الكتب السمـاوية ....................................................................................... 427

قال الكاتب: وقد جمع المحدّث النوري الطبرسي في إثبات تحريفه كتاباً ضخم الحجم سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف، وجمع فيه أقوال جميع الفقهاء وعلماء الشيعة في التصريح بتحريف القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين، حيث أثبت أن جميع

428 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

علماء الشيعة وفقهاءهم المتقدمين منهم والمتأخرين يقولون: إن هذا القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين محرف.

وأقول: الكتاب (الضخم) الذي ذكره الكاتب لا يتجاوز 375 صفحة بالحجم المتوسط (الوزيري)

فهل يصدِّق القارئ العزيز أن كتاباً بهذا الحجم يحتوي على أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف، ناهيك عما في الكتاب أيضاً من مناقشات واحتجاجات وجمع الأقوال، وذِكْر طائفة كبيرة جداً من روايات أهل السنة وأقوال علمائهم.

مضافاً إلى أن الميرزا النوري قدس سره قد كرَّر كثيراً من الروايات، فذكرها تارة مسندة، وتارة من غير إسناد كما ذكره الشيخ محمد جواد البلاغي قدس سره في كتابه (آلاء الرحمن)، حيث قال في مقام الرد على تلك الروايات: هذا وإن المحدِّث المعاصر جهد في كتاب (فصل الخطاب) في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة، وكثَّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل عن الأئمة عليهم السلام  في الكتب، كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع أن المتتبِّع المحقِّق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد، وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسَّر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي والتعارض، وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين.

هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم إما بأنه ضعيف الحديث، فاسد المذهب مجفو الرواية، وإما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يُعرَف حديثه ويُنكَر، ويروي عن الضعفاء، وإما بأنه كذّاب متَّهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف، وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه السلام ، وإما بأنه كان غالياً كذّاباً، وإما بأنه ضعيف لا يُلتفت إليه ولا يُعوَّل عليه ومن الكذابين، وإما بأنه فاسد الرواية يُرمى بالغلو.

ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً، ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير، لوجب من دلالة

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 429

الروايات المتعدِّدة أن ننزّلها على أن مضامينها تفسير للآيات أو تأويل، أو بيان لما يُعلم يقيناً شمول عموماتها له، لأنه أظهر الأفراد وأحقّها بحكم العام، أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل، أو ما كان هو المورد للنزول، أو ما كان هو المراد باللفظ المبهم.

وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحتمل ما ورد فيها أنه تنزيل أو أنه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات، كما يُحمَل التحريف فيها على تحريف المعنى، ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه السلام  لسعد الخير كما في روضة الكافي، ففيها: (وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرَّفوا حدوده). وكما يُحمَل ما فيها من أنه كان في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام  أو ابن مسعود، ويُنزَّل على أنه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل، ومما يشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام  للزنديق كما في نهج البلاغة وغيره: وقد جئتهم بالكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل (1).

ثم بعد أن ذكر تأويل بعض الروايات التي استدل بها المحدِّث النوري على التحريف قال: فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات (فصل الخطاب) بما حشده من الروايات التي عرفت حالها إجمالاً، وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قُدّست أسرارهم.

فإن قيل: إن هذه الرواية ضعيفة، وكذا جملة من الروايات المتقدمة.

قلنا: إن جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية وأشد منها ضعفاً كما أشرنا إليه في وصف رواتها، على أن ما ذكرناه من الصِّحاح فيه كفاية لأولي الألباب (2).

وكيف كان فالمهم الذي ينبغي الكلام فيه هو تحريف القرآن نفياً أو إثباتاً، وأما التشبث ببعض الأقوال أو الروايات دون بعض من دون مرجّح فليس من دأب طلاب الحق المنصفين.

 

(1) آلاء الرحمن، ص 26.

(2) نفس المصدر، ص 29.

 

430 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

قال الكاتب: قال السيد هاشم البحراني (1): وعندي في وضوح صحة هذا القول - أي القول بتحريف القرآن - بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع، وأنه من أكبر مقاصد (2) غصب الخلافة، فتدبر. مقدمة البرهان الفصل الرابع ص 49.

وأقول: كيف يمكن الحكم بأن القول بتحريف القرآن من ضروريات مذهب الشيعة مع إنكار أساطين الطائفة له ؟! فإن الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والطبرسي وغيرهم من أعلام الطائفة كلهم نصّوا على سلامة القرآن من كل زيادة ونقيصة، فهل غاب عن كل هؤلاء ما هو ضروري في مذهب الشيعة؟! وصحة أخبار التحريف لا تستلزم القول به ، للزوم تأويلها جمعاً بينها وبين غيرها من الأحاديث الصحيحة، كأحاديث الحث على التمسك بالكتاب، وأحاديث العَرْض على كتاب الله وغيرها، وإلا لَلَزم أن يقول بالتحريف مَنْ ذكرنا أسماءهم من علماء أهل السنة وغيرهم، لصحة أحاديث التحريف التي أخرجوها في كتبهم.

قال الكاتب : وقال السيد نعمة الله الجزائري رداً على من يقول بعدم التحريف: ( إن تسليم تواتره عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يُفْضِي إلى طرح الأخبار المستفيضة مع أن أصحابنا قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها )

 

(1) هذه الكلمة لأبي الحسن العاملي، وقد التبس على الكاتب فنسبها للسيد هاشم البحراني، بسبب طبع مقدمة تفسير (مرآة الأنوار) للعاملي كمقدمة لتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني.
(2) كذا في نسخة الكتاب، والموجود في المصدر: (مفاسد)، ولعل الكاتب تعمد تغيير اللفظ مراعاة لمقامات الخلفاء الثلاثة.

 
 

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 431

الأنوار النعمانية 2/357.

وأقول: مع حصول الجزم بتواتر القرآن فلا محذور في طرح الأخبار المستفيضة التي ذكرها، وذلك لأن المتواتر قطعي الصدور، وأما الحديث المستفيض فهو ظني الصدور، ولا يمكن رفع اليد عن المتواتر القطعي لأجل الأخبار الظنية.

على أنه يمكن تأويل تلك الأخبار كما مرَّ في كلام الشيخ البلاغي قدس سره بما لا يستلزم القول بالتحريف.
هذا مع أن كثيراً من تلك الأخبار ضعاف الأسانيد، ومعارضة بما هو أصحّ منها سنداً وأوضح دلالة، فكيف يمكن التعويل عليها؟!
وإطباق الأصحاب على صحَّتها في الجملة ـ لو سلَّمنا به ـ لا يستلزم القول بتحريف القرآن كما مرَّ بيانه، ولهذا لم يطبقوا على القول بالتحريف.

قال الكاتب: ولهذا قال أبو جعفر كما نقل عنه جابر: (ما ادَّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزل إلا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده) الحجة من الكافي 1/26.
ولا شك أن هذا النص صريح في إثبات تحريف القرآن الموجود اليوم عند المسلمين. والقرآن الحقيقي هو الذي كان عند علي والأئمة من بعده عليهم السلام  حتى صار عند القائم عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام.

وأقول: هذا الحديث ضعيف السند، فإن من جملة رواته عمرو بن أبي المقدام، وهو مختلف فيه، ولم تثبت وثاقته.
قال المجلسي قدس سره: الحديث الأول [في سنده] مختلف فيه (1).

 

(1) مرآة العقول 3/30.

 
 

432 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

والذي يظهر من كلمات الأعلام أن الأكثر ذهب إلى تضعيفه(1).

وكيف كان فالرجل لم تثبت وثاقته بدليل معتمد، ولا سيما مع اضطراب كلام العلماء فيه، فإن ابن الغضائري وثّقه في أحد قوليه ، وضعَّفه في قوله الآخر (2) ، وذكره العلاّمة قدس سره مرّة في القسم الأول من خلاصته في الثقات، وذكره مرة ثانية في القسم الثاني منها في الضعفاء (3)، وكذلك صنع ابن داود في رجاله (4)، وعليه فالرجل لا يُعتمد حديثه لجهالته.

على أنه ليس المراد بجمع القرآن وحفظه كما أُنزل هو جمع سوره وآياته في مصحف كما توهّمه الكاتب، بل المراد بجمعه أحد معنيين:
المعنى الأول: هو العلم بتفسيره ومعرفة ما فيه من أحكام ومعارف.
ويدل على ذلك قوله عليه السلام في الحديث الآخر الذي رواه الكليني رحمه الله في نفس الباب: ما يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء.

فإنه ظاهر فيما قلناه ، وإلا لو كان المراد بجمع القرآن في الحديث جمع ألفاظه في مصحف لكان أكثر هذه الأمّة يدّعون أن عندهم جميع القرآن كلّه، أما ادِّعاء العلم بالقرآن وفهم آياته ومعانيه الظاهرة والباطنة كما أنزلها الله سبحانه فهذا لم يدَّعه أحد من هذه الأمة إلا أئمة أهل البيت عليهم السلام .

وقوله: (ظاهره وباطنه) يرشد إلى ذلك ، فإن ظاهر القرآن وباطنه مرتبطان بمعانيه لا بألفاظه (5)، وجمع الظاهر والباطن يعني الإحاطة بمعاني آيات الكتاب

 

(1) راجع تنقيح المقال 2/324. رجال العلاّمة، ص 241.
(2) راجع رجال ابن الغضائري، ص 73، 111.
(3) رجال العلامة، ص 120، 241.

(4) راجع تنقيح المقال 2/324.
(5) الظاهر: ما ظهر معناه، والباطن: ما خفي تأويله.

 

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 433

العزيز كلها، أو أن الظاهر هو لفظه، والباطن معناه، فيكون المعنى أنه لا يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده علماً بألفاظ القرآن ومعانيه كاملة إلا الأوصياء عليهم السلام .

ولو كان المراد بجمع القرآن جمع ألفاظه كلها في مصحف لما صحَّ لنا أن نقول: ( إن غير علي عليه السلام  من أئمة أهل البيت عليهم السلام  قد جَمَعه) ، لأنه إذا كان أمير المؤمنين عليه السلام  قد جمعه قبلهم، فكيف يتأتى لهم أن يجمعوا ما كان مجموعاً؟‍! هذا مضافاً إلى أن الظاهر من أحاديث الباب أنها جاءت تؤكِّد أن أئمة أهل البيت عليهم السلام  علموا تفسير القرآن، وفهموا معانيه كلها، وعرفوا أحكامه كما أرادها الله سبحانه، وأن أحداً غيرهم من هذه الأمة لا يستطيع أن يدَّعي علم ذلك كله.

المعنى الثاني: أن المراد بجمع القرآن كما أُنزل هو جمعه في مصحف رُتِّب فيه المنسوخ قبل الناسخ، والمكّي قبل المدني، والسابق نزولاً قبل اللاحق، وهكذا، وجمع القرآن بهذا النحو لم يتأتَّ لأحد من هذه الأمّة إلا لعليّ بن أبي طالب عليه السلام .

فقد أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، وابن عبد البر في الاستيعاب والتمهيد، وغيرهم عن محمد بن سيرين، قال: لمَّا توفي النبي (ص) أبطأ عليٌّ عن بيعة أبي بكر، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهتَ إمارتي؟ فقال: لا، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن. فزعموا أنه كتبه على تنزيله، فقال محمد: لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم (1).

وقال السيوطي: وأخرجه ابن أشته في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، وفيه أنه ـ يعني عليًّا عليه السلام ـ كتَب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين قال: تطلَّبتُ ذلك الكتاب، وكتبتُ فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه (2).

وبهذا كله يتضح أن ما استدل به الكاتب مخدوش سنداً ودلالة.

 

(1) الطبقات الكبرى 2/338. المصاحف ص 16. الاستيعاب 3/974. التمهيد 6/31. وراجع تاريخ الخلفاء، ص 173، الإتقان في علوم القرآن 1/127، كنز العمال 2/558، حلية الأولياء 1/67، الفهرست لابن النديم، ص 41.
(2) الإتقان في علوم القرآن 1/127.

 
 
 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب