![]() |
![]() |
![]() |
يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإِسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة، إِذ أنّ النسخ إِنّما يشمل جانباً من أحكام تلك الشرائع لا الأُصول العامّة للدعوة.
ثمّ يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للنّاس إِنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجراً لقاء عملية تبليغ الرسالة: (قل لا أسألكم عليه أجراً).
ليس الإِقتداء بالأِنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب عليّ عدم طلب الأجر، بل أنّ هذا الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إِلهية أضعها بين أيديكم، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.
ثمّ إِنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إنْ هي إِلاّ إِيقاظ وتوعية للناس جميعاً: (إن هو إِلاّ ذكرى للعالمين).
إِنّ النعم العامّة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أُمور عامّة وعالمية، لا تباع ولا تشترى، ولا أجر يعطى لقاءها، هذه الهداية أو الرسالة ليست خاصّة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها، (ممّا قيل في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأُخرى، وبين ما
سبقها من آيات).
كما يتّضح من هذه الآية الأخيرة أنّ الدين الإِسلامي ليس قومياً ولا إِقليمياً، وإِنّما هو دين عالمي عام.
* * *
وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَر مِّن شَىْء قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)
روي عن ابن عباس أنّ جمعاً من اليهود قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد أحقاً أنزل الله عليك كتاباً؟ فقال: نعم، فقالوا: قسماً بالله إِنّه لم ينزل عليك كتاباً من السماء(1).
هنالك أقوال أُخرى في سبب نزول هذه الآية، ولكنّنا سنعرف فيما بعد أنّ ما قلناه أقرب وأنسب.
1 ـ تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.
يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين، ولمّا لم تكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباحثات مع اليهود في مكّة، بل بدأت في المدينة، وهذا السورة مكّية، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة، إِلاّ أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا في القرآن ما يشابهه.
لإِتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإِجمالي، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية، وعمّا تستهدفه.
في البداية تقول الآية: إِنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد: (وما قدروا الله حق قدره إِذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء).
فيأمر الله رسوله أن (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس).
ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم: (تجعلونه في قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً).
إِنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أُموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم).
وفي ختام الآية يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر الله وأن يترك أُولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم: (قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون).
إِذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها، يكون المعنى أنّ جمعاً من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.
ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود ـ اتباع التّوراة ـ نزول كتاب سماوي؟ نعم، وسيزول عجبك إِذا علمت المسألة التّالية: لو أمعنا النظر في العهد الجديد
(الأنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إِلى المسحة السماوية، أي أنّها ليست خطاباً موجهاً من الله إِلى البشر، بل إِنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح(عليهما السلام) وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك، إِذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أُخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل، بل سرداً لحوادث ماضية، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟!
كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أُناس عندهم أخبار عن الوحي، فاعتبروها كتباً مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الإِعتماد عليها.
بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أُسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إِلى النّبي وإِلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإِنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إِن كان الله قد أنزل عليه ـ حقاً ـ كتاب، ثمّ أنكروا هذا الأمر كلياً ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد، حتى على موسى.
غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا: إِنّكم ـ أنفسكم ـ تعتقدون أن ألواحاً ومواضيع قد نزلت على موسى، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتاباً سماوياً إلاّ أنّكم تؤمنون ـ على الأقل ـ بأنّ شيئاً مثل هذا قد نزل من قبل الله، وأنتم تظهرون قسماً منه وتخفون كثيراً منه: وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إِمكان إِنكار اليهود نزول كتاب سماوي.
أمّا إِذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الله يبيّن
لهم منطقياً أنّهم لا يستطيعون إِنكار ذلك كلياً بالنظر لنزول التّوراة على موسى، وأنّ المشركين ـ وإِن لم يدينوا بدين اليهود ـ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإِبراهيم ـ وموسى أيضاً على أقوى احتمال ـ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم، لذلك فهم عند ظهور نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لجأوا إِلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن إِمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء، لما لجأوا إِليها يطلبون ما طلبوا، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب)، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضاً.
لكن التّفسير الأوّل أقرب إِلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر.
هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بضع نقاط:
1 ـ «قراطيس» جمع «قرطاس» من أصل يوناني حسب قول بعضهم، وهو «ما يكتب فيه» كما يقول «الراغب» في «مفرداته» وبناءاً على ذلك فإِن الورق العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة قدمياً، تنضوي تحت هذه الكلمة.
2 ـ قد يسأل سائل: لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإِلهي على القراطيس، وهل في تلك ما يوجب الذم؟
وجواباً على ذلك نقول: إِنّ الذم لم يكن لهذا السبب، إِنّما السبب هو أنّهم كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم، وأن يخفوا ما يؤدي إِلى ضررهم.
3 ـ إِنّ عبارة (وما قدروا الله حق قدره) في الواقع إِشارة إِلى أنّ من يعرف
الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إِرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إِلى البشر، لأنّ حكمة الله توجب:
أوّلا: أن يعين الإِنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإِلاّ انتقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.
ثانياً: كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإِنسان وحيداً في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا يرسل إِليه قائداً ومرشداً يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإِن حكمته ورحمته توجبان إِسال الرسل وإِنزال الكتب السماوية.
لا شك أن معرفة حقيقة الذات الالهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله، وإِنّما تريد أن تقول: لو حصل الإِنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأنّ مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.
* * *
وَهَـذَا كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)
تعقيباً على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي، تشير هذه الآية إِلى القرآن باعتباره كتاباً سماوياً آخر، والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر، فتبدأ بالقول: (وهذا كتاب أنزلناه) وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم، ثمّ إِنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله: (مصدق الذي بين يديه)، والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإِشارات والإِمارات التي وردت فيها تنطبق عليه.
وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين: الأُولى: وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه، والثّانية: محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة، وبناءاً على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة، وفي المستندات التّأريخية من جهة أُخرى.
ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإِنذار والتحذير لأُم القرى (مكّة) والساكنين حولها وتنبيههم إِلى مسؤولياتهم وواجباتهم: (ولتنذر أُم القرى ومن حولها)(1).
«الإِنذار» اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن، خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين.
وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، سيصدقون بهذا الكتاب، ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون).
* * *
نلفت الإِنتباه هنا إِلى النقاط التّالية:
تبيّن آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإِسلام دين عالمي، من ذلك: (لأنذركم به ومن بلغ)(2)و (إِنّ هو إِلاّ ذكر للعالمين)(3). و(وقل يا أيّها الناس إِنّي رسول الله إِليكم جميعاً)(4) وغيرها كثير في القرآن، ولكلّها تؤكّد هذه الحقيقة، وإنّه لمما يثير الإِنتباه أنّ معظم هذه الآيات قد نزلت في مكّة يوم لم يكن الإِسلام قد تخطى حدود تلك المدينة.
ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها، يظهر لنا السؤال التالي: إنّ الآية
1 ـ يختلف المفسّرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة «ولتنذر» ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى «لتبشر» أو مثلها.
2 ـ الأنعام، 19.
3 ـ الأنعام، 90.
4 ـ الأعراف، 158.
توجه الإنذار والهداية إلى اُم القرى ومن حولها، فكيف ينسجم هذا مع القول بأنّ الإِسلام عالمي؟
في الحقيقة أنّ هذا الإِعتراض جاء أيضاً على لسان اليهود وغيرهم من أتباع الأديان الأُخرى ظانين أنّهم قد أصابوا من عالمية الإِسلام مقتلا، باعتبار أنّ الآية تحدد مكانه بمنطقة خاصّة هي مكّة وأطرافها(1).
الجواب:
يتّضح الجواب من هذا الإِعتراض بالإِنتباه إِلى نقطتين، بحيث ندرك أنّ هذه الآية، فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإِسلام، هي واحد من أدلة عالميته أيضاً:
القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس، سواء كان مدينة كبيرة أُم قرية صغيرة، ففي سورة يوسف ـ مثلا ـ جاء على لسان اخوة يوسف يخاطبون أباهم: (واسأل القرية التي كنا فيها)(2) ونحن نعلم أنّهم كانوا قد رجعوا لتوهم من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم (بنيامين) كذلك نقرأ: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)(3). بديهي أنّ المقصود هنا ليس القرى في الأرياف، بل هو كل منطقة مسكونة في العالم.
ومن جهة أُخرى هناك روايات عديدة تقول: إِنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة، وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».
كما أنّنا نعلم أنّه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطّى الماء الكرة الأرضية برمتها، ثمّ غاض الماء شيئاً فشيئاً واستقر في المنخفضات، وظهرت اليابسة من
1 ـ ورد اعتراض بعض المستشرقين بهذا الشأن ذكره صاحب المنار، ج 7، ص 621، وفي تفسير في ظلال القرآن، ج 3، ص 305.
2 ـ يوسف، 82.
3 ـ الأعراف، 96.
تحت الماء، وكانت مكّة أوّل نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء، حسب الأحاديث الإِسلامية.
وكون مكّة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، لا يتعارض أبداً مع هذا القول، لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك الزمان، وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كلياً، فبعض الجبال هبطت إِلى أعماق البحار، وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا، وهذا ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية.
أمّا كلمة «أُم» فتعني ـ كما سبق أن قلنا ـ الأصل والأساس والمبدأ لكل شيء.
من كل هذا يتبيّن أنه إِذا أطلق مكّة اسم «أُم القرى» فذلك يستند إِلى أنّها كانت مبدأ ظهور اليابسة على الأرض، «ومن حولها» أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمتها.
وهذا ما تؤيده الآيات الأُخرى التي تؤكّد عالمية الاسلام، وكذلك الرسائل الكثيرة التي بعث بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى رؤساء العالم، مثل كسرى وقيصر، وقد جاء شرح ذلك في المجلد الثاني من هذا التّفسير.
تبيّن هذه الآية: إِنّ الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون أيضاً بالقرآن، أي أنّهم يعلمون أن هذه الدنيا ما هي إِلاّ مقدمة لعالم الآخرة، وانّها أشبه بالمزرعة أو المدرسة أو المتجر، والوصول إِلى ذلك الهدف الرفيع والإِستعداد لذلك اليوم لا يكون إِلاّ عن طريق مجموعة من القوانين والمناهج والدساتير وإِرسال الأنبياء.
بعبارة أُخرى، إِنّ الله قد أرسل الإِنسان إِلى هذه الحياة ليطوي مسيرته التكاملية وليصل إِلى مستقره الأصلي في العالم الآخر، وهذا الغرض ينتقض إِذا
لم يرسل إِليه الأنبياء والكتب السماوية، من هنا يمكن أن نستنتج من الإِيمان بالله والمعاد، الإيمان بنبوة الأنبياء والكتب السماوية (تأمل بدقّة).
نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إِلى الصّلاة من بين جميع الفرائض الدينية، ونعلم أنّ الصّلاة هي مظهر الإِرتباط بالله، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة، ويرى بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصّلاة(1).
* * *
1 ـ تفسير المنار، ج 7، ص 622.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـلِمُونَ فِى غَمَرَتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93)
ثمّة روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية وردت في كتب الحديث والتّفسير، من ذلك أنّ الآية نزلت بشأن شخص يسمى «عبد الله بن سعد» من كتاب الوحي، ثمّ خان فطرده رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فراح يزعم أنّه قادر على قول مثل آيات القرآن، يقول جمع آخر من المفسّرين أنّ الآية، أو قسماً منها، نزلت بحق «مسيلمة الكذاب» الذي إدعى النبوة، ولكن بالنظر لأنّ مسيلمة الكذاب ظهر في أواخر حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه السورة مكّية، فإنّ مؤيدي هذا التّفسير يقولون: إِنّ هذه الآية نزلت في المدينة، ثمّ أُدخلت ضمن هذه السورة بأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
على كل حال هذه الآية، مثل سائر آيات القرآن، نزلت في ظروف خاصّة، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من إدعى النبوة وأمثالهم.
في الآيات السابقة مرّت الإِشارة إِلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك، فيزعمون كذباً أن الوحي ينزل عليهم.
وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً).
والجماعة الثّانية هم الذين يدعون النّبوة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء، ولا نزل عليهم وحي: (أو قال أوحي إِليّ ولم يوح إليه شيء).
والجماعة الثّالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أنّ يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله).
نعم، هؤلاء كلّهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، لأنّهم يغلقون طريق الحق بوجه عباد الله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين، ويحاربون قادة الحق، فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإِلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.
على الرغم من أنّ الآية تخصّ أدعياء النبوة والوحي، إِلاّ أنّ روحها تشمل كل من يدعي كذباً لنفسه مكانة ليس أهلا لها.
ثمّ تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: (ولو ترى إِذ
الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم)(1) أي لو أنك ـ أيّها النّبي ـ رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير، وملائكة قبض الأرواح مادين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيا أخرجوا أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.
عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلا لأمرين: الأوّل: إنّهم كذبوا على الله، والآخر، إنّهم لم ينصاعوا لآياته: (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).
* * *
ينبغي هنا ملاحظة النقاط التّالية:
1 ـ تعتبر الآية أدعياء النبوة والقادة المزيفين من أشد الظالمين، بل لا ظلم أشدّ من ظلمهم، لأنّهم يسرقون أفكار الناس ويهدمون عقائدهم ويغلقون بوجوههم أبواب السعادة ويحيلونهم إِلى مستعمرين فكرياً لهم.
2 ـ جملة (باسطوا أيديهم) قد تعني أنّ ملائكة قبض الأرواح تبسط أيديها إِليهم استعداداً لقبض أرواحهم، وقد تعني بسط أيديهم للبدء بتعذيبهم.
3 ـ (اخرجوا أنفسكم) تعني في الواقع ضرباً من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين، وإِلاّ فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء، بل هو من واجب الملائكة، مثل ما يقال للمجرم عند إِعدامه: مت! ولعل هذا التحقير يقابل تحقيرهم لآيات الله وأنبيائه وعباده.
1 ـ «الغمرات» جمع غمرة (على وزن ضربة)، وأصل الغمر إزالة أثر الشيء، ثمّ استعملت للماء الكثير الذي ليستر وجه الشيء تماماً، كما تطلق على الشدائد والصعاب التي تغمر المرء.
وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الآية دليلا آخر على استقلال الروح وانفصالها عن الجسد، كما يستفاد من الآية أنّ تعذيب هؤلاء يبدأ منذ لحظة قبض أرواحهم.
* * *
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقْنَـكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَـؤُا لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)
جاء في تفسير مجمع البيان وتفسير الطبري وتفسير الآلوسي إنّ مشركاً إسمه النضربن الحارث قال: إِنّ اللآت والعزى (وهما من أصنام العرب المشهورة) سوف يشفعان لي يوم القيامة، فنزلت هذه الآية جواباً له ولأمثاله.
أشارت الآية السابقة إِلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت، هنا في هذه الآية تعبير عن خطاب الله لهم عند الموت أو عند الورود إِلى ساحة يوم القيامة.
فيبدأ بالقول بأنّهم يأتون يوم القيامة منفردين كنا خلقوا منفردين: (ولقد
جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة).
والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إِليها في حياتكم، قد خلفتموها وراءكم، وجئتم صفر الأيدي: (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)(1).
ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إِنّها سوف تشفع لكم وظننتم أنّها شريكة في تعيين مصائركم (وما نرى معكم شفعاء كم الذين زعتم أنّهم فيكم شركاء).
ولكن الواقع أنّ جمعكم قد تبدد، وتقطعت جميع الروابط بينكم: (لقد تقطع بينكم).
وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع: (وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون).
كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إِلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إِليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإِنسان وشفيعة لهم عند الله، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إِلى واحدة من هذه الأُمور، وإِلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيداً فريداً.
1 ـ نظراً لمجيء هذه الآية في أعقاب الآية السابقة التي تحدثت عن قيام الملائكة بقبض الأرواح عند الموت، وكذلك بالنظر إِلى عبارة (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم)، نفهم أنّ هذا الكلام يقال لهم عند الموت أيضاً، ولكن من جانب الله، غير أنّ بعض الرّوايات تقول: إِنّ هذا الخطاب يوجه إِليهم يوم القيامة، على أي حال فإِنّ الهدف لا يختلف في الحالين.
1 ـ «خولناكم» من «الخول» وهو إِعطاء ما يحتاج إِلى التعهد والتدبير والإِدارة، وهو النعم التي يسبغها الله تعالى على عباده.
2 ـ على الرغم من نزول هذه الآية بشأن مشركي العرب، فهي ليست بالطبع مقصورة عليهم.
ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الإِنشدادات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سنداً لهم يستعينون به في يوم بؤسهم لا يبقى سوى الشخص وعمله، ويزول كل ما عدا ذلك، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن وهو تعبير جميل يوحي بأنّ الشركاء سيكونون إِلى درجة من الصغر والحقارة والضياع أنّهم لايُروا بالعين.
* * *
إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُوْفَكُونَ(95) فَالِقُ الاِْصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)
مرّة أُخرى يوجه القرآن الخطاب إِلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذابة وفي نماذج حية من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.
في الآية الإُولى يشير إِلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثّانية يشير إِلى ثلاثة من الظّواهر السماوية.
يقول القرآن الكريم أوّلا: (إِنّ الله فالق الحب والنوى).
«الفلق» شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض(1).
و«الحب» و«الحبة» تقال لانواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير
1 ـ الراغب الأصفهاني (المفردات)، ص 385.
ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً(1).
و«النوى» من النّواة، قيل إِنّه يخص نوى التمر، ولعل هذا يرجع إِلى كثرة التمر في بيئة العرب حتى كان العربي ينصرف ذهنه إِلى نوى التمر إِذا سمع هذه الكلمة.
ولننظر الآن إِلى ما يمكن في هذا التعبير:
ينبغي أن نعلم أنّ أهم لحظة في حياة الحبّة والنّوى هي لحظة الفلق، وهي أشبه بلحظة ولادة الطفل وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر، إِذ في هذه اللحظة يحصل أهم تحول في حياته.
وممّا يلفت الإِنتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين، فنظرة إِلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما، وإِلى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أنّ تلك النطقة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب، وانّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإِختراق خاصية التسليم والليونة أمام إختراق نطفة النبات، كما منحت النطفة قوة إِندفاع تمكنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إِليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.
ثمّ يقول: (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي).
يتكرر هذا التعبير كثيراً في القرآن مشيراً إِلى نظام الموت والحياة وتبديل هذا بذاك، فمرّة ترى الحياة تنبعث من مواد جامدة لا روح فيها في أعماق المحيطات ومجاهل الغابات والصحارى، فيخلق من تركيب مواد كل واحدة منها سم قاتل مواد حيوية، وأحياناً ترى العكس، فبإِجراء تغيير بسيط على كائنات حية قوية مفعمة بالحياة تراها قد تحولت إِلى كائن لا حياة فيه.
إِنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحية من أعقد المسائل التي
1 ـ المصدر نفسه، ص 105.
لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إِلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إِلى أعماق مجهولاتها، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحول إِلى كائنات حية.
قد يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الإِنسان أن يصنع كائناً حياً باستخدام التركيبات الطبيعية المختلفة وتحت ظروف معقدة خاصّة، وبطريقة تركيب أجزاء مصنعة، كما يفعلون بالمكائن والأجهزة، غير أن قدرة البشر «المحتملة» في المستقبل لا تستطيع أن تقلل من أهمية مسألة الحياة وتعقيداتها التي تبدأ من المبدع القادر.
لذلك نجد القرآن ـ وفي معرض إِثبات وجود الله ـ كثيراً ما يكرر هذا الموضوع، كما يستدل أنبياء عظام كإِبراهيم وموسى ـ على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإِقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.
يقول إِبراهيم لنمرود: (ربّي الذي يحيي ويميت)(1)، ويقول موسى لفرعون: (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى)(2).
ينبغي ألاّ ننسى أنّ ظهور الحي من الميت لا يختص في بداية ظهور الحياة على الأرض فقط، بل يحدث هذا في كل وقت بإِنجذاب الماء والمواد الأُخرى إِلى خلايا الكائنات الحية، فتكتسي كائنات غير حية بلباس الحياة، وعليه فإنّ القانون الطبيعي السائد اليوم والقائل بأنّه لا يمكن في الظروف الحالية التي تسود الأرض لأي كائن غير حي أن يتحول إِلى كائن حي، وحيثما وجد كائن حي فثمّة بذرة حية وجد منها هو قانون لا يتعارض مع ما قلناه، (فتأمل بدقّة)!
ويستفاد من روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية والآيات المشابهة لها، أنّ ذلك يشمل الحياة والموت الماديين كما يشمل الحياة والموت
1 ـ البقرة، 258.
2 ـ طه، 53.
المعنويين أيضاً(1) فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإِرادتهم وإِختيارهم.
وهذا بذاته دليل آخر على عظمة الخلاق الذي أعطى الإِنسان هذه القدرة والإِرادة.
النقطة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هي أنّ «يخرج» الفعل المضارع و«مخرج» اسم الفاعل، يدلان على الاستمرار، أي أنّ نظام ظهور الحي من الميت وظهور الميت من الحي نظام دائم وعام في عالم الخلق.
وفي ختام الآية توكيد للموضوع: (ذلكم الله فأنى تؤفكون) أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إِلى الباطل؟ (ذلكم الله فأنى تؤفكون)و
في الآية الثّانية يشير القرآن إِلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أولا: (فالق الإِصباح) وذكرنا، أنّ «الفلق» هو شقّ الشيء وإِبانة بعضه عن بعض، و«الإِصباح» و«الصبح» بمعنى واحد.
إِنّه تعبير رائع، فظلام الليل قد شبه بالستارة السميكة التي يشقها نور الصباح شقاً، وهذه الحالة تنطبق على الصبح الصادق والصبح الكاذب كليهما، لأنّ الصبح الكاذب هو الضوء الخفيف الذي يظهر في آخر الليل عند المشرق على هيئة عمود، وكأنّه شق يبدأ من الشرق نحو الغرب في قبة السماء المظلمة، والصبح الصادق هو الذي يلي ذلك على هيئة شريط أبيض لامع جميل يظهر عند إِمتداد الأُفق الشرقي، وكأنّه يشق عباب الليل الأسود من الأسفل ممتداً من الجنوب إِلى الشمال، متقدماً في كل الأطراف حتى يغطي السماء كلها شيئاً فشيئاً.
كثيراً ما يشير القرآن إِلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار، ولكنّه هنا
1 ـ أُصول الكافى، ج 2، باب (طينة المؤمن الكفار)، تفسير البرهان، ج 1، ص 543.
يتناول «طلوع الصبح» كنعمة من نعم الله الكبرى، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جو الأرض، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض، فلو كانت الأرض ـ مثل القمر ـ عديمة الجو، لما كان هناك «طلوعان» ولا «فلق» ولا «إِصباح»، ولا «غسق» ولا «شفق» بل كانت الشمس تبزغ فجأة، بدون أية مقدمات ولسطع نورها في العيون التي اعتادت على ظلام الليل ولم تكد تفارقه، وعند الغروب تختفي فجأة، وتعم الظلمة الموحشة في لحظة واحدة كل الأرجاء، غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدي إِلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيىء الإِنسان تدريجياً لتقبل هذين الإِختلافين المتضادين والإِنتقال من الظلمة إِلى النّور، ومن النّور إِلى الظلمة، شيئاً فشيئاً، بحيث إِنّه يستطيع أن يتحمل كل منهما، فنحن نشعر بالإِنزعاج إِذا كنّا في غرفة مضاءة وانطفأت الأنوار فجأة وعم الظلام، ثمّ إِذا استمر الظلام ساعة، وعاد النّور مرّة أُخرى فجأة، عادت معها حالة الإِنزعاج بسبب سطوع الضوء المفاجىء الذي يؤلم العين ويجعلها غير قادرة على رؤية الأشياء، وإِذا ما تكرر هذا الأمر فإِنّه لا شك سيؤذي العين، غير أنّ (فالق الإِصباح) قد جنب الإِنسان هذا الأذى بطريقة رائعة(1).
![]() |
![]() |
![]() |