![]() |
![]() |
![]() |
ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إِلى القول: (وجعل الليل سكناً).
من الأُمور المسلم بها أنّ الإِنسان يميل خلال إِنتشار النّور والضياء إِلى العمل وبذل الجهد، ويتجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيأ العضلات للفعالية والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحاً، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلما كان الظلام أشد، حيث يتجه الدم فيه نحو الداخل، وتدخل الخلايا عموماً
1 ـ يقول علماء الفلك: يبدأ طلوع الصبح عندما تصل الشمس إِلى 18 درجة قبل الأُفق الشرقي، ويعم الظلام كل شيء ويختفي الشفق عندما تصل إِلى 18 درجة تحت الأُفق الغربي.
في نوع من السكون والراحة، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل إِنّ النباتات تنام في الليل أيضاً، وعند بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها، بعكس الإِنسان في هذا العصر الآلي، فهو يبقى مستيقظاً إِلى ما بعد منتصف الليل، ثمّ يظل نائماً حتى بعد ساعات من طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.
في الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) نجد التأكيد على ما ينسجم مع هذا التنظيم، من ذلك ما جاء في نهج البلاغة عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال يوصي أحد قواده «... ولا تسر أوّل الليل فإِنّ الله جعله سكناً وقدره مقاماً لا ضعنا، فارح فيه بدنك وروح ظهرك»(1).
وفي حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «تزوج بالليل فإِنّه جعل الليل سكناً»(2).
وفي كتاب الكافي عن الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه كان يأمر بعدم ذبح الذبائح في الليل وقبل طلوع الفجر، وكان يقول: «إِنّ الله جعل الليل سكناً لكل شيء»(3).
ثمّ يشير الله تعالى إِلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب: (والشمس والقمر حسباناً).
«الحسبان» بمعنى الحساب، ولعل القصد منه أنّ الدوران المنظم لهاتين الكرتين السماويتين وسيرهما الدائب (المقصود طبعاً حركتها في أنظارنا وهي الناشئة عن حركة الأرض) عون لنا على وضع مناهجنا الحياتية المختلفة وفق مواعيد محسوبة، كما ذكرنا في التّفسير.
1 ـ تفسير الصافي في تفسير الآية.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السّابق.
يرى بعض المفسّرين أنّ الآية تريد أن تقول إِن هاتين الكرتين السماويتين تتحركان في السماء وفق حساب وبرنامج ونظام.
وعليه فهي في الحالة الأُولى إِشارة إِلى إِحدى نعم الله على الإِنسان، وفي الحالة الثانية إِشارة إِلى واحد من أدلة التوحيد وإِثبات وجود الخالق، ولعلها إِشارة إِلى كلتيهما.
على كل حال، إنّه لموضوع مهم جدّاً أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس والقمر يدور حول الأرض، وبذلك تنتقل الشمس في أنظارنا من برج إِلى برج بين الأبراج الفلكية الاثنتي عشرة، والقمر يدور في حركته المنتظمة من الهلال حتى المحاق، أنّ حساب هذا الدوران من الدقة والضبط بحيث إِنّه لا يتقدم ولا يتأخر لحظة واحدة، ولو لاحظنا أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار بيضوي معدل شعاعه 150 مليون كيلومتر ضمن جاذبية الشمس العظيمة، والقمر الذي يدوركل شهر حول الأرض في مدار شبه دائرة شعاعه نحو 374 ألف كيلومتر ولا يخرج من جاذبية الأرض العظيمة، فهو دائم الإِنجذاب نحوها، عندئذ يمكن أن ندرك مدى التعادل الدقيق بين قوة الجذب بين هذه الأجرام السماوية من جهة، والقوة الطاردة عن مراكزها (القوة المركزية) من جهة أُخرى، بحيث لا يمكن أنّ تتوقف لحظة واحدة أو تختلف قيد شعرة.
وهذا ما لا يمكن أن يكون إِلاّ في ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقّة، لذلك تنتهي الآية بقولها: (ذلك تقدير العزيز العليم).
* * *
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(97)
بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة، تشير هذه الآية إِلى نعمة أُخرى من نعم الله على البشر، فجعل النجوم ليهتدي بها الانسان في ليالي البر والبحر: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر).
وتختتم الآية بالقول بأنّ الله قد بين آياته لأهل الفكر والفهم والإِدراك: (وقد فصلنا الآيات لقوم يعلمون).
منذ آلاف السنين والإِنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها، وعلى الرغم من تقدم البشر في هذا المضمار تقدماً كبيراً، فإِنّه ما يزال يتابع وضع النجوم قليلا أو كثيراً، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الإِتجاه في الأسفار البرية والبحرية، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إِمارة تشير إِلى الإِتجاه قبل إِختراع الإِسطرلاب.
إِنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إِلى بر السلامة.
لو تطلعنا إِلى السماء عدّة ليال متوالية لا نكشف لنا أنّ مواضع النجوم في السماء متناسقة في كل مكان، وكأنّها حبات لؤلؤ خيطت على قماش أسود، وانّ هذا القماش يسحب باستمرار من الشرق إِلى الغرب، وكلها تتحرك معه وتدور حول محور الأرض دون أن تتغير الفواصل بينها، إِنّ الإِستثناء الوحيد في هذا النظام هو عدد من الكواكب التي تسمى بالكواكب السيارة لها حركات مستقله وخاصّة، وعددها ثمانية: خمسة منها ترى بالعين المجرّدة، وهي (عطارد والزهرة، وزحل، والمريخ والمشتري) وثلاثة لا ترى إِلاّ بالتلسكوب وهي (أورانوس ونبتون وپلوتو) بالإِضافة إِلى كوكب الأرض التي تجعل المجموع تسعة.
ولعل إِنسان ما قبل التّأريخ كان يعرف شيئاً عن «الثوابت» و«السيارات» لأنّه لم يكن هناك ما يمكن أن يجلب انتباهه أكثر من السماء المرصعة بالنجوم في ليلة ظلماء، فلا يستبعد أن يكون هو أيضاً قد استخدم النجوم في الإِستهداء ومعرفة الإِتجاه.
يستفاد من بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) أنّ لهذه الآية تفسيراً آخر، وهو أنّ المقصود بالنجوم القادة الإِلهيين والهداة إِلى طريق السعادة، أي الأئمّة الذين يهتدي بهم الناس في ظلام الحياة فينجون من الضياع، وسبق أن قلنا أنّ هذه التفاسير المعنوية لا تتنافى مع التفاسير الظاهرية، ومن الممكن أن تقصد الآية كلا التفسيرين.(1).
* * *
1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 750.
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْس وَحِدَة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَفْقَهُونَ(98) وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـت مِّنْ أَعْنَاب وَالزَّيْتُونَ وَالرَّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـبِه انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَوَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ(99)
هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله، والوصول إِلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإِنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار الله في جسمه وروحه، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان.
فيبدأ بالقول: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة).
أي أنّكم، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم، قد خلقتم من فرد واحد، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.
وجدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء، والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة، ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته.
بهذه المناسبة ينبغي ألا نتوهّم من قراءة هذه الآية، أنّ أُمَّنا الأُولى حواء قد خُلقت من آدم (كما جاء في الفصل الثّاني من سفر التكوين من التّوراة)، ولكن آدم وحواء خلقا من تراب واحد، وكلاهما من جنس واحد ونوع واحد، لذلك قال: إِنّهما خلقا من نفس واحدة، وقد بحثنا هذا الموضوع في بداية تفسير سورة النساء.
ثمّ يقول: إِنّ فريقاً من البشر «مستقر» وفريقاً آخر «مستودع» (فمستقر ومستودع).
«المستقر» أصله من «القُر» (بضم القاف) بمعنى البرد، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة، فمعنى «مستقر» هو الثابت المكين.
و«مستودع» من «ودع» بمعنى ترك، كما تستعمل بمعنى غير المستقر، والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إِلى صاحبها.
يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر» أي ثابت، وبعض «مستودع» أي غير ثابت، أمّا المقصود من هذين التعبيرين، فالكلام كثير بين المفسّرين، وبعض التفاسير تبدو أقرب إِلى الآية كما أنّها لا تتعارض فيما بينها.
من هذه التفاسير القول بأنّ «مستقر» صفة الذين كمل خلقهم ودخلوا «مستقر الرحم» أم مستقر وجه الأرض، و«المستودع» صفة الذين لم يكتمل خلقهم بعد وإنّما هو ما يزالون نطفاً في أصلاب آبائهم.
تفسير آخر يقول: إِنّ «مستقر» إِشارة إِلى روح الإِنسان الثابتة والمستقرة، و«مستودع» إِشارة إِلى جسم الإِنسان الفاني غير الثابت.
وقد جاء في بعض الرّوايات تفسير معنوي بهذين التعبيرين، وهو أنّ «مستقر» تعني الذين لهم إِيمان ثابت «ومستودع» تعني من لم يستقر إِيمانة(1).
