27/1/2014
الإنعطافة الكبرى : إعادة تشكيل المنطقة

هشام البوعبيدي/بانوراما الشرق الأوسط
من أهم الدراسات التي صدرت بعد حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق، تلك التي أعدّها الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيترز وأسماها “حدود الدم”، وهي تبحث في ما أسماه “بالحدود الجائرة والعشوائية” لإفريقيا والشرق الأوسط والتي تفنّن تشرشل في رسمها وأدت الى كم هائل من المشاكل تفوق قدرات شعوب المنطقة على احتمالها، وهو يدعو الى إعادة تقسيم المنطقة بشكل “عادل” بناء على الدين والمذهب والعرق.
فعلى خلاف ما يشاع، فإن حدود منطقة الشرق الأوسط والخليج كانت دوما متحرّكة ومتغيّرة ولم تعرف يوما الاستقرار، وهي لم تتخذ شكلها الحالي الا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تم تعديلها وضبطها وفق رؤية المنتصرين في تلك الحروب، الذين استوطنوها باعتبارها وما حوت “غنائم حرب” لهم، لذلك لم تراع تلك القوى الاستعمارية خصوصيات شعوب المنطقة الدينية والعرقية والاثنية بقدر ما انصرف جل اهتمامهم الى الاستحواذ أكثر ما يمكن على خيراتها ونهبها ولم تنل شعوب المنطقة في المقابل منهم سوى التهميش والتجهيل ودفع التناحر الطائفي والديني والعرقي الى مداه الأقصى.
ورغم أنه على امتداد الوطن العربي وجد كثير من الجماعات العرقية والدينية والمذهبية المختلفة، الا أنها كانت تتعايش وتتزاوج فيما بينها باستثناء بعض الحالات المعزولة، بل وأسهمت جميعها في معارك التحرير وبناء أنظمة ما بعد الاستقلال جنبا الى جنب، غير أنه ومنذ عقود قليلة تفجّرت على السطح الخلافات الاثنية والصراع على الهوية بشكل يهدّد استقرارها وأمنها، كما رأينا في العراق ولبنان ومصر، وفي مناطق أخرى كان جزءا من المواطنين يعدّون “درجة ثانية” أو يحرمون من الجنسية الوطنية، مثل الأكراد بتركيا والشيعة بالسعودية والبحرين (رغم أنهم يشكّلون الأغلبية في هذه المملكة الخليجية، وتقوم بعمليات تجنيس لعشرات الآلاف من الأجانب من عديد الدول “السنية” لخلق واقع ديمغرافي وثقافي وديني جديد) والبدون بالكويت المحرومون من الجنسية رغم أن أكثرهم يعمل في سلك الجيش والحرس وأسهم نحو 80% منهم في حرب تحرير الكويت سنة 1991.
ان هذا الوضع “اللاسوي” والتشويهات الهائلة هو نتيجة لرسم الحدود الجائر كما يرى رالف بيترز والتي ستزيد من مآسي المنطقة وتولّد حقدا وكراهية أكثر، وعليه وجب إعادة ضبطها وفقا لما أسماه “بحدود الدم”. وقد تصاعدت في الآونة الأخيرة صيحات فزع تطلقها أبواق الدعاية الأجنبية المرتبطة بأنظمة الاستعمار القديم، بخصوص حملات “الابادة” التي يتعرّض لها مسيحيو الشرق الأوسط بعد الدعوات “المشبوهة” التي تطلق من هنا وهناك لتهجيرهم وإخلاء المنطقة العربية منهم، مثلما أعلن ذلك مفتي المملكة الوهابية السعودية صراحة في بداية هذه السنة الى هدم الكنائس وإخلاء الجزيرة العربية منها (!!!)، قبل أن تقاد حملة مهووسة لنزل الصلبان من صدور المسيحيين، في الوقت الذي أعلنت دول غربية استعدادها لقبول مسيحيي الشرق الأوسط (!!!) وهو ما يطرح سؤالا حارقا حول التلازم بين الدعوتين؟؟؟.
غير أن أكثر ما يثير الاستغراب هو استثناء دولة الاستيلاب والاحتلال والعنصرية، الكيان الصهيوني، من كل التسويات التي تطمح لتخفيف حدّة التوتّر بالمنطقة، وكل من يبحث عن حلول جذرية بعيدة عن حل القضية الفلسطينية سيكون واهما بل ومتآمرا، ذلك أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع ليس في منطقة الشرق الاوسط فحسب بل وفي العالم أجمع، لأن القوى التي غرست هذا الجسم السرطاني الغريب هي نفسها التي تعمل بكل الوسائل من أجل دعمها وحمايتها والذود عنها، عبر تحالفات استراتيجية وأسلحة نوعية والضغط على حكومات المنطقة المنصّبة أمريكيا وغربيا لتضييق الخناق على المقاومة والمقاومون واستهداف محور المقاومة دولا ومنظمات وحتى البيئة الحاضنة له، بدءا من الزعيم العربي عبد الناصر، والتآمر على الجمهورية الايرانية التي أعلنت صراحة أن بوصلتها ستكون دائما “القدس”، وبعد أن أطاحت ثورتها بنظام الشاه رضا بهلوي العميل، ومنظّمة التحرير الفلسطينية وإجبارها على توقيع اتفاقية أوسلو، ثم حزب الله اللبناني في 2006 حيث صدرت فتاوى بتكفيره وتحريم الاحتفال بانتصاره التاريخي، وإجبار حركة حماس على القبول باتفاقية مهينة لوقف إطلاق النار بعد أن أمطرت تل أبيب بصواريخ “سورية” في 2008، وأخيرا تدمير معقل المقاومة والممانعة وسندها في سوريا خدمة للمشروع الامبريالي الصهيوني.
غير أن الرياح جرت بما لم تشته عواصم التآمر الغربي ووكلائها المحليين، حيث أن صمود الجبهة السورية، شعبا وجيشا وقيادة، أمام جحافل المرتزقة والتكفيريين وأجهزة الاستخبارات العالمية، خلق واقعا جديدا وولّد نظاما عالما مختلفا، وأعاد حسابات التوازنات والأحلاف الدولية، فقد أذعنت الولايات المتحدة للأمر الواقع وهو أنها لم تعد اللاعب الأول والوحيد في نظام عالمي تجدّد، وبرزت روسيا كدولة عظمى بعد تعافيها من مخلّفات الفترة السابقة، ومعها الصين كقطب اقتصادي عالمي، وانتزعت ايران اعترافا دوليا بحقوقها النووية، ليشكّل ذلك ضربة للنظام العالمي السابق: أمريكي الانتاج و”عرباني” التصديق والاعتقاد.
وعليه فإن انعطافة كبرى في تناول القضايا العالمية وخاصّة تلك العالقة بالمنطقة العربية، التي تعاني الجهل والفقر والتخلّف والقمع، رغم الثروات الكبرى التي تحتويها والتي يذهب أكثرها عبر عقود احتكارية الى بنوك الدول الاستعمارية وجيوب السماسرة، ليزدادوا غنى وتقدّما ونزداد نحن جهلا وفقرا وتخلّفا. وفي تحقيق للقناة الثانية الصهيونية أعلنت أن قمّة جنيف (5+1) أنتج شرق أوسط جديد، ترى فيه أميركا التقارب مع إيران أهم من العلاقة مع إسرائيل والسعودية، فالولايات المتحدة في طور تحوّل استراتيجي كبير وتريد الانسحاب من منطقة الشرق الاوسط والخليج لانعدام مبرّرات البقاء، ففي غضون سنوات قليلة ستنتج اكتفاءها الذاتي من مصادر الطاقة ولن تكون بحاجة لعقود استيراد تفاضلية من المملكة السعودية ولا “لشرطي صهيوني” يحمي وكلاءها ويستنزف مقدّراتها ويكلّفها الكثير وهي التي تعاني مخلّفات أزمة مالية كبرى أدّت الى التخفيض في ميزانية وزارة الدفاع رغم تحذيرات العسكريين.
فنتائج الحرب الدائرة بسوريا يمكن أن تعادل نتائج الحروب العالمية بعد أن أنتجت واقعا جديدا وخلقت وضعا مغايرا ستترتّب عنه وقائع كبرى، والأكيد أنها ستشمل اعادة ترتيب وتشكيل المنطقة وفقا لمنطق “الربح والخسارة”، ومن يدري….
المصدر:
بانوراما الشرق الأوسط
الإنعطافة الكبرى : إعادة تشكيل المنطقة

هشام البوعبيدي/بانوراما الشرق الأوسط
من أهم الدراسات التي صدرت بعد حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق، تلك التي أعدّها الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيترز وأسماها “حدود الدم”، وهي تبحث في ما أسماه “بالحدود الجائرة والعشوائية” لإفريقيا والشرق الأوسط والتي تفنّن تشرشل في رسمها وأدت الى كم هائل من المشاكل تفوق قدرات شعوب المنطقة على احتمالها، وهو يدعو الى إعادة تقسيم المنطقة بشكل “عادل” بناء على الدين والمذهب والعرق.
فعلى خلاف ما يشاع، فإن حدود منطقة الشرق الأوسط والخليج كانت دوما متحرّكة ومتغيّرة ولم تعرف يوما الاستقرار، وهي لم تتخذ شكلها الحالي الا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تم تعديلها وضبطها وفق رؤية المنتصرين في تلك الحروب، الذين استوطنوها باعتبارها وما حوت “غنائم حرب” لهم، لذلك لم تراع تلك القوى الاستعمارية خصوصيات شعوب المنطقة الدينية والعرقية والاثنية بقدر ما انصرف جل اهتمامهم الى الاستحواذ أكثر ما يمكن على خيراتها ونهبها ولم تنل شعوب المنطقة في المقابل منهم سوى التهميش والتجهيل ودفع التناحر الطائفي والديني والعرقي الى مداه الأقصى.
ورغم أنه على امتداد الوطن العربي وجد كثير من الجماعات العرقية والدينية والمذهبية المختلفة، الا أنها كانت تتعايش وتتزاوج فيما بينها باستثناء بعض الحالات المعزولة، بل وأسهمت جميعها في معارك التحرير وبناء أنظمة ما بعد الاستقلال جنبا الى جنب، غير أنه ومنذ عقود قليلة تفجّرت على السطح الخلافات الاثنية والصراع على الهوية بشكل يهدّد استقرارها وأمنها، كما رأينا في العراق ولبنان ومصر، وفي مناطق أخرى كان جزءا من المواطنين يعدّون “درجة ثانية” أو يحرمون من الجنسية الوطنية، مثل الأكراد بتركيا والشيعة بالسعودية والبحرين (رغم أنهم يشكّلون الأغلبية في هذه المملكة الخليجية، وتقوم بعمليات تجنيس لعشرات الآلاف من الأجانب من عديد الدول “السنية” لخلق واقع ديمغرافي وثقافي وديني جديد) والبدون بالكويت المحرومون من الجنسية رغم أن أكثرهم يعمل في سلك الجيش والحرس وأسهم نحو 80% منهم في حرب تحرير الكويت سنة 1991.
ان هذا الوضع “اللاسوي” والتشويهات الهائلة هو نتيجة لرسم الحدود الجائر كما يرى رالف بيترز والتي ستزيد من مآسي المنطقة وتولّد حقدا وكراهية أكثر، وعليه وجب إعادة ضبطها وفقا لما أسماه “بحدود الدم”. وقد تصاعدت في الآونة الأخيرة صيحات فزع تطلقها أبواق الدعاية الأجنبية المرتبطة بأنظمة الاستعمار القديم، بخصوص حملات “الابادة” التي يتعرّض لها مسيحيو الشرق الأوسط بعد الدعوات “المشبوهة” التي تطلق من هنا وهناك لتهجيرهم وإخلاء المنطقة العربية منهم، مثلما أعلن ذلك مفتي المملكة الوهابية السعودية صراحة في بداية هذه السنة الى هدم الكنائس وإخلاء الجزيرة العربية منها (!!!)، قبل أن تقاد حملة مهووسة لنزل الصلبان من صدور المسيحيين، في الوقت الذي أعلنت دول غربية استعدادها لقبول مسيحيي الشرق الأوسط (!!!) وهو ما يطرح سؤالا حارقا حول التلازم بين الدعوتين؟؟؟.
