438 ................................................................................ لله وللحقيقة الجزء الثاني

قال الكاتب: وإذا سألنا: ماذا يفعل أمير المؤمنين والأئمة من بعده بالزبور والتوراة والإنجيل حتى يتداولوها فيما بينهم ويقرأونها [كذا] في سرّهم؟ إذا كانت النصوص تدعي أن أمير المؤمنين وحده حاز القرآن كاملاً وحاز كل تلك الكتب والصحائف الأخرى، فما حاجته إلى الزبور والتوراة والإنجيل؟ وبخاصة إذا علمنا أن هذه الكتب نُسِخَتْ بنزول القرآن؟

وأقول: لماذا لا يسائل الكاتب نفسه عن السبب الذي كان يدعو جملة من الصحابة للنظر في كتب أهل الكتاب والاعتناء بها، فإنهم ذكروا كما مرَّ أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان عنده حمل بعيرين من كتب أهل الكتاب ينظر فيها؟

ولماذا لا يُشكِل على أهل السنة الذين مُلئت كتبهم بروايات عبد الله بن عمرو ابن العاص الذي كان يحدِّث من كتب أهل الكتاب كما تقدَّم، وبروايات كعب الأحبار الذي كان ينقل لهم ما يجده في التوراة من الدعاء والتفسير وغيرهما، حتى كان بعض الصحابة بل بعض الخلفاء يسألونه ويعتنون بكلامه؟

وعلى كل حال فيمكن أن نوجز الدواعي لحيازة الأئمة عليهم السلام هذه الكتب في نقاط:

1- أن تلك الكتب من مواريث الأنبياء، فلا يصح التفريط فيها وإهمالها، وإنما

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 439

يجب الحفاظ عليها وصيانتها.

2- أن تلك الكتب قد تفيد في الاحتجاج بها على أهل الملل الأخرى، كما احتجَّ النبي (ص) على اليهود بالتوراة في إثبات رجم الزاني والزانية.

وكما يحتج المسلمون على النصارى بنبوة نبيّنا محمد (ص) الذي ذكر اسمه في الإنجيل كما نصَّ القرآن الكريم بذلك في قوله جل شأنه ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (1).

ولقد كان اليهود والنصارى يسألون النبي (ص) ويسألون أئمة المسلمين في مسائل شتى ، ويناظرونهم في مختلف الأحكام والعقائد، ولا ريب في أن معرفة ما في التوراة والإنجيل يعين على إفحامهم وإقامة الحجة عليهم.

3- أن حيازة تلك الكتب قد تنفع في الحكم بين اليهود والنصارى الذين كانوا في بلاد الإسلام، ولهذا أُثِر عن أمير المؤمنين عليه السلام  أنه قال: والله لو ثُنيتْ لي الوسادة لقضيتُ بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم (2).

وقد أخرج أبو نعيم في كتاب الفتن بسنده عن كعب قال: المهدي يُبعث بقتال الروم، يُعطى فقه عشرة، يستخرج تابوت السكينة من غار بأنطاكية فيه التوارة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام ، والإنجيل الذي أنزله الله عزَّ وجل على عيسى عليه السلام ، يحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم (3).

 

(1) سورة الصف، الآية 6.
(2) كتاب التوحيد للصدوق، ص 305. أمالي الشيخ الطوسي، ص 523. الاحتجاج 1/384، 391. مناقب آل أبي طالب 2/47. بحار الأنوار 26/153، 183، 28/4، 30/672، 35/391، 40/126، 144، 153، 89/78، 95،
(3) الفتن لنعيم بن حماد، ص 249.

 
 

440 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

4 - أن تلك الكتب مشتملة على مواعظ وعِبَر كما مرَّ روايته عن رسول الله (ص) ، فلا محذور حينئذ في اقتنائها للانتفاع بما فيها من تلك المواعظ والعبر.
هذا مع أنهم رووا أن المهدي إنما سُمّي المهدي لأنه يُهدَى إلى أمر خفي، ويستخرج التوراة والإنجيل من أرض يقال لها (أنطاكية).
ورووا أن المهدي يُخرج التوراة غضة ـ أي طرية ـ من أنطاكية (1).

فلماذا لا يسأل الكاتب نفسه: ماذا يصنع المهدي بالتوراة والإنجيل المنسوخين وعنده كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!
ولماذا يحكم بين أهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل التوراة بتوراتهم ولا يحكم بينهم بحكم الإسلام؟
فإذا جاز ذلك للمهدي عليه السلام  الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً جاز بالأولوية لغيره من الخلفاء والأئمة الذين لم يكلَّفوا بما كُلّف به المهدي.

قال الكاتب: إني أشم رائحة أَيد خبيثة فهي التي دَسَّت هذه الروايات، وكذبت على الأئمة، وسيأتي إثبات ذلك في فصل خاص إن شاء الله.

وأقول: إن ادّعاء شم الروائح ليس دليلاً علميًّا في أمثال هذه الأمور المهمة التي يترتب عليها إحقاق مذهب وإبطال مذهب آخر، وإنما الدليل هو النصوص الصحيحة الثابتة بما لها من المعاني الصحيحة، لا بما يفسِّرها مُغرِض أو يؤوِّلها مُفتِن.

والكاتب كما رأينا في كل كلامه السابق كان يتعقَّب الروايات الضعيفة ويحتج بها على الشيعة، أو ينقل الروايات الصحيحة التي لا يعلم بصحَّتها ويدفعها بغير حجة صحيحة، أو يفسِّرها تفسيراً خاطئاً ثم يحتج بها على الشيعة.

 

(1) نفس المصدر، ص 249، 250.

 
 

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 441

وكل هذه الأساليب غير صحيحة في معالجة النصوص من أجل الوصول إلى الحق من خلالها.

على أننا لا ننكر أن هناك أحاديث مكذوبة على الأئمة عليهم السلام ، ولا نزعم أن كتب الشيعة خالية من كل كذب ودسّ، بل فيها الصحيح والضعيف، والغث والسمين، ووظيفة الفقيه هي تمحيص تلكم الأحاديث وغربلتها، والأخذ بالصحيح منها وطرح الضعيف.

وفي حال تعارض الأحاديث الصِّحاح يجب الجمع بينها بالجمع العرفي الصحيح إن أمكن، وإلا فلا بد من إعمال المرجِّحات السندية والدِّلالية، ومع فقد المرجِّحات وعدم إمكان الترجيح بينها فلا مناص حينئذ من الحكم بتساقطها وترك العمل بها.

قال الكاتب: نحن نعلم أن الإسلام ليس له إلا كتاب واحد هو القرآن الكريم، وأما تعدد الكتب فهذا من خصائص اليهود والنصارى كما هو واضح في كتبهم المقدسة المتعددة. فالقول بأن أمير المؤمنين حاز كتباً متعددة، وأن هذه الكتب كلها من عند الله، وأنها كتب حوت قضايا شرعية هو قول باطل، أدخله إلينا بعض اليهود الذين تستروا بالتشيع.

وأقول: إن أراد بقوله: ( إن الإسلام ليس له إلا كتاب واحد وهو القرآن الكريم )، أنه لا كتاب منزل من الله في الإسلام إلا القرآن، فكلامه حق لا نختلف معه فيه، إلا أن الشيعة لا يقولون : ( إن الكتب التي في حوزة أهل البيت عليهم السلام  كانت منزلة من السماء )، والأحاديث التي ساقها كلها لا تدلّ على سماوية تلك الكتب كما مرَّ بيانه.

442 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

وإن أراد أنه لا كتاب يصح التعبد به في الإسلام إلا القرآن فهذا قول باطل، لأن أهل السنة وغيرهم تعبَّدوا بكتب كثيرة لا يزالون يقدِّسونها ويقدِّسون كُتَّابها، كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث المعتبرة عندهم.

بل إنهم غلوا في أمثال هذه الكتب حتى قال الإمام القدوة ـ على حد تعبير ابن حجر ـ أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري: قال لي من لقيته من العارفين عمن لقي من السادة المقَرّ لهم بالفضل: إن صحيح البخاري ما قُرئ في شدة إلا فُرجتْ، ولا رُكِبَ به في مركب فغرق. قال: وكان ـ أي البخاري ـ مجاب الدعوة، وقد دعا لقارئه رحمه الله تعالى... (1).

