![]() |
![]() |
![]() |
الآية الحاضرة ـ هي في الواقع ـ مكملة للآية السابقة، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إِلى طاعة الله والرّسول وأُولي الأمر، والتحاكم إِلى الكتاب والسنة، وهذه الآية تنهي عن التحاكم إِلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه.
والطّاغوت ـ كما أشرنا إِلى ذلك سابقاً ـ مشتقّة من الطغيان، وهذه الكلمة مع جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود، أو كل شيء يكون وسيلة للطغيان أو التمرّد.
وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتاً، لأنّه تجاوز حدود الله وتعدي على قوانين الحقّ والعدل، ففي الحديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) أنّه قال:
«الطّاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحقّ».والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إِلى مثل هؤلاء الحكام وتقول: (ألم تر إِلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إِلى الطّاغوت وقد أمروا أن يكفروا به).
ثمّ يضيف القرآن قائلا: (ويريد الشّيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً) أي أنّ التحاكم إِلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.
وغير خفي أن الآية الحاضرة ـ شأنها شأن سائر الآيات القرآنية الاُخرى ـ تتضمّن حكماً عاماً، وتبيّن قانوناً خالداً لجميع المسلمين في جميع العصور والدهور. وتحذرهم من مراجعة الطواغيت، وطلب الحكم منهم، وإِنّ ذلك لا
1 ـ تفسير المنار، ج 5، ص 222.
يناسب الإِيمان بالله والكتب السماوية، هذا مضافاً إِلى كونه يضل الإِنسان عن طريق الحقّ، ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيداً عن الحق.
إِنّ مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام، وأثرها في تحطيم كيان المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأُسسه ممّا لا يخفى على أحد، فهي أحد العوامل المؤثرة في إنحطاط المجتمعات وتأخرها.
* * *
وَإِذاَ قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَـفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودَاً(61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَـبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَـناً وَتَوْفِيقاً(62) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغاً(63)
في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إِلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إِلى الطّواغيت وحكام الجور والباطل.
ففي الآية الأُولى يقول سبحانه: (وإذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً).
وفي الحقيقة يقول القرآن في هذه الآية: إِنّ التحاكم إِلى الطاغوت ليس خطأً عابراً يمكن أن يعالج ببعض التذكير، بل إِنّ الإِصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلاّ لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إِلى رشدهم على
دعوة رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم ويعترفوا بخطأهم: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً).
ثمّ في الآية الثّانية يبيّن هذه الحقيقة، وهي أن هولاء المنافقين عندما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم، ويواجهون طريقاً مسدودة يعودون إِليك عن اضطرار ويأس: (فكيف إِذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثمّ جاؤوك ...).
ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إِلى الآخرين لم يكن إِلاّ الإِحسان والتوصل إِلى الوفاق بين طرفي الدّعوي: (يحلفون بالله إِن أردنا إِلاّ إِحساناً وتوفيقاً).
وهنا لابدّ من الإِشارة إِلى نقطتين:
الأُولى: أن نرى ما هو المقصود من المصيبة التي تصيبهم؟
لا يبعد أن تكون المصيبة هي ما ينشأ من مضاعفات ومآسي وويلات من حكم الطواغيت، لأنّه لا شك في أن الحكم الصادر من الأشخاص غير الصالحين والظالمين وإِن كان ينطوي على منفعة آنية لأحد جانبي الدعوى، ولكن لا يمضي زمان إِلاّ ويوجب هذا الحكم ظهور الفساد وانتشار الظلم والجور، وسيادة الهرج والمرج وتبعثر الكيان الإِجتماعي، ولهذا فإِنّه سرعان ما تواجه هؤلاء المتحاكمين إِلى الطواغيت تبعات ومفاسد عملهم هذا، وسرعان ما يندمون على فعلهم هذا.
هذا ويحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من «المصيبة» هو الفضيحة التي تلحق بالمنافقين، أو المصائب التي تصيبهم بأمر الله سبحانه (كالمآسي والمحن الغير المتوقعة).
النّقطة الثّانية: إِنّ مقصود المنافقين من «الإِحسان» هل هو الإِحسان إِلى طرفي الدعوى، أو إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ يمكن أن يكون مرادهم كلا الأمرين، فهم تذرعوا
بحجج مضحكة لتحاكمهم إِلى الطاغوت والرجوع إِلى الأجانب، من جملتها أنّهم كانوا يقولون: إِنّ التحاكم إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، لأنّ الغالب أن يحصل شجار وصياح في محضر القضاة ومن جانب المتداعيين، وذلك أمر لا يناسب شأن النّبي ولا يليق بمكانته ومحضره.
هذا مضافاً إِلى أنّ القضاء ينتهي دائماً إِلى الإِضرار بأحد الطرفين، ولذلك فهو يثير حفيظته وعداوته ضد القاضي والحاكم، وكأنّهم بأمثال هذه الحجج الواهية والأعذار الموهونة، كانوا يحاولون تبرئة أنفسهم وتبرير مواقفهم الباطلة، وادعاء أنّ تحاكمهم إِلى غير النّبي كان بهدف التخفيف عن النّبي.
وربّما اعتذروا لذلك قائلين: إِنّ هدفنا لم يكن مادياً في الأساس، بل كان التوصل إِلى وفاق بين المتداعيين.
ولكن كشف سبحانه في الآية الثّالثة النقاب عن وجههم، وأبطل هذه التبريرات الكاذبة وقال: (أُولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم).
ولكنّه سبحانه يأمر نبيّه مع ذلك أن ينصرف عن مجازاتهم وعقوبتهم فيقول: (فاعرض عنهم).
ولقد كان رسول الله يداري المنافقين ما أمكنه لأجل تظاهرهم بالإِسلام، لأنّه كان مأموراً بالتعامل معهم على حسب ظواهرهم، فلم يكن يجازيهم إِلاّ في بعض الموارد الإِستثنائية، لأنّهم كانوا بين صفوف المسلمين ـ في الظاهر ـ فكانت مجازاتهم يمكن أن تحمل على أنها نشأت من أغراض شخصية.
ثمّ إنّه سبحانه يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعظهم، وأن ينفذ إِلى قلوبهم بالقول البالغ، والعظة المؤثرة، يذكرهم بنتائج أعمالهم: (وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً).
* * *
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً(64)
في الآيات السابقة شجب القرآن الكريم التحاكم إِلى حكّام الجور، وفي هذه الآية يقول سبحانه مؤكداً:
(وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله) أي أنّنا بعثنا الأنبياء ليطاعوا بإِذن الله وأمره ولا يخالفهم أحد، لأنّهم كانوا رسل الله وسفراءه كما كانوا رؤساء الحكومة الإِلهية أيضاً، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة بيان أحكام الله ومن جهة طريقة تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرّد ادعاء الإِيمان.
ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الهدف من إِرسال الرسل وبعث الأنبياء هو إِطاعة جميع الناس لهم، فإِذا أساء بعض الناس استخدام حريتهم ولم يطيعوا الأنبياء كان اللوم متوجهاً إِلى أنفسهم لا إِلى أحد. وبهذا تنفي الآية الحاضرة عقيدة الجبريين الذين يقولون: الناس صنفان: صنف كلّف بالطاعة من البدء، وصنف كلّف بالمعصية من البدء.
كما أنّه يستفاد من عبارة (بإِذن الله) أن كل ما عند الأنبياء من الله، أو بعبارة أُخرى: إِن وجوب طاعتهم ليس بالذات، بل هي ـ أيضاً ـ بأمر الله ومن ناحيته.
ثمّ إنّه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة ـ عقيب تلك الآية ـ مفتوحاً على العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت ويتحاكمون إِليهم أو يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، ويقول: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرّسول لوجدوا الله تواباً رحيماً).
والجدير بالتأمل والإِنتباه إِنّ القرآن يقول بدل: عصوا أمر الله وتحاكموا إِلى الطاغوت: (إذ ظلموا أنفسهم) وهو إشارة إِلى أنّ فائدة الطاعة لأمر اللّه وأمر الرّسول تعود إِليكم أنفسكم، وإِن مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على أنفسكم، لأنّها تحطم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم وانحطاطكم من الناحية المعنوية.
إِنّ هذه الآية تجيب ضمناً على كل الذين يعتبرون التوسل برسول الله أو بالإِمام نوعاً من الشرك، لأنّ الآية تصرح بأن التوسل بالنّبي والإِستشفاع به إِلى الله، وطلب الإِستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإِلهية.
فلو كانت وساطة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاؤه للعصاة المتوسلين به، والإِستشفاع به وطلب الإِستغفار منه شركاً، فكيف يمكن أن يأمر القرآن العصاة والمذنبين بمثل هذا الأمر؟
نعم، غاية ما في الباب أنّ على العصاة والمذنبين أنفسهم أن يتوبوا هم ويرجعوا عن طريق الخطأ، ثمّ يستفيدوا ـ لقبول توبتهم ـ من استغفار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن البديهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من شأنه أن يغفر الذنوب، بل شأنه في المقام أن يطلب من الله المغفرة خاصّة، وهذه الآية إِجابة مفحمة للذين ينكرون مشروعية أو فائدة هذه الوساطات.
هذا والمفلت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يقل: استغفر لهم يا رسول الله، بل قال: (واستغفر لهم الرّسول) وهذا التعبير ـ لعلّه ـ إِشارة إِلى أن يستفيد النّبي من مقامه ومكانته ويستغفر للعصاة التائبين.
إِنّ هذا الموضوع (أي تأثير استغفار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للمؤمنين) ورد في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً مثل الآية (19) من سورة محمّد والآية (5) من سورة المنافقون والآية (114) من سورة التوبة التي تشير إلى استغفار إِبراهيم لأبيه (عمّه)، والآيات الاُخرى التي تنهي عن الإِستغفار للمشركين، ومفهومها جواز الإِستغفار للمؤمنين، كما يستفاد من بعض الروايات إِن الملائكة تستغفر لجماعة من المؤمنين المذنبين عند الله (سورة غافر الآية 77، وسورة الشورى الآية 5).
وخلاصة القول، إنّ هناك آيات كثيرة تكشف عن هذه الحقيقة وهي إنّ الأنبياء، أو الملائكة، أو المؤمنين الصادقين الطيبين بامكانهم أن يستغفروا لبعض العصاة، وإن استغفارهم مؤثر عند الله، وهذا هو أحد معاني شفاعة النّبي أو الملائكة أو المؤمنين الطيبين للعصاة والخاطئين، ولكن الشّفاعة كما قلنا تحتاج إلى أرضية وصلاحية وأهلية في العصاة أنفسهم.
والعجيب أنّه يستفاد من بعض ما قاله جماعة من المفسّرين أنّهم أرادوا اعتبار استغفار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في الآية الحاضرة ـ مرتبطاً بالتجاوزات الواقعة في شؤون النّبي خاصّة لا مطلق المعاصي والذنوب، وكأنّهم أرادوا أن يقولوا: لو أنّ أحداً ظلم النّبي أو أساء إليه وجب استحلاله واسترضاؤه ليغفر الله تلك الإِساءة ويتوب على ذلك التجاوز.
ولكن من الواضح البيّن أن إرجاع التحاكم إِلى غير النّبي ليس ظلماً شخصياً يهدف به شخص النّبي، بل هي مخالفة لمنصبه الإِلهي الخاص (أو بعبارة أُخرى) إنّها مخالفة للأمر الإِلهي، وحتى إِذا كان ذلك ظلماً شخصياً موجهاً إِلى شخص
النّبي ـ افتراضاً ـ فإِن القرآن لم يقصده ولم يركز عليه، بل ركز القرآن على هذا الموضوع وهو أن ذلك التحاكم مخالفة لأمر الله وتجاهل لإِرادته.
هذا مضافاً إِلى أنّنا لو ظلمنا أحداً كفانا رضاه، فما الحاجة إِلى طلب استغفاره، ودعائه للمسيء؟ بل وفوق ذلك كلّه، لو أننا فسّرنا الآية بمثل هذا التّفسير ـ فرضاً ـ فما الذي نقوله في تلك المجموعة الكبيرة من الآيات التي تشير إِلى استغفار الأنبياء، والملائكة والمؤمنين للعصاة والخاطئين؟
فهل المقام فيها مقام الحقوق الشخصية أيضاً؟
* * *
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65)
وقع خصام بين الزّبير بن العوام ـ وهو من المهاجرين ـ وبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان، فترافعا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ وحيث أن نخيل الزبير كانت أعلى مكاناً من نخيل الأنصاري، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)للزبير: «اسق ثمّ أرسل إِلى جارك» (وقد كانت هذه هي العادة في البساتين المتجاورة آنذاك) فغضب الأنصاري من حكم النّبي العادل هذا، وقال: يا رسول الله لئن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) انزعاجاً من موقف الأنصاري وكلامه، فنزلت الآية الحاضرة تحذر المسلمين من مثل هذه المواقف.
وقد ذكرت في بعض التفاسير أسباب أُخرى لنزول الآية تشابه ـ إِلى درجة كبيرة ـ ما ذكر في سبب النزول المتقدم (راجع تفسير التّبيان والطّبرسي، والمنار).
الآية، وإِن ذكر لها سبب نزولها خاص ـ ولكننا أسلفنا غير مرّة أن أسباب النزول الخاصّة لا تنافي عمومية مفهوم الآيات، ولهذا يمكن اعتبار هذه الآية تكميلا لما جاء من البحث في الآيات السابقة.
ولقد أقسم الله ـ في هذه الآية ـ بأنّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إِيماناً واقعياً إِلاّ إِذا تحاكموا إِلى النّبي وقضائه، ولم يتحاكموا إِلى غيره (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم).
ثمّ يقول سبحانه: يجب عليهم، أن يتحاكموا إِليك فقط، ومضافاً إِلى ذلك ليرضوا بما تحكمه، سواءاً كان في صالحهم أو في ضررهم ولا يشعروا بأي حرج في نفوسهم فضلا عن أن لا يعترضوا، وبالتالي ليسلموا تسليماً.
(ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً):
والإِنزعاج النفسي الباطني من الأحكام التي ربّما تكون في ضرر الإِنسان، وإن كان في الأغلب أمراً غير إختياري، إلاّ أنّه على أثر التربية الخلقية المستمرة يمكن أن تحصل لدى الإِنسان روح التسليم أمام الحق، والخضوع للعدالة، خاصّة بملاحظة المكانة لواقعية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا ينزعج من أحكام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ولا من أحكام العلماء الذين يخلفونه، وعلى كل فإِن المسلمين الواقعيين مكلفون دائماً بتنمية روح الخضوع للحق، والتسليم أمام العدل في نفوسهم.
إِن الآية الحاضرة تبيّن علائم الإِيمان الواقعي الراسخ في ثلاث مراحل:
1 ـ أن يتحاكموا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وحكمه النابع من الحكم الإِلهي ـ في ما اختلفوا فيه، كبيراً كان أم صغيراً، لا إِلى الطواغيت وحكام الجور والباطل.
2 ـ أن لا يشعروا بأي انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وأقضيته العادلة التي هي ـ في الحقيقة ـ نفس الأوامر الإِلهية، ولا
يسيئوا الظن بهذه الأحكام.
3 ـ أن يطبقوا تلك الأحكام ـ في مرحلة تنفيذها ـ تطبيقاً كاملا ويسلموا أمام الحق تسليماً مطلقاً.
ومن الواضح أنّ القبول بأي دين وأحكامه في ما إِذا كانت في مصلحة الإِنسان وكانت مناسبة لمنافعه وتطلعاته، لا يمكن أن يكون دليلا على إِيمانه بذلك الدين، بل يثبت ذلك إِذا كانت تلك الأحكام في الإِتجاه المتعاكس لمنافعه وتطلعاته ظاهراً، وإِن كانت مطابقة للحق والعدل في الواقع، فإِذا قبل بمثل هذه الأحكام وسلم لها تسليماً كاملا كان ذلك دليلا على إِيمانه ورسوخ إعتقاده.
فقد روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشيء صنعه الله وصنع رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم صنع هكذا وكذا، ولو صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثمّ تلا هذه الآية (الحاضرة) ثمّ قال(عليه السلام): عليكم بالتسليم»(1).
ثمّ أنّه يستفاد من الآية الحاضرة مطلبان مهمّان ـ ضمناً:
1 ـ إِنّ الآية إحدى الأدلة على عصمة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الأمر بالتسليم المطلق أمام جميع أحكامه وأوامره قولا وعملا، بل والتسليم القلبي والخضوع الباطني له أيضاً دليل واضح على أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخطيء في أحكامه وأقضيته وتعليماته، ولا يتعمد قول ما يخالف الحق فهو معصوم عن الخطأ، كما هو معصوم عن الذنب أيضاً.
2 ـ إِنّ الآية الحاضرة تبطل كلّ اجتهاد في مقابل النص الوارد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتنفي شرعية كل رأي شخصي في الموارد التي وصلت إِلينا فيها أحكام صريحة من جانب الله تعالى ونبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 389.
وعلى هذا الإساس فإِن ما نراه في التاريخ الإِسلامي من اجتهاد بعض الأشخاص في مقابل الأحكام الإِلهية والنصوص النبوية، وقولهم: قال النّبي كذا ونقول كذا، فليس أمامنا حياله إِلاّ أن نذعن بأنّهم عملوا على خلاف صريح هذه الآية، وخالفوا نصها.
* * *
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً(66) وَإِذاً لاََّتَيْنَـهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً(67) وَلَهَدَيْنَـهُمْ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً(68)
تكميلا للبحث السابق حول أُولئك الذين يشعرون بضيق وحرج تجاه أحكام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقضيته العادلة بعض الأحيان ـ يشير القرآن هنا إِلى بعض التكاليف والفرائض الثقيلة في الأُمم السالفة فيقول: (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إِلاّ قليل منهم).
أي أنّنا لم نكلّفهم بأية فريضة شاقة لا تتحمل، ولو أنّنا كنّا نكلّفهم بمثل ما كلّفنا به الأُمم السابقة (مثل اليهود الذين أمروا بأن يقتل بعضهم البعض الآخر كفارة لما إرتكبوه من عبادة العجل، أو يخرجوا من وطنهم المحبب إِليهم لذلك) كيف كانوا يتحملونه؟ إِنّهم لم يتحملوا حكماً بسيطاً أصدره النّبي في أمر سقي نخلات، ولم يسلموا لهذا القضاء العادل، فكيف ترى يمكنهم أن يقوموا بالمهمات العظيمة والمسؤوليات الجسيمة ويمروا بالإِختبارات الصعبة بنجاح، فلو أنّنا
أمرناهم بأن يقتلوا أنفسهم (أي يقتل بعضهم بعضاً) أو يخرجوا من وطنهم المحبب عندهم لما فعله إِلاّ قليل منهم.
إِنّ مسألة «الإِستعداد للقتل» تشبه ـ حسب قول بعض المفسّرين ـ مسألة «الخروج عن الوطن» من جهات عديدة، لأنّ البدن وطن الروح الإِنسانية تماماً كما أنّ الوطن مثل الجسم الإِنساني، فكما أنّ التغاضي عن ترك وطن الجسم أمر صعب، كذلك التغاضي عن الوطن الذي هو مسقط رأس الإِنسان ومحل ولادته ونشأته.
ثمّ إنّ الله سبحانه يقول: (ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) أي لو أنّهم قبلوا نصائح النّبي ومواعظه لكان ذلك من مصلحتهم، ولكان سببا لتقوية أُسس الإِيمان عندهم.
والملفت للنظر أنّ القرآن يعبّر ـ في هذه الآية ـ عن الأحكام والأوامر الإِلهية بالموعظة، وهو إِشارة إِلى أنّ الأحكام المذكورة ليست أُموراً تصب في مصلحة المشرّع (أي الله) أو تجرله نفعاً، بل هي ـ في الحقيقة ـ نصائح ومواعظ نافعة لكم، ولهذا يقول ودون تأخير: (ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) أي تقوية لإِيمانهم وترسيخاً لجذورها في نفوسهم.
ولابدّ أيضاً أن ننتبه إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الله سبحانه يقول في ختام هذه الآية (وأشد تثبيتاً) أي كلّما اجتهد الإِنسان في السير في سبيل طاعة الله وتنفيذ أوامره ازدادت استقامته وازداد ثباته، وهذا يعني أن إِطاعة الأوامر الإِلهية نوع من الرياضة الروحية التي تحصل للإِنسان من تكرارها قوة وثبات أكبر واستحكام أكثر، على غرار ما يحصل للجسم نتيجة تكرار الرياضات الجسمية والتمارين الرياضية البدنية، فيصل الإِنسان ـ نتيجة ذلك ـ إِلى مرحلة لا يمكن لأية قدرة أن تغلب قدرته أو تخدعه أو تزعزعه.
ثمّ إنّه سبحانه يبيّن ـ في الآية الثّانية ـ الفائدة الثّالثة من فوائد التسليم لأوامر
الله وطاعته إِذ يقول: (وإِذاً لأتيناهم من لدناً أجراً عظيماً) أي إِذاً لأعطيناهم ـ مضافاً إِلى ما ذكرناه ـ أجراً من عندنا عظيماً، لا يعرف منتهاه ولا يدرك مداه.
ثمّ في آخر آية من هذه الآيات يشير سبحانه إِلى رابع نتيجة إِذ يقول: (ولهديناهم صراطاً مستقيماً).
ومن الواضح البيّن أنّ المراد من هذه «الهداية» ليس هو الإِرشاد إِلى أصل الدين، بل المراد الطاف جديدة يمن بها الله سبحانه على مثل هؤلاء العباد الصالحين بعنوان الثواب والهداية الثانوية، فهو يشبه ما أُشير إِليه في الآية (17) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذ قال: (والذين اهتدوا زادهم هدى).
وقد روي أنّه عندما نزل قوله: (ولو إِنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ...)قال رجل من المسلمين: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا.
فلما بلغ هذا الكلام إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
«إِنّ من أمتي لرجالا الإِيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي»(1).* * *
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 2، ص 428.
وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـلِحِينَ وَحَسُنَ أَوْلَـئِكَ رَفِيقاً(69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً(70)
كان أحد الصّحابة يدعى «ثوبان» شديد الحبّ لرسول الله قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا ثوبان ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما من مرض ولا وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك حتى ألقاك، ثمّ ذكرت الأخرة فأخاف أنّي لا أراك، وإِنّي إِن أدخلت الجنّة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإِن لم أدخل الجنّة فذاك حتى لا أراك أبداً.
فنزلت الآيتان الحاضرتان تبشران أمثال هذا بأنّ المطيعين سيكونون مع النّبيين ومن اختارهم الله وأنعم عليهم في الجنّة.
ثمّ أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنن عبد حتى أكون أحبّ إِليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجميعن» أي يكون مسلماً لتعاليمي وأوامري، تسليماً كاملا.
في هذه الآية يبيّن القرآن ميزة أُخرى من ميزات من يطيع أوامر الله تعالى والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الحقيقة مكملة للميزات التي جاء ذكرها في الآيات السابقة، وهي صحبة الذين أتمّ الله نعمه عليهم ومرافقتهم: (ومن يطع الله والرّسول فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم ...).
وكما أسلفنا في سورة الحمد فإِنّ الذين أنعم الله عليهم هم الذين ساروا في الطريق المستقيم ولم يرتكبوا أي خطأ، ولم يكن فيهم أي انحراف.
ثمّ يشير ـ لدى توضيح هذه الجملة، وتحديد من أنعم الله عليهم ـ إِلى أربع طوائف يشكلون في الحقيقة الأركان الأربعة لهذا الموضوع وهم:
1 ـ الأنبياء: أي رسل الله تعالى الذين كانوا طليعة السائرين في سبيل هداية الناس ودعوتهم إِلى الصراط المستقيم (من النّبيين).
2 ـ الصّادقون: وهم الذين يصدقون في القول ويصدقون إِيمانهم بالعمل الصالح، ويثبتون أنّهم ليسوا مجرّد أدعياء الإِيمان، بل مؤمنون بصدق بأوامر الله وتعاليمه (والصّديقون).
ومن هذا التعبير يتّضح أنّه ليس بعد مقام النبوة أعلى من مقام الصدق، والصدق هذا لا ينحصر في الصدق في القول فقط، بل هو الصدق في الفعل والعمل ... الصدق في الممارسات والمواقف، وهو لذلك يشمل الأمانة والإِخلاص أيضاً، لأن الأمانة هي الصدق في العمل كما أن الصدق أمانة في القول، وفي المقام ليس هناك صفة بعد الكفر أقبح من الكذب والنفاق والخيانة في القول والعمل (ويجب الإِنتباه ـ هنا ـ إِلى أن الصدّيق صيغة مبالغة وهي بمعنى الصادق كله، ظاهراً وباطناً).
وقد فسّر «الصدّيق» في بعض الروايات والأخبار بعلي(عليه السلام) والأئمّة من أهل
البيت النّبوي(عليهم السلام)، وهذا التّفسير كما قلنا في ما سبق من باب بيان المصداق الأكمل والأوضح لهذه الآيات، فلا تفيد الحصر والقصر.
3 ـ الشّهداء: الذين قتلوا في سبيل الله وفي سبيل العقيدة الإِلهية الطاهرة، أو الذين يشهدون على الناس وأعمالهم في الأخرة (والشّهداء)(1).
4 ـ الصّالحون: وهم الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والمفيدة وبإِتّباع الأنبياء وأوامرهم إِلى مراتب عالية ومقامات رفيعة (والصّالحين).
ولهذا فسّر «الصّالحون» في رواياتنا وأحاديثنا، بالصفوة المختارة من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) وهذا هو أيضاً من باب بيان أظهر المصاديق وأوضحها كما أسلفنا في تفسير الصديقين.
والنقطة الجديرة بالتذكير هنا هي أن ذكر هذه المراحل الأربع يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّه لابدّ لبناء المجتمع الإِنساني الصالح والسليم من: أن يبدأ الأنبياء ـ وهم القادة والهداة بحق الهداية، ثمّ يتبعهم المبلغون الصادقون بالقول والعمل، وهم الصاديقون الذين يصدق عملهم قولهم وفعلهم دعواهم فينشروا الحقائق في كل مكان، ثمّ بعد مرحلة البناء الفكري والإِعتقادي هذه، يقوم جماعة في وجه العناصر الفاسدة ومن يريدون الوقوف في طريق الحقّ، فيضحون بأنفسهم ويقدمون أجسادهم وحياتهم قرابين للحقّ والعدل، فيكون حاصل هذه الجهود والمساعي ظهور الصّالحين واستقرار المجتمع الطاهر السليم.
ومن الواضح البيّن أنّ على الصالحين أيضاً أن يقوموا بهذه الواجبات الثلاث أي عليهم أن يقودوا، ويبلغوا، ويضحوا لكي يبقوا على جذوة الحق متقدة، وعلى مشعل العدل مضيئاً للأجيال اللاحقة.
1 ـ الشهيد في أصل اللغة هو من يشهد، غاية ما هناك أن الإِنسان قد يشهد على حق بكلامه، وقد يشهد بعمله وقتله في سبيل أهدافه الطاهرة.
كما أنّه يستفاد من الآيات الحاضرة ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة مرافقة الصالحين وصحبة الرفقاء الطيبين لها من الأهمية بحيث تعتبر في الآخرة الجزء المكمل للنعم الإِلهية الكبرى التي يمنّ الله بها على المطيعين في الجنّة، فهم علاوة على كل ما يحصلون عليه من نعم وميزات سيحظون بمرافقة رفقاء كالأنبياء والصّديقين والشّهداء والصّالحين.
ولعلنا في غنى عن التذكير بأن معاشرة المطيعين لهذه الطوائف الأربع ليس معناه أنّهم في منزلتهم ورتبتهم، وإِنّهم في درجتهم من جميع الجهات، بل يعني أن لكل واحد منهم ـ مع معاشرة بعضهم لبعض ـ سهماً خاصاً (يتناسب ومقامه) من المواهب والألطاف الإِلهية، فهم كأشجار بستان واحد ووروده وأعشابه، فهي مع كونها مجتمعة متجاوزة ومع أنّها تستفيد برمتها من ضوء الشمس والمطر، ولكنها ليست متساوية في حجم الإِستفادة من تلك العناصر، كما أنّها ليست متساوية في القيمة.
ثمّ يبيّن سبحانه في الآية اللاحقة أهمية هذا الإِمتياز الكبير (أي مرافقة تلك الصفوة المختارة) إِنّ هذه الهبة من جانب الله، وهو عليم بأحوال عباده ونواياهم ومؤهلاتهم: (ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليماً)، فلا يخطىء في الإِثابة والجزاء حيث أن «ذلك» إِشارة إِلى البعيد لهذا يوحي في هذه الموارد إِلى أهمية المقام وعلوه.
* * *
يَـأَيِّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَات أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً(71)
أمّا كلمة «ثُبات» فتفيد معنى المجموعات المتفرقة، ومفردها «ثبة» من مادة «ثبي» أي جمع.
والقرآن يخاطب عامّة المسلمين في الآية المذكورة أعلاه، ويقدم لهم اثنتين من التعاليم اللازمة لصيانة وجود المسلمين والمجتمع الإِسلامي تجاه كل خطر يهدد هذا الوجود.
ففي البداية تأمر الآية المؤمنين بالتمسك باليقظة والبقاء في حالة التأهب من أجل مواجهة العدو، وتحذرهم من الغفلة عن هذا الامر: (يا أيّها الذين آمنوا خذوا حذركم ...).
ثمّ تأمر الآية بالإِستفادة من الأساليب والتكتيكات المختلفة في مواجهة
العدو، من ذلك الزحف على شكل مجموعات إن تطلب الأمر مثل هذا الأسلوب، أو على شكل جيش موحّد مترابط إِن استدعت المواجهة هجوماً شاملا منسجماً، وفي كلتا الحالتين لابدّ من المواجهة الجماعية (فانفروا ثُبات أو انفروا جميعاً).
ذهب بعض المفسّرين إِلى أن معنى «الحذر» في الآية هو «السلاح» لا غير، بينما للحذر معنى واسع لا يقتصر على السلاح، ثمّ أن الآية (102) من هذه السورة تدل بوضوح على أنّ الحذر غير السلاح حيث يقول تعالى: (... أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ...) وجواز وضع السلاح (في الصلاة) مع أخذ الحذر يدل على أنّ الحذر لا يعنى السلاح بالذات.
الآية الكريمة هذه تشتمل على أمر عام مطلق لجميع المسلمين في كلّ العصور والأزمنة، ويدعو هذا الأمر المسلمين إِلى الإِلتزام باليقظة والإِستعداد الدائم لمواجهة أي طارىء من جانب الأعداء ولحماية أمن الأُمّة، وذلك عن طريق التحلّي بالإِستعداد المادي والمعنوي الدائمين.
وكلمة «الحذر» أيضاً تستوعب بمعانيها الواسعة ـ كل أنواع الوسائل المادية والمعنوية الدفاعية التي يتحتم على المسلمين اتباعها، من ذلك التعرف على قدرة العدو من حيث العدّة والعدد، وأساليبه الحربية، والإِستراتيجية، ومدى فاعلية أسلحته، وكيفية مواجهتها والإِحتماء من خطرها وخطر العدوّ نفسه، وبذلك يكون المسلمون قد أوفوا من حيث العمل بما يتطلبه منهم أمر «الحذر» من الإِستعداد والتأهب واليقظة لمواجهة أي خطر طارىء.
ويشتمل أمر «الحذر» أيضاً على الإِستعداد النفسي والثقافي والإِقتصادي، لتعبئة كافة الإِمكانيات البشرية، والإِستفادة من أقوى أنواع الأسلحة وأكثرها تطوراً في الوقت المطلوب، وكذلك الإِلمام بصور إستخدام هذا السلاح وأساليبه، فإِذا كان المسلمون يلتزمون بهذا الأمر ويطبقونه على حياتهم لاستطاعوا أن
![]() |
![]() |
![]() |