ففي البداية تقول: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم)، فعملهم وصف هنا بأنّه خسران بالمنظار الإِنساني والأخلاقي، وبالمنظار العاطفي والإِجتماعي، والخسارة الكبرى هي الخسارة المعنوية في العالم الآخر. فهذه الآية تعتبر عملهم أوّلا «خسراناً» ثمّ «سفاهة» وخفة عقل، ثمّ «جهلا» وكل صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإِظهار قبح أعمالهم، فأي عقل يجيز للأب أن يقتل أولاده بيده؟ أو ليس هذا من السفاهة وخفة العقل أن يفعل هذا ثمّ لا يخجل من فعلته، بل يعتبرها نوعاً من الفخر والعبادة؟ أي علم يجيز للإِنسان أن يعتبر هذه الأعمال قانوناً إِجتماعياً؟

[481]

من هنا نفهم ما قاله ابن عباس بشأن ضرورة قراءة سورة الأنعام لمن شاء أن يدرك مدى تخلف الأقوام الجاهليين.

ثمّ يذكر القرآن أنّ هؤلاء قد حرموا على أنفسهم ما رزقهم الله وأحله لهم وكذبوا على الله ونسبوا هذه الحرمة له سبحانه: (وحرموا ما رزقهم الله إِفتراء على الله).

في هذه العبارة إِدانة أُخرى لأعمالهم، فهم ـ أوّلا ـ حرموا على أنفسهم النعمة التي «رزقهم» إِيّاها وأباحها لهم وكانت ضرورية لحياتهم، فنقضوا بذلك قانون الله.

وهم ـ ثانياً ـ «افتروا» على الله قائلين إِنّه هو الذي أمر بذلك.

في ختام الآية وفي جملتين قصيرتين إِدانة أُخرى لهم، فهم: (قد ضلّوا)، ثمّ إِنّهم لم يسلكوا يوماً الطريق المستقيم: (وما كانوا مهتدين).

* * *

[482]

الآية

وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـت مَّعْرُوشَـت وَغَيْرَ مَعْرُوشَـت وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَـبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـبِه كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)

التّفسير

درسٌ عظيمٌ عَلى دَربِ التَوحيد:

لقد جاءَت الإِشارة في هذه الآية إِلى عدّة مواضيع، كلُ واحد منها متفرعٌ عن الآخر، ونتيجة عنه.

فهو تعالى يقول أوَّلا: إِنَّ الله تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات، فمنها ما يعتمد في موقفه على الأعمدة والعروش حيث تحمل ما لذّ وطاب من الفواكه والثمار، وتخلب بمنظرها الساحر العيون والالباب، ومنها ما لا يحتاج إِلى عريش، بل هو قائم على سوقه يلقي بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميّين، ويسدّ بثماره المتنوعة حاجة الإِنسان إِلى الغذاء: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات).

[483]

لقد ذهب المفسّرون في تفسير كلمة «معروش» و«غير معروش» إِلى ثلاثة إِحتمالات:

1 ـ ما أشرنا إِليه قبل قليل، فالمعروش هو الأشجار والنباتات التي لا تقوم على سوقها بل تحتاج إِلى عروش وسُقف، وغير المعروش هو الأشجار والنباتات التي تقومُ على سوقها ولا تحتاج إِلى عروش وسُقف، (لأنَّ العرشَ يَدلُّ على ارتفاع في شيء، ولهذا يُقال لسقفِ البيت عرش، ويقال للسرير المرتفع عرش).

2 ـ إِنّ المراد من «المعروش» هو الأشجار المنزلية وما يزرعه الناس ويُحفَظ بواسطة الحيطان في البساتين، ومن «غير المعروش» الأشجار البرّية والنباتات الصحراوية والجبلية وما ينبت في الغابات.

3 ـ «المعروش» هو ما يقوم على ساقه من الأشجار أو يرتفع على الأرض، و«غير المعروش» هو الأشجار التي تمتد على الأرض.

ولكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب، هنا، ولعلّ ذكر «المعروشات» في مطلع الحديث إِنّما هو لأجل بنيان هذا النوع من الأشجار وتركيبها العجيب، فإِنّ نظرة عابرة إِلى شجرة الكرم وقضبان العنب وسيقانها الملتوية العجيبة، والمزوّدة بكلاليب ومقابض خاصّة، وكيفية التفافها بكل شيء حتى تستطيع أن تنمو، وتثمر، خير شاهد على هذا الزعم.

ثمّ إِنّ الآية تشير إِلى نوعين من البساتين والمزارع إِذ تقول: (والنخيل والزرع).

وذكر هذين النوعين بالخصوص إِنّما هو لأهميتهما الخاصّة في حياة البشر، ودورهما في نظامه الغذائي (ولابدّ أن تعرفَ أن الجنّة كما تطلَق على البستان، كذلك تطلَق على الأرض التي غّطاها الزرع).

ثمّ إِنّه تعالى يضيف قائلا: إِنَّ هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر

[484]

والطعم. فمع أنّ جميعَها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإِن لكل واحدة منها رائحة خاصّة، ونكهة معينة، وخاصية تختص بها، ولا توجد في غيرها: (مختلفاً أُكُلُه)(1).

ثمّ يُشير سبحانه إِلى قسمَين آخرين من الثمار عظيمَي الفائدة، جَليلَي النفع في مجال التغذية البشرية إِذ يقول: (والزيتون والرّمان).

إِن إِختيار هاتين بالذِكر من بين أشجار كثيرة إِنّما هو لأجل أن هاتين الشجرتين: (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافاً شاسعاً من حيث الثمرة، ومن حيث الخاصية الغذائية، ولهذا عقَّب على قولَه ذلك بهاتين الكلمتين: (متشابهاً، وغير متشابِه)(2).

وَبعد ذكر كلّ هذه النِعَم المتنوّعة يقولُ سبحانه: (كُلُوا من ثمره إِذا أثمَر، وآتوا حَقَه يومَ حصادِه).

ثمّ ينهى في نهاية المطاف عن الإِسراف إِذ يقول تعالى: (ولا تسرفوا إِنّه لا يحبّ المسرفين).

«الإِسراف» تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإِنسان. وهذه الجملة يمكن أن تكون إِشارة إِلى عدم الإِسراف في الأكل، أو عدم الإِسراف في الإِنفاق والبذل، لأنَّ البعض قد يسرف في البذل والإِنفاق إِلى درجة أنّه يهبُ كلَ ما عنده إِلى هذا وذاك، فيقع هو وأبناؤه وأهلُه في عسر وفقر وحرمان!!

بحوث

1 ـ إِرتباط هذه الآية بالآيات السابقة

في الآيات السابقة من هذه السورة جرى حديثٌ عن الأحكام الخرافية التي


1 ـ الأكل: بضم الألف وضم أو سكون الكاف يعني ما يُؤكَل.

2 ـ تقدم لنا توضيح في هذا المجال عند تفسير الآية (99) من نفس هذه السورة.

[485]

كانت سائدة بين الوثنيين، الذين كانوا يجعلون نصيباً من الزرع والأنعام لله، وكانوا يعتقدون بأنّ ذلك النصيب يجب أن يُصرَفَ على نحو خاص، كانوا يُحرِّمونَ ركوب بعض الأنعام، ويقدّمون أولادهم قرابين إِلى بعض الأصنام والأوثان!!

إِنَّ الآية الحاضرِة، والآية اللاحقة تحملان رَدّاً على جميع هذه الأحكام والمقررات الخرافيّة الجاهلية إِذ تقولان بصراحة، إِنّ الله تعالى هو خالق جميع هذه النِعم، فهو الذي أنشأ جميع هذه الأشجار والأنعام والزروع، كما أنّه هو الذي أمر بالإِنتفاع بها، وعدم الإِسراف فيها، وعلى هذا الأساس فليس لغيره أي حق لا في «التحريم»، ولا في «التحليل».

2 ـ ماذا تعني جُملَة

(إِذا أثمر) مع ذكر «ثمره» قبل ذلك؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أن هذه الجملة تهدف إِلى تقرير وبيان أنّ بمجرد ظهور الثمار على هذه الأشجار، وظهور سنابل القمح، والحبوب في الزرع يجوز الإِنتفاع بها حتى إِذا لم يُعطَ منها حقوق الفقراء بعدُ، وإِنما يجب إِيتاء هذا الحق لأهله حين حصاد الزرع، وقطاف الثمر (يوم الحصاد) كما يقول تعالى: (وآتوا حقّه يوم حصاده).

3 ـ ما هو المراد من الحقّ الذي يجب إِعطاؤه؟

يرى البعض أنّها هي الزّكاة الواجبة المفروضة، أي عشر أو نصف عشر المحصول البالغ حدّ النصاب الشرعي.

