يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيح(عليه السلام) وادعاء الألوهية له، أي أنّ ما كان يحققه المسيح(عليه السلام) بالرغم من إِعجازه وإِثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإِلهية، لم يكن ناشئاً منه، بل كان من الله وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله، مطيع لأوامره، وما كان له إِلاّ ما يستمده من قوة الله الخالدة.

وقد يسأل سائل: إِنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسى(عليه السلام) فلماذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أُمّه أيضاً؟

لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأُم أيضاً، فكلاهما من اصل واحد، ومن شجرة واحدة.

وكما ذكرنا في ذيل الآية (49) من سورة آل عمران، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية، ففي تاريخ حياة المسيح(عليه السلام)ينسب إِليه إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص، ولكن بأمر الله وإِذنه.

يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحياناً، إِنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إِلى دعاء الأنبياء وإستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفاً، إِذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (49) لمزيد من التوضيح).

* * *

[186]

الآيات

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَـعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّـهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تكُونُ لَنَا عِيداً لاَِّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114) قَالَ اللهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَـلَمِينَ(115)

التّفسير

قصّة نزول المائدة على الحواريين:

تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيح(عليه السلام) وأُمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح(عليه السلام).

ففي البداية تشير الآية إِلى ما أوحي إِلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله المسيح(عليه السلام) فاستجابوا (وإِذ أوحيت إِلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا

[187]

وأشهد بأنّنا مسلمون).

إن للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أن الإِلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (7) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها(1) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان، كالنحل.

وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإِيحاء الذي كان يلقيه المسيح(عليه السلام)بواسطة المعاجز في نفوسهم.

لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيح(عليه السلام) بالبحث في تفسير آية (52) آل عمران هذا التّفسير.

ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء: (إِذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا من السماء).

«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والإِهتزاز، ولعل سبب إِطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.

شعر المسيح(عليه السلام) بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و(قال اتقوا الله إِن كنتم مؤمنين).

ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح(عليه السلام) أن هدفهم برىء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إِلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الانسان) (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين).


1 ـ (وأوحينا إِلى أُم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم...).

[188]

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإِلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.

ولمّا أدرك عيسى(عليه السلام) حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على الله: (قال عيسى ابن مريم اللّهم ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين).

من الواضح هنا أنّ الأُسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.

فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإِخلاص، (قال الله إِني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذاباً لا اُعذبه أحداً من العالمين).

فبعد نزول المائدة تزداد مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضاً في حالة الكفر والإِنحراف.

ملاحظات:

هنا لابدّ من التحقيق في عدّة نقاط من هذه الآيات الكريمة:

1 ـ ما القصد من طلب المائدة؟

لاشك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد سيء في طلبهم هذا، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الإِطمئنان الأقوى وإِبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم، فكثيراً ما يحدث أنّ انساناً يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة، ولكن إِذا كان الأمر مهماً جدّاً فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إِلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس، ولهذا نرى إِبراهيم(عليه السلام)، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي

[189]

العين لكي يتبدل إِيمانه العلمي إِلى «عين اليقين» وإِلى «شهود».

ولكن اُسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسى(عليه السلام)أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.

2 ـ ما المقصود بعبارة (هل يستطيع ربّك)؟

لا شك أنّ ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إِنزال مائدة، إِلاّ أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أُخرى في تفسيرها، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.

ورأي آخر يقول: إِنّ سؤالهم يعني: هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص: لا أستطيع أن أعهد إِلى فلان بكل ثروتي، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.

ورأي ثالث يقول: أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الإِنقياد، فإِذا وردت من باب (الإِستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه، فيكون المعنى: هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إِنزال مائدة من السماء؟

3 ـ ما هي تلك المائدة السماوية؟

لم يذكر القرآن شيئاً عن محتوياتها، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث، وخاصة الحديث المروي عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبز ومقداراً من السمك، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إِسرائيل باعجاز من موسى(عليه السلام) فطلبوا هم أيضاً من عيسى(عليه السلام) مثل ذلك.

4 ـ هل نزلت عليهم مائدة؟

رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة، فالله لا يخلف وعده، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة، ويقولون: أنّ الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة،

[190]

تخلوا عن طلبهم، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا.

5 ـ ما العيد؟

«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيداً. كذلك هي الأعياد الإِسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان، أو بعد أداء فريضة الحج العظيمة، يعود إِلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين، ويزول التلوث عن الفطرة، فيكون العيد، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إِلى الفوز والطهارة والإِيمان بالله، فقد سمّاه المسيح(عليه السلام) عيداً.

وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد، ولعل هذا هو سبب الإِحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.

إِنّنا نقرأ لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) قوله: «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(1).

وفي هذا إِشارة إِلى الموضوع نفسه، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إِلى الفطرة الاُولى.

6 ـ لماذا العقاب الشديد؟

هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه، وذلك أنّه عندما يبلغ الإِيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عندما ترى الحقيقة رأي العين، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد، فإنّ مسؤولية المرء تزداد وتثقل، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإِيمان وتحمل المسؤولية، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد، ولهذا فإنّ مسؤولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها، إِننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضاً، فمثلا يعلم كل شخص أنّ في بلده أو مدينته جياعاً يتحمل مسؤوليتهم، ولكنه عندما يرى بعينيه انساناً


1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 428.

[191]

بريئاً يتضور جوعاً ويتألم سغباً، فلا شك أنّ درجة مسؤوليته تكون عندئذ أعلى.

7 ـ «العهد الجديد» والمائدة

في الأناجيل الأربعة الموجودة حالياً لا نجد كلاماً عن المائدة كما في القرآن، عدا ما جاء في إِنجيل يوحنا، في الباب (21)، حول استضافة المسيح الإِعجازية جمعاً من الناس بالخبز والسمك، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أنّ ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين(1).

ثمّة كلام في كتاب «أعمال الرسل» وهو من كتب العهد الجديد، يدور حول نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس، ولكن هذا أيضاً ليس هو الموضوع الذي نحن بصدده، غير أنّنا نعلم أن كثيراً من الحقائق التي نزلت على عيسى(عليه السلام) لا أثر لها في الأناجيل السائدة، كما أن كثيراً ممّا نراه في هذه الأناجيل لم ينزل على المسيح(عليه السلام)(2).

* * *


1 ـ «الهدى إلى دين المصطفى»، ج 2، ص 239.

2 ـ نفس المصدر.

[192]

الآيات

وَإِذْ قَالَ اللهُ يَـعِيَسى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخُذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَـنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبِدُوا اللهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّادُمْتُ فِيهُمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزَيزُ الْحَكِيمُ(118)

التّفسير

براءة المسيح من شرك أتباعه:

هذه الآيات تشير إِلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ: (هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم) ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة (فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم) دليل آخر على أنّ الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح(عليه السلام)، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا

[193]

إِليه، لأنّ القرآن مليء بذكر أُمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي، وهو إِشارة إِلى أنّ وقوعه حتمي، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاُولى: (وإِذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله).

لا ريب أنّ المسيح(عليه السلام) لم يقل شيئاً كهذا، بل دعا إِلى التوحيد وعبادة الله،أنّ القصد من هذا الإِستفهام هو إِستنطاقه أمام أُمّته وبيان إِدانتها.

فيجيب المسيح(عليه السلام) بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:

1 ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة: (قال سبحانك).

2 ـ ثمّ يقول: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3 ـ ثمّ يستند إِلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيداً لبراءته فيقول: (إِن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إِنّك أنت علام الغيوب)(1).

4 ـ (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربّي وربَّكم)، لا أكثر من ذلك.

5 ـ (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(2).

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم، فكنت


1 ـ إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.

2 ـ في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيح(عليه السلام) أُنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.

[194]

الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إِليك، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6 ـ (إِن تعذبهم فإنّهم عبادك وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)، أي على كل حال فالأمر أمرك والإِرادة إِرادتك، إِن شئت أن تعاقبهم على إِنحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك، وإِن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم، فلا عفوك دليل ضعف، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

* * *

هنا يتبادر إِلى الذهن سؤالان:

1 ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إِنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة: (الإِله الأب) و(الإِله الابن) و(روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإِله الأب) و(الإِله الابن) وهو ليس (مريم).

للإِجابة على هذا السؤال نقول: صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة، كالوثنيين الذى لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق، والـ«إله» بمعنى المعبود، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين: إِنّ المسيحيين على إختلاف فرقهم، وإن لم يطلقوا كلمة (إِله) أو معبود على مريم، واعتبروها أم الإِله لا غير، فهم في الواقع يقدمون لها طقوس الدعاء والعبادة، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه، ثمّ يضيف

[195]

قائلاً: قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من المجلة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أُصول عبادة مريم حتى في العهد القديم، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم(1).

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

2 ـ السؤال الثّاني: كيف يتحدث المسيح(عليه السلام) عن مشركي أُمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول: (وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول: لو كان قصد عيسى(عليه السلام) هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة، ولكنّنا نراه يقول (فإنّك أنت العزيز الحكيم) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله، إِن شاء عفا، وإِن شاء عاقب، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إِلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

* * *


1 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 263.

[196]

الآيتان

قَالَ اللهُ هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119) للهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(120)

التّفسير

الفوز العظيم:

بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيح(عليه السلام) يوم القيامة ـ كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة ـ تقول الآية (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم).

طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة، لأن الصدق في الآخرة ـ التي لا تكليف فيها ـ لا ينفع شيئاً ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إِلاّ أن يقول الصدق، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.

وعليه، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسؤولية ورسالة ولم يسيروا إِلاّ في

[197]

طريق الصدق، مثل المسيح(عليه السلام) وأتباعه الصادقين، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.

يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.

وهؤلاء الصادقون: (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم: (ذلك الفوز العظيم).

يلفت النظر أنّ الآية، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة، تذكر نعمة رضى الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون أمرؤ غارقاً في أرفع نعم الله، ولكنّه إِذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضياً عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقماً في ذائقة روحه.

كما يمكن أن يتوفر لأمرىء كل شيء، ولكنه لا يكون راضياً ولا قانعاً بما عنده، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إِسعاد تلك الروح، بل تكون دائماً معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.

ثمّ إِذا كان الله راضياً عن أمرىء فإنّه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضاً، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإِنسان ويرضى الإِنسان عن ربّه.

وفي آخر الآية إِشارة إِلى امتلاك الله كل شيء وسيطرته على السموات والأرض وما فيها، وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شيء: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير).

[198]

هذه الآية، في الواقع، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله، وذلك لأنّ الذي يملك كل شيء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم، كما تتضمن إِشارة إِلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

* * *

[199]

سُورَة الأَنْعَــامَ

مَكيَّة

وفيهَا مَائة وخمس وَستُونَ آية

سورة الأنعام

سورة محاربة أنواع الشرك والوثنية

قيل أنّ سورة الأنعام مكية، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول السور القرآنية، إِلاّ أنّ هناك اختلافاً بشأن عدد من آياتها، يعتقد بعض أنّ تلك الآيات نزلت في المدينة، لكن الأخبار الواصلة إِلينا من أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)تفيد بأن واحدة من مميزات هذه السورة هي أنّ آياتها جميعاً نزلت في مكان واحد، وعليه فكل آياتها مكية.

هدف هذه السورة الرئيسي ـ مثل أهداف السور المكية ـ توكيد الأُصول الثلاثة: «التوحيد» و«النبوة» و«المعاد»، ولكنها تؤكّد أكثر ما تؤكّد قضية عبادة الله الواحد ومحاربة الشرك والوثنية، بحيث أنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع أعمال المشركين وبدعهم.

على كل حال، فإن تدبر آيات هذه السورة والتفكير في استدلالاتها الحية الجلية، يحيي روح التوحيد وعبادة الله في الإِنسان، ويحطم قواعد الشرك ويقتلع جذوره، ولعل السبب في نزول هذه السورة في مكان واحد هو هذا التماسك المعنوي وإِعطاء الأولوية لمسألة التوحيد.

ولعل هذا أيضاً هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة، وإِنّها عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك، وأنّ من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع

[202]

التوحيد يستغفر له كل أُولئك الملائكة.

إِنّ التمعن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين المسلمين، ويجعل الآذان سميعة، والأعين بصيرة، والقلوب عارفة.

ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط، ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حل المشاكل الشخصية، فلو اهتمت هذه الجلسات بمحتوى السورة، فلا تنحل المشاكل الخاصّة وحدها، بل تنحل جميع مشاكل المسلمين العامّة أيضاً، ومن المؤسف جداً أنّ جمعاً من الناس يعتبرون القرآن مجموعة من (الأوراد) التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرأونها بغير تمعن في مضامينها، مع أن القرآن كلّه مدرسة ودروس ومنهج ويقظة، ورسالة ووعي.

* * *

[203]

الآيتان

الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِين ثمّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ(2)

التّفسير

تبدأ السّورة بالحمد لله والثناء عليه، ثمّ تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد، عن طريق خلق العالم الكبير (السموات والأرض) أولا، ثمّ عن طريق خلق العالم الصغير (الإِنسان) ثانياً: (الحمدلله الذي خلق السموات والأرض)الله الذي هو مبدأ الظّلمة والنّور، وبخلاف ما يعتقده الثنويون، وهو وحده خالق كل شيء: (وجعل الظّلمات والنّور).

غير أنّ الكافرين والمشركين، بدلا من أن يتعلموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد، يصطنعون لله الشريك والشبيه: (ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون)(1).

نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم» الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي، وهذا يدل على أن التوحيد كان في أوّل الأمر مبدأ فطرياً وعقيدة عامّة للبشر، بعد ذلك حصل الشرك كإنحراف عن الأصل الفطري.

أمّا لماذا استعملت الآية كلمة «الخلق» بشأن السموات والأرض، وكلمة


1 ـ «يعدلون» من «عدل» على وزن «حفظ» بمعنى التساوي، وهي هنا بمعنى (العديل) أي الشريك والشبيه والمثيل.

[204]

«جعل» بشأن النّور والظلمة، فإنّ للمفسّرين في ذلك كلاماً كثيراً، ولكن أقربه إلى الذهن هو القول بأنّ «الخلق» يكون في أصل وجود الشيء، و«الجعل» يكون بشأن الخصائص والآثار والكيفيات التي هي نتيجة لخلق تلك المخلوقات، ولما كان النّور والظلمة حالتين تابعتين فقد عبّر عنهما بلفظة «جعل».

وروي عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم، لما قال:(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إِنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة، ثمّ قال: (وجعل الظّلمات والنّور) فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إِنّ النّور والظلمة هما المدبران.

ثمّ قال: (ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلهم) فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إِنّ أوثاننا آلهة»(1).

هل الظّلمة من المخلوقات؟

تفيد الآية إِنّه مثلما أن «النّور» من مخلوقات الله، فإِنّ «الظلمة» كذلك من مخلوقاته، مع أنّ الفلاسفة والمختصين بالعلوم الطبيعية يعرفون أنّ الظلمة هي انعدام النّور، ولهذا فلا يمكن اطلاق صفة «المخلوق» على المعدوم إِذن، كيف تعتبر الآية المذكورة الظلمة من المخلوقات؟

في ردّ هذا الإِعتراض نقول.

أوّلا: الظّلمة ليس تعني دائماً الظلام المطلق، بل كثيراً ما تطلق على النّور الضعيف جداً بالمقارنة مع النّور القوي، فنحن جميعاً نقول، مثلا، ليل مظلم، مع العلم بأنّ ظلام الليل ليس ظلاماً مطلقاً، بل هو مزيج من نور النجوم الضعيف أو مصادراَ أُخرى للنور، وعلى هذايكون مفهوم الآية هو أنّ الله جعل لكم نور النهار وظلام الليل، فالأوّل نور قوي والآخر نور ضعيف جداً وواضح أنّ الظلمة، بهذا المعنى، تكون من المخلوقات.

وثانياً: صحيح أنّ الظلمة المطلقة أمر عدمي، ولكن الأمر العدمي ـ في ظروف


1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 701.

[205]

خاصّة ـ يكون نابعاً من أمر وجودي، أي أنّ يوجد الظلمة المطلقة في ظروف خاصة لهدف معين، لابدّ أن يكون قد استعمل لذلك وسائل وجودية، فإِذا أردنا أنّ نجعل الغرفة مظلمة لتحميض صورة ـ مثلا ـ فعلينا أن نمنع النّور لكي تحصل الظلمة في تلك اللحظة المعينة، وظلمة هذا شأنها ظلمة مخلوقة (مخلوقة بالتبع).

وإِذا لم يكن (العدم المطلق) مخلوقاً، فإن (العدم الخاص) له نصيب من الوجود، وهو مخلوق.

النّور رمز الوحدة، والظلمة رمز التشتت:

الأمر الآخر الذي ينبغي الإِلتفات إليه هنا هو أنّ لفظة (نور) ترد في القرآن بصيغة المفرد، بينما الظلمة تأتي بصيغة الجمع (ظلمات).

وقد يكون هذا إِشارة لطيفة إِلى حقيقة كون الظلام (المادي والمعنوي) مصدراً دائماً للتشتت والإِنفصال والتباعد، بينما النّور رمز التوحد والتجمع.

طالما شاهدنا أنّنا في الليلة الصيفية الظلماء نوقد سراجاً في فناء الدار، ثمّ لا تمضي إِلاّ دقائق حتى نرى مختلف أنواع الحشرات تتجمع حول السراج مؤلفة تجمعاً حياً حول النّور، ولكننا إِذا أطفأنا السراج تفرقت الحشرات كل إِلى جهة، كذلك الحال في الشؤون المعنوية والإِجتماعية. فنور العلم والقرآن والإِيمان أساس الوحدة، وظلام الجهل والكفر والنفاق أساس التفرق والتشتت.

قلنا: إِنّ هذه السورة تسعى إِلى لفت نظر الإِنسان إِلى العالم الكبير لتثبيت قواعد عبادة الله والتوحيد في القلوب، توجه نظره أوّلا إِلى العالم الكبير، والآية التّالية تلفت نظره إِلى العالم الصغير (الإِنسان) فتشير إِلى أعجب أمر، وهو خلقه من الطين فتقول (هو الذي خلقكم من طين).

صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا، لا من الطين، ولكن بما أنّ خلق الإِنسان الأوّل كان من الطين، فيصح أن نخاطب نحن أيضاً على أننا مخلوقين من الطين.

وتستمر السورة فتشير إِلى مراحل تكامل عمر الإِنسان فتقول: إِنّ الله بعد ذلك عين مدّة يقضها الإِنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل: (ثمّ قضى أجلا).

«الأجل» في الأصل بمعنى «المدّة المعينة» و«قضاء الأجل» يعني تعيين تلك

[206]

المدّة أو إِنهاءها، ولكن كثيراً ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم «الأجل»، فتقول، مثلا: جاء أجل الدَّين، أي أنّ آخر موعد التسديد الدّين قد حل. ومن هنا أيضاً يكون التعبير عن آخر لحظة من الحظات عمر الإِنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت.

ثمّ لإِستكمال البحث تقول: (وأجل مسمى عنده).

بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم: (ثمّ أنتم تمترون) أي تشكون في قدرة الخالق الذي خلق الإِنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه المراحل المدهشة، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.

ما معنى الأجل المسمى؟

لا شك أنّ «الأجل المسمى» و«أجلا» في الآية مختلفتان في المعنى، أمّا اعتبار الإِثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة «أجل» خاصّة مع ذكر القيد: «مسمى» في الثّاني.

لذلك بحث المفسّرون كثيراً في الإِختلاف بين التعبيرين، والقرائن الموجودة في القرآن والرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) تفيد أنّ «أجل» وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة، و«الأجل المسمى» بمعنى الحتمي منها، وبعبارة أُخرى «الأجل المسمى» هو «الموت الطبيعي» و«الأجل» هو الموت غير الطبيعي.

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي والذاتي الإِستعداد القابلية للبقاء مدّة طويلة، ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى، افترض سراجاً نفطياً يستطيع أنّ يبقى مشتعلا مدّة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الإِعتبار سعته النفطية، غير أن هبوب ريح قوية، أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به، يكون سبباً في قصر مدّة الإضاءة، فإِذا لم يصادف السراج أي مانع، وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه ثمّ انطفأ نقول: إِنّه وصل إِلى أجله المحتوم، وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك، فيكون عمره «أجل» غير محتوم.

[207]

والحال كذلك بالنسبة للإِنسان، فإِذا توفرت جميع ظروف بقاءة وزالت جميع الموانع من طريق استمرار حياته، فإن بنيته تضمن بقاءه مدّة طويلة إِلى حد معيّن، ولكنّه إِذا تعرض لسوء التغذية، أو ابتلى بنوع من الإِدمان، أو إِذا انتحر، أو أعدم لجريمة ومات قبل تلك المدّة، فإنّ موته في الحالة الاُولى يكون أجلا محتوماً، وفي الحالة الثّانية أجلا غير محتوم.