أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.

ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأُمور إِن سكت عنها، فقد (عفا الله عنها والله غفور حليم).

[164]

يقول علي(عليه السلام): «إِنَّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها»(1).

سؤال:

قد يسأل سائل: إِذا كان إِفشاء هذه الأُمور يتعارض مع مصلحة الناس، فلماذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟

الجواب:

السبب هو ما قلناه من قبل، فالقائد إِذا لزم الصمت رغم الإِلحاح بالسؤال، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس، مثل صمت الطبيب إِزاء الحاح المريض في السؤال عن مرضه، فإن ذلك يثير شكوك المريض، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج، عندئذ لا يسع الطبيب إِلاّ أن يفشي له سرّ مرضه، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.

الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة، وتبيّن أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: (لقد سألها قوم من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين).

وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام، منهم من ذهب إِلى أن الأمر يخص تلامذة عيسى(عليه السلام) عندما طلبوا مائدة من السماء، فعندما تحقق لهم ما أرادوا عصوا، ويقول بعض: إِنّها حكاية مطالبة النّبي صالح(عليه السلام) بمعجزة، ولكن الظاهر أن هذه الإِحتمالات بعيدة عن الصواب، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه، لا عن «طلب» شيء، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.


1 ـ «مجمع البيان»، ذيل الآية المذكورة.

[165]

قد تكون تلك الأقوام من بني إِسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.

في تفسير قوله تعالى (وأصبحوا بها كافرين) إحتمالان:

الأوّل: أنّ المقصود بالكفر هو العصيان، كما سبقت الإِشارة إِليه.

والثّاني: هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف، وذلك لأن سماع الإِجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إِلى إِنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب، كأن يسمع مريض جواباً لا يروقه من طبيبه، فيؤدي ردّ الفعل به إِلى إِنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.

في ختام هذا البحث نجد لزاماً أن نكرر ما قلناه في بدايته، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمق في أُمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحياناً ـ بقاؤها في طي الكتمان.

* * *

[166]

الآيتان

مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَة وَلاَ سَآئِبَة وَلاَ وَصِيلَة وَلاَحَام وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(103)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنَزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(104)

التّفسير

في الآية الاُولى إِشارة إِلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها، كانوا أحياناً يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، لذلك يقول الله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولاحام).

[167]

بحوث

1 ـ «البحيرة» هي النّاقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى ـ وقيل ذكر ـ فيشقون أذُنها، وتترك طليقة ولا تذبح.

«البحيرة» من مادة «بحر» بمعنى الواسع العريض، ولهذا سمي البحر بحراً، وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقاً واسعاً عريضاً.

2 ـ «السائبة» هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة أبطن ـ فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد، ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما تشاء دون أن يعترضها أحد، وقد يحلبونها أحياناً لإِطعام الضيف، و«السائبة» من مادة «سيب» أي جريان الماء أو المشي بحرّية.

3 ـ «الوصيلة» هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن ـ وقيل أنّها التي تلد التوائم، من مادة «وصل» وكانوا يحرمون ذبحها.

4 ـ «الحام» واللفظة اسم فاعل من مادة «حمى»، ويطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح، فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه، قالوا: لقد حمى ظهره، فلا يحق لأحد ركوبه، ومن معاني «الحماية» المحافظة والحيلولة والمنع.

هناك احتمالات أُخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر، حتى نحو الحيوانات، وهو بهذا جدير بالتقدير والإِجلال، ولكنّه كان تكريماً لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك.

كما كان ـ فضلا عن ذلك ـ مضيعة للمال وإِتلافاً لنعم الله وتعطيلها عن

[168]

الإِستثمار النافع، ثمّ أنّ هذه الحيوانات، بسبب هذا الإِحترام والتكريم، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها.

ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة، فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة، ولهذا كله وقف الإِسلام بوجه هذه العادة!

إِضافة إِلى ذلك، يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله، أو بقسم منه إِلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام، ولذلك كان إِلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلفات الشرك.

والعجيب في الأمر، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إِذا ما ماتت موتاً طبيعياً (وكأنّهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحاً آخر(1).

ثمّ تقول الآية: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) قائلين أنّ هذه قوانين إِلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى: (وأكثرهم لا يعقلون).

الآية الثّانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: (وإِذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإِلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا).

في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلا قاطعاً على صحتها، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله: (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون).

أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إِليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان إِتباعكم لهم إِتباع جاهل لعالم، لكنكم تعلمون أنّهم، لا يعلمون أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفاً منكم، ومن هنا فإنّ تقليدكم إِيّاهم تقليد جاهل


1 ـ تفسير «نورالثقلين»، ج 1، ص 684.

[169]

لجاهل، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.

تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة «أكثر» يدل على أنّه كانت في ذلك المحيط الجاهلي المظلم فئة ـ وإِن قلت ـ على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين الإِحتقار والإِشمئزاز إِلى تلك الممارسات.

وثن اسمه «الأسلاف»:

من الأُمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإِشارة إِليها في القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإِجلالهم إِلى حدّ التقديس الأعمى وإِتباع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. وليس هذا مقصوراً على الجاهلية الاُولى، فهو موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة، ولعلّه أحد أسباب اشاعة الخرافات وانتقالها من جيل إِلى جيل، وكان «الموت» يضفي هالة من القدسية والإِحترام والإِجلال على الأسلاف.

لا شك أنّ روح الإِعتراف بالجميل ورعاية المبادىء الإِنسانية توجب علينا إِحترام الماضين من آبائنا وأجدادنا، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها تقليداً أعمى، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي، إِنّنا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة، ونحطم في الوقت نفسه عاداتهم غير الصحيحة، خاصّة وأن الأجيال الحديثة أوسع علماً وأعمق معرفة من الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة، وما من عقل رصين يجيز تقليد الماضين تقليداً أعمى.

ومن العجيب أنْ نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من التقديس الأعمى لعادات السلف، فيبلغ بهم التعصب القومي إِلى التمسك بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الاُولى.

[170]

تناقض بلا مبرّر:

جاء في تفسير «الميزان» و«الدر المنثور» عن عدد من الرواة منهم الحكيم الترمذي في «نوادر الأُصول» وعن غيره، عن أبي الأحوص عن أبيه، قال: أتيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في خَلِقان من الثياب، فقال لي: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أي المال؟» قلت: من كل المال، من الإِبل والغنم والخيل والرقيق، قال: «فإِذا أتاك الله، فلُيرَ عليك». أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع انك صاحب ثروة.

ثمّ قال: «تنتج ابلك وافية آذانها؟» قلت: نعم وهل تنتج الإِبل إِلاّ كذلك؟ قال: «فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم؟» قلت: نعم، قال: «فلا تفعل، إِن كل ما أتاك الله لك حل، ثمّ قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام»(1).

نفهم من هذه الرواية أنّهم كانوا يجمدون قسماً من أموالهم، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم، بل ويبخلون فيه، وهذا نوع من التناقض الذي لا مسوغ له.

* * *


1 ـ تفسير «الميزان»، ج 6، ص 172.

[171]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعمَلُونَ(105)

التّفسير

كلّ اُمرىء مسؤول عن عمله:

دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين، فأنذرهم القرآن بأن تقليداً كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن يتبادر إِلى أذهانهم السؤال: إِنّنا إِذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الأُمور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثمّ إِذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن: (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).

ثمّ يشير إِلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: (إِلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون).

[172]

ردّ على اعتراض:

أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية، فظن أنّ بين هذه الآية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهو من التشريعات الإِسلامية الصريحة المسلم بها ـ ضرب من التضاد أو التناقض، إِذ أن هذه الآية تقول (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).

هناك أحاديث وروايات تدل على أنّ هذا الموضوع أثار شبهة حتى في عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل): كنت في جمع من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)جالسين بحضرته، وكنت أحدثهم سناً، وكان الحديث يدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت: ألم يأت في القرآن (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم) (أي بهذه الآية لا يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإِذا بالحاضرين يجمعون على توبيخي وتقريعي قائلين: كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم، وعادوا إِلى بحثهم السابق.

وعند انفضاض المجلس التفتوا إِلي قائلين: إِنّك شاب حدث السن، قمت بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.

وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم، وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتّد كل منهم برأيه، فلتحذر يؤمئذ من أن يضرّك من ضل منهم (أي أنّ الآية تشير إِلى ذلك الزمان).

واليوم نجد الراكنين إِلى الدعة وطلاب الراحة، عندما يدور الحديث حول القيام بهاتين الفريضتين الإِلهيتين الكبيرتين ـ الأمر بالعروف ـ والنهي عن المنكر ـ يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها، مع أنّنا بقليل من الدقّة في النظر ندرك ألاّ تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية:

فأوّلا: تبيّن الآية أنّ كل امرىء يحاسب على إِنفراد، وأنّ ضلال الآخرين من

[173]

الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا، حتى وإِنّ كانوا قريبين قرب الأخ أو الأب أو الابن، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لا حظ بدقّة).

وثانياً: تشير هذه الآية إِلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أثر، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة، ففي أمثال هذه الحالات يشعر بعض المؤمنين بالألم، ويتساءلون عمّا ينبغي لهم أن يفعلوه، فتجيبهم الآية: لا تثريب عليكم، فقد أديتم واجبكم، إذ (لا يضرّكم من ضلّ إِذا اهتديتم).

نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه، وكذلك في بعض الأحاديث الأُخرى فقد سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال: «إِئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإِذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وهوى متبعاً واعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم»(1).

وهنالك روايات أُخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.

فخر الدين الرازي ـ حسب عادته ـ يذكر عدة أوجه في الإِجابة على السؤال المذكورة، ولكنّها تكاد تعود كلها إِلى الأمر الذي ذكرناه، ولعله ذكرها جميعاً لبيان كثرة عددها.

على كلّ حال، لا شك أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإِسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال، ولا تسقط إِلاّ عند اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.

* * *


1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 684.

[174]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَـدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَأَصَـبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى وَلاَنَكْتُمُ شَهَـدَةَ اللهِ إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الاَْثِمِينَ(106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَأَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاَْوْلَيَـنِ فَيُقْسِمَانِ باللهِ لَشَهَـدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَـدَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظَّـلِمِينَ(107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَـدَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَـنُ بَعْدَ أَيْمَـنِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ(108)

سبب النّزول

جاء في «مجمع البيان» وبعض التفاسير الأُخرى في سبب نزول هذه الآيات أنّ أحد المسلمين، ويدعى (ابن أبي مارية) ومعه اخوان مسيحيان من العرب

[175]

يدعيان (تميم)، (عدي) خرجوا من المدينة للتجارة، وفي الطريق مرض (ابن أبي مارية) المسلم، فكتب وصية أخفاها في متاعه، وعهد بمتاعه إلى رفيقيه ـ النصرانيين ـ في السفر، وطلب منهما أن يسلماه إلى أهله، ثمّ مات ففتح النصرانيان متاعه واستوليا على الثمين والنفيس فيه، وسلما الباقي إِلى الورثة، وعندما فتح الورثة متاعه لم يجدا فيه بعض ما كان ابن أبي مارية قد أخذه معه عند سفره وفجأة عثروا على الوصية، ووجدوا فيها ثبتاً بكل الأشياء المسروقة، ففاتحوا المسيحيين بالموضوع، فانكرا وقالا: لقد سلمناكم كل ما سلمه لنا، فشكوا الرجلين إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت هذه الآيات تبيّن حكم القضية.

غير أن سبب النّزول المذكور في «الكافي» يقول: إنّهما أنكرا أوّلا وجود متاع آخر، ووصل الأمر إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولما لم يكن هناك دليل ضدهما طلب منهما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا اليمين، وبرأهما، ولكن بعد أيّام قليلة ظهر بعض المتاع المسروق عند الرجلين فثبت كذبهما، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فانتظر حتى نزلت الآيات المذكورة، عندئذ أمر أولياء الميت بالقسم، وأخذ الأموال دفعها إِليهم.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكّدها الإِسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الإِجتماعية هذه الآيات تبيّن جانباً من التشريعات الخاصّة بذلك، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر للمؤمنين قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إِذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل).

المقصود بالعدل هنا العدالة، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها، ولكن يحتمل من معنى الآية أيضاً أنّ يكون المقصود من العدالة: الأمانة في الشؤون

[176]

المالية، إِلاّ إِذا ثبت بدلائل أُخرى ضرورة توفر شروط أُخرى في الشاهد.

و«منكم» تعني من المسلمين بازاء غير المسلمين، الذين تأتي الإِشارة إِليهم في العبارة التّالية من الآية.

لابدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية، أي أن هذين وصيان وشاهدان في الوقت نفسه، أمّا الإِحتمال القائل باختيار شخص ثالث كوصي بالإِضافة إلى الشاهدين هنا، فإنه خلاف ظاهر الآية ويخالف سبب نزولها، لأنّنا لاحظنا أنّ ابن أبي مارية لم يكن يرافقه في السفر غير اثنين اختارهما وصيين وشاهدين.

ثمّ تأمر الآية: إِذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّاً وشاهداً من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين: (أو آخران من غيركم إِنّ أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت).

وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أنّ اختيار الوصي والشاهد من غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين، فهو واضح، لأنّ الإِستعاضة تكون عندما لا تجد من المسلمين من توصيه، كما أنّ ذكر قيد السفر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى الرغم من أنّ (أو) تفيد «التخيير» عادة، إِلاّ أنّها هنا ـ وفي كثير من المواضع الأُخرى ـ تفيد «الترتيب»، أي اخترهما أوّلا من المسلمين، فإن لم تجد، فاخترهما من غير المسلمين.

وغني عن القول أنّ المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعاً، لأنّ الإِسلام لم يقم وزناً في أية مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقاً.

ثمّ تقرر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم بالله بعد الصّلاة، في حالة الشك والتردد: (تحبسونهما من بعد الصّلاة فيُقسمان بالله إِن ارتبتُم).

ويجب أنّ تكون شهادتهما بما مفاده: إِنّنا لسنا على استعداد أن نبيع الحقّ

[177]

بمنافع مادية، فنشهد بغير الحقّ حتى وإن كانت الشهادة ضد أقربائنا: (لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى) وإِننا لن نخفي أبداً الشهادة الإِلهية، وإِلاّ فسنكون من المذنبين: (ولا نكتم شهادة الله إِنّا إِذاً لمن الآثمين).

ولابدّ أن نلاحظ مايلي:

أوّلا: إِنّ هذه التفاصيل في أداء الشهادة إِنّما تكون عند الشك والتردد.

وثانياً: لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية، وإِنّما هو في الحقيقة وسيلة لإِحكام أمر حفظ الأموال في إِطار الإِتهام، وليس في هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف، لأنّ هذا يكون عند انتفاء الشك في الشاهدين، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل بدقّة).

ثالثاً: الصّلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى الله ويخشونه، أمّا بالنسبة للمسلمين فيقول بعض: إِنّها خاصّة بصلاة العصر، وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِشارة إِلى ذلك، إِلاّ أنّ ظاهر الآية هو الإِطلاق ويشمل الصلوات جميعها، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى جانبه الإِستحبابي، إِذ أنّ الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر، ثمّ ان وقت العصر كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين.

رابعاً: اختيار وقت الصّلاة للشهادة يعود إِلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصّلاة التي (تنهى عن الفحشاء والمنكر)(1) وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إِلى الحقّ، بل قال بعضهم: إنّ من الأفضل أن تكون الشهادة في «مكّة» عند الكعبة وبين «الركن» و«المقام» باعتباره من أقدس الأمكنة، وفي المدينة تكون جنب قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الآية التّالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إِذا شهدا بغير


1 ـ العنكبوت، 45.

[178]

الحقّ، كما جاء في سبب نزول الآية، فالحكم في مثل هذه الحالة ـ أي عند الإِطلاع على أن الشاهدين قد ارتكبا إِثمّ العدوان على الحقّ واضاعته ـ هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما: (فإن عثر على أنّهما استحقا إِثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان).

يذهب العلاّمة الطبرسي في «مجمع البيان» إِلى أنّ هذه الآية تعتبر من حيث المعنى والإِعراب من أعقد الآيات وأصعبها، ولكن بالإِلتفات إِلى نقطتين نجد أنّها ليست بتلك الصعوبة والتعقيد.

فالنّقطة الاُولى: هي أن معنى «استحق» هنا بقرينة كلمة «إِثم» هو إِثمّ العدوان على حق الآخرين.

والنّقطة الثّانية: هي أنّ «الأوليان» تعني هنا «الأولان» أي الشاهدان اللذان كانا عليهما أنّ يشهدا أوّلا ولكنّهما انحرفا عن طريق الحقّ.

وعليه يكون المعنى: إِذا ثبت أنّ الشاهدين الأولين ارتكبا مخالفة، فيقوم مقامهما اثنان آخران ممن وقع عليهم ظلم الشاهدين الأولين(1).

ثمّ يبيّن ما ينبغي على هذين الشاهدين أن يفعلاه (فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إِنّا إِذاً لمن الظالمين).

لمّا كان أولياء الميت على علم بالأموال والأمتعة التي أخذها معه عند سفره أو التي يملكها عموماً، فيمكن أن يشهدوا على أنّ الشاهدين الأولين قد خانا وظلما، وتكون هذه الشهادة حسية مبنية على القرائن، لا حدسية.

والآية الأخيرة، في الحقيقة، بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إِذا أجريت الأُمور بحسب التعاليم، أي إِذا طلب


1 ـ على هذا يكون إعراب «آخران» مبتدأ، وجملة «يقومان مقامهما» خبر، و«أوليان» فاعل «إستحقا» و«من الذين» أي من ورثة الميت الذين وقع عليهم الظلم، والجار والمجرور صفة لـ«آخران» «تأمل بدقّة».

[179]

الشاهدان للشهادة بعد الصّلاة بحضور جمع، ثمّ ظهرت خيانتهما، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحقّ، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم، خوفاً من الله أو خوفاً من الناس: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم).

في الواقع سيكون هذا سبباً في الخشية من المسؤولية أمام الله وأمام الناس، فلا ينحرفان عن محجة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلا: (اتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين).

