![]() |
![]() |
![]() |
وهنالك تفسير آخر لهذه الآية، والذي قلناه أكثر إِنسجاماً مع ظاهر الآية ومع سبب النّزول.
وينبغي أن نعلم ـ في الوقت نفسه ـ إِنّ الذين لهم أن يستفيدوا من هذا الإِستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية، فيكونون متميزين بالتقوى، وبعدم التأثر بهم، وبالقدرة على التأثير فيهم.
سبق في تفسير الآية (140) من سورة النساء أن تطرقنا إِلى هذا الموضوع وذكرنا مسائل أُخرى أيضاً.
* * *
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وغَرَّتْهُمُ الْحَيوةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْل لاَّيُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)
هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة، وتأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدع أُولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا).
بديهي أنّ الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد، فللجهاد شروط، ولإِهمال الكفار شروط أُخرى، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في ظروفه الخاصّة، قد يستلزم الأمر ـ أحياناً ـ دفع المناوئين عن طريق عدم
الإِعتناء بهم، وفي أحيان أُخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح، أمّا القول بأنّ آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح.
وتشير هذه الآية إِلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه، فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال ومجمون الكبار، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة، وعليه يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ.
يتضح ممّا قلنا أنَّ «دينهم» يعني «دين الشرك وعبادة الأصنام» الذي كانوا يدينون به، أمّا القول بأنّ المقصود هو «الدين الحق» وإِنّ إِضافة الدين إِليهم يستند إِلى كون الدين فطرياً، فيبدو بعيد الإِحتمال.
والإِحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إِلى جمع من الكفار الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة، ولم ينظروا أبداً إِلى الدين كأمر جاد يستوجب إِمعان الفكر والتأمل، أي أنّهم كانوا لايؤمنون حقيقة حتى في معتقدات شركهم، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له.
على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإِلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية، أُولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا، والأحكام الإِلهية العوبة أغراضهم الخاصّة.
ثمّ يؤمر الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينبّههم إِلى أعمالهم هذه وإِلى أنّ هناك يوماً لابدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفراً: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)(1).
1 ـ «البسل» هو حفظ الشيء ومنعه بالقوة والقهر، والإِبسال حمل المرء على التسليم، كما تطلق الكلمة على الحرمان من الثواب، أو أخذ الرهائن، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم، والمعنى في الآية هو تسليم المرء وخضوعه لأعماله السيئة.
يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع).
إِنّهم يؤمنذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إِنّهم يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إِن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)(1).
ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم، ولا فدية تنجيهم، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان: (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا).
ثمّ يشار إِلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة: (لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).
إِنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل، ويكتوون بنار الجحيم.
يجدر الإِنتباه هنا إِلى أن جملة (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا) هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إِنّهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفر لهم، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إِنّما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن.
غير أنّنا لابدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وإِنعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إِنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه، كما يتبيّن من عبارة: (بما كانوا يكفرون) (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).
* * *
1 ـ «العدل» بمعنى «المعادل» وهو ما يدفع جزاءاً وغرامة لقاء التحرر، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به.
قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَنَا اللهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْـطِينُ فِى الاَْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(72)
كان المشركون يصرّون على دعوة المسلمين إِلى العودة إِلى الكفر وعبادة الأصنام، فنزلت هذه الآية تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالردّ عليهم ردّاً يدحض رأيهم ويفند دعوتهم في جواب بصيغة الإِستفهام الإِستنكاري: أتريدون منّا أن نشرك مع الله ما لا يملك لنا نفعاً فنعبده لذلك، ولا يملك لنا ضرراً فنخافه؟!: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا).
هذه الآية تشير إِلى أنّ أفعال الإِنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إِمّا أن تهدف إِلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية)، وأمّا إِلى دفع ضرر (مادياً كان أم معنوياً). فكيف يقدم الإِنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟
ثمّ يأتي باستدلال آخر على المشركين، فيقول: إِذا عدنا إِلى عبادة الأصنام، بعد الهداية الإِلهية نكون قد رجعنا القهقري، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام: (ونردّ على أعقابنا بعد إِذ هدانا الله)(1).
ثمّ يضرب مثلا لتوضيح الأمر، فيقول: إِنّ الرجوع عن التوحيد إِلى الشرك أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنّه ا تكمن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن مقصده وظل حيراناً في الباديّة: (كالذين استهوته الشياطين في الأرض حيران)بينما له رفاق يرشدونه إِلى الصراط السوي المستقيم وينادونه: هلم إِلينا، ولكنّه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار: (له أصحاب يدعونه إِلى الهدى ائتنا)(2).
وفي الختام يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إِنّ الهداية من الله وليس لنا إِلاّ أن نسلم لأمر الله ربّ العالمين: (قل إِنّ هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين).
وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين، إِذ التسليم لا يكون إِلاّ لخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود، لا الأصنام التي لا دور لها في إِيجاد هذا العالم وإِدارته.
سؤال:
يبرز هنا هذا السؤال: لم يكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة من أتباع دين المشركين فكيف تقول الآية: (نردّ على أعقابنا) ونحن نعلم أنّه لم يسجد قط
1 ـ «أعقاب» جمع «عقب» وهو مؤخر الرجل، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعاً، وهو هنا كناية عن الإِنحراف عن الهدف، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم «الرجعية».
2 ـ «إستهوته» من «الهوى» وهو ميل النفس إِلى الشهوة، واستهوته بمعنى حملته على إتباع الهوى، و«الحيرة» هي التردد في الأمر، وفي الأصل: الجيئة والذهاب، فالآية تشير إِلى الذين يذهبون من الإِيمان إِلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من الشيطان.
لصنم، إِذ لم يرد هذا في جميع التواريخ التي كتبت عنه، بل أن مقام العصمة لا يمكن أن يسمح بحدوثه؟
الجواب:
في الحقيقة تعتبر هذه الآية ممّا جاء على لسان جميع المسلمين، لا على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، ولذلك جاءت الضمائر فيها بصيغة الجمع.
الآية التّالية، تواصل شرح الدعوة الإِلهية قائلة: إِنّنا فضلا عن التوحيد، فقد أمرنا بإِقامة الصّلاة وبتقوى الله: (وان أقيموا الصّلاة واتقوه).
وفي الختام يشار إِلى المعاد وإِلى أنّ الناس إِلى الله يرجعون: (وهو الذي إِليه تحشرون).
هذه الآيات القصار تكشف عن البرنامج الذي يدعو اليه الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والمتألف من أربعة مبادىء، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بالمعاد، وبينهما مرحلتان متوسطتان هما: تقوية الإِرتباط بالله، والإِتقاء من كل ذنب.
* * *
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ عَـلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(73)
هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم لله وإِتّباع رسوله، لذلك تقول: (هو الذي خلق السموات والأرض بالحق).
إِنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة.
المقصود من (الحق» في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم، أي أنّ كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة، وهذه الآيه تشبه الموضوع الذي تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا).
ثمّ يقول: إِنّه فضلا عن كونه مبدع عالم الوجود، فان يوم القيامة أيضاً يقوم بأمره، وإِذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فوراً: (ويوم يقول كن
فيكون)(1).
يحتمل بعضهم أنّ هذه العبارة تشير إِلى مبدأ الخلق وإِيجاد عالم الوجود، حيث خلق كل شيء بأمر الله، ولكن بالنظر لأنّ الفعل «يقول» مضارع، وهناك قبل هذه الآية إِشارة إِلى أصل الخلق، وكذلك بالرجوع إِلى الآيات التّالية، يمكن القول بأنّ هذه العبارة تخص البعث ويوم القيامة.
سبق في تفسير الآية (117) من سورة البقرة في المجلد الأوّل أن قلنا إِنّ (كن فيكون) لا تعني إِصدار أمر لفظي لشيء أن يكون فيكون، بل تعني إِنّه إِذا شاء خلق شيء، فإنّ إرادته تتحقق دون حاجة الى وجود أي عامل آخر، فإذا شاء أن يتحقق الشيء فهو يتحقق فوراً. وإِذا شاء أن يتحقق تدريجياً فإنّ خطّة تحققه التدريجي تبدأ.
ثمّ يضيف: أنّ ما يقوله الله هو الحق، أي أنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح، كذلك سيكون يوم القيامة: (قوله الحق).
وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في صور ويبعث الناس يوم القيامة، يكون الحكم والملك لله: (وله الملك يوم ينفخ في الصور).
حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإِنسان أحياناً عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل، فإِنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق، كما جاء في آية أُخرى: (لمن الملك اليوم لله الواحد
1 ـ يختلف المفسّرون في متعلق الظرف «يوم»، فبعض يعلقه بجملة «خلق» وبعض يعلقه بجملة «اذكروا» المحذوفة، ولكن لا يستبعد أن يكون متعلقاً بجملة «يكون»، فيصبح المعنى: يكون يوم القيامة يوم يقول له كن.
القهار)(1).
فيما يتعلق بماهية «الصور» وكيف ينفخ فيه إِسرافيل فتموت الأحياء، ثمّ يعيد النفخ في الصور فيعود الجميع إِلى الحياة ويبدأ يوم القيامة ـ سوف نشرح ذلك إِن شاء الله ـ في تفسير الآية (68) من سورة الزمر.
وفي ختام الآية إِشارة إِلى ثلاث من صفات الله تعالى، فهو: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير).
ترد هذه الصفات غالباً في الآيات التي تخص يوم القيامة، أي أنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلا بما يستحقه.
* * *
1 ـ غافر، 16.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّى أَرَكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـل مُّبِين(74)
لما كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام ويدور فيها الكلام أكثر ما يدور على المشركين وعبدة الأصنام، وتستخدم مختلف الأساليب لإِيقاظهم، فهي تستخدم هنا حكاية إِبراهيم بطل التوحيد، وتشير إِلى منطقه القوي في تحطيم الأصنام ضمن بضع آيات.
من الجدير بالإِنتباه أنّ القرآن في كثير من بحوثه عن التوحيد ومحاربة عبادة الأصنام يستند إِلى هذه الحقيقة، لأنّ إِبراهيم(عليه السلام) كان يحظى باحترام الأقوام كافة، وعلى الأخص مشركي العرب.
يقول: إِنّ إِبراهيم وبخ أباه (عمّه) قائلا: أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا حياة فيها آلهة للعبادة: (وإِذ قال إِبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إِنّي أراك وقومك في ضلال مبين) وأي ضلال أشد وأضح من أن يجعل الإِنسان ما يخلقه بيده إِلهاً يعبده، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إِحساس ملجأ يفزع إِليه ويبحث عن حل مشاكله عنده.
تطلق كلمة «الأب» في العربية على الوالد غالباً، ولكنّها قد تطلق أيضاً على الجد من جهة الأُمّ وعلى العم، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإِنسان، ولكنّها إذا جاءت مطلقة فانّها تعني الوالد ما لم تكن هناك قرينة تدلّ على غير ذلك.
فهل الرجل الذي تشير إِليه الآية (آزر) هو والد إِبراهيم؟ أيجوز أن يكون عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أُولي العزم؟ ألا يكون للوراثة من هذا الوالد تأثير سيء في أبنائه؟
بعض مفسّري أهل السنّة يجيب بالإِيجاب على السؤال الأوّل، ويعتبر آزر والد إِبراهيم الحقيقي، أمّا المفسّرون الشيعة فيجمعون على أن آزر ليس والد إِبراهيم، بل قال بعضهم: إِنّه كان جدّه لأُمّه، وقال أكثرهم: إِنّه كان عمه، وهم في ذلك يستندون إِلى القرائن التّالية:
1 ـ لم يرد في كتب التّأريخ أنّ أبا إِبراهيم هو آزر، بل يقول التّأريخ إِنّ اسم أبيه هو «تارخ» وهذا ما ورد أيضاً في العهدين القديم والجديد، والذين يعتبرون آزر والد إِبراهيم يستندون إِلى تعليلات لا يمكن قبولها من ذلك أنّهم يقولون: إِنّ اسم والد إِبراهيم هو تارخ ولقبه آزر، وهذا القول لا تسنده الوثائق التّأريخية.
أو يقولون: إِنّ «آزر» اسم صنم كان أبو إِبراهيم يعبده، وهذا القول لا يأتلف مع هذه الآية التي تقول أن أباه كان آزر، إِلاّ إذا قدرنا جملة أو كلمة، وهذا أيضاً خلاف الظاهر.
2 - يقول القرآن: (ما كان للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى...) ثمّ لكيلا يتخذ أحد من استغفار إِبراهيم لآزر حجّة يقول: (وما كان استغفار إِبراهيم لأبيه إِلاّ عن موعدة وعدها إِياه فلمّا تبيّن أنّه عدو لله
تبرأ منه)(1) وذلك لأنّ إِبراهيم كان قد وعد آزر أن يستغفر له: (سأستغفر لك ربّي)(2) بأمل رجوعه عن عبادة الأصنام، ولكنّه عندما رآه مصمماً على عبادة الأصنام ومعانداً، ترك الإِستغفار له.
يتّضح من هذه الآية بجلاء أن إِبراهيم بعد أن يئس من آزر، لم يعد يطلب له المغفرة ولم يكن يليق به أن يفعل.
كل القرائن تدل على أنّ هذه الحوادث وقعت عندما كان إِبراهيم شاباً، يعيش في بابل ويحارب عبدة الأصنام.
ولكن آيات أُخرى في القرآن تشير إِلى أن إِبراهيم في أواخر عمره، وبعد الإِنتهاء من بناء الكعبة، طلب المغفرة لأبيه (في هذه الآيات ـ كما سيأتي ـ لم تستعمل كلمة «أب» بل استعملت كلمة «والد» الصريحة في المعنى) حيث يقول: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إِسماعيل وإِسحاق إِنّ ربّي لسميع الدعاء ... ربّنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)(3).
إِذا جمعنا هذه الآية مع آية سورة التوبة التي تنهي المسلمين عن الاستغفار للمشركين وتنفي ذلك عن إِبراهيم، إِلاّ لفترة محدودة ولهدف مقدس، تبيّن لنا بجلاء أنّ المقصود من «أب» في الآية المذكورة ليس «الوالد»، بل هو العم أو الجد من جانب الأُمّ أو ما إِلى ذلك، وبعبارة أُخرى: إِنّ «والد» تعطي معنى الأُبوة المباشرة، بينما «أب» لا تفيد ذلك.
وقد وردت في القرآن كلمة «أب» بمعنى العم، كما في الآية (133) من سورة البقرة: (قالوا نعبد الهك وإِله أبائك إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق إِلهاً واحداً)والضمير في «قالوا» يعود على أبناء يعقوب، وكان إِسماعيل عم يعقوب،
1 ـ التوبه، 113 و114.
2 ـ مريم، 47.
3 ـ إِبراهيم، الآيتان 39 و41.
لا أباه.
3 ـ وهناك روايات إِسلامية مختلفة تؤكّد هذا الأمر، فقد جاء في حديث معروف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إِلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية»(1).
ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان، أما القائلون أنّ أقبحها هو الزنا فلا يقوم على قولهم دليل. خاصّة وانّ القرآن يقول: (إِنّما المشركون نَجس)(2).
الطبري، وهو من علماء أهل السنة، ينقل في تفسيره «جامع البيان» عن المفسّر المعروف «مجاهد» أنّه قال: لم يكن آزر والد إِبراهيم(3).
الآلوسي في «روح المعاني» يؤكّد عند تفسير هذه الآية أنّ الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إِبراهيم، بل إِن كثيراً من علماء المذاهب الأُخرى يرون أن آزر اسم عم إِبراهيم(4).
والسيوطي العالم السني المعروف، نقل في كتابه «مسالك الحنفاء» عن أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده لم يكونوا مشركين أبداً. مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفاً، ثمّ يستند السيوطي نفسه إِلى مجموعتين من الرّوايات.
الأُولى: تقول إِنّ آباء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الرّوايات عن «صحيح البخاري» و«دلائل النبوة» للبيهقي وغيرهما من المصادر).
1 ـ يورد هذا الحديث كثيرون من مفسّري الشيعة والسنة، كالمرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» والنيسابوري في تفسير «غرائب القرآن» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والآلوسي في تفسير «روح المعاني».
2 ـ التوبة، 28.
3 ـ «جامع البيان»، ج 7، ص 158.
4 ـ تفسير «روح المعاني»، ج 7، ص 169.
والثّانية: هي التي تقول: إِنّه في كل عصر وزمان كان هناك أُناس من الموحدين الذين يعبدون الله، ثمّ يجمع بين هاتين المجموعتين من الرّوايات ويستنتج أنّ أجداد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بما فيهم والد إِبراهيم، كانوا حتماً من الموحدين(1).
يتبيّن من هذا أنّ التّفسير المذكور لهذه الآية مبني على وجود قرائن واضحة من القرآن نفسه ومن مختلف الرّوايات الإِسلامية، وليس تفسيراً مبنياً على الرأي الشخصي فقط، كما يقول بعض مفسّري أهل السنة، مثل صاحب «المنار».
* * *
1 ـ «مسالك الحنفاء»، ص 17 كما جاء في هامش «بحار الأنوار»، 15، 18 أو بعدها، الطبعة الجديدة.
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الاَْفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ(77) فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّى هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَـقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)
على أثر الكره الذي كان يحمله إِبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام، تشير هذه الآيات إِلى نضال إِبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، وتبيّن كيفية توصله إِلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.
تبيّن أولا أنّ الله كما عرّف إِبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرّفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السموات والأرض: (وكذلك نرى إِبراهيم ملكوت السموات والأرض)(1).
«الملكوت» من «ملك» بمعنى المالكية والحكم و«الواو» و«التاء» أُضيفتا للتوكيد والمبالغة، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة الله المطلقة على عالم الوجود برمته.
ولعل هذه الآية إِجمال للتفصيل الوارد في الآيات التّالية بشأن الكواكب والقمر والشمس وإِدراك أنّها من المخلوقات لدى مشاهدة أُفولها.
أي أنّ القرآن بدأ بذكر مجمل تلك الحالات، ثمّ أخذ يفصلها، وبهذا يتّضح المقصود من إِراءة ملكوت السموات والأرض لإِبراهيم(عليه السلام).
كما أنّه في الختام يقول إِنّ الهدف من ذلك هو أن يصبح إِبراهيم من أهل اليقين: (وليكون من الموقنين).
لا شك أنّ إِبراهيم كان موقناً يقيناً استدلالياً وفطرياً بواحدانية الله، ولكنّه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنّه كان مؤمناً بالمعاد ويوم القيامة، ولكنّه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إِليها الحياة بلغ إِيمانه مرحلة «عين اليقين».
الآيات التّالية تشرح هذا المعنى، وتبيّن استدلال إِبراهيم من أُفول الكواكب والشمس على عدم الوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كلّه، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إِبراهيم: هذا ربّي! ولكنّه إِذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: (فلما جن الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لا أُحبّ الأفلين).
1 ـ وعلى هذا، هناك محذوف مقدار في الآية يدل عليه ما في الآيات السابقة، فيكون مضمون الآية: كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام كذلك نرى إِبراهيم ملكوت السموات والأرض (تأمل بدقة).
ومرّة أُخرى رفع عينيه إِلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإِشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربّي: ولكنّ مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأُفق.
هنا قال إِبراهيم: إِذا لم يرشدني ربّي إِلى الطريق الموصل إِليه فسأكون في عداد التائهين (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين).
عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إِبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربّي فإِنّه أكبر وأقوى ضوءاً، ولكنّه إِذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إِبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: (فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلمّا أفلت قال يا قوم إِنّي بريء ممّا تشركون).
الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إِلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات، فاني أتجه إِلى الذي خلق السموات والأرض، وفي إِيماني هذا لن أشرك به أحداً، فاني موحد ولست مشركاً: (إِنّي وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
* * *
للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التّالية بشأن ما دفع
بإِبراهيم الموحد العابد لله الواحد، أن يشير إِلى كوكب في السماء ويقول: هذا ربّي؟ ومن بين آراء المفسّرين الكثيرة نقف عند تفسيرين قد اختار كلا منهما عدد من كبار المفسّرين، كما أنّهما مدعومان بشواهد من المصادر الحديثية:
الأوّل: يقول إِنّ إِبراهيم كان يريد شخصياً أن يفكر في معرفة الله وأن يعثر على المعبود الذي كان يجده بفطرته النقية في أعماق ذاته، إنّه كان يعرف الله بنور فطرته ودليل العقل الإِجمالي إِذ إِنّ كل تعبيراته تدل على أنّه لم يكن يشك أبداً في وجوده، ولكنّه كان يبحث عن مصداقه الحقيقي، بل لقد كان يعلم بمصداقه الحقيقي أيضاً، ولكنّه كان يريد أن يصل عن طريق الاستدلال العقلي الأوضح إِلى مرحلة «حق اليقين».
وقد وقعت له هذه الحوادث قبل نبوته، ويحتمل أن تكون في أوّل بلوغه أو قبيل ذلك.
نقرأ في بعض التواريخ والرّوايات أنّ هذه كانت المرّة الأُولى التي يرنو فيها إِبراهيم بنظره إِلى السماء وإِلى كواكبها الساطعة، لأن أُمّه كانت منذ طفولته قد أخفته في غار خوفاً عليه من بطش نمرود الجبار وجلاوزته.
غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، إِذ يصعب أن نتصور إِنساناً يعيش سنوات طويلة في بطن غار ولا يخطو خارجه، ولو مرّة، في ليلة ظلماء، فلعل الذي قوى هذا الإِحتمال في نظر بعض المفسّرين هو تعبير (رأى كوكباً) الذي يوحي بأنه لم يكن قد رأى كوكباً حتى ذلك الحين، ولكن هذا التعبير لا يحمل في الواقع مثل هذا المفهوم، بل المقصود هو أنّه، وإِن كان قد رأى الكواكب والشمس والقمر مرات حتى ذلك الوقت، فقد ألقى الأوّل مرّة نظرة فاحصة مستطلعة إِلى هذه الظواهر. وكان يفكر في مغزى بزوغها وأُفولها ونفي الأُلوهية عنها، في الحقيقة كان إِبراهيم قد رآها مراراً، ولكن لا بتلك النظرة.
لذلك فإِنه عندما يقول: (هذا ربّي) لا يقولها قاطعاً جازماً، بل يقولها من باب
الفرض والإِحتمال حتى يفكر في الأمر، وهذا يشبه تماماً حالنا ونحن نحاول أن نعثر على سبب حادثة ما، فنقلب مختلف الإِحتمالات والإِفتراضات على وجوهها واحدة واحدة، ونستقصي لوازم كل فرضية حتى نعثر على العلة الحقيقية، وهذا لا يكون كفراً، بل ولا حتى دليلا على عدم الإِيمان، بل هو طريق لتحقيق أكثر ولمعرفة أفضل، للوصول إِلى مراحل أعلى من الإِيمان، كما فعل إِبراهيم في مسألة «المعاد» إِذ قام بمزيد من الدراسة يوصل إِلى مرحلة الشهود والإِطمئنان.
جاء في تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن الإِمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام)أنّه قال: «إِنّما كان إِبراهيم طالباً لربّه، ولم يبلغ كفراً، وانّه من فكر من الناس في مثل ذلك فإِنه بمنزلته»(1).
وهنالك روايتان أُخريان يذكرهما تفسير نورالثقلين بهذا الشأن.
أمّا التّفسير الثّاني فيقول: إِن إِبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته عبدة النجوم والشمس، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل مع عبدة الأوثان وخروجه منها إِلى الشام، حيث التقى بهؤلاء الأقوام، وإِبراهيم الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم، أراد أن يجلب إِليه إِنتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر، فأظهر في البداية أنّه معهم وقال لهم: إِنكم تقولون: إِنّ كوكب الزهرة هذا هو ربّي، حسناً، فلنر ما يحصل لهذا الإِعتقاد في النهاية، ولم يمض وقت طويل حتى أختفى وجه الكوكب النير خلف ستار الأُفق المظلم، عندئذ إِتّخذ إِبراهيم من هذا الأُفول سلاحاً يواجههم به فقال: أنا لا يمكنني أن أتقبل معبوداً كهذا.
وعليه، فإِنّ عبارة (هذا ربّي) تعني: هذا ما تعتقدون أنّه ربّي، أو أنّه قالها بلهجة الإِستفهام: «هذا ربّي؟».
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 738.
ويؤيد هذا التّفسير أيضاً رواية في «نور الثقلين» وتفاسير أُخرى عن كتاب «عيون أخبار الرضا(عليه السلام)».
هنا يبرز هذا السؤال: كيف استطاع إِبراهيم أن يستدل من غروب الشمس والقمر والكواكب على عدم ربوبيتها؟
يمكن أن يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة:
1 ـ إِنّ الله المربي، كما يستفاد من كلمة «رب» لابدّ أن يكون دائماً قريباً من مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة، وعليه لا يجوز لكائن يغرب ويختفي ساعات طويلة، بنوره وبركته وتنقطع صلته كلياً عن الكائنات الأُخرى، أن يكون ربّاً وإِلهاً.
2 ـ إِنّ كائناً يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية، لا يمكن أن يحكم على هذه القوانين ويملكها؟ إنّه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر على أدنى إِنحراف عنها ...
3 ـ إِنّ الكائن المتحرك لا يمكن إِلاّ يكون كائناً حادثاً، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليل على الحدوث، لأنّ الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث، وأن ما يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركة، لا يمكن أن يكون كائناً أزلياً وأبدياً (تأمل بدقّة).
* * *
هنا لابدّ من الإِنتباه إِلى النقاط التّالية:
1 ـ في الآية الأُولى من الآيات التي نحن بصددها، كلمة «كذلك ...» تلفت النظر، وهي تعني: إنّنا مثلما أوضحنا ـ عقلا ـ أضرار عبادة الأصنام لإِبراهيم، كذلك نريه مالكية الله للسماوات والأرض وحكمه عليها، يقول بعض المفسّرين: ذلك يعني: إِنّنا كما أريناك قدرة الله وحكمه على السموات، أريناها لإِبراهيم أيضاً لكي يزداد معرفة بالله.
![]() |
![]() |
![]() |