![]() |
![]() |
![]() |
على أن «المسلم» يعني الذي يسلّم ويخضع أمام أمر الله، وهذا المعنى يصدق على جميع الأنبياء الإِلهيين وأُممهم المؤمنة، ومع ذلك فإِن كونَ رسولِ الإِسلام أوّلَ المسلمين، إِمّا من جهة كيفية إِسلامه وأهميته، لأنّ درجة إِسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع، وإِمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الأُمّة التي
1 ـ يونس، 72.
2 ـ البقرة، 128.
3 ـ يوسف، 101.
قبلت بالإِسلام والقرآن.
وقد ورد في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل من أجاب في الميثاق في عالم الذّر، فإِسلامه متقدم على إِسلام الخلائق أجمعين(1).
وعلى أي حال فإنّ الآيات الحاضرة توضح روح الإِسلام، وتعكس حقيقة التعاليم القرآنية وهي: الدعوة إِلى الصراط المستقيم، والدعوة إِلى دين محطم الأصنام إِبراهيم الخالص، والدعوة إِلى رفض أي نوع من أنواع الشّرك والثنوية... هذا من جهة العقيدة والإِيمان.
وأمّا من جهة العمل: الدّعوة إِلى الإِخلاص، وإِلى تصفية النيّة، والإِتيان بكل شيء لله تعالى، الحياة لأجله، والموت في سبيله، وطلب كل شيء منه، ومحبّته، والإِنقطاع إِليه، وعن غيره، والتولي له، والتبرؤ من غيره.
فما أكبر الفرق بين ما جاء في الدعوة الإِسلامية الواضحة، وبين أعمال بعض المتظاهرين بالإِسلام الذين لا يفهمون من الإِسلام سوى التظاهر بالدين، ولا يفكرون في جميع الموارد إِلاّ في الظاهر، ولا يعتنون بالباطن والحقيقة، ولهذا فليس حياتهم ومماتهم وإِجتماعهم ومفاخرهم وحريتهم سوى قشور خاوية لا غير.
* * *
1 ـ تفسير الصافي، ذيل هذه الآية.
قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِى رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْء وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)
إِنّ التأكيدات المتتابعةُ المتوالية والاستدلالُ المتنوع في هذه السورة في صعيد التوحيد ومكافحة الشرك تنبىء عن أهمية كبرى للموضوع.
وهذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر، حيث قال سبحانه لنبيّه: قل لهم واسألهم: هل من الصحيح أن أطلب ربّاً غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربّي، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات، وحكمه جار في جميع ذرّات الوجود بلا استثناء: (قُلْ أغيرَ الله أبغي وهو ربُّ كل شيء).
ثمّ إِنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اتَّبِعْنا وعَلينا وِزرَكَ إِن كان خطأً، قائلا: (ولا تكسب كلُ نفس إِلاّ عليها، ولا تزر وازرة وزر أُخرى) فلا يعمل أحد إِلاّ لنفسه، ولا يحمل أحد وزر أحد.
(ثمّ إِلى ربّكم مرجعُكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلِفُون) فمآلكم إِليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.
إِنّ ها هنا نقطتين يجب أن نقف عندهما ونلتفت إِليهما:
قد يتوهمّ أنّ الآية الحاضرة التي تبيّن أصلين من الأُصول المنطقية المسلّمة لدى جميع الأديان والشرائع (أي مبدأ: لا يعمل أحد إِلاّ لنفسه، ولا يعاقب أحد بذنب غيره) تتنافى مع الآيات القرآنية الأُخرى، كما لا توافق جملة من الرّوايات في هذه المجال، لأنّ الله تعالى يقول في سورة النحل الآية 25: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلّونهم بغير علم).
فإِذا لم يحمل أحدٌ وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلِّون وزر الضالّين أيضاً.
كما أنّ الأحاديث المرتبطة بـ«السُنّة الحَسنة» و«السنّة السيئة» المروية بطرق الشيعة والسنّة. تتنافى مع مفهوم الآية الحاضرة كقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كان لَهُ أجر من عَمِلَ بَها من غير أن ينقصَ من أُجورهم شيء، ومن سَنَّ سَنّةً سيئة كان عليه وزرُ مَن عمل بها من غير أن ينقصَ من أوزارِهم شيءٌ».
ولكن الإِجابة على هذا السؤال واضحة، فإِنّ الآية المبحوثة هنا تقول: إِنّه لا يحمل أحد وزر أحد من دون سبب، ولكنَ الآيات والرّوايات المشار إِليها سلفاً تقول: إِذا كان الإِنسان مؤسِّساً لعمل صالح أو سيءّ يعمل وفقه الآخرون، أي كان له «التسبيب» والدلالة في قيام الآخرين بعمل معيّن، وكانت له بالتالي دخالة في وقوعه، فإِنّه ـ ولا شك ـ يشترك معهم في نتائجه وعواقبه، لأنّه يعتبر ـ في الحقيقة ـ عمله وفعله، فلا مناص من أن يتحمل تبعاته إِنّ خيراً فخير، وإِن شراً فشرّ، لأنّه هو الذي وضع بيده أساسه الذي قام عليه صرح العمل، وارتفع بنيانه.
إِنّ التوَّهُم الآخر الذي يمكن أن يخالج الأذهان حول هذه الآية هو: أنّ الآية تقول: إِن عَمَلَ كل إِنسان لا ينفع إِلاّ نفسه، وعلى هذا فإِن الأعمال الصالحة التي تهدى إِلى الأموات، بل وحتى الأحياء أحياناً، لا يمكن أن تنفعهم، في حين نقرأ في روايات كثيرة مروية عن طريق الشيعة والسنة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) أن مثل هذه الأعمال قد تنفع الآخرين، وإِن هذا ينطبق على الجميع، فلا ينحصر بعمل الولد لوالديه، بل يشمل كل من يعمل عملا ويهدي ثوابه للآخرين.
هنا مضافاً إِلى أنّنا نعلم أن الثواب يرتبط بتأثير العمل الصالح المأتي به على روح الإِنسان ودوره في تكامل الإِنسان ورقيّه، ولكنّ الذي لم يعمل عملا صالحاً قط، بل ولم يكن له أية دخالة في مقدماته كذلك، فكيف يمكن أن ينشأ منه أثر روحي ومعنوي؟؟
ولقد واصل البعض طرح هذا الإِشكال بصورة مسهبَة، ولم يكن الأفراد العاديون وحدهم هم الذين طرحوه، بل تأثر به بعض المفسّرين والكتاب، مثل كاتب «المنار» إِلى درجة أنّهم تناسوا كثيراً من الأحاديث والرّوايات المسلّمة، ولكن مع الإِلتفات إِلى نقطتين يتضِح الجواب على هذا الإِشكال.
1 ـ صحيح أن عمل كل إِنسان سبب لتكامله بالخصوص، وأنّ نتائج الأعمال الصالحة وآثارها الواقعية عائدة إِلى القائم بالعمل الصالح، تماماً كما تكون «الرّياضة»، و«التّعليم والتّربية» من كل أحد سبباً لتقوية جسم فاعلها وروحه ونفسه، وتكاملهما.
ولكن عندما يَعمل أحدٌ عَمَلا صالحاً لشخص آخر، فإِنّه إِنّما يفعله حتماً لأجل أن ذلك الشخص يمتلك إِمتيازاً على غيره وصفةً حسنةً، أو لأنّه كان مربيّاً صالحاً، أو تلميذاً صالحاً، أو صديقاً طيباً أو جاراً وفياً له، أو كان عالماً خدوماً
للمجتمع، أو مؤمناً مخلصاً، أو يمتلك أدنى حد من الصلاح في حياته، يوجب جلب أنظار الآخرين، ويسبب في أن يعملوا أعمالا صالحة ويهدونها إِليه.
وعلى هذا فذلك العمل ـ في الحقيقة ـ إِنّما يكون نتيجة لذلك الإِمتياز، ونتيجة للصفة الحسنة المذكورة، وللنقطة المضيئة في شخصيته وحياته، ولهذا يكون قيام الآخرين بالأعمال الصالحة له إِنما هو أشعة من ضوء علمه الطيب أو نيتّه الصالحة، ونتيجة لتلك الخصلة الحسنة التي يتّصف بها.
2 ـ المثوبات التي يعطيها الله تعالى للإشخاص على نوعين: مثوبات تتناسب مع وضع تكاملهم الروحي وصلاحيتهم، يعني أن أرواحهم ونفوسهم قد تسمو بسبب قيامهم بالأعمال الصالحة سمواً كبيراً، وترتقي في سلّم الكمال رقياً عظيماً إِلى درجة يصلحون للعيش في عوالم أعلى وأفضل، ويرتفعون بما صنعوه على أجنحة العقيدة والعَمَل الصالح.
ولكن حيث أنّ أيَّ عمل صالح هو إِطاعةٌ لأمر الله سبحانه، ويستحق المطيع لإِطاعته أجراً ومثوبة، فإِنّه يمكنه أن يهدي ذلك الثوابُ والأجر إِلى غيره بإِرادته ورغبته، تماماً، مثل أستاذ متخصّص في شعبة مهمّة من العلوم يدرّس في جامعة من الجامعات، فإِنّه لا ريب في أنّه يصل بتدريسه إِلى نتيجتين:
فهو من جهة يصل - في ضوء تدريسه ـ إِلى درجات علمية أكمل وأقوى، وهو في نفس الوقت يحصل على أموال لقاء خدمته، ولا ريب في أنّه لا يستطيع أن يهدي النتيجة الأُولى لأحد لأنّها خاصّة به، ولكنّه يمكنه أن يقدم (أو يهدي) النتيجة الثانية إِلى من يرغب ويحب.
إِنَّ إِهداء (ثواب) الأعمال الصالحة من جانب العاملين بها إِلى الأموات، بل وإِلى الأحياء أحياناً، إِنّما هو من هذا النمط ومن هذا القبيل.
وبهذا يرتفع وينتفي أيُ إِبهام يحوم حول هذه الأحاديث.
ولكن يجب أن نعلم بأنّ المثوبات التي تصل إِلى الآخرين عن هذا الطريق لا
يمكن أن تضمن سعادتهم، بل تُصيبهم منها آثارٌ قليلة والأصل والأساس في نجاتهم إِنّما هو إِيمانهم وعملهم أنفسهم.
* * *
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـئِفَ الاَْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَـت لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)
في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إِشارة إِلى أهمية مقام الإِنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد، ومكافحة الشرك، يعني أن يعرف الإِنسان قيمةَ نفسه، كأرقى وأفضل كائن في عالم الخلق، ولا يسجد للخشب والحجر، ولا يركع أمام الأصنام المختلفة الأُخرى، ولا يقع في أسرها، بل يكون أميراً وحاكماً عليها بدل أن يكون أسيراً ومحكوماً لها.
لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: (هو الذي جعلكم خلائف الأرض)(1).
إِن الإِنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، والذي سُخِرت له كل منابع هذا
1 ـ «الخلائف» كما في المفردات للراغب ـ جمع خليفة «وخلفاء» جمع «خليف» وهما بمعني من يقوم مقام أحد بعده، والتاء المضافة إِلى الكلمة تفيد المبالغة، وقال جمع آخر من أهل اللغة: الخلائف جمع خليف وخليفة.
العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إِلى درجة السجود للجمادات.
ثمّ أشار سبحانه إِلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت، فيقول: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.
ثمّ تشير في خاتمة الآية الحاضرة إِلى حرية الإِنسان في إِختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الإِختبارات والإِبتلاءات، إِذ يقول: (إِن ربّك سريع العقاب وإِنّه لغفور رحيم)، فإِنّ ربّك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الإِختبار، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإِصلاح أخطائهم.
لا شك أنَّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين، فهناك مثلا جماعة يمتلكون ثروات هائلة، وجماعات أُخرى تعاني من الفقر المدقع، جماعة يعانون من الجهل والأُمية بسبب عدم توفّر مستلزمات الدراسة، وجماعة أُخرى تبلغ المراتب العليا في الثقافة والعلم بسبب توفّر كلِّ الوسائل اللازمة للتحصيل والدراسة.
جماعةٌ يعانون من المَرضَ والعِلّة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحيّة، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية، بسبب توفر جميع الإِمكانيات.
إِنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات: الثروة والفقر، والعلم والجهل، والسلامة المرض، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار، وهي مظاهر مختلفة
للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.
إِنَّ من المسلَّم أنه لا يُمكن أن تعتبر هذه الأُمور من فعل المشيئة الإِلهية، وليس من الصحيح مطلقاً الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرَّرة أساساً.
ولكن في نفس الوقت لا يمكن إِنكار أنّه حتى لو روعيت جميع أُصول العدالة في المجتمع الإِنساني ـ أيضاً ـ فإِنّه لا يتساوى الناس جميعاً من حيث القابليات ومن حيث الفكر، والذوق، وفي الذكاء، والسليقة وحتى من جهة التركيب البدنيّ.
ولكن هل وجودُ هذه الاختلافات والفوارق مخالفٌ لمبدأ العدالة، أو أنّه على العكس يكون هو العدل بمعناه الواقعي، يعني أنّ مبدأ وضع كل شيء في محلّه يوجب أن يكون الأفراد غير متساوين.
إِذا كان جميع الأفراد في المجتمع الإِسلامي متساوين ومتشابهين في المواهب والقابليات كالقماش أو الأواني التي تخرج من مصنع واحد، كان المجتمع الإِنساني ـ حينئذ ـ مجتمعاً ميتاً ساكناً جامداً عارياً عن التحرك والتكامل.
اُنظروا إِلى نبتة الورد، فهناك جذور قوية متينة، وسوق رقيقة، ولكنّها متينة نوعاً مّا، وفروع ألطف، ثمّ أوراق وأوراد بعضها ألطف من بعض، وهذه المجموعة المتنوعة في تراكيبها والمختلفة في متانتها ولطافتها تشكل نبتة وردة جميلة تختلف فيها الخلايا بحسب اختلافها في وظائفها، وتختلف فيها القابليات والاستعدادات بحسب اختلافها ووظائفها.
إِن نفس هذا الموضوع يلحظ في العالم البشري، فأفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرةً كبيرةً واحدةً يقوم كل فرد برسالة خاصّة في هذا الصرح العظيم، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.
ولهذا يقول القرآن الكريم: إِنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم
وامتحانكم، لإن الإِختبار والامتحان الإِلهي ـ كما قلنا سابقاً ـ يعني «التربية».
وبهذا يُجاب على كل اعتراض وإِشكال يورَد في المقام على أثر الفهم الخاطيء لمفهوم الآية.
إِنّ النقطة الأُخرى الجديرة بالاهتمام، هي أن القرآن الكريم وصف الإِنسان مراراً بالخلافة، وأنّه خليفة الله في أرضه، أن هذا الوصف، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإِنسان يبين هذه الحقيقة أيضاً، وهي: أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات، وجميع المواهب الإِلهية الممنوحة للإِنسان، وما الإِنسان ـ في الحقيقة ـ إِلاّ خليفة الله وكيلٌ من جانبه، ومأذون من قبله.
ومن البديهي أن الوكيل ـ مهما كان ـ فهو غير مستقل في تصرفاته، بل يجب أن تخضع تصرفانه لإِذن صاحبها الأصلي، وتقع ضمن إِجازته.
ومن هنا يتضح أن الإِسلام ـ مثلا ـ يختلف عن النظام الشيوعي، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية، لأنَّ الفريق الأوّل يخصّص الملكية بالجماعة، والفريق الثاني يخصِصُها بالفرد، بينما يقولُ الإِسلامُ: الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع، بل هي في الحقيقة لله تعالى، والناس وكلاء الله، وخلفاؤه.
وبهذا الدليل نفسِه يراقب الإِسلامُ طريقة تصرّف الأفراد في الأموال كسباً وصرفاً، ويضع لكل ذلك قيوداً وشروطاً تجعل الاقتصاد الإِسلامي نظاماً متميّزاً في مقابل الأنظمة الأُخرى.
«ختام سورة الانعام»
مَكيَّة
وَعَدَدُ آيَآتِهَا مَائتان وَستّ آياتْ
هذه السورة من السور المكية إِلاّ قوله تعالى: (واسألهم عن القرية) ـ إِلى ـ (بما كانوا يفسقون)، الذي نزل في المدينة.
عدد آيات هذه السورة (206) آية أو (205) كما عليه البعض.
إِن أكثر السور القرآنية (80 إِلى 90 سورة) ـ كما نعلم ـ نزلت في مكّة، ونظراً إِلى الأوضاع التي كانت سائدة في المحيط المكّي، وحالة المسلمين خلال 13 عاماً، وكذا بالإِمعان في صفحات التّأريخ الإِسلامي بعد الهجرة، يتضح بجلاء أن هناك فرقاً بين لحن السور المكية والسور المدنية.
ففي السّور المكية يدور الحديث ـ غالباً ـ حول المبدأ والمعاد، وحول إِثبات التوحيد، ويوم القيامة، ومكافحة الشرك والوثنية، وتقوية مكانة الإِنسان ودعم موقعه في عالم الخلق، لأنّ الفترة المكّية كانت تشكل فترة بناء المسلمين من حيث العقيدة، وتقوية أُسس الإِيمان كأسس وقواعد لـ «نهضة متجذرة».
ففي الفترة المكية كان على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهّر العقول والأذهان من جميع الأفكار الوثنية الخرافية، ويغرس محلّها روحَ التوحيد، والعبودية لله تعالى، والإِحساس بالمسؤولية لأفراد الطبقة المسحوقة والمحقّرة في اطار العهد الوثني بشخصيتهم الحضارية وهويتهم وكرامتهم الإِنسانية، وحقيقة موقعهم في نظام الوجود، وعالم الخلق، ليصنع ـ بالتالي ـ من ذلك الشعب الوضيع المشحون
بالخرافة، أُمة ذات شخصية قوية، وذات إِرادة صلبة، وإِيمان فاعل، وقد كان هذا البناء العقائدي القوي الذي تم على يد رسول الإِسلام في هدي القرآن في مكّة، هو السبب في تقدم الإِسلام المطّرد في المدينة.
إِن آيات السور المكية كذلك تتناسب جميعها مع هذا الهدف الخاص.
أمّا الفترة المدينة، فقد كانت فترة تشكيل وتأسيس الحكومة الإِسلامية، فترة الجهاد في مقابل الأعداء، فترة تأسيس وبناء مجتمع سليم على أساس القيم الإِنسانية، والعدالة الإِجتماعية.
ولهذا تهتم السور المدنية في كثير من آياتها بتفاصيل القضايا الحقوقية، والأخلاقية والاقتصادية، والجزائية، وغير ذلك من الحاجات الفردية والإِجتماعية.
وإِذا أراد المسلمون اليوم أن يستعيدوا عظمتهم الغابرة، ومجدهم القديم، وجب عليهم أن ينفّذوا هذا البرنامج بالذات، وأن يطووا هاتين الفترتين بصورة كاملة، فإِنّه ما لم تتوطد الأُسس العقائدية، وما لم يتم بناؤها بشكل محكَم لم تحظ اللّبنات الفوقية والبناء الحضاري للمجتمع بالمتانة والقوة اللازمة.
وعلى كل حال فحيث أن سورة الأعراف من السور المكية، لذلك تجلّت فيها جميع خصائص السورة المكية ولهذا نرى:
كيف أنّها أشارت في البدء إِلى مسألة «المبدأ والمعاد».
ثمّ بهدف إِحياء شخصية الإِنسان شرحت ـ باهتمام وعناية كبيرة ـ قصّة خلق آدم.
ثمّ عدّدت ـ بعد ذلك ـ المواثيق التي أخذها الله تعالى من أبناء آدم في مسير الهداية والصلاح، واحداً واحداً.
ثمّ للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد والعدالة والتقوى. وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وانتصارهم،
ذكرت قصص كثير من الاقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل «نوح» و«لوط» و«شعيب» وختمت ذلك ببيان قصة بني إِسرائيل، وجهاد «موسى» ضدّ فرعون، بصورة مفصّلة.
وفي آخر السورة عادت مرّة أُخرى إِلى مسألة المبدأ والمعاد، بهذا تتناغم البداية والخاتمة.
جاء في تفسير العياشي عن الإِمام الصادق أنّه قال: «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ... فإِن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة (وكذا قال:) أمّا أن يكون فيها محكماً فلا تدعوا قراءتها والقيام بها فإِنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها»(1).
إِن ما يستفاد من الحديث الحاضر بوضوح هو أن هذه الرّوايات والأحاديث الواردة في فضل السور لا تعني أن مجرّد قراءتها تنطوي على كل تلك النتائج، والثمرات الكبرى، بل إِنّ ما يعطي هذه القراءة القيمة النهائية هو الإِيمان بمضامين السورة، ثمّ العمل على طبقها.
ولهذا جاء في الرواية الحاضرة: قراءتها وتلاوتها والقيام بها. كما أنّنا نقرأ في هذه الرواية أنّه(عليه السلام) قال: «من قرأ هذه السورة كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
وفي الحقيقة فإِنّ هذه إِشارة لطيفة إِلى الآية (35) من هذه السورة، التي يقول فيها سبحانه: (فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
فهذه المنزلة ـ كما يلاحظ القارىء الكريم ـ مخصوصة بالذين اتقوا، وسلكوا سبيل الصلاح، هذا مضافاً إِلى أنّ القرآن الكريم كتاب «عقيدة» و«عمل»
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثاني، الصفحة 2 ونور الثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 2.
والقراءة والتلاوة تعتبران مقدمة لهذا الموضوع.
قال الراغب في كتاب «المفردات» في مادة: تلاوة: قوله: (يتلونه حق تلاوته)(1): إِتباع القرآن بالعلم والعمل.
وهذا يعني أنّ للتلاوة مفهوماً أعلى من مفهوم القراءة، فهي مقرونة بنوع من التدبر والتفكر والعمل.
* * *
1 ـ البقرة، 121.
الـمـص(1) كِتَـبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) اتَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ(3)
في مطلع هذه السّورة نواجه مرّة أُخرى «الحروف المقطَّعة» وهي هنا عبارة عن: الألف واللام والميم، والصاد.
وقد سبقت منّا أبحاثٌ مفصّلة عند تفسير هذه الحروف في مطلع سورة «البقرة» وكذا: «آل عمران».
وهنا نلفت النظَر إِلى تفسير آخر من التفاسير المطروحة في هذا الصعيد استكمالا للبحث وهو: أنّه يمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب إنتباه المستمعين، ودعوتهم إِلى السكوت والإِصغاء، لأنَّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع، وتدعوه إِلى متابعة الكلام إِلى نهايته.
ومن الإِتفاق أنّ غالب السور المبدوءة بالحروف المقطّعة هي السور التي نزلت في مكّة، ونحن نعلم أن المسلمين في مكّة كانوا أقليّة، وكان أعداؤهم وخصومهم خصوماً ألدّاء اشتد عنادهم إِلى درجة أنّهم ما كانوا على استعداد
حتى لاستماع كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ربّما أثاروا ضجيجاً، ورَفَعوا الأصوات في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عند قراءته للآيات القرآنية ليضيع في زحمتها وخضمّها نداؤهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما أشارت إِليه بعض الآيات (مثل الآية 26 سورة فصلت ـ السجدة).
كما أننا نقرأ في بعض الرّوايات والأحاديث المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ هذه الحروف رموز وإِشارت إِلى أسماء الله، فـ: «الـمص» في السورة المبحوثة مثلا إِشارة إِلى جملة: أنا الله المقتدر الصادق.
وبهذا الطريق يكون كل واحد من الحروف الأربعة صورة مختصرة عن أحد أسماء الله تعالى.
ثمّ إِنّ موضوع إِحلال الصياغات المختصرة محلّ الصياغات المفصَّلة للكلمات كان أمراً رائجاً من قديم الزمان، وإِن حصل مثل هذا في عصرنا أيضاً بشكل أوسع، حيث اختصِرت الكثير من العبارات الطويلة، وكذا أسامي المؤسسات أو الهيئات في كلمة قصيرة أو أحرف معدودة.
على أن ثمّة نقطةً تستحقُ التنويه بها هنا، وهي أنّ التفاسير والتحاليل المختلفة عن «الحروف المقطعّة» لا تتنافى ولا تتناقض فيما بينها، ويمكن أن تكون جميع التفاسير بطوناً مختلفة من بطون القرآن.
ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة: (كتابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ فلا يكن في صدرك حَرَجٌ منه).
و«الحرج» في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة، والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتفّ أوّلا ثمّ المنتشر، وهو يُطلق على كل نوع من أنواع الضيق.
إنَّ العبارة الحاضرة تسلّي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر(صلى الله عليه وآله وسلم) بأيّ ضيق وحرج، لا من ناحية ثقل
الرسالة الملقاة على عاتقه، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.
هذا ويمكن إِدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِدراكاً كاملا إِذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكّية، ونحن وإِن كنّا نعجز عن تصوّر جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه في المحيط المكي، وفي مطلع الدّعوة الإِسلامية، ولكن مع الإِلتفات إِلى حقيقة أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة المتخلفة جداً وفي مدّة قصيرة، يمكن أن نتصور على نحو الاجمال أبعاد وأنواع الصعاب التي كانت تنتظره.
وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إِلى تسلية النّبي وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج، وأنّ يطمئنَّ إِلى نتيجة جهوده.
ثمّ يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إِنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة، وتذكير المؤمنين الصادقين، إِذا يقول: (لتنذر به وذكرى للمؤمنين)(1).
هذا ومجيء قضية «الإِنذار» في صورة الأمر العام الموجّه للجميع، واختصاص «التذكير» بالمؤمنين خاصّة، إِنّما هو لأجل أنَّ الدعوة إِلى الحق، ومكافحة الإِنحرافات يجب أن تتمّ بصورة عامّة وشاملة، ولكن من الواضح أنّ المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة، أُولئك الذين تتوفر لديهم أرضيات مستعدّة لقبول الحق، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج وسلّموا أمام الحقائق.
1 ـ وعلى هذا الأساس فإن جملة «لتنذر» تتعلق بـ «أنزل» وليس بجملة «فلا يكن» ولعل جعل هذه الجملة (أي جملة لتنذر) بعد جملة «فلا يكن في صدرك حرج» لأَجل أنّه يجب أوّلا إعداد النّبي في طريق الدعوة، ثمّ إقتراح الهدف وهو الإِنذار عليه (تأمل جيداً).
وقد جاءت هذه العبارة بعينها في مطلع سورة البقرة إِذا يقول تعالى: (ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هدىً للمتقين) (وللمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية 2 من سورة الحمد).
ثمّ إِنّه سبحانه يوجه خطابه إِلى عامّة الناس يقول: (اتبعوا ما أُنزل إِليكم من ربّكم) وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومهمّته ورسالته، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.
وللتأكيد يضيف سبحانه قائلا: (ولا تتبعوا من دونه أولياء) فلا تتبعوا غير أوامر الله، ولا تختاروا ولياً غير الله.
وحيث إِنّ الخاضعين للحق والمذكرين قليلون، لذا قال في ختام الآية: (قليلا ما تذكّرون).
ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإِنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية الله وقيادته، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين، فإِذا سلك الطريق الأوّل كان الله وليَّه، وأمّا إِذا دخل تحت ولاية الآخرين فإِن عليه ـ حينئذ ـ أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب، وأن يختار ربّاً جديداً.
وكلمة «الأولياء» التي هي جميع «ولي» إِشارة إِلى هذا المعنى.
* * *
وَكَم مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـتاً أَوْهُمْ قَآئِلُونَ(4)فَمَا كَانَ دَعْوَهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـلِمِينَ(5)
هاتان الآيتان تشيران إِلى العواقب المؤلمة التي تترتب على مخالفة الأوامر التي تمّ بيانها في الآيات السابقة، كما أنّهما تعدّان ـ في الواقع ـ فهرستاً إِجمالياً عن قصص الأقوام المتعددة أمثال نوح، وقوم فرعون، وقوم عاد وثمود، وقوم لوط التي ستأتي فيما بعد.
إِنّ القرآن الكريم يحذر وينذر بشدّة في هذه الآية كل أُولئك الذين يتمردون على تعاليم الأنبياء ويقومون بزرع الفجور والفساد بدل إِصلاح أنفسهم وإِصلاح الآخرين، بأن يتدبروا قليلا في حياة الأقوام السالفة وينظروا كم من قرية عامرة أبادَها الله، وأهلك سكانها الفاسقين: (وكم من قرية أهلكناها).
ثمّ يبيّن كيفية هلاكهم بأنّ العذاب الأليم جاءهم في منتصف الليل وهم يقضون ساعات الراحة والسكون، أو في وسط النهار وهم يمضون لحظات الاستراحة والإِسترخاء بعد رحلة من العمل والنشاط اليومي الدّائب: (فجاءها
بأسنا بياتاً أو هم قائلون).
ثمّ يواصل الحديث في الآية اللاحقة هكذا: (فما كان دعواهم إِذ جاءهم بأسنا إِلا أن قالوا إِنّا كنّا ظالمين) فعندما يتورّطون في البلاء، وتتحطم حياتهم بعواصف الجزاء يتركون كبرياءهم ونخوتهم وينادون معترفين بظلمهم: إِنّا كنّا ظالمين.
إنّ ها هنا نقاطاً عديدة ينبغي الإلتفات إليها:
1 ـ «القرية» مأخذوة أصلا من «قرى» (على وزن نهى) وهي تعني الإِجتماع، وحيث إِنّ القرية مركز لإِجتماع أفراد البشر أُطلق عليها هذا الاسم.
