![]() |
![]() |
![]() |
ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى لحقهم جعفر بن أبي طالب وجمع من المسلمين، فكانوا مع السابقين جمعاً مؤلفاً من 82 رجلا سوى النساء والصبيان، وشكلت هذه المجموعة النواة الاُولى للتجمع الإسلامي المنظم.
كان لفكرة هذا الهجرة وقع شديد على عبدة الأصنام، لأنّهم أدركوا جيداً أنّه
لن يمضي زمن طويل حتى يكون عليهم أن يواجهوا جمعاً قوياً من المسلمين الذين اعتنفوا الإِسلام ـ بالتدريج ـ ديناً لهم في أرض الحبشة حيث الأمن والأمان.
فشمروا عن ساعد الجد لإِحباط تلك الفكرة، فاختاروا اثنين من فتيانهم الأذكياء المعروفين بالدهاء والمكر، وهما (عمرو بن العاص) و(عمارة بن الوليد) وحملوهما مختلف الهدايا والتحف إِلى النجاشي ليوغروا صدره على المسلمين فيطردهم من بلاده، وعلى ظهر السفينة التي أقلت هذين إِلى الحبشة سكرا وتخاصما إِلاّ أنّهما ـ لكي ينفذا المهمّة التي جاءا من أجلها ـ نزلا إِلى البر الحبشي، وحضرا مجلس النجاشي بكثير من الأبهة، وخاصّة بعد أن اشتريا ضمائر حاشية النجاشي بالكثير من الهدايا والرشاوي، فوعدهم هؤلاء بالوقوف إِلى جانبهما وتأييدها.
بدأ عمرو بن العاص كلامه للنجاشي قائلا: «أيّها الملك، إِنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا، وصاروا إِليك فردهم إِلينا».
ثمّ قدما ما حملاه من هدايا إِلى النجاشي.
فوعدهم النجاشي أن يبت بالأمر بعد استجواب ممثلي اللآجئين وبعد التشاور مع حاشيته.
وفي يوم آخر عقدت جلسة حافلة حضرتها حاشية النجاشي وجمع من العلماء المسيحيين، وممثل المسلمين جعفر بن أبي طالب، ومبعوثا قريش، وبعد أن استمع النجاشي إِلى أقوال مبعوثي قريش، إِلتفت إِلى جعفر وطلب منه بيان ما لديه.
قال جعفر: يا أيّها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟
فقال عمرو: لا، بل أحرار كرام.
جعفر: سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟
عمرو: لا، ما لنا عليكم ديون.
جعفر: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بذخول بها؟
عمرو: لا.
جعفر: فما تريدون منّا؟ أذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثمّ قال:
«نعم أيّها الملك خالفناهم بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإِستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة، وحرّم الظلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها، والزنا والربا والميتة والدّم ولحم الخنزير، وأمرنا بالعدل والإحسان وإِيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي».
فقال النّجاشي: بهذا بعث الله عيسى، ثمّ قال النجاشي لجعفر:
هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً؟
قال جعفر: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: (وهزي إِليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا) قال: هذا والله هو الحقّ.
فقال عمرو: إِنّه مخالف لنا فردّه إِلينا.
فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك وقال: ارجعوا إِلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: إِمكثوا فإِنّكم آمنون.
كان لهذا الحدث أثر بالغ بعيد المدى، ففضلا عمّا كان له من أثر إِعلامي عميق في تعريف الإِسلام لجمع من أهل الحبشة، فإنّه شد من عزيمة المسلمين في مكّة وحملهم على الإِطمئنان والثقة بقاعدتهم في الحبشة لإِرسال المسلمين الجدد إِليها، إِلى أن يشتد ساعدهم وتقوى شوكتهم.
ومضت سنوات، وهاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة، وارتفع شأن الإِسلام، وتمّ التوقيع على صلح الحديبية، وتوجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح خيبر، وفي ذلك اليوم الذي كان فيه المسلمون يكادون يطيرون فرحاً لتحطيمهم أكبر قلعة للأعداء اليهود، فإذا بهم يشهدون من بعيد قدوم جمع من الناس صوبهم، ثمّ ما لبثوا حتى عرفوا أن أُولئك لم يكونوا سوى المهاجرين الأوائل إِلى الحبشة وقد عادوا في
ذلك اليوم إِلى أوطانهم بعد أن تحطمت قوى الأعداء الشيطانية، وقويت جذور شجيرة الإِسلام النامية.
وإِذ شاهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مهاجري الحبشة، قال قولته التّأريخية: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر»؟!
يروى أنّ جعفر وأصحابه جاؤوا إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهم سبعون رجلا، اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سورة «يس» إِلى آخرها فبكوا حتى سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما اشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
وروي عن سعيد بن جبير في سبب نزول الآية أنّ النجاشي أرسل ثلاثين شخصاً من أخلص أتباعه إِلى المدينة لإِظهار حبّه لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وللإِسلام، أُولئك هم الذين إِستمعوا إِلى آيات سورة «يس» فأسلموا، فنزلت الآيات المذكورة تقديراً لأُولئك المؤمنين.
(لا يتعارض سبب النّزول هذا مع كون سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم))، إذ أنّ هذا القول يرجع إِلى معظم آيات السورة، وليس ثمّة ما يمنع أن تكون بعض تلك الآيات قد نزلت في حوادث سابقة، ثمّ وضعت ـ لأسباب ـ بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه السّورة.
تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
في الآية الاُولى وضع اليهود والمشركون في طرف واحد والمسيحيون في طرف آخر: (لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا قالوا إِنّا نصارى).
يشهد تاريخ الإِسلام بجلاء على هذه الحقيقة، ففي كثير من الحروب التي
أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولم يتورعوا عن التوسل بأية وسيلة للتآمر، وقليل منهم إِعتنق الإِسلام، ولكننا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم، كما أنّ الكثيرين منهم إِلتحقوا بصفوف المسلمين.
ثمّ يعزوا القرآن هذا الإِختلاف في السلوك الفردي والإِجتماعي إِلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن موجودة في اليهود:
فأوّلا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا ـ كما فعل علماء اليهود ـ إِلى إِخفاء الحقائق (ذلك بأن منهم قسيسين)(1).
ثمّ كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا، وهي النقطة المناقضة لما كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.
وعلى الرغم من كلّ إِنحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى اليهود: «ورهباناً».
وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبروا، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإِسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي: (وإِنّهم لا يستكبرون).
ثمّ إنّ نفراً منهم كانوا إِذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحقّ إِذا سمعوه: (وإِذا سمعوا ما أنزل إِلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ).
فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، و(يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).
لقد كان تأثرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث أنّهم كانوا يقولون: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصالحين).
سبق أن قلنا إِنّ هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول
1 ـ «القسيس» تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجه الديني عند المسيحيين.
الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فاليهود ـ وإِن كانوا من أصحاب الكتب السماوية ـ بلغت شدة تعلقهم بالمادة وحبّهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي وجه شبه مشترك، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجيء الإِسلام ولم تكن قد دخلتهم إِنحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين، غير أن حبّهم للدنيا حبّ عبادة قد أبعدهم عن الحقّ، بينما معاصروهم المسيحيون لم يكونوا على هذه الشاكلة.
إِلاّ أنّ التّأريخ القديم والمعاصر يقول لنا: أنّ المسيحيين في القرون التي أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإِسلام والمسلمين جرائم لا تقل عمّا فعله اليهود في هذا المجال.
إِنّ الحروب الصليبية الطّويلة والدّموية في القرون الماضية، والإِستفزازات الكثيرة التي يقوم بها الإِستعمار ضد الإِسلام والمسلمين اليوم غير خافية على أحد، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع المسيحيين، بل إِنّ الآية: (إِذا سمعوا ما أنزل إِلى الرّسول ...) وما بعدها دليل على إِنّها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
الآيتان الأخيرتان فيهما إِشارة إِلى مصير هاتين الطائفتين وإِلى عقابهما وثوابهما، أُولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات الله وأظهروا إِيمانهم بكل شجاعة وصراحة: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)(1).
وأمّا أُولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُولئك أصحاب الجحيم).
* * *
1 ـ «أثابهم» من الثواب، وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إِلى الإِنسان من جزاء أعماله.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتُحَرِّمُوا طَيِّبَـتِ مَآ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ(88) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـنِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمْ الاَْيْمَـنَ فَكَفَّـرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْكِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّام ذَلِكَ كَفَّـرَةُ أَيْمَـنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَـنَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ءَايَـتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)
ثمّة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها: في أحد الأيّام أخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة الإِلهية العظمى، فهزّ الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي، وعلى أثر ذلك عزم بعض أتباع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها، وأن ينصرف
بدلا من ذلك إِلى العبادة، فأقسم أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن ينام من الليل أقلّه ويصرفه في العبادة، وأقسم بلال أن يصوم أيّامه كلّها، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك إِتيان زوجته وأن ينقطع إِلى العبادة.
جاءت زوجة عثمان بن مظعون ـ وكانت إمرأة جميلة ـ يوماً إِلى عائشة فعجبت عائشة من حالها فقالت: ما لي أراك متعطلة؟
فقالت: لمن أتزين؟ فو اللّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فانّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء إِليهم وأخبرهم أن ذاك خلاف سنّته وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال:
«ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أمّا إِنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا إِتّخاذ الصوامع، وإِنّ سياحة أُمّتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ...».
فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأُمور وقالوا: يا رسول الله، لقد أقسمنا على ذلك، فماذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جواباً لهم(1).
لابدّ من القول بأنّ قَسَم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعاً لما فيه من غمط لحقوق زوجته، ولكن فيما يتعلق بقسم الإِمام علي(عليه السلام) بإحياء الليل بالعبادة، فإنّه كان أمراً مباحاً، ولكن المستفاد من الآيات هو أنّ الاُولى أن لا يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة، ولا يتعارض مع عصمة علي(عليه السلام)، لأننا نقرأ بما يشبه ذلك بالنسبة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الاُولى من سورة التحريم: (يا أيّها
1 ـ ما ذكر أعلاه في سبب النّزول، قسم منه مأخوذ من تفسير علي بن إبراهيم، وقسم من تفسير مجمع البيان وتفاسير أُخرى.
النّبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك).
في هذه الآية والآيات التّالية لها مجموعة من الأحكام الإِسلامية المهمّة، بعضها يشرع لأوّل مرّة، وبعض آخر جاء توكيداً وتوضيحاً لأحكام سابقة وردت في آيات اُخرى من القرآن، لأنّ هذه السورة ـ كما سبق أن قلنا ـ نزلت في أواخر عمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لابدّ من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.
في الآية الاُولى إِشارة إِلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإِلهية، فنهاهم الله عن ذلك قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)(1).
إِنّ ذكر هذا الحكم، مع أخذ سبب النّزول بنظر الإِعتبار، قد يكون إِشارة إِلى أنّه إِذا كان في الآيات السابقة شيء من الثناء على فريق من علماء المسيحية ورهبانها لتعاطفهم مع الحقّ والتسليم له، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات، وليس للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك، فبذكر هذا الحكم يعلن الإِسلام صراحة إِستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمّة شرح أوفى لهذا الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد: (... ورهبانية ابتدعوها).
ثمّ لتوكيد هذ الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك (ولا تعتدوا إِنّ الله لا يحبّ المعتدين).
وفي الآية التي تليها آخر للأمر، إِلاّ أنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم، وفي هذه الآية أمر بالإِنتفاع المشروع من الهبات الإِلهية، فيقول: (وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيباً).
1 ـ في معنى «الحلال» و«الطيب» أنظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير.
والشرط الوحيد لذلك هو الإِعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي أنّ إِيمانكم بالله يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإِعتدال والتقوى.
هناك إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّ الأمر بالتقوى يعني إِن تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة، فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإِنسان حد الإِعتدال من جميع الجهات.
والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإِنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أنّ القسم نوعان:
فالاُولى: هو القسم اللغو، فيقول: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).
في تفسير الآية (225) من سورة البقرة ـ التي تتناول موضوع عدم وجود عقاب على اللغو في الأيمان ـ قلنا: إِنّ المقصود باللغوّ في الأيمان ـ كما يقول المفسّرون والفقهاء ـ الأيمان التي ليس لها هدف معين ولا تصدر عن وعي وعزم إِرادي، وإِنما هي قسم يحلف به المرء من غير تمعن في الأمر فيقول: والله وبالله، أو لا والله ولا بالله، أو إِنّه في حالة من الغضب والهياج يقسم دون وعي.
ويقول بعضهم: إنّ الإِنسان إِذا كان واثقاً من أمر فاقسم به، ثمّ ظهر أنّه قد أخطأ، فقسمه ـ يعتبر أيضاً ـ من نوع اللغو في الأيمان، كأن يتيقن أحدهم من خيانة زوجته على أثر سعاية بعض الناس ووشايتهم، فيقسم على طلاقها، ثمّ يتّضح له أن ما سمعه بحقّها كان كذباً وافتراء، فإِن قسمه ذاك لا إِعتبار له، إِننا نعلم أيضاً أنّه بالإِضافة إِلى توفر القصد والإِرادة والعزم في القسم الجاد، يجب أن يكون محتواه غير مكروه وغير محرم، وعليه إِذا أقسم أحدهم مختاراً أن يرتكب عملا محرماً أو مكروهاً، فإن قسمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به، ويحتمل أن يكون مفهوم «اللغو» في هذه الآية مفهوماً واسعاً يشمل هذا النوع من الأيمان أيضاً.
والقسم الثّاني: هو القَسَم الجاد الإِرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إِذا لم يف به الإِنسان: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان).
كلمة «العقد» تعني في الأصل ـ كما قلنا في بداية سورة المائدة ـ جمع أطراف الشيء جمعاً محكماً.
ومنه تسمية ربط طرفي الحبل بـ«العقدة» ثمّ انتقل هذا المعنى إِلى الأُمور المعنوية، فأطلق على كل إِتفاق وعهد اسم العقد، فعقد الأيمان ـ كما في الآية ـ يعني التعهد بكل جد وعزم وتصميم على أمر ما بموجب القسم.
بديهي أن الجد وحده في القسم لا يكفي لصحته، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه ـ كما قلنا ـ وأن يكون أمراً مباحاً في الأقل، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم الله لا قيمة له.
وعليه إِذا أقسم إِمرؤ بالله أن يعمل عملا محموداً، أو مباحاً على الأقل، فيجب عليه أن يعمل بقسمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.
وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:
الاُولى: (فكفارته إِطعام عشرة مساكين)، ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إِلى أي نوع من الطعام الدنيء والقليل، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: (من أوسط ما تطعمون أهليكم).
ظاهر الآية يدل على النوعية المتوسطة، ولكن يحتمل أنّه إِشارة إِلى الكمية والكيفية كليهما، فقد جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه الحد الوسط من الكيفية، وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه الحدّ الوسط من الكمية، الأمر الذي يدل على أن المطلوب هو الحد الوسط من كليهما(1).
1 ـ «نور الثقلين»، ج 1، ص 666 وتفسير «البرهان»، ج 1، ص 496.
ولا حاجة للقول بأنّ «الحدّ الوسط» سواء في الكمية أو الكيفية، يختلف بإختلاف المدن والقرى والأزمنه.
وقد إِحتمل بعضهم تفسيراً آخر للأوسط، وهو أنّه يعني الجيد الرفيع، وهما من معاني «الأوسط» كما نقرأ في الآية (28) من سورة القلم: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون).
الثّانية: (أو كسوتهم).
من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، لذلك ورد في بعض الرّوايات أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) بيّن أنّ المقصود بالكسوة في هذه الآية قطعتا اللباس (الثوب والسروال)، أمّا الرواية المنقولة عن الإِمام الباقر(عليه السلام)بأن ثوباً واحداً يكفي، فربّما تكون إِشارة إِلى الثوب العربي الطويل المعروف والذي يكسو الجسم كلّه، أمّا بشأن النسوة فلا شك أنّ ثوباً واحداً لا يكفي، بل لابدّ من غطاء للرأس والرقبة، وهذا هو الحدّ الأدنى لكسوة المرأة لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً بإختلاف الفصول(1) والأمكنة والأزمنة.
أمّا من حيث الكيفية، وهل يكفي الحد الأدنى، أم ينبغي مراعاة الحد الأوسط؟ فإن للمفسرين رأيين في ذلك:
1 - إن كل كسوة تكفي إِذا أخذت الآية على إِطلاقها.
2 - إِنّه ما دمنا قد راعينا الحدّ الأوسط في الإِطعام، فلابدّ أن نراعي هذا الحد في الكساء أيضاً، غير أن الرأي الأوّل أكثر إِنسجاماً مع إِطلاق الآية.
الثّالثة: (أو تحرير رقبة).
ثمّة كلام بين الفقهاء والمفسّرين عمّا إِذا كانت الرقبة المحررة يجب أن تكون مسلمة، أو أنّ عتق أي عبد يكفي؟ لذلك ينبغي الرجوع إِلى الكتب الفقهية في ذلك،
1 ـ ثمّة حديث بهذا الشأن عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أو الإِمام الصادق(عليه السلام) أنظر تفسير «البرهان»، ج 1، ص 496.
وإِن كانت الآية مطلقة في الظاهر.
وهذا ما يدل على أنّ الإِسلام يتوسل بطرق مختلفة لتحرير العبيد، أمّا في الوقت الحاضر حيث يبدو أنّه لا وجود للرق، فإنّ على المسلمين أن يختاروا واحدة من الكفارتين المتقدمتين.
ليس ثمّة شك في أنّ هذه المواضيع الثلاثة متباينة من حيث قيمتها تبايناً كبيراً، ولعل القصد من هذا التباين هو حرية الإِنسان في إِختيار الكفارة التي تناسبه وتناسب إِمكاناته المادية.
ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام).
إِذن، فصيام ثلاثة أيّام مقصور على الذين لا قدرة لهم على تحقيق أي من الكفارات الثلاث السابقة، ثمّ يؤكّد القول ثانية: (ذلك كفارة أيمانكم إِذا حلفتم).
ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه، يقول تعالى: (واحفظوا أيمانكم).
وبعبارة أُخرى: إنّ الإِلتزام بالقَسَم واجب تكليفي، وعدم تنفيذه حرام، والكفارة تأتي بعد الرجوع عن القَسَم.
في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون).
* * *
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالاَْزْلَـمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(91) وَأَطِيعُوااللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(92)
تذكر التفاسير الشيعية والسنّية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الاُولى تكاد تكون متشابهة، من ذلك أنّه جاء في تفسير «الدر المنثور» عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: إِنّ هذه الآية قد نزلت بشأني. كان أنصاري قد أعد طعاماً دعانا إِليه مع جمع من الناس، فتناولوا الطعام وشربوا الخمر، وكان هذا قبل تحريمها في الإِسلام، وعندما صعدت النشوة إِلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم الكلام شيئاً فشيئاً حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على أنفي فشجه فقمت إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحكيت له ما جرى، فنزلت الآية المذكورة.
وفي «مسند أحمد» و«سنن أبي داود» و«النسائي» و«الترمذي» أنّ عمر (وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير «في ظلال القرآن» ج 3، ص 33) كان يدعو الله أن ينزل حكماً واضحاً في الخمر، وعندما نزلت الآية (219) من سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر ...) قرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه ظل يكرر دعاءه ويطلب مزيداً من التوضيح حتى نزلت الآية (43) من سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى) فقرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أيضاً، غير أنّه إِستمر في دعاءه، حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة الحكم بشكل كامل، وعندما قرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر، فقال: انتهينا انتهينا(1)!
سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية (43) من سورة النساء، إِنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإِسلام كانت منتشرة إِنتشاراً أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر والخمر والغزو.
ويستفاد من بعض الرّوايات، أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإِقلاع عنها كان شاقّاً على بعض المسلمين، حتى قالوا: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر(2)!
من الواضح أنّ الإِسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والإِجتماعية بنظر الإِعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم، لذلك إِتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإِعداد الأفكار والأذهان لإِقتلاع
1 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 50.
2 ـ نفس المصدر، ج 7، ص 51.
هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم وعروقهم، ففي أوّل الأمر وردت إِشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، كما في الآية (67) من سورة النحل: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً).
فهنا «سكر» وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب، قد وضع في قبال الرزق الحسن، فاعتبره شراباً غير طيب بخلاف الرزق الحسن، إِلاّ أنّ تلك العادة الخبيثة ـ عادة معاقرة الخمرة ـ كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإِشارات، ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانباً من دخلهم الإِقتصادي لذلك، عندما هاجر المسلمون إِلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإِسلامية، نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الاُولى، لكي تهيىء الأذهان أكثر إِلى التحريم النهائي، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إِثمّ كبير ومنافع للناس وإِثمهما أكبر من نفعهما).
فها هنا إِشارة إِلى منافع الخمر الإِقتصادية لبعض المجتمعات، كالمجتمع الجاهلي، مصحوبة بإشارة إِلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيراً منافعها الإِقتصادية.
ثمّ في الآية (43) من سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) يأمر الله المسلمين أمراً صريحاً بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى دركوا ما يقولونه أمام الله.
واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز، بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة، أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئاً صراحة في غير مواقع الصّلاة.
إِنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإِسلام واستعدادهم الفكري لإِستئصال هذه المفسدة الإِجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم، أصبحا
سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات، وهذه الآية هي موضوع البحث.
وإِنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة:
1 ـ فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: (يا أيّها الذين آمنوا) أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإِيمان.
2 ـ استعمال «إِنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.
3 ـ وضعت الخمر والقمار إِلى جانب الأنصاب(1) (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضرراً عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «شارب الخمر كعابد الوثن»(2).
4 ـ الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والإِستقسام والأزلام (ضرب من اليانصيب)(3) كلها قد إِعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: (إِنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس).
5 ـ وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان: (من عمل الشيطان).
6 ـ وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإِتباع: (فاجتنبوه).
لابدّ من التنوية بأنّ لتعبير «فاجتنبوه» مفهوماً أبعد، إِذ أنّ الإِجتناب يعني الإِبتعاد والإِنفصال وعدم الإِقتراب، ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر.
7 ـ وفي الختام يقول تعالى أن ذلك: (لعلكم تفلحون) أي لا فلاح لكم بغير
1 ـ انظر المجلد الثّالث، من هذا التّفسير بشأن الأنصاب والنصيب.
2 ـ هامش تفسير الطبري، ج 7، ص 31، وقد جاء هذا الحديث في تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 69 عن الإِمام الصادق(عليه السلام).
3 ـ انظر شرح كيفية الأزلام في المجلد الثالث من هذا التّفسير.
ذلك.
8 ـ وفي الآية التّالية لها يعدد بعضاً من أضرار الخمر والقمار، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم: (إِنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصّلاة).
9 ـ وفي ختام هذه الآية يتقدم بإِستفهام تقريري: (فهل أنتم منتهون)؟
أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنب هذين الإِثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر (كما يقول مفسروا أهل السنة) والذي كان ـ لهذا السبب ـ لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه، قال عندما سمع هذه الآية: إنتهينا، إنتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية.
10 ـ في الآية الثالثة التي تؤكّد هذا الحكم، يأمر المسلمين: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرّسول واحذروا).
ثمّ يتوعد المخالفين بالعقاب، وأنّ مهمّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هي الإِبلاغ: (فإن توليتم فاعلموا إِنّما على رسولنا البلاغ المبين).
على الرغم من أننا أشرنا في تفسير الآية (219) من سورة البقرة في المجلد الثّاني من هذا التّفسير إِشارة موجزة أضرار هاتين الآفتين الإِجتماعيتين، إِلاّ أنّنا لتوكيد الأمر ـ إِقتداء بالقرآن الكريم ـ نضيف هنا أُموراً أُخرى هي مجموعة من الإِحصاءات المختلفة كل واحدة منها تعتبر شهادة وافية تدل على عظم تلك الأضرار وعمق تأثيرها.
1 ـ في إِحصائية صدرت في بريطانيا بشأن الجنون الكحولي ومقارنته بالجنون العادي، جاء أنّه في مقابل (2249) مجنوناً بسبب الإِدمان على الخمر
هناك (53) مجنوناً فقط لأسباب مختلفة أُخرى(1).
2 ـ وفي إِحصاء آخر من أمريكا أنّ 85% من المصابين بأمراض نفسية هم من المدمنين على الخمر(2).
3 ـ يقول عالم إِنجليزي اسمه (بنتام): أنّ المشروبات الكحولية تحول أهالي الشمال إِلى أناس حمقى وبله، وأهالي الجنوب إِلى مجانين، ثمّ يضيف: إِنّ الدين الإِسلامي يحرم جميع أنواع المسكرات، وهذا واحد من مميزات الإِسلام(3).
4 ـ لو أجري إِحصاء عن السكارى الذين إِنتحروا، أو ارتكبوا الجرائم وحطموا العوائل، لكان لدينا رقم رهيب(4).
5 ـ في فرنسا يموت كلّ يوم 440 شخصاً ضحية للخمور(5).
6 ـ تقول إِحصائية أُخرى من أمريكا: أنّ عدد المرضى النفسانيين خلال سنة واحدة بلغ ضعف قتلاها في الحرب العالمية الثّانية، ويرى العلماء الأمريكان أنّ السببين الرئيسيين لهذا هما المشروبات الكحولية والتدخين(6).
7 ـ جاء في إِحصائية وضعها عالم يدعى (هوگر) نشرها في مجلة (العلوم) بمناسبة عيد تأسيسها العشرين، قال فيها: أنّ 60% من القتل المتعمد، 75% من الضرب والجرح و 30% من الجرائم الأخلاقية (بما فيها الزنا بالمحارم!) و20% من جرائم السرقة، سببها المشروبات الكحولية، وعن هذا العالم نفسه أنّ 40% من الأطفال المجرمين قد ورثوا آثار الكحول(7).
![]() |
![]() |
![]() |