390
...............................................................................
لله وللحقيقة الجزء الثاني
الكتب السّماوية
قال الكاتب: لا شك عند المسلمين جميعهم أن القرآن هو الكتاب السماوي المنزل من
عند الله على نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلوات الله عليه. ولكن كثرة قراءتي
ومطالعتي في مصادرنا المعتبرة، أوقفتني على أسماء كتب أخرى يدعي فقهاؤها [كذا]
أنها نزلت على النبي صلوات الله عليه، وأنه اختص بها أمير المؤمنين
رضي الله عنه.
وأقول: ما نسبه الكاتب إلى فقهاء الشيعة من أن تلك الكتب نزلت على رسول الله
(ص)
ليس صحيحاً، وإنما بعضها من إملاء رسول الله على أمير المؤمنين عليه السلام، وبعضها من
إملاء الملك، وبعضها من تأليف أمير المؤمنين عليه السلام كما سيأتي بيانه قريباً، وليس
فيها صحيفة واحدة يُدَّعى أنها أُنزلت على النبي (ص) غير القرآن الكريم كما سيتضح
ذلك قريباً للقارئ الكريم.
قال الكاتب: وهذه الكتب هي:
1- الجامعة: عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: أبا محمد، وإن عندنا الجامعة،
كتب السمـاوية
........................................................................................
391
وما يدريهم ما الجامعة؟! قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعًا بذراع
رسول الله (ص) [كذا] وإملائه من فلق فيه، وخط علي
بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش..
الخ انظر الكافي 1/239، بحار الأنوار 26/22.
وهناك روايات أخرى كثيرة تجدها في الكافي والبحار وبصائر الدرجات ووسائل الشيعة
إنما اقتصرنا على رواية واحدة رَوْمًا للاختصار.
ولست أدري إذا كانت الجامعة حقيقة أم لا، وفيها كل ما يحتاجه الناس إلى يوم
القيامة!! فلماذا أُخْفِيَتْ إذن؟ وحُرِمنا منها ومما فيها مما يحتاجه الناس
إلى يوم القيامة من حلال وحرام وأحكام؟ أليس هذا كتمان العلم؟
وأقول: لقد عنون الكاتب هذا الفصل بالكتب السماوية، أي الكتب النازلة من
السماء، وقال في مقدّمته: (كتب أخرى يدَّعي فقهاؤها أنها نزلت على النبي صلوات
الله عليه).
لكن نص الرواية التي نقلها يدل بوضوح على أن (الجامعة) ليست كتاباً سماوياً،
وإنما هي من إملاء رسول الله (ص) وكتابة أمير المؤمنين عليه السلام بخطّه.
وهذا الحديث الذي نقل بعضه فيه بيان ما خُصَّ به أهل البيت عليهم السلام من الصحائف والكتب
وما عندهم من العلوم الشرعية والمعارف الإلهية التي لم تكن عند غيرهم من الناس.
و(الجامعة): هي صحيفة أملاها رسول الله (ص) وكتبها أمير المؤمنين
عليه السلام، طولها سبعون
ذراعاً بذراع رسول الله (ص). والظاهر من الأخبار أنها تشتمل على كل الأحكام الشرعية من
الحلال والحرام وكل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش كما نصَّ عليه هذا
الحديث وغيره
(1).
392
....................................................................................
لله وللحقيقة الجزء الثاني
ولا أدري لمَ يستعظم الكاتب وجود مثل هذه الصحيفة ويستبعده، مع أن رسول الله
(ص)
قد خصَّ أمير المؤمنين عليه السلام بما لم يخص به غيره، وهذا مروي في كتبهم،
فقد أخرج
الترمذي بسنده عن جابر، قال: دعا رسول الله
(ص) عليًّا يوم الطائف فانتجاه، فقال
الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله (ص) : ما انتجيته ولكن الله
انتجاه (1).
وأخرج أحمد والحاكم وغيرهما عن أم سلمة، قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب
الناس عهداً برسول الله (ص). قالت: عدنا رسول الله (ص) غداة بعد غداة، يقول:(جاء
علي؟) مراراً.
قالت فاطمة: كان بعثه في حاجة. قالت: فجاء بعد. قالت: فظننت أن
له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، وكنت من أدناهم إلى الباب،
فأكبَّ عليه عليٌّ فجعل يسارُّه ويناجيه، ثم قُبض رسول الله (ص) من يومه ذلك،
فكان عليٌّ أقرب الناس به عهداً (2).
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم والهيثمي وغيرهم عن ابن عباس قال: كنا نتحدّث أن رسول
الله (ص) عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره (3).
(1) سنن الترمذي 5/639، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الملا
علي القاري في شرح الحديث في مرقاة المفاتيح 10/471: والمعنى أني
بلَّغته عن الله ما أمرني أن أبلّغه إياه على سبيل النجوى. و قال: قال
الطيبي رحمه الله : كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية جعله من خزَّانها.
قلت: وعند الطبراني في معجمه الكبير 2/186 أن الذي قال: (لقد طالت
نجواه مع ابن عمه) هو أبو بكر. وأخرجه ابن أبي عاصم في
كتاب السنة
2/584، والخطيب في تاريخ بغداد 7/402.
(2) مسند أحمد 6/300. المستدرك 3/138 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه. ووافقه الذهبي. فضائل الصحابة 2/686.
(3) الطبقات الكبرى 2/338.
حلية الأولياء 1/68.
مجمع الزوائد 9/113.
المعجم الصغير للطبراني 2/69.
كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/550.
كتب السمـاوية
........................................................................................
393
فلا محذور بعد هذا كله في أن يخص النبي (ص) أمير المؤمنين
عليه السلام بما شاء من العلوم،
ولا استبعاد في أن يكتب علي عليه السلام شيئاً مما خصَّه النبي (ص) به في صحيفة أسماها أو
سُمّيتْ بعد ذلك الصحيفة الجامعة، ولا سيما أن غيره من صحابة النبي (ص) كانوا
يكتبون بعض مسموعاتهم من النبي (ص) كعبد الله بن عمرو بن العاص، كما في حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة حيث قال: ما من أصحاب النبي
(ص) أحد أكثر حديثاً
عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب
(1).
هذا مع نص بعض أعلام أهل السنة على أن عليًّا عليه السلام كان من صحابة النبي
(ص) الذين
يكتبون حديث رسول الله (ص).
قال ابن الصلاح: اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث، فمنهم من كرِه كتابة
الحديث والعلم وأمروا بحفظه، ومنهم من أجاز ذلك...
إلى أن قال: وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعَله علي وابنه الحسن وأنس وعبد الله
بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله
عنهم أجمعين(2).
وقال السيوطي: وأباحها ـ أي كتابة الحديث ـ طائفة وفعلوها، منهم عمر وعلي وابنه
الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وابن عمر أيضاً، والحسن وعطاء وسعيد بن
جبير وعمر بن عبد العزيز، وحكاه عياض عن أكثر الصحابة والتابعين (3).
والعجب أن هذا الكاتب وبعض أهل السنة ينكرون حيازة أمير المؤمنين
عليه السلام مثل هذه
الصحيفة، ولا ينكرون حيازة أبي هريرة لمثل ذلك، فإنهم رووا أن أبا هريرة
(1) صحيح البخاري 1/38 كتاب العلم، باب كتابة العلم.
(2) مقدمة ابن الصلاح، ص 87-88.
(3) تدريب الراوي 2/65.
394
....................................................................................
لله وللحقيقة الجزء الثاني
كان عنده وعاءان من العلم بثَّ أحدهما وكتم الآخر.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عنه أنه قال: حفظتُ من رسول الله
(ص) وعاءين، فأما
أحدهما فبثثْتُه، وأما الآخر فلو بثثْتُه قُطع هذا البلعوم
(1).
فإذا صحَّ عندهم مثل هذا في حق أبي هريرة فكيف لا يصح مثله على الأقل في حق علي
عليه السلام الذي صحب النبي (ص) منذ نعومة أظفاره إلى أن التحق النبي (ص) إلى جوار ربه، بينما
لم تزد صحبة أبي هريرة أكثر من ثلاث سنين قضى أكثرها في البحرين؟!
(2)
ولا سيما أن أمير المؤمنين عليه السلام كان شديد الحرص على تحصيل العلوم، فكان يسأل النبي
(ص) في أمور الدين والدنيا، والنبي (ص) يحرص على تعليمه كما أخرج الترمذي وحسَّنه
عن عبد الله بن عمرو بن هند الحبلي، قال: قال علي: كنت إذا سألتُ رسول الله (ص)
أعطاني، وإذا سكتُّ ابتدأني (3).
وأخرج ابن سعد عن علي عليه السلام أنه قيل له: مالَك أكثر أصحاب رسول الله
(ص) حديثاً؟
فقال: إني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكتُّ ابتداني (4).
فهل يبقى بعد هذا كله استبعاد أو غرابة في أن يملي النبي (ص) على أمير المؤمنين
عليه السلام
صحيفة جامعة في الحلال والحرام، ولا سيما أن بعض الأحاديث الصحيحة قد نصَّت على
أن النبي (ص) أراد أن يكتب للأمّة كتاباً، فحِيل بينه وبين كتابة ذلك الكتاب؟
فقد أخرج البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم وأحمد وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس،
(1) صحيح البخاري 1/64.
(2) أخرج البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة 4/239، بسنده عن
أبي هريرة، قال: صحبت رسول الله (ص) ثلاث سنين لم أكن في سِنِيَّ أحرص
على أن أعي الحديث مني فيهن.
(3) سنن الترمذي 5/640.
(4) الطبقات الكبرى 2/338. ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام
من
تاريخ دمشق 2/456.
كتب السمـاوية
........................................................................................
395
قال: لما حُضِر
(1)
رسول الله (ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن
الخطاب، قال النبي (ص): هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده. فقال عمر: إن النبي
(ص) قد غلب عليه الوجع،
وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت
فاختصموا، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي (ص) كتاباً لن تضلُّوا بعده .
ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط عند
النبي (ص) قال رسول الله (ص):
قوموا. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين
رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (2).
وأخرج مسلم عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس. ثم جعل تسيل دموعه،
حتى رأيت على خدّيه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله (ص) : ائتوني بالكتف
والدواة ( أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده. فقالوا: إن رسول
الله (ص) يهجر(3).
والذي احتمله النووي وغيره أن الذي أراده النبي
(ص) من ذلك الكتاب هو أن يكتب
مهمات أحكام الدين، أو ينص على الخلفاء من بعده (4).
فإن صح الاحتمال الأول (5)
فليس بمستبعَد أن يملي النبي (ص) كتاباً على أمير
المؤمنين عليه السلام،
(1) أي حضره الموت.
(2) صحيح البخاري 7/155-156 كتاب الطب، باب قول المريض قوموا عني.
9/137 كتاب الاعتصام، باب كراهية الخلاف. 6/11 كتاب المغازي، باب مرض
النبي (ص) ووفاته، 4/121 كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب،
4/185 كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم.
صحيح مسلم
3/1259. مسند أحمد 1/324-325، 336.
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان
8/201.
(3) صحيح مسلم 3/ 1259.
مسند أحمد 1/355. وراجع
مسند أحمد 1/222، 293.
المستدرك 3/477. مجمع الزوائد 4/214، 5/181.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 11/90.
(5) الصحيح هو أن النبي (ص) أراد أن ينص على أمير المؤمنين
عليه السلام
خليفة من
بعده، وذلك لأن مهمات الأحكام كانت مبيَّنة وموضحة في ذلك الحين،
وقد أكمل الله الدين وأتم النعمة قبل هذا اليوم، ولأن النص على الخلفاء
أهم من إعادة كتابة أحكام مبيَّنة، وبالنص على الخلفاء يندفع كل اختلاف
وبلاء وتضليل، ولأن من خفيت عليه مهمات الأحكام فخالفها لا يكون ضالاً
بل حتى لو خالفها وهو بها عالم، فإنه يكون فاسقاً لا غير، ولأن النبي
(ص)
لو أراد أن يكتب مهمات الأحكام لما حدث اللغط والاختلاف ونسبة الهجر
إليه، وما سبب اللغط إلا علمهم بأن النبي (ص) كان يريد أن ينص على
الخلفاء من بعده، ثم إن المناسب في ذلك الوقت ـ وهو قبيل وفاة النبي
(ص)
بأيام قليلة ـ مع شدة وجع النبي (ص) وانشغاله بنفسه أن ينص على من يقوم
بالأمر من بعده لا كتابة مهمات الأحكام في ذلك الوقت الحرج.
396
...............................................................................
لله وللحقيقة الجزء الثاني
بعدما حيل بينه وبين كتابة ذلك الكتاب، فكتب علي عليه السلام من إملائه
(ص) صحيفة جامعة مشتملة على كل أحكام الدين من الحلال والحرام.
ثم إنهم رووا أن ابن عباس كان عنده حمل بعير كتباً فيما أخرجه ابن سعد في
الطبقات عن موسى بن عقبة، قال: وضع عندنا كُريب حِمْل بعيرٍ أو عِدْل بعيرٍ من
كتب ابن عباس، قال: فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه:
ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا. قال: فينسخها، فيبعث إليه بإحداها
(1).
فلا أدري لمَ لا يستعظمون أمثال هذه الأمور عندما تُنسَب إلى كل الصحابة ولا
ينكرونها، ويستعظمون أمثالها إذا نُسبَت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وينكرونها؟
وأما مسألة كتمان العلم التي أشكل بها الكاتب
فليست بمحرَّمة على إطلاقها، فإن العقل والنقل يدلّان على رجحان كتمان العلم عن
غير أهله، وعند عدم النفع في إظهاره ونشره، كما يدلّان
على وجوبه حال الخوف على النفس أو المال أو العرض، ولهذا لم يعاود النبي (ص)
كتابة الكتاب بعد أن قال القوم ما قالوا.
وإذا صح وجود (الجامعة) عند أمير المؤمنين عليه السلام فمن الواضح أنه لا يجب عليه بذلها
للقوم، وذلك لأنهم لما ردّوا كتاب النبي (ص) في حياته كيف يقبلونه من أمير
المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبي (ص) ؟
(1) الطبقات الكبرى 5/293.
كتب السمـاوية
........................................................................................
397
هذا مع أن أهل السنة رووا كتمان بعض الصحابة لما عندهم من العلوم خشية حصول
الضرر عليهم بالإفشاء، ومن ذلك ما مرَّ من كلام أبي هريرة.
وأخرج الطبراني بسنده عن حذيفة قال: والله لو شئت لحدّثتكم ألف كلمة تحبّوني
عليها أو تتابعوني وتصدّقوني براً من الله ورسوله، ولو شئت لحدّثتكم ألف كلمة
تبغضوني عليها، وتجانبوني وتكذبوني (1).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة عندهم لا حاجة لاستقصائها كلها.
(1) المعجم الكبير للطبراني 3/180.
مجمع الزوائد 1/182. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله
موثقون.