2 ـ أصل «الجن» ستر الشيء عن الحاسة، فمعنى الآية هو: عندما ستر الليل ملامح الكائنات عن إِبراهيم ... وإِطلاق كلمة «مجنون» على المخبول لإِسدال ستار على عقله، وإِطلاق «الجن» على الكائنات غير المرئية جاء من هذا الباب، وكذلك الجنين لإِختفائه عن الأنظار في رحم أُمه، و«الجنّة» هي البستان التي أُختفت أرضها تحت أغصان الأشجار، وقيل للقلب «الجنان» لإِستتاره في الصدر، أو لأنّه يخفي أسرار الإِنسان.

3 ـ وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إِبراهيم، ذهب المفسّرون مذاهب شتى، غير أنّ معظمهم يراه «الزهرة» أو «المشتري» ويذكر التّأريخ أنّ القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أمّا الحديث المنقول عن الإِمام الرضا(عليه السلام)في «عيون الأخبار» فيقول: إِنّ ذلك الكوكب كان «الزهرة»، وهذا ما جاء أيضاً في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام)(1).

يقول بعض المفسّرين أنّ أهالي كلدة وبابل شرعوا في محاربة عبدة الأصنام، وراحوا يختارون السيارات باعتبار كل واحدة منها تمثل إِلهاً لنوع من أنواع الأشياء من ذلك أنّهم اعتبروا «المريخ» إِله الحرب، و«المشتري» إِله العدل والعلم، و«عطارد» إِله الوزراء و«الشمس» ملك الآلهة جميعاً(2).

4 ـ «بازغ» من «بزغ» وبزغه: شقه وأسال دمه، ولذلك تطلق على عمل


1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 735 و737.

2 ـ تفسير أبي الفتوح، ج 4، ص 467 ـ الهامش ـ .

[354]

البيطار في الجراحة، وإِطلاق هذه الكلمة على طلوع الشمس أو القمر تعبير بليغ يحمل أجمل صور التشبيه، فالشمس والقمر عند الطلوع يشقان الظلام، ويسكبان عند الأُفق إِحمرار الشفق الذي ليس ببعيد الشبه عن الدم المسفوح.

5 ـ «فطر» من «الفطور» بمعنى الشق، ولعل إِطلاق هذه الكلمة على خلق السماء والأرض ناشىء ـ كما قلنا في تفسير الآية (14) من هذا السورة ـ من كون العالم كان في اليوم الأوّل حسبما يقول العلم اليوم ـ كتلة واحدة، ثمّ تشققت وظهرت الكرات والإِجرام السماوية الواحدة بعد الأُخرى (انظر تفسير الآية المذكورة لمزيد من الإِيضاح).

6 ـ «الحنيف» هو الخالص، كما جاء في تفسير الآية (67) من سورة آل عمران.

* * *

[355]

الآيات

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَـجُّونِّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَنِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزَّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيَمـنَهُم بِظُلْم أَوْلَـئِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـت مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)

التّفسير

تعقيباً على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إِبراهيم(عليه السلام)التوحيدية، تشير هذه الآيات إِلى ما دار بين إِبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة (وحاجه قومه).

فردّ عليهم إِبراهيم(عليه السلام) قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إِلى

[356]

طريق التوحيد (قال أتحاجوني في الله وقد هدان).

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إِبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إِبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إِلى عبادة الأصنام، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.

لا تشير هذه الآيات إِلى المنطق الذي توسل به قوم إِبراهيم لحمله على ترك عقيدته، ولكن يبدو من جواب إِبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإِرعابه وإِخافته، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إِبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه (ولا أخاف ما أشركتم به...) فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إِلاّ إِذا شاء الله: (إِلاّ أن يشاء ربّي شيئاً)(1).

يظهر من هذه الآية أنّ إِبراهيم(عليه السلام) سعى لإِتخاذ إِجراء وقائي تجاه حوادث محتملة، فيؤكّد أنّه إِذا أصابه في هذا الصراع شيء ـ فرضاً ـ فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام، بل يعود إِلى إِرادة الله، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره.

ويضيف إِلى ذلك مبيناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء: (وسع ربّي كل شيء علماً).

هذه العبارة ـ في الواقع ـ دليل على العبارة السابقة التي تقول: إِنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ، إِنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء هو وحده القادر على أن يكون منشأ النفع والضرر، فلم إِذن أخشى غضب غير الله؟!

ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: (أفلا تتذكرون).


1 ـ هذا أشبه بالإِستثناء المنقطع، فقد نفى عن الأصنام كلّ قدرة على النفع والضرر، وأثبتها لله، وللمفسّرين آراء أُخرى في تفسير هذه الآية، غير أن ما قلناه أقرب.

[357]

في الآية التّالية ينهج إِبراهيم منطقاً استدلالياً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإِدراك والشعور والقوة والعلم، أمّا أنتم فعلى الرغم من إِيمانكم بوجود الله وإِقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فانّكم لا تخافون غضبه: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً)(1).

إِنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السموات والأرض، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده، كونوا منصفين إِذن وقولوا: (فأي الفريقين أحق بالأمن إِن كنتم تعلمون).

يستند منطق إِبراهيم(عليه السلام) هنا إِلى منطق العقل القائم على الواقع، إِنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهمٌ من الأوهام، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إِلينا أمراً بعبادة الأصنام.

في الآية التّالية جواب يدلي به إِبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إِلى الإِجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص)، يقول: إِنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إِيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

ثمّة رواية عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) تؤيد كون هذه الآية إِستكمالا لحوار


1 ـ «السلطان» بمعنى التفوق والإِنتصار، ولما كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإِنتصار، فقد يوصفان بالسلطان أيضاً، كما هو الحال هنا، أي لا وجود لأي دليل على السماح بعبادتها وهذا ما لم يستطع إِنكاره عابد صنم، لأنّ أمراً كهذا ينبغي أن يصدر عن طريق العقل والمنطق، أو عن طريق الوحي والنبوة، وعبادة الأصنام مفتقرة إِلى كليهما.

[358]

إِبراهيم مع عبدة الأصنام(1).

بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بياناً إِلهياً، وليست مقولة قالها إِبراهيم، إِلاّ أن ما ذكرناه ـ فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له ـ أكثر إِنسجاماً مع ترتيب الآيات ووضعها، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إِبراهيم، فأمر بعيد الإِحتمال جدّاً.

ما معنى «الظلم» هنا؟

يرى معظم المفسّرين أنّ معنى «الظلم» هنا هو «الشرك». وأنّ الآية (12) من سورة لقمان: (إِنّ الشّرك لظلم عظيم) دليل على ذلك.

وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعاً)، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إِلى ما قال العبد الصالح:  (... يا بني لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم)(2).

غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل، وهذا الإِحتمال جائز في هذه الآية أيضاً، فيحتمل أن يكون «الأمن» عاماً يشمل الأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معاً: الإِيمان والعدالة الإِجتماعية، فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة الإِجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان. لذلك فعلى الرغم من


1 ـ تفسير مجمع البيان في تفسير الآية.

2 ـ المصدر السابق.

[359]

المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون إِنعدام الأمن، فإِنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والإِستقرار تتسع يوماً بعد يوم إِنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإِيمان، وقيام الظلم مقام العدالة.

إِنّ تأثير الإِيمان في الإِطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إِنكاره، كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب إِرتكاب المظالم.

روي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم) قال: «بما جاء به محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان»(1).

هذا التّفسير يستهدف ـ في الحقيقة ـ بيان روح الموضوع في الآية الشريفة، إِذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بموجب (إِنّما وليكم الله ورسوله ...) قبساً من ولاية الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإِنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إِنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.

لذلك نجد في حديث آخر عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان(2).

الآية التّالية فيها إِشارة إِجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إِبراهيم: فتقول:(وتلك حجّتنا آتيناها إِبراهيم على قومه).

صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إِليها إِبراهيم بقوّة العقل


1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 740.

2 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 538.

[360]

والإِلهام الفطري غير أن قوة العقل والإِلهام الفطري من الله، لذلك فإِنّ الله ينسبها إِلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إِبراهيم(عليه السلام).

ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك» اسم إِشارة للبعيد، غير أنّها تستعمل أحياناً للقريب للدلالة على أهمية المشار إِليه وعلو مقامه، مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه).

ثمّ تقول الآية: (نرفع درجات من نشاء)(1) ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إِعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إِن الله متصف بالحكمة وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: (إِنّ ربّكم حكيم عليم).

* * *


1 ـ أنظر المجلد الثّالث، تفسير الآية (145) من سورة النساء لمعرفة الفرق بين «الدرجة» و«الدرك».

[361]

الآيات

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ(84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَآسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّـلِحِينَ(85) وَإِسْمَـعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـلَمِينَ(86) وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّـتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَـهُمْ وَهَدَيْنَـهُمْ إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(87)

التّفسير

في هذه الآيات إِشارة إِلى النعم التي اسبغها الله على إِبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإِلهية العظيمة.

يقول سبحانه: (ووهبنا له إِسحاق ويعقوب) ولم تذكر الآية ابن إِبراهيم الآخر إِسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود إِلى أنّ ولادة إِسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

ثمّ يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرّد كونهما ولدي نبي، بل لإِشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: (كلاًّ هدينا).

[362]

ثمّ لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إِبراهيم، وأنّ التوحيد بدأ بإِبراهيم، يقول: (ونوحاً هدينا من قبل).

إِنّنا نعلم أن نوحاً هو أوّل أُولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

فالإِشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإِشارة إِلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إِنّما هي توكيد لمكانة إِبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و«الذّرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أُسرة إِبراهيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون)، ثمّ يبيّن أن منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم: (وكذلك نجزي المحسنين).

هناك كلام كثير بين المفسّرين بشأن الضمير في (ومن ذرّيته) هل يعود إِلى إِبراهيم، أم إِلى نوح؟ غير أنّ أغلبهم يرجعه إِلى إِبراهيم، والظاهر أنّه لا مجال للشك في عودة الضمير إِلى إِبراهيم، لأنّ الكلام يدور على ما وهبه الله لإِبراهيم، لا لنوح(عليهما السلام)، كما أنّ الرّوايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.

النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسّرين إِلى إِرجاع الضمير إِلى نوح هي ورود ذكر «يونس» و«لوط» في الآيات التّالية، إِذ المشهور في التّأريخ أنّ «يونس» لم يكن من أبناء إِبراهيم، كما أنّ «لوطاً» كان ابن أخي إِبراهيم أو ابن أُخته.

غير أنّ المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب «يونس»، فبعضهم يراه من أُسرة إِبراهيم(1) وآخرون يرونه من أنبياء بني إِسرائيل(2).

ثمّ إِنّ الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب، ولكن ما


1 ـ تفسير الآلوسي، ج 7، ص 184.

2 ـ دائرة المعارف فريد وجدي، ج 10، ص 1055 في مادة «يونس».

[363]

الذي يمنع من أن ينتسب «يونس» من جهة أُمّه إِلى إِبراهيم، كما هي الحال بالنسبة إِلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟

أمّا «لوط» فهو، وإِن لم يكن من أبناء إِبراهيم، فقد كان من أُسرته، فالعرب تطلق لفظة «لأب» على «العم»، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأُخت من «ذرية» المرء. وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إِلى نوح، وهو ليس موضوع القول هنا.

في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعاً كانوا من الصالحين، أي أنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإِجبارية، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين).

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإِلهيين، وهم إِسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربّهم درجات على أهل زمانهم: (وإِسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين).

لم يتفق المفسّرون بشأن اسم «اليسع» فقد قال بعض: إِنّه اسم عبري أصله «يوشع» ثمّ أُضيفت إِليه الألف وللام وأبدلت الشين سيناً، وبعض يرى أنّه اسم عربي من الفعل المضارع «يسع» وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل إِبراهيم.

وفي الآية الأخيرة إِشارة عامّة إِلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإِخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعاً من الصالحين الذين هداهم الله: (ومن أبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم).

* * *

[364]

ملاحظات

هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:

1 ـ أبناء النّبي:

في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إِبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع انّنا نعلم أنّ اتصاله بهما إِنّما هو من جهة الأُم، وهذا دليل على أنّ سلسلة النسب تتقدم من جهة الأب والأُم تقدماً متساوياً، ولذلك فإِنّ الأحفاد من الابن أو البنت هم ذرية المرء وأولاده.

وعلى هذا فإِنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وهو جميعاً من أحفاد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من ابنته يعتبرون أبناء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

إِنّ جاهلية ما قبل الإِسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة، وكان النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط، غير أنّ الإِسلام أبطل هذه العادة الجاهلية، ومن المؤسف أنّ بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شيء تجاه أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، سعوا إِلى إِنكار هذا الموضوع، وحاولوا العودة إِلى الجاهلية بالإِمتناع عن نسبة أبناء فاطمة إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورفضوا اطلاق عبارة «ابن رسول الله» عليهم إِحياء للتقاليد الجاهلية.

هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمّة، فكانوا يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والردّ الحاسم على ما يفترون.

من ذلك ما جاء في «الكافي» وفي تفسير العياشي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إِلى إِبراهيم(عليه السلام) من قبل النساء ثمّ تلا: (ومن ذريّته داود وسليمان ...) إِلى آخر الآيتين، وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إِلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرية النّبي تجدونه في كتاب الله، وقد قرأت كتاب الله من أوّله إِلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام:

[365]

(ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ (يحيى وعيسى) أليس عيسى من ذرية إِبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت.

وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفر(عليه السلام) مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه ... ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذريّة النّبي، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعقب، وإِنّما العقب للذكر، لا للأُنثى وأنتم ولد لابنته، ولا يكون لها عقب، فقلت: «أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إِلاّ ما اعفيتني من هذه المسألة» فقال: لا، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإِمام زمانهم، كذا أنهى إِلي، وليست أُعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو، إِلاّ تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم، فقلت: «تأذن لي في الجواب؟» قال: هات، فقلت: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريّته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى)» من أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ قال: ليس لعيسى أب، فقلت: «إنّما الحق بذراري الأنبياء من طريق مريم(عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النّبي من قبل أُمنا فاطمة(عليها السلام)»(1).

يلفت النظر أنّ بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إِلى هذا الموضوع عند تفسيرهم لهذه الآية، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن الحسن والحسين من ذرية النّبي، لأنّ الله ذكر عيسى من ذرية إِبراهيم مع أنّه يرتبط به عن طريق الأُم فقط(2).

وصاحب المنار الذي لا يقل تعصباً عن الفخر الرازي يقول: بعد أن ينقل


1 ـ تفسير (نور الثقلين)، ج 1، ص 743.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 13، ص 66.

[366]

كلام الرازي، أنّ في هذا الباب حديثاً كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال مشيراً إِلى الحسن بن علي(عليه السلام): «اّن ابني هذا سيد» بينما كانت لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت ... ثمّ يضيف، لهذا السبب، اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.

لا شك أنّ أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما، ولا هي قضية اختص بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، وما سبب الإِعتراض على هذا إِلاّ التعصب وإِلاّ التمسك بالأفكار الجاهلية، ولهذا نجد جميع التشريعات الإِسلامية، كالزواج والإرث، لا تفرق بينهما، إِنّ الإِستثناء الوحيد في هذا الباب هو في موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان السيادة.

2 ـ لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المجموعة الأُولى: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة، كانوا بالإِضافة إِلى نبوتهم يمسكون بيدهم القيادة وزمان الحكم، ولعل ورود (كذلك نجزي المحسنين) إِشارة الى الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.

أمّا المجموعة الثّانية: زكريا ويحيى وعيسى والياس، فهم بالإضافة إِلى نبوتهم كانوا معروفين بالزهد وإِعتزال الدنيا، فجاء تعبير: (كل من الصالحين) بعد ذكر أسمائهم.

والمجموعة الثّالثة: إِسماعيل واليسع ويونس ولوط، فهم يشتركون في كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله، وعبارة (كلا فضلنا على العالمين) (إِذ اعتبرنا الإِشارة إِلى هؤلاء الأربعة، لا لجميع من ورد ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إِشارة إِلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض وبين الأقوام المختلفة.

[367]

3 ـ أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإِنسان:

وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات، فلإِضفاء الأهمية على شخصية إِبراهيم(عليه السلام) بطل تحطيم الأصنام، يشير الله إِلى شخصيات إِنسانية عظيمة كانوا من ذريّته في العصور المختلفة، ويصفهم بصفات جليلة، بحيث نجد من بين مجموع خمسة وعشرين نبيّاً ورد ذكرهم في القرآن، ستة عشر منهم من ذرية إِبراهيم، وواحداً من أجداده، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أنّ أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم، وأنّ لقضاياهم التربوية والإِنسان أهمية كبيرة جداً.

4 ـ جواب على إعتراض:

لعل الذين يقرأون: (ومن آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلى صراط مستقيم) يستنتجون أنّ آباء الإنبياء لم يكونوا جميعاً من المؤمنين وأنّ منهم من لم يكن موحداً، كما يقول بعض المفسّرين من أهل السنة عند تفسير هذه الآية، ولكنّنا يجب أن نلاحظ أنّ تعبير (اجتبيناهم وهديناهم)بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة، وبهذا يتهاوى الإِعتراض، أي أنّ معنى هذه الآية سيكون هكذا: إِنّنا قد اخترنا بعضاً منهم لمقام النبوة، وهذا لا يعني أنّ الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (90) من هذه السورة وردت لفظة «الهداية» بمعنى النبوة(1).

* * *


1 ـ «من آبائهم» جار و مجرور متعلقان أمّا بجملة «فضلنا» الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التّالية فيكون الأصل «إجتبينا من آبائهم» ينبغي الإلتفات إِلى أن «من» في الآية تبعيضية حسب الظاهر.

[368]

الآيات

ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88) أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَـفِرِينَ(89) أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَـلَمِينَ(90)

التّفسير

ثلاثة إِمتيازات مهمّة:

بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة، تتناول هذه الآيات الخطوط العامّة لحياتهم، وتبدأ القول: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده).

أي أنّ هؤلاء على الرغم من صلاحهم وإِسترشادهم بقوة العقل والفكر في سيرهم الحثيث على طريق الهداية، شملتهم عناية الهداية الإِلهية، وأخذت بأيديهم وإلاّ فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائماً.

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق، أو

[369]

يظن أنّ الله ينظر إِلى هؤلاء نظرة خاصّة وإِستثنائية دونما سبب، يقول القرآن عنهم: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).

فهم إِذن مشمولون بهذا القانون الإِلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التّالية تشير إِلى ثلاثة إِمتيازات مهمّة هي أساس جميع إِمتيازات الأنبياء، وهي قوله: (أُولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنّبوة).

ولا يعني هذا أنّهم جميعاً كانوا من أصحاب الكتب السماوية، ولكن الكلام يدور على المجموع، فنسب الكتاب إِلى المجموع أيضاً، وهذا كقولنا: الكتاب الفلاني ذكر العلماء وكتبهم، أي كتب من له تأليف منهم.

أمّا المقصود من «الحكم» فثمّة إِحتمالات ثلاثة:

1 ـ الحكم بمعنى «العقل والإِدراك»، أي: إنّنا فضلا عن إِنزال كتاب سماوي عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم، إِذ أن وجود الكتاب بغير وجود القدرة على فهمه فهماً كاملا عميقاً لا جدوى فيه.

2 ـ بمعنى «القضاء» أي أنّهم بإِستنباط القوانين الإِلهية من تلك الكتب السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بإِمتلاكهم لجميع شروط القاضي العادل.

3 ـ بمعنى «الحكومة» والإِمساك بزمان الإِدارة، بالإِضافة إِلى مقام النّبوة، إِنّ الدليل على المعاني المذكورة ـ بالإضافة إِلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها ـ هو أنّ كلمة «الحكم» قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضاً في آيات أُخرى من القرآن(1).

وليس ثمّة ما يمنع من أنّ يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني الثلاثة مجتمعة، فالحكم أصلا ـ كما يقول «الراغب» في «مفرداته» هو المنع،


1 ـ جاءت في الآية (12) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم، وفي الآية (22) من سورة ص بمعنى القضاء، وفي الآية (26) من سورة الكهف بمعنى الحكومة.

[370]

ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

قلنا من قبل إِنّ جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الإِمتيازات كلها، وإِسناد حكم إِلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع، بل قد يكون لبعض أفراده، ومن ذلك مسألة إِيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.

ثمّ يقول: لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكّة) تلك الحقائق، فإِن دعوتك لن تبقى بغير إِستجابة، إِذ إِنّنا قد أمرنا جمعاً آخر لا بقبولها فحسب، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبداً، بل يتبعون الحقّ: (فإِن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا قوماً ليسوا بها كافرين).

جاء في تفسير «المنار» وتفسير «روح المعاني» عن بعض المفسّرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس، وقد أسرعوا في قبول الإِسلام وجاهدوا في سبيل نشره، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإِسلامية وألفوا الكثير من الكتب(1).

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول لاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول له: (أُولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)(2).

تؤكّد هذه الآية مرّة أُخرى على أن أُصول الدعوة التي قام بها الأنبياء


1 ـ يحتمل أيضاً أن يكون المراد من «هؤلاء» هم الأنبياء أنفسهم، أي إِذا افترضنا المستحيل، وقلنا أنّ هؤلاء الأنبياء العظام تخلوا عن أداء الرسالة الإِلهية، فإنّ الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن، كما جاء في الآية (65) من سورة الزمر (لئن أشركت ليحبطن عملك).

2 ـ الهاء في «اقتده» ليست ضميراً، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف، مثل همزة الوصل التي يؤتى بها إذا كان حرف الإِبتداء في الكلمة ساكناً، وهي تسقط عند الوصل، مثل هاء السكت غير أنّ هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية من باب الإِحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.

[371]

واحدة، بالرغم من وجود بعض الإِختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إِلى المرحلة النهاية، أي الإِسلام.

ولكن ما المقصود من أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي أُولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسّرين: إِنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل، ويقول بعض آخر إِنّه «التوحيد وإِبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الأُصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأُصول الأخلاقية والتربوية.