وثمّة احتمال أن يكون هذان التعبيران إِشارة إِلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإِنسان، إِنّ النطفة ـ كما نعلم ـ تتركب من جزئين: الأوّل هو «البويضة» من الأُنثى، والثاني هو «الحُيمن» أو «المني» من الذكر، أنّ البويضة في رحم الأُنثى تكان تكون مستقر، ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها، وما أن يصل أوّل حيمن إِلى البويضة حتى يمتزج بها و«يخصبها» ويصد (الحيامن) الأُخرى، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإِنسان الأولى.
وفي ختام الآية يعود فيقول: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون).
عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه» ليس كل معرفة أو فهم، بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر(2)، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق.
الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إِلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته.
في البداية تشير الآية إِلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة الأُم وأصل النعم الأُخرى، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء: (وهو الذي أنزل من السماء ماء).
وإِنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شيء أعلاه، فكل ما في الأرض من
1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 750.
2 ـ مفردات الراغب، ص 385.
مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء، وقلّة الأمطار تؤثر في كمية المياه في تلك المصادر كلها، وإِذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع، أيضاً.
ثمّ تشير إِلى أثر نزول الأمطار البارز: (فأخرجنا به نبات كل شيء).
يرى المفسّرون احتمالين في المقصود من (نبات كل شيء):
الأوّل: إِنّ المقصود من ذلك كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد، وتنبت في أرض واحدة وتتعذى من تربة واحدة، وهذه واحدة من عجائب الخلق، كيف تخرج كل هذه الأصناف من النباتات بأشكالها وألوانها وأثمارها المختلفة والمتباينة أحياناً من أرض واحدة وماء واحد!
والإِحتمال الثّاني: هو أنّ النباتات يحتاج إِليها كل مخلوق آخر من حشرات وطيور وحيوانات في البحر والبر، وانّه لمن العجيب أنّ الله تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء، وهذا من روائع الأعمال المعجزة كأنّ يستطيع أحد أن يصنع من مادة معينة في المطبخ آلاف الأنواع من الأطعمة لآلاف الأذواق والأمزجة.
والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر، بل إِنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.
ولا أنسى ما قاله أحد سكّان المدن الساحلية وهو يشكو قلّة الصيد في البحر، ويذكر سبب ذلك بأنّه الجفاف وقلّة نزول المطر، فكان يعتقد أنّ قطرات المطر في البحار أشد تأثيراً منها في اليابسة.
ثمّ تشرح الآية ذلك وتضرب مثلا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء، فتذكر أنّ الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين:
(فأخرجنا منه خضراً)(1).
ومن ذلك الساق الأخضر أخرجنا الحبّ متراصفاً منظماً: (نخرج منه حبّاً متراكباً)(2).
وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعاً مغلقاً، ثمّ يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبات التمر، فتتدلى من ثقلها: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية).
«الطلع» هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر، وإِذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة، وهي القنوان ومفردها قنو.
و«دانية» أي قريبة، وقد يكون ذلك إِشارة إِلى قرب أغصان العذق من بعضها، أو إِلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.
وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه: (وجنات من أعناب والزيتون والرّمان).
ثمّ تشير الآية إِلى واحدة أُخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار، فتقول: (مشتبهاً وغير متشابه).
انظر تفسير الآية (141) من هذه السورة في شرح المتشابه وغير المتشابه للزّيتون والرّمان(3).
إِنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابهاً كبيراً، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية، فهما متباينان تماماً، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة،
1 ـ كلمة «أخضر» تشمل كل أخضر في النبات، حتى براعم الأشجار، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.
2 ـ «المتراكب» من الركوب وما ركب بعضه بعضاً، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.
3 ـ يقول الراغب في مفرداته: إنّ «مشتبهاً» و«متشابهاً» بمعنى يكاد يكون واحداً.
وتشربان من ماء واحد، فهما متشابهان وغير متشابهين في آن واحد.
ومن المحتمل أنّ تكون الإِشارة إِلى أنواع مختلفة من أشجار الفاكهة التي يتشابه بعضها في الشجر وفي الثمر، ويختلف بعضها عن الآخر في ذلك، (أي أنّ كل واحدة من هاتين الصفتين تختص بمجموعة من الأشجار والأثمار، أمّا حسب التّفسير الأوّل، فإِنّ الصفتين لشيء واحد).
ثمّ تركز الآية من بين مجموع اجزاء شجرة على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إِذا أثمرت، وكذلك على نضج الثمرة إِذا نضجت، ففيها دلائل واضحة على قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس: (انظروا إلى ثمره إِذا أثمر وينعه إِنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).
ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصّة التي يوليها القرآن للأثمار، إِذ إِنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصّة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الأُنثوي في النبات، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الأُولى، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها، أنّ هذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ، كل حبّة منها تعتبر جنيناً وبذرة لشجرة أُخرى، ولها تركيب معقد عجيب.
إِنّ شرح بنية الأثمار والمواد الغذائية والطبية خارج عن نطاق هذا البحث، ولكن من الحسن أنّ نضرب مثلا بثمرة الرمان التي أشار إِليها القرآن على وجه الخصوص في هذه الآية.
إِذا شققنا رمانة وأخذنا إِحدى حباتها نظرنا خلالها بإِتجاه الشمس أو مصدر ضوء آخر نجدها تتألف من أقسام أصغر، وكأنّها قوارير صغيرة مملوءة بماء
الرّمان قد رصفت الواحدة إِلى جنب الأُخرى. ففي حبّة الرمان الواحدة قد تكون المئات من هذه القوارير الصغيرة جداً، يجمع أطرافها غشاء رقيق هو غشاء حبّة الرمان الشفاف، ثمّ لكي يكون هذا التغليف أكمل وأمتن وأبعد عن الخطر ركّب عدد من الحبات على قاعدة في نظام معين، ولفت في غلاف أبيض سميك بعض الشيء، وبعد ذلك يأتي القشر الخارجي للرمانة،يلف الجميع ليحول دون نفوذ الهواء والجراثيم، ولمقاومة الضربات ولتقليل تبخر ماء الرمان في الحبات إِلى أقل حدّ ممكن.
إِنّ هذا الترتيب في التغليف لا يقتصر على الرمان، فهناك فواكه أُخرى ـ مثل البرتقال والليمون ـ لها تغليف مماثل، أمّا في الأعناب والرمان فالتغليف أدق وألطف.
ولعل الإِنسان حذا حذو هذا التغليف عندما أراد نقل السوائل من مكان إِلى مكان، فهو يصف القناني الصغيرة في علبة ويضع بينها مادة لينة، ثمّ يضع العلب الصغيرة في علب أكبر ويحمل مجموعها إِلى حيث يريد.
وأعجب من ذلك استقرار حبات الرمان على قواعدها الداخلية وأخذ كل منها حصتها من الماء والغذاء وهذا كله ممّا نراه بالعين، ولو وضعنا ذرات هذه الثمرة تحت المجهر لرأينا عالماً صاخباً وتراكيب عجيبة مدهشة محسوبة بأدق حساب.
فكيف يمكن لعين باحثة عن الحقيقة أن تنظر إِلى هذه الثمرة ثمّ تقول: إِنّ صانعها لا يملك علماً ولا معرفة!!
إِنّ القرآن إذ يقول (انظروا) إِنّما يريد هذه النظرة الدقيقة إِلى هذا القسم من الثمرة للوصول إِلى هذه الحقائق.
هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإِن المراحل المتعددة التي تمر بها الثمرة منذ تولّدها حتى نضجها تثير الإِنتباه، لأنّ «المختبرات» الداخلية في الثمرة لا تنفك
عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إِلى أن تصل إِلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي، أنّ كل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.
ولكن لابدّ من القول ـ بحسب تعبير القرآن ـ إِنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الأُمور هم الذين يرون هذه الحقائق، وإِلاّ فعين العناد والمكابرة والإِهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقه.
* * *
وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَـت بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يَصِفُونَ(100) بَدِيعُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَـحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءوَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ(102) لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَـرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)
هذه الآيات تشير إِلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وترد عليهم بالمنطق.
فأوّلا: قالوا: إِنّ لله شركاء من الجن (وجعلوا لله شركاء الجن).
فيما يتعلق بالجن، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن غير مرئي ومخفي عن حس الإِنسان، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مراراً في القرآن والتي سنشير إِليها قريباً؟ للمفسرين في هذا احتمالان.
على الإِحتمال الأوّل قد تكون الآية إِشارة إِلى الذين كانوا يعبدون الملائكة أو مخلوقات غير مرئية.
وعلى الإِحتمال الثّاني قد تكون الإِشارة إِلى الذين كانوا يعتبرون الجن شركاء لله أو زوجات له.
يقول الكلبي في كتاب «الأصنام»: إِنّ إِحدى الطوائف العربية، وتدعي «بنو مليح» وهي إِحدى أفخاذ قبيلة «خزاعة» كانت تعبد الجن(1)، كما يقال إِنّ عبادة الجن والاعتقاد بالوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند(2).
ويستدل من الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً)على أنّه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسباً وقرابة، ويذكر بعض المفسّرين أنّ قريشاً كانت تعتقد أنّ الله قد تزوج الجن، فكان الملائكة ثمرة ذلك الزواج(3).
فينكر الإِسلام عليهم ذلك، إِذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن: (وخلقهم) أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!
الخرافة الأُخرى هي قولهم جهلا ـ إِنّ لله بنين وبنات: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم).
أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنّها تصدر عنهم (بغير علم) أي أنّهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.
من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة «خرقوا» من الخرق، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماماً «للخلق» القائم على
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 326 ـ الهامش.
2 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 648.
3 ـ تفسير معجم البيان وتفاسير أُخرى.
الحساب، هاتان اللفظتان: «الخلق والخرق» قد تستعملان في حالات الكذب والإِختلاق، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والإِختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و(الخرق والإِختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.
أي أنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدوا له ما يلزم من الأُمور.
أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين، فإِنّ القرآن يذكر في آيات أُخرى اسم طائفتين من هؤلاء:
الأُولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إِنّ عيسى ابن الله.
والأُخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله.
يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة، وممّا توصل إِليه المحققون عن دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية، وعلى الأخص في موضوع التثليت، أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً لله، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.
أمّا بشأن نسبة بنات لله، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أُخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً)(1).
وكما سبقت الإِشارة إِليه، جاء في التفاسير والتواريخ إنّ قريشاً كانت ترى الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.
والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها، وبعبارة حاسمة قاطعة: (سبحان الله وتعالى عما يصفون).
والآية التّالية ترد على تلك العقائد الخرافية فتؤكّد أنّ الله هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض: (بديع السموات والأرض).
هل هناك غير الله من فعل ذلك أو يستطيع فعله كيما يكون شريكاً له في
1 ـ الزخرف، 19.
عبادته؟ كلا، الجميع مخلوقاته ويطيعون أمره ومحتاجون إِليه.
ثمّ كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة).
وما حاجته إِلى زوجة؟ ثمّ من التي تكون زوجته وهم جميعاً مخلوقاته؟ وفضلا عن ذلك كلّه أنّ ذاته القدسية منزهة عن كل الصفات الجسمانية، بينما الحاجة إِلى زوجة وأبناء من الصفات الجسمانية المادية.
ومرّة أُخرى تؤكّد الآية مقامه باعتباره خالقاً لكل شيء، ومحيطاً بكل شيء: (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم).
الآية الثّالثة تؤكّد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق من ذكر خالقية الله لكل شيء، وإِبداعه السموات والأرض وإِيجادها، وكونه منزهاً عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إِلى الزوجة والأبناء وإِحاطته العلمية بكل شيء: (ذلكم الله ربّكم لا إِله إِلاّ هو خالق كل شيء فاعبدوه) فلا يستحق العبودية غيره.
ولكي ينقطع كل أمل بغير الله، وتنقلع كل جذور الشرك والإِعتماد على غير الله، تختتم الآية بالقول: (وهو على كل شيء وكيل).
أي أنّ مفتاح حل مشاكلكم بيده وحده، وما من أحد غيره قادر على حلها إِذ ما من أحد ـ غيره ـ إِلاّ وهو محتاج إِلى إِحسانه وكرمه، فلا موجب إِذن لأن تطرح مشاكلك على غيره، وتطلب حلّها من غيره.
لاحظ أنّ العبارة تقول: (على كل شيء وكيل) ولم تقل: لكلّ شيء وكيل، واختلاف المعنى واضح، لأنّ «على» تفيد التسلط ونفوذ الأمر، أمّا «اللام» فتفيد التبعية، أي أن التعبير الأوّل يدل على الولاية والرعاية، والثّاني يدل على التمثيل والوكالة.
الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث، ومن أجل إثبات حاكمية الله
وإِحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء، وكذلك لإِثبات أنّه يختلف عن كل شيء، تقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) أي أنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.
في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لابدّ أن يتصف بهذه الصفات.
كما أنّ الآية تقول: إِنّه يختلف عن جميع الأشياء في العالم، لأنّ أشياء العالم بعضها يَرى ويُرى، كالإِنسان، وبعضها لا يَرى ولا يُرى كصفاتنا الباطنية، وبعض آخر يُرى ولا يَرى، كالجمادات، فالوحيد الذي لا يُرى ولكنّه يَرى كلَّ شيء هو الله الواحد الأحد.
* * *
هنا نشير إِلى بضع نقاط:
تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إِلاّ الأجسام، أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام، فإِذا لم يكن الشيء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم، لا يمكن أن تراه العين، وبتعبير آخر، إِذا أمكنت رؤية شيء بالعين، فلأن لهذا الشيء حيزاً واتجاهاً وكتلة، في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء.
في كثير من الآيات، وعلى الأخص في الآيات التي تشير إِلى بني إِسرائيل وطلبهم رؤية الله، نجد القرآن ينفي بكل وضوح إِمكان رؤية الله (سوف يأتي
شرح ذلك في تفسير الآية 143 من سورة الأعراف إِن شاء الله).
ومن العجيب أنّ كثيراً من أهل السنة يعتقدون أنّ الله سيرى يوم القيامة، ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله: هذا من مذاهب أهل السنة والعلم بالحديث.(1).
والأعجب من ذلك أنّ بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلون ـ أيضاً ـ إِلى هذا الإِتجاه ويصرون عليه!
أمّا الواقع فإِنّ بطلان هذه الفكرة إِلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب نقاشاً، لأنّ الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة (إِذا قلنا بالمعاد الجسماني)، إِنّ الله فوق المادة، ولا يتبدل يوم القيامة إِلى وجود مادي، ولا يخرج من لا محدوديته ليصبح محدوداً، ولا يتحول في ذلك اليوم إِلى جسم أو إِلى كيفية من كيفيات الجسم! وهل الأدلة العقلية على عدم إِمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في الآخرة»؟ أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك؟!
ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأنّ من المحتمل أن يصبح للإِنسان في الآخرة نوع آخر من الرؤية والإِدراك، لأنّ هذه الرؤية والإِدراك إِذا كانت في الآخرة فكرية وعقلانية، فإنّنا في هذه الدنيا أيضاً نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة العقل، أمّا إِذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام، فإِنّ رؤية الله بهذا المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء.
وبناء على ذلك فإِنّ القول بأنّ الإِنسان لا يرى الله في هذه الدنيا، ولكن المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول.
إنّ ما حمل هؤلاء على الذهاب إِلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإِمكان رؤية الله يوم القيامة، ولكن أليس من الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي، ونحكم باختلاق أمثال هذه
1 ـ تفسير المنار، ج 7، ص 653.
الرّوايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الرّوايات، (اللهم إِلاّ إِذا قلنا أنّ المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية) هل يصح أن نجانب حكم العقل والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث؟!
أمّا الآيات القرآنية التي يبدو منها لأوّل وهلة أنّها تدل على رؤية، مثل (وجوه يومئذ ناضرة إِلى ربّها ناظرة)(1) و(يد الله فوق أيديهم)(2) فإِنّها من باب الكناية والرمز، إِنّنا نعلم أنّ أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل ومنطق الحكمة.
والملفت للنظر أنّ الأحاديث والرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) تستنكر هذه العقيدة الخرافية أشد إستنكار، وتنتقد القائلين بها أشد إِنتقاد، من ذلك أنّ أحد أصحاب الإِمام الصّادق(عليه السلام) واسمه (هشام) يقول: كنت عند الإِمام الصّادق(عليه السلام)فدخل عليه معاوية بن وهب (وهو من أصحاب الإِمام أيضاً) وسأله قائلا: يا بن رسول الله، ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قد رأى الله، فكيف رآه؟ وكذلك في الحديث المروي عنه أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إِنّ المؤمنين في الجنّة يرون الله. فبأي شكل يرونه؟ فتبسم الإِمام الصّادق إِبتسامة ألم، وقال: «يا معاوية بن وهب! ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله، ويتنعم بنعمه، ثمّ لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير الله رأي العين أبداً، إِنّ المشاهدة نوعان: المشاهدة القلبية، والمشاهدة البصرية، فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق، ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر»(3).
وفي (أمالي الصدوق) بإِسناده إِلى إِسماعيل بن الفضل قال: سألت الإِمام
1 ـ القيامة، 23 و24.
2 ـ الفتح، 10.
3 ـ معاني الأخبار، نقلا عن «الميزان»، ج 8، ص 268.
الصّادق(عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى، وهل يرى في المعاد؟ فقال: «سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يا ابن الفضل، إنّ الأبصار لا تدرك إِلاّ ما له لون وكيفية، والله تعالى خالق الألوان والكيفية»(1).
![]() |
![]() |
![]() |