من هنا يتّضح أن القرية لا تعني الرستاق فقط، بل تشمل كل موضع عامر اجتمع فيه أفراد البشر، وقد أُطلقت هذه اللفظة ـ في كثير من آيات القرآن الكريم ـ على المدينة، أو أية منطقة عامرة مدينة كانت أو رستاقاً.
و«قائلون» اسم فاعل من «القيلولة» بعنى النوم في نصف النهار، وأصله الراحة، ولهذا يقال الإِقالة في البيع لأنّه الإِراحة منه بالإِعفاء من عقده.
و«البيات» أي عند الليل.
2 ـ إِنّ ما نقرؤه في هذه الآيات من أنّ عقاب الله تعالى وعذابه يصيب الظالمين ليلا، أو عند منتصف النهار، لأجل أن يذوقوا طعم العذاب والجزاء، وذلك عندما تنهدم راحتهم وسكونهم به انهداماً كاملا، كما سبق لهم أن هدموا راحة الآخرين وسكونهم وعكروا صفوهم، وبهذا يكون جزاؤهم مناسباً لذنبهم ومن جنسه.
3 ـ يستفاد من الآية الحاضرة أيضاً أن جميع الأقوام العاصية الجانية عندما تواجه العقاب، وتنكشف عن عيونها أغطية الغفلة والغرور، وتعترف ـ برمتها ـ
بذنوبها، ولكن لا يجديها مثل هذا الاعتراف، لأنّه نوع من الاعتراف «الجبري والإِضطراري» الذي يضطرّ إِليه حتى أشد الناس غروراً.
وبعبارة أُخرى; إِنّ هذه اليقظة نوع من اليقظة الكاذبة والعابرة وغير المؤثرة التي لا تحمل أية علامة من علامات الإِنقلاب والتحوّل الروحي، بِهذا لا يكون لها أية نتيجة ... نعم، إِذا كانوا يظهرون هذه الحقيقة في حالة الإِختيار والحرية كان ذلك دليلا على انقلابهم الروحي وسبباً لنجاتهم.
4 ـ من المباحث المطروحة عند المفسّرين في مجال الآية الحاضرة هو: لماذا قال القرآن أوّلا: (أهلكناها) ثمّ أعقب هذه الجملة بجملة أُخرى مبدوءة بفاء التفريع التي هي عادة للترتيب الزماني فقال: (فجاءها بأسنا بياناً) في حين أن مثل هذا العقاب (أي مجيّ البأس بياتاً) كان قبل الهلاك لا بعد الهلاك.
ولكن يجب أن نعلم أنّ الجملة المبدوءة بالفاء قد تكون شرحاً وتفصيلا للجملة السابقة لا لبيان حادثة أُخرى، وفي المقام أشار أوّلا إِلى موضوع الإِهلاك على نحو الإِجمال، ثمّ عمد إِلى شرح هذا الموضوع المجمَل بقوله: (فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون فما كان دعواهم إِذ جاءهم بأسنا إِلاّ أن قالوا إِنّا كنّا ظالمين). ولهذا في الأدب العربي نظائر كثيرة.
5 ـ إِنّ هذا النوع من الآيات يجب أن لا تعتبر شرحاً لقصص الأُمم الغابرة، وبالتالي ممّا يرتبط بالزمن الغابر والأمم الماضية فقط.
إِنّ هذه الآيات تحذيرات صاعقة لهذا العصر وما يليه من العصور، لنا وللأُمم والأقوام القادمة، لأنّه لا معنى للتبعيض في السنة الإِلهية.
والإِنسان المسلح بالتكنولوجيا المتقدمة مع كلّ ما أُوتي من قوّة هو الآخر عاجز أمام الزلازل والعواصف، وأمام السيول والأمطار الغريزة، تماماً مثل عجز الأُمم ما قبل التّأريخ وضعفها.
وعلى هذا فليست مثل تلك العواقب السيئة والأليمة التي أصابت ظَلَمة
الأمم الغابرة، وجباريها، وحلّت بالمغرورين والفسقة والمتمردين ليلا وحطمتهم، ببعيدة عن الإِنسان الحاضر. بل إِنّ قوة الإِنسان المعاصر وقدراته الكبرى يمكن أن تكون مصدر بلاء عظيم له، وتجرّه إِلى أحضان حروب مدَمِّرة لا تنتج سوى فناء جيله، ألا يجب أن نعتبر بهذه الحوادث ونستيقظ من نوم الغفلة!؟
* * *
![]() |
![]() |
![]() |