![]() |
![]() |
![]() |
أمّا أُولئك الذين لا يصدقون بآياتنا، بل يكذبون بها فإِنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من الله: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون).
من الجدير بالإِنتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة (يمسهم العذاب)، فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد ما يكون من العذاب.
كذلك ينبغي القول أنّ لكلمة «فسق» معنى واسعاً أيضاً، يشمل كل أنواع العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعضى الأحيان، وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر الرازي ومفسّرون آخرون بشأن معنى «الفسق» وشمولها الذنوب، ومن ثمّ الدفاع عن ذلك.
* * *
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَايُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(50)
هذه الآية استمرار للردّ على إِعتراضات الكفار والمشركين المختلفة، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الإِعتراضات في جمل قصيرة:
الأوّل: هو أنّهم كانوا يريدون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) القيام بمعجزات عجيبة وغريبة، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته، بل إِنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون، فمرّة كانوا يطلبون بيوتاً من ذهب، ومرّة يريدون هبوط الملائكة، ومرّة يريدون أن تتحول أرض مكّة القاحلة المحرقة إِلى بستان مليء بالمياه والفواكه وغير ذلك ممّا كانوا يطلبونه من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا سيأتي شرحه في تفسير الآية (90) من سورة الإِسراء.
ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية وإِمتلاك الأرض والسماء، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من الله: (قل لا أقول
لكم عندي خزائن الله).
«الخزائن» جمع الخزينة، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد حفظها وإِخفاؤها عن الآخرين، وإستناداً إِلى الآية: (وان من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم)(1) يتّضح أنّ «خزائن الله» تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات.
ثمّ تردّ الآية على الّذين كانوا يريدون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع، فتقول: (ولا أعلم الغيب).
سبق أن قلنا إِنّه لا يكون أحد مطلعاً على كل شيء إِلاّ إِذا كان حاضراً وشاهداً في كل مكان وزمان، وهو الله وحده، أمّا الذي يكون وجوده محدداً بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شيء، ولكن ما من شيء يحول دون أن يمنح الله جزءاً من عمله هذا إِلى الأنبياء والقادة الإِلهيين لإِكمال مسيرة القيادة، حسبما يراه من مصلحة، وهذا بالطبع لا يكون علماً بالغيب بالذات، بل هو «علم بالغيب بالعرض» أي أنّه تعلم من عالم الغيب.
هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أنّ الله لا يظهر علمه هذا للانبياء والقادة الإِلهيين وحدهم، بل قد يظهره لغيرهم أيضاً، ففي الآيتين (26 و27) من سورة الجن نقرأ: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إِلاّ من ارتضى من رسول).
لا شك أنّ مقام القيادة، وخاصة القيادة العالمية العامة، يتطلب الإِطلاع على كثير من المسائل الخافية على عامّة الناس، فإِذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه على علمه، فإِنّ مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقّة).
1 ـ الحجر، 21.
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّنا نلاحظ أنّ بعض الكائنات الحيّة لابدّ لها أن تعلم الغيب للمحافظة على حياتها، فيهبها الله ما تحتاجه من علم، فنحن ـ مثلا ـ قد سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في الشتاء، أي أنّ الله قد وهبها هذا العلم بالغيب، لأنّ حياتها ستتعرض لخطر الفناء دون هذه المعرفة، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إِن شاء الله عند تفسير الآية (188) من سورة الأعراف.
في الجملة الثّالثة ردّ على الذين كانوا يتصورون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ملكاً، أو أن يصاحبه ملك، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات، وغير ذلك، فقال: (ولا أقول لكم إِنّي ملك إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ).
يتّضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من علم، وكل ما فعله كان بوحي من السماء، وإنّه لم يكن يفعل شيئاً باجتهاده ولا بالعمل بالقياس ولا بأي شيء آخر كما يرى بعض ـ وإِنّما كان يتبع الوحي في كل أمر من أُمور الدين.
وفي الختام يؤمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ يقول لهم: هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إِليهم على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيداً ويتفهمونها؟ (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون).
إِنّ ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سبق أن قال: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) و(ولا أعلم الغيب)و(لا أقول لكم إِنّي ملك) بل (إن اتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ)، ولكن هذا كلّه لا يعني إنّني مثلكم، أيّها المشركون، بل أنا إِنسان بصير بالواقع بينما المشرك أشبه بالأعمى، فهل يستويان؟
ثمّة إِحتمال آخر لربط هذه الجمل، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد
وعلى صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة جلية، ولكنّها تتطلب عيناً بصيرة لكي تراها، فإِذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة، بل لكونكم تفتقرون إِلى العين البصيرة، فهل يستوي الأعمى والبصير؟
* * *
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51)
في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير، وفي هذه الآية يأمر نبيّه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة (وانذر به الذين يخافون أن يحشروا إِلى ربّهم) أي أن هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون وجود حساب وجزاء، وفي ضوء هذا الإِحتمال والخوف من المسؤولية تتولّد فيهم القابلية على التلقّي والقبول.
سبق أن قلنا: إِنّ وجود القائد المؤهل والبرنامج التربوي الشامل لا يكفيان وحدهما لهداية الناس، بل ينبغي أن يكون لدى هؤلاء الناس الإِستعداد لتقبل الدعوة، تماماً مثل أشعة الشمس التي لا تكفي وحدها لتشخيص معالم الطريق، بل لابدّ من وجود العين الباصرة أيضاً، ومثل البذرة السليمة التي لا يمكن أن تنمو بغير وجود الأرض الصالحة للزراعة.
يتّضح من هذا أنّ الضمير في «به» يعود على القرآن، وهذا يتبيّن من القرائن، على الرغم من أنّ القرآن لم يذكر في الآيات السابقة صراحة.
كما أنّ المقصود من «يخافون» أي يحتملون وجود الضرر، إِذ يخطر ببال كل عاقل يستمع إِلى دعوة الأنبياء الإِلهيين، بأنّ من المحتمل أن تكون دعوة هؤلاء صادقة، وأنّ الإِعراض عنها يوجب الخسران والضرر، ويستنتج من ذلك أنّ من الخير له أن يدرس الدعوة ويطلع على الأدلة.
وهذا واحد من شروط الهداية، وهو ما يطلق عليه علماء العقائد اسم «لزوم دفع الضرر المحتمل» ويعتبرونه دليل وجوب دراسة دعوى من يدعي النّبوة، ولزوم المطالعة لمعرفة الله.
ثمّ يقول: إِنّ أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي ليس فيه غير الله ملجأ ولا شفيع: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع).
نعم، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إِلى الله، إِذ أنّ الأمل في هدايتهم موجود: (لعلهم يعقلون).
بديهي أنّ نفي «الشفاعة» و«الولاية» في هذه الآية عن غير الله لا يتناقض مع شفاعة أولياء الله وولايتهم، إِذ إِنّنا سبق أن أشرنا إِلى أنّ المقصود هو نفي الشفاعة والولاية بالذات، أي أنّ هذين الأمرين مختصان ذاتاً بالله، فإِذا كان لأحد غيره مقام الشفاعة والولاية فبإِذن منه وبأمره، كما يصرح القرآن بذلك: (من ذا الذي يشفع عنده إِلاّ بإِذنه)(1).
للمزيد من التوضيح بشأن الشفاعة عموماً، اُنظر المجلد الأوّل: ص 198، والمجلد الثّاني من هذا التّفسير.
* * *
1 ـ البقرة، 255.
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوَةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّـلِمِينَ(52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْض لِّيَقُولُوا أَهَـؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بالشَّـكِرِينَ(53)
ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين، ولكنّها متشابهة، من ذلك ما جاء في تفسير «الدار المنثور»: مرّت جماعة من قريش بمجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان «صهيب» و«عمار» و«بلال» و«خباب» وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرين فيه، فتعجبوا من ذلك (لأنّهم كانوا يحسبون أن شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم يستطيعوا إِدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الأشخاص، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إِيجاد المجتمع الإِسلامي والإِنساني الكبير) فقالوا: يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أفنحن نكون تبعاً لهم؟، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك، فلعلك إِن طردتهم اتّبعناك،
فأنزل الله الآية.
بعض مفسّري أهل السنة، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثاً أشبه بذاك، ثمّ يقول: إِنّ عمر بن الخطاب كان حاضراً واقترح على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش، ليتبيّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في رفض إقتراحه.
ينبغي ألاّ يغرب عن البال أنّ ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد، فقد سبق أن قلنا إِنّ من الممكن أن تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة، ثمّ تنزل السورة بشأن تلك الحوادث.
يلزم هنا أن نذكر أنّه جاء في رواية أنّ الملأ من قريش ـ حينما رفض رسول الله عرضهم ـ اقترحوا عليه شيئاً آخر، وقالوا له: لو نحيت هؤلاء حتى نخلو بك ... فإِذا انصرفنا، فإِذا شئت أعدتهم إِلى مجلسك، فأجابهم النّبي إِلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً ليكتب، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.
غير أنّ هذه الرواية، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإِسلام التي رفضت دوماً المساومة في مثل هذه الحالات، وأكّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإِسلامي، فإنّها لا تنسجم مع الآية السابقة: (إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ)فكيف يمكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبول الإِقتراح دون انتظار للوحي.
ثمّ إِنّ عبارة (ولا تطرد) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أُولئك، لا التناوب معهم، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب، وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا.
* * *
في هذه الآية إِشارة إِلى واحد من إِحتجاجات المشركين، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقرّ ببعض الإِمتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء، إِذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)منقصة لهم أي منقصة! مع أنّ الإِسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الإِمتيازات الزائفة الجوفاء، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أُولئك عنه، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستنداً إِلى أدلة حية، فيقول: (ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه)(1).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إِلى هؤلاء الأشخاص إِشارة خاصّة، بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء، أي دائماً، وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء، بل هو لذات الله وحده، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه، وليس ثمّة إِمتياز اسمى من هذا.
يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لقد تكرر إِعتراضهم على النّبي بشأن إِجتماع الفقراء حوله، ومطالبتهم إِياه بطردهم.
في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إِلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة، ويرفضون كل دعوة تستهدف إِلغاء هذه القيم والمعايير.
في سيرة النّبي نوح(عليه السلام) نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له: (وما نراك
1 ـ معنى «الوجه» في اللغة معروف، ولكنّ الكلمة قد تعني «الذات» كما في هذه الآية، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد الثّاني من هذا التّفسير.
إِتّبعك إِلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي)(1) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته.
إِنّ واحداً من دلائل عظمة الإِسلام والقرآن، وعظمة مدرسة الأنبياء عموماً، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات، وراحت تحطم هذه الإِمتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصاً في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال، كما أنّ الثروة ليست إِمتيازاً إِجتماعياً أو معنوياً لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.
ثمّ تقول الآية: إنّه ليس ثمّة ما يدعو إِلى إِبعاد هؤلاء المؤمنين عنك، لأنّ حسابهم ليس عليك، ولا حسابك عليهم: (ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء)، ولكنّك مع ذلك إِذا فعلت تكون ظالماً: (فتطردهم فتكون من الظّالمين).
يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من «الحساب» هنا.
منهم من يقول: إِنّ المقصود هو حساب رزقهم، أي أنّهم وإِن كانوا فقراء فإِنّهم لا يثقلون عليك بشيء، لأن حساب رزقهم على الله، كما أنّك أنت أيضاً لا تحملهم ثقل معيشتك، إِذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء.
غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال، كما يقول كثير من المفسّرين، أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك، مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول؟ فالجواب: إِنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الفقراء بالإِبتعاد عن الله بسبب فقرهم، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفية والتوسعة عليهم في معيشتهم، بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إِلاّ لضمان
1 ـ هود، 27.
معيشتهم والوصول إِلى لقمة العيش.
فيرد القرآن على ذلك مبيناً أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك، فان حسابهم على الله، مادام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين، فلا يجوز طردهم بأي ثمن، وبهذا يقف في وجه إِحتجاج أشراف قريش.
وشاهد هذا التّفسير ما جاء في حكاية النّبي نوح(عليه السلام) التي تشبه حكاية أشراف قريش، فأُولئك كانوا يقولون لنوح: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) فيرد عليهم نوح قائلا: (وما علمي بما كانوا يعملون إِنّ حسابهم إِلاّ على ربّي لو تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين)(1).
من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرىء يظهر الإِيمان بدون أي تمييز ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إِلاّ وجه الله، وكل ذنبهم هو أنّهم فقراء صفر اليدين من الثروة، ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة الأشراف!
إِنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت إِتساعاً مضحكاً بحيث إِنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبامكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأُمور.
إِلاّ أنّ القرآن، في هذه الآية وفي آيات أُخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحقّ، بل ولا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في أن يطرد أحداً أظهر إِيمانه ولم يفعل ما يوجب إِخراجه من الإِسلام، وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده، ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبداً.
والكلام هنا على «الطرد الديني» لا «الطرد الحقوقي» فلو كانت إِحدى
1 ـ الشعراء، الآيات 111 ـ 114.
المدارس وقفاً على طبقة خاصّة من الطلاب، وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط القبول فيه، ثمّ فقد بعض تلك الشروط، فان طرده وإِخراجه من تلك المدرسة لا مانع فيه، كذلك لو أنّ مدير مدرسة أُعطيت له صلاحيات معينة لغرض إِدارة شؤونها، فله كل الحقّ في الإِستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية مصالح المدرسة (فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية ممّا يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي).
الآية الثّانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأُمور إختبار لهم، فإِذا لم يجتازوا الإِمتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة، فالله يمتحن بعضهم ببعض: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض).
«الفتنة» تعني هنا الإِمتحان(1) وأي إِمتحان أصعب ممّا يمر به الأغنياء الذين كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا، فلا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم، بل حتى أنّهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم، أمّا الآن فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن، ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون بالطبقة الدنيا.
ثمّ تضيف الآية أنّ الأمر يصل بهؤلاء إِلى أنّهم ينظرون إِلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار (ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا)(2)؟!
ثمّ تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أنّ هؤلاء الأشخاص أُناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل، كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بقبولها، فأي نعمة أكبر، وأي شكر أرفع، ولذلك رسخ الله الإِيمان في قلوبهم: (أليس الله بأعلم بالشّاكرين).
* * *
1 ـ لمزيد من الشرح أُنظر المجلد الثّاني في تفسير الآيتين 191 و193 من سورة البقرة.
2 ـ أشرنا في تفسير الآية 164 من سورة آل عمران إلى أنّ «المنة» تعني في الأصل النعمة يهبها الله.
وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَأَيَـتِنَا فَقُلْ سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَاً بِجَهَـلَة ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاْيَـتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ(55)
يرى بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت بشأن الذين نهت الآيات السابقة عن طردهم وإِبعادهم، ويرى بعض آخر أنّها نزلت في فريق من المذنبين قدموا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إِنّهم قد أذنبوا كثيراً، فسكت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت الآية.
ومهما يكن سبب نزول الآية، فالذي لا شك فيه أنّ معناها واسع وشامل، لأنّها تبدأ أوّلا بالطلب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد المذنبين مهما عظمت ذنوبهم، بل عليه أن يستقبلهم ويتقبلهم: (وإِذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم).
يحتمل أن يكون هذا السّلام من الله بوساطة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أنّه من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، وهو ـ على كلا الإِحتمالين دليل على القبول والترحيب
والتفاهم والمحبّة.
ثمّ تقول الآية (كتب ربّكم على نفسه الرحمة).
«كتب» تأتي في كثير من الأحيان كناية عن الالزام والتعهد، إِذ إِنّ من نتائج الكتابة توكيد الأمر وثبوته.
وفي الجزء الأخير من الآية ـ وهو توضيح وتفيسر لرحمة الله ـ يتحدث بلهجة عاطفية: (أنّه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم).
وقد سبق القول(1) أنّ «الجهالة» في مثل هذه المواضع تعني طغيان الشهوة وسيطرتها، والإِنسان بسبب هذه الأهواء المستفحلة، لا بسبب عدائه لله وللحق ـ يفقد المقدرة العقيلة والسيطرة على الشهوات، مثل هذا الشخص ـ وإِن كان عالماً بالذنب والحرمة ـ يسمى جاهلا، لأنّ علمه مستتر وراء حجب الأهواء والشهوات، وهذا الشخص مسؤول عن ذنوبه، ولكنّه يسعى لإِصلاح نفسه وجبران أخطائه لأنّ أفعاله لم تكن عن روح عداء وخصام.
تأمر الآية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد أي شخص مؤمن مهما تكن طبقته وظروفه وعنصره، بل عليه أن ينظر إِلى الجميع بعين المساواة، وأن يحتضنهم ويعمل على إِصلاحهم حتى وإِن كانوا ملوثين بالذنوب.
الآية التّالية ومن أجل توكيد هذا الموضوع تشير إِلى أنّ الله سبحانه يوضح آياته وأوامره توضيحاً بيّناً لكي يتبيّن طريق الباحثين عنه والمطيعين له، كما يتبيّن طريق الآثمين المعاندين من أعداء الله: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)(2).
1 ـ المجلد الثّالث من هذا التّفسير.
2 ـ جملة «ولتستبين» معطوفة في الواقع على جملة محذوفة تدرك بالقرينة، فيكون المعنى لتستبين سبيل المؤمنين المطيعين ولتستبين سبيل المجرمين.
من الواضح في هذه الآية أنّ «المجرم» ليس كل مذنب، لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)مكلّف في هذه الآية أن يتقبل المذنبين الذين يقبلون عليه، مهما يكن جرمهم الذي ارتكبوه عن جهل، وعليه فان المجرمين هنا هم أُولئك المذنبون المعاندون الذين لا يستسلمون للحق.
أي بعد هذه الدعوة العامّة إِلى الله، التي تشمل حتى المجرمين النادمين يتّضح بشكل كامل طريق المعاندين الذين لا يرجعون عن عنادهم.
* * *
قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56) قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَـصِلِينَ(57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَاتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاَْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّـلِمِينَ(58)
ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجهاً إِلى المشركين وعبدة الأصنام المعاندين ـ كدأب معظم آيات هذه السورة ـ يبدو من سياق هذه الآيات أنّهم دعوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى إِعتناق دينهم، الأمر الذي يستدعي نزول الآية: (قل إِنّي نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)(1).
1 ـ إستعمال «الذين» التي هي للجمع المذكر العاقل، لا للإِشارة إِلى الأصنام، يدل على أنّ الكلام يجري وفق وجهة نظر المشركين.
جملة «نُهيتُ» التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إِلى أنّ النهي عن عبادة الأصنام ليس أمراً جديداً، بل كان دائماً قائماً وسيبقى كذلك.
ثمّ بجملة (قل لا أتبع أهواءكم) يجيب بوضوح على إِصرارهم العقيم، بالنظر لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية، لأنّ العقل يدرك بسهولة أن الإِنسان أشرف من الجماد، فكيف يمكن للإِنسان أن يخضع لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدني؟ هذا مع أنّ هذه الأصنام هي من صنع الإِنسان نفسه فكيف يتخذ الإِنسان ما خلقه بنفسه معبوداً يعبده ويلجأ إليه في كل مشاكله؟ وبناء على ذلك، فإِنّ منشأ عبادة الأصنام ليس سوى التقليد الأعمى والإتّباع المقيت للأهواء والشهوات.
وفي ختام الآية يؤكّد القرآن مرّة أُخرى على أنّه إِذا فعل ذلك (قد ضللت إِذاً وما أنا من المهتدين).
الآية التّالية تتضمّن جواباً آخر، وهو: (قل إِنّي على بيّنة من ربّي وكذبتم به).
«البيّنة» أصلا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال، ثمّ أطلقت على الدليل والحجة الواضحة، لأنّها تفصل بين الحق والباطل.
وفي المصطلح الفقهي تطلق «البيّنة» على الشاهدين العدلين، غير أنّ معنى الكلمة اللغوي واسع جداً، وشهادة العدل واحد من تلك المعاني، وكذلك كانت المعجزة بيّنة لأنّها تفصل بين الحق والباطل، وإِذا قيل للآيات والأحكام الإِلهية بينات فلكونها من مصاديق الكلمة الواسعة.
وعليه، فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر في هذه الآية أن يقول: إِنّ دليلي في قضية عبادة الله ومحاربة الأصنام واضح وبيّن، وان تكذيبكم وإِنكاركم لا يقللان من صدق الدليل.
ثمّ يشير إِلى حجّة واهية أُخرى من حججهم، وهي أنّهم كانوا يقولون: إِن
كنت على حق فعلا فعجل بالعقاب الذي تتوعدنا به، فيقول لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما عندي ما تستعجلون به)، لأنّ الأعمال والأوامر كلها بيد الله: (إِن الحكم إِلاّ لله).
وبعد ذلك يقول مؤكداً: إِنّ الله هو الذي: (يقص الحق وهو خير الفاصلين).
بديهي أنّ القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي يكون أعلم الجميع، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل، ثمّ تكون له القدرة الكافية على استخدام علمه، وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من صفات الذات الإِلهية اللامحدودة، وعليه فإنّه عزّ وجلّ خير من يقص الحق، أي يفصل الحق من الباطل.
الآية التّالية تأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة الجاهلة: لو أن ما تطلبونه مني على عجل كان في سعتي وقدرتي، وأجبتكم إِليه لإنتهى الأمر، ولم يعد بيني وبينكم شيء: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم).
ولكيلا يظنوا أن عقابهم قد طواه النسيان، يقول في النهاية (والله أعلم بالظالمين) وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.
* * *
هنا لابدّ من ذكر بعض النقاط:
1 ـ يستفاد من آيات القرآن أنّ كثيراً من الأُمم الماضية طلبوا مثل هذا الطلب من أنبيائهم، وهو: إِذا كنت صادقاً فيما تقول فلماذا لا ترسل علينا العقاب الذي تتوعدنا به؟
قوم نوح(عليه السلام) طلبوا منه ذلك (قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين)(1) ونظير ذلك جاء على لسان قوم صالح(2)وكذلك فعل قوم عاد مع نبيّهم هود(3).
ويستفاد من سورة الإِسراء أنّ هذا الطلب قد تكرر لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّهم قالوا له: إِننا لا نؤمن لك (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً)(4).
كان الدافع إِلى هذه الطلبات غير المعقولة السخرية والإِستهزاء، أو الرغبة في رؤية المعجزة، وفي كلتا الحالتين كان الطلب أحمقاً، إِذ في الحالة الثانية يكون تحقق الطلب سبباً في إِبادتهم، ولا يكون ثمّة مجال للإِستفادة من ظهور المعجزة، وفي الحالة الأُولى كان لدى الأنبياء أدلة بينة توفر ـ على الأقل ـ احتمال التصديق عند كل ناظر بصير، فكيف يمكن مع هذا الإِحتمال أن يطلب أحد القضاء على نفسه، أو أن لا يأخذ المسألة مأخذ الجد، غير أنّ التعصب والعناد بلاء عظيم يقفان بوجه كل فكر ومنطق.
2 ـ إِنّ معنى (إِن الحكم إِلاّ لله) واضح، أي أنّ كل أمر في عالم الخلق والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد الله، وبناء على ذلك إِذا كان لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بمهمّة فذلك أيضاً بأمر من الله.
فإِذا أحيا المسيح(عليه السلام) ميتاً ـ مثلا ـ فهو بإِذن الله، وكذلك كل منصب ـ بما في ذلك القيادة الإِلهية والتحكيم والقضاء ـ إِذا أوكل إِلى أحد، فإِنّما هو بأمر الله تعالى.
ولكنّ الذي يؤسف له أنّ هذه الآية الواضحة استغلت على مدى التّأريخ، فمرّة تمسك بها الخوارج في قضية «الحكمين» التي أرادوها هم وأمثالهم في
1 ـ هود، 32.
2 ـ الاعراف، 77.
3 ـ الأعراف، 70.
4 ـ الإِسراء، 91.
حرب «صفين» فكانت «كلمة حق أُريد بها باطل» كما قال الإِمام علي(عليه السلام)، حتى أصبح شعارهم (لا حكم إِلاّ لله).
لقد كانوا من الجهل والبلاهة إِنّهم حسبوا أن من حكم بأمر الله والإِسلام في أمر من الأُمور يكون قد خالف (إِن الحكم إِلاّ لله) بينما كانوا يقرأون القرآن كثيراً، ولكن لا يفهمونه إِلاّ قليلا، فالقرآن نفسه في موضوع الإِحتكام العائلي يصرح بإِختيار حكم من جانب الزوجة وحكم من جانب الزوج: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها)(1).
واعتبر بعض آخر هذه الآية ـ كما يقول الفخر الرازي في تفسيره ـ دليلا على الجبرية، قائلين إِنّنا إِذا قبلنا بأنّ الأوامر في عالم الخلق بيد الله، فلا يبقى لأحد مجال للإِختيار.
ولكنّنا نعلم أنّ حرية إِرادة عباد الله وحرية إِختيارهم هي أيضاً، بأمر من الله الذي شاء أن يكونوا أحراراً في إِختيار ما يعملون، لكي يحملهم مسؤولية أعمالهم والتكاليف الملقاة على عواتقهم.
3 ـ «يقص» في اللغة ترد بمعنى القطع، وفي القاموس: «قص الشعر والظفر أي قطع منهما بالمقص أي المقراض»، وعلى هذا يكون معنى و(يقص الحق) إِنّ الله يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما، ولذلك يتلوها بقوله: (هو خير الفاصلين)للتوكيد، فالفعل «يقص» هنا لا يعني سرد حكاية، كما ظن بعض المفسّرين.
* * *
1 ـ النساء، 35.
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِى ظُلُمَـتِ الاَْرْضِ وَلاَرَطْب وَلاَيَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين(59) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـكُم بِالَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كِنتُمْ تَعْمَلُونَ(60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَـهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـسِبِينَ(62)
![]() |
![]() |
![]() |