![]() |
![]() |
![]() |
* * *
1 ـ يلاحظ أنّ تركيب عبارة الآية يقتضي أن تأتي جملة «أخاف» بعد جملة «إن عصيت ربى» لأنها جواب الشرط، غير أنّ تقديمها يفيد التأكيد على عظم إحساس رسول الله بالمسؤولية أمام أوامر الله تعالى.
وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْر فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فُوقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)
قلنا إِنّ هدف هذه السّورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك.
فالقرآن يتساءل أوّلا: لماذا تتوجهون إِلى غير الله، وتلجأون إِلى معبودات تصطنعونها لحل مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير الله، وإِذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إِلاّ بقدرة الله، لأنّه هو القادر القوي: (وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إِلاّ هو وإن يمسسك الله بخير فهو على كل شيء قدير)(1).
1 ـ «الضر» هو كل نقيصة يتعرض لها الانسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون، وإمّا في أُمور أُخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.
في الواقع إنّ سبب الإِتجاه إِلى غير الله إمّا لتصورهم أنّ ما يتجهون إليه مصدر الخيرات، وإمّا لإِعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحل لهم مشاكلهم، والخضوع إِلى حد العبادة لذوي السلطان والمال والقوة ينشأ من أحد هذين الدافعين، هذه الآية تبيّن أنّ إِرادة الله حاكمة على كل شيء، فإِذا منع عن أحد نعمة، أو منح أحداً نعمة، فما من قدرة في العالم تستطيع أن تغير ذلك، فلماذا إِذن يطأطئون رؤوسهم خضوعاً لغيره؟
إِنّ استعمال «يمسسك» في الخير والشر، وهي من «مسّ»، تشير إِلى أنّ الخير والشر ـ مهما قلّ ـ لا يكون إِلاّ بإِرادته وقدرته.
ثمّ إِنّ الآية المذكورة تدحض فكرة «الثنويين» القائلين بمبدأي «الخير» و«الشر» وعبادتهما، وتقول إِنّ الإثنين كليهما من جانب الله، ولكننا سبق أن قلنا أن ليس ثمّة شيء اسمه «الشر المطلق».
وعليه فعندما ينسب الشر إِلى الله فإِنّما يقصد به على الظاهر «سلب النعمة» وهو بحدّ ذاته «خير»، فهو إمّا أن يكون للإِيقاظ والتربية والتعليم وكبح حالات الغرور والطغيان والذاتية، أو لمصالح أُخرى.
وفي الآية التي تليها إِكمال للبحث، فيقول: (وهو القاهر فوق عباده).
«القاهر» و«الغالب» وإن كانا بمعنى واحد، إِلاّ أنّهما من جذرين مختلفين، «القهر» يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إِبداء أية مقاومة، وفي كلمة «الغلبة» لا يوجد هذا المعنى، وقد تحصل بعد المقاومة، وبعبارة أُخرى: القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقاً كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفؤها فوراً.
يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر» تستعمل حيث يكون المقهور كائناً عاقلا،
ولكن «الغلبة» أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضاً(1).
وعليه إِذا كانت الآية السابقة تشير إِلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأُخرى وأصحاب القوّة، فذلك لا يعني أنّه مضطر إِلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها، بل يعني أنّ قدرته قاهرة، وقد جاء تعبير (فوق عباده) لتأكيد هذا المعنى.
وعلى هذا، كيف يمكن لإِنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إِلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة، وما يملكونه من قوّة زهيدة إِنّما مصدرها الله أيضاً.
ولإِزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر، يقول القرآن: (وهو الحكيم الخبير) أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة، لأنه خبير وعالم ولا يخطىء في استعمال قدرته أبداً.
ونقرأ في حالات «فرعون» أنّه عندما هدد بقتل بني إِسرائيل، قال: (وإنّا فوقهم قاهرون)(2) أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرة ـ وإن تكن ضعيفة ـ وسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين، إِلاّ أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته.
ومن نافلة القول أنّ تعبير (فوق عباده) هو التفوق في المقام لا في المكان، إِذ ليس لله مكان محدد.
ومن العجيب جداً أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه، على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعون ـ مع كونه
1 ـ تفسير «الميزان»، ج 7، ص 34.
2 ـ الأعراف، 127.
بشراً ذا جسم ـ يستعمل الكلمة نفسها لإِظهار تفوقه السلطوي، لاتفوقه المكاني (تأمل بدقّة).
* * *
قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـدَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـذَا الْقُرْءَآنُ لاُِنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَا تُشْرِكُونَ(19) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْرِفُونَهُ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُو أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يَؤْمِنُونَ(20)
يذكر جمع من المفسّرين أنّ عدداً من مشركي مكّة جاؤوا إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالوا: كيف تكون نبيّاً ولا نرى أحداً يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإِنجيل، فهات من يشهد لك على رسالتك، والآيتان المذكورتان تشيران إِلى هذه الواقعة.
في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة، ويطلبون مزيداً من الشواهد، يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن: (قل أي شيء أكبر شهادة).
أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين؟ (قل الله شهيد بيني وبينكم)وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟: (وأُوحي إِلي هذا القرآن)، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إِعجازه، فألفاظه معجزة، ومعانيه معجزة، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقاً إِلهياً للدعوة!!.
يستفاد من هذه العبارة أيضاً أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ يشير إِلى هدف نزول القرآن ويقول: (لأُنذركم به ومن بلغ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إِليهم ـ عبر تاريخ البشر، وعلى إمتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة ـ كلامي، وأحذرهم من عواقب عصيانهم.
يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإِنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالباً بين الإِنذار والبشرى، والسبب في ذلك يعود إِلى أنّ الكلام موجه هنا إِلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إِيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.
بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.
وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ مفهوم إِبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إِلى الأقوام الأُخرى فحسب، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إِلى تلك الأقوام.
جاء عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال: «بكل
لسان»(1).
كما أنّ من أُصول الفقه المسلم بها هو مبدأ «قبح العقاب بلا بيان» وهذا ما تفيده الآية المذكورة.
فقد ثبت في أُصول الفقه أنّه مادام الحكم لم يبلغ شخصاً، فإِنّه لا يتحمل مسؤولية تنفيذه (إلاّ إذا كان مقصراً في استيعاب الحكم)، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسؤوليتها، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة، بدون تقصير، فلا مسؤولية عليهم.
في تفسير (المنار) رواية عن أُبيّ بن كعب قال: أُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إِلى الإِسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم، ثمّ قرأ (وأُوحي إِليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)، ثمّ قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا(2).
ومن هذه الآية نفهم ـ أيضاً أنّ إِطلاق كلمة «شيء» على الله جائز، إِلاّ أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة، بل هو خالق ولا تحده حدود.
ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم: (أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أُخرى)ويأمره أن: (قل لا أشهد، قل إنّما هو إِله واحد وإنّني بريء ممّا تشركون).
ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على أثر كلامهم، فيتركون المجلس آملين، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) النظر في دعوته.
فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إِلى يأس، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل
1 ـ تفسير «البرهان»، وتفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 707 ذيل الآية.
2 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 341.
بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.
أمّا الذين قالوا: إِنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإِنّ الآية التي بعدها ترد عليهم وتقول: (والذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)أي أن معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب، بل إِنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضاً، وعليه، إِذا قال جمع من أهل مكّة: إِنّهم رجعوا إِلى أهل الكتاب فلم يجدوا عندهم علماً بالنّبي، فإِنّهم إمّا أن يكونوا قد كذبوا ولم يتحققوا من الأمر، أو أنّ أهل الكتاب قد أخفوا عنهم الحقائق ولم يطلعوهم عليها، وهذا الكتمان تشير إِليه آيات أُخرى من القرآن (لمزيد من التوضيح انظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (146) من سورة البقرة).
والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) أي أنّ الذين لا يؤمنون بالنّبي ـ مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة ـ هم فقط أُولئك الذين خسروا كل شيء في تجارة الحياة.
* * *
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْكَذَّبَ بِأَيَـتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)
تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل، تقول الآية الاُولى بصراحة وبصورة استفهام إِستنكاري: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته)؟
الجملة الأُولى ـ في الواقع ـ إِشارة إِلى إنكار التوحيد، والثّانية إِشارة إِلى إِنكار النّبوة ... حقّاً لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إِنساناً ضعيفاً مثله شريكاً لربّ لا تحدّه، حدود، وله الحكم على كل عالم الوجود، فهذا ظلم من جهات ثلاث: ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له، وظلم للشخص
نفسه بالحط من قدره إِلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والإِبتعاد عن روح الوحدة والتوحد.
فلا شك إِذن في أنّ أي ظالم ـ وعلى الأخص أُولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة ـ لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: (إِنّه لا يفلح الظالمون).
إِنّ لفظة «الشّرك» لم ترد صراحة في الآية، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللاّحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك، يتّضح أنّ القصد من كلمة «إفتراء» هو القول بوجود شريك لله سبحانه.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعاً بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الإِستفهام: «ومن أظلم ...» أو «فمن أظلم ...» وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإِنكار آيات الله، أي أنّها تدور حول التوحيد، فإنّ بعضاً آخر منها يدول حول أُمور أُخرى، مثل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(1).
وقول سبحانه (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)(2).
هنا يثار هذا السّؤال: كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إِلاّ على طائفة واحدة منها؟
نقول في الجواب: كل هذه الحالات تستقي ـ في الحقيقة ـ من منبع واحد، وهو الشرك والكفر والعناد. فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إِلى حيرة الناس وضلالهم، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.
الآية التّالية تشير إِلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على
1 ـ البقرة، 114.
2 ـ البقرة، 140.
مخلوقات ضعيفة كالأصنام، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة، فتقول الآية: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، أين هم; لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوّة؟
ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلماذا ـ إِذن ـ لا نرى لهم أثراً؟
فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جواباً، سوى أن يقسموا بالله إنّهم لم يكونوا مشركين، ظناً منهم أنّهم هناك أيضاً قادرون على إِخفاء الحقائق: (ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين).
حول معنى «فتنة» ثمّة كلام بين المفسّرين، منهم من قال: إِنّها بمعنى الإِعتذار، وقال آخرون: إِنّها بمعنى الجواب: وقالوا أيضاً: إِنّها الشرك(1).
هنالك احتمال آخر في تفسيرهذه الآية، وهو القول بأنّ «الفتنة» من «الإِفتتان» أي الوله بالشيء، فيكون المعنى أن إِفتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام، بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم، قد أدى إِلى أن يدركوا يوم القيامة ـ يوم يزاح الستر ـ خطأهم الكبير، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماماً.
يقول الراغب في «المفردات»: أن أصل «الفتن» إِدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته، فقد يكون هذا المعنى ممّا تفسر به الآية المذكورة، أي أنّهم عندما تحيط بهم شدّة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم، فينكرون أعمالهم طلباً للنجاة.
الآية الثّالثة، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول: (اُنظر كيف كذبوا على أنفسهم).
1 ـ إِذا أخذناها على إنّها بمعنى الإِعتذار والجواب، فلا حاجة فيهما للتقدير، أمّا إِذا أخذت بمعنى الشرك، فينبغي أن نقدر كلمة «نتيجة» أي أنّ نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إِنّهم لم يكونوا مشركين.
وتنهار المساند التي اختاروا الإِستناد عليها وجعلوها شريكة لله، وخابوا في مسعاهم (وضل عنهم ما كانوا يفترون).
* * *
لابدّ هنا من ملاحظة النقاط التّالية:
1 ـ لا شك أنّ المقصود بعبارة «انظر» هو النظر بعين العقل، لا بالعين الباصرة إذا لايمكن أن ترى مشاهد يوم القيامة رأي العين في هذه الدنيا.
