العنـــــــايــــــة الإلهيــــــــــة
نوى أن لا يقاتل الحسين (ع) فشدّ رحاله خارجًا من الكوفة خشية أن يجبر على قتاله، فأراد الله أن يجازيه على هذه النيّة الخيِّرة، ورغم أنّه لم ينوِ نصرة الحسين (ع)، فجمع بينه وبين الحسين (ع) في طريق.
رأى الحسين (ع) في قصر بني مقاتل فسطاطًا مضروبًا، ورمحًا مركوز، وفرسًا مسروجًا، فسأل:
- لمن هذا الفسطاط؟
- لعبيدالله بن الحر الجعفي.
أراد (ع) أن يفتح له أبواب السعادة الأبدية فاختار من أصحابه الحجاج بن مسروق الجعفي فهو من قبيلته والأقرب إلى قلبه من غيره، فأرسله إليه، فأتاه وتلطف إليه فقال ابن الحر:
- ما وراءك؟
- ورائي يا بن الحر أنَّ الله قد أهدى إليك كرامة إن قبلتها.
- وما تلك الكرامة؟
- هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أجرت، وإن قتلت بين يديه استشهدت.
- والله يا حجاج ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها ولا أنصره، لأنَّه ليس في الكوفة شيعة ولا أنصار إلا مالوا إلى الدنيا إلا من عصم الله منهم، فارجع إليه فأخبره بذلك.
باب من الجنّة فتح فأغلقه ابن الحرّ عن نفسه، أنوار إلهيّة نزلت فأوصد قلبه دونها. أراد الحسين (ع) أن يعاود فتح الباب وبثَّ الأنوار فقصده بنفسه في لمّة من إخوانه وأهل بيته، فلما دخل عليه خباءه وسلّم وثب ابن الحر عن صدر مجلسه، وأسرع لاستقبال الحسين فراعه جماله وهيبته ووقاره، وأخذته رقّة وهو يرى صبيانه بين يديه، ونظر إلى لحيته فرآها كجناح غراب فقال:
- أسواد أم خِضاب؟
- يا ابن الحرّ عجّل عليّ الشيب.
فلمّا استقر بالحسين (ع) المجلس حمد الله وأثنى عليه وقال: يا بن الحر إنّ أهل مصركم قد كتبوا إليَّ وأخبروني أنَّهم مجمعون على نصرتي وسألوني القدوم إليهم، وقدمت، وليس الأمر على ما زعموا، وإنَّ عليك ذنوبًا كثيرة فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟
- وما هي يا بن رسول الله؟
- أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت فإن أعطينا حقنا حمدنا الله تعالى على ذلك وقبلناه، وإن منعنا حقنا وركبنا الظلم كنت من أعواني على طلب الحق.
- والله إنّي لأعلم أنَّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكنّي ما عسى أن أغني عنك ولم أخلف لك في الكوفة ناصرًا، فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة؛ فإن نفسي لا تسمح بالموت، ولكنَّ هذه فرسي ‘’الملحِقة’’ والله ما طلبت عليها شيئًا ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته فخذها فهي لك.
- أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك، ‘’وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً’’، وإنّي أنصحك كما نصحتني إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل فوالله لا يسمع واقعتنا أحد ولا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم.
ظلم ابن الحرّ نفسه عندما أوصد باب العناية الإلهيّة، لم يأذن لأنوارها أن تدخل قلبه، وتغسل ذنوبه، وتأخذ بيده إلى نعيم الأبد. وقتل الحسين (ع) فضاقت عليه بما رحبت، وعلم فداحة ما خسر، وعظيم ما جنى فجاء إلى قبر الحسين (ع) يتلوى ينثر كبده الدامي وحظه العاثر وشقاءه الأبدي وأخذ يزفز زفرات من حميم:
أيا لكِ حسرة ما دمت حياً
تردد بين صدري والتراقي
غداة يقول لي بالقصر قولاً
أتتركنا وتعزم بالفراق
حسين حين يطلُب بذل نصري
على أهل العداوة والشقاق
فلو فلق التَّلهف قلب حرٍّ
لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق
ولو واسيته يوماً بنفسي
لنلتُ كرامةً يوم التلاقِ
مع ابن محمد تفديه نفسي
فودع ثم أسرع بانطلاق
لقد فاز الألى نصروا حسيناً
وخاب الآخرون ذووا النّفاقِ
الكاتب :أحمد عبّاس