ورَوَوا عن الترمذي أنه قال: صنَّفتُ هذا الكتاب ـ يعني سنن الترمذي ـ فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم(2).

وقال زكريا الساجي: كتاب الله أصل الإسلام، وسنن أبي داود عهد الإسلام (3).

إلى غير ذلك مما قالوه في كتبهم الكثيرة التي تعاهدوها بالرعاية والعناية، واحتجوا بما فيها حتى جعلوها عِدْلاً للقرآن الكريم كما لا يخفى على أحد.

فلا ندري ما هو الإشكال في حيازة كتب مشتملة على أحاديث نبوية ومعارف دينية وأحكام شرعية كما هو حال الصحيفة المعلقة بذؤابة سيف أمير المؤمنين عليه السلام  التي تقدَّم الكلام فيها ؟! أو في حيازة كتب الملاحم والفتن والحوادث كما هو حال

 

(1) مقدمة فتح الباري، ص 11.
(2) تذكرة الحفاظ 2/634. سير أعلام النبلاء 13/274. الحطة في ذكر الصحاح الستة، ص 207.
(3) تذكرة الحفاظ 2/593.

 
 

الكتب السمـاوية ....................................................................................... 443

مصحف فاطمة عليها السلام؟ أو في حيازة التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية غير المحرَّفة ؟! مع التنبيه على أن أهل السنة لم يروا بأساً في حيازة كتب أهل الكتاب المحرَّفة والتحديث منها، فإن جملة من الصحابة كانوا يحدِّثون بما في التوراة وغيرها من كتب اليهود والنصارى، أو يحدِّثون عن كعب الأحبار وغيره وينسبونه إلى النبي (ص).

من هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان عنده زاملتان أو حمل بعيرين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما.

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديثاً مروياً عن عبد الله بن عمرو: والأشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا موقوفاً على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب (1).
وقال أيضاً بعد أن ساق حديثاً آخر: هذا حديث غريب جداً، وسنده ضعيف، ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك (2).

وذكر مثل ذلك في مواضع متفرِّقة من تفسيره، فراجع (3).

قلت: إن عبد الله بن عمرو بن العاص من أكثر الصحابة حديثاً عند أهل السنة (4)، وأحاديثه مبثوثة في صحاحهم، وهي معمول بها عندهم، فيا ترى كم من

 

(1) تفسير القرآن العظيم 1/383.
(2) المصدر السابق 2/195.
(3) المصدر نفسه 3/102، 4/237.
(4) لقد اعترف أبو هريرة ـ وهو أكثر الصحابة حديثاً ـ بأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر حديثاً منه، فقد رووا عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي 0 أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. (راجع صحيح البخاري 1/62. سنن الترمذي 5/40، 686 وصحّحه. مسند أحمد 2/248، 403. صحيح ابن حبان 16/103. المستدرك 1/105. سنن الدارمي 1/132. السنن الكبرى للنسائي 3/434. شرح معاني الآثار 4/320).

 
 

444 ............................................................................... لله وللحقيقة الجزء الثاني

تلك الأحاديث كان مأخوذاً من كتب أهل الكتاب ؟ وكم من عقائد أهل السنة وأحكامهم كان مأخوذاً من الزاملتين المذكورتين وهم لا يعلمون ؟

فإذا اتضح كل ذلك للقارئ العزيز، وعُلم أن الكتب التي كانت في حيازة أئمة أهل البيت عليهم السلام لم تكن كتباً سماوية، وإنما كتبها أمير المؤمنين عليه السلام بخطه، فلا غرابة في هذا الأمر ولا وجه لإنكاره، خصوصاً مع نص بعض أعلام أهل السُّنة على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يرى جواز كتابة حديث النبي (ص)، وقد نقلنا أقوالهم في ذلك فيما تقدَّم، فراجعه.

 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب