3 ـ وممّا يجلب الإِنتباه أنّ الحالة الثالثة الواردة في آية موضوع البحث، قد قدمت كفارة الدية على كفارة التحرير، وهذه الحالة تتناول مسألة القتل الخطأ الواقع على شخص لا ينتمي أهله إِلى الإِسلام، بينما الحالة الأُولى ـ التي كان القتيل فيها من عائلة إسلامية ـ تقدمت فيها كفارة التحرير على كفارة الدية.

ويمكن الإِستنتاج من هذا التقديم والتأخير أن مسألة دفع الدية في موعد متأخر بالنسبة للمسلمين فيما بينهم، لا تترك أثراً سلبياً عليهم ـ في الغالب ـ بينما لو كان أهل القتيل من غير المسلمين لوجب التعجيل في دفع الدية ـ أوّلا ـ إِتقاءً للفتنة، ولكي لا يفسّر أهل القتيل وقومه مسألة القتل الحاصلة بأنّها نقض للعهد من جانب المسلمين.

4 ـ لم تحدد الآية الكريمة مقدار الدية أو مبلغها في أي من الحالات الثلاثة المذكورة، ويستنتج من هذا أن مسألة التحديد هذه إِنّما أوكلت إِلى السنة التي عينت بالفعل مقدارها الكامل بألف مثقال من الذهب، أو بمائة بعير، أو مائتين من

[384]

البقر، ويمكن أن يكون ثمن هذه الأنواع مالا إِذا حصل إتفاق بين طرفي القضية، (وبديهي أن تخصيص الذهب أو نوع من أنواع الماشية دية عن القتل، إِنما هو سنة إِسلامية تستند مبرراتها على الأُمور الطبيعية لا الوضعية المتغيرة بتغير الزمان).

5 ـ قد يرد هذا الوهم لدى البعض بأنّ القتل الواقع خطأ، يجب أن لا يكون بإِزائه غرامة أو عقوبة، لأن القاتل لم يرتكب جريمة عن عمد أو سبق إِصرار وإِن الخطأ لا عقوبة أو غرامة مالية عليه.

وجواب هذا ـ أو توضيحه ـ هو أن القتل، دون سواه من الجرائم، تدخل فيه قضية بالغة الأهمية وهي قضية الدم المراق فيها والحياة الإِنسانية التي تسلب عضو من أعضاء المجتمع ... ولكي يبيّن الإِسلام إهتمامه الكبير بحياة الأفراد، ويدفع معتنقيه إِلى التزام الحيطة والحذر الدقيقين لعدم التورط في ارتكاب مثل هذه الأخطاء، شدد في مسألة الغرامة والعقوبة حرصاً منه على حياة أفراد المجتمع، ولكي لا يصبح الخطأ عذراً يتوسل به من شاء في إِهدار دماء الأبرياء من الناس.

والعبارة الأخيرة من الآية الكريمة التي هي (توبة من الله ...) قد تكون إِشارة إِلى أنّ وقوع الخطأ يكون غالباً بسبب التهاون وقلة الحذر، وان الخطأ إِذا كان كبيراً كالقتل ـ يجب التعويض عنه أوّلا وإِرضاء أهل القتيل لكي تشمل القاتل أو الخاطىء بعد ذلك التوبة الإِلهية.

* * *

[385]

الآية

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَـلَدِاً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)

سبب النّزول

ذكروا أنّ «المقيس بن صبابة الكناني» كان قد وجد قاتل أخيه «هشام» في محلة بني النجار، وأخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الأمر، فبعثه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع «قيس بن هلال المهري» إِلى زعماء بني النجار يأمرهم أن يسلموا قاتل «هشام» إِلى أخيه «المقيس» وإِن لم يكن لهم علم به أو بمكانه فليدفعوا إِلى «المقيس» دية أخيه القتيل، فدفع بنو النجار الدية لعدم علمهم بمكان القاتل، فأخذ «المقيس» الدية وتوجه إِلى المدينة مع «قيس بن هلال المهري» إِلاّ أنه في الطريق راودته نعرة من نعرات الجاهلية، فظن أنه قد جلب على نفسه العار بقبوله المال بدل دم أخيه، فعمد إِلى قتل رفيق سفره، أي قيس بن هلال الذي كان من قبيلة بني النجار، انتقاماً لدم أخيه على حسب ظنّه، ثمّ هرب «المقيس» إِلى مكّة وارتد عن إِسلامه، فاستباح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دم هذا القاتل، أي «المقيس» لخيانته، وقد نزلت هذه الآية في هذه المناسبة وهي تبيّن عقوبة مرتكب القتل العمد.

[386]

التّفسير

عقوبة القتل العمد:

لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة ـ أو غرامة ـ القتل الناتج عن الخطأ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إِصرار، في حالة إِذا كان القتيل من المؤمنين، وبما أن جريمة قتل الإِنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب، وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإِنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلا للناس جميعاً، إلاّ أن يكون القتل عقاباً لقتل مثله أو عقاباً لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً)(1).

وقد قررت الآية ـ موضوع البحث ـ أربع عقوبات أُخروية لمرتكب القتل العمد، وعقوبة أُخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخرية هي:

1 ـ الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها).

2 ـ احاطة غضب الله وسخطه بالقاتل: (وغضب الله عليه ...).

3 ـ الحرمان من رحمة الله: (ولعنه).

4 ـ العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: (وأعدّ له عذاباً عظيماً)والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد، هو أشدّ أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقاباً أشدّ منه في مجال آخر أو لذنب آخر.

أمّا العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية (179) من سورة البقرة،


1 ـ الآية 32 من سورة المائدة.

[387]

فهو القصاص، وقد تطرقنا إِليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.

جريمة القتل العمد والعقاب الأبدي:

يرد سؤال في هذا المجال، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إِلى من يموت كافراً، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمناً، كما يحتمل أن يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا، ويسعى إِلى تعويض وتلافي ما حصل بسبب جريمته، فكيف إِذن يستحق مثل هذا الإِنسان عذاباً أبدياً وعقاباً يخلد فيه؟

إِنّ جواب هذا السؤل يشتمل على ثلاث حالات هي:

1 ـ قد يكون المراد بقتل المؤمن ـ الوارد في الآية موضوع البحث ـ هو القتل بسبب إِيمان الشخص، أي استباحة دم المؤمن، وواضح من هذا إِنّ الذي يعمد إِلى إرتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإِيمان، وإِلا كيف يمكن لمؤمن أن يستبيح دم أخيه المؤمن، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) حديث بهذا الفحوى(1).

2 ـ كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإِيمان بسبب تعمده قتل إِنسان مؤمن بريء، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته، فينال في الآخرة العذاب العظيم المؤبد.

3 ـ ويمكن أيضاً ـ أن يكون المراد بعبارة (الخلود» الواردة في الآية هو العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد.

ويمكن أن يطرح سؤال آخر ـ في هذا المجال ـ وهو هل أنّ جريمة القتل


1 ـ فقد ورد في كتاب الكافي وتفسير العياشي في تفسير هذه الآية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «إن من قتل مؤمناً على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله تعالي في كتابه عنه: «وأعد له عذاباً عظيماً».

[388]

العمد قابلة للتوبة؟!

لقد ردّ جمع من المفسّرين بالنفي صريحاً على هذا السؤال، وقالوا: أن هذه الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقاً، حيث أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إِلى ذلك، فقد صرحت الروايات بأنّ لا توبة لقاتل المؤمن عمداً.

ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإِسلامية، وروايات الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم من علماء الدين الكبار، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم ... المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة، لكن التوبة من بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جداً يصعب بل يستحيل أحياناً على الفرد تحقيقها.

والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم: (إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(1).

وقد قلنا في تفسير هذه الآية: إِنّها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة الشفاعة وما شاكل ذلك، ولكن المعروف أنّه حتى الشرك ـ ذاته ـ يعتبر من الجرائم والذنوب القابلة للتوبة، إِذا تخلى الإِنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد الأحد وأسلم وجهه لله، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا الإِسلام وتابوا إِلى الله فعفا عنهم وغفرلهم ذنوبهم السابقة.

ويتبيّن من هذا العرض الموجز أنّ كل الذنوب ـ حتى الشرك ـ قابلة للتوبة، وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى: (إِنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إِنّه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إِلى ربّكم وأسلموا له).

وقد ذكر بعض المفسّرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب


1 ـ النساء، 47.

[389]

هي آيات عامّة قابلة للتخصيص ـ ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول، لأنه يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين، وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات، فهي ـ كما في الإِصطلاح ـ تأبى التخصيص.

إِضافة إِلى ذلك كلّه فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إِلى التوبة، ويخلص الطاعة لله في بقية عمره، ويتجنب إرتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد ذلك، ولا يعمد إِلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة، فهل يصح أن ييأس التائب ـ في مثل هذه الحالة ـ من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا الشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمولا بعذاب الله المؤبد؟ إِن القول برفض توبة إِنسان كهذا يكون مخالفاً لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ.

والذي نلاحظه في تاريخنا الإِسلامي، هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال «وحشي» الذي قتل «حمزة بن عبد المطلب» عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقبل النّبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن إرتكاب جريمة القتل في حال الشرك يختلف عنه في حال الإِيمان، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن الجريمة في الحالة الأُولى، وعدم احتماله في حالة الإِيمان، وقد سبق أن علمنا أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله، وعرفنا أنّ هذا الذنب ـ أيضاً ـ قابل للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إِذا تاب عن شركه واعتنق الإِسلام ... فكيف ـ والحالة هذه ـ يمكن القول بأنّ جريمة القتل العمد ـ التي لم يذكر القرآن أنّها أعظم الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟

إِنّ قولنا بأنّ جريمة قتل العمد قابلة للتوبة والعفو لا يقلل من عظم خطورة هذه الجريمة، وقبول التوبة في هذا المجال لا يعني أنّ التوبة متيسرة بسيطة في مثل هذه الحالة، بل أنّها من أصعب الأُمور، وهي إن أُريد تحقيقها ـ تحتاج إِلى

[390]

بذل وتضحيات كبيرة للتعويض عما خلفته الجريمة من آثار خطيرة وسيئة على المجتمع، والتعويض في هذا المجال ليس بالأمر اليسير(1) ولكننا أردنا من ذلك أن نبين أن باب التوبة ليست مغلقة على من تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى، حتى لو كان قد ارتكب في وقت من الأوقات جريمة كالقتل المتعمد.

ما هي أنواع القتل؟

لقد قسم الفقهاء القتل إِلى ثلاثة أنواع: كما ورد في كتب القصاص والديات، وقد استندوا في هذا التقسيم على ما استلهموه من الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال ... وهذه الأنواع هي:

1 ـ القتل العمد.

2 ـ القتل شبه العمد.

3 ـ القتل الخطأ.

والقتل العمد هو الذين يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إِصرار على إرتكاب هذه الجريمة، مثل أن يعمد إِنسان إِلى قتل إِنسان آخر مستخدماً في ذلك وسائل كالسكين أو العصي أو الحجارة أو غير ذلك من الوسائل القاتلة.

أمّا القتل شبه العمد فهو الذي يكون مسبوقاً بإِصرار القاتل على إِيذاء القتيل دون استهداف قتله، فيؤدي الإِيذاء إِلى القتل، كأن يضرب شخص شخصاً آخر، دون أن يقصد قتله، فيؤدي الضرب إِلى قتل المضروب.

والقتل الخطأ هو القتل الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إِصرار على إرتكاب هذه الجريمة، ولم يكن يهدف إِلى إِيذاء القتيل، ويحدث هذا ـ مثلا ـ


1 ـ إنّ الآيات التي وردت في بيان خطورة قتل الأبرياء لها أثر يهز الإِنسان من الأعماق، وفي حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم» وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لاُشرك في دمه» من تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 361.

[391]

لدى محاولة إِنسان اصطياد بعض الحيوانات بنوع من أنواع السلاح، فبدل أن يقع السلاح في الحيوان يقع سهواً على إِنسان آخر فيقتله.

وقد رودت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب الفقهية.

* * *

[392]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَـمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(94)

سبب النزول

لقد ذكرت الرّوايات والتفاسير الإِسلامية أسباب عدة لنزول هذه الآية، وكلها تتشابه مع بعضها الآخر، ومن ذلك أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حين عاد من واقعة خيبر بعث أسامة بن زيد مع جمع من المسلمين إِلى يهود كانوا يسكنون في قرية فدك، من أجل دعوتهم إِلى الإِسلام أو الإِذعان لشروط الذمّة، مرداس اليهودي، وهو أحد الذين عرفوا بقدوم جيش الإِسلام وكان قد أخذ أمواله وأولاده ولجأ بهم إِلى أحد الجبال، هبّ لاستقبال المسلمين وهو يشهد بوحدانية الله ورسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ظن أسامة بن زيد أن هذا اليهودي يتظاهر بالإِسلام خوفاً على نفسه وحفظاً لماله وأنه لا يبطن الإِسلام في الحقيقة فعمد أُسامة إِلى قتل هذا اليهودي واستولى على أغنامه، وما أن وصل نبأ هذه الواقعة إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تأثر تأثراً شديداً منها وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) ما معناه إن أُسامة لم يكن ليعرف ما في نفس هذا

[393]

الإِنسان فلعله كان قد أسلم حقيقة.

عند ذلك نزلت الآية المذكورة فحذرت المسلمين من أن تكون الغنائم الحربية أو أمثالها سبباً في رفض إِسلام من يظهر الإِسلام، مؤكدة ضرورة قبول إِسلام مثل هذا الإِنسان.

التّفسير

بعد أن وردت التأكيدات اللازمة ـ في الآيات السابقة ـ فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إِلى حماية أرواح الأبرياء الذين قديعرضون إِلى الإِتهام من قِبل الآخرين، إِذ تقول: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إِليكم السلام لست مؤمناً ...).

تأمر هذه الآية المسلمين أن يستقبلوا ـ بكل رحابة صدر ـ أُولئك الذين يظهرون الإِسلام وأن يتجنبوا إِساءة الظن بإِيمان أو إِسلام هؤلاء، وتؤكد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سبباً في إتهام أفراد أظهروا الإِسلام، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والإِستيلاء على أموالهم، إِذ تقول الآية: (... تبتغون عرض الحياة الدنيا...)(1). وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند الله بقوله: (... فعند الله مغانم كثيرة).

وتشير الآية أيضاً إِلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول: (... كذلك كنتم من قبل ...)(2)  وتضيف ـ مخاطبة  المسلمين ـ أنّهم في ظل الإِسلام ولطف الله وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السيء مؤكّدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت


1 ـ العرض كلمة على وزن (مرض) وتعني كل شيء زائل لا دوام له، وعلى هذا الأساس فإن «عرض الحياة الدنيا» معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إِلى الزوال والفناء لا محالة.

2 ـ وقد ورد في تفسير هذه الآية إحتمال آخر، هو أنّها تخاطب المسلمين بأنهم كان لهم نفس الحالة عند إِسلامهم، أي أنّهم أقروا بالإِسلام بألسنتهم وقبل منهم إسلامهم، وفي حين لم يكن أحد غير الله يعلم بما يخفونه في سرائرهم.

[394]

من الأُمور، إِذ تقول الآية: (... فمن الله عليكم فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيراً).

الجهاد الإِسلامي نفي من البعد المادي:

توضح الآية السالفة هذه الحقيقة بصورة جلية، وهي أنّ أي مسلم يجب أن لا يتقدم إِلى ساحة الجهاد بأهداف مادية، ولذلك عليه أن يقبل ـ منذ الوهلة  الأُولى ـ من العدو إِظهاره للإِيمان ويلبي نداءه للصلح والسلام، حتى لو حرم المسلم بقبوله إِيمان العدو الكثير من الغنائم المادية، والسبب في ذلك أن هدف الجهاد في الإِسلام ليس التوسع ولا الإِستيلاء على الغنائم المادية، بل الهدف من الجهاد الإِسلامي هو تحرير البشر من قيود العبودية لغير الله، سواء كان هذا الغير هم الطغاة الجبابرة، أو كانت العبودية للمال وللثروة والجاه، ويجب على كل مسلم أن يسعى إِلى هذه الحقيقة كلما برقت له بارقة أمل صوبها.

وتذكّر الآية الكريمة المسلمين بعهدهم في الجاهلية، حيث كانوا يحملون الأفكار المادية الدنيئة قبل إِسلامهم، فكانوا يتسببون في إِراقة سيول من الدماء لأسباب مادية محضة، وقد نجوا اليوم بفضل إِسلامهم وإِيمانهم من تلك الحروب وتغير أُسلوب حياتهم.

كما تشير الآية إِلى حقيقة أُخرى، وهي أنّ المسلمين ساعة إِظهارهم الإِسلام لم يكن أحد ليعرف حقيقة هذا الإِظهار أو حقيقة ما ينويه المظهر للإِسلام، وتؤكد لهم ضرورة أن يطبقوا ما كانوا هم عليه عند إِسلامهم على من يظهر الإِسلام أمامهم من الأعداء.

سؤال:

قد يطرأ على الذهن سؤال، وهو لو أنّ الإِسلام قبل دعوى كل من يتظاهر بالإِسلام منذ الوهلة الأُولى دون التحقيق من حقيقة هذه الدعوى، لأصبح ذلك

[395]

سبباً في إِيجاد أرضية النفاق وظهور المنافقين في المحيط الإِسلامي، وبهذا الأُسلوب يمكن للكثير من الأعداء إِساءة استغلال هذه الظاهرة والتستر في ظل الإِسلام، ومن خلال ذلك القيام بأعمال عدائية ضد الإِسلام؟

الجواب:

من الممكن القول أن ليس هناك قانون في العالم لا يمكن إِساءة استغلاله أبداً، بل المهم في القانون هو أن يحوي في أغلب جوانبه النفع للعموم، لو  رفضنا ـ منذ الوهلة الأُولى ـ إِسلام من يظهر الإِسلام من الأعداء وغيرهم لمجرّد عدم معرفتنا بسريرة هذا الذي يظهر الإِسلام، لأدى رفضنا في كثير من الحالات إِلى مفاسد لا تحمد عقباها، بل ستكون أكثر ضرراً على الإِسلام، إِذ أنّها تعني سحق المبادىء والعواطف الإِنسانية، ويكون ـ هذا الرفض ـ عند ذلك وسيلة بيد كل من يضمر العداء لصاحبه ليتهمه بأنّ إِظهاره للإِسلام لم يكن إِظهاراً حقيقياً مخلصاً أو مطابقاً لما في سريرته، وبهذه الصورة من الممكن أن تراق دماء كثيرة لأناس أبرياء.

وفوق كل ذلك فإِنّ الكثيرين لدى بدء كل دعوة ممن تكون توجهاتهم لهذه الدّعوة بسيطة وشكيلة وظاهرية، ولكنهم بمرور الزمان وإِتصالهم الدائم بتلك الدّعوة ـ تتجذر في نفوسهم مبادىء الدعوة وتتأصل وتتعزز، لذلك لا يمكن القبول برفض مثل هؤلاء الضعيفي الصلة بالدّعوة.

* * *

[396]

الآيتان

لاَّيَسْتَوِى الْقَـعِدُونَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالُْمجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُـجَـهِدِينَ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفِسِهِمْ عَلَى الْقَـعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُـجَـهِدِينَ عَلَى الْقَـعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(95) دَرَجَـت مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(96)

التّفسير

تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإِلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...).

وواضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أُولئك المؤمنون بالإِسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إِلى العزم الكافي

[397]

لذلك، وتبيّن هنا ـ أيضاً ـ أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجباً عينياً، فلو كان واجباً عينياً لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب.

وعلى هذا الأساس فإِنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إِنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجباً عينياً، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أُولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقاً، وعدواناً ويجب  الإِنتباه ـ أيضاً ـ إِلى أنّ عبارة (غير أُولي الضرر) لها مفهوم واسع يشمل كل أُولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك.

وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد في نهاية المقارنة، أنّ الله وهب المجاهدين أجراً عظيماً، (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)(1).

ولكن ـ كما أسلفنا ـ لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أُولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أُخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإِيمانه وأعمال صالحة أُخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة: (... وكلا وعد الله الحسنى) إِلاّ أنّه من البديهي أن هناك فرقاً شاسعاً بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.

وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال: أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من


1 ـ لقد وردت عبارة «درجة» في الآية على صيغة النكرة، وتؤكد كتب الأدب بأن النكرة في مثل هذه الحالات تأتي لبيان العظمة والأهمية ـ أي أن درجة المجاهدين من السمو والرفعة بحيث لا يمكن للبشر معرفتها بصورة كاملة ـ وهذا شبيه بالعبارة التي تطلق لبيان القيمة العظيمة لشيء يجهل قيمته البشر.

[398]

الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه سامياً مقدساً، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجباً عينياً قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإِن أُولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أمّا أُولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إِلاّ أنّهم كانوا يرغبون في الإِشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإِنّ لهم ـ أيضاً ـ سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين، كما جاء في حديث مروي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه جند الإِسلام فيقول: «لقد خلفتم في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره».(1)

وبما أنّ أهمية الجهاد في الإِسلام بالغة جداً، لذلك تتطرق الآية مرّة أُخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، (... وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً).

وتشرح الآية التالية ـ وهي الآية (96) من سورة النساء ـ نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه: (درجات منه ومغفرة ورحمة)

فلو أنّ أفراداً من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة، فقد وعدهم الله بالمغفرة والعفو، حيث يقول في نهاية الآية: (... وكان الله غفوراً رحيماً).

نكات مهمة حول المجاهدين:

1 ـ لقد كررت الآية (95) عبارة المجاهدين ثلاث مرات:

في المرّة الأُولى ذكر المجاهدون مع الهدف والوسيلة الخاصّة بالجهاد:


1 ـ تفسير الصافي، هامش الآية المذكورة.

[399]

(المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...).

وفي الثّانية: ذكر اسم المجاهدين مقروناً بوسيلة الجهاد، ولم يذكر شيء عن الهدف: (المجاهدون بأموالهم وأنفسهم ...).

وأمّا في المرحلة الأخيرة فقد جاءت الآية باسم المجاهدين فقط، حيث يدل ذلك بوضح على الأُسلوب البلاغي الرفيع في الكلام القرآني، حيث يتعرف السامع شيئاً فشيئاً بواسطته على الموضوع وتخف قيوده وصفاته لديه، وتصل درجة التعرف إِلى مرحلة يفهم السامع بها كل شيء من خلال إِشارة واحدة.

2 ـ لقد ذكرت الآية في البداية تفوق المجاهدين على القاعدين بعبارة مفردة وهي «درجة» بينما في الآية التالية جاءت هذه العبارة بصيغة الجمع «درجات» وجلّى أن لا تناقض بين هاتين العبارتين، لأن القصد من العبارة الأُولى تبيان تفوق المجاهدين على غيرهم، ولكن العبارة الثانية تشرح هذا التفوق حين تقترن بذكر عبارات «المغفرة» و«الرحمة»، وبعبارة أُخرى فإِن الفرق بين هاتين العبارتين «درجة» و«درجات» هو الفرق بين المجمل والمفصل.

كما يمكن الإِستفادة من عبارة «درجات» على أنّها تعني أن المجاهدين ليسوا كلّهم في درجة أو مستوى واحد، بل تختلف درجاتهم باختلاف درجة إِخلاصهم وتفانيهم وتحملهم للمشاق، وتختلف بذلك منزلتهم المعنوية، لأنّه من البديهي أن الذين يجاهدون الأعداء في صف واحد ليسوا جميعاً بمستوى جهادي واحد، كلها تختلف درجات الإِخلاص لدى كل واحد منهم بالقياس إِلى أمثالهم، ولذلك فإِنّ لكل واحد منهم ثواباً خاصاً به يتناسب مع عمله الجهادي ونيّته في هذا العمل.

الأهمية بالبالغة للجهاد:

إِنّ الجهاد قانون عام في عالم الخليقة، فإِنّ كل مخلوق سواء كان من

[400]

النباتات أو الحيوانات يسعى لإِزالة ما يعترض طريقه من موانع بواسطة الجهاد، لكي يستطيع كل واحد منهم بلوغ الكمال المطلوب في التكوين.

وعلى سبيل المثال فجذر النبات الذي ينشط للحصول على الغذاء والطاقة بصورة دائمة، لو ترك نشاطه، هذا وكف عن السعي لإِستحال عليه إِدامة حياته. ولذلك فإِن هذا الجذر حين يعترض طريقه مانع في عمق الأرض يحال تخطيه بثقبه، والعجيب هنا أنّ الجذور الرقيقة تعمل في مثل هذه الحالة كالمسمار الفولاذي في ثقب الموانع التي تعترضها، فلو عجزت في هذا المجال لحرفت طريقها واجتازت المانع عن طريق الإِلتفاف حوله.

وفي داخل وجود الإِنسان أيضاً وحتى في ساعات النوم هناك صراع غريب ومستمر مادام الإِنسان حياً، وهو الصراع بين كريات الدم البيضاء والأجسام المعادية المهاجمة، فلو أن هذا الصراع توقف لساعة واحدة وتخلت الكريات البيض عن الدفاع، لتسلطت الجراثيم والمكروبات المتنوعة على كافة أجهزة جسم الإِنسان ولعرضت حياته إِلى الخطر.

إِنّ ما هو موجود في أوساط المجتمعات والقوميّات والشعوب في العالم من كفاح من أجل البقاء، هو عين ذلك الكفاح والجهاد الذي لمسناه في النبات وفي جسم الإِنسان.

وعلى هذا الأساس فإِن كل من يواصل «الجهاد» و«المراقبة» تكون الحياة من نصيبه وهو منتصر دائماً ـ أما الذين تلهيهم عن الجهاد الأهواء والملذات والشهوات والأنانية وحبّ الذات فلن ينالهم غير الفناء والدمار عاجلا أو آجلا، وسيحل محلهم أناس يمتازون بالحيوية والنشاط والكفاح الدؤوب.

وهذا هو الشيء الذي يؤكّد عليه رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذ يقول: «فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها

[401]

ومراكز رماحها»(1).

ويقول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مناسبة أُخرى: «أغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(2).

أمّا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فهو يقول في مستهل خطبته عن الجهاد «... فإِنّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثواب الذّل وشملة البلاء، وديث بالصغار والقماء ...»(3).

ويجب الإِلتفات إِلى أنّ الجهاد لا يقتصر معناه على الحرب أو القتال المسلح، بل هو أيضاً كل سعي حثيث وجهد جهيد يبذل من أجل التقدم نحو تحقيق الأهداف المقدسة ـ الإِلهية ـ ومن هذا المنطلق فإنّه بالإضافة إِلى الحروب الدفاعية أو الهجومية ـ أحياناً ـ فإِنّ الكفاح العلمي والمنطقي والإِقتصادي والثقافي والسياسي يعتبر نوعاً من الجهاد.

* * *


1 ـ الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.

2 ـ الوسائل، كتاب الجهاد، ج 1، ص 2 و 16.

3 ـ نهج البلاغه، الخطبة 27.

[402]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً(97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا(98) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفِوراً(99)

سبب النّزول

لقد أنذر رؤساء قريش قبل بدء غزوة بدر جميع الأفراد من أهالي مكّة الذين يستطيعون حمل السلاح، أنّ عليهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين، محذرين بأن من يخالف هذا الأمر ستهدم داره وتصادر أمواله، وقد أدى هذا التهديد بنفر من الذين كانوا قد أسلموا في الظاهر، ولكنّهم كانوا قد رفضوا الهجرة لشدة حبهم لموطنهم ولأموالهم ... أدى بهؤلاء إِلى أن يرغموا على مشاركة الوثنيين في التحرك إِلى ساحة الحرب، وراودهم الشك في إِنتصار المسلمين لقلّة عددهم، فكان أن قتلوا وهم إِلى جانب المشركين.

فنزلت الآيات المذكورة وحدثت عن المصير الأسود الذي لاقاه هؤلاء بسبب إصرارهم على البقاء في موطن الشرك.

[403]

التّفسير

تعقيباً للبحوث الخاصّة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إِلى المصير الأسود الذي كان من نصيب أُولئك الذين ادعوا الإِسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإِسلام في الهجرة، فإنحرفوا إِلى مزالق رهبية، فكانت نتيجة إِنحرافهم أن أصابهم القتل وهم في صفوف المشركين.

فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين (إِنَّ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ...) فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأن ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإِلهي (قالوا كنّا مستضعفين في الأرض).

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض اللّه الواسعة، (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).