![]() |
![]() |
![]() |
6 ـ وإِذا تركنا كل هذا جانباً، فاننا قد نشك في كل شيء إِلاّ في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإِسلام ورسول الإِسلام، وكانت حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها.
ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنّه عندما حاصرت قريش النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين محاصرة إِقتصادية وإِجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله، وسار ببني هاشم إِلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه، وقد بلغت تضحياته حداً أنّه، فضلا عن بنائه الأبراج الخاصّة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم، كان في كل ليلة يوقظ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من نومه ويأخذه إِلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه الحبيب إِليه علياً(عليه السلام) في مكانه، فإِذا ما قال له ابنه علي(عليه السلام): يا أبة، إِنّ هذا سيوردني موارد الهلكة، أجابه أبو طالب(عليه السلام): ولدي عليك بالصبر، كل حي إِلى ممات، لقد
1 ـ كتاب «الحجة» و«الدرجات الرفيعة» نقلا عن «الغدير» ج 8، ص 380.
جعلت فداء ابن عبدالله الحبيب، فيرد علي(عليه السلام): يا أبه، ما قلت لك ذلك خوفاً من الموت في سبيل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إِلى جانب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
إِنّنا نرى أن من يترك التعصب، ويقرأ ـ بغير تحيز ـ ما كتبه التّأريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشداً:
ولولا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصاً وقاماً
فذاك بمكّة آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما(2)
* * *
1 ـ الغدير، ج 7، ص 357 ـ 358 بتصرف.
2 ـ الغدير، ص 86.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَـلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بَأَيَـتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ(27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ(28)
في هاتين الآيتين إِشارة إِلى بعض مواقف عناد المشركين، وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون، أو تكون حالهم ـ على الأقل ـ عبرة لغيرهم، فتقول الآية: (ولو ترى إِذ وُقفوا على النّار ...)(1) لتبيّن لك مصيرهم السيىء المؤلم.
إِنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنّهم يصرخون: ليتنا نرجع إِلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم، ونصدق آيات ربّنا، ونقف إِلى جاب المؤمنين: (فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب
1 ـ «لو» شرطية، وقد حذف الجواب لوضوحه.
بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين)(1).
الآية التّالية تؤكّد أن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب، وإِنّما تمنوه لأنّهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه ـ من عقائد ونيات وأعمال سيئة ـ مكشوفاً أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل).
غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إِنّها قد حصلت لظروف طارئة، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إِلى هذه الدنيا مرّة أُخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه) لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم (وإنّهم لكاذبون).
1 ـ يتبيّن من ظاهر (بدا لهم) أنّهم لم يكونوا يخفون كثيراً من الحقائق عن الناس فحسب، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة، وليس في هذا ما يدعو إِلى العجب، فالإِنسان كثيراً ما يخفي عنه نفسه الحقائق ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئاً من الراحة الكاذبة.
إِنّ قضية مخادعة النفس وإِخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها البحوث الخاصّة بنشاط الضمير، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم يتنبهون إِلى أضرار ذلك عليهم، ولكنّهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن تنغصها عليهم ضمائرهم ـ يحاولون إِخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.
غير أنّ بعض المفسّرين ـ دون الإِلتفات إِلى هذه النكتة ـ فهموا من (لهم) ما
1 ـ ينبغي الإِنتباه إِلى نقطة مهمّة في الآية: في القراءة المشهورة التي بين أيدينا «نردّ» مرفوعة و«ولانكذب» و«نكون» منصوبتان، مع أنّ الظاهر يدل على أنّهما معطوفتان على «نردّ» وخير تعليل لذلك هو القول بأنّ «نردّ» جزء من التمني، و«ولا نكذب» جواب التمني، و«الواو» هنا بمنزلة «الفاء» ومعلوم أن جواب التمني إذا وقع بعد الفاء كان منصوباً، إن مفسرين كالفخر الرازي والمرحوم الطبرسي وأبي الفتوح الرازي أوردوا تعليلات أُخرى، ولكن الذي قلناه أوضح الوجوه، وعليه فهذه الآية تكون شبيهة بالآية (58) من سورة الزمر: (لو أنّ لي كرةً فأكون من المحسنين).
ينطبق على الأعمال التي أخفاها المشركون عن الناس (تأمل بدقّة).
2 ـ قد يقال أنّ التمني ليس من الأُمور يصح فيها أن تكون صادقة أو كاذبة، فهي مثل «الإِنشاء» الذي لا يحتمل الصدق والكذب، إِلاّ أنّ هذا القول بعيد عن الصواب، وذلك لأنّ «الإِنشاء» كثيراً ما يصاحبه «الإِخبار» ممّا يحتمل الصدق والكذب، فقد يقول قائل أتمنى أن يعطيني الله مالا وفيراً فاعينك، هذا من باب التمني بالطبع، ولكن مفهومه هو أنّه إِذا أعطاني الله مالا وفيراً فاني سوف أُساعدك، وهذا مفهوم خبري يحتمل أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإِذا كنت تعرف بخل المتمني وضيق نظرته فأنت تعرف أنّه كاذب حتى إِن أعطاه الله ما يشاء من المال (هذا الموضوع مشهور كثيراً في الجمل الإِنشائية).
3 ـ إِنّ سبب ذكر الآية أنّهم لو عادوا إِلى الدنيا لعادوا إِلى تكرار أعمالهم السابقة هو أن كثيراً من الناس عندما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم، أي حينما يصلون إِلى مرحلة الشهود، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنياً ويتمنون لو يتاح لهم أن يجبروا ما كسروا، إِلاّ أنّ هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج الأعمال عياناً، وتعرض لكل إِنسان يشهد بأُم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب، ولكن ما أن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه، ويعود إِلى سابق عهده.
شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك، فنسوا كل شيء سوى الله، ولكن ما أن هدأت العاصفة ووصلوا إِلى ساحل الأمان حتى عاد كل شيء إِلى ما كان عليه(1).
4 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ هذه الحالات تخص جمعاً من عبدة الأصنام الذين مرّت الإِشارة إِليهم في الآيات السابقة لا كلهم، لذلك كان لابدّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يواصل نصح الآخرين لإِيقاظهم وهدايتهم.
* * *
1 ـ يونس، 22.
وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَـحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَسَآءَ مَايَزِرُونَ(31) وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(32)
الأوّل: أنّها إِستئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلبين الذين يتمنون ـ عندما يشاهدون أهوال يوم القيامة ـ أن يعودوا إِلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم، ولكن القرآن يقول إِنّهم إِذا رجعوا لا يتجهون إِلى جبران ما فاتهم، بل يستمرون على ما كانوا عليه، وأكثر من ذلك فإِنّهم يعودون إِلى إِنكار يوم القيامة (وقالوا إِن هي إِلاّ حياتنا الدّنيا وما نحن بمبعوثين)(1).
الاحتمال الثّاني: أنّ الآية تشرع بكلام جديد يخصّ نفراً من المشركين ممّن
1 ـ بحسب هذا الإِحتمال «وقالوا» معطوفة على «عادوا» وهذا ما يقول به صاحب تفسير «المنار».
كفروا بالمعاد كلياً، فقد كان بين مشركي العرب فريق لا يؤمنون بالمعاد، وفريق آخر يؤمنون بنوع من المعاد.
الآية التّالية تشير إِلى مصيرهم يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله: (ولو ترى إِذ وقفوا على ربّهم قال أليس هذا بالحقّ)، فيكون جوابهم أنّهم يقسمون بأنّه الحقّ: (قالوا بلى وربّنا).
عندئذ: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) لا شك أنّ «الوقوف بين يدي الله» لا يعني إِنّ لله مكاناً، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء، كما يقول بعض المفسّرين، أو أنّه من باب المجاز، مثل قول الإِنسان عند أداء الصّلاة أنّه يقف بين يدي الله وفي حضرته.
الآية التي بعدها فيها، إِشارة إِلى خسران الذين ينكرون المعاد، فتقول: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، إِنّ المقصود بلقاء الله هو ـ كما قلنا من قبل ـ اللقاء المعنوي والإِيمان الشهودي (الشهود الباطني)، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة والحساب والجزاء.
ثمّ تبيّن الآية أنّ هذا الإِنكار لن يدوم، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة، حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم، عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصروا في حق هذا اليوم: (حتى إِذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها).
و«الساعة» هي يوم القيامة، و«بغتة» تعني فجأة وعلى حين غرة، إِذ تقوم القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى الله تعالى، وسبب إِطلاق «الساعة» على يوم القيامة إمّا لأنّ حساب الناس يجري سريعاً فيها، أو للإِشارة إِلى فجائية حدوث ذلك، حيث ينتقل الناس بسرعة خاطفة من عالم البرزخ إِلى عالم القيامة.
و«التحسر» هو التأسف على شيء، غير أنّ العرب عند تأثرهم الشديد يخاطبون «الحسرة» فيقولون: «يا حسرتنا»، فكأنّهم يجسدونها أمامهم ويخاطبونها.
ثمّ يقول القرآن الكريم (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم).
«الأوزار» جمع «وزر» وهو الحمل الثقيل، وتعني الأوزار هنا الذنوب، ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلا على تجسد الأعمال، لأنّها تقول إِنّهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم، ويمكن أيضاً أن يكون الاستعمال مجازياً كناية عن ثقل حمل المسؤولية، إِذ أنّ المسؤوليات تشبه دائماً بالحمل الثقيل.
وفي آخر الآية يقول الله تعالى: (ألا ساء ما يزرون).
في هذه الآية جرى الكلام على خسران الذين ينكرون المعاد، والدليل على هذا الخسران واضح، فالإِيمان بالمعاد، فضلا عن كونه يعد الإِنسان لحياة سعيدة خالدة، ويحثه على تحصيل الكمالات العلمية والعملية، فان له تأثيراً عميقاً على وقاية الإِنسان من التلوث بالذنوب والآثام، وهذا ما سوف نتناوله ـ إِن شاء الله ـ عند بحث الإِيمان بالمعاد وأثره البناء في الفرد والمجتمع.
* * *
ثمّ لبيان نسبة الحياة الدنيا إِلى الحياة الآخرة، يقول الله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ لعب ولهو) فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة، ولا يطلبون غيرها، هم أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كلّه في اللعب واللهو غافلين عن كل شيء.
إِنّ تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إِلى كون اللهو واللعب من الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية، سواء فاز اللاعب أم خسر، إِذ كل شيء يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.
وكثيراً ما نلاحظ أنّ الأطفال يتحلقون ويشرعون باللعب، فهذا يكون «أميراً» وذاك يكون «وزيراً» وآخر «لصاً» ورابع يكون «قافلة»، ثمّ لا تمضي ساعة حتى ينتهي اللعب ولا يكون هناك «أمير» ولا «وزير» ولا «لص» ولا
«قافلة»! أو كما يحدث في المسرحيات أو التمثيليات، فنشاهد مناظر للحرب أو الحبّ أو العداء تتجسد على المسرح، ثمّ بعد ساعة يتبدد كل شيء.
والدنيا أشبه بالتمثيلية التي يقوم فيها الناس بتمثيل أدوار الممثلين، وقد تجتذب هذه التمثيلية الصبيانية حتى عقلاءنا ومفكرينا، ولكن سرعان ما تسدل الستارة وينتهي التمثيل.
«لعب» على وزن «لزج» من «اللعاب» على وزن «غبار» وهو الماء الذي يتجمع في الفم ويسيل منه، فإِطلاق لفظة «اللعب» على اللهو والتسلية جاء للتشابه بينه وبين اللعاب الذي يسيل دون هدف.
ثمّ تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا، فتقول: (وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون).
فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى أرفع، عالم يتعامل مع الحقيقة لا المجاز ومع الواقع لا الخيال، عالم لا يشوب نعمه الألم والعذاب، عالم كلّه نعمة خالصة لا ألم فيه ولا عذلب.
ولكن إدراك هذه الحقائق وتمييزها عن مغريات الدنيا الخداعة غير ممكن لغير المفكرين الذين يعقلون، لذلك إتجهت الآية إليهم بالخطاب في النهاية.
في حديث رواه هشام بن الحكم عن الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: «يا هشام إنّ اللّه وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: (وما الحياة الدّنيا إلاّ لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون)(1)
غني عن القول أنّ هدف هذه الآيات هو محاربة الانشداد بمظاهر عالم المادة ونسيان الغاية النهائية، أمّا الذين جعلوا الدنيا وسيلة للسعادة فهم يبحثون ـ في الحقيقة ـ عن الآخرة، لا الدنيا.
* * *
1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج1، ص711.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بِأَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ(33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَـهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِ اللهِ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ(34)
لا شك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب والتعنت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالغم والحزن، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويصبّره على ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط، كما جاء في هذه الآية: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون)، فاعلم أنّهم لا ينكرونك أنت، بل هم ينكرون آيات الله، ولا يكذبونك بل يكذبون الله: (فأنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).
ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى «رئيس» أنّ «مبعوثه» إِلى بعض الناس عاد غاضباً، فيقول له: «هوّن عليك، فان ما قالوه لك إِنّما كان موجهاً إِليّ، وإِذا
حصلت مشكلة فأنّا المقصود بها، لا أنت» وبهذا يسعى إِلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.
ثمّة مفسّرون يرون للآية تفسيراً آخر، لكن ظاهر الآية هو هذا الذي قلناه، ولكن لا بأس من معرفة هذا الاحتمال القائل بأن معنى الآية هو: إِنّ الذين يعارضونك هم في الحقيقة مؤمنون بصدقك ولا يشكون في صحة دعوتك، ولكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق، أو أنّ الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.
يتبيّن من كتب السيرة أنّ الجاهليين ـ بما فيهم أشدّ المعارضين للدّعوة ـ كانوا يعتقدون في أعماقهم بصدق الدعوة، ومن ذلك ما روي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: والله إِني لأعلم أنّه صادق، ولكنا متى كنّا تبعاً لعبد مناف! (أي أنّ قبول دعوته سيضطرنا إِلى اتباع قبيلته).
وورد في كتب السيرة أنّ أبا جهل جاء في ليلة متخفياً يستمع قراءة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في الوقت نفسه أبو سفيان والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوا إِلى الصباح، فلمّا فضحهم الصبح تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر ما جاء به، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلمّا كانت اليلة الثّانية جاء كل منهم ظاناً أنّ صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلمّا أصبحوا جمعتهم الطريق مرّة ثانية فتلاوموا، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، فلمّا كانت اللية الثالثة جاؤوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودا لمثلها، ثمّ تفرقوا فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: اخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد؟
قال: يا أبا ثعلبة، واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء، ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟
قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد المناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا (أي أعطوا الناس ما يركبونه) فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إِذا تجاثينا على الركب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.
وروي أنّه التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له: يا أبا الحكم، اخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب، فإِنّه ليس ها هنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إِنّ محمّداً لصادق وما كذب قط، ولكن إِذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنّبوة فماذا يكون لسائر قريش؟!(1)
يتبيّن من هذه الرّوايات وأمثالها أنّ كثيراً من أعداء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء كانوا في باطنهم يعترفون بصدق ما يقول، إِلاّ أنّ التنافس القبلي وما إِلى ذلك، لم يكن يسمح لهم بإعلان ما يعتقدون، أو لم تكن لديهم الشجاعة على ذلك.
إنّنا نعلم أنّ مثل هذا الإِعتقاد الباطني ما لم يصاحبه التسليم، لن يكون له أي أثر، ولا يُدخل الإِنسان في زمرة المؤمنين الصادقين.
الآية الثّانية تستأنف مواساة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن له حال من سبقه من الأنبياء، وتؤكّد له أنّ هذا ليس مقتصراً عليه وحده، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم مثل ذلك أيضاً: (ولقد كذّبت رسل من قبلك).
ولكنّهم صبروا وتحملوا حتى انتصروا بعون الله: (فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا) وهذه سنة إِلهية لا قدرة لأحد على تغييرها: (ولا مبدل لكلمات الله).
وعليه، فلا تجزع ولا تبتئس إِذا ما كذبك قومك وآذوك، بل اصبر على
1 ـ الرّوايات المذكورة مستقادة من تفسير «المنار» و«مجمع البيان» في ذيل الآية المذكورة.
معاندة الأعداء وتحمل أذاهم، واعلم أنّ الإِمدادات والألطاف الإِلهية ستنزل بساحتك بموجب هذه السنة، فتنتصر في النهاية عليهم جميعاً، وإِنّ ما وصلك من أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم وانتصارهم في النهاية، لهو شهادة بيّنة لك: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين).
تشير هذه الآية ـ في الواقع ـ إِلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إِلى مبادىء وتعاليم بناءة، وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الإِنتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادىء البناءة خطراً يتهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إِلاّ استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، ولا يتورعون حتى عن التوسل بالتكذيب والإِتهام، والحصار الإِجتماعي، والإِيذاء والتعذيب، والسلب والنهب، والقتل، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أُولئك المصلحين.
إِلاّ أنّ الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنة الإِلهية، تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك، إِلاّ أنّ شرط هذا الإِنتصار هو الصبر والمقاومة والثبات.
تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة «كلمات الله»، لأنّ الكلم والكلام في الأصل التأثير المدرك بإِحدى الحاستين، السمع أو البصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع، والكلم بحاسة البصر، وكلمته: جرحته جراحة بان تأثيرها، ثمّ كان توسع في إِطلاق «الكلمة» على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة والتعاليم.
* * *
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقَاً فِى الاَْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم بِأَيَة وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـهِلِينَ(35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36)
هاتان الآيتان استمرار لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) التي بدأت في الآيات السابقة لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم، وكان يود لو أنّه استطاع أن يهديهم جميعاً إِلى طريق الإِيمان بأية وسيلة كانت.
فيقول الله تعالى: (وإن كان كبُر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً فتأتيهم بآية)(1). أي إِذا كان إعراض هؤلاء المشركين يصعب ويثقل عليك، فشق أعماق الأرض أو ضع سلّماً يوصلك إِلى السماء للبحث عن آية ـ إن استطعت ـ ولكن اعلم أنّهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.
1 ـ جملة (إن استطعت ...) جملة شرطية جوابها محذوف، تقديره «إن استطعت ... فافعل ولكنّهم لا يمؤمنون».
«النفق» في الأصل «النقب» وهو الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ فيها، ومنه النفاق، وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، أي أنّ للمنافق سلوكاً ظاهراً وآخر خفياً.
في هذه الآية يخبر الله نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحقّ، لذلك فانّ أي مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.
ولكن لكيلا يظن أحد أنّ الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) أي لو أراد حملهم على الإِستسلام والرضوخ لدعوتك والإِيمان بالله لكان على ذلك قديراً.
غير أنّ الإِيمان الإِجباري لا طائل تحته، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الإِختيار والإِرادة، ففي حالة حرية الإِختيار وحدها يمكن تمييز «المؤمن» من «الكافر»، و«الصالح» من «غير الصالح» و«المخلص» من «الخائن» و«الصادق» من «الكاذب». أمّا في الإِيمان الإِجباري فلن يكن ثمّة اختلاف بين الطيب والخبيث، وعلى صعيد الإِجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها تماماً.
ثمّ يقول سبحانه لنبيّه: (فلا تكونن من الجاهلين)، أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم.
وما من شك أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع، تماماً كالذي نقوله نحن لمن فقد إبنه: لا تحزن فالدنيا فانية، سنموت جميعاً، وأنت ما تزال شاباً ولسوف ترزق بابن آخر، فلا تجزع كثيراً.
فلا ريب أنّ فناء دار الدنيا، أو كون المصاب شاباً ليسا مجهولين عنده،
ولكنها أُمور تقال للتذكير.
على الرّغم من أنّ هذه الآية من الآيات التي تنفي الإِجبار والإِكراه، فإِنّ بعض المفسّرين كالرّازي، يعتبرها من الأدلة على «الجبر» ويستند إِلى (ولو شاء ...) ويقول: يتّضح من هذه الآية أنّ الله لا يريد للكفار أن يؤمنوا! ولكنّه غفل عن أنّ الإِرادة والمشيئة في هذه الآية هما الإِجباريتان، أي أنّ الله لا يريد الناس أن يؤمنوا بالإِجبار والإِكراه، بل يريدهم أن يؤمنوا بإِختيارهم وإرادتهم، وعليه فانّ هذه الآية دليل قاطع يدحض مقوله «الجبريين».
في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول الآية (إِنّما يستجيب الذين يسمعون).
أمّا الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فأنّهم لا يؤمنون حتى يبعثهم الله يوم القيامة: (والموتى يبعثهم الله ثمّ إِليه يرجعون)(1).
يومئذ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون، إِلاّ أنّ إيمانهم ذاك لا ينفعهم شيئاً، لأنّ رؤية مناظر يوم القيامة العظيمة تحمّل كل مشاهد على الإِيمان فيكون نوعاً من الإِيمان الإِضطراري.
ومن نافلة القول أنّ «الموتى» في هذه الآية لا تشير إِلى الموت الجسماني في الأفراد، بل الموت المعنوي، فالحياة والموت نوعان: حياة وموت عضويان، وحياة وموت معنويان، كذلك أيضاً السمع والبصر، عضويان ومعنويان فكثير ما نصف المبصرين السامعين الأحياء الذين لا يدركون الحقائق بأنّهم عمي أو صم أو حتى أموات، إِذ إِنّ رد الفعل الذي يصدر عادة من الإِنسان الحي البصير السامع إزاء الحقائق لا يصدر من هؤلاء.
أمثال هذه التعبيرات كثيرة في القرآن، ولها عذوبة، وجاذبية خاصّة، بل إِنّ
1 ـ من حيث الاعراب «الموتى» مبتدأ، و«يبعثهم الله» خبر، ومعنى ذلك هو أنّ هؤلاء لا يطرأ على حالهم أي تغيير حتى يبعثهم الله يوم القيامة فيرون الحقائق.
القرآن لا يعير أهمية كبيرة للحياة المادية البايلوجية التي تتمثل في «الأكل والنوم والتنفس» وإِنّما يعني أشد العناية بالحياة الإِنسانية المعنوية التي تتمثل في تحمل التكاليف والمسؤولية والإِحساس واليقظة والوعي.
لابدّ من القول أيضاً: إِنّ المعنوي من العمى والصمم والموت ينشأ من ذات الأفراد، لأنّهم ـ لإِستمرارهم في الإِثم وإِصرارهم عليه وعنادهم ـ يصلون إِلى تلك الحالة.
إِنّ من يغمض عينيه طويلا يصل إِلى حالة يفقد فيها تدريجياً قوة البصر، وقد يبلغ به الأمر إِلى العمى التام، كذلك الذي يغمض عين روحه عن رؤية الحقائق طويلا يفقد بصيرته المعنوية شيئاً فشيئاً.
* * *
وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(37)
تشير هذه الآية إِلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون، فقد جاء في بعض الرّوايات أنّه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته، قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه، إِذا كنت صادقاً فيما تقول، فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح، يقول القرآن بهذا الشأن: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربّه).
من الواضح أنّ أُولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة، لأنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي، وحتى لو لم يأت بمعجز سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إِلى أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك، لكان فيه الكفاية لإِثبات نبوته، غير أنّ هؤلاء المزيفين كانوا يبحثون عن عذر يتيح لهم إِهانة القرآن من جهة، والتملص من قبول دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أُخرى، لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات، ولو أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِستجاب لمطاليبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم (هذا سحر مبين)،
كما جاء في آيات أُخرى من القرآن، لذلك يأمر الله رسوله أن: (قل إِنّ الله قادر على أن ينزل آية) إِلاّ أنّ في ذلك أمراً أنتم عنه غافلون، وهو أنّه إِذا حقق الله مطاليبكم التي يدفعكم إِليها عنادكم، ثمّ بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز، فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعاً، وتفنون عن آخركم، لأنّ ذلك سيكون منتهى الإِستهتار بمقام الأُلوهية المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته، ولهذا تنتهي الآية بالقول: (ولكن أكثرهم لا يعلمون).
إِشكال:
يتبيّن من تفسير «مجمع البيان» أنّ بعض مناوئي الإِسلام قد اتّخذوا من هذه الآية ـ منذ قرون عديدة ـ دليلا يستندون إِليه في الزعم بأنّه لم تكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أية معجزة، لأنّه كلما طلبوا منه معجزة كان يكتفي بالقول: إِنّ الله قادر على ذلك، ولكن أكثركم لا تعلمون، وهذا ما نهجه بعض الكتاب المتأخرين فأحيوا هذه الفكرة البالية مرّة أُخرى.
الجواب:
أوّلا: يبدو أنّ هؤلاء لم يمعنوا النظر في الآيات السابقة والتّالية لهذه الآية، وإِلاّ لأدركوا أنّ الكلام يدور مع المعاندين الذين لا يستسلمون للحق مطلقاً، وإِنّ موقف هؤلاء هو الذي منع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من إِجابة طلبهم، فهل نجد في القرآن أنّ طلاب الحقيقة سألوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق لهم معجزة فامتنع؟ الآية (111) من هذه السورة نفسها تتحدث عن أمثال هؤلاء فتقول: (ولو أننا نزلنا إِليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا ما كان ليؤمنوا).
ثانياً: تفيد الرّوايات أنّ هذا الطلب تقدم به بعض رؤساء قريش، وكان هدفهم من ذلك إِهانة القرآن والإِعراض عنه، فمن الطبيعي أن لا يستجيب
رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لطلب يكون دافعه بهذا الشكل.
ثالثاً: إِنّ أصحاب هذا الإِشكال قد أغفلوا سائر آيات القرآن الأُخرى التي تصرّح بأنّ القرآن نفسه معجزة خالدة، وكثيراً ما دعت المخالفين إِلى معارضته، وأثبتت ضعفهم وعجزهم عن ذلك، كما أنّهم نسوا الآية الأُولى من سورة الإِسراء التي تقول بكل وضوح: إنّ الله أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.
رابعاً: ليس من المعقول أن يكون القرآن مليئاً بذكر معاجز الأنبياء وخوارق عاداتهم ويدّعي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنّه خاتم الأنبياء وأرفعهم منزلة، وأنّ دينه أكمل من أديانهم ثمّ ينكص عن إِظهار معجزة إِستجابة لطلب الباحثين عن الحقّ والحقيقة، أفلا يكون هذا نقطة غامضة في دعوته في نظر المحايدين وطلاب الحقيقة؟
فلو لم تكن له أية معجزة، لكان عليه أن يسكت عن ذكر معاجز الأنبياء الآخرين لكي يتمكن من تمرير خطّته ويغلق طريق الإِعتراض والإِنتقاد عليه، ولكنّه لا يفتأ يتحدث عن إِعجاز الآخرين ويعدد خوارق العادات عند موسى بن عمران وعيسى بن مريم وإِبراهيم وصالح ونوح(عليهم السلام)، وهذا دليل بيّن على ثقته التامّة بمعاجزه، إِنّ كتب التّأريخ الإِسلامي والرّوايات المعتبرة ونهج البلاغة تشير بما يشبه التواتر إِلى خوارق عادات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
![]() |
![]() |
![]() |