![]() |
![]() |
![]() |
من الجدير بالإِنتباه أنّ هذا الحديث يؤكّد كلمة «لون» ونحن اليوم نعلم أنّ الجسم بذاته لا يرى مطلقاً، وإِنما الذي نراه هو لونه، فإِذا لم يكن للجسم أي لون فلن يرى.
(في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية (46) من سورة البقرة).
بعض المفسّرين من أهل السنة، ممن يذهب إِلى الجبر يتخذ من قوله تعالى (خالق كل شيء) دليلا على صحة مذهبهم في الجبر، فيقول: إِنّ أعمالنا وأفعالنا من «اشياء» هذا العالم أيضاً، لأنّ كلمة «شيء» تطلق على كل ذي وجود، مادياً كان أم غير مادي، وسواء كان من الذوات أم من الصفات، وعليه عندما نقول: إِنّ الله خالق كل شيء، لابدّ لنا أن نقبل أيضاً بأنّه خالق أفعالنا، وهذا هو الجبر بعينه.
بيد أنّ القائلين بحرية الإِرادة والإِختيار يردون بجواب واضح على أمثال هذه الإِستدلالات، وهو أنّ خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الإِختيار، إِذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إِلينا وإِلى الله، فنسبتها إِلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا، فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإِراده والإِختيار، فما دامت جميع المقدمات من خلقه، فيمكن أن تنسب أفعالنا إِليه بإِعتباره خالقها، ولكن من حيث إِتخاذ القرار النهائي فإِننا بالإِستفادة ممّا وهبه الله لنا من القدرة على الإِرادة والإِختيار نتخذ القرار بأداء
1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 753.
الفعل أو تركه، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إِلينا ونكون مسؤولين عنها.
وبتعبير الفلاسفة: لايوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.
بل هما ممتدتان طولا، لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له، لكنّهما إِذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا، فيمكن أن ننسب هذه المتستلزمات إِليه أيضاً، إِضافة إِلى نسبتها إِلى فاعلها.
هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم وإختياراتهم، ويهيء لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل، فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إِلى ربّ العمل، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والإِختيار، بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم.
وسنبحث فكرة الجبر والإِختيار ـ إِن شاء الله ـ بالتفصيل عند تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع.
* * *
سبق أن ذكرنا أن «بديع» تعني موجد الشيء بغير سابق وجود، أي أنّ الله أوجد السموات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.
هنا يعترض بعضهم بقوله: كيف يمكن إِيجاد شيء من عدم ونحن قد بحثنا هذا في تفسير الآية (117) من سورة البقرة، وذكرنا ما ملخصه: إِنّنا عندما نقول إِنّ الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أنّ المادة الأولية لخلقها هي «العدم» مثلما نقول: إِنّ النجار صنع الكرسي من الخشب، فهذا بالطبع مستحيل، لأنّ «العدم» لا يمكن أن يكون مادة «الوجود».
إِنّما المقصود هو أنّ موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل، ثمّ وجدت، وليس في هذا ما يصعب فهمه، وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية (117) من سورة البقرة، ونضيف هنا قائلين: إِنّنا قادرون على أن نوجد في أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقاً، ولا شك أنّ لهذه الموجودات الذهنية نوعاً من الوجود والكينونة، رغم أنّه ليس وجوداً خارجياً، ولكنّها موجودة في أُفق أذهاننا، وإِذا كان وجود الشيء بعد العدم مستحيلا، فما الفرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟
وبناءً على ذلك فإِنّنا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم وجود من قبل، كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي، انّ قليلا من التأمل في هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة.
«اللطيف» من مادة «لطف» وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة كاحدى الصفات الالهية، واللطيف(1) إِذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد للثقيل، ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأُمور الدقيقة التي قد لا تدركها الحواس، ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا الوجه لمعرفته بدقائق الأُمور، ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية، وتتسم افعاله بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الادراك.
يروي (الفتح بن يزيد الجرجاني) حديثاً عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام)يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول: قال الإِمام(عليه السلام): «... إِنّما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف، أو لا ترى ـ وفقك الله وثبتك ـ إِلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان
1 ـ أصول الكافي، ج 1، ص 93.
الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى، والحدث المولود من القديم، لما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإِفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إِليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنّ كل صانع شيء فمن شيء صنعه والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء».
إِنّ هذا الحديث الذي يشير إِلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد (پاستور) بقرون يفسر معنى اللطيف.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود من اللطيف هو أنّ ذاته المقدسة من اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس، وعليه فإِنّه «اللطيف» لأنّ أحداً لا علم له به، وهو «الخبير» لأنّه عالم بكل شيء.
وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً(1) وليس هناك ما يمنع من إِرادة المعنيين من هذه الكلمة.
* * *
1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 548.
قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ(104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(105) اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(106) وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَـكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل(107)
تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة، ففي البداية تقول: (قد جاءكم بصائر من ربّكم).
«بصائر» جمع «بصيرة» من «البصر» بمعنى الرؤية، ولكنّها في الغالب رؤية ذهنية وعقلانية، وقد تطلق على كل ما يؤدي إِلى الفهم والإِدراك، وهذه الكلمة في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في الآيات السابقة، بل إِنّها تشمل حتى القرآن نفسه.
ثمّ لكي تبيّن أنّ هذه الأدلة والبراهين كافية لإِظهار الحقيقة لأنّها منطقية، تقول: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، أي أنّ إِبصارهم يعود بالنفع عليهم وعماهم يسبب الإِضرار بهم.
وفي نهاية الآية تقول، على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما أنا عليكم بحفيظ).
للمفسّرين إِحتمالان في تفسير هذا المقطع من الآية:
الأوّل: إِنّي لست أنا المسؤول عن مراقبتكم والمحافظة عليكم وملاحظة أعمالكم، فالله هو الذي يحافظ على الجميع، وهو الذي يعاقب ويثيب الجميع، أنّ واجبي لا يتعدى إِبلاغ الرسالة وبذل الجهد لهداية الناس.
والآخر: أنا غير مأمور لأحملكم بالجبر والإِكراه على قبول الإِيمان، إِنّما واجبي هو أن أدعوكم إِلى ذلك بتبيان الحقائق بالمنطق والحجّة وأنتم الذين تتخذون قراركم النهائي.
وليس ما يمنع من إنطواء العبارة على كلا المعنيين.
الآية التّالية تؤكّد أنّ إِتخاذ القرار النهائي في إِختيار طريق الحقّ أو الباطل إِنّما يرجع للناس أنفسهم، وتقول: (وكذلك نصرف الآيات)(1) أي كذلك نبيّن الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.
لكن جمعاً عارضوا، وقالوا ـ دونما دليل وبرهان ـ إِنّك تلقيت هذا من الآخرين (أي اليهود والنصارى): (وليقولوا درست)(2).
إِلاّ أنّ جمعاً آخر ممن لهم الإِستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم وعلم، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها: (ولنبيّنه لقوم يعلمون).
إِنّ إِتهام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه إِقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر
1 ـ «نصرف» من «التصرف» وهو بمعنى رد الشيء من حالة أو إِبداله بغيره، أي أنّ الآيات تنزل في صور وأشكال متنوعة ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والإِجتماعية.
2 ـ «اللام» في ليقولوا هي «لام العاقبة» لبيان العاقبة التي وصل إليها الأمر دون أن تكون هي الهدف المقصود، لقد كانت هذه تهمة يوجهها المشركون إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
من جانب المشركين، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك، مع أنّ حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلم منها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)شيئاً، كما أنّ رحلاته إِلى خارج الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالا لمثل هذا الإِحتمال، ثمّ إِنّ معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن ـ أصلا ـ مقارنتها بما في القرآن ولا بتعاليم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنشرح هذا الموضوع ـ إِن شاء الله ـ عند تفسير الآية (103) من سورة النحل.
ثمّ تبيّن الآية واجب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبال معاندة المعارضين وحقدهم وإِتهاماتهم، فتقول:(اتبع ما أوحي إِليك من ربّك لا إِله إِلاّ هو) ومن واجبك أيضاً الإِعراض عما يوجهه إِليك المشركون من إِفتراءات: (واعرض عن المشركين).
هذا ـ في الواقع ـ ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أي ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.
يتبيّن ممّا قلناه بجلاء أنّ عبارة (واعرض عن المشركين) لا تتعارض مطلقاً مع الأمر بدعوتهم إِلى الإِسلام ولا مع الجهاد ضدهم، فالمقصود هو أن لا يلقى اهتماماً إِلى أقوالهم الباطلة وإِتهاماتهم الكاذبة، بل يمضي في طريقه بثبات.
الآية الأخيرة يكرر القرآن فيما ـ مرّة أُخرى ـ القول بأنّ الله لايريدأن يكره المشركين ويجبرهم على الإِسلام، إِذ لو أراد ذلك لما كان هناك أي مشرك: (ولو شاء الله ما اشركوا) كما يؤكّد القول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّك لست مسؤولا عن أعمال هؤلاء، لأنّك لم تبعث لإِكراههم على الإِيمان: (وما جعلناك عليهم حفيظاً)، ولا من واجبك حملهم على عمل الخير: (وما أنت عليهم بوكيل).
«الحفيظ» هو من يراقب أمراً أو شخصاً ليحفظه من أن يصاب بضرر، أمّا «الوكيل» فهو من يسعى لإِحراز النفع لموكله.
لعل من المفيد أن نشير إِلى أنّ نفي هاتين الصفتين «الحفاظ والوكالة» عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعني نفي الإِجبار على دفع ضرر أو اجتلاب نفع، وإِلاّ فإِنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعوهم ـ ضمن تبليغه الرسالة ـ إِلى عمل الخير وترك الشر بصورة طوعية وإِختيارية.
إِنّ الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر، فهي تقول: إِنّ الإِيمان بالله وبتعاليم الإِسلام لا يكون عن طريق الإِكراه والإِجبار، بل يكون عن طريق المنطق والإِستدلال والنفوذ إِلى أفكار الناس وأرواحهم، فالإِيمان بالإِكرام لا قيمة له، لأنّ المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبلوها بإِرادتهم وإِختيارهم.
كثيراً ما يؤكّد القرآن حقيقة كون الإِسلام بعيداً عن كل عنف وخشونة، كتلك الأعمال التي كانت ترتكبها الكنيسة في القرون الوسطى(1)، ومحاكم تفتيش العقائد.
أمّا صلابة الإِسلام في مواجهة المشركين فسوف نبحثها ـ إِنّ شاء الله ـ في بداية تفسير سورة البراءة.
* * *
1 ـ «القرون الوسطى» هي فترة الألف سنة التي إمتدت بين القرن السادس الميلادي حتى نهاية القرن الخاس عشر، كما يطلق عليها إسم (الفترة المظلمة» التي مرت على أوروبا والمسيحية، والجدير بالذكر أنّ «العصر الذهبي الإِسلامي» يقع في منتصف القرون الوسطى.
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْم كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(108)
تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإِسلام على أساس المنطق، وقيام دعوته على أساس الإِستدلال والإِقناع لا الإِكراه، وهذه الآية تواصل نفس التوجيهات فتنهى عن سب ما يعبد الآخرون ـ أي المشركون ـ لأنّ هذا سوف يدعوهم إِلى أن يعمدوا هم أيضاً ـ ظلماً وعدواناً وجهلا ـ إِلى توجيه السب إِلى ذات الله المقدسة: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم).
يروى أنّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكّد إِلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة.
إِنّ السبب واضح، فالسّب والشّتم لا يمنعان أحداً من المضي في طريق
الخطأ، بل إِنّ التعصب الشديد والجهل المطبق الذي يركب هؤلاء يدفع بهم إِلى التمادي في العناد واللجاجة وإِلى التشبث أكثر بباطلهم، ويستسهلون إطلاق ألسنتهم بسبّ مقام الرّبوبية جل وعلا، لأنّ كل أُمّة تتعصب عادة لعقائدها وأعمالها كما تقول العبارة التّالية من الآية: (كذلك زيّنا لكلّ أُمّة عملهم).
وفي الختام تقول الآية: (ثمّ إِلى ربّهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون).
هنا ينبغي الإِنتباه إِلى ثلاث نقاط:
1 ـ هذه الآية نسبت إِلى الله تزيين الأعمال الحسنة والسيئة لكل شخص، وقد يثير هذا عجب بعضهم، إِذ كيف يمكن أن يزين الله أعمال المرء السيئة في نظره؟
سبق أن أجبنا مرات على مثل هذه الأسئلة فأمثال هذه التعبيرات تشير إلى صفة العمل وأثره، أي أنّ الإِنسان عندما يقوم بعمل ما بصورة متكررة، فإِنّ قبح عمله يتلاشي في نظره شيئاً فشيئاً، ويتخذ شكلا جذاباً، ولما كان علّة العلل وسبب الأسباب وخالق كل شيء هو الله، وأنّ جميع التأثيرات ترجع إِليه، فإِنّ هذه الآثار تنسب أحياناً في القرآن إِلى الله (تأمل بدقّة).
وبعبارة أوضح، إنّ عبارة (زيّنا لكل أُمّة عملهم) تفسر هكذا: لقد أقحمناهم في نتائج سوء أفعالهم إِلى الحد الذي أصبح القبيح جميلا في نظرهم.
يتضح من هذا أنّ القرآن ينسب ـ أحياناً ـ تزيين الأعمال إِلى الشيطان، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ الشيطان يوسوس لهم لكي يرتكبوا الأعمال القبيحة، وهم يستسلمون لوسوسة الشيطان، فتكون النتيجة أنّهم يلاقون عاقبة أعمالهم السيئة، وبالتعبير العلمي نقول: إِنّ السببية من الله، ولكنّ هؤلاء هم الذين يوجدون
السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقّة)(1).
2 ـ الأحاديث الإِسلامية ـ أيضاً ـ تواصل منطق القرآن في ترك سبّ الضالين والمنحرفين، فقد أمر كبار قادة الإِسلام بضرورة الإِستناد إِلى المنطق والإِستدلال دائماً، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ الإِمام علي(عليه السلام) خاطب فريقاً من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين، فقال: «إِني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر»(2).
3 ـ قد يعترض بعضهم قائلا: كيف يمكن لعبدة الأصنام أن يسبوا الله مع أنّهم في الغالب يؤمنون بالله ويعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء إلى الله؟
ولكنّنا إِذا أمعنا النظر في حالة العامّة المعاندين المتعصبين أدركنا أنّ هذا ممكن ولا عجب فيه، فإِنّ أمثال هؤلاء إِذا أُثير غضبهم سعوا للإِنتقام والإِثارة بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك بالإِساءة إِلى عقائد مشتركة يقول الآلوسي في «روح المعاني» إِنّ بعض العوام من الجهلة عندما سمع بعض الشيعة يسب الشّيخين أزعجه ذلك فراح يسب علياً(عليه السلام)، وإِذا سئل عمّا دعاه إِلى سب الإِمام علي(عليه السلام)الذي يحترمه، قال: كنت أُريد أن أنتقم من ذلك الشيعي، ولم أجد ما يغضبه ويثيره خيراً من هذا، فحملوه على أن يتوب عما فعل(3).
* * *
1 ـ في ثمانية مواضع من القرآن نسب تزيين الأعمال إِلى الشيطان، وفي عشرة مواضع جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول «زُيّن»، وفي موضعين إثنين نسب إِلى الله، وممّا سبق أن قلناه يتضح معنى هذه الحالات الثلاث.
2 ـ نهج البلاغه، الكلام 206.
3 ـ الآلوسي، «تفسير روح المعاني»، ج 7، ص 218.
وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ لَئِنْ جَآءَتْهُم ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَـتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ(109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)
قيل في نزول هذه الآية: إِنّ قريش قالت: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه إِثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات كي نصدقك، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، وابعث لنا بعض موتانا، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك، أو إِئتنا بالله والملائكة قبيلا!! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «فإن فعلت بعض ما تقولون، أتصدقونني؟» قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا.
فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الله تعالى أن يجعل الصفا ذهباً، فجاء جبرئيل(عليه السلام)
فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولكن إِنّ لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى الآيتين.
وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد، وردّ الشرك وعبادة الأصنام، ومع ذلك فإِنّ فريقاً من المشركين المعاندين المتعصبين لم يرضخوا للحق، وراحوا يعترضون وينتقدون، من ذلك أنّهم أخذوا يطلبون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)القيام بخوارق عجيبة وغريبة يستحيل بعضها أساساً (مثل طلب رؤية الله)، زاعمين كذباً أنّ هدفهم من رؤية تلك المعجزات هو الإِيمان، في الآية الأُولى يقول القرآن: (اقسموا بالله جهد إِيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)(1).
وفي الردّ عليهم يشير القرآن إِلى حقيقتين: يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أوّلا أن يقول لهم: (قل إِنّما الآيات عند الله)، أي أن تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم، بل إِنّها بيد الله وبأمره.
ثمّ يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثروا بإِيمان المشركين فيقول لهم: (وما يشعركم أنّها إِذا جاءت لا يؤمنون)(2) مؤكداً بذلك أنّ هؤلاء المشركين كاذبون في قسمهم.
كما أنّ مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكّد حقيقة
1 ـ «الجهد» بمعنى السعي وبذل الطاقة، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.
2 ـ المفسّرون غير متفقين على «ما»، أهي إستفهامية أم نافية؟ وكذلك فيما يتعلق بتركيب الجملة، بعضهم يقول إِنّ «ما» إستفهامية إستنكارية، ولو كانت كذلك لكان معنى الآية: أنّى لكم أن تعلموا إنّهم لا يؤمنون إن رأوا معجزة، أي إِنّه قد يؤمنون، وهذا خلاف ما تريده الآية، لذلك إعتبر بعضهم «ما» نافية، وهو الأقرب إِلى الذهن، فيكون معنى الآية: أنتم لا تعلمون إِنّهم حتى إذا تحققت لهم المعجزات لا يؤمنون، وعلى ذلك يكون فاعل «يشعر» مقدر بمعنى «شيء» وللفعل «يشعر» مفعولان «كم» و(إنها ...) (تأمل بدقّة).
أنّهم لم يكونوا يبحثون عن الحق، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.
الآية التّالية تبيّن سبب عنادهم وتعصبهم، فتقول: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة) أي أنّهم بإِصرارهم على الإِنحراف والسير في طريق ملتو وتعصبهم الناشيء عن الجهل ورفض التسليم للحق، أضاعوا قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإِدراك السليم، فراحوا يعيشون في متاهات الضلال والحيرة.
هنا أيضاً نسب هذا الفعل إِلى الله كما سبق من قبل، وهو في الواقع نتيجة أعمالهم وسوء فعالهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه علّة العلل ومبدأ عالم الوجود، وكل خصيصة في أي شيء إِنّما هي بإِرادته، وبعبارة أُخرى: إِنّ الله جعل من النتائج الحتمية للعناد والتعصب الأعمى والإِنحراف أن يكون لها مثل هذا الأثر، وهو إِنحراف الإِنسان شيئاً فشيئاً في هذا الطريق، فلا يعود يدرك الأُمور إِدراكاً سليماً.
ثمّ تشير الآية في الخاتمة إِلى أنّ الله، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي يشتد ضلالهم وتزداد حريتهم: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون)(1).
نسأل الله أن يجنبنا الإِبتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا السيئة، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش عليها.
* * *
1 ـ «يعمهون» من «عمه» بمعنى الحيرة والشك.
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111)
هذه الآية تتبع سابقاتها في تعقيب الحقيقة نفسها، وهدف هذه الآيات هو بيان كذب أُولئك الذين طلبوا تحقيق معجزات عجيبة وغريبة يستحيل تحقق بعضها كما مرّ (مثل رؤية الله جهرة).
فهم يظنون أنّهم بطلبهم تلك المعجزات العجيبة سوف يزعزعون أفكار المؤمنين ويزلزلون عقائد الباحثين عن الحق ويشغلونهم عن ذلك.
فيصرّح القرآن في الآية المذكورة قائلا: (ولو أنّنا نزلنا إِليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا)(1).
1 ـ (حشرنا عليهم كل شيء) تعني: حققنا لهم كل طلباتهم، فالحشر بمعنى الجمع، وقُبُلا بمعنى أمامهم وقبالتهم، وقد تكون «قُبُل» جمع «قبيل» بمعنى تجميع الملائكة والأموات أمامهم جماعات.
ثمّ يؤكّد ذلك أنّهم لا يمكن أن يؤمنوا إِلاّ في حالة واحدة وهي أن يجبرهم الله بإِرادته على الإِيمان: (إِلاّ أن يشاء الله) إِلاّ أنّ إِيماناً كهذا لا ينفع في تربيتهم ولا يؤثر في تكاملهم وفي النهاية يقول: (ولكنّ أكثرهم يجهلون).
هناك كلام مختلف بين المفسّرين عمّن يعود إِليهم الضمير «هم» في هذه العبارة، فقد يعود إِلى المؤمنين الذين أصروا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق للمشركين طلباتهم ويأتيهم بكل معجزة يريدونها.
وذلك لأنّ معظم هؤلاء المؤمنين كانوا يجهلون زيف الكفار في دعواهم، ولكنّ الله كان عالماً بأنّهم كاذبون، ولذلك لم يجبهم إِلى طلباتهم، إِلاّ أنّ دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تخلو ـ طبعاً ـ من معجزة، فقد حقق الله في مواضع خاصّة معجزات مختلفة على يده.
والإِحتمال الآخر هو أنّ الضمير «هم» يعود إِلى الكفار أصحاب الطلبات أنفسهم، أي أنّ أكثرهم يجهل قدرة الله على تحقيق كل أمر خارق للعادة، ولعلهم يعتبرون قدرته محدودة لذلك كانوا يصفون معاجز الرّسول بالسحر، يقول سبحانه: (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلّوا فيه يعرجون لقالوا إِنّما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)(1) فهم قوم معاندون وجاهلون وينبغي أن لا يهتم أحد بكلامهم.
* * *
1 ـ الحجر، 14 و15.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَـطِينَ الاِْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ(113)
تشير هذه الآية إِلى أنّ أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين أشارت إِليهم الآيات السابقة، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إِنّ الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإِنس والجن: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن)، لا عمل لهم سوى الكلام المنمق الخادع يستغفل به بعضهم بعضاً، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض: (يوحي بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً).
ولكن: لو أراد الله لمنع هؤلاء بالإِكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: (ولو شاء ربّك ما فعلوه).
بيد أنّ الله لم يشأ ذلك، لأنّه أراد أن يكون الناس أحراراً، وليكون هناك مجال لإِختبارهم وتكاملهم وتربيتهم، إِنّ سلب الحرية والإِكراه لا يأتلف مع هذه
الأغراض، ثمّ إنّ وجود أمثال هؤلاء الأعداء المعاندين المتعصبين لا يضر المؤمنين الصادقين، شيئاً، بل يؤدي بشكل غير مباشر إِلى تكامل الجماعة المؤمنة، لأنّ التكامل يسير عبر التضاد، ووجود عدو قوي له تأثير على تعبئة الطاقات البشرية وتقوية الإِرادة.
لذلك يأمر الله نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالا إِلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية: (فذرهم وما يفترون).
نسترعي الإِنتباه إِلى النقاط التّالية:
1 ـ في هذه الآية ينسب الله إِلى نفسه وجود شياطين الإِنس والجن في قبال الأنبياء بقوله: (وكذلك جعلنا ...) واختلف المفسّرون في معنى هذه العبارة، ولكن كما سبق أن شرحنا جميع أعمال الناس يمكن أن تنسب إِلى الله، لأنّ ما يملكه الناس انّما هو من الله، فقدرتهم منه، وكذلك حرية إِختيارهم وإِرادتهم، لذلك فان أمثال هذه التعبيرات لا يمكن أن تعني سلب حرية الإِنسان واختياره، ولا أنّ الله قد خلق بعض الناس ليتخذوا موقف العداء من الأنبياء، إِذ لو كان الأمر كذلك لما توجهت إِليهم أية مسؤولية بشأن عدائهم للأنبياء، لأنّ عملهم في هذه الحالة يعتبر تنفيذاً لرسالتهم، والأمر ليس كذلك ... بالطبع.
ولا يمكن إِنكار ما لوجود أمثال هؤلاء الأعداء ـ المختارين طبعاً ـ من أثر بنّاء غير مباشر في تكامل المؤمنين، وبتعبير آخر: يستطيع المؤمنون الصادقون أن ينتزعوا من وجود الأعداء أثراً إِيجابياً متخذين منه وسيلة لرفع مستواهم ووعيهم وإِعدادهم للمقاومة، لأنّ وجود العدو يحفز الإِنسان لاستجماع قواه.
2 ـ للشياطين (جمع شيطان) معنى واسع يشمل كل طاغ معاند مؤذ، لذلك يطلق القرآن على الوضيع الخبيث الطاغي من البشر اسم الشيطان، كما نلاحظ في هذه الآية حيث ذكر شياطين الإِنس وغير الإنس الذين لا نراهم، أمّا «إِبليس»
فهو اسم خاص للشيطان الذي وقف بوجه آدم(عليه السلام) وهو في الحقيقة رئيس جميع الشياطين، وعليه فالشيطان اسم جنس، وإِبليس اسم علم خاص(1).
3 ـ (زخرف القول) يعني الكلام المعسول الخادع الذي يعجبك ظاهره وهو في الباطن قبيح(2) و«الغرور» هو الغفلة في اليقظة.
4 ـ تعبير (يوحي بعضهم إِلى بعض) فيه إِشارة لطيفة إِلى أنّهم في أقوالهم وأفعالهم الشيطانية يرسمون خططاً غامضة يبتادلونها فيها بينهم سرّاً لئلا يعرف الناس شيئاً عن أعمالهم حتى ينفذوا خططهم كاملة، أنّ من معاني «الوحي» الهمس في الأذن.
الآية التّالية تشير إِلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول: أخيراً سيستمع الذين لا إِيمان لهم ـ أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة ـ إِلى تلك الأقوال وتميل قلوبهم إِليها: (ولتصغي إِليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)(3).
«لتصغى» من «الصغو» وهو الميل إِلى شيء، ولكنّه في الأغلب ميل ناشيء عن طريق السمع، فإِذا استمع أحد إِلى كلام مع الموافقة، فهو «الصغو» و«الإِصغاء».
ثمّ يقول: إِنّ نهاية هذا الميل هو الرضا التام ـ بالمناهج الشيطانية (وليرضوه).
وختام كل ذلك كان إِرتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة: (وليقترفوا ما هم مقترفون).
* * *
1 ـ انظر المجلد الأوّل بهذا الشأن.
2 ـ «زخرف» تعني أصلا الزينة والذهب الذي يستخدم للزينة، ثمّ أُطلقت على الكلام ذي الظاهر الجميل المزين.
3 ـ يختلف المفسّرون في إعراب هذه الآية، وفي ما عطفت عليه جملة «ولتصغي» أمّا الأقرب إِلى مفهوم الآية فهو أن الجملة معطوفة على «يوحى» ولامها «لام العاقبة» أي إِنّ عاقبة أمر الشياطين ستكون أنّهم يوحي بعضهم إِلى بعض كلاماً خادعاً فيميل إليه الذين لا إيمان لهم، وقد تكون معطوفة على محل «غروراً» وهي مفعول لأجله (إذ أنّ الإِنسان ينخدع أوّلا ثمّ يميل إِلى ما انخدع به) فتأمل بدقّة.
أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـبَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)
هذه الآية في الواقع هي نتيجة الآيات السابقة، إِذ تقول: بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكّد التوحيد: (أفغير الله ابتغي حكماً)(1)؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل إِحتياجات الإِنسان التربوية، وما يميز بين الحق والباطل والنّور والظلمة، والكفر والإِيمان: (وهو الذي أنزل إِليكم الكتاب مفصلا).
![]() |
![]() |
![]() |