النصيحة الأخيرة
بقلم : السيّد محمد الصدر
أضفى جو الليل البهيم ، على هذه الغابة الكثيفة الشجراء ، جوّاً أسود فاحماً ، يوحي لما فيها من نبات وحيوان ، بالوحشة والروعة ، ويغيّر فيها ما كانت تعجّ به من أوجه نشاط الحياة ، أثناء النهار ، بغيره إلى نوع من الصمت العميق والسكون الموحش الدفين .
فلم يعد يسمع خلال هذه الغابة المترامية الأطراف ! إلاّ ما تحدثه يد الأشجار من حفيف خفيف ، يلامس أوتار الأُذن برقّة وفتور ، عندما تلاعبه أنامل النسيم الهادئة ، وإلاّ ما يسمع من أجنحة طيور الليل ، وهي تغادر مكامنها إلى حيث مطالب الرزق ، وإلاّ وقع أقدام وحش هائم ، لم يتطرّق النوم إلى عينيه من شدّة الجوع ؛ فمشى خلال الليل البهيم باحثاً عمّا يسد به رمقه من ضعفاء الحيوان .
في هذا الليل البهيم وتحت أُفق هذا الجو الساكن ، كانت تضطجع فوق العشب الوثير ، وتحت مجموعة ملتفّة رائعة من الأشجار الباسقة ، لبوة مريضة ، تجمّع حولها أشبالها ، وتئنّ بين الحين والآخر من وطأة الألم ، وتستوحي من ذلك الجو الهادئ الرهيب ، مزيداً من الوحشة والألم والكسل .
وكانت أوصال الألم تستشري في إهابها بنشاط صامت ، وتمشي في أعصابها بهمة هادئة ، مستمدّة من ذلك الليل البهيم حيوية متزايدة ، ونشاطاً منقطع النظير .
آلام اللبوة تتزايد شيئاً فشيئاً ، ولواعجها تثقل عليها باستمرار ، وآهاتها وأنينها يزداد تتابعاً ، ويتأكّد عمقاً ؛ فمرّة ينطلق منها الزفير انطلاق المتفجّر الثائر ، وأحياناً تخرج من بين أشداقها خروج اليائس الصامت . وهي في الحالين ، مستسلمة إلى العشب لا تعرف ملجأً ولا تعلم دواءً .
وإذ رأى أشبالها ، في أُمهم من ألم ممض ، وما تعانيه من وحشة وحسرة ، وما تكابده من مرض أليم . توجّهوا إليها بخشوع وأدب ، راجين منها أن تسمح لهم بالبحث لها عن طبيب في أرجاء هذه الغابة الكبيرة ، لعلّه يستطيع تشخيص دائها وتعيين دوائها ، ويكون على يديه شفاؤها العاجل السريع ، وإن استلزم الحال إيقاظه من نومه وإزعاجه في أحلامه .
وحين رأت الأُم الرؤوم ، مبلغ حنو أشبالها ولوعتهم عليها ، شكرت لهم عواطفهم وأذنت لهم بالذهاب .
لم يغب الأشبال ، إلاّ برهة من الزمن ، جاؤوا بعدها ومعهم أرنب عجوز ، ينط بين العشب ببطء وتثاقل ، قد خالط النوم عينيه ، وأزعج التعب رجليه .
واقتربوا منها . وانحنى الأرنب بأدب واحترام ، مسلّماً على اللبوة الأُم ؛ فرحّبت به ، وشكرت له سعيه ، وأذنت له بالجلوس .
وإذ ضمّهم ذلك المجلس ، ابتدر أكبر أبنائها بالكلام ، محاولاً تعريف هذا الضيف القادم لأُمّه . فذكر أنّه أرنب صالح ، معروف بالتقوى والورع ، وبطهارة النفس وصفاء الضمير ، إلى جانب دقّة في النظر وسعة في التفكير ، واطّلاع واسع على علوم الطب ، وطلب هذا الشبل من أُمّه أن تسمح للطبيب أن يشخّص ما بها من داء ، ويعيّن ما تشكوه من آلام ؛ لعلّه أن يصف لها الدواء الناجع الصحيح .
وبعد أن جسّ الأرنب نبضها ونظر إلى لسانها ، واستمع إلى دقّات قلبها ، انسحب بهدوء وجلس مرّة أُخرى في مكانه الأوّل ، ثمّ تأوّه آهة صغيرة تحمل ما يريد أن يبديه تجاه هذه اللبوة المريضة من شفقة ورحمة .
ثمّ قال لها :
إنّك يا سيدتي في صحّة وعافية ، ولا داء فيك ، ولا يحتوي جسمك على تشنّج أو التهاب أو اضطراب ، وإنّما الذي تحسينه وتشكين منه ، إن سمحت لي بذكره ، إنّما هو خمول أصابك وكسل ألمّ بك منذ أيام ، منعك عن ممارسة نشاطك الاعتيادي في الحياة ، وأدّى بك إلى عدم تناول المقدار الطبيعي لك من الطعام والشراب ؛ فأنتج ما تجدينه من ألم ووحشة .
وإنّي سوف لن أصف لك دواء تستعملينه ، ولا عقاراً تصنعينه ، وإنّما الذي أعتقده أن أنجع الأدوية بالنسبة إليك ، هو أن تقومي بنفسك ، شيئاً فشيئاً بفعّاليّات الحياة ، وتباشري عملك الطبيعي فيها ، وتقومي بما تتطلّبه منك من واجبات ، وما لك عندها من حقوق .
واتّبعي أحسن الطرق التي توصلك إلى حقوقك والقيام بواجباتك ، لكي تستطيعي أن تتناولي ثمار جهودك التي تغرسينها بيدك ، فاكهة شهيّة ناضجة ، لا يشوبها ألم ، ولا تختلط بها حسرة ووحشة .
وإنّي أعدك ، أنّكِ بمجرّد أن تذوقي الثمار الشهيّة التي تقطفينها من بساتين عملك ، فإنّ داءك سوف يزول ، وستبرئين تماماً من هذه الشكاة .
وإنّي سوف لن أصف لك دواء تستعملينه ، ولا عقاراً تصنعينه ، وإنّما الذي أعتقده أن أنجع الأدوية بالنسبة إليك ، هو أن تقومي بنفسك ، شيئاً فشيئاً بفعّاليّات الحياة ، وتباشري عملك الطبيعي فيها ، وتقومي بما تتطلّبه منك من واجبات ، وما لك عندها من حقوق .
واتّبعي أحسن الطرق التي توصلك إلى حقوقك والقيام بواجباتك ، لكي تستطيعي أن تتناولي ثمار جهودك التي تغرسينها بيدك ، فاكهة شهيّة ناضجة ، لا يشوبها ألم ، ولا تختلط بها حسرة ووحشة .
وإنّي أعدك ، أنّكِ بمجرّد أن تذوقي الثمار الشهيّة التي تقطفينها من بساتين عملك ، فإنّ داءك سوف يزول ، وستبرئين تماماً من هذه الشكاة .
دع عنك فلسفتك هذه جانباً ، كيف تنصحني بالحركة وممارسة النشاط وأنت على ما تراني عليه من المرض والذبول ؟
إنّني إنّما قد أدّيت لك النصيحة ، وقمت بالواجب أمام ربّي وضميري ، ولكِ فيما قلت من الشفاء وما تطلبين ، لو كنت تعلمين .
اذهب ، فقد خالط الشيب عقلك ، أيّها الأرنب العجوز ،
بقيت اللبوة ـ عندئذٍ ـ تئنّ تحت ضغط الألم الثقيل ، وتتقلّب على فراش المرض ، في ذلك الليل الموحش الرهيب تقتات من آلامها من الطعام ، وتتجرّع من وحشتها أكؤس العلقم والعقاب .
وازداد وجل الأشبال على أُمّهم الطريحة ، وتضاعفت لوعتهم على ما تعاني من ألم وحسرة ، واستأذنوها بعد برهة صغيرة ، للتجوّل في هذه الغابة المظلمة ، مرّة أُخرى ، لعلّهم أن يجدوا طبيباً آخر ، أبعد نظراً وأعمق تفكيراً ، من ذلك الأرنب العجوز ؛ لعلّه أن يُوفّق إلى الإسراع بها إلى أملها الكبير في الشفاء العاجل الجميل .
وجاس الأشبال مرّة أُخرى ، خلال الغابة الشجراء ، باحثين ، ما أُوتوا من خبرة وجهد ، عن طبيب جديد .
ولم يمرّ على اللبوة زمان طويل ، إلاّ ورأت أشبالها عائدين ، وبصحبتهم ثعلب شاب قوي ، تقفز من عينيه علائم المكر والدهاء ، وتنطق حركاته بالحيويّة والنشاط ، وتدل ملامحه على ما في نفسه من نزوات الشباب .
واقتربوا منها ، وأقعى الثعلب عن قرب ، وأبدى تحيّة مقتضية باحترام للبوة المريضة ، ثمّ استأذنها بمباشرة أعماله كطبيب ؛ فأذنت له .
أطال الثعلب الفحص ، وقلب المريضة ظهراً لبطن ، وتأكّد في فحصه عدّة مرّات ، وكان بين الفينة والفينة ، يفتر عن الفحص ليفكّر ويتدبّر .
وعندما انتهى ؛ رفع رأسه بدهاء ومكر ، وهزّ رأسه هزّة خفيفة ، توحي للبوة ، أنّه مشفق عليها ، رحيم بها . ثمّ ابتدرها بالكلام قائلاً :
إنّني آسف ، إذ أخبرك ، أنّ بدنك محتوٍ على عدد من الأمراض الجسيمة ، والعلل الخطيرة : من اضطراب في القلب وتضخّم في الكبد وقرحة في المعدة ؛ وهذه الأمراض تحتاج إلى طول في العلاج ، وكثرة في الدواء ، وإلى إنفاق زمان طويل في النوم المريح الخالي من ممارسة أي نشاط .