2 ـ وقوله سبحانه (وكذبوا على أنفسهم) إمّا أن يعني أنّهم خدعوا أنفسهم في الدنيا وخرجوا عن طريق الحقّ، وإمّا أن يراد منه يوم القيامة حيث يقسمون على أنّهم لم يكونوا مشركين، والحقيقة أنّهم بهذا يكذبون على أنفسهم، فقد كانوا مشركين فعلا.
3 ـ يبقى سؤال آخر، وهو أنّ الآية المذكورة تفيد أنّ المشركين ينكرون شركهم يوم القيامة مع أنّ ظروف يوم القيامة لا يمكن أن تسمح لأحد أن يجانب الصدق وهو يرى تلك الحقائق الحسية، كما لو كان أحد يريد أن يغطي على الشمس في رابعة النهار، ليقول كذباً: إنّ الدنيا ظلام، ثمّ إن هناك آيات أُخرى تفيد بأنّهم يوم القيامة يعترفون صراحة بشركهم ولا يخفون أمراً: (ولا يكتمون الله حديثاً)(1).
يمكن أن نذكر لهذا السؤال جوابين:
أوّلا: ليوم القيامة مراحل، ففي المراحل الأُولى يظن المشركون أنّهم بالكذب يستطيعون التملص من عذاب الله الأليم، لذلك يرجعون إِلى عادتهم القديمة في التوسل بالكذب، ولكن في المراحل التّالية يدركون أن لا مهرب لهم أبداً،
1 ـ النساء، 42.
فيعترفون بأعمالهم.
يبدو أنّ الأستار يوم القيامة ترفع ـ بالتدريج ـ عن عين الإِنسان، وفي البداية ـ عندما لا يكون المشركون قد درسوا ملفات أعمالهم جيداً بعد ـ يركنون إِلى الكذب، ولكن في المراحل التّالية حيث ترتفع فيها الأستار أكثر ويرون كل شيء حاضراً، لا يجدون مندوحة عن الإِعتراف تماماً، مثل المجرمين الذين ينكرون كل شيء في بداية التحقيق، حتى معرفتهم بأصدقائهم ... ولكنّهم عندما يرون الأدلة المادية والمستندات الحيّة التي تفضح جريمتهم، يدركون أنّ الأمر من الوضوح بحيث لا يحتمل الإِنكار، فيعترفون ويدلون بإِفادة كاملة، وقد ورد هذا الجواب في حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)(1).
وثانياً: إِنّ الآية المذكورة تتحدث عمّن لا يرى نفسه مشركاً مثل المسيحيين الذين قالوا بالآلهة الثلاثة واعتقدوا أنّهم موحدون، أو مثل الذين يدّعون التوحيد، لكن أعمالهم ملوثة بالشرك، لأنّهم كانوا يعرضون عن تعاليم الأنبياء، ويعتمدون على غير الله وينكرون ولاية أولياء الله ... هؤلاء يقسمون يوم القيامة على أنّهم كانوا موحدين، ولكنّهم سرعان ما يدركون أنّهم في الباطن كانوا مشركين، هذا الجواب أيضاً قد ورد في عدد من الرّوايات نقلا عن الإِمام علي(عليه السلام) والإِمام الصادق(عليه السلام)(2).
وكلا الجوابين مقبولان.
* * *
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 708.
2 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1 ، ص 708.
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَـدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاْوَّلِينَ(25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(26)
في هذه الآية إِشارة إِلى الوضع النفسي لبعض المشركين، فهم لا يبدون أية مرونة تجاه سماع الحقائق، بل أكثر من ذلك ـ يناصبونها العداء، ويقذفونها بالتهم، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها، عن هؤلاء تقول الآية: (ومنهم من يستمع إِليك وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً)(1).
في الواقع كانت عقولهم وأفكارهم منغمسة في التعصب الجاهلي الأعمى، وفي المصالح المادية والأهواء، بحيث أصبحت وكأنّها واقعة تحت الأستار
1 ـ «أكنة» جمع «كنان» وهو كل ستار أو حاجز، و«الوقر» بمعنى ثقل السمع.
والحواجز، فلا هم يسمعون حقيقة من الحقائق، ولا هم يدركون الأُمور إِدراكاً صحيحاً.
سبق أن قلنا مراراً أنّ نسبة هذة الأُمور إِلى الله، إِنّما هو إِشارة إِلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل»، أي أنّ أثر الاستمرار في الإِنحراف والإِصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في إِتصاف نفس الإِنسان بهذه المؤثرات، وفي تحولها إِلى مثل المرآة المعوجة التي تعكس صور الأشياء معوجة منحرفة، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم، ولكنّهم يعتادون ذلك بالتدريج، وقد يصل بهم الأمر إِلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية، وبتعبير آخر: هذا واحد من أنواع العقاب الذي يناله المصّرون على العصيان ومعاداة الحقّ.
وهؤلاء وصلوا حدّاً تصفه الآية فتقول: (وإِن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)، بل الأكثر من ذلك أنّهم عندما يأتون إِليك، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول، ولا يأتون ـ على الأقل ـ بهيئة الباحث عن الحقّ الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها، بل يأتون بروح وفكر سلبيين، ولا هدف لهم سوى الجدل والإِعتراض: (حتى إِذا جاؤوك يجادلونك) أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحقّ، يبادرون إِلى إِتهامك بأنّ ما تقوله إِنّما هو خرافات اصطنعها أُناس غابرون: (يقول الذين كفروا إِن هذاأساطير الأولين).
الآية التّالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه من مختلف الأكاذيب، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (وهم ينهون عنه)، ويبتعدون عنه بأنفسهم: (وينأون عنه)(1)، دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحقّ1 ـ «ينأون» من «نأى» بمعنى إبتعد.
يكن صريعه، وأخيراً، وبحسب قانون الخلق الثابت، يظهر وجه الحقّ من وراء السحب، وينتصر بما له من قوّة، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإِخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم، ولكنّهم لا يدركون الحقيقة: (وإن يُهلكون إِلاّ أنفسهم ومايشعرون).
يتّضح ممّا قيل في تفسير هذه الآية أنّها تتابع الكلام على المشركين المعاندين وأعداء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء، والضمير «هم» يعود ـ بموجب قواعد الأدب واللغة ـ إِلى الذين تتناولهم الآية بالبحث، أي الكفار المتعصبين الذين لم يدخروا وسعاً في إِيذاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووضع العثرات في طريق الدعوة إِلى الإِسلام.
ولكن ـ لشديد الأسف ـ نرى بعض المفسّرين من أهل السنة يخالفون جميع قواعد اللغة العربية، فيقطعون الآية الثّانية من الآية الاُولى ويقولون: إِنّها نزلت في أبي طالب والد أمير المؤمنين علي(عليه السلام).
أنّهم يفسرون الآية هكذا: هناك فريق يدافعون عن رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) وهم يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأُخرى من القرآن، ممّا سنتناوله في موضعه، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص.
لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة، ومثل ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في «إِرشاد الساري» وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإِسلام، وهناك في المصادر الإِسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا.
ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة: ما السبب الذي حدا ببعضهم
إِلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الإِتهام الكبير إِليه؟!
كيف يكون هدفاً لمثل هذا الإِتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدرآن عن حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كل خطر؟!
هنا يرى المحققون المدققون أنّ التيار المناويء لأبي طالب تيار سياسي ينطلق من عداء «شجرة بني أُمية الخبيثة» لمكانة علي(عليه السلام).
ذلك لأنّ أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، بل إِنّنا نلاحظ على امتداد تاريخ الإِسلام أنّ كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) لم ينج من هذه الحملات اللئيمة، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الإِسلامية الكبرى علي(عليه السلام).
ونذكر هنا بإِيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع.
1 ـ كان أبو طالب يعلم، قبل بعثة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّ ابن أخيه سوف يصل إِلى مقام النبوة، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إِلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمّداً البالغ يومئذ الثّانية عشرة من العمر، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات، ثمّ عندما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية، استلف محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه، ثمّ التفت إِلى الجمع سائلاً: من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إِلى أبي طالب الذي قال له: هذا ابن أخي، فقال بحيرا: إِنّ لهذا الصبي شأناً، إِنّه النّبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله(1).
1 ـ ملخص ما ورد في سيرة ابن هشام، ج 1، ص 191، وسيرة الحلبي، ج 1، ص 131، وكتب أُخرى.
ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن أخيه أنّه سيكون نبي هذه الأُمّة.
وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب «الملل والنحل» وغيره من علماء السنة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين، فواجه الناس سنة جفاف شديد، فأمر أبو طالب أنّ يأتوه بابن أخيه محمّد، فأتوه به وهو رضيع في قماطه، فوقف تجاه الكعبة، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إِلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول: يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا، فلم يمض إِلاّ بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الاُفق وغطت سماء مكّة كلّها وهطل مطر غزير كادت معه مكّة أن تغرق.
ثمّ يقول الشهرستاني: هذه الواقعة، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكّد إِيمانه به، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
إِنّ حكاية إِقبال قريش على أبي طالب(رحمه الله) عند الجفاف، واستشفاع أبي طالب إِلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين، وقد أورد العلاّمة الاميني(قدس سره) صاحب كتاب «الغدير» هذه الحكاية وذكر أنّه نقلها من «شرح البخاري» و«المواهب اللدنية» و«الخصائص الكبرى» و«شرح بهجة المحافل» و «السيرة الحلبية» و«السيرة النبوية» و«طلبة الطالب»(1).
2 ـ إِضافة إِلى كتب التّأريخ المعروفة، فانّ بين أيدينا شعراً لأبي طالب جمع في «ديوان أبي طالب»، ومنه الأبيات التّالية:
1 ـ «الغدير»، ج 7، ص 346.
والله لن يصلوا إِليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ولقد دعوت وكنت ثمّ أميناً
ولقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البرية دينا
كما قال أيضاً:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً رسولا كموسى خط في أوّل الكتب
وإنّ عليه في العباد محبّة ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ(1)
يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن شهر آشوب في «متشابهات القرآن» أنّها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثمّ يقول: إِن هذه الأشعار لا تدع مجالا للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه.
3 ـ ثمّة أحاديث منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكّد شهادته بإِيمان عمه الوفي أبي طالب، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» فيقول: عندما توفي أبو طالب رثاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على قبره، قائلا: «وا أبتاه! وا أبا طالباه واحزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيراً، واجبتني كبيراً، وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد»(2).
وكثيراً ما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»(3).
4 ـ من المتفق عليه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات، وعليه فانّ ما أظهره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب
1 ـ هاتان القطعتان وردتا في «خزانة الأدب» و«وتاريخ ابن كثير» و«شرح ابن أبي الحديد» و«فتح الباري» و«بلوغ الارب» و«تاريخ أبي الفداء» و«السيرة النبوية» وغيرها نقلا عن «الغدير»، ج 8.
2 ـ «شيخ الأباطح» نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».
3 ـ الطبري، نقلا عن «أبو طالب مؤمن قريش».
تابعاً لمدرسة التوحيد، وإِلاّ فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين، ويبقى هو على حبّه العميق لأبي طالب؟
5 ـ في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام) أدلة وافرة على إِيمان أبي طالب وإِخلاصه، ولا يسع المجال هنا لذكرها، وهي أحاديث تستند إِلى الاستدلال المنطقي والعقلي، كالحديث المنقول عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام) الذي قال ـ بعد أن سئل عن إِيمان أبي طالب وأجاب الإِيجاب ـ: «إنّ هنا قوماً يزعمون أنّه كافر ... واعجبا كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقد نهاه الله أن تقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية) ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فأنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه»(1).
![]() |
![]() |
![]() |