602 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

قال الكاتب: إن من المتعارَف عليه، بل المُسَلَّمِ به عند جميع فقهائنا وعلمائنا أن الكعبة ليس لها أهمية، وأن كربلاء خير منها وأفضل، فكربلاء حسب النصوص التي أوردها فقهاؤُنا هي أفضل بقاع الأرض وهي أرض الله المختارة المقدسة المباركة، وهي حرم الله ورسوله، وقِبْلَةُ الإسلام وفي تربتها الشفاء، ولا تدانيها أرض أو بقعة أخرى حتى الكعبة.
وكان أستاذنا السيد [كذا] محمد الحسين آل كاشف الغطاء يتمثل دائما بهذا البيت: ومن حديث كربلاء والكعبة   لكربلاء بانَ عُلُوُّ الرُّتّبَه وقال آخر:

هي الطفوفُ فَطُفْ سبعًا بمغناها   فما لمكةَ معنًى مثل معناها
أرضٌ ولكنها السبعُ الشدادُ لها   دانتْ وطأطأَ أعلاها لأَدْناها

أثر العناصر الأجنبية في صنع التشيع ................................................................. 603

وأقول: أما أن الكعبة ليس لها أهمية فهذا كذب صراح، كيف وهي قبلة المسلمين، وقد أطبق علماء المسلمين كافة: سنة وشيعة على أن الصلاة لا تصح إلا باستقبال القبلة وهي الكعبة المشرفة، وهذا أمر معلوم لا ينكره إلا مكابر جاهل.

وأما أن كربلاء هي أرض الله المختارة المقدسة المباركة، وهي حرم الله ورسوله، وقبْلَةُ الإسلام، فهذا افتراء واضح، وذلك لأنك لا تجد أحداً من الشيعة جوَّز استقبال كربلاء في الصلاة أو غيرها، أو وصفها بأنها أرض الله المختارة.
وحرم الله هي مكة المكرمة، وحرم رسوله (ص) هي المدينة المنورة كما نطقت بذلك الأخبار الكثيرة.

ففي صحيحة حسان بن مهران، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام: مكة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله (ص) ، والكوفة حرمي، لا يردها جبار يجور فيه إلا قصمه الله (1).

وفي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (ص) : إن مكة حرم الله، حرَّمها إبراهيم عليه السلام، وإن المدينة حرمي، ما بين لابتيها حرَم، لا يعضد شجرها ـ وهو ما بين ظل عاير إلى ظل وعير ـ وليس صيدها كصيد مكة، يؤكل هذا ولا يؤكل ذاك، وهو بريد (2).

وأما الروايات التي تفيد أن كربلاء أفضل من مكة فلم أطَّلع على روايات صحيحة تدل على ذلك، وكل الروايات التي وقفت عليها في أسانيدها ضعفاء، كمحمد بن سنان، وأبي سعيد العصفري، وغيرهما ممن لم يثبت توثيقهم، فلا يمكن الاعتماد على هذه الروايات في إثبات أمر كهذا.
بل قد يستظهر من وصف مكة بأنها حرم الله، ووصف المدينة بأنها حرم رسوله (ص) أن أفضل البقاع هي مكة والمدينة.

 

(1) تهذيب الأحكام 6/12.

(2) نفس المصدر.

 

604 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

هذا مضافاً إلى دلالة موثقة سعيد بن عبد الله الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أَحبُّ الأرض إلى الله مكة، وما تربة أحب إلى الله عزَّ وجل من تربتها، ولا حَجَر أحب إلى الله من حجرها، ولا شجر أحب إلى الله من شجرها، ولا جبال أحب إلى الله من جبالها، ولا ماء أحب إلى الله من مائها (1).

وفي معتبرة ميسر بن عبد العزيز، قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام وعنده في الفسطاط نحو من خمسين رجلاً، فجلس بعد سكوت منا طويلاً فقال: ما لكم؟! لعلكم ترون أني نبي الله! والله ما أنا كذلك، ولكن لي قرابة من رسول الله (ص) وولادة، فمن وصلنا وصله الله ، ومن أحبَّنا أحبَّه الله عزَّ وجل ، ومن حرمنا حرمه الله ، أتدرون أي البقاع أفضل عند الله منزلة ؟ فلم يتكلم أحد منا، فكان هو الراد على نفسه، فقال: ذلك مكة الحرام التي رضيها الله لنفسه حرماً، وجعل بيته فيها. ثم قال: أتدرون أي البقاع أفضل فيها عند الله حرمة ؟ فلم يتكلم أحد منا، فكان هو الراد على نفسه، فقال: ذلك المسجد الحرام. ثم قال: أتدرون أي بقعة في المسجد الحرام أعظم عند الله حرمة؟ فلم يتكلم أحد منا، فكان هو الراد على نفسه، قال: ذاك ما بين الركن الأسود والمقام وباب الكعبة ، وذلك حطيم إسماعيل عليه السلام ، ذاك الذي كان يذود فيه غنيماته ويصلي فيه ، والله لو أن عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان ، قام الليل مصلياً حتى يجيئه النهار ، وصام النهار حتى يجيئه الليل، ولم يعرف حقَّنا وحرمتنا أهل البيت، لم يقبل الله منه شيئا أبداً (2).

هذا مع دلالة بعض الأخبار على أن أفضل بقاع الأرض ما بين الركن والمقام، وهي بقعة من مكة لا من غيرها، وقد مرَّ ذلك في معتبرة ميسر المتقدِّمة.

وفي صحيحة أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال: قال لنا

 

(1) من لا يحضره الفقيه 2/162. وسائل الشيعة 9/349.
(2) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق، ص 245. ونقله المجلسي عنه في بحار الأنوار 27/177.

 
 

أثر العناصر الأجنبية في صنع التشيع ................................................................. 605

علي بن الحسين عليهما السلام : أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم. فقال: أما أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أن رجلاً عمَّر ما عمَّر نوح عليه السلام في قومه ـ ألف سنة إلا خمسين عاماً ـ يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان، ثم لقي الله عزَّ وجل بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً (1).

هذا هو مبلغ علمنا بحسب دلالة الأخبار التي وقفنا عليها، والله أعلم بحقائق الأمور.

وأما الأشعار التي ذكرها الكاتب فلا يخفى أنها لا تدل على أفضلية كربلاء على مكة المكرمة، لأن قوله: (لكربلا بان علو الرتبة) ظاهر في ثبوت رتبة عالية لكربلاء، ولا دلالة فيه على أن تلك الرتبة أعلى من رتبة مكة ، كما أن قوله : ( فما لمكة معنى مثل معناها ) ظاهر في أن لكربلاء معنى غير موجود في مكة، ولعل الشاعر يشير إلى أن زائر كربلاء يدخلها مكروباً محزوناً، بخلاف زائر مكة، وهذا لا دلالة فيه أيضاً على أفضلية كربلاء على مكة المكرمة.

قال الكاتب: ولنا أن نسأل: لماذا يكسر القائم المسجد ويهدمه ويرجعه إلى أساسه؟
والجواب: لأن من سيبقى من المسلمين لا يتجاوزون عُشْرَ عددهم كما بَيَّنَ الطوسي: ( لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس ) الغيبة ص 146.
بسبب إِعمالِ القائم سيفَه فيهم عموماً، وفي المسلمين خصوصاً.

وأقول: ما العلاقة بين هدم المسجد وبين ذهاب تسعة أعشار الناس ؟ هل يرى

 

(1) من لا يحضره الفقيه 2/163.

 
 

606 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

مدَّعي الاجتهاد والفقاهة أي ربط بين الأمرين؟! ونحن قد أوضحنا فيما سبق الأسباب المحتملة التي قد تدعو إلى هدم المسجد إلى أساسه على فرض صحَّة الحديث، فلا حاجة لإعادتها.

وأما ذهاب تسعة أعشار الناس فالظاهر من الحديث أنه حدَثٌ سابق على ظهور صاحب الزمان عليه السلام ، فإنه قال: ( لا يكون هذا الأمر ) أي لا يظهر المهدي عليه السلام (حتى يذهب) أي يهلك (تسعة أعشار الناس).

وذهابهم إما أن يُراد به هلاكهم بالموت ، بسبب ما يقع في آخر الزمان من الحروب المدمِّرة التي هي غير بعيدة الحدوث بحسب ما نراه من تتابعات الأحداث، أو بسبب الأمراض والأوبئة، أو بسبب القحط والمجاعات، أو بأسباب أخرى لا نعلم بها.

وإما أن يراد به هلاكهم بالضلال، بسبب ما يكون في آخر الزمان من الاختلاف والفتن وكثرة المغريات وتعدّد أسباب الانحراف واللهو والضلال.

نعم، قد دلَّت الأخبار على أن صاحب الزمان عليه السلام بعثه الله نقمة ، لينتقم به من أعدائه وأعداء دينه، وأنه عليه السلام سيقتل العتاة والظلمة وأهل الزيغ والضلال وكل من لم يرضَ بالحق، ولكنّا لم نرَ في الأخبار أنه عليه السلام سيفني جزءاً من ألف فضلاً عن تسعة أعشار الناس.

 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب