314 ............................................................................ لله وللحقيقة الجزء الأول

قال الكاتب: فهذه الروايات وغيرها كثير صريحة في إعفاء الشيعة من الخمس، وأنهم في حل من دفعه، فمن أراد أن يستخلصه لنفسه، أو أن يأكله ولا يدفع منه لأهل البيت شيئاً فهو في حل من دفعه، وله ما أراد ولا إثم عليه، بل لا يجب عليهم الدفع حتى يقوم القائم في الرواية الثالثة.

وأقول: لقد أوضحنا أن جملة من هذه الروايات ضعيفة السند ، والصحيح منها لا يدل على إعفاء الشيعة من الخمس مطلقاً، بل منها ما دل على أن الإمام عليه السلام قد أباح لهم ما تصرَّفوا فيه من أموالهم التي أنفقوها في المناكح قبل إخراج الخمس الواجب عليهم ، ومنها ما دل على أن الإمام عليه السلام قد أباح للشيعة التصرف في رقاب الأراضي وحاصلها، مع لزوم إخراج خمسها، ومنها ما دل على أن الإمام الباقر عليه السلام أجاز للمعوزين من شيعته أن يأخذوا منه بمقدار ما يسدُّون به حاجاتهم، ومنها ما دل على أن الأئمة عليهم السلام لا يُلزمون شيعتهم بالإسراع في إخراج الخمس إذا كان في ذلك حرج عليهم.

وكل تلك الروايات تدل باللازم على وجوب الخمس على الناس، وإلا فلا معنى لإباحة التصرف فيه للمعوزين بمقدار ما تسدّ حاجتهم، ولا وجه لعدم إيجاب المبادرة في الإخراج التي تتحقق معها المشقة عليهم، وكل ذلك أوضحناه فيما تقدم بحمد الله وفضله.

والغريب أن الكاتب تمسَّك بهذه الروايات وتعامى عن الروايات الأخرى الكثيرة الدالة على وجوب دفع الخمس إليهم عليهم السلام، وأنهم سلام الله عليهم لا يبيحونه لأحد.

منها: صحيحة إبراهيم بن هاشم قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى له الوقف بِقُم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل، فإني أنفقتها. فقال له: أنت في حل. فلما خرج صالح قال أبو جعفر عليه السلام: أحدهم يثب على أموال حق آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم

الخمــس ........................................................................................ 315

وأبناء سبيلهم، فيأخذه ثم يجيء فيقول: (اجعلني في حل)، أتراه ظن أني أقول: (لا أفعل)، والله ليسألنَّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً (1).

ومنها: رواية محمد بن زيد قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فسألوه أن يجعلهم في حل من الخمس، فقال: ما أمحل هذا (2)، تمحضونا بالمودة بألسنتكم، وتزوون عنا حقًّا جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس!! لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حل (3).

ومنها: موثقة عبد الله بن بكير عن الصادق عليه السلام قال: إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا (4).

ومنها: خبر أحمد بن المثنى قال: حدثني محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الله واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهم، لا يحِل مال إلا من وجه أحلَّه الله، وإن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا ، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم، وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب، والسلام (5) .

والأحاديث المعتبرة الدالة على وجوب إخراج الخمس كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية.

 

(1) الكافي 1/548. الاستبصار 2/60.
(2) من المحل: وهو المكر والكيد. أو من التمحل: وهو الاحتيال. أو من المحال، فيكون معنى العبارة هو استبعاد وقوع الفعل.
(3) الكافي 1/548. الاستبصار 2/60. التهذيب 4/140.
(4) من لا يحضره الفقيه 2/27. وسائل الشيعة 6/337.
(5) الكافي 1/547. التهذيب 4/123. الاستبصار 2/59.

 
 

316 ............................................................................ لله وللحقيقة الجزء الأول

قال الكاتب: ولو كان الإمام موجوداً فلا يُعْطَى له حتى يقوم قائم أهل البيت، فكيف يمكن إذن إعطاؤه للفقهاء والمجتهدين؟!

وأقول: بل يجب إخراج الخمس وإعطاؤه للإمام عليه السلام كما دلَّت عليه الأخبار المتقدمة، ودلَّت أخبار أخر صحيحة غيرها على وجوب خمس أرباح المكاسب.

منها: صحيحة علي بن مهزيار، عن محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام : أخبرني عن الخمس ، أعلى جميع ما يستفيده الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الضياع ، وكيف ذلك ؟ فكتب عليه السلام بخطه: الخمس بعد المؤنة (1).

ومنها: موثقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس، فقال عليه السلام: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير (2).

ومنها: صحيحة علي بن مهزيار ، قال: قال لي أبو علي بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقِّك، فأعلمتُ مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأي شيء حقه ؟ فلم أدر ما أجيبه. فقال عليه السلام: يجب عليهم الخمس. فقلت: في أي شيء ؟ فقال: في أمتعتهم وضياعهم وصنائعهم. قلت: والتاجر عليه، والصانع بيده؟ فقال عليه السلام: إذا أمكنهم بعد مؤنتهم (3).

ومنها: صحيحة ابن أبي نصر قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام: الخمس أخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة ؟ فكتب: بعد المؤونة (4).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه سُئل عن معادن

 

(1) التهذيب 4/123. الاستبصار 2/55. وسائل الشيعة 6/348.
(2) الكافي 1/545. وسائل الشيعة 6/350.

(3) تهذيب الأحكام 4/123. وسائل الشيعة 6/348.
(4) الكافي 1/545.
 
 

الخمــس ........................................................................................ 317

الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر، فقال: عليها الخمس (1).

ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العنبر وغوص اللؤلؤ، فقال عليه السلام: عليه الخمس (2).

ومنها روايات أخرى كثيرة دالة على وجوب دفع الخمس وعدم إباحته.

وقد أوضح الشيخ المفيد والشيخ الطوسي وغيرهما وجه الجمع بين الأخبار التي ربما يُتصور التعارض فيما بينها.

قال الشيخ الطوسي في كتابه الاستبصار : فالوجه في الجمع بين هذه الروايات ما كان يذهب إليه شيخنا رحمه الله (3)، وهو أن ما ورد من الرخصة في تناول الخمس والتصرف فيه إنما ورد في المناكح خاصة، للعلّة التي سلف ذكرها في الآثار عن الأئمة عليهم السلام، لتطيب ولادة شيعتهم، ولم يرد في الأموال، وما ورد من التشدّد في الخمس والاستبداد به فهو يختص بالأموال (4).

قلت: والأخبار المذكورة كلها تشهد بصحة هذا الجمع، فإن أحاديث إباحة الخمس كلها ذكرت العلة في ذلك، وهي تحليل المناكح وتطييب الشيعة، وأما الأخبار الأخرى التي اشتملت على التشديد في دفع الخمس وعدم التهاون فيه فهي واردة في سائر الأموال الأخرى.

وقال المحقق الخوئي بعد أن ذكر روايات إباحة الخمس:
وهذه الروايات مضافاً إلى معارضتها بما ستعرف من الطائفتين، غير قابلة للتصديق في نفسها، ولا يمكن التعويل عليها.

أولاً: من أجل منافاتها لتشريع الخمس الذي هو لسدّ حاجات السادة والفقراء

 

(1) الكافي 1/544. تهذيب الأحكام 4/121.
(2) الكافي 1/548.

(3) يعني الشيخ المفيد قدس سره.
(4) الاستبصار 2/60.
 
 

318 ............................................................................ لله وللحقيقة الجزء الأول

من آل محمد (ص) ، إذ لو لم يجب دفع الخمس على الشيعة، والمفروض امتناع أهل السنة وإنكارهم لهذا الحق، فمن أين يعيش فقراء السادة، والمفروض حرمة الزكاة عليهم، فلا يمكن الأخذ بإطلاق هذه النصوص جزماً.

وثانياً: أنها معارضة بالروايات الكثيرة الآمرة بدفع الخمس في الموارد المتفرقة والأجناس المتعددة، كقوله عليه السلام : (خذ من أموال الناصب ما شئت، وادفع إلينا خمسه) ، أو (مَن أخذ ركازاً فعليه الخمس)، وما ورد في أرباح التجارات من صحيحة علي بن مهزيار الطويلة وغيرها. فلو كان مباحاً للشيعة وساقطاً عنهم فلماذا يجب عليهم الخمس؟ وما معنى الأمر بالدفع في هذه النصوص المتكاثرة؟ وهل ترى أن ذلك لمجرد بيان الحكم الاقتضائي غير البالغ مرحلة الفعلية بقرينة نصوص التحليل؟

هذا مضافاً إلى معارضتها بالطائفة الثانية الظاهرة في نفي التحليل مطلقاً ، مثل ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولى الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف درهم في حِل، فإني قد أنفقتها. فقال له: أنت في حِل. فلما خرج صالح قال أبو جعفر عليه السلام: أحدهم يثب على أموال (حق) آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حِل. أتراه ظن أني أقول: (لا أفعل)؟ والله ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً. فإن الظاهر بمقتضى القرائن الموجودة فيها أن المراد من الأموال هو الخمس كما لا يخفى... إلى آخر ما قاله قدس سره (1).

وقال السيد الحكيم قدس سره في المستمسك بعد أن ذكر مَن ذهب إلى تحليل الخمس: اعتماداً على نصوص تضمَّنت تحليل الخمس، التي هي مع قصور دلالة جملة منها، وإعراض الأصحاب عنها، معارَضة بما يوجب طرحها، أو حملها على بعض المحامل التي لا تأباها ، كما تقدم التعرض لذلك في أوائل كتاب الخمس، مضافاً إلى أن

 

(1) مستند العروة الوثقى (كتاب الخمس)، ص 343.

 
 

الخمــس ........................................................................................ 319

الإباحة المدَّعاة مالكية لا شرعية (1)، وحينئذ تكون الشبهة موضوعية، والرجوع إلى أخبار الآحاد فيها غير ظاهر (2).

 

(1) الإباحة المالكية يراد بها أن الإمام عليه السلام الذي كان مالكاً للخمس في زمن إمامته قد أباحه في بعض الموارد، وأما الإباحة الشرعية فيراد بها أنه مباح شرعاً لكل أحد، وهذه الإباحة هي محل النزاع، لا تلك.
(2) مستمسك العروة الوثقى 9/579.

 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب