً.
وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّاً من الإِحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.
ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الإِحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم عذير خم» أي اليوم الذي نصب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً أميرالمؤمنين(عليه السلام)بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، وقد كانوا يتوهمون أن دين الإِسلام سينتهي بوفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الأوضاع ستعود إِلى سابق عهد الجاهلية، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي
بن أبي طالب(عليه السلام)، ورأوا النّبي وهو يأخذ البيعة لعلي(عليه السلام) أحاط بهم اليأس من كل جانب، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإِسلام وأدركوا أن هذا الدين باق راسخ.
ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا، إِذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأُمّة الإِسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.
نعم في يوم غذير خم أكمل الله وأتمّ نعمته بتعيين علي(عليه السلام)، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ، قائداً وزعيماً للأُمة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي هذا اليوم ـ أيضاً ـ رضي الله بالإِسلام ديناً، بل خاتماً للأديان، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين، واجتمعت فيه الجهات الأربع.
وفيما يلي قرائن أُخرى إِضافة إِلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا التّفسير:
أ ـ لقد ذكرت تفاسير «الرازي» و«روح المعاني» و«المنار» في تفسير هذه الآية أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوماً بعد نزول هذه الآية، وهذا أمر يثير الإِنتباه في حد ذاته، إِذ حين نرى أنّ وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة، وحتى في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، وهو يوم غدير خم(1).
ب ـ ذكرت روايات كثيرة ـ نقلتها مصادر السنّة والشيعة ـ أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم، وبعد أن أبلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بولاية علي
1 ـ إنّ هذا الحساب يكون صحيحاً إذا لم ندخل يوم وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويوم غدير خم في الحساب، وأن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (29) يوماً، ونظراً لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل وبعد يوم غديرخم، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.
بن أبي طالب(عليه السلام)، ومن هذه الروايات:
1 ـ ما نقله العالم السنّي المشهور «ابن جرير الطبري» في كتاب «الولاية» عن «زيد بن أرقم» الصحابي المعروف، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب(عليه السلام).
2 ـ ونقل الحافظ «أبو نعيم الأصفهاني» في كتاب «ما نزل من القرآن بحق علي(عليه السلام)» عن «أبي سعيد الخدري» وهو صحابي معروف ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى في «يوم غدير خم» علياً منصب الولاية ... وإِنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: (اليوم أكملت لكم دينكم...) فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تلك اللحظة «الله أكبر على إِكمال الدين وإِتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي(عليه السلام) من بعدي» ثمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله».
3 ـ وروى «الخطيب البغدادي» في «تاريخه» عن «أبي هريرة» عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ آية (اليوم أكملت لكم دينكم ...) نزلت عقيب حادثة «غدير خم» والعهد بالولاية لعلي(عليه السلام) وقول عمر بن الخطاب: «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم»(1).
وجاء في كتاب «الغدير» إِضافة إِلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أُخرى في هذا المجال.
ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير «ابن كثير» من الصفحة 14 وعن كتاب «مقتل الخوارزمي» في الصفحة 47 عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غديرخم.
1 ـ لقد أورد العلاّمة الأميني(رحمه الله) هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأوّل من كتابه «الغدير» في الصفحات 230 و231 و232 كما ورد في كتاب «إحقاق الحق» في الجزء السادس والصفحة 353 أن نزول الآية كان في حادثه غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.
ونرى في تفسير «البرهان» وتفسير «نور الثقلين» عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي(عليه السلام) أو في يوم غدير خم، ونقل كل هذه الروايات يحتاج إِلى رسالة منفردة(1).
وقد ذكر العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «المراجعات» أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإِمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) تقول بنزول هذه الآية في «يوم غدير خم» وإنّ جمهور السنّة أيضاً قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم(2).
يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات والأخبار التي أكّدت نزول الآية ـ موضوع البحث ـ في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الأحاد لكي يمكن تجاهلها، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إِن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإِسلامية المشهورة.
ومع ذلك فإِنّنا نرى بعضاً من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير «روح المعاني» الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها، وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، وقد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام ولم يلمح إليها بشيء، كما في تفسير المنار، ولعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل والإِنصاف، وإن قبلها عمل شيئاً خلافاً لميله وذوقه.
وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالإِنتباه ـ فالآية تقول: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في
1 ـ راجع تفسير الآية في الجزء الأوّل من تفسير البرهان والجزء الأوّل من تفسير «نور الثقلين».
2 ـ راجع كتاب «المراجعات» الطبعة الرابعة، ص 38.
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً ...) والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.
ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظراً إِلى جملة (رضيت لكم الإِسلام ديناً) الواردة في الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام)، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإِسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إِذا اقترن بالولاية، لأن الإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أن الإِسلام إِذا أُريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت(عليهم السلام).
أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إِلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأُولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة:
أوّلها: الخلافة على الأرض.
والثّاني: تحقق الأمن والإِستقرار لكي تكون العبادة لله وحده.
والثّالث: استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض.
ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية: (اليوم أكملت لكم دينكم ...) فمثال الإِنسان المؤمن الصالح هو علي(عليه السلام) الذي نصب وصيّاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلت عبارة (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ...) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: (ورضيت لكم الإِسلام ديناً) إِنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين.
وهذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك لأنّ عبارة (آمنوا منكم) لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في «يوم غدير خم» وسيتحقق
على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (وعلى أساس هذا التّفسير فإِنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها).
ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة «الأرض» في القرآن الكريم، حيث وردت أحياناً لتعني جزءاً من الأرض، وأُخرى لتعني الأرض كلها، (فامعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر).
وأخيراً بقي سؤال ملح وهو:
أوّلا: إن الأدلة المذكورة في الآية ـ موضوع البحث ـ والأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة والتي تقول: (يا أيّها الرّسول بلغ ما أنزل إِليك ...) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلماذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟
وثانياً: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة «غدير خم» وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟(1)
الجواب:أوّلا: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية ـ وكذلك سور القرآن الكريم ـ لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيراً من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضاً.
وبناءً على هذه الحقيقة، فلا عجب ـ إِذن ـ من وجود هذا الفاصل في القرآن
1 ـ لقد أورد هذا الإِعتراض تلميحاً صاحب تفسير «المنار» لدى الحديث عن هذه الآية، ج 6، ص 266.
بين الآيتين المذكورتين (ويجب الإِعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الإِعتراض وارداً في هذا المجال.
ثانياً: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة «غدير خم» في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقاً، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللحوم، إِنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إِليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.
إِنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والإِعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكتابة وصيته، إِلى حدّ وصفوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإِسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة، وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يتركوا وسيلة إِلاّ استخدموها لإِنكار هذا الامر(1).
فلا يستبعد ـ والحالة هذه ـ أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إِيصالها إِلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف، ومن هذه الإِجراءات حشر موضوع الخلافة ـ المهم جدّاً ـ في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإِبعاد عيون وأيدي المعارضين والعابثين عنها.
إِضافة إِلى ذلك ـ وكما أسلفنا في حديثنا ـ فإِنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية:
1 ـ نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنّة وهو كتاب «صحيح البخاري» وفي عدّة أبواب منها باب «كتاب المرضى» في الجزء الرابع، وباب «كتاب العلم» في الجزء الأوّل، ص 22 وفي باب «جوائز وفد» من كتاب الجهاد، ص 118، ج 2 كما وردت في كتاب «صحيح مسلم» في آخر الوصايا بالإِضافة إِلى كتب أُخرى ذكرها المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين(رحمه الله) في كتابه «المراجعات» تحت عنوان «رزية يوم الخميس».
(اليوم أكملت لكم دينكم ...) الواردة في واقعة «غديرخم» حول قضية الخلافة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها، بل تناقلها ـ أيضاً ـ الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.
لقد أعادت الآية ـ في نهايتها ـ الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الإِضطرار في حالة المعاناة من الجوع إِذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إِلى غفران الله ورحمته في عدم إِلجاء عباده عند الإِضطرار إِلى تحمل المعاناة والمشقة، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإِثم فإِنّ الله غفور رحيم).
والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدي إِلى انخماص البطن، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة، أو كان ناتجاً عن الحرمان الخاص.
أمّا عبارة (غير متجانف لإِثم) فمعناها غير مائل إِلى ارتكاب الذنب، وقد يكون الإِتيان بها تأكيداً لمفهوم الإِضطرار، أو أنّ الهدف منها هو المنع من الإِفراط في أكل اللحم الحرام أثناء الضرورة، توهماً من الشخص بأن ذلك حلال في مثل هذه الحالة، ومنعاً من أن يحاول الشخص بنفسه إِعداد مقدمات الإِضطرار أو أن يحصل الإِضطرار أثناء قيام الشخص بسفر من أجل ارتكاب الحرام فيه.
هذه المعاني كلها يحتمل ورودها ضمن العبارة الأخيرة الماضية «ولأجل الإِطلاع على توضيحات أكثر في هذا المجال، راجع الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا».
* * *
يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَـتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارحِ مُكَلِّبِين تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4)
ذكر المفسرون أسباباً عديدة لنزول هذه الآية، وأكثر هذه الأسباب ملاءمة مع فحوى الآية هو: أنّ «زيد الخير» و«عدي بن حاتم» اللذين كانا من الصحابة المقّربين، قدما على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبراه بأنّ قومهما يصيدون بواسطة كلاب وصقور الصيد، وإِنّ هذه الكلاب تصيد لهم الحيوانات الوحشية من ذوات اللحم الحلال، وتأتي بالحيوان المصيد حياً في بعض الأحيان فيذبح، وأحياناً أُخرى تأتي به وقد قتلته قبل وصولها إِلى أصحابها دون أن يتاح لهم ذبحه، وسألا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الصيد والمقتول بواسطة كلاب الصيد وهل يعتبر ميتة وحراماً أم لا؟ ... فنزلت الآية هذه وأجابت على سؤالهما.(1)
1 ـ تفسير القرطبي، ج 3، تفسر الآية موضوع البحث.
أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلام والحرام عن اللحوم، وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإِنسان تناولها، وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها: (يسألونك ماذا أحلّ لهم ...).
فتأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أوّلا ـ بأن يخبرهم إِنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم، حيث تقول: (قل أُحلّ لكم الطيبات ....) دالة على أنّ كل ما حرمه الإِسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة، وإِن القوانين الإِلهية لا تحرم ـ مطلقاً ـ الموجودات الطاهرة التي خلقها الله لينتفع بها البشر، وإِن الجهاز التشريعي يعمل دائماً بتنسيق تام مع الجهاز التكويني وفي كل مكان.
ثمّ تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال، فتشير إِلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد، فتؤكد بأنّه حلال، بقولها: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلّمونهنّ ممّا علمكم الله)(1).
وعبارة جوارح مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحياناً «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن، ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد، سواء كانت من الطيور أو من غيرها، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه، وأمّا إِطلاق لفظة «الجوارح» على أعضاء الجسم فلأن الإِنسان يستطيع بواسطتها إِنجاز الأعمال أو الإِكتساب.
وجملة (وما علمتم من الجوارح) تشمل كل الحيوانات المدرّبة على
1 ـ هناك محذوف مقدر في بداية هذه الجملة القرآنية، حيث إن الأصل يفترض أن يكون «وصيد ما علمتم» وذلك استدلالا بالقرينة الواردة في جملة (فكلوا مما أمسكن عليكم ...) (فليلا حظ ذلك).
الصيد، ولكن كلمة «مكلبين» التي تعني تدريب الكلاب للقيام بأعمال الصيد، والمشتقة من مادة «كَلَب» أي الكلب، تقيد هذه الجملة وتخصصها بكلاب الصيد، ولذلك فإِنها لا تشمل الصيد بحيوانات غير هذه الكلاب مثل الصقور المدرّبة على الصيد.
ولذلك ذهب فقهاء الشيعة إِلى تخصيص الصيد الحلال بما يصاد من قبل كلاب الصيد، لكن جمعاً من علماء السنّة ومفسّريهم ذهبوا إِلى جواز الكل وأعطوا تفسيراً واسعاً لعبارة «مكلبين» ولم يخصصوا ذلك بكلاب الصيد فقط.
إِلاّ أنّنا نرى أنّ المصدر الأساس لهذه الكلمة المشتقة إِنما يدل على أنّها مخصصة بكلاب الصيد فقط، وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة أُخرى، يعتبر حلالا في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية.
أمّا عبارة (تعلمونهنّ ممّا علمكم الله) فإِنّها تشير إِلى عدّة أُمور هي
1 ـ إِنّ تدريب مثل هذه الحيوانات يجب أن يستمر، فلو نسيت ما تعلمته وقتلت حيواناً كما تفعله بعض الكلاب السائبة، فلا يعتبر عند ذلك ما قتلته صيداً، ولا يحل لحم هذا الحيوان المقتول في مثل هذه الحالة، والدليل على هذا القول هو كون فعل «تعلمونهن» فعلا مضارعاً، والفعل المضارع يدل على الحال والإِستقبال.
2 ـ يجب أن يتمّ تدريب هذه الكلاب وفق الأصول الصحيحة التي تتلاءم مع مفهوم العبارة القرآنية (ممّا علّمكم ...).
إِنّ العلوم كلها ـ سواء كانت بسيطة أم معقدة ـ مصدرها هو الله، وإِنّ الإِنسان لا يملك بنفسه شيئاً ما لم يعلمه الله.
إِضافة إِلى ما ذكر فإِنّ كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث تأتمر بأمر صاحبها، أي تتحرك بأمره وتعود إِليه بأمره أيضاً.
وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يذبح وفق الطريقة
الشرعية إِن جلب حيّاً، وإِن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإِن لم يذبح.
وأخيراً أشارت الآية الكريمة إِلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد.
أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً، حيث قالت الآية: (فكلوا مما أمسكن عليكم ...).
وعلى هذا الأساس فإِن الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إِيصاله إِلى صاحبها، وتركت قسماً آخر منه، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ويدخل ضمن حكم (ما أكل السبع) الذي ورد في الآية السابقة، ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر في الحقيقة كلباً مدرباً، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة (ممّا أمسكن عليكم) لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه (لكن بعض الفقهاء لم يروا في هذا الموضوع شرطاً، مستندين إِلى روايات وردت في مصادر الحديث وذكرتها كتب الفقه بالتفصيل).
ومجمل القول هو أن كلاب الصيد يجب أن تدرب بحيث لا تأكل من الصيد الذي تمسكه.
والأمر الثّاني: هو ضرورة ذكر اسم الله على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث قالت الآية: (واذكروا اسم الله عليه ...).
ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإِلهية ـ هذه ـ كلها، أكّدت في الختام قائلة: (واتقوا الله إِنّ الله سريع الحساب) داعية إِلى الخوف من الله العزيز القدير، ومن حسابه السريع(1).
* * *
1 ـ لقد شرحنا معنى جملة «سريع الحساب» في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـتِ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَان وَمَن يَكْفُرْ بِالاِْيمَـنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـسِرِينَ(5)
تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعاً آخر من الغذاء الحلال، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال، وإِن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية: (اليوم أُحلّ لكم الطّيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ...).
وتشتمل هذه الآية الكريمة على أُمور نجلب الإِلتفات إِليها، وهي:
1 ـ إِنّ المراد بكلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية هو يوم «عرفة» بناء على ما اعتقده بعض المفسّرين، وقد ذهب مفسرون آخرون إِلى أنّ المراد هو اليوم
الذي تلا فتح خيبر ـ ولا يبعد ـ أن يكون هو نفس «يوم غدير خم» الذي تحقق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتاول هذا الموضوع بالشرح قريباً).
2 ـ لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنّها كانت حلالا قبل نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم «طعام أهل الكتاب».
3 ـ ما هو المقصود بـ«طعام أهل الكتاب» الذي اعتبرته الآية حلالا على المسلمين؟
يعتقد أغلب مفسّري علماء السنة أن «طعام أهل الكتاب» يشمل كل أنواع الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسّري الشيعة وفقهائهم أنّ المقصود من «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب، إِلاّ أن هناك القليل من علماء الشيعة ـ أيضاً ـ ممن يقولون بصحة النظرية الأُولى التي اتبعها أهل السنة.
وتؤكد رأي غالبية الشيعة ـ في هذا المجال ـ الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).
فقد جاء في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال في هذه الآية: «عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون، فإنه لا يذكرون اسم الله عليها».
ورودت روايات عديدة أُخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من كتاب وسائل الشيعة في الباب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة، في الصفحة 371.
وبالإِمعان في الآيات السابقة يتبيّن أن التّفسير الثّاني ذهبت إِليه الأكثرية من مفسّري الشيعة وفقائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إِلى الحقيقة من
التّفسير الأوّل.
وذلك ـ كما أوضح الإِمام الصّادق(عليه السلام) في الرواية التي أوردناها أعلاه ـ لأنّ أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإِسلامية في ذبائحهم، فهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة، ولا يوجهونها صوب القبلة اثناء ذبحها، كما أنّهم لا يلتزمون برعاية الشروط الأُخرى ـ فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة ـ وبصورة صريحة ـ لحم الحيوان المذبوح بهذه الطريقة، وتأتي آية أُخرى بضدها لتحلله؟!
وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخُصها فيما يلي:
1 ـ لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب، فإِنّ هذه الأغذية كانت حلالا من قبل، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم، فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول هذه الآية شيئاً مخالفاً للشرع، في حين أن المسلمين كانوا دائماً يتعاطون مع أهل الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء؟!
إِذا توجهنا إِلى نقطة أساسية في الآية الكريمة، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا السؤال، فالآية الأخيرة ـ هذه ـ نزلت في زمن كان للإِسلام فيه السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإِسلام وجوده في كل الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعرضها، بحيث أنّ أعداء الإِسلام قد تملكهم اليأس التام لعجزهم عن دحر المسلمين، ولذلك اقتضت الضرورة ـ في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين ـ أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير.
لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإِسلامية، ولم يعد هناك ما يخشى منه من جانب غير المسلمين، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين
وغيرهم، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على أساس الشروط التي سنبيّنها).
جدير بالقول أنّ الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون طعامهم خالياً من الرطوبة أو البلل، وإِذا كان الطعام رطباً يشترط أن لا تكون أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام، كما يرى هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إِن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.
إِلاّ أنّ مجموعة أُخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب، لا يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفاً عليهم، شرط أن لا يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية (كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة «ماء العشير»).
وخلاصة القول: إِنّ الآية ـ موضوع البحث ـ جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصّة بمعاشرة أهل الكتاب، والدليل على ذلك هو إِشارة الآية لإِباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب، أي السماح للمسلمين باستضافتهم، كما تتطرق الآية بعد ذلك مباشرة إِلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب).
وبديهي أنّ النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع، هو وحده القادر على إِصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء، وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم، أو في يوم عرفة في حجّة الوداع كما اعتقده البعض، أو بعد فتح خيبر، مع أن يوم غدير خم هو الأقرب إِلى هذا الموضوع.
أورد صاحب تفسير المنار في كتابه إعتراضاً آخر في تفسير هذه الآية، حيث يقول بأنّ كلمة «طعام» وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع الطعام، وهي تشمل اللحوم أيضاً، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه
وأمثالها؟، ثمّ يقول بأنّه طرح هذا الإِعتراض في مجلس كان يضم جمعاً من الشيعة فلم يجب أحد عليه.
وباعتقادنا نحن أنّ جواب إعتراض صاحب كتاب المنار واضح، فنحن لا ننكر أنّ لفظة «طعام» تحمل مفهوماً واسعاً، إِلاّ أنّ ما ورد في الآيات السابقة، كبيان أنواع اللحوم المحرمة ـ وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله عليها لدى ذبحها ـ إِنّما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة «طعام» في الآية بغير اللحوم، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد، كما نعلم أنّ أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم، ناهيك على أنّهم لا يراعون ـ أيضاً ـ الشروط الواردة في السنّة في مجال الذبح.
وجاء في كتاب «كنز العرفان» حول تفسير هذه الآية إعتراض آخر خلاصته أن كلمة «طيبات» لها مفهوم واسع، وهي «عامّة» بحسب الإِصطلاح، بينما جملة (وطعام الذين أُوتوا الكتاب) خاصّة، وطبيعي أنّ ذكر الخاص بعد العام يجب أن يكون لسبب، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح، ثمّ يرجو صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية(1).
إِنّ جواب هذا الإِعتراض يتّضح أيضاً ممّا قلناه سابقاً بأنّ الآية إِنّما جاءت بعبارة (أُحّل لكم الطيبات) كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع أهل الكتاب، فالحقيقة أنّ الآية تقول بأنّ كل شيء طيب هو حلال للمسلمين، وبناء على هذا فإِن طعام أهل الكتاب (إِذ كان طيباً و طاهراً) هو حلال أيضاً للمسملين ـ وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الإِنتصارات التي أحرزها المسلمون فيه، (فليمعن النظر في هذا).
1 ـ كنز العرفان، ج 2، ص 312.
بعد أنّ بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزّواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن، حيث تقول الآية: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُتوا الكتاب من قبلكم إِذا آتيتموهن أُجورهنّ ...) على أن يكوت التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية: (محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)(1).
![]() |
![]() |
![]() |