كتب مندوب لبنان السابق في الامم المتحدة كلوفيس مقصود مقالة في جريدة النهار هذا اليوم، وهي مقالة تقرأ، أحببت نقلها حيث يقول:
مدرسة المقاومة -بقلم كلوفيس مقصود
كان منظر مطار الشهيد رفيق الحريري في بيروت في استقبال عميد الاسرى سمير القنطار ورفاقه ملهماً، اذ احتضن لبنان بأسره هؤلاء الصامدين المقاومين. وكان هذا الاجماع دليلاً ساطعاً على ان المقاومة التي اعطت بسخاء صار في استطاعتها ان تكون مؤهلة لأن يحتضنها شعبها بدفء. كما أن عودة جثامين الشهداء دلّت على ان معاناة فقدان هؤلاء الابطال – لبنانيين وفلسطينيين وعربا – استولدت شعوراً بكرامة طالما غيبتها حالة التفكيك في الامة وأوضاع الارتهان التي كادت ان تجعل من الكرامة مرادفاً للاستحالة.ان نشوة الانجاز اوجدت حالة وطنية متقدمة في التحامها ومرشحة للتفوق على ماضيها القريب وعلى استعداد لتجاوز ما فرّق وترسيخ ما يجمع وان حوادث الاسبوع المنصرم تحمل في ثناياها بدء مسيرة واعدة.
نقول بدء مسيرة واعدة، لكون احتمالات التعثّر واردة وبالتالي لا بد من استيعاب اللحظة وتأمين وضوح الرؤية وعدم التوقف عند النشوة. وهل الاهم هو ضبط المصطلحات والمفاهيم توصلاً الى ضبط خطوات المسيرة الواعدة، وكي يتحول الانجاز الرائع من كونه نهاية مطاف الى نقطة انطلاق.
ان المقاومة أكانت لبنانية، كما في الحال الراهنة، ام فلسطينية، ام عربية، عند توافر ظروف بلورتها، تكون وليدة نقمة مشروعة على عوامل الاذلال التي يمارسها الكيان الصهيوني والتي بدورها تجعل النقمة رداً طبيعياً وبالتالي، تمردا. لكن التمرد قد يأخذ احياناً اشكالا مغايرة لما يجب ان يكون عليه. من هنا لا مفر من التأكيد ان المقاومة هي الرد القانوني على كل انواع الاذلال الذي يمارسه المحتل، او المهيمن او العنصري او المستغلّ او المحتكر. النقمة على كل اوجه الاذلال طبيعية ومعقولة، وبالتالي النقمة حالة مشروعة.
لكن النقمة تفقد الكثير من شرعيتها اذا عبّرت عن تمرّدها بالانتقام العبثي، في حين ان النقمة لا يزيل اسبابها سوى المقاومة. فالانتقام يبعثر حيوية النقمة ونجاعتها، في حين ان المقاومة تمهد، وان بالتدرج احياناً، لازالة كل ممارسات الاذلال التي تستوجب نقمة مشروعة وبالتالي مقاومة مطلوبة. من هذا المنطلق، المقاومة اداة ازالة لكل تجليات الاذلال، وبالتالي فهي حيث تقاوم لا تكتفي باستقامة اوضاع الأمة والمجتمع التي تقاوم من اجله، انما في كونها تزيل مسبّبات الاذلال، تكون بدورها تساهم في تحرير المحتل والعنصري من السقطات التي تجعله يستسيغ ممارسة كل أوجه الاذلال. هذا هو البعد الحضاري لثقافة المقاومة وعملياتها وسياساتها. وهذا ما هي عليه وما يجب أن تكون.
من هذا المنظور لا نستطيع ان نعتبر ان المقاومة هوية، بل هي آلية تعبئة وتنظيم وتوجيه بغية تأمين كرامة هوية الوطن، والأمة والمجتمع ومساواتها بالمجتمع الأممي، وكذلك ممارسة السيادة بشكل معقول داخل الوطن، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع داخل الدولة.
وفي هذا الاطار يتبيّن ان ثقافة المقاومة تكمن في الغاية النبيلة التي تستهدفها المقاومة، أو الوسائل التي يجب أن تكون بمستوى شرعية دوافعها وأهدافها.
من هنا يمكن تعريف المقاومة بأنها مدرسة، اضافة الى كونها تمرداً على كل أوجه الاذلال. فهي مدرسة تجعل ثقافة الحياة من خلال التحرير، الاولوية لفعل المقاومة. فالمقاومة توفر لنفسها وسائل الاقناع من تظاهرات وحملات ديبلوماسية واعلامية وعصيان مدني، واذا ما استنفدت كل هذه الخيارات في ازالة تجليات الاذلال، عندئذ يصبح الكفاح المسلح الخيار الاخير. وفي حال ممارسة الانتقام للتعبير عن نقمة مشروعة، فعملية الانتقام تصبح بدورها هي الهدف وليس كما في المقاومة استقامة المعادلة وانجاز التحرير. بمعنى آخر، المقاومة من حيث هي ثقافة الحياة تجعل المقاوم مستعداً للشهادة وليس مخططاً لها. من هنا، قد يكون للمنتقم دوافع مفهومة، الا انها تنطوي على اهدار لحيوية متوافرة. في حين ان المقاوم، باستعداده للشهادة، لا يسعى اليها بل يستعدّ لها. هذا ما نعنيه بالقول ان المقاومة في جوهرها ثقافة الحياة، وبالتالي هي نقيض الانتقام وثقافة الموت التي يمارسها الارهاب.
***
في هذا السياق، نجد ان ما شاهدناه واختبرناه في الاسبوع المنصرم من عودة الأسرى الابطال ورفات الشهداء والاحتضان الدافئ الذي رافق الاحداث المهمة، برهن عن اصالة المواطن اللبناني عندما يخرج، وإن موقتاً من مصيدة الطائفية والتقوقع، فيستعيد للبنان دوره العربي الممكن ورسالته الحضارية الحاضرة والمكبوتة في الوقت نفسه.ان مشهد الاسبوع المنصرم يختزن طاقات لتصحيح ابعاد عديدة في فهم انفسنا، كما قد يوحي لشعبنا في فلسطين، ان ما يبدو غامضاً في الحالة الراهنة قد توضحه تجربة لبنان المقاومة. والأهم ان بيروت تبقى لفلسطين قدسها ريثما تعود القدس اليها.
هنيئاً للبنان بمقاوميه وهنيئاً للعروبة بلبنان المستعيد وحدته بعودة أسراه وشهدائه.