* * *

[180]

الآية

يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَعِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(109)

التّفسير

هذه الآية، في الحقيقة، تكملة للآيات السابقة، ففي ذيل تلك الآيات الخاصّة بالشهادة الحقّة والشهادة الباطلة، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمرالله، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع الله الرسل فيه ويسألهم عن رسالتهم ومهمتهم و عمّا قاله الناس رداً على دعواتهم (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم).

لقد نفوا عن أنفسهم العلم، وأوكلوا جميع الحقائق إِلى علم الله و(قالوا لا علم لنا إِنّك أنت علاّم الغيوب) وعليه فإنكم أمام علام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحقّ والعدل(1).

هنا يبرز سؤالان: الأوّل: إنّ ما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الأنبياء شهداء


1 ـ يتّضح من هذا أن (يوم ...) مفعول به لفعل محذوف تفسره الآية السابقة وتقدير «اتقوا يوم».

[181]

على أممهم، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شيء إِلى الله.

ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد، بل هو يحكي عن مرحلتين، في المرحلة الاُولى وهي التي تشير إِليها الآية التي نحن بصددها، يُظهر الأنبياء الأدب بازاء سؤال الله، فينفون العلم عن أنفسهم، ويوكلون كل شيء إِلى علم الله، ولكنّهم في المراحل التّالية يبيّنون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون، وهذا يكاد يشبه المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أوّل الأمر ويقول: أن علمه لا شيء بالنسبة لعلم المعلم، ثمّ بعد ذلك يدلي بما يعرف.

والسؤال الآخر: كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنّهم إِضافة إِلى العلوم العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.

رغم أنّ للمفسّرين كلاماً كثيراً في جواب هذا السؤال، نرى أنّ الموضوع واضح وهو أنّ الأنبياء يرون علمهم لا شيء بالنسبة لعلم الله، والحقّ كذلك، فوجودنا لا شيء بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بازاء علم الله، فمهما يكن «الممكن» فإنّه لا يكون شيئاً بازاء «الواجب»، وبعبارة أُخرى: إِنّ علم الأنبياء، وإِن كان في حد ذاته غزيراً، لكنه لا شيء بالقياس إِلى علم الله.

في الحقيقة، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضراً وناظراً في كل مكان وزمان، وعارفاً بتركيب كل ذرة من ذرات العالم، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط في وحدة واحدة، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء والأئمّة كما زعم بعضهم، وذلك لأن «علم الغيب» بالذات يختص بمن يكون حاضراً في كل مكان وزمان، وأمّا غيره تعالى فإنّه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه الله.

وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن، منها الآية (26) من سورة الجن:

[182]

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إِلاّ من ارتضى من رسول) والآية (49) من سورة هود: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إِليك).

يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أنّ علم الغيب مختص بذات الله، ولكنّه يُعلِّمه لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.

* * *

[183]

الآية

إِذْ قَالَ اللهُ يَـعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَةَ وَالاِْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(110)

التّفسير

نعم الله على المسيح:

هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيح(عليه السلام) والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أُمّته، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: (إِذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك).

ومعنى «إِذ قال»: واذكر إِذ قال.

[184]

وحسب هذا التّفسير، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا، إِلاّ أن عدداً من المفسّرين ـ كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي ـ يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة، وعلى هذا يكون الفعل الماضي «قال» بمعنى «يقول» المضارع، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الإِعتراف بالجميل والشكر فيه، وهذا لا مكان له يوم القيامة.

ثمّ تشرع الآية بذكر النعم: (إِذ أيدتك بروح القدس).

لقد بحثنا معنى «روح القدس» في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثاً مستفيضاً وأحد الإِحتمالات المقصودة هو أنّه إِشارة إِلى ملك الوحي، جبرائيل، والإحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إِظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضاً بدرجة أضعف.

من نعم الله الأُخرى: (تكلم الناس في المهد وكهلا) أي أنّ كلامك في المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.

ثمّ أيضاً: (وإِذا علمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإِنجيل) إِنّ ذكر التّوراة والإِنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية، إِنّما هو من باب التفصيل بعد الإِجمال.

ومن النعم الأُخرى: (وإِذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً باذني).

ومع ذلك فإِنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص: (وتبرىء الأكمه والأبرص باذني).

ثمّ (وإِذ تخرج الموتى باذني).

[185]

وأخيراً كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إِسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر، فدفعت أذى أُولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك: (وإِذ كففت بني إِسرائيل عنك إِذ جئتهم بالبيانات فقال الذين كفروا منهم إِن هذا إِلاّ سحر مبين).