![]() |
![]() |
![]() |
في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره، وهي تشرح ما اجملته الآيات السابقة.
تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهاهو).
«مفاتح» جمع «مفتح» (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح، أمّا إِذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.
وعلى الأوّل يكون المعنى: إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله.
وعلى الثّاني يكون المعنى: إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله.
ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة، وكما هو ثابت في علم الأُصول، فإِن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه، وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان، لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.
وأغلب الظن أنّ «مفاتح» بمعنى «مفاتيح» لا بمعنى «خزائن» لأنّ الهدف هو بيان علم الله، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية، وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة «مفاتح» بمعنى المفاتيح(1).
ثمّ لتوكيد ذلك أكثر يقول: (ويعلم ما في البرّ والبحر).
«البرّ» كل مكان واسع فسيح، وتطلق على اليابسة، «والبحر» كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحياناً.
فالقول بأنّ الله يعلم ما في البر والبحر، كناية عن إِحاطته بكل شيء، وهذه الإِحاطة بما في البرّ والبحر إِنّما تمثل في الحقيقة جانباً من علمه الأوسع.
فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية، الكبيرة والصغيرة، في أعماق البحار.
وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل.
وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها.
1 ـ (ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة) (القصص، 76) و(أو ما ملكتم مفاتحه) (النّور، 61).
وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان.
وهو عالم بعدد خلايا جسم الإِنسان وكريات دمه.
وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإِلكترونات في قلب الذّرة.
وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا ... نعم أنّه عالم بكل ذلك على حدّ سواء.
لذلك فإِنّه يؤكّد ذلك مرّة أُخرى فيقول: (وما تسقط من ورقة إِلاّ يعلمها).
أي أنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة إِنفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، كل هذا جلي أمام علم الله.
كذلك لا تختفي حبّة بين طيات التراب إِلاّ ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها: (ولا حبّة في ظلمات الأرض).
التركيز هنا ـ في الحقيقة ـ على نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إِليهما الإِنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة.
ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟ وإِلى أين تحملها وتنشرها، أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية، حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو؟
من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق الإِنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إِلى نقطة أُخرى؟
أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إِلى غابة من الغابات في الخريف، وخاصّة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة، وتطلع إِلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع، عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة، وهي أنّ علوماً من هذا القبيل
لن تكون يوماً في متناول يد الإِنسان.
إِنّ سقوط الورقة ـ في الحقيقة ـ هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة، وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وإِنبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات، جلية في علم الله.
إنّ لهذا الموضوع أثراً «فلسفياً» وآخر «تربوياً»:
أمّا أثره الفلسفي، فينفي رأي الذين يحصرَون علم الله بالكليات، ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئاً، وفي الآية هنا تأكيد على أنّ الله يعلم الكليات والجزئيات كلها.
أمّا أثره التربوي فواضح، لأنّ الإِيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإِنسان: إِنّ جميع أسرار وجودك، وأعمالك، وأقوالك ونياتك، وأفكارك كلّها بيّنة أمام الله، فإِذا آمن الإِنسان حقّاً بهذا، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيباً على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونياته!
وفي ختام الآية يقول تعالى: (ولا رطب ولا يابس إِلاّ في كتاب مبين).
تبيّن هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات بدون أي إِستثناء، إِذ أن «الرطب» و«اليابس» لا يقصد بهما المعنى اللغوي، بل هما كناية عن الشمول والعمومية.
وللمفسّرين آراء متعددة في معنى: «كتاب مبين»، ولكنّ الأقوى أنّه كناية عن علم الله الواسع، أي انّ كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود، كما أنّه تفسر بكونه «اللوح المحفوظ» نفسه، إِذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله.
وثمّة احتمال آخر عن معنى «كتاب مبين» وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء.
