![]() |
![]() |
![]() |
8 ـ إِنّ الخسائر التي تصيب الإِقتصاد البريطاني من جراء تغيب العمال عن
1 ـ كتاب «ندوة الكحول»، ص 65.
2 ـ كتاب «ندوة الكحول»، 65.
3 ـ تفسير الطنطاوي، ج؟، 165.
4 ـ دائرة المعارف فريد و جدي، ج 3، ص 790.
5 ـ الآفات الإِجتماعية في قرننا، ص 205.
6 ـ مجموعة منشورات الجيل الجديد.
7 ـ ندوة الكحول، ص 66.
العمل بسبب إِدمانهم على الخمر تبلغ سنوياً نحو 50 مليون دولار، وهو مبلغ يكفي لإِنشاء الآلاف من رياض الأطفال والمدارس الإِبتدائية والثانوية.
9 ـ الإِحصاءات التي نشرت عن خسائر الإِدمان على الكحول في فرنسا تقول: أنّ الخزينة الفرنسية تتحمل سنوياً مبلغ (137) مليارد فرنك، إِضافة إِلى الأضرار الأُخرى كما يلي:
60 مليار فرنك للصرف المحاكم والسجون.
40 مليار فرنك للصرف على الإِعانات العامّة والمؤسسات الخيرية.
10 مليارات من الفرنكات للصرف على المستشفيات الخاصّة لمعالجة المدمنين على المسكرات.
70 مليار فرنك للصرف على الأمن الإِجتماعي.
وهكذا يتّضح أنّ عدد المرضى النفسانيين ومصحات الأمراض العقلية وجرائم القتل والمخاصمات الدموية والسرقة والإِغتصاب وحوادث المرور، تتناسب تناسباً طردياً مع عدد حانات الخمور.
10 ـ أثبتت الدوائر الإِحصائية في أمريكا أنّ القمار كان السبب المباشر في 30% من الجرائم، وفي إِحصائية أُخرى عن جرائم القمار نرى وللأسف الشديد أن 90% من جرائم السرقة و50% من الجرائم الجنسية و10% من فساد الأخلاق و30% من الطلاق و40% من الضرب والجرح و5% من حوداث الإِنتحار إِنما هي بسبب القمار(1).
* * *
1 ـ ندوة الكحول، ص 66.
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ ثمّ اتَّقَوا وَّءَامَنُوا ثمّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ(93)
جاء في تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الطبري» وتفسير «القرطبي» وغيرها من التفاسير أنّه بعد نزول آية تحريم الخمر والميسر، قال بعض أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا كان هذان العملان على هذا القدر من الإِثم، فما حال المسلمين الذين توفاهم الله قبل نزول هذه الآية وكانوا ما يزالون يمارسونهما؟ فنزلت هذه الآية جواباً لهم.
تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر والميسر، أو الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها،
فتقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيها طعموا)(1) ولكنّها تشترط لتلك التقوى والإِيمان والعمل الصالح: (إِذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)، ثمّ تكرر ذلك (ثمّ اتقوا وآمنوا) وللمرّة الثالثة تكرر الآية بقليل من الإِختلاف (ثمّ اتقوا وأحسنوا)، وتنتهي بالتوكيد (والله يحبّ المحسنين).
هنالك كلام كثير بين المفسّرين القدامى والمحدثين حول هذا التكرار، فبعض يراه للتوكيد ويقول: أنّ أهمية التقوى والإِيمان والعمل الصالح تقتضي الإِعادة والتكرار والتوكيد.
إِلاّ أنّ جمعاً آخر من المفسّرين يعتقدون أنّ كلّ جملة من هذه الجمل المكررة تشير إِلى حقيقة منفصلة عن الأُخرى، وأنّ هناك إِحتمالات متعددة بشأن إِختلاف كل جملة عن الأُخرى، ولكن معظم هذه الإِحتمالات لا يقوم عليها دليل أو شاهد.
ولعل خير ما قيل بهذه الخصوص هو قولهم: أنّ المقصود بالتقوى في المرّة الاُولى هو ذلك الإِحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإِنسان نحو البحث والتدقيق في الدين، ومطالعة معجزة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والبحث عن الله، فتكون نتيجة ذلك الإِيمان والعمل الصالح، وبعبارة أُخرى: إِذا لم يكن في الإِنسان شيء من التقوى فإنّه لا يتجه إِلى البحث عن الحقيقة، وعليه فإن ورد كلمة «التقوى» لأوّل مرّة في هذه الآية إِشارة إِلى هذا المقدار من التقوى، وليس في هذا تناقض مع بداية الآية التي تقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...) لأنّ الإِيمان هنا يمكن أن يكون بمعنى التسليم الظاهري، بينما الإِيمان الذي يحصل بعد التقوى هو الإِيمان الحقيقي.
وتكرار التقوى للمرّة الثّانية إِشارة إِلى التقوى التي تنفذ إِلى أعماق الإِنسان
1 ـ تطلق كلمة عام «الطعام» على المأكولات غالباً، ولكنّها قد تطلق على المشروبات أيضاً، كما جاء في الآية(249) من سورة البقرة: (فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه مني).
فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإِيمان الثابت الوطيد الذي يؤدي إِلى العمل الصالح، ولذلك لم يرد «العمل الصالح» بعد «الإِيمان» في الجملة الثّانية: (ثمّ اتقوا وآمنوا) أي أنّ هذا الإِيمان من الثبوت والنفاذ بحيث لا حاجة معه لذكر العمل الصالح.
وفي المرحلة الثّالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث أنّها فضلا عن دفعها إِلى القيام بالواجبات، تدفع إِلى الإِحسان أيضاً، أي إِلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.
وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إِلى ثلاث مراحل من الإِحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثل المرحلة (الإِبتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها في الآية.
أمّا ما ذهب إِليه مفسّرون آخريون بشأن تناول الآية ثلاثة أنواع من التقوى وثلاثة أنواع من الإِيمان فلا قرينة عليه ولا شاهد في الآية.
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَىْء مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ هَدْيَاً بَـلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّـرَةٌ طَعَامُ مَسَـكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذَو انتِقَام(95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَـعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96)
جاء في كتاب الكافي وفي كثير من التفاسير أنّه في سنة الحديبية، عندما قصد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المسلمين العمرة وهم محرمون، صادفوا في
طريقهم كثيراً من الحيوانات البرية وكانوا قادرين على صيدها باليد أو بالرمح، لقد كان الصيد من الكثرة بحيث قيل أنّ الحيوانات كانت تجوس بين الخيام وتمر بين الناس، الآية الاُولى من هذه الآيات نزلت في هذا الوقت تحذر المسلمين من صيدها، وتعتبر إِمتناعهم عن صيدها ضرباً من الإِمتحان لهم.
تبيّن هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإِحرام للحج أو للعمرة.
في البداية إِشارة إِلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية، فيقول سبحانه وتعالى: (يا أيّها الذين آمنوا ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم).
يستفاد من تعبير الآية أنّ الله تعالى يريد إِنباء الناس عن قضية سوف تقع في المستقبل، كما يظهر أيضاً أنّ وفرة الصيد في ذلك المكان لم يكن أمراً مألوفاً، فكان هذا إِمتحاناً للمسلمين، على الأخص إِذا أخذنا بنظر الإِعتبار حاجتهم الماسة إِلى الحصول على طعامهم من لحوم ذلك الصيد الذي كان موفوراً وفي متناول أيديهم، إنّ تحمل الناس في ذلك العصر الحرمان من ذلك الغذاء القريب يعتبر إِمتحاناً كبيراً لهم.
قال بعضهم: أنّ المقصود من عبارة (تناله أيديكم) هو أنّهم كانوا قادرين على صيدها بالشباك أو بالفخاخ، ولكن ظاهر الآية يشير إِلى أنّهم كانوا حقّاً قادرين على صيدها باليد.
ثمّ يقول من باب التوكيد: (ليعلم الله من يخافه بالغيب) سبق أن أوضحنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (143) من سورة البقرة أنّ تعبير «لنعلم» أو «ليعلم» وأمثالها لا يقصد بها، أن الله لم يكن يعلم شيئاً، وأنّه يريد أن
يعلمه عن طريق إختبار الناس، بل المقصود هو الباس الحقيقة المعلومة لدى الله لباس العمل والتحقق الخارجي، وذلك لأنّ الإِعتماد على نوايا الأشخاص الداخلية وإِستعدادهم غير كاف للتكامل وللمعاقبة والإِثابة، بل يجب أن ينكشف كل ذلك خلال أعمال خارجية لكي يكون لها تلك الآثار (لمزيد من التوضيح انظر ذيل الآية المذكوره).
والآية في الخاتمة تتوعد الذين يخالفون هذا الحكم الإِلهي بعذاب شديد: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم).
على الرّغم من أنّ الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء الإِحرام، ولكن الآية التّالية لها تصدر حكماً قاطعاً وصريحاً وعاماً بشأن تحريم الصيد أثناء الإِحرام، إِذ تقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم).
وهل تحريم الصيد (وهو صيد البر بدلالة الآية التي تليها) يشمل جميع أنواع الحيوانات البرية، سواء أكان لحمها حلالا أم حراماً، أم أنّه يختص بحلال اللحم منها؟
لا تتفق آراء المفسّرين والفقهاء بهذا الشأن، إِلاّ أنّ المشهور بين فقهاء الإِمامية ومفسريهم أنّ الحكم عام، ويؤيد ذلك الرّوايات المروية عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، أمّا فقهاء أهل السنة فمنهم ـ مثل أبي حنيفة ـ من يتفق مع الإِمامية في ذلك، ومنهم ـ كالشافعي ـ من يرى الحكم مقصوراً على الحيوانات المحللة اللحوم ولكن الحكم، على كل حال، لا يشمل الحيوانات الأهلية، لأنّ الحيوانات الأهلية لا توصف بالصيد، إِنّ ممّا يستلفت النظر في رواياتنا هو أنّ الصيد ليس وحده المحرم أثناء الإِحرام، بل التحريم يشمل حتى الإِعانة على الصيد، والإِشارة أو الدلالة عليه أيضاً.
قد يظن بعض أنّ الصيد لا يشمل ذوات اللحم الحرام، إِلاّ أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ الغرض من صيد الحيوان متنوع، فمرّة يكون الغرض لحمها، وأُخرى
جلدها، وثالثة لدفع أذاها، ثمّة بيت ينسب إِلى الإِمام علي(عليه السلام) من الممكن أن يكون شاهداً على هذا التعميم: يقول:
صيد الملوك أرانب وثعالب وإِذا ركبت فصيدي الأبطال
وللإِستزادة من المعرفة بشأن أحكام الصيد الحلال والحرام يمكن الرجوع إِلى الكتب الفقهية.
ثمّ بعد ذلك يشار إِلى كفارة الصيد في حال الإِحرام، فيقول: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم).
فهل المقصود من «مثل» هو التماثل في الشكل والحجم أي إِذا قتل أحد حيواناً وحشياً كبيراً مثل النعامة ـ مثلا ـ فهل يجب عليه أنّ يختار الكفارة من الحيوانات الكبيرة، كالبعير مثلا أو إِذا صاد غزالا، فهل كفارته تكون شاة تقاربه في الحجم والشكل؟ أم أنّ «مثل» هو التماثل في القيمة؟
إِنّ المشهور والمعروف بين الفقهاء والمفسّرين هو الرأي الأوّل، كما أنّ ظاهر الآية أقرب إِلى هذا المعنى، وذلك لأنّه بالنظر لعمومية الحكم على الحيوانات ذوات اللحم الحلال وذوات اللحم الحرام، فإنّ أكثر هذه الحيوانات ليس لها قيمة ثابتة لكي يمكن إختيار مثيلاتها من الحيوانات الأهلية.
وهذا ـ على كلّ حال ـ قد يكون ممكناً في حالة وجود المثيل من حيث الشكل والحجم، أمّا حالة انعدام المثيل، فلا مندوحة من تقدير قيمة للصيد بشكل من الأشكال، وليمكن إِختيار حيوان أهلي حلال اللحم يقاربه في القيمة.
ولمّا كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد أصدر القرآن حكمه بأن ذلك ينبغي أنّ يكون بتحكيم شخصين مطلعين وعادلين: (يحكم به ذوا عدل منكم).
أمّا عن مكان ذبح الكفارة، فيبيّن القرآن أنّه يكون بصورة «هدي» يبلغ أرض الكعبة: (هدياً بالغ الكعبة).
والمشهور بين فقهائنا هو أنّ «كفارة الصيد أثناء الإِحرام للعمرة» يجب أنّ تذبح في «مكّة» و«كفارة الصيد أثناء الإِحرام للحج» يجب أن تذبح في «منى»، وهذا لا يتعارض مع الآية المذكورة، لأنّها نزلت في إِحرام العمرة، كما قلنا.
ثمّ يضيف أنّه ليس ضرورياً أنّ تكون الكفارة بصورة أضحية، بل يمكن الإِستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين: (أو كفارة طعام مساكين) و(أو عدل ذلك صياماً).
مع أنّ الآية لا تذكر عدد المساكين الذين يجب إِطعامهم، ولا عدد الأيّام التي يجب أنّ تصام، فإن إِقتران الاثنين معاً من جهة، والتصريح بلزوم الموازنة في الصيام، يدل على أنّ المقصود ليس إِطلاق عدد المساكين الذين يجب إِطعامهم بحسب رغبتنا، بل المقصود تحديد ذلك بمقدار قيمة الأضحية.
أمّا كيف يتمّ التوازن بين الصيام وإِطعام المسكين، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّ مقابل كلّ «مدّ» من الطعام (ما يعادل نحو 750 غراماً من الحنطة وأمثالها) يصوم يوماً واحداً، ويستفاد من روايات أُخرى أنّه يصوم يوماً واحداً في مقابل كلّ «مدّين» من الطعام، وهذا يعود في الواقع إِلى أن الذي لا يستطيع صوم رمضان يكفّر عن كل يوم منه بمدّ واحد أو بمدّين اثنين من الطعام للمحتاجين (لمزيد من الإطلاع بهذا الخصوص انظر الكتب الفقهية).
أمّا إِذا ارتكب محرم صيداً فهل له أن يختار أيّاً من هذه الكفارات الثلاث، أو أنّ عليه أن يختار بالترتيب واحدة منها، أي الذبيحة أوّلا، فإن لم يستطع فإطعام المسكين، فإنّ لم يستطع فالصيام، فالفقهاء مختلفون في هذا، ولكن ظاهر الآية يدل على حرية الإِختيار.
إِنّ الهدف من هذه الكفارات هو (ليذوق وبال أمره)(1).
1 ـ في «مفردات الراغب» أنّ «وبال» من «الوبل والوابل» وهو المطر الغزير، ثمّ أطلق على العمل الشاق الجسيم، ولمّا كان العقاب شديداً وثقيلا عادة، فقد وصف بأنّه «وبال».
ثمّ لما لم يكن لأي حكم أثر رجعي يعود إِلى الماضي، فيقول: (عفا الله عما سلف).
أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إِلى أحكام الكفارة وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإنّ الله سوف ينتقم منه في الوقت المناسب: (ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام).
ثمّة نقاش بين المفسّرين عمّا إِذا كانت كفارة صيد المحرم تتكرر بتكرره، أو لا، ظاهر الآية يدل على أنّ التكرار يستوجب انتقام الله، فلو استلزم تكرار الكفارة لوجب أنّ لا يكتفي بذكر الإِنتقام الإِلهي، وللزم ذكر تكرار الكفارة صراحة، وهذا ما جاء في الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام).
بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: (أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه).
لكن ما المقصود من الطعام؟ فإن بعض المفسّرين يرون أنّه ذلك النوع من السمك الذي يموت بدون صيد ويطفو على سطح الماء، مع أنّنا نعلم أنّ هذا الكلام ليس صحيحاً، لأنّ السمك الميت بهذا الشكل حرام مع أنّ بعض الرّوايات التي يرويها أهل السنّة تدل على حليته.
إِنّ ما يستفاد من التعمق في ظهور الآية هو أنّ القصد من الطعام ما يهيأ للأكل من سمك الصيد إِذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين، الأوّل هو الصيد، والثّاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.
وبهذه المناسبة، ثمّة فتوى معروفة بين فقهائنا تعتمد مفهوم هذا التعبير، وذلك فيما يتعلق بصيد البر، فإِن هذا الصيد ليس وحده حراماً، بل أنّ طعامه حرام أيضاً.
ثمّ تشير الآية إِلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: (متاعاً لكم وللسيارة)، أي لكيلا تعانوا المشقّة في طعامكم وأنتم محرومون، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.
ولمّا كان من المألوف أن يكون السمك الذي يحمله المسافر معه هو السمك
المملح، فقد ذهب بعض المفسّرين إِلى تفسير العبارة المذكورة في الآية بأنّه يجوز «للمقيمين» أن يطعموا السمك الطازج و«للمسافرين» السمك المملح.
ولابدّ من التنبيه إِلى أنّ حكم (أحلّ لكم صيد البحر وطعامه) ليس حكماً مطلقاً وعاماً في حلّية صيد البحر كافة كما يظن بعضهم، وذلك لأنّ الآية ليست في معرض بيان أصل حكم صيد البحر، بل هدف الآية هو أنّ تبيّن للمحرم أنّ صيد البحر (الذي كان حلالا قبل الإِحرام له أن يطعمه في حال الإِحرام أيضاً)، وبعبارة أُخرى: لتبيّن الآية أصل تشريع القانون، وإِنّما تشير إِلى خصائص قانون سبق تشريعه فليست الآية في معرض عمومية الحكم، بل هي تبيّن حكم المحرم فحسب.
وللتوكيد تعود الآية إِلى الحكم السابق مرّة أُخرى وتقول: (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً).
ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: (واتقوا الله الذي إِليه تحشرون).
معلوم أنّ الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإِنسان عن عالم المادة وتنقله إِلى محيط ملىء بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال الخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلّها تنفصل عن الإِنسان في مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الإِنسان ضرباً من الرياضة الإِلهية المشروعة، ويبدو أن تحريم صيد البرّ في حال الإِحرام يرمي إِلى الهدف نفسه.
ثمّ لو أحل الصيد لزائري بيت الله الحرام، مع الأخذ بنظر الإِعتبار كثرة الزوار وكثرة ترددهم في كلّ سنة على هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير من الحيوانات القليلة أصلا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع،
فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من الإِنقراض.
وإِذا أخذنا بنظر الإِعتبار أنّه حتى في غير حال الإِحرام يمنع صيد الحرم، وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبيّن لنا أنّ لهذا التشريع ارتباطاً وثيقاً بقضية الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإِبادة.
إِنّ هذا التشريع من الدّقة والإِحكام بحيث أنّه يمنع فيه حتى هداية الصياد إِلى مكان الصيد، فقد جاء في بعض الرّوايات من طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) قال لأحد أصحابه: «لا تستحلن شيئاً من الصيد وأنت حرام ولا أنت حلال في الحرم ولا تدلن محلا ولا محرماً فيصطاده، ولا تشر إِليه فيستحل من أجلك، فإنّ فيه فداء لمن تعمّده»(1).
* * *
1 ـ «وسائل الشيعة»، ج 5، ص 75.
جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَـماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَـئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(97) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99)
بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإِحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إِلى أهمية «مكّة» وأثرها في بناء حياة المسلمين الإِجتماعية، فيقول أوّلا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس).
فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله، ومؤتمر عظيم لتوثيق الرّوابط المختلفة، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إِصلاح الكثير ممّا يستوجب الإِصلاح والترميم في حياتهم، وإِقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96): (إِنّ أوّل بيت وضع
للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين).
في الحقيقة إنّ المسلمين يستطيعون ـ إِنطلاقاً من المفهوم الواسع لقوله: (قياماً للناس) ـ أن يصلحوا كل أُمورهم بالركون إِلى هذا البيت وفي إطار تعاليم الحج البناءة.
ولما كانت هذه المناسك يجب أنّ تجري في جو آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إِلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: (والشهر الحرام)(1) كما أشارت إِلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمن جانباً من إِحتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: (والهدي والقلائد).
ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكّة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: (ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأنّ الله بكل شيء عليم).
بناءاً على ما مرّ بنا في تفسير هذه الآية يتّضح الإِرتباط بين بدايتها ونهايتها، إِذ أنّ هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إِلاّ من كان عليماً بأعماق القوانين التكوينية، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقرّ في روح الإِنسان وجسمه عند خلقه، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه، فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.
الآية التّالية تؤكّد تلك التشريعات، وتحث الناس على إِتباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول: (إِعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ اللّه غفور رحيم).
ولعل تقديم (شديد العقاب) على (غفور رحيم) إِشارة إِلى أنّ عقاب الله الشديد يمكن إطفاؤه بماء التوبة والدخول في رحمة الله وغفرانه.
ومرّة أُخرى تؤكّد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم، وأنّ
1 ـ مرّ ذكر الأشهر الحرم في تفسير الآية (194) من سورة البقرة، ارجع إِلى المجلد الثّاني من هذا التّفسير.
النّبي مسؤول عن تبليغ الرّسالة لا غير (وما على الرّسول إِلاّ البلاغ) وفي الوقت نفسه: (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون).
إِنّ «الكعبة» ـ التي ذكرت في هذه الآية وفي الآيات السابقة مرّتين ـ من مادة «كعب» أي بروز خلف القدم، ثمّ أطلق على كل بروز، والمكعب كذلك لأنّه بارز من جهاته الأربع، والكاعب (وجمعها كواعب) هي الأنثى التي برز صدرها.
والظاهر أنّ تسمية بيت الله بالكعبة يرجع أيضاً، إِلى ارتفاعه الظاهري وبروزه، كما هو رمز لإِرتفاع مقامه وعظمة مكانته.
إِنّ للكعبة تاريخاً عريقاً حافلا بالحوادث والوقائع، وكلّ هذه الحوادث تنطلق من عظمتها ومكانتها المهمّة.
أهمية الكعبة تبلغ حداً بحيث أنّ الأحاديث الإِسلامية تعتبر هدمها في مصاف قتل النّبي والإِمام والنظر إِليها عبادة، والطواف بها من أفضل الأعمال، وقد جاء في رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءه فوق الكعبة»(1).
طبيعي أنّ أهمية الكعبة واحترامها لم يأتيا من بنائها، فقد قال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الخطبة القاصعة: «ألا ترون أنّ الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إِلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجلعها بيته الحرام (الذي جعله للنّاس قياماً) ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً ...»(2).
أهمية مكانة الكعبة عند الله تعود إِلى أنّها أقدم مراكز العبادة والتوحيد، ونقطة تجتذب إِليها أنظار الشعوب والأقوام المختلفة.
* * *
1 ـ «سفينة البحار»، ج 2، ص 482.
2 ـ «نهج البلاغة»، الخطبة القاصعة، رقم 192.
قُل لاَّيَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَـأُوْلِى الاَْلْبَـبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)
دار الحديث في الآيات السّابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وصيد البر في حال الإِحرام، ولكن قد نجد أناساً يتذرعون لإِرتكاب هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، فيقولون مثلا: أنّ أكثر أهل المدينة الفلانية يعاقرون الخمرة، أو أنّهم يمارسون القمار، أو أنّ أكثرية الناس في ظروف خاصّة لا يقيمون وزناً لتحريم الصيد ولغيره لذلك، فهم أيضاً يحذون حذوهم ويهملون العمل بتلك التشريعات، فلكيلا يتذرع الناس بأمثال هذه الأعذار، يضع الله سبحانه قاعدة كلية عامّة ورئيسية في عبارة قصيرة شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: (قل لا يستوي الخبيث والطّيب ولو أعجبك كثرة الخبيث).
وعليه فإِن الخبيث والطبيب ـ في الآية ـ يشملان كل ما يرتبط بالإِنسان، طعاماً كان ذلك أم فكراً.
وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: (فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلكم تفلحون).
أمّا أنّ مدلول الآية من قبيل توضيح الواضحات، فذلك لأن ثمّة من يظن أنّ أُموراً عارضة، مثل كثرة إِتباع الخبيث، أو ما يسمى بـ«الأكثرية» تجعل ذلك الخبيث في مصاف الطيب، كما يحدث أحياناً أنّ نرى بعضهم يقع تحت تأثير الجماعة وإِتجاه أهواء الأكثرية، ظاناً أنّه حيثما مالت الأكثرية كان ذلك دليلا قاطعاً على صحة ما مالت إِليه، بينما الأمر ليس كذلك، والقضايا التي أيدتها الأكثرية وظهر بطلانها كثيرة جداً.
في الواقع إنّ ما يميز الخبيث من الطيب هو الأكثرية الكيفية لا الكمية، أي أنّ المطلوب هو أفكار أقوى وأرفع وأسمى وأنقى لاكثرة المؤيدين.
هذه القضية لا تلاءم أذواق بعض الناس في العصر الحاضر، بعد أنّ تشبعت أذهانهم على أثر التلقين ووسائل الأعلام بأن الأكثرية هي معيار معرفة الخبيث من الطيب، إِلى حدّ الإِيمان بأن «الحقّ» هو ما أرادته الأكثرية، و«الطيب» هو ما مالت إِليه الأكثرية، وليس كذلك. إن معظم مشاكل العالم ناتجة عن هذا اللون من التفكير.
نعم، إِذا تمتعت الأكثرية بقيادة صادقة وتعليمات صحيحة، بحيث تؤلف أكثرية ناضجة بما للكلمة من معنى، فيمكن حينئذ اعتبار هذه الأكثرية واتجاهاتها مقياس تمييز الخبيث عن الطيب، لا الأكثرية الفجة غير الناضجة.
على كل حال، يشير القرآن إِلى هذا الأمر في هذه الآية، ويحذر الناس من الإِنجراف مع أكثرية الخبثاء، وفي مواضع أُخرى تكاد تبلغ العشرة يقول تعالى: (ولكن أكثر النّاس لا يعلمون) أمّا تقديم «الخبيث» على «الطيب» في الآية، فذلك لأنّ الكلام موجه إِلى الذين يحسبون كثرة الخبيث دليلا على صحة ما يذهبون إِليه، فلابدّ من الردّ على هؤلاء، وتعريفهم بأن معيار الخباثة والطيبة لم
يكن في يوم من الأيّام هو الأكثرية أو الأقلية، بل في كل زمان ومكان كان «الطيب» خيراً من «الخبيث» وأن أصحاب الحجى والتبصر لا ينخدعون بالكثرة، فهم يتجنبون الخبيث دائماً حتى وإِن تلوث به جميع المحيطين بهم، ويندفعون نحو الطّيب حتى وإِن ابتعد عنه الجميع.
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمُ وَإِن تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثمّ أَصْبَحُوا بِهَا كَـفِرِينَ(102)
الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتّفسير، ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين، هو ما جاء في تفسير «مجمع البيان» عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِنّ الله كتب عليكم الحج» فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال: أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله: «ويحك ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإِذا نهيتكم عن
شيء فاجتنبوه»(1).
ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين ـ كما سنتطرق إِلى ذلك في تفسيرهما ـ يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأُمور بوجوه الناس، لأنّ القرآن في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إِلى أصحاب الخبرة في فهم الأُمور: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(2) بل المقصود هو الأسئلة التافهة والتحجج، والإِلحاح المؤدي غالباً إِلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل الفكري للخطيب.
لاشك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون، ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضاً، منها أن هناك أحياناً بعض المسائل التي يكون إِخفاؤها أفضل لحفظ النظام الإِجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإِلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيداً عن الفضيلة فحسب، بل يكون مذموماً أيضاً مثلا:
يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إِذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه، إِن لم يكن مرضه مهلكاً فعلى
1 ـ تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الدر المنثور» و«المنار» في ذيل الآية المذكورة مع بعض الإِختلاف.
2 ـ النحل، 43.
المريض أنّ لا يلح في القاء الأسئلة على طبيبه العطوف، لأنّ هذا الإِلحاح قد يحرج الطبيب، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصاً من هذا الإِصرار واللجاج.
كذلك الناس عموماً، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إِلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام، خير لهم ألاّ يعرفوا خفايا الآخرين، إِذ أن لكل امرىء نقاط ضعيفه، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة، وإِذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.
كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الإِجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها، فالإِعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إِنجاز العمل.
هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإِلحاح في السؤال، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.
والقرآن في هذه الآية يشير إِلى الموضوع نفسه ويقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إِن تبد لكم تسؤكم).
ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإِجابة على أسئلتهم من جهة أُخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إِلى مفاسد أكثر، لذلك تقول الآية: (وإِن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فيشق عليكم الأمر.
![]() |
![]() |
![]() |