ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 373

قال الكاتب: فهم ينظرون إلى واقعهم فيرون مدارسهم ومطابعهم وما تحتاجه من نفقات.
وكذلك ينظرون في حاجاتهم الشخصية، فكيف يمكنهم معالجة هذا كله وتسديد هذه الحاجات؟ علماً أن هذا يتطلب مبالغ طائلة.
فكانت نظرتهم إلى الخمس كأفضل مورد يسد حاجاتهم كلها، ويحقق لهم منافع شخصية وثروات ضخمة جداً، كما نلاحظه اليوم عند الفقهاء والمجتهدين.

وأقول: إن الدليل كما رأينا ليس هو ما زعمه الكاتب من المصالح الشخصية والحاجات الفردية ، وإنما هو ما يُحرَز به رضا الإمام عليه السلام، ولا ريب في إحراز رضا الإمام في إنفاق سهمه المبارك في ترويج الدين ودعم الحوزات العلمية، وعلى طلبة العلم الذين صرفوا أعمارهم الشريفة في سبيل ترويج أحكام الدين والذب عن شريعة سيّد المرسلين.

ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب الذي يزعم أن العلماء ينظرون إلى مدارسهم ومطابعهم وما تحتاجه من نفقات، فيعمدون إلى الخمس لسد هذه النفقات، مع أنّا لم نسمع بعالم في العراق كانت عنده مطبعة، مضافاً إلى أن نفقات المطابع تسد من بعض دخلها.

ولقد رأينا بعض مراجع التقليد الذين ينفقون الأموال الطائلة في تشييد الدين لا يملكون إلا ما يقيتهم.
وقد حدثني آية الله الشيخ محي الدين المامقاني دام ظله أنه دخل ذات يوم على

374 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

مرجع الشيعة في عصره السيد محسن الحكيم قدس سره فرآه مغتماً، فسأله عن سبب همِّه فقال: منذ ثلاثة أيام والعيال ليس عندهم ما يأكلونه. قال: فقلت له: لمَ لا تُنفق عليهم من سهم السادة، فهم سادة وفقراء؟ فقال: لا أحب أن أنفق شيئاً من الحقوق الشرعية على نفسي ولا على عيالي.
قال: ثم دخل علينا رجل من مقلِّدي السيد، فقدَّم للسيد عشرة آلاف دينار، وقال له: أرجو أن تقبل مني هذه الهدية الخالصة من كل حق. فقبلها منه السيد، ودعا له.
وهذا أنموذج واحد من نماذج كثيرة لا داعي لاستقصائها.

وإني لأعجب من هذا الكاتب وأمثاله من الذين لا يرون غضاضة في صرف الحكومات الجائرة لأموال المسلمين الطائلة على الجامعات والكليات التي لا نفع فيها كالكليات المختلطة للموسيقى والفنون والرقص والرسم والرياضة البدنية وغيرها، ويرون حرمة صرف أموال صاحب الزمان عليه السلام المباركة على من يروِّجون أحكام الدين وشرائعه، فما لهم كيف يحكمون؟!

قال الكاتب: إن القضية مرت في أدوار وتطورات كثيرة حتى استقرت أخيراً على وجوب إعطاء أخماس المكاسب للفقهاء والمجتهدين، وبذلك يتبين لنا أن الخمس لم ينص عليه كتاب ولا سنة ولا قول إمام، بل هو قول ظهر في الزمن المتأخر، قاله بعض المجتهدين وهو مخالف للكتاب والسنة وأئمة أهل البيت ولأقوال وفتاوى الفقهاء والمجتهدين المعتد بهم.

وأقول: بل ظهر للقارئ الكريم أن وجوب دفع الخمس في عصر الحضور والغيبة هو رأي كافة الفقهاء المعروفين كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 375

الطوسي، والمحقق والعلاّمة الحلّيين، وابن إدريس، وابن حمزة، وأبي الصلاح وابن زهرة الحلبيين، والقاضي ابن البراج، والشهيدين، وصاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري، وكافة المحققين وغيرهم من العلماء قديماً وحديثاً كما مرَّ بيانه.

وقد نُسب القول بتحليل الخمس لثلاثة أو خمسة من العلماء لم تثبت صحة النسبة إلى بعضهم كما مرَّ، وأما من نسب الكاتب هذا القول إليهم فقد عرفت أقوالهم مفصلاً، وأن ما قاله الكاتب كله كذب فاضح وافتراء واضح.

