2 ـ صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

[63]

الباب أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن سأله أصحابه عن ايجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة، استشار الصحابة، فقدم كل منهم اقتراحاً، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو اشعال نار، أو دق ناقوس، لكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوافق على أي من هذه الإِقتراحات، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصاً يأمرهما بأداء الأذان لإِعلان وقت الصّلاة، وعلمهما كيفية هذا الأذان، فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك(1).

إِنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الرفعية، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) من أن الأذان نزل وحياً على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يحدثنا الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان واضعاً رأسه في حجر علي(عليه السلام) حين نزل جبرائيل بالأذان والإِقامة، فعلّمهما للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّاً إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل، فردّ علي(عليه السلام)بالإِيجاب، فسأله النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة ثانية إِن كان قد حفظ ذلك، فردّ علي(عليه السلام)بالإِيجاب أيضاً ـ ثمّ طلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من علي(عليه السلام) أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإِقامة، فاستدعى علي(عليه السلام) بلالا وعلمه الأذان والإِقامة(2).

وللإِستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والإِجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *


1 ـ تفسير القرطبي.

2 ـ الوسائل، ج 4، ص 612.

[64]

الآيتان

قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـسِقُونَ(59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّـغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلَ(60)

سبب النّزول

نقل عن عبدالله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته، فأخبرهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته، ثمّ قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم لا يعرفون ديناً أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّاً على هؤلاء الحاقدين.

[65]

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين، وهل أنّ الإِيمان بالله الواحد الأحد والإِعتقاد بما أنزل على نبي الإِسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالإِعتراض والإِنتقاد، حيث تقول الآية: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إِلاّ أن آمنا بالله وما أنزل إِلينا وما أنزل من  قبل ...)(1).

وتشير هذه الآية ـ أيضاً ـ إِلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر، ونظرتهم الضيقة الأحادية الجانب التي دفعت بهم إِلى الإِستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّاً.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه، ما هو إِلاّ لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم ـ لإِنحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية: (وإنّ أكثركم فاسقون).

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق، تنقلب ـ أحياناً ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقاً، ويصبح العمل الصالح والإِعتقاد النزيه شيئاً قبيحاً مثيراً للإعتراض والإِنتقاد، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئاً جميلا جديراً بالإِستحسان والمديح، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الإِنغماس في الخطايا والذنوب إِلى درجة الإِدمان.

وتجدر الإِشارة إِلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب، وواضح أنّها


1 ـ إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إِنكار شيء معين نطقاً أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

[66]

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل هؤلاء: هل أنّ الإِيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والإِعتراض، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء: إِن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال، حيث تقول: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ...)(1).

ولا شك أنّ الإِيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإِيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب، هي من باب الكناية، كما ينتقد انسان فاسد انساناً تقياً فيسأل الإِنسان التقي رداً على هذا الفاسد: أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إِلى شرح الموضوع، فتبيّن أنّ أُولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قروداً وخنازير، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام، إِنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعاً أسوأ من هذا الوضع، لأنّهم ابتعدوا كثيراً عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب، تقول الآية الكريمة: (من لعنه الله وغضب عليه


1 ـ إنّ كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إِلى الحالة الاُولى، كما تطلقان ـ أيضاً ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنّهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن، وأحياناً تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

[67]

وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أُولئك شرّ مكاناً وأضل عن سواء السبيل)(1).

وسنتطرق إِلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإِنسان، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟ وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف، وبصورة مفصلة باذن الله.

* * *


1 ـ إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والإِعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية بـ(سواء السبيل)لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالأِعتدال وتخلو من الإِنحراف. ويجب الإِنتباه هنا ـ أيضاً ـ إِلى أن عبارة (عبد الطاغوت) عطف على جملة (من لعنه الله)وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية (عبد الطاغوت) على أهل الكتاب، إمّا أن يكون إِشارة إِلى عبادة العجل من قبل اليهود، أو إِشارة إِلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

[68]

الآيات

وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَـرِعُونَ فِى الاِْثمّ وَالْعُدْوَنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62) لَوْلاَ يَنْهَـهُمُ الرَّبَّـنِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاِْثمَ وَأَكْلِهمُ السَّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)

التّفسير

الآية الاُولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الإِزدواجية النفاقية عند هؤلاء، وتنبّه المسلمين إِلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإِيمان وقلبهم يغمره الكفر، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر، تقول الآية الكريمة:

(وإِذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ...) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإِيمان،

[69]

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذباً.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأُخرى علائم من نوع آخر للمنافقين، فتشير إِلى أنّ كثيراً من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ...)(1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم، وكأنّهم يسعون إِلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإِشارة ـ هنا ـ إِلى أنّ كلمة «إِثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضاً، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين: أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إِلى الآخرين، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإِثم) في هذه الآية، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين أوّلا لكل ذنب اقترفوه، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم


1 ـ لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضاً، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة، في المجلد الأوّل.

[70]

وأكل المال الحرام، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال، قالت الآية: (لبئس ما كانوا يعملون ...).

وتدل عبارة (كانوا يعملون) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة، بل كانوا يمارسونها دائماً مع سبق اصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم، فتقول: (لولا ينهاهم الرّبانيون والأحبار عن قولهم الإِثم وأكل السحت...).

وقد أشرنا سابقاً إِلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إِلى الله، لكنّها قد أُطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثاراً حسنة في المجتمع، لكنّها أُطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإِثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة (قولهم الإِثم) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة، ولعل هذه إِشارة إِلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إِلى اصلاح أي مجتمع فاسد، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

[71]

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل اصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي إتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقبح صمتهم هذا، كما تقول الآية: (ولبئس ما كانوا يصنعون).

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إِن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله: بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إِن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في إِحدى خطبه، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أُولئك الأقوام(1).

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإِمام علي(عليه السلام) في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قوله(عليه السلام): «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إِلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».


1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 649.

[72]

ويلفت الإِنتباه هنا أيضاً أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذماً أكبر، وذلك لأنّ سواد الناس إِن ارتكبوا ذنباً يكون ارتكابهم هذا ـ غالباً ـ بسبب جهلهم، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثماً عن دراية وعلم وتفكير، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

[73]

الآية

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64)

التّفسير

تبرز هذه الآية واحداً من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها، وقد تطرقت الآية السابقة إِليها ـ أيضاً ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إِلى ذروة السلطة والقدرة، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة، ويمكن الإِستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإِسلام، فكان ايذاناً بأفول الدولة اليهودية، وبالأخص في الحجاز، إِذ أدى قتال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إِلى إِضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

[74]

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة، كانوا يقولون استهزاءً وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال: أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إِلى جميعهم، كما تقول الآية: (قالت اليهود يد الله مغلولة ...).

ويجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و(القدرة) و(السلطة) و(الحكم)، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإِنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أُخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ هذه الآية تشير إِلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإِرادة، حيث كانوا يذهبون إِلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية ايجاد تغيير في ذلك(1).

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة (بل يداه مبسوطتان) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخاً وذماً لهم ولمعتقدهم هذا بقوله: (غُلّت


1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 649، تفسير البرهان، ج 1، ص 486.

[75]

أيديهم ولعنوا بما قالوا ...) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ...) فلا إِجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوماً بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال: (بل يداه مبسوطتان) وهذا بالإِضافة إِلى كونه تأكيداً للموضوع، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه، وذلك لأنّ الكرماء جدّاً يهبون ما يشاوؤن للغير بيدين مبسوطتين، أضف إِلى ذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة، أو ربّما يكون إِشارة إِلى النعم المادية والمعنوية، أو الدنيوية والأُخروية.

ثمّ تشير الآية إِلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطيء حيث تقول الآية الكريمة: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إِليك من ربك طغياناً وكفراً ...).

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة، فتقول الآية الكريمة: (وألقينا بينهم العدواة والبغضاء إِلى يوم القيامة ...).

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة (العداوة والبغضاء) الواردة في هذه الآية، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الإِستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر، ونظرنا إِلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء، وهو انعدام الإِتحاد والإِخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

[76]

والصدق فيما بينهم، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إِلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة، فتقول (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ...).

وتعتبر هذه الظاهرة إِحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب، بالإِضافة إِلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عوناً في كل صراع بحيث أن قريشاً كانوا يستمدون العون منهم، وكان الأوس، والخزرج يسعى كل منهما إِلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة، بشكل لم يكن متوقعاً لديهم، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إِلى ترك ديارهم، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين، وحتى أُولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إِلى الخضوع أمام عظمة الإِسلام، فهم بالإِضافة إِلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إِلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضاً ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول: (ويسعون في الأرض فساداً ...) وتؤكّد أيضاً قائلة: (والله لا يحبّ المفسدين).

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

[77]

أساس عنصري مطلقاً، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إِليهم، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء، قد ترك باب التوبة مفتوحاً أمامهم.

* * *

[78]

الآيتان

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـبِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّأَتِهِمْ وَلاََدْخَلْنَـهُمْ جَنَّـتِ النَّعِيمَ(65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالاِْنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَايَعْمَلُونَ(66)

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأُسلوب أهل الكتاب، جاءت هاتان الآيتان وفقاً لما تقتضيه مبادىء التربية الإِنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب، لكي يعودوا إِلى الطريق القويم، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها، فتقول الآية الاُولى في البدء: (ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم).

بل ذهبت إِلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها، إِذ قالت: (ولأدخلناهم جنّات النعيم) وهذه إِشارة إِلى النعم المعنوية الأخروية.

[79]

ثمّ تشير الآية الثّانية إِلى الأثر العميق الذي يتركه الإِيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإِنسان، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإِنجيل وجعلوهما منهاجاً لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإِلهية من السماء والأرض، فتقول الآية: (ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإِنجيل وما أنزل إِليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ...).

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإِنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإِنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة (ما أنزل إِليهم من ربّهم) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإِلهية، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإِطلاق، وهي في الحقيقة إِشارة الى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإِلهية، فليس المهم كون هذا الكتاب عربياً أو ذلك الكتاب يهودياً، بل المهم هو الأحكام الإِلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية، أي أنّ القرآن أراد أن يطفىء ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء، ويمهد السبيل إِلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إِلى أهل الكتاب وهي: (إليهم، من ربّهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إِلاّ لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والإِستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإِنجيل هو العمل بالمبادىء السماوية الواردة فيهما، لأنّ جميع المبادىء والتعاليم كما أسلفنا سابقاً ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

[80]

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أُخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء، ليس لإِعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب، بل أنّ لها ـ أيضاً ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإِنسان، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والإِستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإِنسان نتيجة للإِنحراف عن هذه التعاليم، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإِشاعة الدمار في هذا العالم ـ إِذا أمعنا النظر جيداً ـ إِن لم تكن أكثر حجماً من الثروات التي تنفق في سبيل البناء، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإِكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية، ولتوسيع بقعة النزاعات الإِستعمارية، إِنّما تشكل جزءاً مهماً من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذاباً لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإِعمار؟

وجدير بالإِنتباه ـ هنا أيضاً ـ إِلى أن عبارتي (من فوقهم) و(من تحت أرجلهم) الواردتان في الآية الأخيرة، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين، كما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم: (إِنّ فلاناً غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

[81]

أخمص قدمه).

كما أنّ هذه الآية تعد جواباً على أحد أقوال اليهود الذي ورد ذكره في الآيات السابقة، حيث تؤكّد أنّ سبب انقطاع نعم الله عنهم، ليس هو ما زعموه من أن ذات الله المقدسة المنزهة قد شابها البخل (والعياذ بالله) أو أن يده أصبحت مغلولة، بل لأنّ أعمالهم الخبيثة قد انعكست آثارها في حياتهم المادية والمعنوية فسودتهما، فإن لم يتوبوا لن ينقذهم الله من آثار هذه الأعمال.

وفي الختام تشير الآية الكريمة إِلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الإِعتدال في حياتهم خلافاً لنهج الأغلبية المنحرفة، فعزل الله حسابهم عن حساب هذه الأكثرية الضالة، حيث تقول الآية: (منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يفعلون).

وقد وردت عبارات مشابهة عن الأقلية الصالحة من أهل الكتاب، في الآيتين (159 و181) من سورة الأعراف، والآية (75) من سورة آل عمران.

* * *

[82]

الآية

يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـفِرِينَ(67)

التّفسير

اختيار الخليفة مرحلة إنتهاء الرسالة:

إنّ لهذه الآية نَفَساً خاصاً يميزها عمّا قبلها وعّما بعدها من آيات، إنّها تتوجه بالخطاب إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده وتبيّن له واجبة، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول: (يا أيّها الرّسول) وتأمره بكل جلاء ووضوح أن (بلغ ما أُنزل إِليك من ربِّك)(1).

ثمّ لكي يكون التوكيد أشد وأقوى ـ تحذره وتقول: (وإِن لم تفعل فما بلّغت رسالته).

ثمّ تطمئن الآية الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكأن أمراً يقلقه ـ وتطلب منه أن يهدىء من روعه وأن لا يخشى الناس: فيقول له: (والله يعصمك من النّاس).


1 ـ عبارة «بلِّغْ» كما يقول الراغب في «المفردات» أكثر توكيداً من «أَبْلِغْ».

[83]

وفي ختام الآية إِنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصّة ويكفرون بها عناداً، فتقول: (إِنّ الله لا يهدي القوم الكافرين).

أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، وتكرر توكيداتها، وكذلك ابتداؤها بمخاطبة الرّسول (يا أيّها الرّسول) التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرّتين، وتهديده بأنّ عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصّة إِنّما هو تقصير ـ وهذا لم يرد إِلاّ في هذه الآية وحدَها ـ كل ذلك يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جداً بحيث أن عدم تبليغه يعتبر عدمَ تبليغ للرسالة كلها.

لقد كان لهذا الأمر معارضون أشداء إِلى درجة أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قلقاً لخشتيه من أنّ تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإِسلام والمسلمين، ولهذا يطمئنه الله تعالى من هذه الناحية.

هنا يتبادر إِلى الذهن السؤال التالي ـ مع الأخذ بنظر الإِعتبار تأريخ نزول هذه الآية ـ وهو قطعاً في أواخر حياة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ : تُرى ما هذا الموضوع المهم الذي يأمر الله رسولَه ـ مؤكّداً ـ أن يبلّغه للناس؟

هل هو ممّا يخص التوحيد والشرك وتحطيم الأصنام، وهو ما تمّ حله للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وللمسلمين قبل ذلك بسنوات؟

أم هو ممّا يتعلق بالأحكام والقوانين الإِسلامية، مع أنّ أهمها كان قد سبق نزوله حتى ذلك الوقت؟

أم هو الوقوف بوجه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أنّنا نعرف أنّ هذا لم يعد مشكلة بعد الإِنتهاء من حوادث بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر وفدك ونجران؟