![]() |
![]() |
![]() |
وبعبارة أُخرى: الأجل الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «مجموع العلل التامّة»، والأجل غير الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «المقتضيات» فقط.
استناداً إِلى هذين النوعين من الأجل يتّضح لنا كثير من الأُمور، من ذلك مثلا ما نقرؤه في الرّوايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر، وقطعها يقصر العمر، وواضح أنّ العمر هنا هو الأجل غير الحتمي.
أمّا قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(1).
فهو الأجل المحتوم، أي أنّ الإِنسان قد وصل إِلى نهاية عمره، وهو لا يشمل الموت غير المحتوم السابق لأوانه.
ولكن علينا أن نعلم ـ على كل حال ـ أنّ الأجلين يعينهما الله، الأوّل بصورة مطلقة، والثّاني بصورة معلقة أو مشروطة، وهذا يشبه بالضبط قولنا: إِنّ هذا السراج ينطفيء بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط، ونقول إِنّه ينطفيء بعد ساعتين إِذا هبت عليه ريح، كذلك الأمر بالنسبة للإِنسان والأقوام والملل، فنقول: إِنّ الله شاء أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأُمّة الفلانية بعد كذا من السنين، ونقول إِنّ هذه الأُمّة إِذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنّها ستهلك في ثلث تلك المدّة، كلا الأجلين من الله، الأوّل مطلق والآخر مقيد بشروط.
جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) تعقيباً على هذه الآية قوله: «هما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف» كما جاء عنه في أحاديث أُخرى أنّ الأجل الموقوف قابل للتقديم والتأخير، والأجل الحتمي لا يقبل التغيير(2).
1 ـ الأعراف، 34.
2 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 504.
وَهُوَ اللهُ فِى السَّمَـوَتِ وَفِى الاَْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)
هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية الله، وترد على الذين يقولون بوجود إِله لكل مجموعة من الكائنات، أو لكل ظاهرة من الظواهر، فيقولون: إِله المطر، وإِله الحرب، وإِله السلم، وإِله السماء، وما إِلى ذلك، تقول الآية: (وهو الله في السموات وفي الأرض)(1) أي كما أنّه خالق كل شيء فهو مدبر كل شيء أيضاً، وبذلك ترد الآية على مشركي الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنّ الخالق هو «الله» لكنّهم كانوا يؤمنون أنّ تدبير الأُمور بيد الأصنام.
هنالك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّها تعني حضور الله في كل مكان، في السموات والأرض، ولا يخلو منه مكان، فليس هو بجسم ليشغل حيزاً معيناً، بل هو المحيط بكل الأمكنة.
1 ـ ثمّة إختلاف بين المفسّرين حول إعراب هذه العبارة القرآنية والظاهر أنّ «هو» مبتدأ و«الله» خبر. و(في السماوات ...)جار و مجرور متعلقان بفعل تدل عليه كلمة «الله» والتقدير: (هو المتفرد في السموات والأرض بالألوهية).
من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شيء والمدبر لكل الأُمور والحاضر في كل مكان عارفاً بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية: إِنّ ربّاً كهذا (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون).
قد يقال بأنّ (السرّ) و(الجهر) يشملان أعمال الإِنسان ونواياه، وعلى ذلك فلا حاجة لذكر (ويعلم ما تكسبون).
ولكن ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ «الكسب» هو نتائج العمل والحالات النفسية الناشئة عن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، أي أنّ الله يعلم أعمالكم ونواياكم، كما يعلم الآثار التي تخلفها تلك الأعمال والنوايا في نفوسكم، وعلى كل حال، فانّ ذكر العبارة هذه يفيد التوكيد بشأن أعمال الإِنسان.
* * *
وَمَا تَأْتِيِهم مِّنْ ءَايَة مِّنْ ءَايَـتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَـمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَـؤُا مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(5)
قلنا: إِنّ معظم الخطاب في سورة الأنعام موجه إِلى المشركين، والقرآن يستخدم شتى السبل لإِيقاظهم وتوعيتهم، فهذه الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.
تشير هذه الآية إِلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحقّ وتجاه آيات الله فتقول: (وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إِلاّ كانوا عنها معرضين)(1).
أي أنّ أبسط شروط الهداية ـ وهو البحث والتقصي ـ غير موجود عندهم، وليس فيهم أي اندفاع لطلب الحقيقة، ولا يحسّون بعطش إِليها ليبحثوا عنها،
1 ـ كلمة «آية» نكرة، ووردت في سياق النفي، فيكون المعنى: إنّهم يعرضون عن كل آية ولا يفكرون فيها.
وحتى لوتدفّق ينبوع الماء الزلال عند عتبات بيوتهم لأعرضوا عنه ولما نظروا اليه ... وكذلك فهم يعرضون عن آيات «ربّهم» النازلة لتربيتهم وتكاملهم.
مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب، فاليوم أيضاً نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في الله والدين، وإِن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إَليه، وإِن تحدث إِليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إِليه، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحياناً أمام الناس بمظهر العالم المتجبر!
ثمّ تشير الآية إِلى نتيجة أعمالهم، وهي: أنّهم عندما رأوا الحقيقة كذبوها، ولو أنّهم دققوا في آيات الله جيداً لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها: (فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم)، ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون).
في هاتين الآيتين إِشارة إِلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي، المرحلة الاُولى هي مرحلة الإِعراض، ثمّ مرحلة التكذيب، وأخيراً مرحلة الإِستهزاء بآيات الله.
يدل هذا على أنّ الإِنسان في كفره لا يتوقف في مرحلة واحدة، بل يزداد باستمرار إِنكاراً للحق وعدواة له وابتعاداً عن الله.
المقصود من التهديد المذكور في آخر الآية أنّ أوزار عدم الإِيمان ستحيق بهم عاجلا أو آجلا في الدنيا والآخرة، والآيات التّالية تؤكّد هذا التّفسير.
* * *
أَلَمْ يَرَوْا كُمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْن مَّكَّنَّـهُمْ فِى الاَْرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَْنْهَـرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلكنَهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ(6)
1 ـ «المدرار» في الأصل من «درّ» اللبن، ثمّ إنتقل إِلى ما يشبهه في النّزول كالمطر والكلمة صيغة مبالغة، وجملة «أرسلنا السماء» للزيادة في المبالغة.
الأنهار تجري من تحتهم).
ولكنّهم لمّا استمروا على طريق الطغيان، لم تستطع هذه الإِمكانات إِنقاذهم من العقاب الإِلهي: (فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).
أفلا ينبغي أنّ يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم، توقظهم من نوم غفلتهم، ومن سكرتهم؟ أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء أيضاً؟
ها هنا بضع نقاط نلفت إِليها الإِنتباه:
1 ـ على الرّغم من أن «قرن» تعني فترة طويلة من الزمن (مئة، أو سبعين أو ثلاثين سنة)، ولكنّها قد تعني أيضاً ـ كما يقول اللغويون ـ القوم والجماعة في زمان معين (القرن من الإِقتران بمعنى التقارب، وبالنظر لأنّ أهل العصر الواحد أو العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن).
2 ـ يتكرر في القرآن القول بأنّ الإِمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى: (إِنّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى)(1) لأنّهم بتوفر تلك الإِمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله، غافلين عن العناية الإِلهية والإِمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة.
3 ـ ليس هذا التحذير مختصاً بعبدة الأصنام، فالقرآن يخاطب ـ أيضاً ـ اليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإِمكانات المادية وملأته بالغرور، ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب، وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم: إِنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أُخرى، لتعودوا إِلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب تعاسة أُولئك لم يكن شيئاً سوى إِثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم
1 ـ العلق، 6 و7.
وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضاً.
حقاً إنّ دراسة تاريخ فراعنة مصر، وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور، وقياصرة الرّوم، ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا تعد ولا تحصى، ثمّ رؤية عواقب أُمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم الذي قوض أركان حياتهم، فيها أعظم العبر والدروس.
* * *
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـباً فِى قِرْطَاس فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـذَآ إِلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)
من عوامل إِنحرافهم الأُخرى التكبر والعناد اللذين تشير إِليهما، هذه الآية، أنّ المتكبر المكابر انسان عنيد في العادة، لأنّ التكبر لا يسمح لهم بالإِستسلام للحق والحقيقة، والأفراد المتصفون بهذه الصفة يكونون عادة معاندين مكابرين، ينكرون حتى الأُمور الواضحة القائمة على الدليل والبرهان، بل ينكرون حتى البديهيات، كما نراه بأمّ أعيننا في المتكبرين من أبناء مجتمعاتنا.
يشير القرآن هنا إِلى الطلب الذي تقدم به جمع من عبدة الأصنام (يقال أنّ هؤلاء هم نضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد الذين قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لن نؤمن حتى ينزل الله كتاباً مع أربعة من الملائكة!) ويقول: (ولو أنزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إِن هذا إِلاّ سحر مبين).
أي أنّ عنادهم قد وصل حدّاً ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم
ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحراً لكيلا يستسلموا للحقيقة، مع أنّهم في حياتهم اليومية يكتفون بعشر هذه الدلائل للإِيمان بالحقائق ويقتنعون بها، وما هذابسبب ما فيهم من أنانية وتكبر وعناد.
وبهذه المناسبة فإنّ «القرطاس» هو كل ما يكتب عليه، سواء أكان ورقاً أو جلداً أو ألواحاً، أمّا اطلاقه اليوم على الورق فذلك لانتشار تداول الورق أكثر من غيره للكتابة.
* * *
وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاَْمْرُ ثُمَّ لاَيُنظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَـهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(10)
من عوامل الكفر والإِنكار الأُخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أُخرى، مثل التكبر والأنانية، ولكنّه ينقلب بالتدريج إِلى حالة نفسية سلبية، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.
ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأشار إِليها القرآن في كثير من آياته ـ ومنها هذه الآية ـ هي أنّهم كانوا يقولون: لماذا يقوم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإِنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه
الرسالة على عاتقه؟ (وقالو لولا أنزل عليه ملك).
ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإِنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الانسان بل انّ قابلية الإِنسان أكثر بكثير.
يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان:
الاُولى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثمّ لا ينظرون).
أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لهلك الكافرون، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة، وهو أنّه إِذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس، أي إِذا تحول الغيب بنزول الملك إِلى شهود، بحيث يرى كل شيء عياناً، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إِتمام الحجة، إِذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير، لا يفعل ذلك إِلاّ في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإِلهي، في هذه الحالة يحقق له طلبه، ثمّ إِذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.
الثّانية: هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أُسوة لهم، لابدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم، لأنّه لا يدري شيئاً عن حاجاتهم والآمهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الإِختلاف لا يحقق الهدف.
لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول: لو شئنا أن يكون رسولنا ملكاً حسبما يريدون، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإِنسان وأن يظهر في هيئة إِنسان:
(ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا)(1).
يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة (لجعلناه رجلا) لا تعني: أنّنا سنجعله على هيئة انسان، كما تصور بعض المفسّرين، بل تعني: أنّنا نجعله على هئية البشر في الصفات الظاهرية والباطنية، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم ـ في هذه الحالة أيضاً ـ كانوا سيعترضون الإِعتراض نفسه، وهو: لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إِلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة: (وللبسنا عليهم ما يلبسون).
«اللبس» بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبهاً بغيره خافياً، و«اللبس» بمعنى ارتداء اللباس، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكاً لوجب أن يكون في صورة الإِنسان وسلوكه، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الإِشتباه، ولكانوا يشكلون علينا الإِشكالات السابقة، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والإِشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم، وعليه فإنّ نسبة «اللبس» والإِخفاء إِلى الله إِنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.
وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له: (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون).
هذه الآية في الواقع تسلية لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة(2).
* * *
1 ـ الضمير «جعلناه» يمكن أن يعود على الرّسول، أو على من يرسل معه لإِعانته على تثبيت النبوة وعلى الإِحتمال الثّاني يكون إقتراحهم قد تحقق، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.
2 ـ «حاق» بمعنى أحاط به وحل به، و«ما كانوا به يستهزئون» أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة «جزاء» كما يقول بعضهم، إذ يكون المعنى: العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.
قُلْ سِيرُوا فِى الاَْرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)
لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر أُولئك الذين كذبوا بالحقائق، فلعل ذلك يوقظهم من غفلتهم (قل سيروا في الأرض ثمّ انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إِنكارها الحقائق تأثيراً أعمق من مجرّد قراءة كتب التّأريخ، لأنّ هذه الآثار تجسد الحقيقة ناطقة ملموسة، ولهذا استعمل جملة «أنظروا» ولم يقل «تفكروا».
ولعل استعمال «ثم» لعاطفة التي تفيد عادة التراخي الزمني يراد منه أن لا يتعجلوا في سيرهم وفي اطلاق أحكامهم، عليهم أن يمعنوا النظر في تلك الآثار التي خلفتها الأقوام السالفة ويفكروا فيها ثمّ يأخذوا منها العبر ويروا عاقبة أعمال تلك الأُمم.
فيما يتعلق بالسير والسياحة في الأرض وتأثيره في ايقاظ الأفكار انظر تفسير الآية (137) من سورة آل عمران في هذا التّفسير.
* * *
قُل لِّمَن مّا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ لاَ رَيْبِ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13)
يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإِشارة إِلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب، والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.
يتكون الإِستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:
أوّلا: يقول: (قل لمن ما في السموات والأرض). ثمّ يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: (قل لله)، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً لله وبيده وتدبيره.
ثانياً: إِنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: (كتب على نفسه الرحمة).
أيمكن لربٍّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائياً بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضاً» و«ذا رحمة واسعة»؟ أيمكن أن يكون قاسياً على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إِلى لا شيء؟
طبعاً لا، إِذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إِلى شجيرة ورد جميلة، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إِلى انسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإِنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: (ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه).
إنّ الآية تبدأ بالإِستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإِقرار من السامع، ولمّا كان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإنّ الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.
في مواضع أُخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أُخرى، بطريق قانون العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإِلهية، ولكن الإِستدلال بالرحمة إستدلال جديد جاءت به هذه الآية.
في نهاية الآية إِشارة إِلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).
ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحياناً ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئاً، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءاً من وجوده، أي أنّه خارج وجوده، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية، فهي عندما يخسر الإِنسان أصل وجوده.
إِنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماماً رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إِلى مرحلة التكامل، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.
لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.
سؤال:
قد يقال: إِنّ الحياة الأبدية تكون مصداقاً للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.
الجواب:
لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة، فهو الذي خلق الإِنسان، ووهب له العقل، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته، ومنحه مختلف أنواع النعم، وفتح أمامه طريقاً للحياة الخالدة، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.
والإِنسان في غضون مسيرته للوصول إِلى ثمرات هذه الرحمة إِذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إِلى عذاب وشقاء، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة، بل الإِنسان هو الملوم على الإِنحراف عنها وتبديلها إِلى عذاب وألم.
الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة، فالآية السابقة تشير إِلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف «المكان»: (قل لمن ما في السموات والأرض ...)؟
أمّا هذه الآية فتشير إِلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف «الزمان» الوسيع، وتقول: (وله ما سكن في الليل والنهار).
في الواقع، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان ـ أي عالم المادة كله ـ ملك لله.
وليس الليل والنهار مختصين ـ طبعاً ـ بالمنظومة الشمسية، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهاراً، بعضها له نهار دائم بلا ليل ، ولبعضها ليل بلا نهار، ففي الشمس ـ مثلا ـ نهار دائم، فهناك ضوء دائم بلا ظلام، وفي بعض الكواكب الخامدة، التي لا نور فيها ولا تجاور النجوم، ليل دائم سرمدي، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.
لابدّ هنا أن نلاحظ أنّ «سكن» والسكونة تعني التوقف والإِستقرار في مكان ما، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون، نقول مثلا: فلان «ساكن» في المدينة الفلانية، أي أنّه مستقر هناك، مع أنّه يمكن أن يكون متحركاً في شوارعها.
كما يحتمل أن تقابل «السكون» في هذه الآية «الحركة»، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر، وعليه يصبح معنى الآية هكذا: كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكناً كان أم متحركاً، ملك لله.
وبهذا يمكن أن تكون الآية إِشارة إِلى أحد أدلة التوحيد، لأنّ «الحركة» و«السكون» حالتان عارضتان وحادثتان طبعاً، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين، وعليه فإنّ الإِلتفات إِلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون. ونحن نعلم أنّ الشيء إِذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزلياً.
نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وعليه فكل جسم حادث، وكل حادث لابدّ من محدث (خالق).
ولكن الله ليس جسماً، فلا حركة له ولا سكون، ولا زمان ولا مكان، ولذلك فهو أبدي أزلي.
وفي نهاية الآية، وبعد ذكر التوحيد، تشير الآية إِلى صفتين بارزتين في الله فتقول: (وهو السميع العليم)، أي أنّ إِتساع عالم الوجود، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبداً دون أن يكون الله عليماً بأسرارها، بل إنّه يسمع نجواها، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها، ويعلم ما تفعل.
* * *
قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(14) قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)
من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمّد، إِنّك تركت دين قومك، ولم يكن ذلك إِلاّ بسبب فقرك، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنياً على أن تترك آلهتنا وشأنها وتعود إِلى ديننا، فنزلت هذه الآية ترد عليهم(1).
سبق أن قلنا: إِنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة، كما جاء في الأخبار المروية، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص، غير أنّ
1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير «مجمع البيان» في ذيل تفسير الآية.
أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إِلى تلك الأحاديث، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضاً قد جرت بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين، فيشير القرآن في هذه الآيات إِلى أحاديثهم ويرد عليهم.
* * *
على كلّ حال، الهدف من نزول هذه الآيات هو إِثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون، وإِن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأً لأنفسهم، ولربّما اتخذوا صنماً لكل حاجة معينة، فلهم إله للمطر، وإِله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.
ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطىء، يأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن (قل أغير الله اتّخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم).
فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الإِستناد إِلى قدرة أُخرى، وهو الذي يرزق مخلوقاته، فما الذي يدعو الإِنسان إِلى أن يتخذ من دونه ولياً وربّاً؟ وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟
هذه الآية تستعمل كلمة «فاطر» في حديثها عن خالق السموات والأرض، وأصل «الفطر» و«الفطور» هو الشق، يروى عن ابن عباس أنّه قال: ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إِلاّ عندما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما: «أنا فطرتها» أي أنا أحدثتها وأو جدتها.
ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى «فاطر» بالإِستعانة بالعلوم
الحديثة، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الإِنفجارات المتتالية، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما).
والنقطة الأُخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد إتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إِشارة إِلى أنّ أقوى حاجات الإِنسان في حياته المادية هي حاجته إِلى «لقمة العيش» كما يقال، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة، وقد يصل خضوعهم لأُولئك حدّ العبودية، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إِلى الطعام، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إِلى طعام.
وفي آيات أُخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورازقيته بإنزال الأمطار وإِنبات النباتات، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كلياً فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.
ثمّ للردّ على أُولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إِلى الإِنضمام إِليهم، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء إِنطلاقاً من مبدأ نهي الوحي الإِلهي عن ذلك، إِضافة إِلى نهي العقل: (قل إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم ولا تكونن من المشركين)(1).
لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في
1 ـ جملة (إنّي أُمرت ...) من قبيل الخطاب غير المباشر، وجملة «ولا تكونن» خطاب مباشر، ولعل هذا الإِنتقال يقصد به القول بأنّ الإِبتعاد عن الشرك واستنكاره أهم بكثير من أن يكون المرء أول المسلمين، ولذا جاء موضوع تجنب الشرك في خطاب مباشر ومؤكد بنون التوكيد الثقيلة.
استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى: (إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم)يعني أوّل مسلم من أُمّة الرسالة الخاتمة.
كما أنّ هذا إِشارة إِلى أمر تربوي مهم أيضاً، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته، وأوّل العاملين بها، وأكثر الناس اجتهاداً فيها، وأسرعهم إِلى التضحية في سبيلها.
الآية التّالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإِلهي عن إِتّباع المشركين: (قل إِني أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم)(1). أي يأمر الله رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإِلهية، وأنّه يخاف ـ إِن ركن إِلى المشركين ـ عذاب يوم القيامة.
ومن هذه الآية نفهم أيضاً أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها.
ولكي يتّضح أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع شيئاً بغير الإِستناد إِلى لطف الله ورحمته، فكل شيء بيد الله وبأمره، وحتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة، ومنه يطلب النجاة والفوز: (ومن يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين).
هذه الآيات تبيّن منتهي درجات التوحيد، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطاناً مستقلا عن ارادة الله، كما فعل المسيحيون عندما جعلوا من المسيح(عليه السلام) المخلّص والمنقذ، فتقول لهم: إِنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إِلى رحمة الله مثلكم.
![]() |
![]() |
![]() |