* * *

[270]

الآية

وَمَا مِن دَآبَّة فِى الاَْرضِ وَلاَ طَـئِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـبِ مِن شَىْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)

التّفسير

لإِتساع البحث حول هذه الآية، سنبدأ بشرح ألفاظها، ثمّ نفسّرها بصورة إِجمالية، ثمّ نتناول سائر جوانبها بالبحث.

«الدّابة» من «دبّ» والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان والحشرات أكثر، وقد ورد في الحديث «لا يدخل الجنّة ديبوب» وهو النمام الذي يمشي بين الناس بالنميمة.

«الطائر» كل ذي جناح يسبح في الهواء، وقد يوصف بها بعض الأُمور المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه.

«أُمم» جمع أُمّة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد.

«يحشرون» من «حشر» بمعنى «الجمع»، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة، وخاصة لأنّه يقول: (إِلى ربّهم).

[271]

هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدث عن «الحشر» وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحية والحيوانات، فتقول أولا: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إِلاّ أُمم أمثالكم).

يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور أُمم مثل البشر، غير أنّ للمفسّرين أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل.

بعض يقول: إِنّ التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه.

وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك الحاجات وإِشباعها.

ومنهم من يعتقد أنّ التشابه كائن في تشابه الإِدراك والفهم والمشاعر، أي أنّ للحيوان والطير أيضاً ـ إِدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف الله ويسبح له ويقدسه بحسب طاقته، وإن تكن قوّة إِداركه أدنى ممّا في الإِنسان، ثمّ إِنّ ذيل هذه الآية ـ كما سيأتي بيانه ـ يؤيد هذا الرأي الأخير.

ثمّ تقول الآية: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شيء (ممّا يتعلق بتربية الإِنسان وهدايته وتكامله) يبيّنه مرّة بياناً عاماً، كالحث على طلب العلم مطلقاً، ومرّة بياناً تفصيلياً كالكثير من الأحكام الإِسلامية والقضايا الأخلاقية.

ثمّة إِحتمال آخر يقول: إِنّ المقصود بالكتاب هو «عالم الوجود» إِذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضم كلّ شيء ولا ينسى شيئاً.

ليس ثمّة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التّفسيرين، فالقرآن لم يترك شيئاً تربوياً إِلاّ وذكره بين دفتيه، كما أنّ عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز.

وتختم الآية بالقول: (ثمّ إِلى ربّهم يحشرون).

[272]

يظهر أنّ ضمير (هم) يعود إِلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها وأصنافها، أي أنّ لها ـ أيضاً ـ بعثاً ونشوراً، وثواباً وعقاباً، وهذا ما يقول به معظم المفسّرين، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين ينكرون هذا، ويفسّرون هذه الآية والآيات المشابهة تفسيراً آخر، كقولهم: إِنّ معنى «الحشر إِلى الله» هو الموت والرجوع إِلى نهاية الحياة(1).

ظاهرالآية يشير ـ كما قلنا ـ إِلى البعث والحشر يوم القيامة.

من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم: إِنّ الله الذي خلق جميع الحيوانات ووفر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشراً ونشوراً، قد أوجد لكم دون شك بعثاً وقيامة، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شيء سوى الحياة الدنيا والممات.

* * *

ملاحظات:

1 ـ هل هناك بعث للحيوانات؟

ما من شك أنّ الشّرط الاُوّل للمحاسبة والجزاء هو «العقل والإِدراك» ويستتبعهما (التكليف والمسؤولية».

يقول أصحاب هذا الرأي: إِنّ لديهم ما يثبت أن للحيوانات إِدراكاً وفهماً بمقدار ما تطيق، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب، ويدلّ على إِرتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها، ولم يستحسن فهمها وإِدراكها؟ فعلى الرغم من أنّ بعضهم يعزوا ذلك كله إِلى نوع من


1 ـ نقل هذا الإِحتمال صاحب المنار عن ابن عباس.

[273]

الالهام الغريزي، فليس ثمّة دليل على أنّ هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا عقلية.

ما الدليل على أنّ هذه الأعمال ـ حسبما يدل ظاهرها ـ ليست ناشئة عن تعقل وإِدراك؟ كثيراً ما يحدث أنّ الحيوان يبتكر ـ إِستجابة لظرف من الظروف ـ شيئاً لم يسبق له أن مرّ به وجربه، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئباً في حياتها تفزغ منه أوّل ما تراه وتدرك خطره عليها، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.

إِن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجياً دليل آخر على هذا الأمر، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها ـ بل وحتى أطفالهم ـ كما يعاملهم الخادم العطوف.

ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيراً من الخدمات الإِنسانية ولا شك أنّ هذه أُمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إِذ إِنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصّة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إِلى التعقل والإِدراك أقرب منها إِلى الغريزة.

نشاهد اليوم أنّ حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة، فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين، والحمام الزاجل لنقل الرسائل، وحيوانات أُخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق، وحيوانات أُخرى للصيد، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإِتقان (حتى أنّهم افتتحوا مؤخراً مدارس خاصّة لتعليم مختلف الحيوانات)!

فضلا عن ذلك كلّه، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل ـ بوضوح ـ على أنّ للحيوانات فهماً وإِدراكاً، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان، وحكاية ذهاب الهدهد إِلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.

ثمّة أحاديث إِسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي عن

[274]

أبي ذر قال: بيّنا أنا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)«أتدرون فيما انتطحتا؟» فقالوا: لا ندري، قال: «ولكن الله يدري وسيقضي بينهما»(1).

وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إِنّه يحشر هذه الأُمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء من القرناء»(2).

وفي الآية (5) من سورة التكوير يقول سبحانه: (وإِذا الوحوش حشرت)وهي دليل آخر على ذلك.

* * *

2 ـ الحشر والتكليف:

تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها، وهي هل أن مقولة تكليف الحيوانات معقولة، مع أنّ من شروط التكليف العقل، ولهذا لا يكون الطفل والمجنون مكلّفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإِدراكاً من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإِذا لم يكن له مثل هذا العقل والإِدراك، فكيف يجوز أن يكلّف، وبأي تكليف؟

للجواب على هذه السؤال نقول: إِنّ للتكليف مراحل ودرجات، وكل مرحلة تناسب درجة معينة من العقل والإِدراك، وانّ التكاليف الكثيرة المفروضة في القوانين الإِسلامية على الإِنسان تتطلب مستوى رفيعاً من العقل والإِدراك لإِنجازها، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعاً، لأنّ الشرط المطلوب لإِنجازها غير متوفر في الحيوانات، إِلاّ أنّ مرحلة من التكاليف


1 ـ تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين في تفسير الآية المذكورة.

2 ـ تفسير المنار، ذيل الآية، والجماء عكس القرناء: الحيوان الفاقد للقرن.

[275]

البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإِدراك يمكن تصورها وقبولها في الحيوان ولا يمكن إِنكارها، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد ـ كأن يكون عمره 14 سنة مثلا ـ لو ارتكب جريمة قتل، وهو عالم بكل أضرار هذا العمل، فلا يمكن اعتباره بريئاً، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على بعض جرائم الأطفال غير البالغين، وإِن كانت العقوبات أخف طبعاً.

وعليه، فإِنّ البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا المتكاملة، أمّا في المراحل الأدنى، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى على من هم أدنى مرتبة، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطاً لازماً.

فإِذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار، يمكن حل قضية الحيوانات أيضاً بهذا الشأن.

* * *

3 ـ هل تدل هذه الآية على التناسخ؟

من العجيب أن بعض مؤيدي فكرة «التناسخ» الخرافية يتخذون من هذه الآية دليلا على صحة فكرتهم، ويقولون: يفهم من الآية أنّ الحيوانات أُمم مثلكم، مع أنّنا نعلم أنّها ذاتياً ليست مثلنا، فيمكن إذن القول بأن أرواح البشر التي تفارق أبدانها تحل في أبدان الحيوانات، وبهذا الشكل تنال الأرواح المذنبة العقاب.

ولكن على الرغم من أنّ فكرة التناسخ تناقض «قانون التكامل» ولا تتفق مع منطق العقل، وتستوجب إِنكار «المعاد» (كما سبق شرحه في موضعه)، فانّ هذه الآية لا تدل على التناسخ مطلقاً، إِذ إِنّ المجتمعات الحيوانية ـ كما قلنا ـ تشبه المجتمعات البشرية، وهو شبه بالفعل لا بالقوّة، لأن للحيوانات نصيبها من الفهم

[276]

والإِدراك، ونصيبها من المسؤولية أيضاً، ومن ثمّ نصيبها من البعث والحساب، أنّها تشبه الإِنسان في هذه الحالات.

ينبغي أن نعرف أنّ التكاليف والمسؤوليات الملقاة على الحيوانات في مرحلة خاصّة لا تعني أنّ لها إماماً وقائداً وشريعة وديناً كما ذهب اليه بعض أصحاب التصوف، فهي لا يقودها سوى إدراكها الباطني، أي أنّها تدرك بعض الأُمور، فتكون مسؤولة عنها بقدر إدراكها لها.

* * *

[277]

الآية

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا صُمٌّ وُبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـتِ مَن يَشَاءِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(39)

التّفسير

الصّم والبُكم:

مرّة أُخرى يعود القرآن ليتطرق إِلى المنكرين المعاندين، فيقول: (والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبُكم في الظّلمات) فهم لا يملكون آذاناً صاغية لكي يستمعوا إِلى الحقائق، ولا ألسناً ناطقةً بالحقّ توصل إِلى الآخرين ما يدركه الانسان من الحقائق، ولمّا كانت ظلمات الأنانية وعباده الذات والمعاندة والجهل تحيط بهم من كل جانب، فهم لا يستطيعون رؤية وجه الحقيقة، ولذلك فهم محرومون من النعم الثلاث التي تربط الإِنسان بالعالم الخارجي (أي السمع والبصر والنطق).

يرى بعض المفسّرين أنّ المقصود بالصمّ هم المقلِّدون الذين يتبعون قادتهم الضالين دون إِعتراض، ويصمون آذانهم عن سماع دعوات الهداة الإِلهيين، وإنّ المقصود بالبُكم هم أُولئك القادة الضالون الذين يدركون الحقائق جيداً، ولكنّهم حفاظاً على مصالحهم ومراكزهم الدنيوية ـ يكمون أفواههم، ولا ينطقون بالحقّ،

[278]

فكلا الفريقين غريقان في ظلمات الجهل وعبادة الذات(1).

وبعد ذلك يقول القرآن الكريم: (من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم).

سبق أن قلنا إِنّ نسبة الهداية والضلالة إِلى مشيئة الله وإِرادته نسبة تفسرها آيات أُخرى في القرآن يقول سبحانه: (يضل الله الظّالمين) ويقول: (وما يضل به إِلاّ الفاسقين) وفي موضع آخر يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)يتّضح من هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية أنّ الهداية والضلالة اللتين تنسبان في هذه الحالات إِلى مشيئة الله إِنّما هما في الحقيقة ثواب الله وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السيئة.

وبعبارة أُخرى: قد يرتكب الإِنسان أحياناً إِثماً كبيراً يؤدي به إِلى أن يحيط بروحه ظلام مخيف، فتفقد عينه القدرة على رؤية الحقّ، وتفقد أذنه القدرة على سماع صوت الحقّ، ويفقد لسانه القدرة على قول الحقّ.

وقد يكون الأمر على عكس ذلك، أي قد يعمل الإِنسان أعمالا صالحات كثيرة بحيث أن عالماً من النّور والضوء يشع في روحه، فيتسع بصره وبصيرته، وتزداد أفكاره إِشعاعا، ويكون لسانه ابلغ في إِعلان الحقّ، ذلكم هو مفهوم الهداية والضلالة اللتين تنسبان إِلى إِرادة الله ومشيئته.

* * *


1 ـ «الميزان»، ج 7، ص 84.

[279]

الآيتان

قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ(41)

التّفسير

التّوحيد الفطري:

يعود الكلام مرّة أُخرى إِلى المشركين، ويدور الاستدلال حول وحدانية الله وعبادة الواحد الأحد عن طريق تذكيرهم باللحظات الحرجة والمؤلمة التي تمر بهم في الحياة، ويستشهد بضمائرهم، فهم في مثل تلك المواقف ينسون كل شيء، ولا يجدون غير الله ملجأ لهم.

يأمر الله سبحانه نبيّه أن: (قل أرأيتكم إِن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إِن كنتم صادقين)(1).


1 ـ يقول علماء العربية: إنّ «ك» في «أرأيتك» و«كم» في «أرأيتكم» ليستا إسماً ولا ضميراً، ولكنّهما حرفا خطاب يفيدان التوكيد، والفعل في مثل هذه الحالات يكون مفرداً إنّما الافراد والتثنية والجمع تظهر على حرف الخطاب هذا، ففي «أرأيتكم» المخاطبون جماعة ولكن الفعل «رأيت» مفرد، و«كم» هو الذي يدل على أنّ المخاطبين جماعة، وقيل: أنّ هذا التعبير من حيث المعنى يساوي قولك: (أخبرني) أو (أخبروني)، ولكن الحقّ أنّ الجملة تحتفظ بمعناها الإِستفهامي، و(أخبروني) ملازم للمعنى، لا المعنى نفسه، والمعنى يساوي «أعلمتم»؟

[280]

الحالة النفسية التي تصوّرها هذه الآية لا تنحصر في المشركين، بل في كل إِنسان حين يتعرّض إِلى الشدة وحوادث الخطر وقد لا يلجأ الإِنسان في الحوادث الصغيرة والمألوفة إِلى الله، إِلاّ أنّه في الحوادث الرهيبة والمخيفة ينسى كل شيء وإن ظل في أعماقه يحس بأمل في النجاة ينبع من الإِيمان بوجود قوة غامضة خفية، وهذا هو التوجه إِلى الله وحقيقة التوحيد.

حتى المشركون وعبدة الأصنام لا يخطر لهم التوسل بأصنامهم، بل ينسونها في مثل هذه الظروف تماماً، فتقول الآية: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إِليه إِن شاء وتنسون ما تشركون).

* * *

بحوث

هنا يحسن الإِلتفات إِلى النقاط التّالية:

1 ـ إِنّ الإِستدلال المطروح في هاتين الآيتين هو الإِستدلال على التوحيد الفطري الذي يمكن الإِستفادة منه في مبحثين: الأوّل: في إِثبات وجود الله، والثّاني: في إِثبات وحدانيته، لذلك استشهدت الرّوايات الإِسلامية والعلماء المسلمون بهاتين الآيتين للرد على منكري وجودالله، وكذلك للردّ على المشركين.

2 ـ من الملاحظ أنّ الإِستدلال المذكور تطرق إِلى (قيام الساعة)، وقد يقال: إِنّ المخاطبين لا يؤمنون بالقيامة أصلا، فكيف يمكن طرح مثل هذا الإِستدلال أمام هؤلاء؟

[281]

نقول أوّلا: إِنّ هؤلاء لم يكونوا جميعاً ينكرون يوم القيامة، فقد كان فريق منهم يؤمنون بنوع من البعث.

وثانياً: قد يكون المعنى بالساعة هي ساعة الموت، أو الساعة الرهيبة التي تنزل فيها على الإِنسان مصيبة تضعه على شفا الهلاك.

وثالثاً: قد يكون هذا تعبيراً مجازياً عن الحوادث المخيفة، فالقرآن يكرر القول بأنّ يوم القيامة يقترن بسلسلة من الحوادث المروعة، كالزلازل والعواصف والصواعق وأمثالها.

3 ـ إنّنا نعلم أنّ يوم القيامة وما يصحبه من وقائع وأُمور حتمية الوقوع، ولا يمكن تغييرها إطلاقاً، فكيف تقول الآية: (بل إيّاه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)؟ فهل القصد هو إظهار قدرة الله، أم أنّ هناك قصد آخر؟

في جواب هذا السؤال نقول: لا يعني هذا أنّ الله سوف يلغي بالدعاء البعث وقيام الساعة أصلا، بل الآية تقصد القول بأنّ المشركين ـ وحتى غير المشركين ـ عند مشاهدتهم الحوادث الرهيبة عند قيام الساعة وبالأهوال والعذاب الذي ينتظرهم، يستولي عليهم الفزع والجزع، فيدعون الله ليخفف عنهم تلك الأهوال، وينجيهم من تلك الأخطار، فدعاؤهم يكون لنجاتهم من أهوال يوم القيامة الرهيبة، لا لإِلغاء ذلك اليوم من الأساس.

* * *

[282]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَم مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلاَ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَبَ كُلِّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(45)

التّفسير

مصير الذين لا يعتبرون:

تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضّالين والمشركين، ويتخذ القرآن فيها طريقاً آخر لإِيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إِلى القرون السالفة والأزمان الماضية، يشرح لهم حال الأُمم الضالة والظالمة والمشركة، ويبيّن لهم كيف أُتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي، غير أنّ جمعاً منهم لم يلقوا بالا إِلى أي من تلك العوامل، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و(ضراء)(1) (ولقد أرسلنا إِلى أُمم


1 ـ «البأساء» الشدّة والمكروه، وتطلق على الحرب أيضاً، وكذلك القحط والجفاف والفقر، أمّا «الضراء» فأكثر ما تعني العذاب الروحي، كالهم والغم والإِكتئاب والجهل، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.

ولعل الإِختلاف بين معنيي اللفظتين ناشىء عن أنّ «الباساء» تشير إِلى المكروه الخارجي و«الضراء» تشير إِلى المكروه الداخلي، النفسي أو الروحي، وعلى هذا تكون «الباساء» من عوامل إِيجاد «الضراء»، فتأمل بدقّة!

[283]

من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).

أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عندما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟! (فلولا إِذ جاءهم بأسنا تضرعوا) أنّهم لم يستيقظوا، ولذلك سببان:

الأوّل: إِنّهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم: (ولكن قست قلوبهم)

والثّاني: إنّ الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزيّن في نظرهم أعمالهم، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صواباً: (وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون).

ثمّ تذكر الآية الثّانية أنّه لمّا لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إِلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم، ويشخصوا الطريق السوي: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء).

إِلاّ أنّ هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج، فهي مظهر من مظاهر المحبّة التي تستهدف إِيقاظ النائمين، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إِذا استمرت الغفلة، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ منه هذه النعم فجأة، بينما لو أخذت منه بالتدريج، فلا يكون وقع ذلك عليه شديداً، ولهذا يقول إِنّنا أعطيناهم الكثير من النعم (حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون)(1).

وهكذا استؤصلت جذور أُولئك الظلمة وانقطع نسلهم: (فقطع دابر القوم


1 ـ «الإِبلاس» الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة، ومنها اشتقت كلمة «إِبليس»، وهي هنا تدل على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.

[284]

الذين ظلموا).

و«الدابر» بمعنى المتأخر والتابع.

ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شيء منها، لذلك فانّ الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة (والحمد لله ربّ العالمين).

* * *

ملاحظات:

لابدّ هنا من التنبه إِلى بضع نقاط:

1 ـ قد يبدو لبعضهم أنّ هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة، فقد بيّنت الآيات السابقة أنّ المشركين إِذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إِلى الله وينسون كل ما عداه، ولكن هذه الآيات تقول: إِنّ هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد تعرضهم للمنغصات الشديدة.

هذا التباين الظاهري يزول إِذا انتبهنا إِلى النقطة التّالية، وهي أنّ اليقظة الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية، لأنّهم سرعان ما يعودون إِلى الغفلة السابقة.

في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري، فكان التيقظ والتوجه العابر ونسيان كل شيء سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإِثبات ذلك، أمّا في هذه الآيات فالكلام يدور عن الإِهتداء والرجوع عن الضلال إِلى الطريق المستقيم، لذلك فانّ اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئاً.

قد يتصور أنّ الاختلاف بين الموضعين هو أنّ الآيات السابقة تشير إِلى المشركين الذين عاصروا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات التي بعدها تشير إِلى الأقوام

[285]

السابقين، ولذلك لا تعارض بينهما(1).

ولكن من المستبعد جدّاً أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً من الضالين السابقين، وعليه فلا حلّ للإِشكال إِلاّ بما قلناه.

2 ـ نقرأ في هذه الآيات أنّه عندما لم يكن لإِبتلائهم بالشدائد تأثير في توعيتهم، فإِنّ الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين، فهل هذا ترغيب بعد المعاقبة، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي: هل هذه النعم نعم إِستدراجية، تغمر المتمرد تدريجياً بالرفاهية والتنعم والسرور ... تغمره بنوع من الغفلة، ثمّ ينتزع منه كل شيء دفعة واحدة؟

ثمّة قرائن في الآية تؤيد الإِحتمال الثّاني، ولكن ليس هناك ما يمنع من قبول الإِحتمالين، أي أنّه ترغيب وتحريض على الإِستيقاظ، فإِن لم يؤثر، فمقدمة لسلب النعمة ومن ثمّ إِنزال العذاب الأليم.

جاء في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إِذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإِنّما هو إِستدراج) ثمّ تلى الآية (فلمّا نسوا ...)(2).

وفي حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: «يا ابن آدم، إِذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره»(3).

وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام) قال: «إِنّ قنبر مولى أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أدخل على الحجاج، فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال: كنت أوضيه، فقال له: ماذا يقول إِذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا


1 ـ يشير الفخر الرازي في تفسيره إِلى هذا الإِختلاف في ج 12، ص 224.

2 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير نورالثقلين، ذيل الآية.

3 ـ نهج البلاغه، الكلمة 25.

[286]

والحمد لله رب العالمين)، فقال الحجاج: أظنّه كان يتأولها علينا؟! قال: نعم»(1).

3 ـ يتّضح من هذه الآيات أنّ هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإِيقاظ والتوعية، وهذا جانب من فلسفة «المصائب والآفات» التي تحدثنا بشأنها في بحث التوحيد، ولكن الملفت للنظر هو أنّه يبدأ الموضوع بكلمة «لعل»، وذلك لأنّ نزول البلاء وحده لا يكفي للإِيقاظ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن قلنا أنّ «لعل» في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أُخرى).

هنالك أيضاً كلمة «تضرع» التي تعني أصلا نزول اللبن في الثدي واستسلامه للرضيع، ثمّ انتقل المعنى إِلى الإِستسلام مع الخضوع والتواضع، أي أنّ تلك الحوادث الشديدة تهدف إِلى إِنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية، والإِستسلام لله.

4 ـ ممّا يلفت النظر إِختتام الآية بقول: (الحمد لله ربّ العالمين) وهذا دليل على أنّ استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله.

في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصي الله، إِنّ الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك الظلمة فقال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدلله ربّ العالمين).

* * *


1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 718.

[287]

الآيات

قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ(46) قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّـلِمُونَ(47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(49)

التّفسير

اعرفوا واهب النعم!

الخطاب ما يزال موجهاً إِلى المشركين.

في هذه الآيات حثّ إِستدلالي على إِيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر، فيبدأ بالقول: إِنّه إِذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم، مثل السمع والبصر، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء، والحقّ الباطل، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إِليكم تلك النعم؟ (قل أرأيتم إِن أخذ الله

[288]

سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إِله غير الله يأتيكم به).

في الواقع، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله، وكانوا يعبدون الأصنام للإِستشفاع بها عند الله.

والقرآن يحثّهم على الإِتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات بدل الإِتجاه إِلى أصنام لا قيمة لها.

وإِضافة إِلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله، فإِنّ القرآن استجوب عقولهم هنا لإِبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عيناً ولا أذناً ولا عقلا ولا شعوراً، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟!

ثمّ تقول الآية: اُنظر إِلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل، ولكنّهم مع ذلك يعرضون عنها: (اُنظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون).

وفيما يتعلق بمعنى «ختم» وسبب ورود «سمع» بصيغة المفرد، و«أبصار» بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الاُوّل من هذا التّفسير، (92).

«نصرف» من «التصريف» بمعنى «التغيير»، والكلمة هنا تشير إِلى مختلف الإِستدلالات في صور متنوعة.

و«يصدفون» من «صدف» بمعنى «الجانب» و«الناحية» أي أنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إِلى جانب أو ناحية أُخرى.

وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإِعراض أيضاً، ولكنه «الإِعراض الشديد» كما يقول الراغب الأصفهاني.

تشير الآية الثّانية، بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإِدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة ـ إِلى إِمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة، فتقول: (قل أرأيتكم إِن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إِلاّ القوم

[289]

الظّالمون)(1).

«بغتة» بمعنى «فجأة» و«جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية، والمألوف استعمال «سرّاً» في مقابل «جهرة» لا «بغتة»، ولكن لما كانت مقدمات العمل المباغت خافية غالباً، إِذ لولا خفاؤه لما كان مباغتاً، فإِن في «بغتة» يكمن معنى الخفاء والسرية أيضاً.

والقصد هو أنّ القادر على إِنزال مختلف العقوبات، وسلب مختلف النعم هو اللّه وحده، وإِنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبداً، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إِلى اللجوء إِليها، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إِلاّ الظالمين.

ومن هذا يستفاد أنّ للظلم معنى واسعاً يشمل أنواع الشرك والذنوب، بل إِنّ القرآن يعتبر الشرك ظلماً عظيماً، كما قال لقمان لابنه: (لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم)(2).

الآية الثالثة تشير إِلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر، فإِن الأنبياء العظام والقادة الإِلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إِبلاغ الرسالة والإِنذار والتبشير، فكل ما هنالك من نعم إِنّما هي من الله وبأمره، وأنّهم إِن أرادوا شيئاً طلبوه من الله: (وما نرسل المرسلين إِلاّ مبشرين ومنذرين).

والإِحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإِنذار، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء، فهم مبشرون ومنذرون.

ثمّ تقول: إِنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون


1 ـ شرحنا معنى «أرأيتكم» عند تفسير الآية 40 من هذه السورة وقلنا: ليس هناك ما يدعوا إِلى اعتبار المعنى «أخبروني» بل المعنى هو «أعلمتم»؟

2 ـ لقمان، 13.

[290]

أنفسهم (ويعملون الصالحات) فلا خوف عليهم من العقاب الإِلهي، ولا حزن على أعمالهم السابقة. (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).