![]() |
![]() |
![]() |
ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و«الظّالم» أُخرى و«الفاسق» ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله، ولعل هذا التنوع في اطلاق صفات مختلفة إِنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة:
أحدها: ينتهي بالمشرع الذي هو الله.
والثّاني: يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).
الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.
أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إِشارة إِلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإِلهي وتجاهله، فيكون قد كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله ـ على انسان برىء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ «الفسق» كما أوضحنا، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).
* * *
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِـمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)
تشير هذه الآية إِلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.
وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف اشرافاً كاملا، ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: (وأنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ مصدقاً
لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...).
فالقرآن بالإِضافة إِلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل ـ أيضاً ـ على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.
إِنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادىء والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإِنسان والسمو به إِلى مراتب الكمال المعنوي والمادي، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإِنسان، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإِنسان إِلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإِنساني، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطوراً، والإِتيان بعبارة: (مهيمناً عليه) بعد جملة (مصدقاً لما بين يديه) يدل على هذه الحقيقة، أي أنّ القرآن في الوقت الذي يصدّق الكتب السابقة، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.
ثمّ تؤكّد على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقاً من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول (فاحكم بينهم بما أنزل الله ...).
وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية، فتدلّ على شمولية أحكام الإِسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأُخرى، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم، لأنّ هذه الآية ترشد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إِن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إِلى أنّ عليه أن يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم.
ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإِلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: (ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ ...).
ولأجل اكمال البحث تشير الآية إِلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام
للحياة يهديها إِلى السبيل الواضح، حيث تقول: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ...).
وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إِلى الماء وينتهي به، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإِنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.
نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و«المنهاج» هو أنّ الاُولى تطلق على كل ما ورد في القرآن، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سُنّة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) (وهذا الفرق مع كونه جميلا، إلاّ أنّنا لا نملك دليلا جازماً لتأييده)(1).
ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أُمّة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: (ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ...).
وجملة (ليبلوكم فيما آتاكم ...) إِشارة إِلى ما قلناه سابقاً من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الإِختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء، فعندما يطوي بنو الإِنسان مرحلة معينة، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أُخرى على يد نبي آخر، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته.
1 ـ يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و«الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمباديء الأُخرى المشتركة بين جميع الديانات، لذلك يكون الدين واحداً في كل الأحوال والأزمنه، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحياناً بين ديانة وأُخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضاً ـ دليلا واضحاً يؤيد هذا القول، لأن هاتين الكلمتين أستخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد.
بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إِلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الإِختلاف والتناحر، حيث تقول: (فاستبقوا الخيرات) مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إِلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: (إِلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
* * *
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِـمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّـمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَـسِقُونَ(49) أَفَحُكْمَ الْجَـهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ(50)
نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله: أنّ رهطاً من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إِلى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بغية حرفِهِ عن الإِسلام، فذهبوا إِليه(صلى الله عليه وآله وسلم) وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود، وأنّهم إِن اتبعوه(صلى الله عليه وآله وسلم) اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود، وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أُخرى نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم، ووعدوه أنّه إِن استجاب لأمرهم يؤمنوا به، فامتنع النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) عن إِصدار حكم غير عادل، فنزلت الآية المذكورة(1).
1 ـ تفسير المنار، ج 6، ص 421.
تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام الله، وأن لا يستسلم لأهواءهم ونزواتهم، فتقول: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ...).
والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.
ثمّ تحذر الآيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن شرعة الحقّ والعدل، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم، حيث تقول: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إِليك ...).
وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الإِسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ هؤلاء الكتابيين إِن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية: (فإن تولوا فاعلم إِنّـما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ...).
وسبب ذكر «بعض الذنوب» لا كلّها، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها، والباقي منها يوكّل أمرها إِلى العالم الثّاني، أي بعد الموت.
ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء، ويحتمل أن تكون إِشارة إِلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها، ممّا اضطرهم إِلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعاً من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة، لأنّ
الحرمان من التوفيق يعتبر ـ بحد ذاته ـ نوعاً من العقاب، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإِصرار على الذنب، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.
وتشير الآية في النهاية إِلى أنّ إِصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النّبي، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق، أي أنّهم فاسقون، حيث تقول الآية: (وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون).
سؤال:
يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الإِنحراف عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والعياذ بالله، وأن الله يحذره من ذلك، فهل أنّ هذا الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟
الجواب:
إِنّ العصمة لا تعني مطلقاً استحالة صدور الخطأ من المعصوم، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل، ومعنى العصمة هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إِلاّ أنّهم لا يرتكبون الذنب أبداً وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشىء عن التنبيه والتحذير والتذكير الإِلهي للمعصوم، أي أن التنبيه الإِلهي يعتبر جزءاً من عامل العصمة لدى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والذي يحول دون ارتكاب الخطأ، وسنبادر إِلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء ـ بتفصيل أكثر ـ عند تفسير آية التطهير (الآية 33 من سورة الأحزاب باذن الله).
أمّا الآية الأُخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري: هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية: (أفحكم
الجاهلية يبغون ...).
لكنّ أهل الإِيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله، حيث تتابع الآية قولها: (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).
ولقد بيّنا ـ عند تفسير الآيات السابقة ـ أن نوعاً من التمايز الغريب كان يسود الأوساط اليهودية بحيث لو أن فرداً من يهود بني قريظة قتل فرداً من يهود بني النضير لتعرض للقصاص، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في القاتل، وقد شمل هذا التمايز المقيت ـ أيضاً ـ حكم الغرامة والدية عند هؤلاء، فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة، ولا يأخذونها من جماعة أُخرى، أو يأخذون أقل من الحدّ المقرر، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره من أحكام الجاهلية، في حين أنّ الأحكام الإِلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق دون أي تمايز.
وجاء في كتاب «الكافي» عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «الحكم حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية»(1).
وهكذا يتّضح أنّ أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام والقوانين الإِلهية السماوية إنّـما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.
* * *
1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 640.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـرَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَيَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْر مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَآ أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَـدِمِينَ(52) وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَـؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ إِنَّهُمْ لَـمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَـسِرِينَ(53)
نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد غزوة بدر وذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة وعدد، وأكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم ومن عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب، وقال بأنّه يريد أن يكون حليفاً لله ولنبيه دون سواهما، أمّا عبد الله بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود، واعتذر بأنّه يخشى المشاكل وادعى أنّه يحتاج إِلى اليهود.
وأظهر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خشيته على عبادة وعبدالله من صداقة اليهود مشيراً إِلى أنّ خطر صداقة اليهود على عبدالله أكبر من خطرها على عبادة بن صامت، فقال عبدالله بأنّه مادام الأمر كذلك فإنّه سيتخلى عن صداقته وعهده مع اليهود، فنزلت الآيات الأخيرة وهي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى.
لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين ـ بشدّة ـ من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الاُولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإِعتماد عليهم (أي أنّ الإِيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ...).
وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و«التحالف» و«الإِشراف».
لكن بالنظر إِلى سبب النّزول والقرائن الأُخرى الموجودة، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الإِعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.
وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، وكان يطلق على ذلك «الولاء».
والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إِشارة إِلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون
بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنّهم اتّحدوا معاً ـ لا بأمر من كتابيهم ـ بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك.
بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأن هاتين الطائفتين إِنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول: (بعضهم أولياء بعض) أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط، ولا يعيران اهتماماً لمصالح المسلمين، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفاً مع هؤلاء فإِنّه سيصبح من حيث التقسيم الإِجتماعي والديني جزءاً منهم، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها: (ومن يتولهم منكم فإِنّه منهم).
وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم واخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإِسلام تقول الآية: (إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين).
وتشير الآية التّالية إِلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إِن أصبحت القدرة يوماً في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)(1).
ويذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة رداً على تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوماً بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا ـ أيضاً ـ أن ينصر الله
1 ـ إنّ كلمة (دائرة) مشتقة من المصدر (دور) أي الشيء الذي يكون في حالة دوران، وبما أن القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّأريخ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة ـ أيضاً ـ على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.
المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).
ويشتمل هذا الجواب القرآني ـ في الحقيقة على جانبين:
أوّلهما: أنّ أفكاراً كهذه إِنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم وأصبحوا يسيئون الظن بالله، ولو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.
أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك، إِذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود والنصارى يقابله ـ بالضرورة ـ احتمال آخر وهو انتصار المسلمين واستلامهم لمقاليد الأُمور، وبهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أُولئك أو الإِعتماد عليهم.
وعلى أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسى) التي لها مفهوم الإِحتمال والأمل، تبقى في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل الله للمسلمين، وهذا ما لا يتلائم وظاهر كلمة (عسى) البتة.
أمّا المراد من جملة (أو أمر من عنده) التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين ـ في المستقبل ـ إمّا أن يتغلبوا وينتصروا على أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إِلى درجة يضطر بعدها الأعداء إِلى الخضوع والإِستسلام للمسلمين دون الحاجة إِلى الدخول في حرب.
وبتعبير آخر: كلمة (الفتح) تشير إِلى الإِنتصار العسكري للمسلمين، وأنّ جملة (أمر من عنده) إِشارة إِلى الإِنتصارات الإِجتماعية والإِقتصادية وما شابه ذلك.
إِنّ بيان هذا الإِحتمال من قبل الله سبحانه وتعالى، مع كونه ـ عزّ وجلّ ـ عالماً بجميع ما سيحصل في المستقبل، يدل على أنّ الآية تشير إِلى الإِنتصارات العسكرية والإِجتماعية والإِقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.
وتشير الآية في الختام إِلى مصير عمل المنافقين، وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون ـ بدهشة ـ: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أُولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوى ويحلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إِلى هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد ايمانهم أنّهم لمعكم...)(1).
إِنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين ـ سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معاً ـ حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين).
والجملة الأخيرة تشبه ـ في الحقيقة ـ جواباً لسؤال مقدر، وكأن شخصاً يسأل: ماذا سيكون مصير هؤلاء؟
فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح، وستطوقهم الخسارة من كل جانب، أي أنّ هؤلاء ـ حتى لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم باخلاص ونية صادقة ـ فهم لا يحصلون على أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لإنحرافهم صوب النفاق والشّرك بعد ذلك: وقد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (217) من سورة البقرة.
1 ـ في هذه الآية تكون كلمة «هؤلاء» مبتدأ وخبرها جملة «الذين أقسموا بالله» أمّا جملة «جهد إِيمانهم» فهي مفعول مطلق.
على الرّغم من أنّ الواقعة ـ التي ذكرت سبباً لنزول الآيات الأخيرة ـ تحدثت عن شخصين هما (عبادة بن الصامت» و«عبدالله بن أبي» إِلاّ أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إِليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين ـ فحسب ـ بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين واجتماعيين. يدعو أحدهما إِلى التخلي عن التعاون والتحالف مع الغرباء، وعدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، وعدم الثقة بتعاونهم.
والمذهب الآخر يرى أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل والأهوال يحتاج إِلى من يتكيء ويعتمد عليه، وأن الحاجة تدعو أحياناً إِلى انتخاب الدّعم والسند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة وفائدة، ولابدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.
وقد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة، وحذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع والتورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن البعض من المسلمين ـ ومع الأسف ـ قد نسوا وتجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم، فانتخبوا من بين الغرباء والأجانب من يعتمدون عليهم، وقد أثبت التّأريخ أن كثيراً من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الإِتجاه الخاطىء!
وبلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّاً وبارزاً على هذا الأمر، وتظهر كيف أن المسلمين بالإِعتماد على قواهم الذاتية ـ استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهاراً في الأندلس ـ أسبانيا اليوم ـ لكنّهم نتيجة لإِعتمادهم على قوى غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.
والأمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف، تعتبر دليلا آخر على هذه الدعوى.
كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد على ما أصاب المسلمين من خسائر ومصائب كبيرة بسبب إنحرافهم عن رسالتهم واعتمادهم في كثير من الأُمور على الأجانب
الغرباء، والعجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإِسلامي، ولم توقظه بعد الكوارث والنكبات التي أصابته بسبب اعتماده على القوى الأجنبية.
على أي حال فإن الأجنبي أجنبي، ومهما اشترك معنا في المصالح وتعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة، وكثيراً ما تنالنا منه ـ أيضاً ـ ضربات مؤثرة.
وما على المسلمين اليوم إِلاّ أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضى إِلى هذا النداء القرآني ولا يعتمدوا على أحد سوى الله وقواهم الذاتية التي وهبها الله لهم.
لقد إهتمّ نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً بهذا الأمر، حتى أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة (أُحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين، فأعادهم النّبي إِلى حيث كانوا ولما يصلوا إِلى منتصف الطريق، وامتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دوراً مؤثراً في واقعة أُحد، فلماذا رفضهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟
لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه ويخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات وأكثرها خطورة أثناء الحرب، ويتحولوا إِلى التعاون مع العدوّ ويقضوا على ما تبقى من جيش المسلمين في ذلك الوقت.
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَـفِرِينَ يُجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ(54)
بعد الإِنتهاء من موضوع المنافقين، يأتي الكلام ـ في هذه الآية الكريمة ـ عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإِسلامي الحنيف، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل انذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر الله بارتداده هذا أبداً، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإِسلامي أو تقدمه السريع، لأنّ الله كفيل بإِرسال من لديهم الإِستعداد في حماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم ...).
ثمّ تتطرق الآية إِلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحملون مسؤولية الدفاع العظيمة، وتبيّنها على الوجه التّالي:
1 ـ إِنّهم يحبّون الله ولا يفكرون بغير رضاه، فالله يحبّهم وهم يحبّونه، كما تقول الآية: (يحبّهم ويحبّونه).
2 و3 ـ يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشداء أقوياء أمام الأعداء الظالمين ـ حيث تقول الآية: (أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين ...).
4 ـ إِنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل الله، إِذ تقول الآية: (يجاهدون في سبيل الله).
5 ـ وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنّهم لا يخافون لومَ اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر الله والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: (ولا يخافون لومة لائم ...) فهؤلاء بالإِضافة إِلى امتلاكهم القدرة الجسمانية، يمتلكون الجرأة والشّجاعة لمواجهة التقاليد الخاطئة، والوقوف بوجه الأغلبية المنحرفة التي اعتمدت على كثرتها في الإِستهزاء بالمؤمنين.
وهناك الكثير من الأفراد المعروفين بصفاتهم الطيبة، لكنّهم يبدون الكثير من التحفظ أمام الفوضى السائدة في المجتمع وهجوم الأفكار الخاطئة لدى سواد الناس أو من الأغلبية المنحرفة، ويتملكهم الخوف والجبن، وسرعان ما يتركون الساحة ويخلونها للمنحرفين، في حين أنّ القائد المصلح ومن معه من الأفراد بحاجة إِلى الجرأة والشهامة لتطبيق أفكارهم واصلاحاتهم. وعلى عكس هؤلاء فالذين لا يمتلكون هذه الصفات الروحية الرفيعة، يقفون سدّاً وحائلا دون حصول الإِصلاحات المطلوبة.
وتؤكّد الآية في الختام ـ على أنّ إكتساب أو نيل مثل هذه الإِمتيازات السامية (بالإِضافة إِلى الحاجة لسعي الإِنسان نفسه) مرهون بفضل الله الذي يهبها لمن يشاء، ولمن يراه كفؤاً لها من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ...).
وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل الله وكرمه واسع، وهو يعرف الأفكاء والمؤهلين من عباده، وكما تقول الآية: (والله واسع عليم).
لقد نقلت الرّوايات الإِسلامية التي أوردها المفسّرون أقوالا كثيرة حول هوية الأشخاص المعنيين بهذه الآية، فمن هم أنصار الإِسلام هؤلاء الذين مدحهم الله بهذه الصفات؟
في الكثير من الرّوايات الواردة عن طرق الشيعة والسنة نقرأ أن هذه الآية نزلت في حقّ (علي بن أبي طالب(عليه السلام)) وقتاله للناكثين والقاسطين والمارقين (مثيري حرب الجمل، وجيش معاوية، والخوارج)، وممّا يدل على ذلك قول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين رأى عجز قادة جيش الإِسلام عن فتح حصن خيبر، حيث وجه(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم الخطاب في إِحدى الليالي وفي مقر جيش الإِسلام قائلا: «لأُعطين الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده»(1).
ونقرأ في رواية أُخرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن هذه الآية فوضع(صلى الله عليه وآله وسلم) يده الشريفة على كتف «سلمان» وقال ما مضمونه: «هذا وأنصاره وبني قومه ...» وبذلك تنبّأ النّبي عن اسلام الإِيرانيين وجهودهم ومساعيهم المثمرة في خدمة هذا الدين في المجالات المختلفة، ثمّ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لو كان الدين (وفي رواية أُخرى ـ لو كان العلم ـ) معلقاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس»(2).
وذكرت روايات أُخرى أن هذه الآية نزلت في شأن أنصار المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذين سيواجهون الإِرتداد والمرتدين بكل قوّة
1 ـ وقد ورد في تفسير (البرهان) و(نورالثقلين) العديد من الرّوايات منقولة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المجال، كما نقل (الثعلبي) وهو أحد علماء السنة هذه الرّوايات (راجع كتاب إِحقاق الحق، ج 3، ص 200).
2 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 208 ـ نورالثقلين، ج 1، ص 642 ـ أبو نعيم الأصفهاني في الحلية، ج 6، ص 64 نقلوا هذا الحديث على الوجه التالي: «لو كان العلم منوطاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» أمّا ابن عبد البر فقد نقل الحديث على الصورة التّالية: «لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان ...» وذلك في الإِستيعاب، ج 2، ص 577.
وحزم، ويملؤون العالم قسطاً وعدلا وإيماناً.
وممّا لا شك فيه أنّه لا تناقض بين هذه الرّوايات الواردة في تفسير الآية الأخيرة، لأنّ الآية ـ جرياً على أسلوب القرآن الكريم ـ تبيّن مفهوماً كلياً عاماً، بحيث تعتبر «علي بن أبي طالب(عليه السلام)» أو «سلمان الفارسي» مصداقين مهمين ضمن هذا المفهوم الذي يشمل أفراداً آخرين يسيرون على نفس النهج، حتى لو لم تتطرق الرّوايات إِلى أسمائهم.
إِنّ الأمر الذي يثير الأسف في هذا المجال، هو تدخل العصبيات الطائفية والقومية في تفسير هذه الآية، والتي أدخلت أفراداً لا يمتلكون أي كفاءة ولا يتمتعون بأي من الصفات المذكورة ضمن مصاديق هذه الآية واعتبرتهم ممّن نزلت الآية في شأنهم، ومن هؤلاء الأفراد «أبو موسى الأشعري» الذي ارتكب تلك الحماقة التّأريخية المعروفة التي دفعت بالإِسلام نحو هاوية السقوط، ووضعت أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في أحرج موقف(1).
والغريب في هذا الأمر هو انتقال آثار التطرف الذي نلاحظه في الكتب العلمية ـ بشكل رهيب ـ إِلى سواد الناس، بل إِلى متعلميهم، وكأن هناك يداً خفية تسعى ال تشتيت صفوف المسلمين، وتحول دون اتحاد كلمتهم، وقد سرى هذا التطرف ليشمل تاريخ ما قبل الإِسلام، بحيث نرى هؤلاء المتطرفين وقد سمّوا شارعاً فخماً يقع بجوار بيت الله الحرام باسم «أبي سفيان» وهذا الشارع هو أكبر وأفخم بكثير من شارع «إِبراهيم الخليل(عليه السلام)» مؤسس الكعبة الشريفة.
وأخذ أمثال هؤلاء المتطرفين يصمون كثيراً من المسلمين وبكل بساطة بالشرك، لا لشيء إِلاّ لأنّ تحرك هؤلاء المسلمين لا يتفق مع أهوائهم وطريقتهم
1 ـ تفسير الطبري، ج 6، ص 184 ـ إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت فقط «قوم أبي موسى» للإِشارة إِلى أهل اليمن الذين هبوا لنصرة الإِسلام في أحرج اللحظات، واستثنى أبو موسى تلميحاً إِلى قومه، بينما تصرح الرّوايات الأُخرى بأن (سلمان الفارسي) وقومه هم المشمولون بهذه الآية.
![]() |
![]() |
![]() |