![]() |
![]() |
![]() |
(وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصي بأُمور في مجال الثلث الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إِلاّ أن يإِذن الورثة بذلك).
ثمّ قال سبحانه: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعاً) وهذه العبارة تفيد أن قانون الإرث المذكور قد أرسى على أساس متين من المصالح الواقعية، وأن تشخيص هذه المصالح بيد الله، لأن الإِنسان يعجز عن تشخيص مصالحه ومفاسده جميعاً، فمن الممكن أن يظن البعض أنّ الآباء والأُمهات أكثر نفعاً لهم، ولذلك فهم أولى بالإِرث من الأبناء وإِن عليه أن يقدمهم عليهم، ومن الممكن أن يظن آخرون العكس، ولو كان أمر الإِرث وقسمته متروكاً إِلى الناس لذهبوا في ذلك ألف مذهب، ولآل الأمر إِلى الهرج والمرج والفوضى، وانتهى إِلى الإِختلاف والتشاجر، ولكن الله الذي يعلم بحقائق الأُمور كما هي أقام قانون
الإِرث على نظام ثابت يكفل خير البشرية ويتضمّن صلاحها ...
ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الأُمور، ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: (فريضة من الله إِنّ الله كان عليماً حكيماً) وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإِرث.
في الآية السابقة أشير إِلى سهم الأولاد والآباء والأُمهات، وفي الآية التي تليها يقول الله سبحانه: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد)ويشير سبحانه إِلى كيفية إِرث الزوجين بعضهما من بعض، فإِن الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إِذا لم يكن للزوجة ولد، فإِن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإِلى هذا يشير تعالى في نفس الآية: (فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن).
على أن هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه: (من بعد وصية يوصين بها أو دين).
وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإِذا كان للزوج أولاد (وإِن كانوا من زوجة أُخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: (فإِن كان لكم ولد فلهنّ الثمن ممّا تركتم).
ويكون لها الربع إِن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: (ولهنّ الربع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولد).
على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضاً من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة: (من بعد وصية توصون بها أو دين).
والملفت للنظر في المقام هو انخفاض سهام الأزواج إِلى النصف إذا كان
للميت ولد، وذلك رعاية لحال الأولاد.
وأمّا العلّة لكون سهم الأزواج ضعف سهم الزوجات فهي ما ذكرناه في البحث السابق حول علّة الفرق بين سهم الذكر والأُنثى.
ثمّ إنّ هاهنا نقطة مهمة يجب التنبيه إِليها أيضاً، وهي أنّ السهم المعين للنساء (سواء الربع أو الثمن) خاص بمن ترك زوجة واحدة فقط (فإِنّها ترث كل الربع أو كل الثمن) وأمّا إذا ترك الميت زوجات متعددة قسم ذلك السهم (الربع أو الثمن) بينهن بالتساوي، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية مورد البحث أيضاً.
ثمّ أنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إِلى ذكر أسهم أُخوة الميت وأخواته فيقول: (وإن كان رجل يورث كلالة ...).
وفي هذه العبارة نواجه مصطلحاً جديداً ورد في موضعين من القرآن فقط، أحدهما، في الآية المبحوثة هنا، والثاني، في آخر آية من سورة النساء وهي كلمة «كلالة».
إِنّ ما يستفاد من كتب اللغة هو اشتقاق كلالة من الكلال، وهو ذهاب القوّة، فقد جاء في صحاح اللغة: الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة.
ولكنّها استعملت في ما بعد في أُخوة الميت وأخواته الذين يرثونه، ولعل التشابه يبن المعنى الأوّل والثّاني هو أن الأُخوة والأخوات يعتبرون من الطبقة الثانية في طبقات الإِرث، وهم لا يرثون إِلاّ مع عدم وجود الأب والأُمّ والأولاد للميت ومثل هذا الفاقد للأب والأُم والأبناء لابدّ أن يعاني من الضعف الشديد، وذهاب القوّة، ولهذا قيل له كلالة، قال الراغب في كتابه المفردات: «الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة».
وروي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الكلالة، فقال: من مات وليس له ولد ولاوالد، فجعله اسماً للميت، كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعاً.
وأمّا تعبير القرآن الكريم عن أُخوة الميت وأخواته بالكلالة فلعله لأنّ على أمثال هؤلاء ممن عدموا الآباء والأُمهات والأولاد أن يعلموا أن أموالهم ستقع من بعدهم في أيدي من يمثلون ضعفه، ويدلون على ذهاب قوتهم، ولذلك ينبغي لهم أن يصرفوها في مواضع أكثر ضرورة ولزوماً، وينفقونها في سبيل المحتاجين وفي حفظ المصالح العامّة.
يقول الله سبحانه تعالى: (وإِن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أُخت فلكل واحد منهما السدس) أي إِن مات رجل ولم يترك إِلاّ أخاً أو أُختاً، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو أُخت، يورث كل منهما السدس من التركة، هذا إِذا كان الوارث أخاً واحداً وأُختاً واحدة.
أمّا إِذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثاً واحداً، أي قسم مجموع الثلث بينهم: (فإِن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث).
ثمّ أضاف القرآن: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) أي تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما عليه من ديون، ثمّ قال: (غير مضار) أي فيما إِذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّاً بالورثة، أي أن لا يكون أكثر من الثلث، لأن تجاوز الوصية أو الدين عن حد الثلث إِضرار، كما أنّه يتوقف إمضاء الزائد على الثلث على إِذن الورثة ورضاهم بذلك، أو أن يخبر الميت عن ديون كذباً، ليحرم ورثته عن الإِرث ويضرّ بهم، كما نصت على ذلك روايات كثيرة مروية عن رسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).
ثمّ أنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: (وصية من الله والله عليم حليم)أي أنّ هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فوراً، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.
هذا وتجب والإِشارة ـ هنا ـ إِلى عدّة أُمور:
1 ـ إِنّ ما ورد في الآية السابقة حول إِرث الأخوة والأخوات وإِن كان في ظاهره مطلقاً يشمل الأُخوة والأخوات من الأبوين أو من الأب وحده أو من الأُم وحدها، إِلاّ أنّه بملاحظة آخر آية من سورة النساء (التي يأتي تفسيرها قريباً) يتّضح أنّ المراد ـ هنا ـ هو الأُخوة والأخوات من جانب الأُم فقط (أي الذين ينتسبون إلى الميت من جانب الأُم فقط)، في حين أنّ المقصود في الآية الأخيرة من السورة هو الأُخوة والأخوات من جانب الأبوين أو من جانب الأب خاصّة (سنتعرض لذكر الأدلة على هذا الأمر عند تفسير الآية الأخيرة من هذه السورة إِن شاء الله).
وعلى هذا الأساس فإِن الآيتين وإِن كانتا حول إِرث «الكلالة» (أي أخوة الميت وأخواته) ويبدو للنظر تعارض الآيتين، إلاّ أن التدبر والإِمعان في مضمون الآيتين يكشف لنا أنّ كل واحدة منهما تقصد طائفة خاصّة من أخوة الميت وأخواته، وأنّه لا تعارض بين مفاد الآيتين أبداً.
2 ـ من الواضح أن هذه الطبقة لا ترث إِلا عند فقدان الطبقة الأُولى (وهو الأب والأُم، والأولاد) مطلقاً، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وأُولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(1) كما تدل عليه روايات متظافرة وردت في هذا الصعيد تعين طبقات الإِرث، وترجح بعضها على البعض الآخر.
3 ـ إنّ لفظة (فهم شركاء في الثلث) تفيد أن أُخوة الميت وأخواته أي «الكلالة» إِن كانوا أكثر من أخ وأخت يقتسمون الثلث فيما بينهم بالتساوي، من دون فرق بين الذكور والإِناث، لأنّ المفهوم من «الشركاء في الثلث» هو تساوي الأسهم.
4 ـ يستفاد من الآية المبحوثة أنّه لا يحق للإِنسان أن يعترف بديون ـ كذباً ـ ليضرّ بالورثة ويضيع حقوقهم ويحرمهم من إِرثه، أنّه يجب عليه فقط أن يعترف ـ في آخر فرصة من حياته ـ بما عليه من الديون واقعاً، كما له أن يوصي بوصايا عادلة عبّر عنها في الروايات بأن تكون في حد «الثلث» وإِطاره.
فقد وردت في روايات الأئمّة(عليهم السلام) ـ في هذا الصعيد ـ عبارات شديدة النكير على من يوصي بوصايا مضرّة بالورثة منها قولهم: «إنّ الضرار في الوصية من الكبائر»(2).
إنّ الإِسلام الحنيف بسنّه لهذا القانون يكون قد حفظ للميت نفسه شيئاً من الحق في مسألة، إِذ يهيىء له إِمكانية الإِستفادة والإِنتفاع بمقدار الثلث، كما حفظ حقوق الورثة أيضاً حتى لا ينشأ في أفئدتهم أية ضغينة، وحتى لا تتزعزع وشائج المودّة وروابط القربى التي يجب أن تستمر بعد وفاة المورث.
* * *
1 ـ الأنفال، 75.
2 ـ مجمع البيان.
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(14)
«الحدود» جمع حدّ، ويعني في أصل اللّغة لمنع، ثمّ اُطلق على كلّ حائل وحاجز بين شيئين يفصل بينهما ويميز، فحدّ البيت والبستان والدّولة يراد منه الموضع الذي يفصل هذه النقطة عن غيرها من النقاط الاُخرى.
هذا ولقد بدأت الآية الأُولى من هاتين الآيتين بالإِشارة إِلى قوانين الإِرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة «تلك» إِذ قال سبحانه: (تلك حدود الله) أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإِن من تعدى هذه الحدود كان عاصياً مذنباً.
وقد وردت هذه العبارة (تلك حدود الله) في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وقد جاءت دائماً بعد ذكر سلسلة من الأحكام والقوانين والمقررات الإِجتماعية، ففي الآية 187 من سورة البقرة مثلا تأتي هذه العبارة بعد الإِعلان
عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الإِعتكاف، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم، كما جاءت في الآيات (229 و 230) من سورة البقرة، والآية (10) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق، وفي الآية (4) من سورة المجادلة بعد بيان كفارة «الظهار».
وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين مُنع من تجاوزها، ولهذا وصفت بكونها «حدود الله»(1).
ثمّ بعد الإِشارة إِلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، وهو بذلك يشير إِلى النّتيجة الأُخروية للإِلتزام بحدود الله واحترامها، ثمّ يصف هذه النتيجة الأُخروية بقوله: (وذلك هو الفوز العظيم).
ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود الإِلهية إذ يقول: (ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها).
على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإِنكار لآيات الله، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يستبعد هذا المعنى إِذا لاحظنا أن «حدود» جمع، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإِلهية، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإِلهية لا يؤمن بالله عادة، وإِلاّ فإِنّه يحترم ولو بعضها ـ على الأقل.
إِنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قالى تعالى: (خالدين فيها) بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد
1 ـ لقد مرّ حول «حدود الله» وتفسيره بحث أكثر تفصيلا في المجلد الثاني من هذا التّفسير.
حيث قال (خالداً فيها).
إِنّ هذا التفاوت في التعبير ـ في الآيتين المتلاحقتين ـ شاهد واضح على أن لأهل الجنّة إِجتماعات (أو بعبارة أُخرى أنّ هناك حالة إِجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة، ينعم بها ساكنوها وأصحابها، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفاً عن هذا، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه ـ لما فيه من العذاب ـ بحيث لا يلتفت إِلى غيره، ولا يفكر فيه، بل هو مهتم بنفسه، يعمل لوحده، وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل، في هذه الدنيا أيضاً، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.
في قانون الإِرث عموماً، وفي نظام الإِرث الإِسلامي خاصّة مزايا نشير إِلى قسم منها في مايلي:
1 ـ في نظام الإِرث الإِسلامي، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإِرث، فليس في الإِسلام ما كان متعارفاً (أو لايزال) عند العرب الجاهليين، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإِرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك، بل يشمل نظام الإِرث الإِسلامي كل من يمتّ إِلى المتوفى بوشيجة القربى.
2 ـ يلبي هذا النظام الحاجات الإِنسانية الفطرية والمشروعة، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره إمتداداً لوجوده وشخصيته، ولهذا يكون سهم الأبناء ـ حسب هذا النظام ـ أكثر من سهام غيرهم، في حين تكون سهام الآباء والأُمهات وغيرهم من
الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاماً وأنصبة محترمة وجديرة بالإِهتمام أيضاً.
3 ـ إِنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة، وتشغيل عجلة الإِقتصاد.
وذلك لأنّ الإِنسان إِذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إِلى من يحبّهم ويودّهم، فإِنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه، ومهما كانت ظروفه وملابساته، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقاً.
وقد أشرنا في ما مضى ـ كيف أنّ إِلغاء قانون الإِرث والتوارث في بعض البلاد، وتأميم أموال الموتى، وحيازتها من قبل الدولة أدى إِلى آثار سيئة في المجال الإِقتصادي، وظهر في صورة ركود إِقتصادي مخيف دفع بالدولة إِلى إِعادة النظر في إلغاء قانون الإِرث وحذفه.
4 ـ إِنّ قانون الإِرث الإِسلامي يمنع من تراكم الثّروة، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة ـ بعد كلّ جيل ـ بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة، كما يساعد على التوزيع العادل لها.
هذا والجدير بالإِهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة، والتي ترافق غالباً سلسلة من المضاعفات والآلام الإِجتماعية السيئة، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.
5 ـ إِنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإِرث الإِسلامي لم تنظم على أساس الإِرتباط والإِنتساب إِلى المتوفى برابطة النسب خاصّة، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة، فإِذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإِناث، أو يرث الإب ـ في بعض الموارد ـ أكثر من الأُمّ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسؤولية مالية أكبر في النظام الإِسلامي، ولأنّ عليهم أن
يتحملوا الإِنفاق على زوجاتهم وعوائلهم، ولهذا لابدّ أن يسهم لهم ـ في الإِرث ـ أكثر من الإِناث.
في كتاب الإِرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان «العول»، والآخر تحت عنوان «التعصيب» وهما حالتان تعرضان لمسألة الإِرث عندما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحياناً، أو أكثر أحياناً أُخرى.
وللمثال نقول: إِذا ترك الميت أُختين من جانب الأب والأُمّ، وزوجاً، ورثت الأُختان ثلثي المال وورث الزوج النصف، فيكون المجموع 67 أي بزيادة 61 على مجموع المال، وهنا يطرح السؤال التالي وهو: ننقص هذا السدس الزائد 61 من جميع الورثة ـ حسب سهامهم ـ وبصورة عادلة، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟
المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إِلى إِدخال النقص على جميع الورثة، وسمّى الفقهاء هذا القسم عولا، لأن العول يعني في اللغة الإِرتفاع والزيادة.
ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة: إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه(1)، وهكذا يكون العمل في الموارد الاُخرى، وفي الحقيقة ينزل الورثة ـ هنا ـ منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعاً وبصورة كاملة، فهنا يدخل النقص
1 ـ فتكون طريقة الحساب هنا هي أنّنا يجب أن ننقص 61 من سهم الأُختين الذي هو 64 وسهم الزوج الذي هو63 بمقدار أسهمهم أي نقسم 61 على 7 أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار 4، ومن الزوج بمقدار 3، وذلك طبقاً لقانون «الإِسهام بالنسبة» المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار 424 ومن سهم الزوج بمقدار423 .
على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.
ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهباً آخر، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين، لا على جميع الورثة.
فهم في المثال الحاضر، مثلا يدخلون النقص على الأُختين، ويقولون كما جاء في حديث شريف: «إن الذي أحصى رمل عالج ـ أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض ـ ليعلم أن السهام لا تعول» أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إِلى الكسر، فلابدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانوناً، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأُمّ، ومن ليس سهم كذلك كالأُختين والبنتين، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائماً على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والإِضطراب، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول، وإِنّما يدخل النقص على سهم الأُختين فقط (فلاحظ ذلك بدقّة).
وقد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال ـ فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.
فمثلا إِذا توفي رجلا وخلف بنتاً واحدة وأُمّاً، فإِن سهم الأم هو 61 وسهم البنت هو 63 فيكون مجموع الأسهم هو 64 أي يفضل 62 من المال، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إِلى إِعطاء هذا الفاضل من التركة إِلى عصبة الميت(1) وهم رجال الطبقة الثانية من الإِرث (كالأُخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب.
ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إِلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين
1 ـ العصبة هم الرجال الذين ينتسبون إِلى الميت بلا واسطة كالأُخوة.
المذكورين أي بنسبة 1 و 3، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إِلى الطبقة اللاحقة، هذا مضافاً إِلى أن إِعطاء الفاضل من التركة إِلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائداً في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإِرث.
هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعاً للحاجة، وأما التفصيل فموكول إِلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.
* * *
وَالَّـتِى يَأْتِينَ الْفَـحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّـهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا(15) وَالَّذانَ يَأْتِيَـنِهَا مِنكُمْ فَأَذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً(16)
تعني لفظة «الفاحشة» حسب اللّغة: العمل أو القول القبيح جدّاً ـ كما أسلفنا ـ، ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد، وقد وردت هذه اللفظة في (13) مورداً من القرآن الكريم، وقد استعملت تارةً في «الزّنا» وأُخرى في «اللواط» وتارةً في الأفعال الشديدة القبح على العموم.
والآية الأُولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير كما فهم أكثر المفسرين ـ إِلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإِن شهدوا فامسكوهنّ في البيوت حتى يتوفاهنّ الموت).
وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة ـ مضافاً إِلى القرينة
المذكورة في الآية اللاحقة ـ التعبير بـ «من نسائكم» أي زوجاتكم، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.
ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: (أو يجعل الله لهنّ سبيلا) فإِذن لابدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إِلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.
ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبداً) من ذلك السجن إِذا كن على قيد الحياة طبعاً، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر، وليس الخلاص من السجن إِلاّ بسبب إِلغاء الحكم السابق، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد ـ مهما كان ـ سبباً لنجاة هذه السجينات، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتماً كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد. (فلاحظ بدقّة هذه النقطة).
وأمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى: (أو يجعل الله لهنّ سبيلا)هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد، يجعل وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إِلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن، فهو احتمال مردود، لأنّ لفظة «لهنّ سبيلاً» لا تتلاءم أبداً مع مسألة الأعدام، فعبارة «لهنّ» تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبيلا لنجاتهنّ، والحكم الذي قرّره الله في الإِسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعاً، وإِن لم ترد في القرآن الكريم
أية إِشارة إِليها).
من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط، لأنّ النسخ إِنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني، أي أنّه حكم مؤقت محدود، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلاحظ ذلك بدقّة وعناية).
ثمّ لابدّ من الإِلتفات إِلى ناحية مهمّة، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في «البيوت» من صالحهن من بعض الجهات، لأنّه أفضل ـ بكثير ـ من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة، هذا مضافاً إِلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثراً سيئاً وعميقاً في إِفساد المجتمع، إذ أنّ هذه المراكز تتحول ـ شيئاً فشيئاً ـ إِلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها ـ من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل ـ تجاربهم في الجريمة.
ثمّ أنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إِذ يقول: (واللذان يأتيانها منكم فأذوهما فإِن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما إِنّ الله كان تواباً رحيماً)ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إِن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا».
والآية وإِن كانت لا تذكر قيد «عدم الإِحصان»، صراحة، إِلاّ أنّها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة، أستفيد منها إِنها واردة في حق الزنا عن غير إِحصان، وإِنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير
المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة، وبالتالي حيث أن الآية السابقة إختصّت ـ بالقرينة التي ذكرت ـ بالزانية المحصنة إستنتجنا أنّ هذه الآية تبيّن حكم الزنا عن غير إِحصان.
كما أنّ هناك نقطة واضحة أيضاً، وهي أنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإِيذاء) عقوبة كلية، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حدّ الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيراً وتوضيحاً لهذه الآية وتعييناً للحكم الوارد فيها، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخاً أيضاً.
ففي تفسير العياشي روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «يعني البكر إِذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فاذوهما».
وعلى هذا يكون المراد من «اللذان» ـ وإِن كان للإِشارة إِلى مثنى مذكر ـ هو الرجل والمرأة أي من باب التغلب.
هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية وارداً في مجال «اللواط» واعتبروا الحكم في الآية السابقة وارداً في مجال «المساحقة»، ولكن رجوع الضمير في «يأتيانها» إِلى «الفاحشة» في الآية السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر، ولهذا فإِن اعتبار أنّ هذه الآية واردة في شأن اللواط، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر، (وإِن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إِلى الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حدّ الزنا وحكمه.
هذا مضافاً إِلى أننا نعلم أنّ عقوبة «اللواط» في الإِسلام هو القتل والإِعدام وليست الإِيذاء والجلد، وليس ثمّة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في الآية الحاضرة.
ثمّ إِنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إِلى مسألة التوبة والعفو عن مثل
هؤلاء العصاة، فيقول: (فإِن تابا، وأصلحا، فأعرضوا عنهما أنّ الله كان تواباً رحيماً).
وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل هؤلاء العصاة، فإِن على المجتمع الإِسلامي أن يحتضن هؤلاء إِذا تابوا ورجعوا إِلى الطهر والصواب وأصلحوا، ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجّة الفساد والإِنحراف.
هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضاً ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إِلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة، فإِذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإِلهية يسقطان بسبب التوبة والإِنابة، فإنّ من الأُولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم، وهذا بنفسه جار في من نفذ فيه الحدّ الشرعي ثمّ تاب بعد ذلك، فإنّه يجب أن تشمله مغفرة المسلمين وعفوهم.
قد يتساءل البعض أحياناً: لماذا قرر الإِسلام عقوبات صارمة، وأحكاماً جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا: لماذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إِحصان، ثمّ قرّر الحكم القتل والإِعدام في شأنهما في مابعد، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإِسلام موقفاً أكثر تسامحاً وليناً تجاه هذه الأفعال، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟
غير أنّ العقوبات الإِسلامية وإِن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة، إِلاّ أنّ إِثبات الجريمة في الإِسلام في المقام ليس سهلا، أيضاً فقد عين الإِسلام وحدد لإِثبات الجريمة شروطاً لاتثبت ـ في الأغلب ـ إِلاّ إِذا وقعت الجريمة علناً.
فمثلا: تصعيد عدد الشهود في الزنا إِلى الأربعة ـ كما في الآية الحاضرة ـ من الأُمور الصعبة جدّاً بحيث لا يثبت بها إِلاّ من كان مجرماً جسوراً جدّاً، ولا شك أن مثل هؤلاء لابدّ أن ينالوا عقاباً ثقيلا وقاسياً ليعتبر بهم الآخرون، فتطهر بذلك البيئة الإِجتماعية من لوث الفساد والإِنحراف والتورط في الجريمة، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها، وعدم الإِكتفاء بالقرائن، ومثل الإِتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إِثبات الجريمة أصعب جدّاً.
وبهذا الطريق جعل الإِسلام إِحتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين، وهو إِحتمال مهما كان ضعيفاً من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص، وكبح جماحهم، وأمّا الدقّة في كيفية إِثبات هذه الجريمة، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد، وفي الحقيقة أراد الإِسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفراداً كثيرين لعقوبة الإِعدام من جانب آخر.
ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإِسلامي في تعيين العقوبة وطريق إِثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيراً ونجاحاً في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأُسلوب «السهل الممتنع».
* * *
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَـلَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الْئَـنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(18)
في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إِذا تابوا وأصلحوا، ثمّ عقب ذلك بقوله: (إِنّ الله كان تواباً رحيماً) مشيراً بذلك إِلى قبول التوبة من جانب الله أيضاً.
وفي هذه الآية يشير سبحانه إِلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: (إنّما التوبة على الله للذين يعملون السّوء بجهالة).
وهنا يجب أن نرى ماذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟
إِنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإِن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإِيمان، وفي هذه الصورة وإِن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إِلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.
وأمّا إِذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إِنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإِن إرتكاب مثل هذا الذنب ينبىء عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إِلاّ أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإِنكاره وتمرده.
وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإِمام السجاد(عليه السلام)في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إِذ يقول: «إِلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي».
ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إِلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إِذ يقول: (ثمّ يتوبون من قريب).
هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إِلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت)الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إِلى أن التوبة لا تقبل إِذ ظهرت علامات الموت.
![]() |
![]() |
![]() |