جاء فيما روي عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ «الورقة» الساقطة بمعنى الجنين الساقط، و«الحبّة» بمعنى الابن، و«ظلمات الأرض» بمعنى رحم الأُم، و«رطب»ما بقي حياً من النطفة، و«يابس» ما تلاشى من النطفة(1).
لا شك أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية، إِذ إِنّ معنى «الورقة» و«الحبّة» و«ظلمات الأض» و«الرّطب» و«اليابس» معروف، ولكنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بهذا التّفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة المسلمين إِلى القرآن، وأن لا ينحصروا في إِطار الألفاظ، بل يتوسعوا في نظرتهم حين توجد قرائن على هذا التوسع.
الرّواية أعلاه تشير إِلى أنّ معنى «الحبّة» لا ينحصر في بذور النباتات، بل يشمل أيضاً بذور النطف الإِنسانية.
في الآية الثانية ينتقل الكلام إِلى إِحاطة علم الله بأعمال الإِنسان وهو الهدف الأصلي وإِلى بيان قدرة الله القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما تعملون في النهار: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار).
«توفى» تعني استرجع، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إِلى أنّ النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع تام في إِرتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الإِرتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت(2).
«جرحتم» من «جرح» وهي هنا بمعنى الإِكتساب، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهاراً، وانّ الذي يعلم بإِنفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان، يعلم
1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 528.
2 ـ هناك شرح أوفى لهذا في المجلد الثاني.
بأعمالكم أيضاً.
ثمّ يقول: إِنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر،فأنتم تنامون في الليل (ثمّ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى)(1) أي ثمّ يوقظكم في النهار .. وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.
ويبيّن القرآن النتيجه النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: (ثمّ إِليه مرجعكم ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون).
وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإِحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإِحصاء أعمالهم: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة).
سبق أن قلنا إِنّ «القاهر» هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.
أمّا كلمة «الغالب» فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامّة واسعة المعنى.
«حفظة» جمع «حافظ» وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس، كما جاء في سورة الإِنفطار، الآيات 10 ـ 13: (إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون).
ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإِنسان، بل هم مأمورون بحفظ الإِنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين، ويعتبرون (حتى إِذا جاء أحدكم الموت) بعد «حفظة» قرينة تدل على ذلك، كما يمكن اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك(2).
ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال، أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فسوف
1 ـ الضمير في «فيه» يعود على «النهار» و«يبعثكم» بمعنى يوقظكم وينهضكم، و«أجل مسمى» هو العمر المحدد لكل فرد.
2 ـ تفسير الميزان، ج 7، ص 134.
نشرحه بإِذن الله عند تفسير سورة الرعد.
ثمّ يبيّن القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت: (حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).
وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.
ويحتمل أيضاً أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور، والآية تركز على هذا القسم بالذات.
في الآية الاخيرة يشير القرآن الكريم إِلى آخر مراحل عمل الإِنسان، فيقول: (ثمّ ردّوا إِلى الله مولاهم الحق) أي عادوا إِلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم، واختتم ملفهم الحاوي على كل شيء.
وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإِصدار الأحكام بيد الله: (ألا له الحكم).
وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاخب فانّ الله سريع في النظر فيها: (وهو أسرع الحاسبين).
لقد جاء في بعض الرّوايات: «إِنّه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار حلب شاة» أي أنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة(1).
وكما قلنا في تفسير الآية (202) من سورة البقرة، إِنّ إِجراء الحساب من السرعة بحيث إِنّه يمكن أن يتمّ في لحظة واحدة بالنسبة للجميع، بل إِن ذكر فترة حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك، وعلى هذا نقرأ في رواية أُخرى: «إِن الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح
1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 313.
البصر»(1).
والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية، وهو أنّ أعمال الإِنسان تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به، تماماً مثل الماكنة التي تسجل مقدار حركتها في عداد متصل بها.
وبتعبير أوضح، لو كانت هناك أجهزة دقيقة جداً لاستطاعت أن تسجّل في عين الإِنسان عدد النظرات الآثمة، وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والإِفتراءات والتهم والطعون التي اقترفتها، أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيه ـ بالإِضافة إِلى روحه ـ جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة.
وإِذا جاء في بعض الرّوايات أنّ محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم القيامة فإِن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب، بل هو طول زمن المحاسبة عليهم، إِذ لابدّ لهم من الإِجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم بشأن الأعمال التي ارتكبوها، أي أن ثقل مسؤولياتهم ولزوم إِجابتهم على الأسئلة لإِتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم.
يؤلف مجموع هذه الآيات درساً تربوياً كاملا لعباد الله في إِحاطة علمه تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع أعمال البشر، وقيام كتبة أُمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات معينة بالنسبة لكل منهم، وبعثهم يوم القيامة، ومن ثمّ محاسبتهم محاسبة دقيقة وسريعة.
كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثمّ لا يراقب أعماله، يظلم دون وازع، ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين؟
هل يجتمع كل هذا مع الإِيمان والاعتقاد على صعيد واحد؟
* * *
1 ـ المصدر نفسه، ج 1، ص 298.
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنّْ أَنجَـنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْشَّـكِرِينَ(63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْب ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ(64)
مرّة أُخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغلّ بهم إِلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قل لهم: (قُل مَن يُنجّيكُم مِنْ ظُلمات البرِّ وَالبَحر)؟
إِنّ الظلام يكون حسياً أحياناً ومعنوياً أحياناً أُخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور إِنقطاعاً تاماً، أو يضعف بحيث لا يرى شيء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة، الجهل ... الإِضطرابات الإِجتماعية والإِقتصادية والفكرية، والإِنحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السئية، أو التي تجر إِلى التعاسة والشقاء ... كلّها ظلام.
إِنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أنّ لكل امرىء ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.
الظلام من العدم، والإِنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه يخاف الظلام.
وإِذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإِنسان مسافراً في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأنّ الإِنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإِنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئاً سوى نفسه، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إَزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: (تدعونه تضرعاً وخفية).
وتعقدون ـ وأنتم في تلك الحالة ـ عهداً وميثاقاً على أنفسكم، وتقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين).
ثمّ تأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مراراً، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إِلى طريق الشرك والكفر: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثمّ أنتم تشركون).
هنا لابدّ من الإِلتفات إِلى عدّة نقاط:
1 ـ لعل ذكر «التضرع» وهو الدعاء علانية، و«الخفية» هي الدّعاء في السرّ، إِشارة إِلى أنّ المصائب تختلف، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء خفية، وعندما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهراً، وقد يصاحب ذلك البكاء والصراخ، أي أنّ الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.
2 ـ يرى بعضهم أنّ الآية تشير إِلى أربع حالات نفسية في الإِنسان، كل واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل: حالة «الدعاء» وحالة «التضرع» وحالة «الإِخلاص» وحالة «تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار».
ولكنّ الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مروراً خاطفاً وكأنّه ا حالات إِضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل، وبما أنّها ليست مصحوبة بالوعي والإِدراك، فأنّه ا تخفت وتنطفىء بمجرّد إِنتهاء الأزمة.
وبناء على ذلك، فإِن هذه الحالات، وان تكن خاطفة، تستطيع أن تكون دليلا على معرفة الله لمن عسر عليه ادراك الدلائل الأُخرى.
3 ـ «الكرب» في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإِنسان وتثقل عليه كالعقدة.
لذلك فإِنّ ذكر «الكرب» بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع المشاكل والأزمات بعد ذكر (ظلمات البرّ والبحر) والتي تشمل جانباً من المشاكل فقط، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).
وهذا يجدر بنا أنّ نذكر حديثاً تورده بعض التفاسير في هذه الآية:
روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي» (لا الثروات الضخمة التي هي حصيلة حرمان الآخرين، وتكون عبئاً على كاهل
الإِنسان)، وروي أيضاً أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال: «إِنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، وإِنّما تدعون سميعاً قريباً»(1).
يستفاد من هذا الحديث أنّ خير الدعاء ما كان خفياً مقترناً بتوجه وإِخلاص.
* * *
1 ـ تفسير مجمع البيان ونور الثقلين في تفسير الآية.
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيعَاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاْيَـتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)
في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبّة الله لعباده، وحنوه عليهم عند الشّدائد والصعاب، واستجابته لدعواتهم.
وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه، من أجل إِكمال طرق التربية والتهذيب، أي أنّ الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة، ففي هذه الآية يؤمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب: عذاب من فوق، وعذاب من تحت، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإِراقة الدماء: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض).
وفي الختام تقول الآية: (انظُر كيف نصرف الآيات لعلّهم يفقهون)، أي انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودا إِلى الله.
هنا أيضاً لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:
1 ـ هنالك اختلاف بين المفسّريين بشأن المقصود من العذاب من فوق ومن تحت، ويظهر أنّ لهاتين الكلمتين معاني واسعة، فهما تشملان الجهتين الماديتين من السماء ومن الأرض كالصواعق والأمطار الغزيرة والعواصف المدمّرة التي يأتي من فوق، والزلازل والإِنشقاقات الأرضية المدمرة وفيضانات الأنهر والبحار من تحت.
كذلك تشمل الآلام والمصائب التي ينزلها بعض الحكام والطبقات المتسلطة في المجتمع على رؤوس الشعوب، وكذلك الآلام والعذاب الذي يسببه بعض الموظّفين الذين لا يعرفون واجبهم للناس ممّا قد لا يقل عما يسببه الحكام والطّبقات العليا من المجتمع.
وكذلك يحتمل أن تشمل أسلحة الحرب المخيفة في عصرنا التي تبيد حياة البشر بشكل وحشي من الأرض والجو، وتحيل المدن خلال مدّة قصيرة إِلى ركام وأنقاض عن طريق القصف الجوي والهجوم الارضي وزرع الألغام والغواصات المدمّرة داخل البحار.
2 ـ «يلبسكم» من «اللبس» بفتح اللام بمعنى الإِختلاط والإِمتزاج، لا من «اللبس» بضم اللام بمعنى إِرتداء الملابس، وعلى ذلك يكون معنى الآية: إِنّه قادر على أن يجعل منكم جماعات مختلفة تختلط بعض ببعض.
يستنتج من هذا التعبير أنّ مسألة اختلاف الكلمة والتفرق في المجتمع لا تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل، وهو في الحقيقة كذلك، بل قد يكون الخراب الناشىء من اختلاف الكلمة والتفرق أحياناً أشد وطأة ودماراً من الزلازل والصواعق، كثيراً ما نلاحظ أنّ دولا عامرة يصيبها الفناء بسبب النفاق والتفرقة، وهذه الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم!
هنالك أيضاً احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو - أنّ الله قد أشار ـ إِلى جانب العذاب السماوي والأرضي ـ إِلى لونين آخرين من العذاب: أحدهما: اختلاف العقيدة والفكر (وهو في الواقع مثل العذاب النازل من فوق)، والآخر: هو الإِختلاف في العمل والسلوك الإِجتماعي الذي يؤدي إِلى الحروب وإِراقة الدماء (وهو أشبه بالعذاب الآتي من تحت).
وعليه، فالآية تشير إِلى أربعة ألوان من العذاب الطبيعي، ولونين من العذاب الإِجتماعي.
3 ـ لابدّ من الإِنتباه إِلى أن قوله تعالى: (أويلبسكم شيعاً)(1)، لايعني أنّ الله يبتلي الناس ـ بدون مبرر ـ بالنفاق والإِختلاف، بل إِنّ ذلك نتيجة سوء أعمالهم وغرورهم وأنانياتهم، والانغماس في منافعهم الشخصية، ممّا يثير روح النفاق والتفرقة بينهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه جعل تلك الآثار من نتائج تلك الأعمال.
4 ـ على الرّغم من أنّ الخطاب في هذه الآية موجه إِلى المشركين وعبدة الأصنام، فإنّنا نستنتج أنّ المجتمع المشرك والمنحرف عن طريق التوحيد وعبادة الله، يصاب بظلم الطبقات العليا، وظلم الطبقات الدنيا المتهاونة في واجباتها، كما تقع البشرية بين براثن الإِختلاف العقائدية والمخاصمات الدموية في المجتمع، كما هو حال المجتمعات المعاصرة التي تعبد أوثان الصناعة والثروة، فهي رهين مصائب لا فكاك لها من مخالبها.
بعض الشعوب المسلمة تتحدث عن التوحيد وعبادة الله بأقوالها، ولكنّها بأفعالها مشركة تعبد الأصنام. إن مصائر شعوب كهذه لا يختلف عن مصائر المشركين. وقد يكون حديث الإِمام الباقر(عليه السلام): «كل هذا في أهل القبلة» إِشارة إِلى هذا الإِختلاف بين المسلمين، فعندما ينحرف المسلمون عن طريق التوحيد،
1 ـ «شيعاً» جمع «شيعة» بمعنى الجماعة.
تأخذ الأنانية وحبّ الذات مكان الأُخوة الإِسلامية، وتتغلب المصالح الشخصية على المصلحة العامّة، ولا يفكر الفرد إِلاّ بنفسه وينسى الناس أوامر الله ونواهيه، فيحيق بهم ما أحاق بأُولئك.
* * *
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل(66)لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(67)
تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إِلى الله والمعاد وحقائق الإِسلام والخشية من عقاب الله.
الآية الأُولى: تخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ قومه ـ أي قريش وأهل مكّة ـ لم يصدقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكّده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية: (وكذب به قومك وهو الحق)(1) ثمّ يصدر الأمر إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (قل لست عليكم بوكيل) أي إِنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.
في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 ـ الأنعام، 108 ـ يونس، 41 ـ الزمر، 6 ـ الشورى) يتبيّن أنّ المقصود من «وكيل» في هذه المواضع هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم ـ لذلك فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول لهم في هذه الآية: إِنّ الأمر يعود إِليكم، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار
1 ـ الضمير في «به» يرجعه بعضهم إِلى القرآن، ويرجعه آخرون إِلى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة، ولكنّ الظاهر إنّه يرجع إِلى كل هذه وإلى تعاليم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) التي كذبوا بها، وتؤكّد ذلك الآية التّالية.
النهائي في قبول الحقيقة أو ردّها، فما أنا إِلاّ رسول أُبلغ رسالة الله.
وفي الآية التّالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم، ودعوة إِلى إِختيار الطريق الصحيح، (ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)(1) أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر، وسوف يتحقق في موعده المقرر، وعندئذ ستعرفون ذلك.
* * *
1 ـ قد يكون «المستقر» المصدر الميمي بمعنى «الإِستقرار» أو اسماً لمكان وزمان بمعنى مكان الإِستقرار، بالمعنى الأوّل يكون إِخباراً عن تحقيق وعد الله، وبالمعنى الثاني الإِخبار عن مكان تحققه وزمانه.
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيث غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْء وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69)
جاء في تفسير مجمع البيان عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه عند ما نزلت الآية الأُولى ونهي المسلمون عن مجالسة الكفار والذين كانوا يسخرون من آيات الله، قال فريق من المسلمين إِذا كان علينا أن نلتزم بهذا النهي في كل مكان فإنّه يمتنع علينا الذهاب إِلى المسجد الحرام والطواف به (وذلك لأنّ أُولئك كانوا منتشرين في أطراف المسجد ولا يفتأون يتناولون الآيات القرآنية بالكلام الباطل، فحيثما نتوقف في أرجاء المسجد ثمّة احتمال أن يصل كلامهم الى مسامعنا). عندئذ نزلت الآية الثانية تأمر المسلمين في مثل هذه الحالات أن ينصحوهم ويهدوهم ويرشدوهم قدر إِمكانهم.
إِنّ ورود سبب نزول لهذه الآية لا يتعارض ـ كما قلنا من قبل ـ مع نزول
السورة كلها مرّة واحدة، إِذ من المحتمل أن تكون هناك حوادث مختلفة في حياة المسلمين، فتنزل سورة واحدة تختص كل مجموعة من آياتها ببعض تلك الحوادث.
بما أنّ المواضيع التي تتطرق إِليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم، ففي البداية تقول للرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره)(1).
على الرغم من أنّ الكلام هنا موجه إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّه لا يقتصر عليه وحده، بل هو موجه إِلى المسلمين كافة، إِنّ فلسفة هذا الحكم واضحة، إِذ لو اشترك المسلمون في مجالسهم، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكنّ المسلمين إِذا مروا دون أن يبالوا بهم، فسيكفّون عن ذلك ويغيرون الحديث إِلى أُمور أُخرى، لأنّهم كانوا يتقصدون إِيذاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.
ثمّ تخاطب الآية رسول الله مؤكّدة أهمية الموضوع: (وإمّا ينسينّك الشيطان فلا تقعد(2) بعد الذكرى مع القوم الظالمين) أي إِذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهواً، فعليك ـ حالما تنتبه ـ أن تنهض فوراً وتترك مجالسة الظالمين.
1 ـ «الخوض» كما يقول الراغب الأصفهاني في «مفرداته» هو الدخول في الماء والمرور فيه، ثمّ إستعير للورود في أُمور أُخرى، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل ما أساس له.
2 ـ غني عن القول بأن (لا تقعد) لا تعني النهي عن مجرّد الجلوس مع هؤلاء، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات الجلوس والوقوف أو المسير.
سؤالان:
هنا يبرز سؤالان:
الأوّل: هل يمكن للشّيطان أن يتسلط على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويسبب له النسيان؟ وبعبارة أُخرى، كيف يمكن للنّبي مع عصمته وكونه مصوناً عن الخطأ حتى في الموضوعات أن يخطىء وأن ينسى؟
في الإِجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجهاً إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في إِجتماعات المشركين الآثمة، فهؤلاء عليهم حال إِنتباههم إِلى ذلك أن يتركوا المكان، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم، فأنت قد توجه الخطاب إِلى أحدهم ولكنّ هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل: إِياكِ أعني واسمعي يا جارة.
هناك مفسّرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في تفسيره المعروف يوردون جواباً آخر عن هذا السؤال خلاصته: إنّ السهو والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين بالنسبة للأنبياء، أمّا في الحالات التي لا تؤدي إِلى ضلال الناس فجائزان، إِلاّ أنّ هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمّة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان، لا في قضايا الأحكام وحدها، بل حتى في القضايا العادية أيضاً.
السؤال الثّاني: يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلا على عدم جواز التقية الدينية للقادة الدينيين، وذلك لأنّ الآية تصرّح بالنهي عن اللجؤ إِلى التقية أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم.
والجواب على هذا الإِعتراض واضح، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية دائماً، بل إِنّ التقية في بعض الأحيان حرام، إِنّما ينحصر وجوبها في الظروف التي
تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إِظهاره، أو تكون سبباً في دفع خطر أو ضرر كبير.
الآية التّالية فيها إِستثناء واحد، فإِذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدي ذلك إِلى انصراف أُولئك عن الاثم، فلا مانع من ذلك، وأنّ آثام أُولئك لا تسجل على هؤلاء، لأنّ قصدهم هو الخدمة والقيام بالواجب: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلّهم يتقون).
![]() |
![]() |
![]() |