غير أن أكثر ما يثير الاستغراب هو استثناء دولة الاستيلاب والاحتلال والعنصرية، الكيان الصهيوني، من كل التسويات التي تطمح لتخفيف حدّة التوتّر بالمنطقة، وكل من يبحث عن حلول جذرية بعيدة عن حل القضية الفلسطينية سيكون واهما بل ومتآمرا، ذلك أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع ليس في منطقة الشرق الاوسط فحسب بل وفي العالم أجمع، لأن القوى التي غرست هذا الجسم السرطاني الغريب هي نفسها التي تعمل بكل الوسائل من أجل دعمها وحمايتها والذود عنها، عبر تحالفات استراتيجية وأسلحة نوعية والضغط على حكومات المنطقة المنصّبة أمريكيا وغربيا لتضييق الخناق على المقاومة والمقاومون واستهداف محور المقاومة دولا ومنظمات وحتى البيئة الحاضنة له، بدءا من الزعيم العربي عبد الناصر، والتآمر على الجمهورية الايرانية التي أعلنت صراحة أن بوصلتها ستكون دائما “القدس”، وبعد أن أطاحت ثورتها بنظام الشاه رضا بهلوي العميل، ومنظّمة التحرير الفلسطينية وإجبارها على توقيع اتفاقية أوسلو، ثم حزب الله اللبناني في 2006 حيث صدرت فتاوى بتكفيره وتحريم الاحتفال بانتصاره التاريخي، وإجبار حركة حماس على القبول باتفاقية مهينة لوقف إطلاق النار بعد أن أمطرت تل أبيب بصواريخ “سورية” في 2008، وأخيرا تدمير معقل المقاومة والممانعة وسندها في سوريا خدمة للمشروع الامبريالي الصهيوني.
غير أن الرياح جرت بما لم تشته عواصم التآمر الغربي ووكلائها المحليين، حيث أن صمود الجبهة السورية، شعبا وجيشا وقيادة، أمام جحافل المرتزقة والتكفيريين وأجهزة الاستخبارات العالمية، خلق واقعا جديدا وولّد نظاما عالما مختلفا، وأعاد حسابات التوازنات والأحلاف الدولية، فقد أذعنت الولايات المتحدة للأمر الواقع وهو أنها لم تعد اللاعب الأول والوحيد في نظام عالمي تجدّد، وبرزت روسيا كدولة عظمى بعد تعافيها من مخلّفات الفترة السابقة، ومعها الصين كقطب اقتصادي عالمي، وانتزعت ايران اعترافا دوليا بحقوقها النووية، ليشكّل ذلك ضربة للنظام العالمي السابق: أمريكي الانتاج و”عرباني” التصديق والاعتقاد.
وعليه فإن انعطافة كبرى في تناول القضايا العالمية وخاصّة تلك العالقة بالمنطقة العربية، التي تعاني الجهل والفقر والتخلّف والقمع، رغم الثروات الكبرى التي تحتويها والتي يذهب أكثرها عبر عقود احتكارية الى بنوك الدول الاستعمارية وجيوب السماسرة، ليزدادوا غنى وتقدّما ونزداد نحن جهلا وفقرا وتخلّفا. وفي تحقيق للقناة الثانية الصهيونية أعلنت أن قمّة جنيف (5+1) أنتج شرق أوسط جديد، ترى فيه أميركا التقارب مع إيران أهم من العلاقة مع إسرائيل والسعودية، فالولايات المتحدة في طور تحوّل استراتيجي كبير وتريد الانسحاب من منطقة الشرق الاوسط والخليج لانعدام مبرّرات البقاء، ففي غضون سنوات قليلة ستنتج اكتفاءها الذاتي من مصادر الطاقة ولن تكون بحاجة لعقود استيراد تفاضلية من المملكة السعودية ولا “لشرطي صهيوني” يحمي وكلاءها ويستنزف مقدّراتها ويكلّفها الكثير وهي التي تعاني مخلّفات أزمة مالية كبرى أدّت الى التخفيض في ميزانية وزارة الدفاع رغم تحذيرات العسكريين.
فنتائج الحرب الدائرة بسوريا يمكن أن تعادل نتائج الحروب العالمية بعد أن أنتجت واقعا جديدا وخلقت وضعا مغايرا ستترتّب عنه وقائع كبرى، والأكيد أنها ستشمل اعادة ترتيب وتشكيل المنطقة وفقا لمنطق “الربح والخسارة”، ومن يدري….
المصدر:
بانوراما الشرق الأوسط