وبناءاً على ذلك، فلا الفريق الأوّل مجبور على السير في هذا الطريق، ولا الفريق الثاني في أعمالهم، وفي الواقع أنّ الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم بأنفسهم واختاروه.

>2 ـ المقصود من «الصّدر» هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيراً، والمقصود من «الشرح» هو بسط الروح وإِرتفاع الفكر واتسّاع أُفق العقل البشري، لأنّ تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية، ممّا لا يقدر عليه إِلاّ ذوو الأرواح العالية والافكار السامية.

3 ـ «الحرج» بمعنى الضيق الشديد، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي الإِيمان، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة، ولا يتنازلون في حياتهم عن شيء.

[459]

4 ـ معجزة قرآنية علمية:

إِنّ تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إِلى السماء، جاء لأنّ الصعود إِلى السماء صعب جدّاً، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.

إِنّنا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه، فإِذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إِلى الأمر الفلاني صعب نقول: أن تصل إِلى السماء أقرب إِليك من ذلك.

بالطّبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور، ولكن على الرغم من تحقق ذلك اليوم، فهو ما يزال صعباً، وكثيراً ما يصادف رواد الفضاء المشاكل في طيرانهم.

ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق، وهو أنّه ثبت اليوم علمياً أنّ الهواء المجاور للارض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإِنسان، ولكنّنا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إِنّنا إِذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع الأوكسجين)، وإِذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا واصبنا بالإِغماء، إِن ذكر هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.

5 ـ ما هو شرح الصدر؟

في هذه الآية يعتبر «شرح الصدر» من نعم الله الكبرى و«ضيق الصدر» من عقاب الله، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)(1)ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر بحيث إِنّهم قادرون على إِستيعاب كل حقيقة مهما كبرت، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إِليها أية حقيقة، فأُفق


1 ـ الإِنشراح، 1.

[460]

رؤيتهم الفكرية محدود جدّاً ومقتصر على الحياة اليومية، فلو تهيأ لهم الأكل والنوم فكل شيء على ما يرام، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل شيء.

عند ما نزلت الآية المذكورة أعلاه، سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى شرح الصدر، فقال: «نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح».

فسألوه: ألذلك علامة يعرف بها؟

قال: «نعم، الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإِستعداد للموت قبل نزول الموت»(1) بالإِيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.

الآية التّالية تؤكّد البحث السابق فتقول: إِنّ المدد الإِلهي الذي يشمل السالكين سبيل الله ويسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل الله، إِنّما هو سنة إِلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل (وهذا صراط ربّك مستقيماً).

كما يحتمل أن يكون «هذا» إِشارة إِلى الإِسلام أو القرآن، إِذ إِنّ الصراط المستقيم هو الطريق المستقيم المستوي.

وفي ختام الآية توكيد آخر: (قد فصلّنا الآيات لقوم يذكرون) أي لمن يملكون قلوباً واعية وآذاناً سامعة.

الآية الثّالثة تشير إِلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون الحق، إِحداهما: (لهم دار السّلام عند ربّهم)، والثّانية: (وهو وليّهم)، أي ناصرهم وحافظهم، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات: (بما كانوا بعملون).

فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أُمور الإِنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام، دار الأمن والأمان، حيث لا حرب ولا سفك دماء، ولا نزاع ولا خصام، ولا عنف ولا تنافس قاتل


1 ـ مجمع البيان، ج 4، ص 363.

[461]

ومميت، ولا تضارب مصالح، ولا كذب ولا إِفتراء، ولا إِتهام ولا حسد ولا حقد، ولا هم ولا غم، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟

ولكن الآية تقول أيضاً: إِنّ هذه النعم لا تأتي بمجرّد الكلام، بل هي تعطي لقاء العمل ... نعم العمل!

* * *

[462]

الآيتان

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَـمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الاِْنسِ وَقَالَ أَوْلَيَآؤُهُم مِّنَ الاِْنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَكُمْ خَـلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـلِمِينَ بَعْضَاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)

التّفسير

تعود هاتان الآيتان إِلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجهاً لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه، ولا ينالون سوى التحسر والحزن، إنّها تحذيرات للإِنسان كيلا ينظر فقط إِلى أيّامه المعدودات على الأرض، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.

تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإِنس، ثمّ يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيراً من الناس: (ويوم يحشرهم جميعاً يا

[463]

معشر الجن قد استكثرتم من الإِنس)(1).

«الجن» هنا هم الشياطين، لأن كلمة الجن ـ كما سبق أن قلنا ـ تشمل كل كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين، إِبليس إنّه (كان من الجن).

الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة (إنّ الشياطين ليوحون إِلى أوليائهم)، وكذلك الآية التّالية التي تحدثت عن سيطرة بعض الظالمين على الآخرين، قد تكون إِشارة إِلى هذا الموضوع.

ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون: ربّنا، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا: (وقال أولياؤهم من الإِنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا).

أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا و كنّا نتبعهم مستسلمين، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشيء ولا ملتفتين إِلى سرعة زوالها، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور جميلة جذابة.

هنا تختلف آراء المفسّريين بشأن المقصود من كلمة «أجل»، هل هي نهاية عمر الإِنسان، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أنّ المقصود نهاية العمر لأنّ «الأجل» كثيراً ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.

غير أنّ الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعاً: (قال النّار مثواكم خالدين فيها إِلاّ ما شاء الله).

إِنّ الجملة الإِستثنائية (إِلاّ ما شاء الله) إِمّا أن تكون إِشارة إِلى أن خلودهم في العذاب والعقاب، و في هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير


1 ـ «يوم» ظرف متعلق بجملة «يقول» المحذوفة فيكون أصل الجملة: (يوم يحشرهم جميعاً يقول).

[464]

الحكم، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك، وإن أبقاه خالداً لجمع منهم.

وإمّا أن تكون إِشارة إِلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب، أو الجديرون بنيل العفو الإِلهي، فيجب إِستثناؤهم من الخلود في العذاب.

وفي الختام تقول الآية: (إِنّ ربك حكيم عليم)، فعقابه مبني على حساب دقيق، وكذلك عفوه، لأنّه عالم بمن يستحقهما.

الآية التّالية تشير إِلى سنّة إِلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضاً نحو التهلكة وسوء المصير والإِنحراف: (كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) وكما ذكرنا في البحوث الخاصّة بالمعاد فان يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة، وما يوجد هناك إِنعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.

جاء في تفسير علي بن إِبراهيم القمي عن الإِمام(عليه السلام) في معنى هذه الآية قال: «أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة».

ومن الجدير بالملاحظة أنّ جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية، ولا شك أنّ الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعاً، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإِنسان نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتّبعهم فيكون في العالم الآخر تحت ولايتهم أيضاً.

ثمّ إِنّ هذا التعبير، وكذلك تعبير (بما كانوا يكسبون) يشيران إِلى أنّ هذا المصير السيء إِنّما هو بسبب أعمالهم، وهذه سنة إِلهية وقانون الخليقة القاضي بأنّ السائرين في الظلام لابدّ أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.

* * *

[465]

الآيات

يَـمَعْشَرَ الجِنِّ وَالاِْنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـفِرِينَ(130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا غَـفِلُونَ(131) وَلِكُلٍّ دَرَجَـتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)

التّفسير

إِتمام الحجة:

ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إِثم، تبيّن هذه الآيات أن تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة، لذلك يقال لهم يوم القيامة: (يا معشر الجن والإِنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا).

«معشر» من العدد «عشرة»، وبما أن العشرة تعتبر عدداً كاملا، فالمعشر هي

[466]

الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف، أمّا بشأن الرسل الذين بعثوا إِلى الجن هل كانوا منهم، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أنّ الإِسلام والقرآن للجميع بما فيهم الجن، وأنّ نبي الإِسلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى الجميع، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إِليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوتهم إِلى الإِسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير سورة الجن في الجزء 29 من القرآن الكريم).

ولكن ينبغي أن نعلم أنّ «منكم» لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه، لأنّنا عندما نقول: «نفر منكم ...» يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدّة طوائف.

ثمّ تقول الآية: (قالوا شهدنا على أنفسنا) لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان، بل إِنّ دلائل كل شيء تكون بادية للعيان، وما من أحد يستطيع أن يخفي شيئاً، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإِلهي قائلين: إِنّنا نشهد ضد أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.

نعم ... لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله، وكان يميزون الخطأ من الصواب، إِلاّ أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم: (وغرتهم الحياة الدنيا).

هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط، ذلك الحبّ الذي كبل الإِنسان بقيود الأسر ودفعه إِلى إِرتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإِجحاف والأنانية والطغيان.

مرّة أُخرى يؤكّد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إِلى جانب منكري الله: (وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا

[467]

كافرين).

الآية التّالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة، وهي: أنّ الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إِذا كانوا غافلين، إِلاّ بعد أن يرسل إِليهم الرسل لينبهوهم إِلى قبيح أعمالهم، ويحذروهم من مغبة أفعالهم: (ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون).

قد تعني «بظلم» أنّ الله لا يعاقب أحداً بسبب ظلمه وهو غافل عنه، وقبل أن يرسل الرسل، وقد تكون بمعنى أنّ الله لا يظلم أحداً بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلماً، والله أرفع من أن يظلم أحداً(1).

وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أنّ لكل من هؤلاء ـ الأخيار والأشرار، المطيعين والعصاة، طالبي العدالة والظالمين ـ درجات ومراتب يوم القيامة تبعاً لأعمالهم، وإِن ربك لا يغفل عن أعمالهم، بل يعلمها جميعاً، ويجزي كلا بقدر ما يستحق: (ولكل درجات ممّا عملوا وما ربّك بغافل عمّا يعملون).

هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع «الدّرجات» و«الدّركات» التي يستحقها الإِنسان إِنّما هي وليدة أعماله، لا غير.

* * *


1 ـ في الحالة الأُولى فاعل «ظلم» هم الكافرون، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.

[468]

الآيات

وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَهِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْم ءَاخَرِينَ(133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاََت وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(134) قُلْ يَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(135)

التّفسير

الآية الأُولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرّت بشأن عدم ظلم الله تعالى، وتؤكّد أنّ الله لا حاجة له بشيء وهو عطوف ورحيم، وعليه لا دافع له على أن يظلم أحداً أبداً، لأن من يظلم لابدّ أن يكون محتاجاً، أو أن يكون قاسي القلب فظاً: (وربّك الغني ذو الرحمة) كما أنّه لا حاجة له بطاعة البشر، ولا يخشى من ذنوبهم، بل إِنّه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة: (إِن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين).

بناءاً على ذلك فهو غني لا حاجة به إِلى شيء، ورحيم، وقادر على كل شيء، فلا يمكن إِذن أن نتصوره ظالماً.

[469]

وإِذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتّضح لنا أنّ ما وعده بشأن يوم القيامة والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أي تخلف: (إِنّ ما توعدون لآت).

كما أنّكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته العادلة:(وما أنتم بمعجزين)(1).

ثمّ يؤمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يهددهم: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إِنّي عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إِنّه لا يفلح الظالمون).

هنا أيضاً نلاحظ أنّ كلمة «الكفر» استعيض عنها بكلمة «ظلم»، وهذا يعني أنّ الكفر وإِنكار الله نوع من الظلم الصريح، فهو ظلم بحق النفس، وظلم بحق المجتمع، ولما كان الظلم يناقض العدالة العامّة في عالم الوجود، فهو محكوم بالإِخفاق والهزيمة.

* * *


1 ـ «معجزين» من «أعجز» أي جعله عاجزاً، فالآية تقول: إنّكم لا تستطيعون أن تجعلوا الله عاجزاً عن بعث الناس وتحقيق العدالة، وبعبارة أُخرى: أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة الله.

[470]

الآية

وَجَعَلُواللهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاَْنْعَـمِ نَصِيباً فَقَالُوا هَـذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(136)

التّفسير

لإِقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الاذهان يعود القرآن إِلى ذكر العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين، ويثبت في بيان واضح أنّها خرافية ولا أساس لها، فقد كان كفّار مكّة وسائر المشركين يخصصون لله سهماً من مزارعهم وأنعامهم، كما كانوا يخصصون سهماً منها لأصنامهم أيضاً، قائلين: هذا القسم يخص الله، وهذا القسم يخص شركاءنا أي الأصنام: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا).

على الرغم من أنّ الآية تشير إِلى نصيب الله فقط، ولكن العبارات التّالية تدل على أنّهم كانوا يخصصون نصيباً للأصنام أيضاً، جاء في بعض الرّوايات: أنّهم كانوا يصرفون ما يخصصونه لله على الأطفال والضيوف، والنصيب المخصص للأصنام من الزرع والأنعام كانوا يصرفونه على خدم الأصنام والقائمين على

[471]

معابدها والأضاحي وعلى أنفسهم أيضاً(1).

سبب اعتبارهم الأصنام شركاءهم يعود إِلى كونهم يرونها شريكة لهم في أموالهم وحياتهم.

وتعبير (ممّا ذرأ) أي ممّا خلق، يشير إِلى بطلان مزاعمهم، إِذ إِنّ كل أموالهم وما يملكون هو ممّا خلق الله فكيف يجعلون نصيباً منه لله ونصيباً منه للأصنام؟!

ثمّ تشير الآية إِلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأنّ ما خصصوه لشركائهم لا يصل إِلى الله، ولكن ما خصصوه لله يصل إِلى شركائهم (فما كان لشركائهم فلا يصل إِلى الله وما كان لله فهو يصل إِلى شركائهم).

اختلف المفسّرون بشأن المقصود من هذه الآية، ولكن آراءهم كلها تدور حول حقيقة واحدة، هي أنّه إِذا أصاب نصيب الله ضرر على أثر حادثة قالوا: هذا لا أهمية له لأنّ الله لا حاجة به إِليه، ولكن إِذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم عوضوا عنه من نصيب الله، قائلين: إِنّ الأصنام أشد حاجة إِليه.

كما أنّهم إِذا نفذ الماء المار بمزرعة الله إِلى مزرعة الأصنام قالوا: لا مانع من ذلك، فالله ليس محتاجاً، ولكن إِذا حدث العكس منعوا الماء المتسرب إِلى مزرعة الله، قائلين: إِنّ الأصنام أحوج!

وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول: (ساء ما يحكمون).

إِنّ قبح عملهم ـ فضلا عن قبح عبادة الأصنام ـ يتبيّن في الأُمور التّالية.

1 ـ على الرغم من أنّ كل شيء هو من خلق الله، وملك له دون منازع، وأنّه هو الحاكم على كل الكائنات وهو مدبرها وحافظها فإِنّهم إِنّما كانوا يخصصون جانباً من ذلك كله لله، وكأنّهم هم المالكون الأصليون، وكأنّ حق التقسيم بيدهم، (إِنّ جملة (ممّا ذرأ) تشير إِلى هذا كما قلنا).

2 ـ لقد كانوا في هذا التقسيم يلزمون جانب الأصنام ويفضلون ما لها على ما


1 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 122.

[472]

لله، لذلك لم يكونوا يهتمون بما يصيب نصيب الله من ضرر، ولكنّهم كانوا يجبرون كل ضرر يصيب نصيب الأصنام من نصيب الله، فكان هذا تحيزاً إِلى جانب الأصنام ضد الله!

3 ـ يتبيّن من بعض الرّوايات أنّهم كانوا يهتمون إِهتماماً كبيراً بحصة الأصنام، فقد كان خدم الأصنام والقائمون على معابدها وكذلك المشركون يأكلون من حصة الاوثان، بينما كانوا يخصصون حصة الله للأطفال وللضيوف، وتدل القرائن على أنّ الأغنام السمينة والمحاصيل الزارعية الجيدة كانت من نصيب الأصنام، أي لمصلحة السدنة الخاصّة.

كل هذا دل على أنّهم في هذا التقسيم لم يكونوا يعترفون لله حتى بمنزلة مساوية لمنزلة الأصنام.

فأي حكم أقبح وأدعى إِلى العار من أن يعتبر إِنسان قطعة من الحجر أو الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود، هل هناك هبوط فكريّ أحط من هذا؟

* * *

[473]

الآية

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَُهمْ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137)

التّفسير

يشير القرآن في هذه الآية إِلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام القبيحة وجرائمهم الشائنة، ويذكر أنّه كما ظهر لهم أنّ تقسيمهم الحصص بين الله والأصنام عمل حسن بحيث إِنه اعتبروا هذا العمل القبيح والخرافي، بل والمضحك، عملا محموداً، كذلك زين الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من المشركين بحيث إِنّهم راحوا يعدون قتل الأولاد نوعاً من «الفخر» و«العبادة»: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم).

«الشّركاء» هنا هم الأصنام، فقد كانوا أحياناً يقدمون أبناءهم قرابين لها، أو كانوا ينذرون أنّهم إِذا وهبوا ابناً يذبحونه قرباناً لأصنامهم، كما جاء في تاريخ عبدة الأصنام القدامى وعليه فان نسبة «التزيين» للأصنام تعود إِلى أن شدة تعلقهم بأصنامهم وحبهم لها كان يحدو بهم إِلى إِرتكاب هذه الجريمة النكراء، وإِستناداً إِلى هذا التّفسير، فإِنّ قتل الأولاد هذا لا علاقة له بوأد البنات أو قتل

[474]

الأولاد خشية الإِملاق.

يحتمل أيضاً أن يكون المقصود بتزيين الأصنام هذه الجريمة، هو أن القائمين على أمر الأصنام والمعابد هم الذين كانوا يحرضونهم على هذا العمل ويزينونه لهم، باعتبارهم الألسنة الداعية باسم الأصنام، فقد جاء في التّأريخ أنّ العرب كانوا إِذا عزموا على السفر أو الأعمال المهمّة، طلبوا الإِذن من «هبل» كبير أصنامهم، وذلك بأن يضربوا بالقداح، أي بأسهم الميسر، فقد كان هناك كيس معلق بجانب هبل فيه سهام كتب على مقابضها «افعل» أو «لا تفعل»، فكانوا يخلطون السهام ثمّ يسحبون واحداً منها، فما كتب عليه يكون هو الأمر الصادر من هبل، وبهذه الطريقة كانوا يتصورون أنّهم يكتشفون آراء أصنامهم، فلا يستبعد أنّهم في مسألة قتل أولادهم قرابين للأصنام كانوا يلجأون إِلى أولياء المعابد ليأتوهم بما تأمر به الأصنام.

هنالك أيضاً الإِحتمال القائل بأن وأد البنات ـ الذي كان سائداً، كما يقول التّأريخ بين قبائل بني تميم لرفع العار ـ كان أمراً صادراً عن الأصنام، فقد جاء في التّأريخ أنّ «النعمان بن المنذر» هاجم بعض العرب وأسر نساءهم وفيهن ابنة «قيس بن عاصم» ثمّ أقرّ الصلح بينهم وعادت كل امرأة إِلى عشيرتها، عدا ابنة قيس التي فضلت البقاء عند العدو لعلها تتزوج أحد شبانهم، فكان وقع هذا شديداً على قيس، فاقسم بالأصنام انّه إِذا رزق بابنة أُخرى فانه سوف يئدها حية، ثمّ لم يمض زمن طويل حتى أصبح هذا العمل الشائن سنّة بينهم، وباسم الدفاع عن العرض راحوا يرتكبون أفظع جريمة بقتلهم أولادهم الأبرياء(1).

وعليه، فإِنّ وأد البنات يمكن أن يكون مشمولا بمفهوم هذه الآية.

هنالك أيضاً إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية وان لم يتطرق إِليه المفسّرون،


1 ـ يتصور بعض أنّ كلمة «أولاد» في الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير، غير أنّ لهذه الكلمة معنى واسعاً يشمل الأبناء والبنات، وكما جاء في الآية (223) من سورة البقرة: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين).

[475]

وهو أنّ عرب الجاهلية كانوا على درجة من التقدير والإِحترام لأصنامهم بحيث إِنّهم كانوا يصرفون أموالهم الثمينة على تلك الأصنام وعلى خدامها المتنفذين الأثرياء، ويبقون هم في فقر مدقع إِلى الحد الذي كان يحملهم هذا الفقر والجوع على قتل بناتهم.

فهذا التعلق الشديد بالأصنام كان يزين لهم عملهم الشنيع ذاك.

ولكن التّفسير الأوّل، أي التضحية بأولادهم قرباناً للأصنام، أقرب إِلى نص الآية.

ثمّ يوضح القرآن أنّ نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أنّ الأصنام وخدامها ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك، وشككوهم في دين الله، وحرموهم من الوصول إِلى الدين الحق: (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم).

ومع ذلك كله، فإِنّ الله قادر على أن يوقفهم عند حدهم بالإِكراه، ولكن الإِكراه خلاف سنة الله، إِنّ الله يريد أن يكون عباده أحراراً لكي يمهد أمامهم طريق التربية والتكامل، وليس في الإِكراه تربية ولا تكامل: (ولو شاء الله ما فعلوه).

ومادام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها، بل الأدهى من ذلك أنّهم ينسبونها أحياناً إِلى الله، إِذن فاتركهم وإِتهاماتهم والتفت إِلى تربية القلوب المستعدة: (فذرهم وما يفترون).

* * *

[476]

الآيتان

وَقَالُوا هَـذِهِ أَنْعَـمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّيَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَـمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَـمٌ لاَّيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138) وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَـذِهِ الاَْنْعَـمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(139)

التّفسير

تشير هذه الآيات إِلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الاوثان، والتي تدل على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم، وتكمل ما مر في الآيات السابقة.

تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من زرع وأنعام، وتبيّن أنّهم كانوا يرون أنّها محرمة إِلاّ على طائفة معينة: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إِلاّ من نشاء بزعمهم).

ومرادهم المتولّون أُمور الأصنام والمعابد، والمشركون كانوا يذهبون إِلى أنّ لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.

[477]

يتّضح من هذا أنّ القسم الأوّل من الآية يشير إِلى كيفية تصرفهم فيما يخصصونه للأصنام من الزرع والأنعام.

«الحجر» هو المنع، ولعلها مأخوذة كما يقول الراغب الأصفهاني في «المفردات» من الحجر، وهو أنّ يبنى حول المكان بالحجارة ليمنع عما وراءه، وحجر إِسماعيل سمي بذلك لأنّه مفصول عن سائر أقسام المسجد الحرام بجدار من حجر، وعلى هذا الاعتبار يطلق على «العقل» اسم «الحجر»، أحياناً، لكونه يمنع المرء من إِرتكاب الأعمال القبيحة، وإِذا ما وضع أحد تحت رعاية أحد وحمايته قيل: إِنّه في حجره، والمحجور هو الممنوع من التصرف في ماله(1).

ثمّ تشير الآية إِلى واحدة أُخرى من خرافاتهم تقضى بمنع ركوب بعض الدواب: (وأنعام حرمت ظهورها).

الظاهر أنّها هي الحيوانات التي مرّ ذكرها في تفسير الآية (103) من سورة المائدة، وهي «السائبة» و «البحيرة» و«الحام» (انظر التفسير المذكور لمزيد من التوضيح).

ثمّ تشير إلى القسم الثّالث من الأحكام الباطلة فتقول: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها).

ولعلها إِشارة إِلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط عند ذبحها، أو هي المطايا التي كانوا يحرمون ركوبها للذهاب إِلى الحج، كما جاء ذلك في تفسير «مجمع البيان» و«التّفسير الكبير» و«المنار» و«القرطبي» نقلا عن بعض المفسّرين، وفي كلتا الحالتين كان الحكم خرافياً لا أساس له.

والأعجب من ذلك أنّهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة، بل راحوا ينسبون إِلى الله كل ما يخطر لهم من كذب: (إِفتراء عليه).

وفي ختام الآية، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة، تقول إِنّ الله: (سيجزيهم


1 ـ «حجر» في هذه الآية وصفية، بمعنى محجور، ويستوي فيها المذكر والمؤنث.

[478]

بما كانوا يفترون).

نعم، إِذا أراد الإِنسان ـ بفكره الناقص القاصر ـ أن يضع القوانين والأحكام، فلا شك أنّ كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم، فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم القبيحة، وهذا هو سبب قولنا إِنّ الله وحده هو الذي يسنّ القوانين لأنّه يعلم كل شيء ويعرف دقائق الأُمور، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء.

الآية التّالية تشير إِلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات، يقضي بأنّ حمل هذه الأنعام يختص بالذكور، وهو حرام على الزوجات، أمّا إِذا خرج ما في بطونها ميتاً، فكلهم شركاء فيه: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإِن يكن ميتة فهم فيه شركاء).

ولابدّ من الإِشارة إِلى أنّ (هذه الأنعام) هي الحيوانات التي ذكرناها من قبل.

يرى بعض المفسّرين أنّ عبارة (ما في بطون هذه الأنعام) تشمل لبن هذه الأنعام، ولكن عبارة (وإِن يكن ميتة) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إِذا ولد حيّاً فهو للذكور، وإِنّ ولد ميتاً ـ وهو ما لم يكن مرغوباً عندهم ـ فهم جميعاً شركاء فيه بالتساوي.

هذا الحكم لا يقوم ـ أوّلا ـ على أي دليل، وهو ـ ثانياً ـ قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسداً ومضراً، ثمّ هو ـ ثالثاً ـ نوع من التمييز بين الرجل والمرأة، بجعل الطيب للرجال فقط، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط.

ينهي القرآن هذا الحكم الجاهلي، ويقرر أنّ الله سوف يعاقبهم على هذه الأوصاف، (سيجزيهم وصفهم).

«الوصف» هنا يشير إِلى ما كانوا ينسبونه إِلى الله، كأنّ ينسبون إِليه تحريم

[479]

هذه اللحوم بالرغم من أنّ المقصود هو الصفة أو الحالة التي تستولي على المذنب على أثر تكرار، الإِثم وتجعله مستحقاً للعقاب، وختاماً تقول: (إِنّه حكيم عليم).

فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم وإِتهاماتهم الكاذبة، كما أنّه يعاقبهم وفق حساب وحكمة.

* * *

[480]

الآية

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَـدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْم وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَآءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(140)

التّفسير

تعقيباً على الآيات السابقة التي تحدثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد القبيحة في عصر الجاهلية الشائن، كقتل الأبناء قرباناً للأصنام، ووأد البنات خشية العار، وتحريم بعض نعم الله الحلال، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال بشدة، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضح حالهم.