كما ظهر للقارئ العزيز أن القول بوجوب الخمس في عصور الأئمة عليهم السلام وما بعدها هو الموافق للكتاب العزيز، وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام، وسيرتهم في نصب الوكلاء وقبض الحقوق الشرعية في كل أزمانهم.
وأما أحاديث التحليل فهي محمولة على إباحة المناكح فقط أو هي والمتاجر والمساكن كما مرَّ بيانه مفصلاً، جمعاً بين الأخبار، وعملاً بالسيرة القطعية في زمن الأئمة عليهم السلام.

وأما ما زعمه الكاتب من أن الخمس مرَّ في أدوار وتطورات فهو غير صحيح، وما ذكره كله راجع إلى مسألة التصرف في سهم الإمام عليه السلام في عصر الغيبة لا إلى أصل وجوب الخمس، وقد أوضحنا أن الاختلاف في هذه المسألة نشأ من عدم وجود نصّ صريح فيها، وأن أصح الأقوال فيها هو ما ذهب إليه المتأخرون من وجوب التصرف في سهم الإمام عليه السلام فيما يُحرَز به رضا الإمام عليه السلام، وقد مرَّ بيان ذلك مفصَّلاً، فلا حاجة لإعادته.

قال الكاتب: وإني أهيب بإخواني وأبنائي الشيعة أن يمتنعوا عن دفع أخماس مكاسبهم وأرباحهم إلى السادة المجتهدين، لأنها حلال لهم هم وليس للسيد أو الفقيه

376 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

أي حق فيها، ومن أعطى الخمس إلى المجتهد أو الفقيه فإنه يكون قد ارتكب إثماً لمخالفته لأقوال الأئمة، إذ أن الخمس ساقط عن الشيعة حتى يظهر القائم.

وأقول: هل يتصوّر الكاتب النبيه أن الشيعة سينقادون إليه زرافاتٍ ووحداناً بكلمة (أهيبُ)، وسيتركون أقوال وفتاوى أساطين الطائفة منذ عصر الغيبة وإلى يومنا هذا؟! ولا سيما مع وضوح هويّة الكاتب السُّنّية، وأنه بعيد عن الاجتهاد والفقاهة التي جهل أبسط مبادئها، وهي معرفة الصحيح من الضعيف من الأحاديث، ومعرفة وجه الجمع بين الأخبار المتعارضة.

وأما زعمه أن الأخماس حلال للشيعة فقد أوضحنا بطلانه مفصَّلاً فيما تقدّم، فلا حاجة لتكراره.

وأما زعمه أن من يدفع الخمس يكون آثماً، لأنه يخالف بذلك أقوال الأئمة عليهم السلام، فهو أوضح بطلاناً من سابقه، وذلك لأن الخمس كما مرَّ واجب في عصر الغيبة، فمن أخرجه فقد امتثل أمر الله سبحانه بإخراجه، وأبرأ ذمّته مما تعلق بها من الحق الشرعي، وأحيى فرضاً جحده الناس، ووصل رسول الله (ص) في ذرّيته، وأعان على إقامة دعائم الدين، وترويج شريعة سيّد المرسلين.

ولو سلّمنا جدلاً بأن الأئمة عليهم السلام قد أباحوا الخمس للشيعة، فأقصى ما هناك أن من أخرجه لا يثاب عليه بعنوان الخمس، ولكنه يثاب عليه بعنوان الصدقة على الفقراء والمساكين من الذرية الطاهرة، أو الإنفاق في سبيل الله، وحسبك بهذا منفعة عظيمة وفائدة جليلة.

قال الكاتب: وأرى من الضروري أن أذكر قول آية الله العُظْمَى الإمام الخميني في المسألة، فإنه كان قد تحدث عنها في محاضرات ألقاها على مسامعنا جميعاً في الحوزة