بيد أنه مع الإِلتفات إِلى أنّ هذه السورة قد نزلت في مكّة، وأن حكم الزّكاة نزل في السنة الثانية من الهجرة أو بعد ذلك في المدينة المنورة، يبدو مثل هذا الأِحتمال بعيداً.

[486]

وقد عُرّفَ هذا الحق في روايات عَديدة وصلتنا من أهل البيت(عليهم السلام)، وكذا في روايات عديدة وردت في مصادر أهل السنة بغير الزّكاة.

وجاء فيها أنّ المراد منه هو يُعطى من المحصول إِلى الفقير عند حضوره عملية الحصاد أو القطاف، وليس له حدُّ معَين ثابت(1).

وفي هذه الحالة، هل هذا الحكم وجوبي أم استحبابي؟

يرى البعض أنه حكم وجوبي، أي أنَّ إِعطاء هذا الحق كان واجباً على المسلمين قبل تشريع حكم «الزّكاة» ولكنّه نسِخ بعد نزول آية الزّكاة، فحلّت الزّكاة بحدودها الخاصّة محل ذلك الحق.

ولكن يُستفاد من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) أن هذا الحكم لم ينسَخ، بل هو باق في صورة الحكم الإِستحبابي، وهذا يعني أنه يُستحبُّ الآن إِعطاء شيء من المحاصيل الزراعية إِلى من يحضر عند حصادها وقطافها من الفقراء.

4 ـ يمكن أن يكون التعبير بكلمة «يوم» إِشارة إِلى أنه يُحَبّذ أن يوقَع حصاد الزرع، وقطاف الثمر في النهار حتى اذا حضر الفقراء يعطي إِليهم شيء منها، لا في الليل كما يفعل بعض البخلاء لكيلا يعرفُ أحدٌ بهم.

وقد أكّدت الرّوايات الواصلةُ إِلينا من أهل البيت(عليهم السلام) على هذا الأمر أيضاً(2).

* * *


1 ـ الأحاديث المذكورة ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الزّكاة في أبواب زكاة الغلات في الباب 13، والبيهقي في كتاب السنن، ج 4، ص 132.

2 ـ راجع بهذا الصدد كتاب وسائل الشيعة كتاب الزّكاة، أبواب زكاة الغلات، باب كراهة الحصاد والجذاذ بالليل، ج 6، ص 136.

[487]

الآيات

وَمِنَ الاَْنْعَـمِ حَمُولَةً وَفَرْشَاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهَ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(142) ثَمَـنِيَةَ أَزْوَج مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الاُْنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُْنثَيَيْنِ نَبِّئُونِى بِعِلْم إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(143) وَمِنَ الاِْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الاُْنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُْنثَيَيْنِ أُمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّـكُمُ اللهُ بِهَـذَا فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(144)

التّفسير

إِنَّ هذه الآيات ـ كما أشَرنا إِلى ذلك ـ بصدد إِبطال أحكام خرافيّة جاهليّة كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام.

ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي

[488]

أنشأها الله، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحلّلة اللحم، وما تؤديه من خدمات، وما يأتي منها من منافع.

يقول أوّلا: إِنّ الله هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل، وأُخرى صغيرة: (ومن الأنعام حمولة وفرشاً)(1).

و«حمولة» جمع وليس لها مفرد ـ كما قال علماء اللغة ـ وتعني الحيوانات الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإِبل والفرس ونظائرها.

و«فرش» هو بنفس المعنى المتعارف، ولكن فُسِّر هنا بالغنم وما يشابهه من الحيوانات الصغيرة، والظاهر أنّ العلة في ذلك هو أنّ هذا النوع من الأنعام لصغرها واقترابها من الأرض كالفراش في مقابل الأنعام والحيوانات الكبيرة الجثة ـ التي تقوم بعملية الحمل والنقل، كالإِبل ـ فعند ما نشاهد قطعياً من الاغنام وهي مشغولة بالرعي في الصحاري والمراعي بدت لنا وكأنّها فرش ممدودة على الأرض، في حين أن قطيع الإِبل لا يكون له مثل هذا المنظر.

ثمّ إِنّ تقابلَ «الحمولة» لـ«الفرش» أيضاً يؤيد هذا المعنى.

وقد ذهبَ بعض المفسّرين إِلى إِحتمال آخر أيضاً، وهو أن المراد من هذه الكلمة هي الفُرُش التي يتخذها الناس من هذه الأنعام والحيوانات، يعني أن الكثير من هذه الحيوانات تستخدم للحمل والنقل، كما يُستفاد منها في صنع الفُرُش. ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب إِلى معنى الآية.

ثمّ إِنّ الآية الشريفة تخلص إِلى القول بأنه لمّا كانت جميع هذه الانعام قد خلقها الله تعالى وحكمها بيده، فإِنّه يأمركم قائلا: (كُلُوا ممّا رزقكم الله).

أمّا أنّه لماذا لا يقول: كُلُوا من هذه الأنعام والحيوانات، بل يقول: (كلوا ممّا رزقكم الله)؟ فلأن الحيوانات المحلّلة اللحم لا تنحصر في ما ذكر في هذه الآيات، بل هناك حيوانات أُخرى محلّلَة اللحم أيضاً ولكنّها لم تُذكر في الآياتِ


1 ـ الواو في صدر الآية هي واو العاطفة وما بعدها عطف على الجنات في الآية السابقة.

[489]

السابقةِ.

ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إِنّه لكم عدوٌ مبين) فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ بداية الخلق.

وهذه العبارة إِشارة إِلى أن هذه الأحكام والمقررات العارية عن الدليل، والتي تنبع فقط من الهوى والجهل، ما هي إِلاّ وساوس شيطانية من شأنها أن تبعدكم عن الحق خطوةً فخطوةً، وتؤدي بكم إلى متاهات الحيرة والضلالة.

هذا وقد مرّ توضيح أكثر لهذه العبارة عند تفسير الآية (168) من سورة البقرة.

الآية الثانية تبيّن قسماً من الحيوانات المحلّلة اللحم، وبعض الأنعام التي يستفاد منها في النقل، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضاً فيقول: إِنّ الله خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام: زوجين من الغنم (ذكر وأُنثى)، وزوجين من المعز: (ثمانية أزواج(1) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين).

وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة يأمر تعالى نَبيّهُ فُوراً بأن يسألهم بصراحة: هل أن الله حرمّ الذكور منها أم الاناث: (قل ءَآلذكرين حرّمَ أم الأُنثيين)؟! أم أنّه حرّم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام، أم ما في بطون الإِناث من المعز؟: (أمّا اشتملت عليه أرحام الأُنثيين)؟!

ثمّ يضيف قائلا: إِذا كنتم صادقين في أنّ الله حرّم شيئاً ممّا تدعونه، وكان لديكم ما يدلّ على تحريم أي واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك:


1 ـ أزواج جمع «زوج» تعني في اللغة ما يقابل الفرد، ولكن يجب الإِنتباه إِلى أنّه ربّما يراد منه مجموع الذكر والأُثنى، وربّما يطلق على كل واحد من الزوجين، ولهذا يُطلق على الذكر والأُنثى معاً: زوجين، واستعمال لفظ الأزواج الثمانية في الآية إِشارة إِلى الذكور الأربعة من الأصناف الأربعة، والإِناث الأربع من تلك الأصناف.

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من الأزواج الثمانية في الآية: الأليف من تلك الأصناف الأربعة وما يقابلها من الوحشي، أي الذكر والأنثى من الغنم الأليف، والذكر والأُنثى من الغنم الوحشي، وهكذا ... فتكون الأزواج حينئذ الأزواج حينئذ ثمانية.

[490]

(نِبئوني بعلم إن كنتم صادقين).

ثمَ في الآية اللاحقة يبيّن الأزواج الأربعة الأُخرى من الأنعام التي خلقها الله للبشر، إِذ يقول: وخلق من الإِبل ذكراً وأُنثى، ومن البقر ذكراً وأُنثى، فأي واحد من هذه الأزواج حرّم الله عليكم: الذكور منها أم الإِناث؟ أم ما في بطون الإِناث من الإِبل والبقر: (ومن الإِبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءَآلذكرين حرّم أم الأُنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأُنثيين)؟!

وحيث أن الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إِنّما هو بيد الله خالقها وخالق البشر وخالق العالم كله، من هنا يتوجَّب على كلّ مَن يَدّعي تحليل أو تحريم شيء منها، إِمّا أن يثبت ذلك عن طريق شهادة العقل، وإِمّا أن يكون قد أُوحي له بذلك، أو يكون حاضراً عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عند صدور هذا الحكم منه.

ولقد صرّح في الآية السابقة بأنّه لم يكن لدى المشركين أي دليل علميّ أو عقليّ على تحريم هذه الأنعام، وحيث أنّهم لو يَدّعوا أيضاً نزول الوحي عليهم، أو النبوة، فعلى هذا يبقى الإِحتمال الثالث فقط، وهو أن يدّعوا أنّهم حضروا عند أنبياء الله ورسله يوم أصدروا هذه الأحكام، ولهذا يقوم الله لهم في مقام الإِحتجاج عليهم: هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر الله لهم بتحليل أو تحريم شيء من هذه الأنعام: (أم كنتم شهداء إِذ وصّاكم الله بها)؟!

وحيث إِنّ الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسَلب، يثبت أنّهم ما كانوا يمتلكون في هذا المجال إِلاّ الإِفتراء، ولا يستندون إِلاّ إِلى الكذب.

ولهذا يضيف في نهاية الآية قائلا: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، ليضلّ الناس بغير علم، إِنَّ الله لا يَهدي القوم الظالمين)(1).

فُيستفاد من هذه الآية أن الإِفتراء على الله من أكبر الذنوب والآثام، إِنّه ظلم


1 ـ ثمّة إِحتمالات عديدة حول ما هو متعلق بالجار والمجرور في قوله: «بغير علم»، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الظرف متعلقاً بفعل: «يضل» يعني أنّهم بسبب جهلهم يضلون الناس.

[491]

لله تعالى ولمقامه الربويّ العظيم، وظلم لعباد الله، وظلم النفس، وللتعبير بـ«أظلم» في مثل هذه الموارد كما قلنا سابقاً، جانب نسبيّ، وعلى هذا فلا مانع من استعمال نفس هذا التعبير بالنسبة إِلى بعض الذنوب الكبيرة الأُخرى.

كما ويُستفاد من هذه الآية أيضاً أن الهداية والإِضلال الإلهيين لا يكونان بالجبر، بل إِن لهما مقدمات وعللا تبدأ من الإِنسان نفسه وتتحقق بفعله هو، فعندما يعمد أحدٌ بإِختياره إِلى ممارسة الظلم والجور يحرمه الله حينئذ من عنايته وحمايته، ويتركه يضيع في متاهات الحيرة والضلالة.

* * *

[492]

الآية

قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْلَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَعَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(145)

التّفسير

بعض الحيوانات المحرّمة:

ثمّ إِنّه تعالى ـ بهدف تمييز المحرمات الإِلهية عن البِدِع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق ـ أمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة، ومن دون إِجمال أو إِبهام: (لا أجد في ما أُوحي إِليّ) من الشريعة أيَ شيء من الأطعمة يكون (محرماً على طاعِم يَطعمُه) من ذكر أو أُنثى، وصغير أو كبير.

اللّهم (إِلاَّ) عدّة أشياء، الأوّل: (أن يكون مَيتةً).

(أو) يكون (دماً مسفوحاً) وهو ما خرج من الذبيحة عند التزكية بالقدر المتعارف (لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة، بعد

[493]

خروج قدر كبير منها بعد الذبح).

(أو لحم خنزير).

لأنّ جميعَ هذه الأشياء رِجس ومنشأٌ لمختلف الأضرار (فإِنَّه رِجس).

إِنّ الضَمير في «فإِنّه» وإِن كان ضمير الإِفراد، إِلاّ أنَّه يرجع ـ حسبَ ما يذهب إِليه أكثُر المفسّرين ـ إِلى الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (الميتة، الدم، لحم الخنزير) فيكون معنى الجملة الأخيرة هي: فإِنَّ كلَ ما ذُكِر رجس(1). وهذا هو المناسِب لظاهر الآية وهو عودة الضمير إِلى جميع تلك الأقسام، إِذ لا شك في أن الميتة والدم هما أيضاً رجس كلحم الخنزير.

ثمّ أشار تعالى إِلى نوع رابع فقال: (أو فسقاً أُهِلَّ به لغيرِ الله)(2) أي التي لم يذكر اسم الله عليها عند ذبحها.

والجدير بالتأمل أنّه ذكرت لفظة «فسقاً» بدلا عن كلمة «الحيوان».

و«الفسق» كما أسلفنا يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية، ولهذا يُطلق على كل معصية عنوان الفسق.

وأمّا ذكر هذه اللفظة في هذا المورد في مقابل الرجس الذي أُطلق على الموارد الثلاثة المذكورة سابقاً، فيمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ اللحوم المحرمة على نوعين:

اللحوم المحرّمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع، وتوجب أضراراً جسدية، ويطلق عليها وصف الرجس (أي النجس).

اللحوم التي لا تعدّ من الخبائث، ولا تستتبع أضراراً جسميّة وصحيّة، ولكنّها ـ من الناحية الأخلاقية والمعنوية ـ تدلُّ على الإِبتعاد عن الله وعن جادة التوحيد،


1 ـ وفي الحقيقة يكون معنى كلمة «فإنه» هو «فإن ما ذُكِرَ».

2 ـ «أُهِلَّ» أصله «الإِهلال»، وهو مأخوذ في الأصل من الهلال، والإِهلال يعني رفع الصَوت عند رؤية الهلال، ثمّ استعمل لكل صوت رفيع، كما أنه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الإِستهلال، وحيث أنّهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوت عال عند ذبح الأنعام عبِرّ عن فعلهم هذا بالإِهلال.

[494]

ولهذا حُرّمت أيضاً.

وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقع أن تنطوي اللحوم المحرمة دائماً على أضرار صحيّة، بل ربّما حُرّمت لأجل أضرارها المعنوية والأخلاقية، ومن هنا يتضح أنّ الشروط الإِسلامية المقرَّرة في الذبح على نوعين أيضاً:

بعضها ـ مثل قطع الأوداج الأربعة، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة ـ لها جانب صحِّي.

وبعضها الآخر ـ مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح، وذكر اسم الله عنده، وكون الذابح مسلماً ـ لها جانب معنويّ.

ثمّ إِنّه سبحانه استثنى ـ في آخر الآية ـ من اضطر إِلى تناول شيء ممّا ذكر من اللحوم المحرَّمة، كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقفت حياته على تناول شيء من تلك اللحوم، إِذ قال: (فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد فإِنَّ ربّك غفُورٌ رحيمٌ)(1) يعني أنّ من اضطرّ إِلى أكل شيء ممّا ذكرِ من المنهيّات فلا إثم عليه، بشرط أن يكون للحفاظ على حياته، لا للذة، ولا مستحلاًّ لما حرّمه الله، أو متجاوزاً حدّ الضرورة، ففي هذه الصورة (فان ربّك غفور رحيم).

وإِنّما اشترِطَ هذان الشرطان لكي لا يتذرع المضطرون بهذه الإِباحة فيتعدّوا حدودَ ما قرَّره الله بحجة الإِضطرار، ويتخذوا من ذلك ذريعة لتجاهل حِمى القوانين الإِليهة.

ولكنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن آل البيت(عليهم السلام)، مثل الحديث المنقول عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «الباغي:الظالم، والعادي: الغاصب»(2).

كما نقرأ في حديث آخر منقول عن الإِمام(عليه السلام) أنّه قال: «الباغي: الخارج على


1 ـ «الباغي» من «البَغْي» وهو يعني الطلب، «والعادي» من «العَدْو» وهو يعني التجاوز.

2 ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و137.

[495]

الإِمام، والعادي: اللص»(1).

هذه الرّوايات ونظائرها تشير إِلى أنّ الإِضطرار إِلى تناول اللحوم المحرمة يتفق عادة في الأسفار، فإِذا أقدم أحد على السَفَر في سبيل الظلم أو الغصب أو السرقة ثمّ فَقَد الطعامَ الحلال في خلال السفر لم يجز له تناول اللحوم المحرّمة، وإِن كانت وظيفته ـ للحفاظ على حياته من التلف ـ هو التناول من تلك اللحوم، ولكنّه يعاقب على إِثمه هذا، لأنّه أوجد بنفسه المقدمات لمثل هذا السَفَر الحرام، وعلى كلِ حال فإِنَّ هذه الرّوايات تنسجم مع المفهومِ الكليّ للآية انسجاماً كاملا.

جوابٌ على سؤال:

وهنا ويطرح سؤال هو: كيف حُصِرَت جميع المحرمات الإِلهية ـ في مجال الأطعمة ـ في أربعة أشياء، مع أنّنا نعلم بأنّ الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه الأشياء، مثل لحوم الحيوانات المفترسة، ولحوم الحيوانات البحرية (إِلاّ ما كان له فلس من الأسماك) وما شابه، فهذه كلّها حرام، في حين لم يجيء في الآية أيُ ذكر عن تلك اللحوم، بل حصرت المحرمات في هذه الأشياء الأربعة؟!

قال البعض في مقام الإِجابة على هذا السؤال، بأنَّ هذه الآيات نزلت في مكّة وحكم الأطعمة المحرمة الأُخرى لم ينزل بعدُ.

غير أنّ هذه الإِجابة تبدو غير صحيحة، والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعبير أو نظيره قد ورد في السُوَر المدنية مثل الآية (173) من سورة البقرة.

والظاهر أنّ هذه الآية ناظرة ـ فقط ـ إِلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين، فالحصر «حصر إِضافي» لا حقيقيّ.

وبعبارة أُخرى: كأنَّ الآية تقول: المحرمات الإِلهية هذه، وليس ما نسجته أوهامُكم.


1 ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و137.

[496]

ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأنّ نضرب لذلك مثلا.

يسألنا أحد: لها جاء الحسن والحسين كلاهما، فنجيب: كلا بل جاء الحسن فقط، لا شك أننا هنا نريد نفي مجيء الشخص الثاني (أي الحسين) ولكن لا مانع من أن يكون آخرون ـ ممن لم يكونوا محور حوارنا أصلا ـ قد جاؤوا أيضاً، وهذا هو ما يسمى بالحصر الإضافي (أو النسبيّ).

نعم، لابدّ من الإِنتباه إِلى نقطة مهمّة، وهي أنّ ظاهرَ الحصر عادةً ـ الحصرُ الحقيقي إِلاّ في الموارد التي يوجد فيها قرائن صارفة عن مدلول الظاهر مثل ما نحن فيه الآن.

* * *

[497]

الآيتان

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُر وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْم ذَلِكَ جَزَيْنَـهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَـدِقُونَ(146)فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَة وَسِعَة وَلاَيُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الُْمجْرِمِينَ(147)

التّفسير

ما حُرِّم على اليهود:

في الآيات السابقة حُصِرت المحرمات من الحيوان في أربعة، غير أنَّ هاتين الآيتين تشيران إِلى بعض ما حرم على اليهود ليتبيّن أن أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإِسلام، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي).

ثمّ إِنّه قد صُرِح في هذه الآيات أن هذا النوع من المحرمات على اليهود كان له طابع المعاقبة وصفة المجازاة، ولو أنّ اليهود لم يرتكبوا الجنايات والمخالفات لما حُرِّم عليهم هذه الأُمور، وعلى هذا الأساس لسائل أن يسأل الوثنيين: من أين

[498]

أتيتم بهذه الأحكام المصطنعة؟

ولهذا يقول سبحانه في البداية: (وعلى الذين هادُوا حَرّمنا كلَ ذي ظُفُر).

و«الظُفر» هو في الأصل المخلب، ولكنّه يُطَلق أيضاً على ظلف الحيوانات من ذوات الأظلاف (من الحيوانات التي لها أظلاف غير منفرجة الأصابع كالحصان لا كالغنم والبقر التي لها أظلاف منفرجة) لأنّ أظلافها تشبه الظُفر، كما أنّه يُطلق على خف البعير الذي يكون منتهاه مثل الظفر، ولا يكون فيه إِنشِقاق وإِنفراج مثل إِنفراج الأصابع.

وعلى هذا الأساس فإِنّ المستفاد من الآية المبحوثة هو أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف ـ دواباً كانت أو طيوراً ـ كانت محرَّمة على اليهود.

ويستفاد هذا المعنى ـ على نحو الإِجمال أيضاً ـ من سفر اللاويين من التّوراة الحاضرة الإصحاح 11 حيث يقول:

«وأمر الربّ موسى وهارون: أوصيا بني إِسرائيل: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع بهائم الارض: تأكلون كل حيوان مشقوق الظّلف ومجتر، أمّا الحيوانات المجترة فقط ذو المشقوقة الظلف فقط، فلا تأكلوا منها، فالجمل غير طاهر لكم لأنّه مجتر ولكنّه غير مشقوق الظلف»(1).

كما أنّه يمكن أن يستفاد من العبارة التّالية في الآية المبحوثة التي تحدثت عن خصوص البقر والغنم فقط حرمة لحم البعير على اليهود بصورة كلية أيضاً. (تأمل بدقّة).

ثمّ يقول سبحانه: (ومِنَ البَقَر والغَنَم حَرَّمنا عليهم شحومهما).

ثمّ يستثني بعد هذا ثلاثة موارد: أوّلها الشحوم الموجودة في موضوع الظهر من هذين الحيوانين إِذ يقول: (إِلاّ ما حملت ظهورُهما).


1 ـ الكتاب المقدس، سفر اللاّويين، الاصحاح 11،ص 142.

[499]

وثانياً: الشّحوم الموجودة على جنبيها، أو بين أمعائها: (أو الحوايا)(1).

وثالثاً: الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به (أو ما اختلط بعظم).

ولكنّه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الأُمور لم تكن محرّمة على اليهود ـ في الحقيقة ـ ولكنّهم بسبب ظلمهم وبغيهم حُرمُوا ـ بحكم الله وأمره ـ من هذه اللحوم ولشحوم التي كانوا يحبُّونها (ذلك جزيناهم ببغيهم).

ويضيف ـ لتأكيد هذه الحقيقة ـ قوله: (وإِنّا لصادقون) وإِن ما نقوله هو عين الحقيقة.

بحثان

1 ـ ماذا كان يقترف بنو إِسرائيل؟

لابدّ أن نرى هنا أي ظلم كان يقترفه بنو إِسرائيل أوجب أن يحرّم الله تعالى عليهم هذه النِعم التي كانوا يحبّونها؟!

هناك مذاهب متباينة للمفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يستفاد من الآية (160 و161) من سورة النساء، هو أنّ علّة التحريم المذكور كان عدة أُمور:

ظلمهم للضعفاء، ومعارضتهم للأنبياء، ومنعهم من هداية الناس، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، إِذ يقول:

(فبظلم مِنَ الذين هادُوا حَرّمْنا عليهم طيّبات أُحِلَّت لهم، وبصدِّهم عن سَبيل الله كثيراً وأخذِهِمُ الرَّبا، وَقد نهوا عَنه وأكلهم أموالَ الناس بالباطِل).

2 ـ ما معنى «إنّا لصادقون»؟

إِنّ عبارة (وإِنّا لصادقون) التي جاءت في آخر الآية يمكن أن تكون إِشارة إِلى هذه النقطة وهي: أنّ الصدق والحق في مسألة تحريم هذه الأطعمة هو ما قلناه لا ما قاله اليهود في بعض كلامهم، وهو أنّ تحريم هذه الأطعمة واللحوم إِنّما


1 ـ «الحوايا» جمع «حاوية» وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هئية كرة تتضمّن الأمعاء.

[500]

كان من جانب إِسرائيل (يعقوب)، لأن يعقوب ـ كما جاء في الآية (93) من سورة آل عمران ـ لم يحكم بحرمة هذه الأشياء أبداً، وليس هذا سوى تهمة ألصقتها اليهود به.

* * *

ولما كان عنادُ اليهود المشركين أمراً بيّناً، وكان من المحتمل أن يتصلّبوا ويتمادوا في تكذيب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أمرَ الله تعالى نبيّه في الآية الاُخرى أنّهم إِن كذّبوه يقول لهم: إِنّ ربّكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إِلى عقوبتكم ومجازاتكم، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إِليه، وترجعون عن معصيتكم، وتندمون من أفعالكم وتعودون إِلى الله، (فإِنّ كذّبوك فقل رَبّكُم ذو رَحمة واسعة).

ولكن اِذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإِلهي، واستمروا في كيل التهم فيجب أن يعلموا أنّ عقاب الله إِيّاهم حتميّ لا مناص منه، وسوف يصيبهم غضبه في المآل: (ولا يُرَدُّ بأسُه عن القوم المجرمين).

إِنَّ هذه الآية تكشف ـ بوضوح ـ عن عظمة التعاليم القرآنية، فإِنّه بعد شرح وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إِلى التهديد بالعذاب فوراً، بل يترك طريق الرجعة مفتوحاً، وذلك بذكر عبارات تفيض بالحب مثل قوله: «ربّكم» «ذو رحمة» «واسعة» أوّلا. حتى إِذا كان هناك أدنى استعداد للرجوع والإِنابة في نفوسهم شوّقتهم هذه العباراتُ العاطفية على العودة إلى لطريق المستقيم.