وليس الرّسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من الله، بل إِنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضاً، لأنّ علائم هذا الكتاب


1 ـ «الحَكم» القاضي والحاكم، وبعضهم يراه مساوياً للحاكم من حيث المعنى، ولكن يرى بعضهم، ومنهم الشيخ الطوسي(رحمه الله)، أنّ الحكم من لا يحكم بغير الحق، أمّا الحاكم فقد يحكم بكليهما، ويرى آخرون، ومنهم صاحب المنار أنّ الحكم من يختاره الطرفان للحكم، وليس الحاكم كذلك.

[437]

السماوي قرؤوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من الله بالحق: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك بالحق).

وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه، وكذلك أنت أيّها النّبي لا تشك فيه أبداً، (فلا تكونن من الممترين).

هنا يبرز هذا السؤال: هل كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يداخله أدنى شك ليخاطب بمثل هذا القول؟

والجواب: هو ما سبق أن قلناه في مثل هذه الحالات، وهو أن المخاطب في الحقيقة هم الناس، وما مخاطبة النّبي مباشرة إِلاّ لتوكيد الموضوع وترسيخه، وليكون التحذير للناس أقوى وأبلغ.

الآية التّالية تقول: (وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

«الكلمة» بمعنى القول، وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولا كان أم موجزاً، وقد تطلق على الوعد، كما في الآية: (وتمّت كلمة ربّك على بني إِسرائيل بما صبروا)(1)، لأنّ الشخص عندما يعد يتلفظ ببعض الكلمات المتضمنة لمفهوم الوعد.

وقد تأتي بمعنى الدين والحكم والأمر للسبب نفسه.

أمّا بالنسبة لإستعمالها في هذه الآية فقيل إِنّها تعني القرآن، وقيل إِنّها دين الله، وقيل: وعد النصر الذي وعد الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم). وليس بين هذه تعارض، فقد تكون الآية أرادت هذه المعاني جميعاً، ولأنّ الآيات السابقة كانت تشير إِلى القرآن، فتفسير الكلمة بالقرآن أقرب.

فيكون معنى الآية إِذن: إِنّ القرآن ليس موضع شك بأيّ شكل من الأشكال، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق،


1 ـ الأعراف، 136.

[438]

وكل أحكامه وقوانينه عدل.

وربّما يكون معنى «كلمة» هنا هو الوعد الذي جاء في العبارة التّالية (لا مبدل لكلماته) إذ يتكرر هذا التعبير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (وتمّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجنّة والناس أجمعين)(1) وقوله سبحانه (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنّهم لهم المنصورون)(2)، في أمثال هذه الآيات تكون الآية التّالية بياناً للوعد الذي ورد من قبل تحت لفظة «كلمة».

وعلى ذلك يكون معنى الآية: لقد تحقق وعدنا بالصدق وبالعدل، وهو أنّه ليس لأحد القدرة على تبديل أحكام الله.

وقد تتضمن الآية كل هذه المعاني.

وإِذا كانت الآية تعني القرآن، فذلك لا يتعارض مع كون القرآن لم يكن قد إِكتمل نزوله حينذاك، إِذ المقصود هو أن ما نزل منه كان متكاملا ولا عيب فيه.

ويستند بعض المفسّرين إِلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن، لأنّ تعبير (لا مبدل لكلماته) تعني أنّ أحداً لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلا أو تغييراً، لا في لفظه، ولا في إِخباره، ولا في أحكامه، وأنّ هذا الكتاب السماوي الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هادياً للناس سيبقى محفوظاً ومصوناً من أغراض الخائنين والمحرفين.

* * *


1 ـ هود، 119.

2 ـ الصافات، 171 و172.

[439]

الآيتان

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117)

التّفسير

نعلم أنّ آيات هذه السورة نزلت في مكّة، يوم كان المسلمون قلّة في العدد، ولعل قلّتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهم بعضهم أنّه إِذا كان دين أُولئك باطلا فلم كثر أتباعه؟! وإِذا كان دين الإِسلام حقّاً، فما سبب قلّة معتنقيه؟

ولدفع هذا التوهم يخاطب الله نبيّه بعد ذكر أحقّية القرآن في الآيات السابقة قائلا: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله).

وفي الجملة التّالية يبيّن سبب ذلك، وهو أنّهم لا يتبعون المنطق والتفكير السليم، بل هم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها الخداع والتخمين: (إِن يتبعون إِلاّ الظن وإِن هم إِلاّ يخرصون)(1).


1 ـ «الخرص» هو كل قول أُطلق عن ظن وتخمين، وأصله من تخمين كمية الثمر على الأشجار عند استئجار البستان، وأمثال ذلك، ثمّ أُطلق على كل ظن وتخمين قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه، والكلمة تسعمل في الكذب أيضاً، وقد تكون في الآية بكلا المعنيين.

[440]

فيكون مفهوم الآية الشريفة أنّ الأكثرية لا يمكن أنّ تكون وحدها الدليل على طريق الحق، ومن هذا نستنتج أنّه يجب التوجه إِلى الله وحده لمعرفة طريق الحق، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلّة في العدد.

والدليل على ذلك يرد في الآية التّالية التي تؤكّد على أنّ الله عليم بكل شيء ولا مكان للخطأ في علمه، فهو أعرف بطريق الهداية، كما هو أعرف بالضالين وبالسائرين على طريق الهداية: (إِنّ ربّك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(1).

هنا يبرز سؤال: يفهم من الآية أنّ الله سبحانه أعلم بطريق الهداية، فهل هناك من يعلم طريق الهداية بدون هدى الله حتى كون الله هو الأعلم؟!

والجواب: إنّ الإِنسان قادر ـ بلا شك ـ أن يتوصل بعقله إِلى بعض الحقائق، ويدرك طريق الهداية والضلالة إِلى حد ما، غير أنّ مديّات ضوء العقل لها حدود، وقد يظل بعض الحقائق خارج نطاق تلك الحدود، ثمّ إِنّ معلومات الإِنسان قد يعتورها الخطأ، فيكون لذلك بحاجة إِلى مرشدين وهداة إِلهيين، لذلك فتعبير «الله أعلم» صحيح، وإِن يكن قياساً مع الفارق.

لا أهمية للكثرة العددية:

على العكس ممّا يظنّه بعضهم بأنّ الكثرة العددية توافق الصواب دائماً فإِنّ القرآن ينفي هذا في كثير من آياته، ولا يقيم للكثرة «العددية» أي وزن، بل يرى ـ في الحقيقة ـ إِنّ الكثرة «الكيفية» هي المقياس، لا الكثرة «الكمية» على الرغم من أنّ المجتمعات المعاصرة لم تجد لإِدارة الحياة الإِجتماعية طريقاً سوى


1 ـ صيغة التفضيل تتعدى عادة بالباء، فكان المفروض أن يقال «أعلم بمن يضل» ولكن الباء حذفت هنا و«من يضل» منصوبة بنزع الخافض.

[441]

الإِستناد إِلى الأكثرية، فلا ننس أنّ هذا ـ كما قلنا ـ نوع من الأِضطرار والوصول إِلى طريق مسدود، إِذ لا يمكن العثور في مجتمع مادي على وسيلة صحيحة وسليمة لإِتخاذ القرارات ولسن القوانين.

لذلك نجد الكثير من العلماء مضطرين إِلى القبول بفكرة الأكثرية، على الرغم من اعترافهم بأنّ هذه القاعدة كثيراً ما يصاحبها الخطأ، وذلك لأنّ عيوب الوسائل الأُخرى أكثر.

بيد أنّ مجتمعاً مؤمناً برسالة الأنبياء لا يجد نفسه مضطراً لإِتباع نظر الأكثرية في سن القوانين، لأنّ مناهج الأنبياء الصادقة وقوانينهم الإِلهية خالية من كل عيب ونقص، ولا يمكن مقارنتها بما تستصوبه الأكثرية المعرضة للخطأ.

لو ألقينا نظرة على وضع العالم اليوم وعلى الحكومات القائمة على أساس رأي الأكثرية، وعلى القوانين السقيمة التي تمليها الأهواء ثمّ تقرها الأكثرية، لرأينا أنّ الأكثرية العددية لم تداو جرحاً، بل إِنّ معظم الحروب وأكثر المفاسد أقرّتها الأكثرية.

الإِستعمار، والإِستغلال، والحروب، وإِراقة الدماء، وحرية تعاطي المسكرات، والقمار، والإِجهاض، والبغاء، وغير ذلك ممّا يندي له الجبين خجلا، قد أقرّتها الأكثرية في المجالس النيابية في كثير من البلدان التي تصف نفسها بأنّها متقدمة باعتبارها تعكس رغبة أكثرية عامّة الناس، وهذا دليل على حقيقة ما نقول.

ومن الناحية العلمية نتساءل هل أنّ أكثرية المجتمعات صادقة؟ هل الأكثرية أمينة؟ أتراها تمنع نفسها من الإِعتداء على حقوق الآخرين، إِذا استطاعت؟ هل تنظر الأكثرية إِلى منافعها ومنافع الآخرين بنظرة واحدة؟

الإِجابات ناطقة بلسان الحال لا المقال، لذلك لابدّ من الإِعتراف بأنّ إِستناد العالم المعاصر إِلى الأكثرية نوع من الإِكراه تفرضه الأوضاع القائمة، وانّه شر

[442]

مفروض على المجتمعات.

نعم، لو أنّ العقول المفكرة، مصلحي المجتمعات البشرية المخلصين، والعلماء الهادين ـ وهم أقلية دائماً ـ شنوا حملة شاملة لتنوير أفكار عامّة الناس بحيث تنال المجتمعات قسطاً من الوعي والرشد الفكري والإِجتماعي، لا قتربت وجهات نظر أكثرية كهذه إِلى الحقيقة إِقتراباً كبيراً، غير أنّ أكثرية غير راشدة وغير واعية، بل فاسدة ومنحرفة وضالة، لا تستطيع أن تقيل عثرة نفسها أو غيرها! لذلك فالأكثرية وحدها لا تكفي، وإِنّها الأكثرية المهتدية هي القادرة على حل مشاكل المجتمع إِلى الحد الذي يستطيعه بشر.

وإِذا كان القرآن في كثير من المواضع يذم الأكثرية، فالمقصود هو الأكثرية غير الرشيدة دون شك.

* * *

[443]

الآيات

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِأَيَـتِهِ مُؤْمِنينَ(118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآئِهِم بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119) وَذَرُواْ ظَـهِرَ الاِْثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاِْثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)

التّفسير

لابدّ من إَزالة آثار الشرك:

هذه الآيات في الحقيقة واحدة من نتائج البحوث التي سبقت في التوحيد والشرك، لذلك تبدأ الآية الأُولى بفاء التفريع التي يؤتى بعدها بالنتيجة.

الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإِثبات بطلان الشرك وعبادة الأصنام.

ومن نتائج ذلك أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي تذبح باسم الأصنام، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم الله عليه، حيث كان

[444]

من عادة العرب أن يذبحوا القرابين لأصنامهم، ويأكلوا من لحومها للتبرك بها، وكان هذا جزءاً من عبادتهم الأصنام، لذلك يبدأ القرآن بالقول: (فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه إِن كنتم بآياته مؤمنين).

أي أنّ الإِيمان ليس مجرّد قول وادعاء وعقيدة ونظرية، بل لابدّ أن يظهر على صعيد العمل أيضاً، فالذي يؤمن بالله يأكل من هذه اللحوم فقط.

بديهي أنّ الفعل «كلوا» لا يعني الوجوب، بل يعني إِباحة أكلها وحرمة أكل ما عداها.

ومن هذا يتبيّن أنّ حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها، ليست من وجهة النظر الصحية حتى يقال: ما الفائدة الصّحية من ذكر اسم الله على الذبيحة بل لها خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية الله الواحد الأحد.

الآية التّالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال، فتقول: لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها، في الوقت الذي بيّن الله لكم ما حرم عليكم؟ (وما لكم ألا تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم).

مرّة أُخرى نشير إِلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال، بل الهدف هو أنّ هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها، لا من غيرها، وبعبارة أُخرى: التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة، من هنا استدل على ذلك بالقول: (قد فصل لكم ما حرم عليكم).

أمّا موضع هذا التفصيل فقد يتصوّر البعض أنّه في سورة المائدة، أو في آيات من هذه السورة (الأنعام، 145).

ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، وسورة المائدة نزلت بالمدينة، والآيات التّالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإنّ أيّاً من هذين

[445]

الإِحتمالين غير صحيح، فالموضوع إِمّا أن يكون الآية (115) من سورة النحل التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها، وخاصّة التي لم يذكر عليها اسم الله، أو أن يكون المراد التعاليم التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بينها بشأن اللحوم، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن يتحدث إِلاّ بوحي.

ثمّ يستثني من ذلك حالة واحدة: (إِلاّ ما اضطررتم إِليه) سواء كان هذا الإِضطرار ناشئاً من وجود الإِنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.

ثمّ تشير الآية إِلى أنّ كثيراً من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إِتباع الهوى: (وإِنّ كثيراً ليضلّون بأهوائهم بغير علم).

وعلى الرغم من أنّ إِتباع الهوى مصحوب دائماً بالجهل، ولكنّه يكرر ذلك للتوكيد فيقول: (... بأهوائهم بغير علم).

يستفاد من هذا التعبير أيضاً انّ العلم الصحيح لا يقترن بإِتّباع الهوى والإِنسياق مع الخيال، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.

يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إِشارة إِلى ما كان سائداً بين المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول: أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا، ولحوم الحيوانات التي يقتلها الله حراماً؟

بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة، لأنّ الحيوان الميت ليس حيواناً ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة، إِذ إِنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ولحمه فاسد، ولهذا حرم الله أكله، وأخيراً يقول: (إِنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين)الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق، بل يسعون إِلى إِضلال الآخرين.

الآية الثّالثة تذكر قانوناً عاماً، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإِثم في

[446]

الخفاء، وتقول: (وذروا ظاهر الإِثم وباطنه).

يقال إِنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إِذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به، أما إِذ ارتكب علناً فهو الإِثم! واليوم ـ أيضاً ـ نجد أُناساً يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون إِرتكاب الإثم علانية، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاؤون من الآثام دون رادع من ضمير.

إِنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب، بل تحمل مفاهيم واسعة، فهي بالإِضافة إِلى ما قلناه آنفاً تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإِثم الظاهر والباطن، من ذلك مثلا ـ قولهم: اِنّ الإِثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء الجسم، والإِثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النيّة والعزم.

ثمّ من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك، تقول الآية: (إِن الذين يكسبون الإِثم سيجزون بما كانوا يقترفون).

عبارة (يكسبون الإِثم) تعبير رائع يشير إِلى أن الإِنسان في هذه الدنيا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقاً كبيرة، أنّ رؤوس أموالهم الذكاء والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله، فالمسكين ذاك الذي «يكتسب» الإِثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإِنسانية والتقوى والقرب إِلى الله.

و«سيجزون» أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب ... قد يشير إِلى يوم القيامة، وأنّه وإن بدا في نظر بعضهم بعيداً، فهو في الحقيقة قريب جداً، وإن هذا العالم سرعان ما تنطوي أيّامه ويحين المعاد.

وقد يكون إشارة إِلى أنّ أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية وإِجتماعية.

* * *

[447]

الآية

وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَـطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإِيجابي من مسألة اللحوم، أي أكل اللحوم الحلال، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة:

(ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه) ثمّ في جملة واحدة يدين هذا العمل: (وإنّه لفسق) وإِثم وخروج عن طريق العبودية وإِطاعة الله.

ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان، تخاطبهم الآية: إِنّ الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم في جدل ونقاش: (وإِنّ الشياطين ليوحون إِلى أوليائهم ليجادلوكم) ولكن كونوا على حذر، ولا تطيعوهم: (وإِن أطعتموهم إِنّكم لمشركون).

لعل هذا الجدل والوسوسة إِشارة إِلى ما كان سائداً بين المشركين بشأن أكل الميتة (وذهب البعض إِلى أنّ العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم: إِنّنا نأكل الميتة لأنّ الله أماتها، وهي لذلك أفضل ممّا نقتله بأيدينا، معتقدين أن عدم

[448]

أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل الله! غافلين أنّ الحيوان الميت موتاً طبيعاً، إِضافة إِلى مرضه غالباً، يضم بين لحمه دماً قذراً فاسداً يفسد معه اللحم، بسبب عدم إِنقطاع أوداجه، ولذلك أمر الله أن تؤكل ـ فقط ـ لحوم الحيوانات المذبوحة بطريقة خاصّة، والمراق دمها خارج بدنها.

ويستفاد من هذه الآية ـ ضمنياً ـ حرمة الذبيحة غير الإِسلامية، لأنّها إِضافة إِلى الجهات الأُخرى ـ لم يتقيد ذابحها بذكر اسم الله عليها.

* * *

[449]

الآيتان

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَـهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَـتِ لَيْسَ بِخَارِج مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَـفِريِنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ(122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة أَكَـبِرَ مُجْرِمِيهَا لَِيمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)

سبب النّزول

قيل في نزول الآية الأُولى إِنّ أبا جهل الذي كان من ألد أعداء الإِسلام والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) آذى يوماً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِيذاءً شديداً، وكان «حمزة» عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ذاك الرجل الشجاع ـ لم يسلم بعد، بل كان ما يزال يقلب الأمر في ذهنه، وقد خرج في ذلك اليوم كعادته للصيد في الصحراء، وعند عودته سمع بما جرى بين أبي جهل وابن أخيه، فغضب غضباً شديداً وذهب إِلى أبي جهل وصفعه صفعة أسالت الدم من أنفه، وعلى الرغم من مكانة أبي جهل ونفوذه في عشيرته، فإِنّ لم يرد عليه لما يعرفه عن شجاعة حمزة.

وعاد حمزة إِلى الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلن إِسلامه، ومنذ ذلك اليوم أصبح

[450]

جندياً من جنود الإِسلام، ودافع عنه حتى إِستشهد بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

هذه الآية نزلت بشأن هذه الحادثة وبيّنت إِسلام حمزة، وإِصرار أبي جهل على الكفر والفساد.

وتفيد بعض الرّوايات الأُخرى أنّ الآية نزلت بشأن إِسلام عمار بن ياسر وإِصرار أبي جهل على الكفر.

ومهما يكن، فإِنّ هذه الآية ـ مثل الآيات الأُخرى ـ لا تختص بواقعة نزولها، بل هي ذات مفهوم واسع يصدق على كل مؤمن صادق وكل معاند لجوج.

التّفسير

الإِيمان والرّؤية الواضحة:

ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة من حيث كون الآيات السابقة أشارت إِلى طائفتين من الناس: المؤمنين المخلصين، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون بضلالهم، بل يسعون حثيثاً إِلى تضليل الآخرين، هنا أيضاً يتجسد وضع هاتين الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.

يشير المثال إِلى طائفة من الناس كانوا من الضّالين، ثمّ غيروا مسيرتهم باعتناق الإِسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه الله بإِرادته: (أو من كان ميتاً فأحييناه).

كثيراً ما يسعمل القرآن «الموت» و«الحياة» بالمدلول المعنوي لهما لتمثيل الكفر والإِيمان، وهذا يدل على أنّ الإِيمان ليس مجرّد معتقدات جافة وأوراد وطقوس، بل هو بمثابة الروح التي تحل في النفوس الميتة غير المؤمنة، فتؤثر عليها في جميع شؤونها، وتمنح العيون الرؤية، والآذان قدرة السمع، واللسان قوة البيان، والأطراف العزم على اداء النشاطات البناءة ... الإِيمان يغير الأفراد، ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات.

[451]

وتفيد جملة (فأحييناه) أنّ الإِيمان ـ وإِن استلزم سعي الإِنسان لنيله ـ لا يتم إِلاّ بهداية من الله! ثمّ تقول الآية عن أمثال هؤلاء: (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس).

على الرغم من وجود الإِختلاف في تفسير هذا «النّور» فالظاهر أنّ المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب، بل أكثر من ذلك، حيث يمنح الإِيمان بالله الإِنسان رؤية وإِدراكاً جديدين ... يمنحه رؤية واضحة ويوسع من آفاق نظرته لتتجاوز إِطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيق إِلى عالم أرحب وأوسع.

ولما كان الإِيمان يدعو الإِنسان إِلى أن يبني نفسه، فانه يزيح عن عينيه أغشية الأنانية والتعصب والمعاندة والأهواء، ويريه حقائق ما كان قادراً على إِدراكها من قبل.

إِنّه في ضوء هذا النّور يستطيع أن يميز مسيرة حياته بين الناس، وأنّ يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع والأفكار المادية المحدودة، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.

إِنّ ما نقرأه في الأحاديث الإِسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور الله» إِشارة إِلى هذه الحقيقة، إِنّ مجرّد الوصف غير قادر على تبيان خصائص هذه الرؤية الإِيمانية التي يمنحها الله للإِنسان، بل ينبغي أن يذوق الإِنسان طعمها لكي يدرك بنفسه مغزى هذا القول ويحس به.

ثمّ تقارن الآية بين هذا الإِنسان الحي، الفعال، النير، والمؤثر، بالإِنسان العديم الإِيمان والمعاند، فتقول: (كمن مَثَله في الظّلمات ليس بخارج منها).

نلاحظ أنّ الآية لا تقول: «كمن في الظّلمات» بل تقول: (كمن مَثَله في الظّلمات) يقول بعضهم: إِنّ الهدف من هذا التعبير هو إِثبات أنّ هولاء الأفراد غارقون في الظّلمات والتعاسة إِلى الحد الذي جعلهم مثلا يعرفه المدركون.

[452]

وقد يكون ذلك إِشارة إِلى معنى أدق هو: أنّه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح، أو قالب، أو مثال أو تمثال، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

لابدّ من القول ـ أيضاً ـ إِن «النّور» الذي يهدي المؤمنين جاء بصيغة المفرد، بينما «الظّلمات» التي يعيش فيها الكافرون جاءت بصيغة الجمع، وذلك لأنّ الإِيمان ليس سوى حقيقة واحدة، وهو يرمز إِلى الوحدة والتوحيد، بينما الكفر وعدم الإِيمان مدعاة للتشتت والتفرقة.

وفي الختام تشير الآية إِلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون).

سبق أن قلنا: إِنّ من خصائص تكرار العمل القبيح أنّ قبحه يتضاءل في عين الفاعل حتى يبدو له أخيراً وكأنّه عمل جميل، ويتحول إِلى مثل القيد يشد أطرافه، ويمنعه من الخروج من هذا الفخ، إِنّ مطالعة بسيطة لحال المجرمين تكشف لنا هذه الحقيقة بجلاء.

ولمّا كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو «أبو جهل» الذي كان من كبار مشركي قريش ومكّة، فالآية الثّانية تشير إِلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد، فتقول: (وكذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها).

كررنا القول من قبل: أنّ سبب نسبة أمثال هذه الأفعال إِلى الله، لكونه تعالى هو علّة العلل ومسبب الأسباب ومصدر كل القدرات، والانسان يستخدم ما وهبه الله من إِمكانات طالحاً كان هذا الفعل أم صالحاً.

جملة «ليمكروا» تشير إِلى عاقبة أعمالهم، ولا تعني الهدف من خلقهم(1) أي أنّه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدت بهم إِلى أن يصبحوا سداً على طريق الحق،


1 ـ «اللام» هنا هي لام «العاقبة» وليست اللام الغائية، وقد وردت في القرآن كثيراً.

[453]

وعاملا على جر الناس نحو الإِنحراف والإِبتعاد عن طريق الحق، فالمكر في الأصل هو اللف والدوران، ثمّ أطلق على كل عمل منحرف مقرون بالإِخفاء.

وفي الختام تقول الآية: (وما يمكرون إِلاّ بأنفسهم ومايشعرون).

وأي مكر وخديعة أعظم من أن يقوم هؤلاء باستخدام كل رؤوس أموال وجودهم، بما في ذلك فكرهم وذكاؤهم وإِبتكاراتهم وأعمارهم ووقتهم وأموالهم، في صفقة لا تعود عليهم بأي ربح، بل تثقل ظهورهم بأحمال الذنوب والآثام الثقيلة، ظانين أنّهم قد أحرزوا الربح والإِنتصار!

كما يستفاد من هذه الآية أنّ النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إِنّما تنشأ من كباره وقادته، إِذ إِنّهم هم الذين يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم الطريق إِلى الله، ويخفون وجه الحق عن الناس.

* * *

[454]

الآية

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)

سبب النّزول

يقول العلاّمة الطّبرسي في «مجمع البيان»: نزلت هذه الآية بشأن «الوليد بن المغيرة» (الذي كان من زعماء عبدة الأصنام دماغهم المفكر) كان هذا يقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا كانت النّبوة حقّاً، فأنا أولى منك بها لكبر سني ولكثرة مالي.

وقيل: إِنّها نزلت بشأن «أبي جهل» لأنّه كان يقول: مقام النّبوة يجب أن يكون موضع تنافس، فنحن وبنو عبد مناف (قبيلة رسول الله) كنّا نتنافس على كل شيء، ونجري كفرسي رهان كتفاً لكتف، حتى قالوا: إِنّ نبياً قام فيهم، وأنّه ينزل عليه الوحي فنحن لا نؤمن به إِلاّ إِذا نزل علينا الوحي كما ينزل عليه.

التّفسير

الله أعلم حيث يجعل رسالته:

تشير هذه الآية بإِيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر (أكابر مجرميها)وإِلى

[455]

مزاعمهم المضحكة الباطلة، فتقول: (وإِذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسل الله) كأنّ الوصول إِلى مقام النبوة وهداية الناس يعتمد على سن الشخص وماله، أو هو ميدان للمنافسة الصبيانية بين القبائل! وكأنّ على الله أن يراعي هذه الأُمور المضحكة الباطلة التي لا تدل إِلاّ على منتهى الإِنحطاط الفكري وعدم إِدراك معنى النبوة وقيادة الخليقة!

إِنّ القرآن يرد على هؤلاء بوضوح قائلا: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

بديهي أنّ الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل، لأنّ شرطها الأوّل هو الإِستعداد الروحي، وطهارة الضمير، والسجايا الإِنسانية الأصيلة، والفكر السامي، والرأي السديد ثمّ التقوى إِلى درجة العصمة ... إِنّ هذه الصفات، وخصوصاً الإِستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير الله، فما أبعد الفرق بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد أُولئك.

كما إِنّ من يخلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لابدّ أن تكون له جميع تلك الصفات عدا الوحي والتشريع، أي أنّه حامي الشرع والشريعة، والحارس على قوانين الإِسلام، والقائد المادي والمعنوي للناس، لذلك لابدّ له أن يكون معصوماً عن الخطأ والإِثم، لكي يكون قادراً على أن يوصل الرسالة إِلى أهدافها، وأن يكون قائداً مطاعاً وقدوة يعتمد عليها.

وبناءاً على ذلك، يكون إِختياره من الله أيضاً، فهو وحده الذي يعلم أين يضع هذا المقام، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للإِنتخابات والشورى.

وفي النهاية تشير الآية إِلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين والزّعماء الذين يدعون الباطل، فتقول: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)(1).


1 ـ «الإِجرام» من «جرم» وأصله القطع، والمجرم هو الذي يقطع العهود وإرتباطة بالله بعدم إِطاعته، ولذلك أطلقت كلمة «الجرم» على الإِثم والذنب، في هذا إشارة لطيفة إِلى أنّ هناك في ذات الإِنسان إتفاق مع الحق والطهارة والعدالة، والإِجرام هو قطع هذه الإِتفاق الفطري الإِلهي.

[456]

كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكبهم، ولكنّ الله سينزلهم إِلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إِنّهم سيتعذبون بذلك عذاباً روحياً شديداً، مضافاً إِلى أنّهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأنّ سعيهم على طريق الباطل كان شديداً أيضاً.

* * *

[457]

الآيات

فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاِْسْلَـمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ(125) وَهَـذَا صِرَطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَذَّكَّرُونَ(126) لَهُمْ دَارُا لسَّلَـمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(127)

التّفسير

الإِمدادات الإِلهية:

تعقيباً على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإِلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإِسلام، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك ـ لسوء أعماله ـ يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إِلى السماء. (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصّعد في السماء).

[458]

ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية: (كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون). فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.

ملاحظات

هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التّالية:

1 ـ ما المقصود من «الهداية» و«الضلالة»؟

سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي «الهداية» و«الضلالة» الإِلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إِلى الهداية بالنسبة للذين لهم الإِستعداد لذلك، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك ،بالنظر إِلى أعمالهم.

إِنّ السالكين طريق الحق والباحثين عن الإِيمان المتعطشين إِليه، يضع الله في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق، وليصلوا إِلى منبع أكسير الحياة، أمّا الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه الإِمدادات الإِلهية، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل، ولا يوفّقون لهداية.