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 377

عام 1389هـ ثم جمعها في كتاب الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه.
فكان مما قال: يقصر النظر لو قلنا إن تشريع الخمس جاء لتأمين معايش ذرية الرسول (ص) فحسب. إنه يكفيهم ويزيدهم جزء ضئيل من آلاف - كذا قال - جزء من هذه المالية الضخمة بل تكفيهم أخماس سوق واحد كسوق بغداد مثلاً من تلك الأسواق التجارية الضخمة كسوق طهران ودمشق وإسلام بول وما أشبه ذلك، فماذا يصبح حال بقية المال؟
ثم يقول: إنني أرى الحكم الإسلامي العادل، لا يتطلب تكاليف باهظة في شؤون تافهة أو في غير المصالح العامة.
ثم يقول: لم تكن ضريبة الخمس جباية لتأمين حاجة السادة آل الرسول (ص) فحسب، أو الزكاة تفريقاً على الفقراء والمساكين، وإنما تزيد على حاجاتهم بأضعاف. فهل بعد ذلك يترك الإسلام جباية الخمس والزكاة وما أشبه نظراً إلى تأمين حاجة السادة والفقراء، أو يكون مصير الزائد طعمة في البحار أو دفناً فى التراب، أو نحو ذلك؟
كان عدد السادة ممن يجوز لهم الارتزاق بالخمس يومذاك -يعني في صدر الإسلام- لم يتجاوز المائة، ولو فرضنا عددهم نصف مليون، ليس من المعقول أن نتصور اهتمام الإسلام بفرض الخمس هذه المالية الضخمة، التي تتضخم وتزداد في تضخمها كلما تَوَسَّعَتْ التجارات والصناعات كما هي اليوم، كل ذلك لغاية إشباع آل الرسول (ص) ؟ كلا. انظر كتابه المذكور 1/39 - 40 - 42 طبعة مطبعة الآداب في النجف.

وأقول: كل ما نقله عن السيِّد الخميني قدس سره دال على أن الله لم يشرّع الخمس كله للسادة فقط، بل جزء منه للسّادة، والباقي لمصالح الدين والأمة، وذلك لأن ما زاد على حاجة السّادة يكون للإمام عليه السلام كما مرَّ عن غير واحد من الأعلام.

378 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

وهذا هو عين ما قلناه فيما مرَّ من البحوث، ولا إشكال فيه.

قال الكاتب: إن الإمام الخميني يصرح بأن أموال الخمس ضخمة جداً، هذا في ذلك الوقت لما كان الإمام يحاضر في الحوزة، فكم هي ضخمة إذن في يومنا هذا ؟ ويصرح الإمام أيضاً أن جزءاً واحداً من آلاف الأجزاء من هذه المالية الضخمة يكفي أهل بيت النبي (ص)، فماذا يفعل بالأجزاء الكثيرة المتبقية ؟؟ لا بد أن توزع على الفقهاء والمجتهدين حسب مفهوم قول الإمام الخميني.

وأقول: بل لا بد من صرفها فيما يُحرَز به رضا الإمام عليه السلام، أي في ترويج الدين وإقامة دعائمه كما مرَّ مفصَّلاً.

قال الكاتب: ولهذا فإن الإمام الخميني كان ذا ثروة ضخمة جداً في إقامته في العراق حتى أنه لما أراد السفر إلى فرنسا للإقامة فيها فإنه حول رصيده ذاك من الدينار العراقي إلى الدولار الأميركي وأودعه في مصارف باريس بفوائد مصرفية ضخمة.

وأقول: نحن لا نعلم أن السيِّد الخميني قدس سره كانت عنده ثروة ضخمة، ومن المعروف أن والد السيد ـ الذي لم يكن من أهل العلم ـ كان ثريًّا جداً، فإن كان عند السيد ثروة ضخمة كما زعم الكاتب فهي من أمواله الخاصة التي ورثها من أبيه، ولم تكن من الحقوق الشرعية أصلاً.

قال الكاتب: إن فساد الإنسان يأتي من طريقين: الجنس والمال، وكلاهما متوافر

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 379

للسادة. فالفُروج والأدبار عن طريق المتعة وغيرها، والمال عن طريق الخمس وما يُلقى في العَتبات والمشاهد، فمن منهم يصمد أمام هذه المغريات، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم ما سلك هذا الطريق إلا من أجل إشباع رغباته في الجنس والمال؟؟!!

وأقول: لو درس الكاتب في الحوزة العلمية ـ كما يزعم ـ وخالط العلماء لعلم أنهم أزهد الناس في هذه الأمور، وزهدهم وتقواهم أشهر من أن يُذكر، ولو كانوا كما زعم الكاتب منغمسين في الجنس ومتكالبين على جمع الأموال لاشتهر ذلك عنهم وشاع، لأن أمثال هذه الأمور لا يمكن أن تخفى مع كثرة العلماء وتفرّقهم في البلدان.

ولو سلَّمنا أن العلماء كانوا يتمتعون بالنساء فهذا لا يُعيبهم بعدما ثبت أن المتعة كانت مستحبَّة في الإسلام وفعلها أجلاء الصحابة.
وفساد المرء لا يحصل بفعل المستحبات والمباحات الشرعية، وإنما يتحقق باتباع الهوى المُردي الذي يوقع المرء في المحارم والموبقات كما هو واضح.

ولا ريب في أن جملة من صحابة النبي (ص) كثرت أموالهم وزاد ثراؤهم، فامتلكوا الذهب والفضة والجواري والإماء (1)، فهل أصيبوا بالفساد والانحراف من جراء ذلك؟

 

(1) ذكر البخاري في صحيحه 2/963 أن جميع مال الزبير خمسون مليون ومائتا ألف (لا يعلم هل هو دينار أو درهم).
وأما طلحة فروى الحاكم في المستدرك 3/369 أنه لما مات كان في يد خازنه مليون ومائتا ألف درهم، وقُوِّمت أصوله بثلاثين مليون درهم.
وروى النسائي في السنن الكبرى 5/359، وابن أبي عاصم في كتاب السنة 2/565 عن عائشة أن أموال أبي بكر في الجاهلية كانت ألف ألف أوقية. وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/76 أن عثمان كان عنده يوم قتل ثلاثون مليون درهم، وخمسمائة وخمسون ألف دينار، وألف بعير بالربذة، وصدقات قيمتها مائتا ألف دينار.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية 7/171 أن عبد الرحمن بن عوف ترك من الذهب ما كان يكسر بالفؤوس، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع، وصولحت واحدة من نسائه الأربع من ربع الثمن بثمانين ألفاً... إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وللمزيد راجع كتاب الغدير للأميني 8/282-286.

 
 

380 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

قال الكاتب: تنبيه: لقد بدأ التنافس بين السادة والمجتهدين للحصول على الخمس، ولهذا بدأ كل منهم بتخفيض نسبة الخمس المأخوذة من الناس حتى يتوافد الناس إليه أكثر من غيره فابتكروا أساليب شيطانية، فقد جاء رجل إلى السيد السيستاني فقال له: إن الحقوق - الخُمس - المترتبة عَلَيّ خمسة ملايين، وأنا أريد أن أدفع نصف هذا المبلغ أي أريد أن أدفع مليونين ونصف فقط، فقال له السيد السيستاني: هات المليونين والنصف، فدفعها إليه الرجل، فأخذها منه السيستاني ، ثم قال له : قد وهبتها لك - أي أرجع المبلغ إلى الرجل - فأخذ الرجل المبلغ ، ثم قال له السيستاني: ادفع المبلغ لي مرة ثانية، فدفعه الرجل إِليه، فقال له السيستاني: صار الآن مجموع ما دفعته إليَّ من الخمس خمسة ملايين، فقد برئت ذمتك من الحقوق. فلما رأى السادة الآخرون ذلك، قاموا هم أيضاً بتخفيض نسبة الخمس واستخدموا الطريقة ذاتها بل ابتكروا طُرُقاً أُخرى حتى يتحول الناس إليهم، وصارت منافسة (شريفة!) بين السادة للحصول على الخمس، وصارت نسبة الخمس أشبه بالمناقصة، وكثير من الأغنياء قام بدفع الخمس لمن يأخذ نسبة أقل.

وأقول: أي تنافس في هذه المسألة والحال أن كل مكلَّف يدفع الحقوق الشرعية للمرجع الذي يرجع إليه في التقليد؟! ولهذا لا تجد شيعياً يدفع خمساً لمرجع آخر لا يقلّده بغض النظر عن كونه يأخذ أقل أو أكثر.

وأما القصة التي نقلها عن السيد السيستاني فهي كسائر رواياته التي لا يعوَّل عليها لعدم وثاقة ناقلها.

ولو سلمنا بوقوعها فإن مثل هذه الأمور قد تحدث أحياناً عندما لا يكون المكلف قادراً على دفع ما اشتغلت به ذمّته، فإن المرجع يتسلَّم منه مقداراً من الخمس،
 

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 381

ثم يقرضه إياه (1) ، ثم يقبضه منه مرة ثانية خمساً، لتبرأ ذمّة المكلف عما في ذمّته من الخمس الذي لا يقدر على سداده، ويحل للمكلف بعد ذلك أن يتصرف في ماله، لأن رقبة المال حينئذ لم يتعلق بها شيء من الخمس، والمتعلق بذمَّته إنما هو الدين لا الخمس.

هذا هو وجه المسألة التي لم يفهم مدّعي الاجتهاد حقيقتها، فاختلق منها قصة، لا أن المسألة مسألة تنافس وتخفيض نسبة الخمس كما افتراه الكاتب.

قال الكاتب: ولما رأى زعيم الحوزة أن المنافسة على الخمس صارت شديدة، وأن نسبة ما يرده هو من الخمس صارت قليلة، أصدر فتواه بعدم جواز دفع الخمس لكل من هبَّ ودَبَّ من السادة، بل لا يُدْفَعُ إلا لشخصيات معدودة، وله حصة الأسد أو لوكلائه الذين وزعهم في المناطق.

وأقول: إن عدم جواز إعطاء الخمس إلا للوكلاء أمر جار على القاعدة، وذلك لأنه لا يجوز لكل من هبَّ ودَرَج أن يتصرَّف في الحقوق الشرعية كيفما يحلو له، وإنما يصرفها الفقيه المأمون فيما يحرز به رضا الإمام عليه السلام كما مرَّ.
ومن أجل ذلك صدرت من كثير من العلماء فتاوى بتحريم إعطاء الخمس إلا للوكلاء المعروفين، من أجل الحيلولة دون تلاعب من تسوِّل له نفسه بأن يخدع العوام ويأخذ منهم الحقوق الشرعية بغير حق.
وكل من راجع السيّد السيستاني يعرف أنه دام ظله لا يقبض الحقوق الشرعية من أهل العراق، وقد أعطى إذناً عاماً لكل من في ذمَّته حق شرعي أن يصرفه على

 

(1) لأنه إذا أقرضه إياه جاز له التصرف في أمواله باعتبار أنها صارت مخمَّسة، وما يجب عليه دفعه يصير ديناً للمرجع يسدّده إليه وقت استطاعته.

 
 

382 .................................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

فقراء بلده، فإذا كان هذا حال السيِّد فكيف تصدر منه هذه الألاعيب التي افتراها الكاتب من أجل تجميع الخمس؟!

قال الكاتب: وبعد استلامه هذه الأموال ، يقوم بتحويلها إلى ذهب بسبب وضع العملة العراقية الحالية، حيث يملك الآن غرفتين مملوئتين بالذهب. وأما ما يسرقه الوكلاء دون علم السيد فَحَدِّثْ ولا حَرَجَ.

وأقول: هذه فرية باردة واضحة البطلان، فإن عصر تجميع الذهب في الغُرَف قد مضى وفات، ولو أن الكاتب زعم أن السيد يحول المبالغ إلى بنوك سويسرا لأمكن تصديق فريته، وأما الكذب بهذه الصورة المفضوحة فلا يمكن أن يصدّقه إلا الحمقى والمغفّلون.
وإذا كان السيد قد جمع كل هذا الذهب في هاتين الغرفتين فلا أظن أنه سيبقى ذهب في كل العراق أصلاً.
ثم إن من اطَّلع على أحوال السيِّد علم أن بيت السيّد ضيق جداً، ولا يسعه أن يجعل فيه ما يحتاجه من الكتب فكيف يسعه أن يجمع فيه كل هذا الذهب؟
ثم كيف تسنّى للكاتب أن يطّلع على هاتين الغرفتين المزعومتين دون غيره من الناس؟!

وأنا أجزم بأن الكاتب لو كان عنده دليل واحد على مزاعمه الباطلة لذكره، ولكن هذا الخبر قد جاء به من جراب النورة المملوء بالافتراءات والأباطيل، وكم فيه من عجائب وغرائب!!
وأما اتهام وكلاء السيد بأنهم يسرقون الخمس من دون علمه فلا قيمة له، لأن كل كلام لا دليل عليه لا يُعتنى به، والكاتب لم يذكر اسم وكيل واحد سرق من

ملخص تطور نظرية الخمس ................................................................................. 383

أموال الخمس.
ولو سلمنا جدلاً بحصول ذلك من بعضهم فالسيّد لا يحاسَب على ما لم يطَّلع عليه ، ونحن لا ننزّه كل الناس عن الخيانة، فإن التاريخ حدّثنا بأن بعض وكلاء الأئمة عليهم السلام قد خانوا أماناتهم، فأخذوا ما بحوزتهم من الأموال، كما حصل لبعض وكلاء الإمام الكاظم عليه السلام الذين جحدوا إمامة الرضا عليه السلام لئلا يدفعوا إليه ما بحوزتهم من الأموال.
ولهذا لزم التأكيد على العوام بألا يدفعوا حقوقهم إلا لمن يعرفونه بالصلاح والأمانة والتقوى والورع، دون غير المعروف بذلك.

