بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول: (وقتلهم الإنبياء) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة


1 ـ الحديد، 11.

2 ـ البقرة، 276.

3 ـ أسباب النزول للواقدي، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.

[26]

الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جداً وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود، ومناهضتهم للأنبيآء ليس بأمر جديد، فليست هذه هي المرّة الأُولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل، فإِن لهم في هذا المجال باعاً طويلا في التاريخ، وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي، فإِن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه، فلا مجال للإِستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أنْ يقال في هذا المقام: إِن قتل الإنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية، فلماذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول ـ كما أسلفنا أيضاً ـ أنّ هذه النسبة إِنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود، ولهذا اُشركوا في إِثمهم ووزرهم وفي مسؤوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمراً اعتباطياً غير هادف، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: (ذوقوا عذاب الحريق).

إِنّ هذا العذاب الإليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم (ذلك بما قدمت أيديكم(1) و أن الله ليس بظلام للعبيد).

بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأُمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاماً للناس.


1 ـ إِنّما أضيف أعمال الإِنسان إلى يده وإِن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارج لأن أكثر ما يكسبه الإِنسان إِنما يكسبه بيده، ولأن العادة قد جرت بإِضافة الأعمال التي يقوم بها الإِنسان إلى اليد وإِن اكتسبها بجارحة أُخرى.

[27]

ولقد نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال:

«وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إِلاّ بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد».

إِنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين، و ـ تعمم ـ من جهة اُخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإِلهية، فتكون جميعاً مطابقة للعدالة.

وتوضيح ذلك: إِنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإِنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم (ذلك بما قدمت أيديكم).

وتصرّح من جانب آخر بأن (الله ليس بظلام للعبيد) وإِنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإِلهي، وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).

غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة «وهم الذين يسمّون بالأشاعرة» لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون: إِنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النّار لم يكن جوراً ... فلا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إِليه جور(1).

والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيداً باتاً ومطلقاً وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد).


1 ـ الملل والنحل للشهرستاني، طبعة بيروت، ج 1، ص 101، تحقيق محمّد سيد كيلاني.

[28]

على أنّ لفظة «ظلام» صيغة مبالغة، وتعني من يظلم كثيراً، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيراً، لأجل أنّه إِذا أجبر الناس على الكفر والمعصية، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإِجباره وإِكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلماً صغيراً فحسب، بل كان «ظلاماً».

* * *

[29]

الآيتان

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُول حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوَ بِالْبَيِّنَـتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَـبِ الْمُنِيرِ(184)

سبب النّزول

حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا محمّد إِنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإِن زعمت أنّ الله بعثك إِلينا فجئنا به نصدقك، فأنزل الله هاتين الآيتين.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم:

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملص من الإِنضواء تحت راية الإِسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول: (الذين قالوا

[30]

إِنّ الله عهد إِلينا ألاّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النّار).

قال المفسرون: إِن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أنْ يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة، وهي أن يقربوا قرباناً فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب، وكانوا يريدون ـ حقّاً ـ مثل هذا الأمر من باب إِظهار الإِعجاز، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إِعذارهم، ولكن تاريخهم الغابر، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت الحقيقة التالية، وهي أنّهم لم يكونوا أبداً طلاب حقّ وبغاة علم، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية، وذلك فراراً من قبول الإِسلام، والإِنضواء تحت رايته، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإِنّهم كانوا يمتنعون عن الإِيمان، بدليل أنهم كانوا قد قرأوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنهم مع ذلك أبوا إِلاّ رفض الحقّ، وعدم الإِذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم: (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إِن كنتم صادقين)؟ وفي ذلك إشارة إِلى زكريا ويحيى وطائفة من الانبياء الذين قتلوا على أيدي بني اسرائيل.

هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إِلى إِحتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته: إِن مقصودهم لم يكن إِن على النّبي أن يذبح قرباناً وتنزل من السماء نار بطريقة إِعجازية وتحرق ذلك القربان، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر «اللاويين» من التوراة (العهد القديم).

[31]

إِنّهم كانوا يقولون: إِنّ الله عهد إِلينا أن يبقي مثل هذا التعليم، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإِسلامية لذلك فإِننا لا نؤمن لك.

ولكن هذا الإِحتمال بعيد عن تفسير الآية جداً لأنّه:

أوّلا: إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على «البيّنات» ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إِعجازياً، وهو لا ينطبق مع هذا الإِحتمال.

وثانياً: إِنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.

ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله: (فإِن كذبوك فقد كذّب رسل من قبلك).

وفي هذه الآية يسلي اللّه سبحانه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: إِن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

ولم يكن هؤلاء الإنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم، بل (جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير).

وهنا لابدّ من الإِنتباه إِلى أن «زُبر» وهو جمع (زبور) يعني كتاباً أُحكمت كتابة مواضيعه، لأن الزبر أصلا من الكتابة، لا مطلق الكتابة، بل الكتابة المتقنة المحكمة.

وأمّا الفرق بين «الزبر» و«الكتاب المنير» مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب، فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إِشارة إِلى كتب الأنبياء قبل موسى(عليه السلام)، والثّاني إِشارة إِلى التوراة والإِنجيل، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و46 بالنّور إِذ قال: (إِنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ...)(وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور).

[32]

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من «الزّبور» هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إِلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن «الكتاب المنير» أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والإِجتماعية.

* * *

[33]

الآية

كُلُّ نَفْس ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَـوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَـعُ الْغُرُورِ(185)

التّفسير

الموت وقانونه العام:

تعقيباً على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إِلى قانون «الموت» العام وإِلى مصير الناس في يوم القيامة، ليكون ذلك تسلية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وتحذيراً ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة.

فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إِلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول: (كل نفس ذائقة الموت).

والناس، وإِن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إِن حاولنا تناسيها والتغافل عنها، فهي لا تنسانا، ولا تتغافل عنّا.

إِنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة، ولابدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إِلاّ أن يفارق هذه الحياة.

[34]

إِن المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح، وإِن كانت النفس في القرآن تطلق أحياناً على خصوص «الرّوح» أيضاً.

والتعبير بالتذوق إِشارة إِلى الإِحساس الكامل، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إِلاّ أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإِحساس الكامل، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإِنسان والأحياء.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك (وإِنّما توفون أجوركم يوم القيامة) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أُخرى هي مرحلة الثواب والعقاب، وبالتالي الجزاء على الأعمال، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «توفون» التي تعني إِعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إِعطاء الإِنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافياً وبدون نقيصة، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإِنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله، وينال قسطاً من الثواب أو العقاب، لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.

ثمّ قال سبحانه: (فمن زحزح عن النّار واُدخل الجنّة فقد فاز).

وكلمة «زحزح» تعني محاولة الإِنسان لإِخراج نفسه من تحت تأثير شيء، وتخليصها من جاذبيته تدريجاً.

وأمّا كلمة «فاز» فتعني في أصل اللغة «النجاة» من الهلكة، ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة، ولقوا ما يحبونه، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها.. حقّاً أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإِنسان إِلى نفسها، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

أليس للشهوات العابرة، واللذات الجنسية الغير المشروعة، والمناصب،

[35]

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟

كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإِنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجاً، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.

أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها، وبلغوا بها إِلى مرتبة «النفس المطمئنة» كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.

ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: (وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور).

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول: إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإِنسان من بعيد، فإِذا بلغ إليها الإِنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغاً في فراغ وخواء في خواء، وما متاع الغرور إلاّ هذا.

هذا مضافاً إلى أن اللذَائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة، وخالية من كل ما يكدرها، حتى إذا اقترب إليها الإِنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.

كما أنّ الإِنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية، ولكنه سرعان ما ينتبه إِلى أنّها سريعة الزوال، قابلة للفناء.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيراً، والهدف منها جميعاً شيء واحد هو أن لا يجعل الإِنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير، ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والإِرتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والإِبتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإِنسانى، وأمّا الإِنتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إِلى التكامل الإِنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط، بل هو ضروري وواجب.

* * *

[36]

الآية

لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَلِكُمْ وأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ(186)

سبب النّزول

عندما هاجر المسلمون من مكّة إِلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إِلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها، وإِيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإِيقاع فيه بالهجاء والإِستهزاء.

وعندما جاؤوا إِلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة، خاصّة «كعب بن الأشرف» الذي كان شاعراً سليط اللسان، فقد كان كعب هذا يهجو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.

وقد بلغت وقاحته مبلغاً دفعت بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى أنْ يأمر بقتله، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.

[37]

والآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إِلى هذه الأُمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.

التّفسير

لا تتعبكم المقاومة:

(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) أجل إنّ هذه الحياة ـ أساساً ـ ساحة إختبار ودار إِمتحان، فلابدّ أن يتهيأ الإِنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد إنتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه، وشعره.

ولهذا قال سبحانه: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً).

إِنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإِن كانت من إحدى الإِبتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة، لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم، ومن قديم قال الشاعر:

جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان

ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإِنذار والتنبيه بقوله: (وإِن تصبروا وتتقوا فإِن ذلك من عزم الأُمور).

وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إِلى الصبر والإِستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأن هذه الأُمور من الأُمور الواضحة النتائج،

[38]

ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الاُمور المحكمة، وعلى هذا فإِن «عزم الأُمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إِنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إِليه.

واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إِشارة إِلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى، ويبدون التبرم بما لقوا، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائماً وأبداً ويتجنبون مثل ذلك السلوك.

* * *

[39]

الآية

وَإِذْ أَخَذَ اللهَ مِيثَـقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَبِئْسَ مَايَشْتَرُونَ(187)

التّفسير

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إِلى واحدة أُخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)، أي اذكروا اِذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.

والملفت للنظر أن عبارة «لتبيّننه» جاءت مع لام القسم، ونون التأكيد الثقيلة، وذلك نهاية في التأكيد.

ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله: «ولا تكتمونه» الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإِخفاء.

ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإِظهار الحقائق، وبيانها، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق، وأخفوا ما أرادوا

[40]

إخفائه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم (فنبذوه وراء ظهورهم) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه، لأن الإِنسان إِذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكاً له، فإِن يجعله قدامه، وينظر إِليه مرة بعد اُخرى، ولكنه إِذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه، وألقاه خلف ظهره.

ثمّ أنّه سبحانه أشار إِلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إِذ يقول: (واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون).

إِن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة، وإنحطاطهم الفكري آل بهم إِلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية، ولكن الآية تقول: أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إِلاّ ثمناً قليلا، وبئس ما يشترون.

ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال: إِنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم، ولكن الذي يدعو إِلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل، (طبعاً المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).

العلماء والوظيفة الكبرى:

إِن الآية الحاضرة وإِن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إِلاّ أنّها في الحقيقة تحذير وإِنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإِلهية، وتوضيحها وإِظهارها بجلاء، وإِن ذلك ممّا كتبه الله عليهم، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.

إِنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس،

[41]

وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من دون إِبهام، ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أيّة حجب وسدود.

فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإِلهية وبيانها وتوضيحها للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها لعلماء اليهود وأحبارهم.

فقد روى عن النّبي الأكرم ـ(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ أنّه قال: «من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

وعن الحسن بن عمار قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إِن رأيت أن تحدّثني فقال: أو ما علمت أنّي تركت الحديث، فقلت: إِمّا أن تحدّثني وإِمّا أن أحدثك؟ فقال: حدّثتي فقلت: حدّثني الحكم بن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا».

قال: فأطرق برأسه ملياً بعد أن سمع قولي ثمّ قال: اسمع لأحدثك، فحدثني أربعين حديثاً.(1)

هذا وللتعرف ـ بصورة أكبر ـ على خيانات أحبار اليهود وعلماء النصارى، راجع الآيات (79 و 174) من سورة البقرة، والآيات (71 إِلى 77) من سورة آل عمران.

* * *


1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفسير مجمع البيان عند تفسير هذه الآية، ومتن الحديث العلوي منقول عن نهج البلاغة.

[42]

الآيتان

لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(188)وَللهِ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(189)

سبب النّزول

ذكر المحدّثون والمفسرون أسباباً عديدة لنزول هذه الآية، منها أن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظناً منهم بأنّهم يحصلون من وراء ذلك على نتيجة، وفي الوقت نفسه كانوا يحبّون أن ينسبهم الناس إِلى العلم، ويعتبرونهم من حماة الدين فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطىء هذا.

وقال آخرون أنّها نزلت في شأن المنافقين، لأنهم كانوا يجمعون ويتفقون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذا نشبت حرب من الحروب الإِسلامية، متذرّعين لذلك بمختلف المعاذير والحجج، فإِذا عاد المجاهدون من القتال إِعتذروا وحلفوا لهم بأنّهم كانوا يودّوا المشاركة لولا بعض الأعذار، وأحبوا بالتالي أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإِيمان وبما لم يفعلوه من أفعال المجاهدين الصادقين. فنزلت هذه الآية ترد على هذا التوقع غير

[43]

المبرر وغير الوجيه(1).

التّفسير

المعجبون بأنفسهم:

المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين: طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها إِلى قبح ما فعلت، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إِلاّ لطغيان غرائزها، وهيجان شهواتها، وهذه الطّائفة سهلة النّجاة جداً، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه، وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.

بيد أنّ هناك طائفة اُخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء ممّا ارتكبت من الإِثم، بل هي على درجة من الغرور والإِعجاب بالنفس بحيث تفرح بما فعلت، بل تتبجح به وتتفاخر، بل وفوق ذلك تريد أنْ يمدحها الناس على ما لم تفعله أبداً من صالح الأعمال وحسن الفعال.

إِنّ الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفارة من العذاب) أي لا تحسبن أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إِنّما النجاة لمن يستحون ـ على الأقل ـ من أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحرّموا من الخلاص، بل (ولهم عذاب أليم) ينتظرهم.

ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإِنسان بما وفق لفعله وإتيانه من صالح الإعمال ليس مذموماً (إِذا كان ذلك لا يتجاوز حد الإِعتدال، ولم يكن سبباً للغرور والعجب)، وهكذا الحال في رغبة الانسان في التشجيع والإِجلال على


1 ـ أسباب النزول للواقدي في تفسير هذه الآية وتفسير المنار وتفسير مجمع البيان.

[44]

الأفعال الحسنة إِذا كان ـ كذلك ـ في حدود الإِعتدال، ولم يكن الإِتيان بتلك الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك، لأن كل ذلك من غريزة الإِنسان ومقتضى فطرته. ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإِيمان بعيدون حتى من مثل هذا الإِبتهاج المباح وحبّ التقدير الغير المذموم.

إِنّهم يرون أعمالهم دائماً دون المستوى المطلوب، ويشعرون أبداً بالتقصير تجاه ربّهم العظيم، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.

على أنّه ينبغي أن لا نتصور أنّ الآية الحاضرة ـ مورد البحث ـ تختص بأهل النفاق في صدر الإِسلام أو من شاكلهم ـ في كل عصر وزمان ـ وفي جميع الظروف والمجتمعات المختلفة، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.

إِنّ مثل هؤلاء مضافاً إِلى العذاب الأليم في الآخرة، سيصيبهم ـ في هذه الحياة ـ غضب الناس وسخطهم، وسيؤول أمرهم إِلى الإِنفصال عن الآخرين وإِلى غير ذلك من العواقب السيئة.

ثمّ إنّ الله سبحانه يقول في آية لاحقة: (ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير) وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين، وتهديداً للكافرين، فهي تقول: إنّه لا داعي لأن يسلك المؤمنون لإِحراز التقدم طرقاً وسبلا منحرفة، وأن يحمدوا على مالم يفعلوه، ذلك لأنّهم يقدرون أنْ يواصلوا تقدمهم، ويحرزوا النجاحات بالإِستفادة من السبل المشروعة والصحيحة وفي ظل قدرة الله خالق السماوات والأرضين، كما أنّه على المنافقين والعصاة أنْ لا يتصوروا أنّهم قادرون على إِحراز شيء أو على الخلاص والنجاة من عقاب خالق الكون وربّ السماوات والأرضين بسلوك هذه السبل المنحرفة واستخدام هذه الأساليب غير المشروعة!.

* * *

[45]

الآيات

إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرضِ وَاخْتِلَـفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاََيَـت لاُِّوْلِى الاَْلْبَـتِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَـماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـذَا بَـطِلا سُبْحَـنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) رَبِّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِنْ أَنصَار(192) رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلاِْيمَـنِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَأَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْلَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاَْبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَتُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(194)

التّفسير

أهمية هذه الآيات:

لا شك أنّ جميع الآيات القرآنية تتمتّع بأهمية كُبرى لأنّها جميعاً كلام الله، وآياته التي نزلت لتربية الإِنسان ونجاته وخلاصه، وإِلاّ أنّ هناك من الآيات ما تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص، ومن هذا الصنف ما نقرؤه الآن من الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها

[46]

مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإِذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصّة ومكانة سامية بين غيرها من الآيات.

عن «عطاء بن رباح» قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: وأي شأن لم يكن عجباً، أنّه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثمّ قال: ذريني أتعبد لربّي، فقام فتوضأ ثمّ قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره فركع فبكى، ثمّ سجد فبكى، ثمّ رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم لا أفعل وقد أنزل عليّ هذه الليلة: (إِنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب) ـ إلى قوله ـ (سبحانك فقنا عذاب النّار) ثمّ قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»(1) والعبارة الأخيرة التي تأمر الجميع ـ بتأكيد كبير ـ بأن يفكروا في هذه الآيات، وقد رويت في روايت عديدة بعبارات مختلفة.

وفي رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إِذا قام لصلاة الليل يسوك، ثمّ ينظر إِلى السماء ثمّ يقول: (إِنّ في خلق السماوات والأرض ...) إِلى قوله تعالى: (فقنا عذاب النّار)(2).

وورد عن الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة(3).

وعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين(عليه السلام) فكان يصلي الليل


1 ـ تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 111، وتفسير أبي الفتوح الرازي في ذيل هذه الآيات.

2 ـ تفسير نور الثقلين ومجمع البيان.

3 ـ المصدر السابق.

[47]

كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إِلى السماء ويتلو القرآن ـ ويردد هذه الآيات ـ فمرّ بي بعد هدوء الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟.

قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: «يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أُولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً ...»(1).

التّفسير

أوضح السّبل لمعرفة الله:

آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التّلاوة والقراءة إِلاّ مقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يشير إِلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب)(2).

وبهذا يحثّ الناس على التفكر في هذا الخلق البديع والعظيم، ليصيب كلّ واحد منهم ـ بقدر إِستعداده، وقدرته على الإِستيعاب ـ من هذا البحر العظيم الذي لا يدرك له ساحل ولا قعر، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.