هذا من شيعته وهذا من عدوه ..!!
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله .،
قال تعالى :
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) . القصص .
إن مجموعة الذين اصطفينا هي مجموعةٌ محددةٌ ومعلومة سلفًا . ولكن ذريتهم تدخل في المجموعات السابقة باستثناء الذين اصطفى وأورثهم الكتاب ، لأن ظلم النفس قد جاء مع ذرية إبراهيم عليهما السلام :
ومن ذريتهما محسن وظالمٌ لنفسه مبين "الصافات / 113
فإن قلت : قد جاء ظلم النفس مع بعض المرسلين مثل موسى ( ع ) حيث قال :
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له القصص / 16
أقول : لم يرد إلا هنا وفي واقعةِ قتل الذي هو من عدوه ظاهرًا . وقد قلب الاعتباط موضوع الواقعة ،
فالمقتول ليس عدوه ولو كان عدوه لما ظلم نفسه . إنما هو عدوه ظاهريًا والذي استعدى عليه منافق من بني إسرائيل من شيعته ظاهريًا ولكنه العدو الحقيقي .
ولمّا كانت وكزة موسى قد قضت عليه وعلم من هو العدو منهما ندم ، إذ نوى فعل الخير فظهر في الواقع خلافه فقال : ( رب إني ظلمت نفسي . . ) لأن من كان من شيعته فهومن نفسه .وموضوع عصمة الأنبياء واصطفاءهم إنما هو إصطفاءٌ لقلوبهم الطاهرة ، فهو موضوع متعلق بالذات لابالفعل الخارجي وحده ومع ذلك فإن هذا ليس من عمل موسى مطلقًا ، إنما كان عمله الأصلي هو أن يقتل الكافر أما هذا العمل فقد كان من غيره . ألا تراه قال وهو الصادق بقوله إذ صدقه القرآن :
قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين القصص / 15
فإن قلت : من أين جئت بهذا التفسير بشأن المقتول ؟ .
أقول : إرجع إلى السورة ولاحظ الواقعة وليكن ذهنك منفتحًا على الكلام على أنه ملقى إلقاءً ولاحظ كيف يؤشر لك قائلا ( هذا من شيعته ) و ( هذا من عدوه ) وليس هذا من عدوه وهذا من شيعته ، فلا تتوهم فانظر هذا وانظر هذا وليس كما جاءا لموسى ( ع ) ! ! . ثم بعد ذلك تتطابق كل النتائج مع النظام . ذلك لأنك لو صنفت هذه الواقعة فلن يكون فاعلها الظالم لنفسه في آية الاصطفاء ، بل ولا المقتصد ، إنما هي في أقل تقديرٍ من عمل ( السابق بالخيرات ) ، إذ لولا هذ ا الإسراع في فعل الخير لما وكزه موسى فأرداه قتيلا .
إذن يختل نظام المجموعات إذا عاد الضمير على الأصفياء ، وبدلاً من أن يكونوا سابقين بالخيرات على أقل
تقديرٍ شملهم المقتصد ، بل والظالم لنفسه .؟.
(نظام المجموعات ص 92-93 ) .[/color]
وانطلاقاً مما قاله المرحوم النيلي فقد دخل موسى المدينة والصورة امامه هي رجلان يقتتلان مع جهله بهويتهما وانتمائهما فالخطاب القرآني يشير اليهما اشارة القائية مجردة فانه يحتفظ بالعلم بهويتهما لنفسه " هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ " فالاية واضحة للمتكلم لا لموسى ، اما الصورة لموسى فهي كما قلنا رجلان يقتتلان لا يعرف ايهما العدو وايهما الذي من شيعته فكانت الخطوة العملية اللاحقة هي استغاثة الذي من شيعته " كذباً " على الذي من عدوه " الشيعي الحقيقي " فمن المعلوم انه عدو المستغيث ، اما موسى فانه يرى رجلاً يستغيث ويدعي في استغاثته انه من شيعته فيسرع للقضاء على عدو المستغيث لان ( عدوه ) الضمير فيه يرجع الى المستغيث لا لموسى عليه السلام ، و " الفاء " في وكزه دليل على السرعة اي كانت عملية الوكز بلا فاصل زمني يذكر ثم يتبين له ان " المقتول " هو من شيعته ( طبعاً نتوقع صدور ردة فعل ٍ من الاخر وهو المنافق الذي استغاثه نفاقاً ) فينسب موسى عمل " المستغيث " واستغاثته الكاذبة الى الشيطان وهو الحق لا الى عمله هو عليه السلام وهو ما أكده النيلي رحمه الله من كون هذا العمل سبق للخير وهكذا كانت نية موسى ، بينما طلب المغفرة يتعلق بالسرعة الشديدة التي قضى بها موسى على " الشيعي " وان كان لا يريد قتله بل اراد ابعاده كما تشير رواية الامام الرضا عليه السلام بيد ان قوة موسى العظيمة جعلت من وكزه سبباً للقضاء عليه .
ويجب ان نتوقف هنا لنقول :
لماذا ذكر القرآن الكريم " الاستغاثة " ولم يذكر غيرها من قبيل الاستعانة او الاستصراخ او غير ذلك يضعنا هذا امام التالي :
- أن الاستغاثة اساساً يستخدمها القرآن الكريم للذي يكون في حالة " هزيمة " ويعيش حالة تسلط وخاكمية من قبل الاخرين وقلة حيلة فيتوسل بالاستغاثة مما يضعنا امام اعتقاد واقعي وهو :
أن المستغيث كان " مغلوباً " وفي حالة هزيمة حتمية والاخر كان في طريقه للقضاء عليه .. وهو ما دفع موسى عليه السلام للاسراع في نجدته .
وهذه موارد الاستغاثة وما يشتق منها في القرآن الكريم والتي تدل على ما قلنا :
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) الانفال .
ومعلوم ان الاستغاثة جاءت بعد الشعور " بالمغلوبية والهزيمة " فجاء الامداد استجابة لذلك و معلوم ان الامداد لمنع " الهزيمة " .
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) الكهف .
وهذا المورد واضح ايضا فهم " يستغيثون " ولم يقل يستصرخون أو يطلبون فمن الواضح وقوعهم في عذاب لا حيلة لهم معه فهم مغلوبون مهزمون يتخذون الاستغاثة وسيلة لتخفيف ما هم فيه ولكن هيهات .
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28 . الشورى .
وهذا المورد رائع جداً فالغيث يأتي للناس عند " القنط " والقحط وشعورهم بالهلاك وقلة الحيلة وهو من مصادر عيشهم وحياتهم فتسميته قرآنياً " الغيث " يطابق الحركة العامة لهذا اللفظ واشتقاقاته ودلالته القصدية المحكومة بقانون واحد .
- ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) يوسف .
وهو مقطع من قول يوسف ع استخدم فيه لفظ " يغاث " مما يدل على مرور الناس بمحنة وقحط وشدة وهو واضح في قصته ولم يستخدم غير هذا اللفظ لان اللفظ المستخدم يصور وبدقةة ما هم فيه مما يطابق الاستخدام القرآني العام لهذا اللفظ واشتقاقاته .
وهكذا يتضح ايها الاخوة ان لفظ " الاستغاثة استخدم في القرآن لتبيان حال " المستغيث " وكونه في حالة " هزيمة وقلة حيلة ومغلوبية .." كما في " المستغيث " الكاذب والذي اوهم " موسى " عليه السلام باستغاثته ، مع تمكن " الشيعي " منه .
ويتضح ادعاء " المستغيث " في قوله تعالى "فاستغاثه الذي من شيعته " اي نقل ادعاءه باستغاثته وكون " المستغيث " يدعي انه من شيعته ، بيد ان هذا الادعاء لم يكن واضحاً لموسى عليه السلام ففعل ما فعل .
وعليه فان الضمير في " انه من عمل الشيطان " يرجع الى " عمل المستغيث " لا عمل موسى عليه السلام ، وقد اتضح زيف عمل " الاستغاثة " بعد قضاء موسى على الاخر " الذي من شيعته حقيقة " وذلك بردة فعل معينة كأن يتبجح المنافق بفعله ويستهزء بموسى وبما قام به الى اخر ما يمكن حدوثه في مثل هذا الموقف .
ولو كان غير ذلك لما كان ما قام به موسى عليه السلام من عمل الشيطان وكما اوضح النيلي رحمه الله وكما هو واضح .
ادلة اخرى على كون " المقتول " هو من شيعة موسى عليه السلام :
وتتضح الادلة عندما نتدبر المقطع الثاني من الايات المباركة :
) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) .
يصبح موسى عليه السلام في يومه الثاني خائفاً يترقب لما فعل بالامس فاذا بنفس " المنافق " يستصرخه على رجل آخر وهنا نتوقف عند الالفاظ القراني التي تدل على كون الرجل هنا هو " المنافق المستغيث " :
قال تعالى ( الذي استنصره ) واستخدام هذا اللفظ مهم جداً فلم يقل " الذي استغاثه " او غير ذلك لان الاستنصار يعطي معنى تحقق " النصرة " عملياً للمستنصر وهو ما حدث فعلاً فقد نصره موسى وان كان بالصورة التي ذكرناها بيد ان النصرة قد تحققت بالامس فهذا دليل على كونه نفس الرجل " المنافق الفرعوني " .
ثم غاير القرآن في الاستخدام في وصف الحالة التي كان فيها " الرجل " فقال ( يستصرخه ) وهو استخدام دقيق ايضاً حيث يعطي معنى كون الرجل في حالة متكافئة مع خصمه فلا غالب ولا مغلوب بل لازال في حالة اقتتال متوازن فلما بصر الرجل بموسى استصرخه ولم " يستغيثه " لان حالته تسمح بالاستصراخ اما لو كان في حالة هزيمة او مغلوباً لاستغاث ولم يستصرخ ، فالقرآن الكريم اراد توضيح الصورة لنا من كون " المستصرخ " في حالة عادية متوازنة اي قبل حدوث شيء له او عليه .
ثم تغير الخطاب القرآني وانتقل الى موسى عليه السلام حيث هم موسى ان يبطش به ( بالمستصرخ نفسه ) والذي هو عدو له وللرجل الاخر الذي هو من شيعته بالتأكيد لكون ( المستصرخ المنافق ) اراد الايقاع به وقتله والظاهر ان ديدنه هو الايقاع بشيعة موسى عليه السلام وقتلهم ،
لان الخطاب توجه الى موسى بعد اتضاح الامور كما بينا وهي كون الرجل المنافق نفسه الذي استغاثه بالامس فهم موسى ان يبطش به لاستحقاقه ذلك فجاء قول ( المنافق) :
قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وهذا القول يؤيد ما ذهبنا اليه تماما فما من احد يعلم بما فعل موسى بالامس غيره ولا يمكن ان يكون الرجل الاخر يعلم بما فعل موسى لان الخبر لم يكن منتشراً بشكل واسع بل ان الخبر في حالة الانتشار اثناء هذه المحاورة التي تقوم بين ( المنافق الفرعوني) وبين موسى عليه السلام ويدل على ذلك مجيء ( الرجل من اقصى المدينة) محذراً موسى عليه السلام وهذا الخبر هو الذي قطع المحاورة والمشهد الذي كان بين موسى والمنافق .
قال تعالى :
) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21).
ربما يتوهم البعض اشكال على ذلك عند الرجوع الى قوله تعالى :
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) القصص .
وندفع هذا التوهم بقولنا ان موسى عليه السلام قتل نفساً بالتأكيد لكن " قوم فرعون " لا يعلمون ان هذه النفس من شيعته بل يعتقدون انها منهم وما قتلها موسى الا لذلك فموسى عليه السلام يتكلم عن " اعتقادهم " لا عن حقيقة المقتول فالاية بهذا اللحاظ .
يتبع ان شاء الله تعالى ..
السلام عليكم ورحمة الله .،
قال تعالى :
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) . القصص .
إن مجموعة الذين اصطفينا هي مجموعةٌ محددةٌ ومعلومة سلفًا . ولكن ذريتهم تدخل في المجموعات السابقة باستثناء الذين اصطفى وأورثهم الكتاب ، لأن ظلم النفس قد جاء مع ذرية إبراهيم عليهما السلام :
ومن ذريتهما محسن وظالمٌ لنفسه مبين "الصافات / 113
فإن قلت : قد جاء ظلم النفس مع بعض المرسلين مثل موسى ( ع ) حيث قال :
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له القصص / 16
أقول : لم يرد إلا هنا وفي واقعةِ قتل الذي هو من عدوه ظاهرًا . وقد قلب الاعتباط موضوع الواقعة ،
فالمقتول ليس عدوه ولو كان عدوه لما ظلم نفسه . إنما هو عدوه ظاهريًا والذي استعدى عليه منافق من بني إسرائيل من شيعته ظاهريًا ولكنه العدو الحقيقي .
ولمّا كانت وكزة موسى قد قضت عليه وعلم من هو العدو منهما ندم ، إذ نوى فعل الخير فظهر في الواقع خلافه فقال : ( رب إني ظلمت نفسي . . ) لأن من كان من شيعته فهومن نفسه .وموضوع عصمة الأنبياء واصطفاءهم إنما هو إصطفاءٌ لقلوبهم الطاهرة ، فهو موضوع متعلق بالذات لابالفعل الخارجي وحده ومع ذلك فإن هذا ليس من عمل موسى مطلقًا ، إنما كان عمله الأصلي هو أن يقتل الكافر أما هذا العمل فقد كان من غيره . ألا تراه قال وهو الصادق بقوله إذ صدقه القرآن :
قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين القصص / 15
فإن قلت : من أين جئت بهذا التفسير بشأن المقتول ؟ .
أقول : إرجع إلى السورة ولاحظ الواقعة وليكن ذهنك منفتحًا على الكلام على أنه ملقى إلقاءً ولاحظ كيف يؤشر لك قائلا ( هذا من شيعته ) و ( هذا من عدوه ) وليس هذا من عدوه وهذا من شيعته ، فلا تتوهم فانظر هذا وانظر هذا وليس كما جاءا لموسى ( ع ) ! ! . ثم بعد ذلك تتطابق كل النتائج مع النظام . ذلك لأنك لو صنفت هذه الواقعة فلن يكون فاعلها الظالم لنفسه في آية الاصطفاء ، بل ولا المقتصد ، إنما هي في أقل تقديرٍ من عمل ( السابق بالخيرات ) ، إذ لولا هذ ا الإسراع في فعل الخير لما وكزه موسى فأرداه قتيلا .
إذن يختل نظام المجموعات إذا عاد الضمير على الأصفياء ، وبدلاً من أن يكونوا سابقين بالخيرات على أقل
تقديرٍ شملهم المقتصد ، بل والظالم لنفسه .؟.
(نظام المجموعات ص 92-93 ) .[/color]
وانطلاقاً مما قاله المرحوم النيلي فقد دخل موسى المدينة والصورة امامه هي رجلان يقتتلان مع جهله بهويتهما وانتمائهما فالخطاب القرآني يشير اليهما اشارة القائية مجردة فانه يحتفظ بالعلم بهويتهما لنفسه " هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ " فالاية واضحة للمتكلم لا لموسى ، اما الصورة لموسى فهي كما قلنا رجلان يقتتلان لا يعرف ايهما العدو وايهما الذي من شيعته فكانت الخطوة العملية اللاحقة هي استغاثة الذي من شيعته " كذباً " على الذي من عدوه " الشيعي الحقيقي " فمن المعلوم انه عدو المستغيث ، اما موسى فانه يرى رجلاً يستغيث ويدعي في استغاثته انه من شيعته فيسرع للقضاء على عدو المستغيث لان ( عدوه ) الضمير فيه يرجع الى المستغيث لا لموسى عليه السلام ، و " الفاء " في وكزه دليل على السرعة اي كانت عملية الوكز بلا فاصل زمني يذكر ثم يتبين له ان " المقتول " هو من شيعته ( طبعاً نتوقع صدور ردة فعل ٍ من الاخر وهو المنافق الذي استغاثه نفاقاً ) فينسب موسى عمل " المستغيث " واستغاثته الكاذبة الى الشيطان وهو الحق لا الى عمله هو عليه السلام وهو ما أكده النيلي رحمه الله من كون هذا العمل سبق للخير وهكذا كانت نية موسى ، بينما طلب المغفرة يتعلق بالسرعة الشديدة التي قضى بها موسى على " الشيعي " وان كان لا يريد قتله بل اراد ابعاده كما تشير رواية الامام الرضا عليه السلام بيد ان قوة موسى العظيمة جعلت من وكزه سبباً للقضاء عليه .
ويجب ان نتوقف هنا لنقول :
لماذا ذكر القرآن الكريم " الاستغاثة " ولم يذكر غيرها من قبيل الاستعانة او الاستصراخ او غير ذلك يضعنا هذا امام التالي :
- أن الاستغاثة اساساً يستخدمها القرآن الكريم للذي يكون في حالة " هزيمة " ويعيش حالة تسلط وخاكمية من قبل الاخرين وقلة حيلة فيتوسل بالاستغاثة مما يضعنا امام اعتقاد واقعي وهو :
أن المستغيث كان " مغلوباً " وفي حالة هزيمة حتمية والاخر كان في طريقه للقضاء عليه .. وهو ما دفع موسى عليه السلام للاسراع في نجدته .
وهذه موارد الاستغاثة وما يشتق منها في القرآن الكريم والتي تدل على ما قلنا :
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) الانفال .
ومعلوم ان الاستغاثة جاءت بعد الشعور " بالمغلوبية والهزيمة " فجاء الامداد استجابة لذلك و معلوم ان الامداد لمنع " الهزيمة " .
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) الكهف .
وهذا المورد واضح ايضا فهم " يستغيثون " ولم يقل يستصرخون أو يطلبون فمن الواضح وقوعهم في عذاب لا حيلة لهم معه فهم مغلوبون مهزمون يتخذون الاستغاثة وسيلة لتخفيف ما هم فيه ولكن هيهات .
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28 . الشورى .
وهذا المورد رائع جداً فالغيث يأتي للناس عند " القنط " والقحط وشعورهم بالهلاك وقلة الحيلة وهو من مصادر عيشهم وحياتهم فتسميته قرآنياً " الغيث " يطابق الحركة العامة لهذا اللفظ واشتقاقاته ودلالته القصدية المحكومة بقانون واحد .
- ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) يوسف .
وهو مقطع من قول يوسف ع استخدم فيه لفظ " يغاث " مما يدل على مرور الناس بمحنة وقحط وشدة وهو واضح في قصته ولم يستخدم غير هذا اللفظ لان اللفظ المستخدم يصور وبدقةة ما هم فيه مما يطابق الاستخدام القرآني العام لهذا اللفظ واشتقاقاته .
وهكذا يتضح ايها الاخوة ان لفظ " الاستغاثة استخدم في القرآن لتبيان حال " المستغيث " وكونه في حالة " هزيمة وقلة حيلة ومغلوبية .." كما في " المستغيث " الكاذب والذي اوهم " موسى " عليه السلام باستغاثته ، مع تمكن " الشيعي " منه .
ويتضح ادعاء " المستغيث " في قوله تعالى "فاستغاثه الذي من شيعته " اي نقل ادعاءه باستغاثته وكون " المستغيث " يدعي انه من شيعته ، بيد ان هذا الادعاء لم يكن واضحاً لموسى عليه السلام ففعل ما فعل .
وعليه فان الضمير في " انه من عمل الشيطان " يرجع الى " عمل المستغيث " لا عمل موسى عليه السلام ، وقد اتضح زيف عمل " الاستغاثة " بعد قضاء موسى على الاخر " الذي من شيعته حقيقة " وذلك بردة فعل معينة كأن يتبجح المنافق بفعله ويستهزء بموسى وبما قام به الى اخر ما يمكن حدوثه في مثل هذا الموقف .
ولو كان غير ذلك لما كان ما قام به موسى عليه السلام من عمل الشيطان وكما اوضح النيلي رحمه الله وكما هو واضح .
ادلة اخرى على كون " المقتول " هو من شيعة موسى عليه السلام :
وتتضح الادلة عندما نتدبر المقطع الثاني من الايات المباركة :
) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) .
يصبح موسى عليه السلام في يومه الثاني خائفاً يترقب لما فعل بالامس فاذا بنفس " المنافق " يستصرخه على رجل آخر وهنا نتوقف عند الالفاظ القراني التي تدل على كون الرجل هنا هو " المنافق المستغيث " :
قال تعالى ( الذي استنصره ) واستخدام هذا اللفظ مهم جداً فلم يقل " الذي استغاثه " او غير ذلك لان الاستنصار يعطي معنى تحقق " النصرة " عملياً للمستنصر وهو ما حدث فعلاً فقد نصره موسى وان كان بالصورة التي ذكرناها بيد ان النصرة قد تحققت بالامس فهذا دليل على كونه نفس الرجل " المنافق الفرعوني " .
ثم غاير القرآن في الاستخدام في وصف الحالة التي كان فيها " الرجل " فقال ( يستصرخه ) وهو استخدام دقيق ايضاً حيث يعطي معنى كون الرجل في حالة متكافئة مع خصمه فلا غالب ولا مغلوب بل لازال في حالة اقتتال متوازن فلما بصر الرجل بموسى استصرخه ولم " يستغيثه " لان حالته تسمح بالاستصراخ اما لو كان في حالة هزيمة او مغلوباً لاستغاث ولم يستصرخ ، فالقرآن الكريم اراد توضيح الصورة لنا من كون " المستصرخ " في حالة عادية متوازنة اي قبل حدوث شيء له او عليه .
ثم تغير الخطاب القرآني وانتقل الى موسى عليه السلام حيث هم موسى ان يبطش به ( بالمستصرخ نفسه ) والذي هو عدو له وللرجل الاخر الذي هو من شيعته بالتأكيد لكون ( المستصرخ المنافق ) اراد الايقاع به وقتله والظاهر ان ديدنه هو الايقاع بشيعة موسى عليه السلام وقتلهم ،
لان الخطاب توجه الى موسى بعد اتضاح الامور كما بينا وهي كون الرجل المنافق نفسه الذي استغاثه بالامس فهم موسى ان يبطش به لاستحقاقه ذلك فجاء قول ( المنافق) :
قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وهذا القول يؤيد ما ذهبنا اليه تماما فما من احد يعلم بما فعل موسى بالامس غيره ولا يمكن ان يكون الرجل الاخر يعلم بما فعل موسى لان الخبر لم يكن منتشراً بشكل واسع بل ان الخبر في حالة الانتشار اثناء هذه المحاورة التي تقوم بين ( المنافق الفرعوني) وبين موسى عليه السلام ويدل على ذلك مجيء ( الرجل من اقصى المدينة) محذراً موسى عليه السلام وهذا الخبر هو الذي قطع المحاورة والمشهد الذي كان بين موسى والمنافق .
قال تعالى :
) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21).
ربما يتوهم البعض اشكال على ذلك عند الرجوع الى قوله تعالى :
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) القصص .
وندفع هذا التوهم بقولنا ان موسى عليه السلام قتل نفساً بالتأكيد لكن " قوم فرعون " لا يعلمون ان هذه النفس من شيعته بل يعتقدون انها منهم وما قتلها موسى الا لذلك فموسى عليه السلام يتكلم عن " اعتقادهم " لا عن حقيقة المقتول فالاية بهذا اللحاظ .
يتبع ان شاء الله تعالى ..