![]() |
![]() |
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية اللّه العظمى
الشَّيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الثالث
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـنَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَة مِّنَ اللهِ وَفَضْل لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَنَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْل عَظِيم(174)
قلنا أن جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد إنتصاره في معركة «أُحد» على الجيش الإِسلامي يغذ السير في طريق العودة إلى مكّة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإِجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإِسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.
ولما بلغ هذا الخبر إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مقاتلي أُحد أن يستعدوا للخروج إلى معركة اُخرى مع المشركين، وخص بأمره هذا الجرحى والمصابين حيث أمرهم بأن ينضموا إلى الجيش.
يقول رجل من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد شهد أُحداً: شهدت أُحداً وأخ لي
فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فوالله مالنا دابة نركبها وما منّا إِلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكنت أيسر جرحاً من أخي، فكنت إِذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى «حمراء الأسد».
فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، والذي تجلّى في اشتراك الجرحى والمصابين خاف وأُرعب، ولعله ظن أنه أدركت المسلمين قوّة جديدة من المقاتلين وأتاهم المدد.
هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين، وألقت مزيداً من الوهن في عزائمهم، وهي أنه: مرّ برسول الله «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النّبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثمّ خرج من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالرّوحاء وقد أجمعوا الرّجعة إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر قط مثله يتحرقون عليكم تحرقاً، وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال معبد: «فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل».
قال أبو سفيان: فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصلهم.
قال معبد: فأنا والله أنهاك عن ذلك.
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إِلى مكّة بسرعة، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للإِنسحاب قال
لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح: «اخبروا محمّداً إِنا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثمّ انصرف إِلى مكّة.
ولما مرّت هذه الجماعة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بحمراء الأسد أخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «حسبنا الله ونعم الوكيل» وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيّام، فلم ير لهم أثراً فانصرف إِلى المدينة بعد الثالثة. والآيات الحاضرة تشير إِلى هذه الحادثة وملابساتها(1) يقول سبحانه: (الَّذينَ استجابوا لله والرّسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم وأتقوا أجر عظيم).
ويتبيّن من تخصيص جماعة معينة بالأجر العظيم في هذه الآية أنه كان هناك بينهم من لم يملك الإِخلاص الكامل، كما يمكن أن يكون التعبير بــ «منهم» إشارة إِلى أن بعض المقاتلين في أُحد امتنعوا ببعض الحجج عن تلبية نداء الرّسول والإِسهام في هذه الحركة.
ثمّ أنّ القرآن الكريم يبيّن إِحدى العلائم الحيّة لإِستقامتهم وثباتهم إِذ يقول: (الذين قال لهم النّاس إِن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إِيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
والمعنيون بالناس في قوله: (قال لهم الناس) هم ركب عبد القيس، أو نعيم بن مسعود الذي جاء بهذا الخبر على رواية اُخرى.
ثمّ بعد ذكر هذه الإِستقامة الواضحة وهذا الإِيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إِذ يقول: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) وأية نعمة وأي فضل أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء ويعود هؤلاء المقاتلون إِلى المدينة سالمين.
يبقى أن نعرف أن الفرق بين النعمة والفضل، يمكن أن يكون بأن النعمة هي
1 ـ نور الثقلين ومجمع البيان، وتفسير المنار وكتب اُخرى.
الأجر بقدر الإِستحقاق والفضل هو النفع الزائد على قدر الإِستحقاق.
وتأكيداً لهذا الأمر يقول القرآن: (لم يمسسهم سوء) مضافاً إِلى أنّهم (اتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) أنه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.
إِنّ مقارنة معنوية المسلمين في معركة «بدر» بمعنويتهم في حادثة «حمراء الأسد» التي مرّ تفصيلها، أمر يدعو إِلى الإِعجاب لدى المرء، إِذ كيف استطاعت جماعة منكسرة لا تملك المعنوية العالية، ولا العدد البشري الكافي، مع ما يحمل أفرادها من الجراحات الثقيلة والإِصابات الفادحة أن تغير ملامحها في مدّة قد لا تزيد على يوم وليلة، فتستعد وعلى درجة عالية من العزم والإِرادة لطلب العدو وملاحقته، ومواجهته مرة اُخرى إِلى درجة أن القرآن الكريم يقول عنهم: (الَّذينَ قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إِيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ثمّ استقاموا وصمدوا.
هذا هو أثر الإِيمان بالهدف، فكلّما ازدادت مصائب الإِنسان المؤمن وازدادت مشكلاته ازدادت استقامته، وتضاعف ثباته، وشحذت عزيمته، وفي الحقيقة تهيأت كل قواه المعنوية والمادية وتعبأت لمواجهة الخطر.
إِن هذا التغير العجيب، وهذا التحول السريع والعظيم في مثل هذه المدّة القصيرة يوقف الإِنسان على مدى سرعة تأثير التربية القرآنية وعمقها، ومدى فاعلية البيان النبوي الأخّاذ الذي يكاد يكون معجزة.
* * *
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَـنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مَّؤْمِنِينَ(175)
هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد»، ولفظة «ذلكم» إِشارة إِلى الذين كانوا يخوفون المسلمين من قوّة قريش، وبأس جيشهم لإضعاف معنويات المسلمين.
وعلى هذا الأساس يكون معنى هذه الآية هو: إِن عمل نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان، يعني أن هذه الوساوس إِنما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصّة، وأمّا المؤمنون الثابتون فلا تزل أقدامهم لهذه الوساوس مطلقاً، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبداً، وعلى هذا الأساس فأنتم لستم من أولياء الشيطان، فلا تخافوا هذه الوساوس، ويجب أن لا تزلزلكم أو تزعزع إِيمانكم.
إِنّ التّعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم بــ «الشّيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ومستلهم منه ومأخوذ من وحيه، لأن القرآن يسمّي كل عمل قبيح وفعل مخالف للدين عمل شيطاني، لأنه يتم بوسوسته،
ويصدر عن وحيه إِلى أتباعه.
وإمّا أن المقصود من الشّيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم «الشّيطان» على المصداق الإِنساني له، لأن للشيطان معنىً وسيعاً يشمل كل غاو مضل، إِنساناً كان أم غير إِنسان كما نقرأ في سورة الأنعام الآية (112)، (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن).
ثمّ أنّه سبحانه يقول في ختام الآية: (وخافون إِن كنتم مؤمنين) يعني أن الإِيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان، وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر: (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً)(1).
وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلا على نقصان إِيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأنّنا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.
وأساساً لو أن المؤمنين قارنوا وليهم (وهو الله سبحانه) بولي المشركين والمنافقين (الذي هو الشيطان) لعلموا أنّهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة، ولهذا لا يخافونهم قيد شعرة.
وخلاصة هذا الكلام ونتيجته هي أنّ الإِيمان أينما كان، كانت معه الشجاعة والشهامة، فهما توأمان لا يفترقان.
* * *
1 ـ الجن، 14.
وَلاَيَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـرِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظَّاً فِى الاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالاِْيمَـنِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)
الخطاب في قوله تعالى: (ولا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر) موجه إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
فالله تعالى يسلي نبيّه في أعقاب أحداث «أُحد» المؤلمة قائلا له: أيّها الرّسول (لا يحزنك الَّذين يسارعون في الكفر) وكأنّهم يتسابقون إليه (إنّهم لا يضرّوا الله شيئاً) بل يضرّون بذلك أنفسهم، وأساساً فالمتضرر والمنتفع إِنّما هي الموجودات التي لا تملك من عند أنفسها شيئاً حتى وجودها، أمّا الله الأزلي الأبدي سبحانه فهو الغني المطلق، فما الذي يعود به كفر الناس أو إِيمانهم عليه سبحانه، وأي أثر يمكن أن يكون لجهودهم ومحاولاتهم بالنّسبة إِليه تعالى؟
إِنّهم هم المنتفعون بإِيمانهم إِذ يتكاملون بهذا الإِيمان، وهم المتضررون
بالكفر أيضاً، إِذ يؤدي هذا الكفر إِلى سقوطهم وإِنحطاطهم.
هذا مضافاً إِلى أن الله سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة: (يريد الله ألاّ يجعل لهم حظّاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم).
وفي الحقيقة فإِن الآية تقول: إِذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ الله لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأنّ الله أراد أنْ يكونوا أحراراً في اتّخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الرّبانيّة في العالم الآخر.
وعلى هذا فالآية لا تنفي الجبر فحسب، بل هي من الأدلة والبراهين السّاطعة على حرية الإِرادة الإِنسانية.
ثمّ يقرّر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلا إِذ يقول: (إِن الَّذين اشتروا الكفر بالإِيمان لن يضرّوا الله شيئاً) يعنى ليس الّذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إِليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل الّذين يسلكون طريق الكفر بشكل من الأشكال ويشترون الكفر بالإِيمان، كل هؤلاء لن يضرّوا الله شيئاً، وإِنّما يضرّون أنفسهم.
ويختم سبحانه الآية بقوله: (ولهم عذاب أليم) هذا التفاوت في التعبير في خاتمة هذه الآية والآية التي قبلها حيث قال هناك: (ولهم عذاب عظيم) وقال هنا (ولهم عذاب أليم) إِنّما هو لأجل إِن الذين جاء ذكرهم في الآية السابقة أسرع في المبادرة والتوجه نحو الكفر.
* * *
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاَِّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(178)
بعد تسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات السّابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى، توجه سبحانه إِلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، (وهذه الآية ترتبط ـ في الحقيقة ـ بأحداث معركة «أُحد» فهي مكملة للأبحاث التي مرّت حول هذه الواقعة، لأن الحديث والخطاب تارةً كان موجهاً إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأُخرى موجهاً إِلى المؤمنين، وها هو هنا موجه إِلى الكفار والمشركين).
إِنّ الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا إنّما نملي(1) لهم خير لأنفسهم إِنّما نملى لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين) تحذّر المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إِمكانات في العدّة والعدد، وما
1 ـ نملي مشتقة من الإِملاء، وتعني المساعدة والإِعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدّة والإِمهال الذي هو نوع من المساعدة، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.
يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرّية التصرف، دليلا على صلاحهم، أو علامة على رضا الله عنهم.
وتوضيح ذلك: إِنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ الله سبحانه ينبّه العصاة الذين لم يتوغّلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقاً، فهو سبحانه ينبّههم بالنذر تارةً، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أُخرى، فيعيدهم بذلك إلى جادة الحق والصواب. وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرّة قابلية الهداية، فيشملهم اللطف الإِلهي، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إِليهم، لأنها تكون بمثابة جرس إِنذار لهم تنبّههم من غفلتهم، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله سبحانه: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون)(1).
ولكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها، وبلغ طغيانهم نهايته فإِنّ الله يخذلهم، ويكلهم إِلى نفوسهم، أيّ أنّه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العقوبة والعذاب المهين.
هؤلاء هم الذين نسفوا كلّ الجسور، وقطعوا كلّ علاقاتهم مع الله، ولم يتركوا لأنفسهم طريق لا العودة إِلى ربّهم، وهتكوا كل الحجب، وفقدوا كل قابلية للهداية الإِلهية، وكل أهلية للّطف الرّباني.
إِن الآية الحاضرة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إِذ تقول: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين).
ولقد استدلت بطلة الإِسلام زينب الكبرى بنت الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)بهذه الآية في خطابها المدوي والساخن أمام طاغية الشام «يزيد بن معاوية» الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين الذين قطعوا جميع جسور العودة
1 ـ الروم، 41.
على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال، وما اقترفوه من شنيع الأعمال إِذ قالت:
«أظننت يا يزيد ... أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأُمور متّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا أنسيت قول الله عزّوجلّ: (ولا يحسبن الذين كفروا أنّما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين)».إِنّ الآية الحاضرة تجيب ضمناً على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس وهو: لماذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم، ولا يلقون جزاءهم العادل على إِجرامهم؟
فإِنّ القرآن الكريم يردّ على هذا التساؤل الشّائع قائلا: إِنّ هؤلاء فقدوا كل قابلية للتغيير والإِصلاح، وهم بالتالي من الّذين تقتضي سُنّة الخلق ومبدأ حرّية الإِنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم، ويوكّلوا إِلى أنفسهم ليصلوا إِلى مرحلة السقوط الكامل، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العذاب والعقوبة.
هذا مضافاً إِلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنّه سبحانه قد يمدّ البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم، أي أنّه يأخذهم فجأة وهم في ذروة التنعم، ويسلبهم كلّ شيء وهم في أوج اللّذة والتمتع، ليكونوا بذلك أشقى من كلّ شقي، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب، لأن فقدان هذا النعيم أشدّ وقعاً على النفس، وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أحذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون)(1).
1 ـ الأنعام، 44.
ومثل هؤلاء ـ في الحقيقة ـ مثل الذي يتسلق شجرة، فإِنّه كلّما إزداد رقياً ازداد فرحاً في نفسه، حتى إِذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة، فهوى على أثرها من ذلك المترفع الشاهق إِلى الأرض فتحطمت عظامه، فتبدل فرحه البالغ إِلى حزن شديد.
يتبيّن ممّا قلناه في تفسير هذه الآية أن «اللام» في قوله سبحانه: (ليزدادوا إِثماً) «لام العاقبة» وليست «لام الغاية».
وتوضيح ذلك: إِنّ العرب قد تستعمل اللام لبيان أن ما بعد اللام مراد للإِنسان ومطلوب له كقوله: (لتخرج الناس من الظّلمات إِلى النّور)(1).
ومن البديهي أن هداية الناس وخروجهم من الظّلمات إِلى النّور مراد له سبحانه.
وقد تستعمل العرب «اللام» لا لبيان أن هذا هو مراد ومطلوب للشخص، بل لبيان أن هذا نتيجة عمل المرء ومآل موقفه كقوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً)(2) ولا شك أنّهم إِنما أخذوه ليكون لهم سروراً وقرّة عين. ولا يختص هذا الأمر باللغة العربية وآدابها، بل هو مشهور في غيره من اللغات والآداب.
ومن هنا يتضح الجواب على تساؤل آخر يطرح نفسه هنا وهو: لماذا قال سبحانه: (ليزدادوا إِثماً) الذي معناه ـ بحسب الظاهر ـ أي نريد أن يزدادوا إِثماً.
لأن هذا الإِشكال والتساؤل إنّما يكون وارداً إِذا كانت اللام هنا لام الإِرادة والغاية المبينة للعلّة والهدف، لا «لام العاقبة» ليكون معنى قوله «ليزدادوا إِثماً»
1 ـ إبراهيم، 1.
2 ـ القصص، 8.
هو: لتكون عاقبة أمرهم ازديادهم الإِثم.
وعلى هذا يكون معنى الآية: نحن نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد ذنوبهم وأوزارهم من الإِثم، فالآية لا تدلّ على الجبر مطلقاً، بل هي خير دليل على حرية الإِنسان واختياره.
* * *
مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيتَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَـكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُّسُلِهِ مَنْ يَشَآءُ فَأَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)
لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوّة قبل حادثة معركة «أُحد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «أُحد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون»، وكان هذا إِحدى أهم معطيات حادثة «أُحد» ونتائجها الإِيجابية.
والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث ـ هنا ـ عن معركة «أُحد» وأحداثها، تبيّن وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إِذ تقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطّيب) فلابدّ أن تتميز
الصفوف، وتتمّ عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس. وهذا قانون عام وسنة إلهية خالدة وشاملة، فليس كلّ من يدعي الإِيمان، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره، وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الإِختبارات الإِلهية المتتابعة له.
وهنا يمكن أنْ يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحاً بين المسلمين آنذاك أيضاً حسب بعض الأحاديث والرّوايات) وهو: إِذا كان الله عالماً بسريرة كل إِنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس ـ عن طريق العلم بالغيب ـ ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟
إِنّ المقطع الثّاني من الآية وهو قوله: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب)يجيب على هذا السؤال. أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار، لأن الوقوف على الأسرار ـ على عكس ما يظن كثيرون لا يحلّ مشكلة، ولايفكّ عقدة، بل سيؤدي إِلى الهرج والمرج والفوضى، وإِلى تمزق العلاقات الإِجتماعية وانهيارها، وإِنطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده، وتوقف الناس عن الحركة والنشاط والفعالية.
والأهم من كلّ ذلك هو أنّه لابدّ أنْ تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، وليس عن أي طريق آخر، ومسألة الإِختبار الإِلهي لاتعني سوى هذا الأمر، ولهذا فإِن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم هو أعمالهم فقط(1).
ثمّ إِنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إِذ يقول: (ولكنّ الله يجتبي مِن رُسله مَن يشاء) أي أنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على
1 ـ لقد مرّ طرح هذا السؤال بالتفصيل عند تفسير قوله تعالى:(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ...) وأجبنا هناك بأن الإِمتحان الإِلهي ـ هو في الحقيقة ـ نوع من التربية العملية للبشر، ولا يعني الإِستخبار والإِستعلام، ولمزيد الإِطلاع راجع ذلك البحث.
شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم إحتياج القيادة الرسالية إِلى ذلك، وتبقى الأعمال ـ مع ذلك كلّه ـ هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم.
ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأنبياء ـ بحسب ذواتهم ـ لا يعرفون شيئاً من الغيب، كما ويستفاد منها أنّ ما يعلمونه منه إِنما هو بتعليم الله لهم وإِطلاعهم على شيء من الغيوب، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب، كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإِلهية.
ومن الواضح والمعلوم أنّ المراد من المشيئة الإِلهية في هذه الآية ـ كغيرها من الآيات ـ هو «الإِرادة المقرونة بالحكمة» أي أنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كلّ من يراه صالحاً لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.
ثمّ أنهّ تعالى يذكرهم ـ في ختام الآية ـ بأن عليهم ـ وهو الآن في بوتقة الحياة، بوتقة الإِمتحان الكبير، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح، والطيب والخبيث، والمؤمن والمنافق ـ عليهم أنْ يجتهدوا لينجحوا في هذا الإِمتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الإِختبار العظيم، إِذ يقول: (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم).
ثمّ أن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن المؤمن بالطيب، ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه الشّوائب، ولم يدخل في حقيقة الغرائب. ولم تلوثه الكدورات، فالماء الطاهر الطيب، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات، ويستفاد من هذا أن الإِيمان هو فطرة الإِنسان الأصيلة، وهو جبلته الأُولى.
* * *
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَللهِ مِيَرثُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180)
تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة، أُولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإِنفاق في سبيل الله، ولصالح عباده.
والآية هذه وإِن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية، إِلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة، ويؤيده التشديد المشهود في الآية، فإِن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإِنفاق المندوب المستحب.
تقول الآية أوّلا: (ولا يحسبن الّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقاً في
أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.
ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإِنسان، أي أنّها ـ طبقاً لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.
إِنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إِشارة إِلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إِنسان يتحمل ثقل مسؤوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.
إِنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها، لأن للإِستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدوداً، فإِذا تجاوزها الإِنسان عادت عليه نوعاً من الأسر الثقيل، والوزر الضّار، اللّهم إِلاّ أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإِيجابية الصالحة.
ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقاً ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضاً، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهوراً في الآخرة، بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسؤولية جمع الثّروة مضافة إِلى مسؤولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله، في حين لا ينتفع بها هو أبداً، وهل الأموال حينئذ إِلاّ طوق أسر ثقيل لا غير؟
ففي تفسير العياشي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: «الذي يمنع الزكاة يحول الله
والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية بـ (ما أتاهم الله من فضله)الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه، وإِن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإِنّما هو من فضله، ولهذا ينبغي أن لا يبخل، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.
ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإِلهية ومنها العلم، ولكن هذا الإِحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.
ثمّ إنّ الآية تشير إِلى نقطة أُخرى إِذ تقول: (ولله ميراث السماوات والأرض)يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإِنّها ستنفصل في النهاية عن أصحابها، ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها، وحسرتها وتبعتها.
ثمّ تختم الآية بقوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) أي أنّه عليم بأعمالكم، يعلم إذا بخلتم، كما يعلم إِذا انفقتم ما أُوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإِنساني، ويجازي كلا على عمله بما يليق.
* * *
1 ـ الشّجاع العظيم الخلقة من الحيات.
لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الاَْنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِّلْعَبِيدِ(182)
هذه الآية نزلت ردّاً على مقالة اليهود وتوبيخاً لهم.
فعن ابن عباس أنّه قال: كتب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً إِلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإِنفاق في سبيل الله وإِنما عبر عنه بالإِقراض لتحريك المشاعر وإِثارتها لدى الناس قدراً أكبر) فدخل رسول النّبي إِلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم) وسلم كتاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءاً: لو كان ماتقولونه حقاً فإن الله إِذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنياً لما استقرض منّا (وهو يشير إِلى قوله تعالى: (مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً
حسناً)(1)) هذا مضافاً إِلى أن «محمّداً» يعتقد أنّ اللّه نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إِذا انفقتم أضعافاً مضاعفة، وهو يشير إِلى قوله تعالى: (يربي الصدقات)(2).
ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3).
تقول الآية الأُولى (لقد سمع الله قول الّذين قالوا إِنّ الله فقير ونحن أغنياء).
أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أنْ يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإِن الله قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإِنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جداً أو الأصوات العالية جداً: (لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء).
إِذن فلا فائدة ولا جدوى في الإِنكار، ثمّ يقول سبحانه: (سنكتب ما قالوا)أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.
ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».
![]() |
![]() |