وإنّه ينبغي لك أن لا تفكّري في شؤون الحياة ، وأن لا تحملي بين جنبيك همومها وآلامها وتتعبي على تحصيل لقمة العيش فيها . وإنّما دعي ذلك إلى أشبالك الكرام ، الساهرين على راحتك وحسن مُداراتك .
وإنّني واصف لك بعض الأدوية المساعدة لك في شفائك ، الموصلة إليك صحّتك ، بأسرع وقت وأسهل طريق . وإنّي سوف أتعاهدك بين الحين والحين ، بالزيارة والفحص والإرشاد .
وإنّه ينبغي لك أن لا تفكّري في شؤون الحياة ، وأن لا تحملي بين جنبيك همومها وآلامها وتتعبي على تحصيل لقمة العيش فيها . وإنّما دعي ذلك إلى أشبالك الكرام ، الساهرين على راحتك وحسن مُداراتك .
وإنّني واصف لك بعض الأدوية المساعدة لك في شفائك ، الموصلة إليك صحّتك ، بأسرع وقت وأسهل طريق . وإنّي سوف أتعاهدك بين الحين والحين ، بالزيارة والفحص والإرشاد .
ومن ثمّ تصدّى الأشبال إلى تحصيل الدواء وجمعه من أطراف الغابة ، واستخلاصه من النباتات المتعددة والمعادن المختلفة ، وأنفقوا في ذلك وقتاً طويلاً ، حتى كادت الشمس أن ترسل أشعّتها الدافئة بعد ذلك الليل البهيم ، على أشجار الغابة الباسقة ؛ لتكسوها روعة وجمالاً ، وتجعلها سرّاً وفتنة للناظرين .
عاد الأشبال بعد ذلك العناء الطويل ، إلى أُمّهم الطريحة ؛ ليقدّموا لها الدواء الذي أحضروه ، فوجدوا أنّ حالها قد ساء وصحّتها قد تنازلت ، وقد استشرى بها المرض أكثر فأكثر . فسلّموا عليها بأدب واحترام ، ونظروا إليها بحسرة وألم ، وأسرعوا بإعطائها شيئاً من الدواء الذي حملوه .
وتناولت اللبوة الدواء ، ثمّ التفتت إليهم ، وحاولت جاهدة أن تغتصب من بين آهاتها المتواصلة وقتاً كافياً لأن تقول :
آه ، لو كنت قد أطعت نصيحة ذلك الأرنب العجوز ، ومارست حقّي في الحياة ، شيئاً فشيئاً منذ المساء السابق ؛ إذن لم أكن لأصل إلى هذا الموقف الأليم .
ولو كنت قد سلكت الطريقة الفضلى في الحياة ، ومارست حقوقي وواجباتي باتّزان لما وصلت إلى هذه النتيجة الرهيبة ، ولانقشعت عنّي حجب الوحشة ، وانزاح عنّي الألم إلى غير رجعة .
فإنّ النشاط الدائب البناء ، في سبيل تطبيق منهج الحياة القويم ، والوصول إلى ثماره الناضجة الشهيّة ، بكدّ اليمين وعرق الجبين ، خير على كل حال ، من الاستسلام إلى الكسل ، والإعراض عمّا تعجّ به الحياة من حقوق وواجبات ، والاكتفاء بشرب الدواء ، بوحشة وحسرة ، على فراش المرض الرهيب .
وليس هذا الدواء ، الذي تجرّعته الآن ، بمشورة ذلك الثعلب الماكر ، إلاّ الطريق المحتوم إلى الهلاك ، وإلى مغادرة الحياة ، وما أظنّني إلاّ مفارقتكم بعد قليل .
ولو كنت قد سلكت الطريقة الفضلى في الحياة ، ومارست حقوقي وواجباتي باتّزان لما وصلت إلى هذه النتيجة الرهيبة ، ولانقشعت عنّي حجب الوحشة ، وانزاح عنّي الألم إلى غير رجعة .
فإنّ النشاط الدائب البناء ، في سبيل تطبيق منهج الحياة القويم ، والوصول إلى ثماره الناضجة الشهيّة ، بكدّ اليمين وعرق الجبين ، خير على كل حال ، من الاستسلام إلى الكسل ، والإعراض عمّا تعجّ به الحياة من حقوق وواجبات ، والاكتفاء بشرب الدواء ، بوحشة وحسرة ، على فراش المرض الرهيب .
وليس هذا الدواء ، الذي تجرّعته الآن ، بمشورة ذلك الثعلب الماكر ، إلاّ الطريق المحتوم إلى الهلاك ، وإلى مغادرة الحياة ، وما أظنّني إلاّ مفارقتكم بعد قليل .
النجف الأشرف / محمد الصدر
مجلة الإيمان
العددان: الثالث والرابع
السنة: الثانية
1385هـ ـ 1965م
مجلة الإيمان
العددان: الثالث والرابع
السنة: الثانية
1385هـ ـ 1965م