قال الكاتب: قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: (طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءَها طيباً، والقرآن شعاراً، والدعاء دِثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح.. إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عَشَّاراً أو عريفاً أو شرطياً) نهج البلاغة 4/24.
قارن بين كلام الأمير رضي الله عنه وبين أحوال السادة واحكم بنفسك، إن هذا النص وغيره من النصوص العظيمة ليس لها أي صدى عند السادة والفقهاء، وحياة الترف والنعيم والبذخ التي يعيشونها أَنْسَتْهُم زهد أمير المؤمنين، وأعمت أبصارهم عن تدبر كلامه، والالتزام بمضمونه.

وأقول: لقد اطّلعتُ على أحوال من وسعني معرفتهم من علماء النجف ومراجعها فرأيتهم يعيشون حياة الزهد في الدنيا، والانصراف عن ملذاتها مع ما بأيديهم من الأموال التي لم يستغلوها لمآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية.

384 .................................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

فما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه السلام منطبق عليهم أتمَّ الانطباق، مع شدّة هذا الزمان المملوء بالمغريات والملذات، فإنهم لو أرادوا أن يستمتعوا بالدنيا لوسعهم ذلك من غير أن يتكلفوا أية مؤونة، ولكنهم ضربوا بكل ذلك عرض الجدار، مؤثرين دار البقاء، وزاهدين في دار الفناء.

ومن أراد أن يطلع على زهد العلماء وانصرافهم عن الدنيا وملذاتها فليطالع الكتب المتكفلة بذلك، ففيها الكثير من قضاياهم وأحوالهم، وليس هذا موضع بيانها.

ونحن بهذه المناسبة ندعو كل منصف لزيارة مراجع النجف الأشرف وقم المقدسة ليطَّلع بنفسه على أحوالهم وزهدهم وانصرافهم عن الدنيا، وليعلم أن كل ما قاله الكاتب ما هو إلا افتراءات مفضوحة وأكاذيب مكشوفة.

قال الكاتب: إن العَشّار هو الذي يأخذ ضريبة العُشر، فلا يستجاب دُعاؤه كما قال L، فكيف بالخماس؟ الذي يأخذ الخمس من الناس؟ إن الخَمَّاس لا يستجاب له من باب أولى لأن ما يأخذه من الخمس ضعف ما يأخذه العَشَّار، نسأل الله العافية.

وأقول: إنما لا يستجاب دعاء العشَّار لأنه من أعوان الظالمين الذين يجمعون لهم الأموال من الناس بالقهر وبغير حق.
وأما من يقبض الخمس فإنه يقبضه من أهله بحق، ويصرفه في محلّه بحق، فكيف يكون ملعوناً أو مذموماً؟!
ولهذا لا يقال لجابي الزكاة للإمام العادل (إنه عشَّار) مع أنه قد يأخذ العشر وقد يأخذ نصف العشر، وذلك لأنه يأخذها بحق، ويدفعها للإمام العادل الذي يصرفها على مستحقيها.
فبين الأمرين فرق واضح، وليس كل من يتسلّم مالاً فهو عشّار أو ملعون أو

ملخص تطور نظرية الخمس ................................................................................. 385

لا يستجاب دعاؤه.

قال الكاتب: تنبيه آخر: عرفنا مما سبق أن الخمس لا يُعْطَى للفقهاء ولا المجتهدين واتضح لنا هذا الأمر من خلال بحث الموضوع من كل جوانبه، ويحسن بنا أن ننتبه إلى أن الفقهاء والمراجع الدينية يزعمون أنهم من أهل البيت، فترى أحدهم يروي لك سلسلة نسبه إلى الكاظم رضي الله عنه . اعلم أنه يستحيل أن يكون هذا الكم الهائل من فقهاء العراق وإيران وسورية ولبنان ودول الخليج والهند وباكستان وغيرها من أهل البيت، ومَن أحصى فقهاء العراق وجد أن من المحال أن يكون عددهم الذي لا يُحْصَى من أهل البيت، فكيف إذا ما أحصينا فقهاء البلاد الأخرى ومجتهديها ؟ لا شك أن عددهم يبلغ أضعافاً مضاعفة، فهل يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً من أهل البيت؟؟

وأقول: من الأخطاء الواضحة التي وقع فيها الكاتب ونحن نبَّهنا عليها فيما سبق أنه يظن أن كل العلماء بل كل طلبة العلم سادة، ولهذا رأيناه يطلق عليهم كلمة (سادة)، كما أنه أطلق في كلامه هنا على طلبة العلم كلمة (فقهاء)، مع أن الأمر ليس كذلك.

وبسبب هذا الظن الفاسد رتّب النتائج التي ذكرها في كلامه، فاستبعد أن يكون كل هؤلاء العلماء وطلبة العلم من السَّادة.

وهذا دليل واضح على أن الكاتب بعيد كل البعد عن جو الحوزة، وأجنبي عن معرفة مصطلحاتها، لأنه لو كان من أهلها لعلم أن بعض أهل العلم سادة، وبعضهم ليسوا كذلك، وبه يندفع إشكاله، وذلك لأن غير السّادة في الحوزة أكثر بكثير من السادة.

386 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

قال الكاتب: وفوق ذلك إن شجرة الأنساب تُبَاعُ وتَشْتَرَى في الحوزة، فَمَن أراد الحصول على شرف النسبة لأهل البيت فما عليه إلا أن يأتي بأخته أو امرأته إذا كانت جميلة إلى أحد السادة ليتمتع بها، أو أن يأتيه بمبلغ من المال، وسيحصل بإحدى الطريقتين على شرف النسبة. وهذا أمر معروف في الحوزة.

وأقول: إن أنساب كثير من السّادة محفوظة ومعروفة ولا سيّما في العراق التي لا تزال فيها العشائر العراقية محافظة على أنسابها وأصولها العربية حتى لو لم تكن منتسبة إلى رسول الله (ص)، وهذا أمر معروف في العراق لا يخفى على أحد.
والسيّادة إنما تثبت بالعلم، أو بالبيّنة، أو بالشهرة بين الناس.
وبهذا أيضاً تثبت سائر الأنساب، وأما الشجرة المزعومة التي يكتبها زيد أو عمرو فلم يقل أحد باعتبارها.

وليس من السهل في الأوساط الشيعية أن يدّعي السيّادة من هو غير معروف بها، وذلك لأن الأسر المنتسبة للذرية الطاهرة معروفة ومحفوظة بحمد الله وفضله.

وأما المهزلة التي ذكرها الكاتب من أن من أراد شجرة نسب فإنه يأتي بأخته أو امرأته إلى أحد السادة ليتمتع بها، أو أن يأتيه بمبلغ من المال... فهذا كلام لا يخفى ما فيه من الكذب، ولا يقوله من يخاف الله سبحانه، والكاتب نفسه يعرف أنه باطل مكذوب، فإن عقول الناس ليست بهذه السذاجة، وبذل الأعراض ليست بهذه السهولة التي صوَّرها الكاتب، ولكن:

لي حيلةٌ في مَنْ يَنُمُّ   وليسَ في الكذَّابِ حيلهْ
مَنْ كانَ يخلقُ مَا يَقُو   لُ فحيلتي فيه قليلهْ

ولا ندري لمَ قطع الكاتب بأنه سيِّد وأنه منتسب لأهل البيت عليهم السلام، وشك في

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 387

انتساب غيره من الناس؟! هل كانت عنده شجرة نسب صحيحة؟ أم أن شجرة نسبه قد اشتراها من بعض السادة ببعض الأثمان؟! ولا ريب في أن التشكيك في نسب غيره يستلزم التشكيك في نسبه هو أيضاً سواءاً بسواء.

قال الكاتب: لذلك أقول لا يغرنكم ما يصنعه بعض السادة والمؤلفين عندما يضع أحدهم شجرة نسبه في الصفحة الأولى من كتابه ليخدع البسطاء والمساكين كي يبعثوا له أخماس مكاسبهم.

وأقول: إن من يجعل شجرة نسبه في كتابه لا يريد من الناس خمساً، لأنه إذا كان عالماً فإنه يتمكَّن من قبض الحقوق الشرعية من دون حاجة لشجرة النسب.

على أنك لا تكاد تجد عالماً ذكر شجرة نسبه في كتابٍ له إلا القلة القليلة، ولعل الكاتب اطلع على بعض كتب السيد عبد الحسين شرف الدين قدَّس الله نفسه الشريفة ، فرأى أن السيد قد أدرج شجرة نسبه في جملة منها، فظن أن كل العلماء هكذا يصنعون للغاية التي تخيلها.

مع أن ذكْر شجرة النسب إما أن يكون من أجل التشرّف بذكر الانتساب لرسول الله (ص)، أو من أجل تثبيت النسب والمحافظة عليه من النسيان والضياع، أو من أجل دفع توهم من ينفي سيادة صاحب الكتاب، أو لغير ذلك.

قال الكاتب: وفي ختام مبحث الخمس لا يفوتني أن أذكر قول صديقي المناضل الشاعر البارع المجيد أحمد الصافي النجفي رحمه الله، والذي تعرفت عليه بعد حصولي على درجة الاجتهاد فصرنا صديقين حميمين رغم فارق السن بيني وبينه إذ

388 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

كان يكبرني بنحو ثلاثين سنة أو أكثر.

وأقول: إذا كان أحمد الصافي النجفي رحمه الله يكبر الكاتب بثلاثين سنة أو أكثر فهذا يعني أن الكاتب وُلد سنة 1344هـ أو بعدها، لأن الصافي النجفي ولد سنة 1314هـ وتوفي سنة1397هـ (1)، فيكون عمْر الكاتب لما نال درجة الاجتهاد بزعمه أقل من ثلاثين سنة ، إذا قلنا بأن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قدس سره أعطاه إجازة الاجتهاد في سنة وفاته وهي سنة 1373هـ، وأما لو قلنا إن الشيخ أعطاه الاجتهاد قبل وفاته بخمس سنين مثلاً، فإن الكاتب يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد وعمره أقل من خمس وعشرين سنة، وهذا نادر جداً يكاد يكون ممتنعاً في عصرنا، ولم يُسمع بواحد من أهل كربلاء حصل على الاجتهاد في هذه السن.

قال الكاتب: عندما قال لي: ولدي حسين، لا تُدَنِّسْ نَفْسَكَ بالخُمس، فإنه سُحْتُ، وناقشني في موضوع الخمس حتى أقنعني بحرمته، ثم ذكر لي أبياتاً كان قد نظمها بهذا الخصوص احتفظتُ بها في محفظة ذكرياتي، وأنقلها للقراء الكرام بنصها، قال رحمه الله:

عجبتُ لقوم شَحذُهم باسم دينِهم   وكيف يَسوغُ الشَّحذُ للرجلِ الشَّهمِ
لَئِنْ كان تحصيلُ العلومِ مُسَوِّغًا   لِذاكَ فإنّ الجهلَ خيرٌ من العِلم!!
وهل كان في عهدِ النبيِّ عِصابَةٌ   يعيشونَ من مالِ الأنامِ بذا الاسمِ؟
لَئِنْ أوجبَ اللهُ الزكاةَ فلم تَكُنْ   لِتُعْطَى بِذُلٍّ بل لِتُؤْخَذَ بالرَّغْمِ
أتانا بها أبناءُ ساسانَ حِرْفَةً   ولم تكن في أبناءِ يَعْرُبَ مِن قدمِ

وأقول: إن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من الشعراء، والمكلف يجب عليه اتباع

 

(1) معجم رجال الفكر والأدب في النجف 2/793.

 
 

ملخص تطور نظرية الخمس ............................................................................ 389

النصوص الصحيحة المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، لا قصائد الشعراء.
هذا مع أن القصيدة لا دلالة فيها على ما قاله الكاتب، لأن الشاعر ذمَّ أناساً تزيَّوا بزي العلم، واتخذوا الاستجداء من الناس لهم حرفة، فصاروا يقتاتون بهذه الأموال التي يأخذونها بالذُّل.

وأين هذا من الخمس الذي لا يؤخذ بالاستجداء ولا بالذل، وإنما يدفعه الناس للعلماء بالاختيار وبالإجلال والتعظيم؟!

ولو سلّمنا أن المرحوم أحمد الصافي النجفي قال ذلك وقصَدَه فلا ريب في خطئه واشتباهه، وكلامه لا يعوّل عليه بعد وضوح الأدلة واشتهار النصوص الصحيحة الثابتة عن أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام الناصَّة على وجوب دفع الخمس في حال الحضور والغيبة كما مرَّ بيانه مفصَّلاً

 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب