إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

بــزوغ عصــر الشعــوب..

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بــزوغ عصــر الشعــوب..

    بــزوغ عصــر الشعــوب..




    أحمد الشرقاوي
    بانوراما الشرق الاوسط


    المنطقة تقف اليوم على عتبة عصر جديد يولد من رحم الصراع الدائر بين أمريكا وأدواتها وإيران وحلفائها، أو ما أصبح يعرف بعصر “داعش”، وهو الصراع الذي اتخذ من “الإرهاب التكفيري” حصان طروادة لتدمير محور المقاومة بكل مكوناته، وإنهاء ما يسمونه بـ”النفوذ الإيراني” حينا و “التمدد الشيعي” أحيانا أخرى، مخافة أن يبزغ عصر الشعوب فيبدد ظلمات عقود من التبعية والتدجين والظلم والجهل والفقر والتخلف..

    لكنه صراع يفتقد من أوقدوه للأخلاق، لاستثمارهم في “الإرهاب” بهدف إشاعة الرعب والموت والخراب، ويفتقدون للرؤيا، بسبب ترويجهم لمقولات دعائية تعوزها المصداقية، سواء من المنظور القومي العربي أو المنظور الديني الإسلامي، ويعتمدون مقاربات فتنوية خبيثة، لإصرارهم على افتعال صدام طائفي ومذهبي باعتماد ما أسماه الرئيس أوباما بـ”الصبر الإستراتيجي”، والذي يعني حرفيا، صب المزيد من الزيت على النار كلما خمدت، إلى أن يستنزف محور المقاومة بالكامل، وتستسلم إيران للشروط الأمريكية المذلة، سواء في ما له علاقة بملفها النووي أو بدورها الداعم للمقاومة وللمستضعفين من شعوب المنطقة.

    ومن الواضح أن المستهدف وراء كل ما جرى ويجري اليوم هي إيران بالنهاية، بسبب خياراتها السياسية التي تنبع من ثوابتها الدينية ومبادئها الأخلاقية وقيمها الإنسانية التي تتشاركها مع مكونات محورها.

    فجريمة إيران كما تراها “إسرائيل” مثلا، تتمثل في أن طهران تعتبر تحرير القدس قضية مقدسة، وتدعم حركات المقاومة ضد الإحتلال، سواء في لبنان أو في قطاع غزة، وتعمل على إنشاء حركات مقاومة مسلحة في الضفة الغربية أيضا، ما يجعل الكيان الصهيوني الفاشي مطوقا من الشمال والغرب ومفخخا من الداخل، وهو ما يعتبر خطرا وجوديا لا قبل للصهاينة بمواجهته في حال اشتعلت الجبهات وتوحدت البندقية ضدهم كما بشرهم بذلك سماحة السيد ذات خطاب.

    كما وأن جريمة إيران بمنطق “السعودية”، تتمثل في إصرار طهران على زعزعة استقرار المنطقة العربية من مدخلين: الأول، أن طهران تدعم العراق وسورية ولبنان ضد الإرهاب الذي عملت عليه المملكة الوهابية لسنوات بمعية حلفائها، وأنفقت في سبيل نشره وتقويته وتدريبه وتسليحه مليارات الدولارات دون أن تنجح في إسقاط العراق وسورية، بل وفقدت نفوذها على الأرض من خلال الجماعات التابعة لها، فسقط وهمها بخلق كيانات طائفية هجينة تخضع لمجال ما تعتبره “نفوذها القومي السني”، وبدأت تستشعر خطر نهاية عصر “داعش” بسبب الانهيارات الدراماتيكية الحاصلة اليوم في صفوفه، سواء في العراق أو سورية.

    والثاني، أن طهران تدعم ثورات الشعوب المستضعفة معنويا في المنطقة الشرقية وسياسيا في البحرين ضدا في منطق السعودية المعادي لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالسلاح والتدريب في اليمن لمواجهة فلول “القاعدة” و”داعش” المتحالفين مع حزب “الإخوان” (الإصلاح) وإقامة نظام سياسي مستقل عن التبعية، وتعتقد أن إيران تسعى لتطويقها من الشمال والجنوب والداخل أيضا انطلاقا من المنطقة الشرقية التي يمثل المكون الشيعي ما نسبته 20% من سكان المملكة الوهابية، وتقارن ما يحصل بجوارها مع ما حصل لـ”إسرائيل”، وهو ما يستوجب، وفق رأيها، التحالف مع الشيطان لمواجهة إيران، وليس التحالف مع “إسرائيل” فحسب..

    بل حتى الأردن، أصبح يتوجس من وجود المستشارين الإيرانيين على حدوده الشمالية مع سورية والشرقية مع العراق، ويخشى من عدوى ارتداد الإرهاب عليه بسبب سياسات نظامه العدوانية وأهدافه الانتهازية، ويتعامل مع محور المقاومة بالخديعة، فيسوق لخطاب إعلامي مسالم، في الوقت الذي يساهم في تدمير العراق وخراب سورية وإشعال الفتنة في لبنان والتحريض على التفجير في إيران، ويداعب طهران من مدخل الحوار الديبلوماسي المنافق والرغبة في التفاهم حول شؤون المنطقة، وهو يعتقد بذكاء فاق حد الغباء أن مؤامراته ستمر من دون عقاب.

    أما جريمة إيران من وجهة نظر أمريكا وريثة الإرث الإمبراطوري الفرنسي والبريطاني القديم في الشرق الأوسط، فتصنف في خانة أم الكبائر، لأن طهران تعمل ليل نهار على تقويض الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وتطالب برحيل القواعد الأطلسية من الشرق الأوسط، لتترك المجال لشعوب المنطقة كي تبني مقومات أمنها القومي الذاتي، وتتمتع بثرواتها ومقدرات أوطانها، فتقيم دولا قوية مستقلة وسيدة تنخرط في مشروع “الأمة”، والتي في حال قامت، فلن يعود للغرب من نفوذ ولا موطئ قدم في الشرق الأوسط والعالم العربي عموما..

    وصراع إيران مع الولايات المتحدة يعود لفجر الثورة بسبب ما اصطلح على تسميته بأزمة الرهائن في السفارة الأمريكية، أعقبته حرب السنوات الثمانية التي خاضها المقبور صدام حسين بالوكالة عن أمريكا ومشيخات الخليج وانتهت بزوال نظامه، واستمر بعد الإحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق من خلال حركات المقاومة التي هزمت إمبراطورية روما الجديدة، وأدخلتها في أزمات سياسية وأخلاقية واقتصادية عويصة لن يكون في مقدورها الخروج من تداعياتها الكارثية لعقود قادمة..

    وبسبب ذلك، قررت واشنطن الانتقام من طهران، لكن هذه المرة بالخديعة بعد أن فقدت القدرة على المواجهة بالقوة العسكرية المباشرة، بسبب امتلاك إيران لقوة عسكرية لا يستهان بها بالإضافة لخيارات عديدة في أكثر من ساحة، من شأن استعمالها أن يشعل المنطقة ويؤدي إلى كوارث عالمية لا يعرف أحد كيف يمكن أن تنتهي، ولا حل أمام الشيطان الأكبر اليوم إلا أن يتوب على يد الإمام الخامنئي ويقبل بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب تكون فيه إيران قوة إقليمية عظمى، أو أن يستمر في سياسة الانتحار فيخسر مصالح بلاده في المنطقة بعد أن لم تعد موازين القوى تلعب لصالحه، خصوصا بعد أن فقدت “إسرائيل” دورها بفضل حزب الله والمقاومة في غزة، وفشلت السعودية في تحقيق ما كانت تصبو إليه من تغيير للموازين بسلاح الإرهاب.

    ولأن نهضة “الأمة الإسلامية” وفق الرؤية الإيرانية البعيدة المدى، تعني سياسيا، نهاية عصر التبعية والإقطاع والعمالة والفساد الذي حول الشعوب إلى عبيد للسخرة بلا كرامة، يعيشون في ذل وإهانة عظيمة..

    وتعني اقتصاديا، نهاية النموذج النيوليبرالي الغربي المتوحش الذي حول الشعوب إلى قطعان من المعطلين والجياع، يعيشون ليأكلون كالدواب بدل أن يأكلوا ليعيشوا بعزة وكرامة ويساهموا في بناء الحضارة، برغم ما حباهم الله من خيرات تنهب من قبل اللصوص لفائدة الأمراء والعملاء والعسكر والأسياد..

    وتعني ثقافيـا، نهاية عصر الجهل والظلام، وولوج عصر نور العلم والمعرفة، وتفجير الطاقات الخاملة في العقول، وإيقاظ الهمم الكامنة في القلوب، ما يمهد لعودة النموذج الحضاري الإسلامي الراقي الذي يخشاه الغرب ويعمل على تقويضه من مدخل تشويه الإسلام وشيطنة المسلمين..

    وتعني اجتماعيا أن يسود العدل والمساواة بين الناس، وتفعيل مبدأ المحاسبة على قدر المسؤولية من دون عصمة لأحد، ونهاية عصر الظلم والإفلات من العقاب، وذلك وفق مقاربة جديدة تضع القرار السيادي بيد الشعوب بدل الحكام الذين ليسوا سوى وكلاء للإستعمار، ينفذون سياساته ويمتثلون لإرادته ويخدمون مصالحه بتفان وإخلاص..

    وهذا هو المعنى الحقيقي لعصر الشعوب الذي يمثل حلم الأمة المشرق الجميل الذي يتطلع له الأحرار والشرفاء في المنطقة، ويعمل محور المقاومة على تحقيقه من خلال تحرير الأرض والإنسان بإشاعة ثقافة المقاومة التي تعني التضحية والفداء من منطلق الواجب الجهادي الديني والإنساني المقدس لينتصر الحق على الباطل، لقوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة: 251.

    ذلك، أن التغيير يبدأ من العقول أولا، من خلال ثورة ثقافية تغير المفاهيم وتحضر الشعوب لممارسة حقها في الحرية والاستقلال والسيادة بعقلانية، وفشل الربيع العربي في مرحلته الأولى يعود بالأساس لغياب هذا النوع من الثقافة الثورية الأصيلة، بالإضافة للرؤية والتنظيم والقيادة.. لكن الربيع بدأ ولما ينتهي بعد، قد يتأخر قليلا أو كثيرا بقدر تطور الوعي وحصول القناعة، لكن التغيير يظل هو المصير بحكم سنة الله في الخلق التي لا تتبدل ولا تتغير، وهذا ما تؤكده دروس التاريخ العالمي أيضا.

    ومن الواضح أن مشروع أمريكا ورهان أدواتها كان ولا يزال على إسقاط محور المقاومة لحرمان إيران من عمقها العربي والإسلامي حتى لا تقوم للأمة قائمة، كما أنه من الواضح أيضا، أن من يحارب الإرهاب بقوة وفعالية على الأرض اليوم هو محور المقاومة، سواء في سورية أوالعراق أو لبنان، بل وحتى في اليمن الذي وصل إلي جنوبه إرهاب “القاعدة” و”داعش” لمواجهة الحوثيين والمستضعفين من الشعب اليمني، بفضل السعودية وقطر وفق المعلومات الموثوقة التي كشفت عنها وكالات الأنباء مؤخرا.

    وبسبب تعثر إستراتيجية أوباما في سورية وفشلها في العراق، تقرر بدأ مرحلة الاغتيالات في لبنان لتفجير فتنة طائفية وفق ما أفصحت عنه تقارير أمنية، خصوصا بعد أن تبين عدم قدرة المجاميع الإرهابية في القلمون وجرود عرسال على تنفيذ هجوم في الداخل اللبناني لاستنزاف الجيش وإشغال حزب الله عن معاركه المقدسة في سورية والعراق.

    وبموازاة ذلك، تقرر أيضا المرور لمخطط زعزعة الاستقرار في إيران، وها هو المساعد والمستشار الأعلى لقائد الثورة الإسلامية اللواء يحيى رحيم صفوي يكشف مطلع هذا الأسبوع، عن وجود 17 جهاز استخباري دولي وإقليمي ينشط في منطقة خوزستان (جنوب غرب إيران)، لدعم الزمر القومية الانفصالية بالمال وخلافه لإشعال فتنة طائفية ومذهبية، ويأتي هذا الإعلان بعد الكشف عن اعتقال خلية إرهابية كانت تحضر لتفجيرات في الداخل الإيراني تمولها مشيخة البحرين وفق ما كشفت التحقيقات مع المجرمين الموقوفين، كما وأن اعتقال انتحارية سورية في مطار بيروت هذا الأسبوع مرتبطة بعنصر إرهابي سعودي، كشف عن مخطط لتفجير السفارة الإيرانية في بيروت للمرة الثانية، هذا في الوقت الذي أعلنت فيه مملكة الشر والظلام عن تعزيز أمن بعثاتها الديبلوماسية في الخارج مخافة ردود فعل عكسية على مخططاتها الإجرامية.

    كما وأنه تبين للجميع أيضا، أن التحالف الأمريكي، وليس الدولي كما يشاع في الإعلام، لافتقاره لغطاء الشرعية الأممية وعدم ضمه للفاعلين الحقيقيين الذين يواجهون الإرهاب على الأرض.. ليس هدفه محاربة الإرهاب بقدر ما يسعى للاستثمار فيه طويلا من أجل أهداف تخريبية لم تعد خافية على أحد، وضعت لها سقوف زمنية تتراوح بين 3 سنوات وفق أوباما و 30 سنة وفق كيسنجر، فجاء قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني ليكسر هذه التقديرات ويختزل نهاية عصر “داعش” و”النصرة” وأخواتهما في العراق وسورية في بضعة أشهر فقط لا غير، وحرم التحالف الأمريكي من المشاركة في معركة تحرير صلاح الدين حتى لا يجير أوباما الانتصار لصالحه سياسيا، وتصر الحكومة العراقية على أن يكون تحرير الموصل معركة عراقية صرفة، في حين تضغط أمريكا بكل ما أوتيت من قوة للمشاركة فيها، وهدفها قد يكون اغتيال القائد الأسطورة قاسم سليماني ونسبة العملية لعامل الخطأ كما نتوجس..

    لأن اتخاذ محور المقاومة لقرارا إستراتيجي تاريخي بسرعة الحسم مع الإرهاب في العراق وسورية، فاجأ أمريكا وأصابها بالصدمة والذهول، وأدخل الرعب في قلوب المتآمرين على المنطقة وعلى رأسهم السعودية وقطر وتركيا والأردن من بين دول أخرى، وقلب كل الحسابات رأسا على عقب، خصوصا بعد التقدم الميداني المدهش الذي حققته القوى العسكرية والأمنية على الأرض مدعومة بالحشد الشعبي (الشيعي والسني) في العراق، وقوات الدفاع الوطني في سورية، وبمساندة عملية واضحة من قبل مستشارين ووحدات من قوة النخبة في فيلق القدس ومن حزب الله، فسقط بعبع “داعش” وانهار كقلعة من رمال ابتلعتها أمواج الشاطئ، وسقط رهانهم على الفتنة السنية الشيعية، حين اكتشفوا أن كل مكونات العراق وسورية يقاتلون الإرهاب بعقيدة دينية جهادية راسخة، وروح وطنية عالية، يتنافسون بحماسة لتقديم التضحيات والسباق نحو الشهادة، فتعمدت الوحدة الإسلامية بالدم السني والشيعي الطاهر، وتحصنت الوحدة الوطنية بالانتصارات والملاحم..

    هذا التنسيق الجديد على مستوى محور المقاومة بعث برسالة مزلزلة أربكت خطط الأمريكي وحسابات السعودي، ومفادها، أن المواجهة مع الإرهاب لم تعد شأنا يعني كل مكون على حدة، بل قرارا إستراتيجيا يقضي بتصرف كل مكونات المحور كوحدة متجانسة ومتكاملة في جبهة واحدة تمتد من إيران إلى لبنان، بل وما بعد لبنان إذا اقتضت الضرورة، وأن زمن العبث بالساحات كل على حدة قد ولى وانتهى إلى غير رجعة، وهذا هو معنى حديث سماحة السيد عن تغيير قواعد الاشتباك وتوحيد الساحات في مواجهة الإرهاب بوجهيه: التكفيري والإسرائيلي معا، أو لنقل الإرهاب الصهيوني وكفى، والذي يجمع تحت هذا المسمى تحالف المجرمين الصهاينة الذي يضم (الإرهاب الأمريكي والغربي والإسرائيلي والعربي).

    وبالتالي، فليس صحيحا ما يقال عن أن الصراع هو على النفوذ في المنطقة بين السعودية “السنية” و إيران “الشيعية”، هذا تحوير لطبيعة الصراع وتزوير للواقع يهدف إلى تضليل الناس واستغبائهم، وحرف بوصلتهم عن حقيقة الأطماع الأمريكية في مقدرات المنطقة من جهة، وتأمين أمن “إسرائيل” وضمان استقرارها وإعادة تعويم دورها كقوة مهيمنة على الجغرافية العربية المتفجرة من مدخل الدولة اليهودية النقية من جهة أخرى، ويستعملون في ذلك السلاح الميكيافيلي الذي يتقنونه “فرق تسد”، ويضللون به الجهلة والسدج من الناس، وما أكثرهم في عالمنا العربي للأسف.

    لأن ما يقال عن خطر النفوذ الإيراني لا أساس له من الصحة بالمطلق، ذلك أن إيران التي تعتبر مكونا أصيلا من مكونات الشرق الأوسط لا تمثل خطرا على دوله مثل ما هو الحال مع تركيا التي تجهر بأطماعها العثمانية، ولها تاريخ دموي مخزي في العالم العربي زمن السلطنة العثمانية، وذاكرة سوداء تأثثها المجازر البشعة التي ارتكبت في حق الأرمن وخلفت أزيد من مليون ونصف من الشهداء الأبرياء.. أو “إسرائيل” التي تسعى لاستعادة دورها كقلعة متقدمة للغرب في المنطقة، أو السعودية التي أقامت نظامها على القتل والذبح والمجازر، وركزت في سياساتها الخبيثة منذ نشأتها على تدمير الدول العربية القوية باسم “التضامن العربي”، وتخريب الإسلام وتشويهه باسم الاعتدال والوسطية ومنهج السلف “الصالح”..

    بدليل، أننا لم نلحظ خلال أزيد من ثلاث عقود من التحالف السوري الإيراني مثلا، أن طهران سعت لفرض هيمنتها على الدولة السورية المستقلة التي تمارس دورها السيادي من منطلق مصالح شعبها، أو أن إيران التي تساعد العراق في الإفلات من الهيمنة الأمريكية ومواجهة الخطر التكفيري تفعل ذلك بشروط سياسية معينة، أو أن مساعدتها لحزب الله والمقاومة الفلسطينية السنية في قطاع غزة يجعلها تستحوذ على قرار هذه المنظمات التي تمارس دورها السياسي في أوطانها باستقلالية تامة، أو أنها اشترطت على الفصائل السنية التحول إلى المذهب السني مقابل ذلك.. هذا في الوقت الذي تخلى العرب عن فلسطين وصنفوا حركات المقاومة في خانة الإرهاب، بضغط من السعودية تحديدا.

    وكون إيران تعتبر العراق وسورية ولبنان عمقها الإستراتيجي العربي، فهذا لا يعني “الإحتلال” بقدر ما يعني الشعور بالانتماء لمحور يشكل اليوم القاعدة الصلبة للأمة، تماما كما يشعر كل عربي حر أبي من الماء إلى الماء أن العراق وطنه، وأن دمشق عاصمته، وأن حزب الله مقاومته، وأن إيران عمقه الإستراتيجي الذي تقوم على أساسه هويته الإسلامية، لما تمثله إيران اليوم في الوجدان الشعبي من رمز للعلم والعقل والمقاومة التي أعادت للأمة الشعور بالعزة والإحساس بالكرامة.. فشكرا لإيران وحلفائها وتبا للسعودية وكل الأدوات الدائرة في فلكها.

    وكل ما يمكن قوله في هذا الإطار حتى يثبت العكس فعلا لا قولا أو تصريحا، هو أن التحالف الإستراتيجي بين إيران ومحورها على وجه الخصوص، يقتصر حصرا على مواجهة الأخطار التي تهدد مكوناته، سواء بسبب الأطماع الإستعمارية الأمريكية أو العربدة الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال.. وإذا تبث أن لإيران أهداف تخرج عن هذا الإطار كما يزعم إعلام الزيت دون دليل من واقع أو حجة من عقل، فلن يكتب لمشروعها النجاح، وسنكون أول من يقف في مواجهتها.

    وإذا كانت السعودية التي انكشف دورها الإجرامي الهدام في حق العرب والمسلمين تقول أن العالم قد تغير، وأن ما يحكم العلاقات بين الدول في عصر العولمة هي المصالح، فهذا لا يعني التضحية بالقيم والمبادىء والثوابت من أجل مصالح لا يبدو من قراءة الواقع أنها تتحقق لفائدتها، بدليل الانهيارات السياسية والإديولوجية التي أصابتها في الصميم وتهدد بتفككها واندثارها ولو بعد حين، وهذا ما خططت له حليفتها الكبرى أمريكا، وفق ما تكشف من خرائط التقسيم التي نشرت على أكثر من موقع منذ اندلاع الفوضى الهدامة في المنطقة سنة 2011، بحيث لم تستثنى السعودية.

    أما إيران التي هي دولة مؤسسات بامتياز، فقد نجحت بفضل رؤيتها الحكيمة وسياساتها العقلانية ومشروعها الحضاري في إقامة بنية ديمقراطية تجمع بين البعد الإسلامي الحضاري والمعاصرة بالمفهوم العلمي والتكنولوجي والإنتاج الفكري، وهو ما ساعدها على تحقيق قفزة نوعية عملاقة في كل مجالات التنمية على إيقاع ما يعرفه العالم اليوم من ثورة علمية ومعرفية سريعة، وذلك من خلال الاستثمار في المواطن الإيراني، والاعتماد على مقدراتها الذاتية برغم الحصار، فأبهرت العالم بنجاحاتها التي تلامس حدود المعجزة، وأرعبت الأعداء باقتدارها وقدراتها التي فاقت التوقع وخلطت كل الحسابات، خصوصا حين استثمرت في الصناعات العسكرية المتقدمة، وراهنت على تنويع ومضاعفة الخيارات التي تحولت اليوم إلى أوراق قوة تحصن بها أمنها القومي وأمن حلفائها الأوفياء، الأمر الذي أجبر الأمريكي والغرب الأطلسي على التسليم بالأمر الواقع، والجلوس للتفاوض معها بعد أن أدرك استحالة مواجهتها بالقوة العسكرية، ما يؤكد أن الصراع في واقع الأمر هو ليس بين إيران والسعودية، بل بين إيران وأمريكا بلحمها وشحمها، وأن مشيخة السعودية في خضم هذا المولد لا تعدو أن تكون أداة وظيفية فاشلة، وبالتالي، ليس من العقل ولا المنطق إعطائها قيمة ومكانة لا تستحقها..

    كما وأن إيران الإسلامية لم تهدد في يوم من الأيام أي دولة عربية أو إسلامية، بل كانت دائما تمد يدها لدول المنطقة من أجل التعاون في كل المجالات تحت مظلة أمنية عربية وإسلامية، وبالتالي، لا يعقل أن تكون هي العدو و”إسرائيل” الصهيونية العنصرية المجرمة المحتلة لفلسطين والساعية لخراب الأمة هي الحليف والصديق إلا بمنطق الوكلاء المهزومين الذين لا يقيمون وزنا للقيم والمبادىء والثوابت، ويزنون الأمور بميزان المصالح الانتهازية..

    هؤلاء، يمارسون اللعبة الوجودية بمنطق الانتحار، لأنهم لا رؤية لهم ولا مشروع ولا إستراتيجية ولا أهداف، لذلك تجدهم يمتثلون لتعليمات الأسياد في واشنطن، وينخرطون في إستراتيجياتهم، ويبدلون الغالي والنفيس في سبيل تحقيق أهدافهم حتى لو جاءت نتائجها على حساب مصالح شعوبهم، الأمر الذي يؤكد بالمحصلة، أنهم ليسوا سوى وكلاء لا استقلال ولا سيادة ولا قرار لهم.

    ولم يعد خافيا أن كل هذا العداء لإيران هو بسبب موقفها من قضية فلسطين التي حولتها الثورة الإسلامية المجيدة إلى قضية وجدان بالنسبة للأمة الإيرانية كما كانت قضية ضمير ووجود ومصير بالنسبة للأمة العربية زمن المد القومي، وقدمت إيران في سبيلها التضحيات الجسام من حروب وحصار ثمنا لتبقى شعلة قدس الأقداس متقدة في قلوب الشرفاء إلى أن يهيئ الله الظروف ليوم الحسم الأكبر.

    كنا نتمنى لو أن السعودية حدت حدو إيران وطورت مشروعا للنهضة على أسس ثورية إنسانية وعلمية تواكب الانفجارات التقنية التي يعرفها العالم اليوم، لتنقل المواطن العربي من عصر ما قبل الحضارة إلى عصر ما بعد الحداثة، عصر جديد بمنظومة فكرية قومية وإسلامية متماسكة وقوية، تستطيع من خلالها فرض وجودها في عالم متغير لا مكان فيه للضعفاء..

    لكنها لم تفعل، وأضاعت الكثير من الوقت والجهد والمال في لعبة الإديولوجيا لتظل الأنظمة الفاسدة مهيمنة على المشهد من خلال بنية أمنية استبدادية.. وفضلت الهروب من واقعها المتخلف بتصدير أزماتها إلى خارج الحدود، من خلال افتعال خلافات مع دول الجوار، وتعليق شماعة الفشل على عدو وهمي اسمه النفوذ الإيراني “الشيعي” الذي يتهدد الوجود “السني” المزعوم، في لعبة خطرة تسعى من خلالها لحرق اليابس والأخضر وإنهاء حلم الوحدة الإسلامية التي يتوق إليه كل شرفاء الأمة اليوم، لأنه لا مخرج لنا من خريطة الواقع الرديء الذي يرسم اليوم لمنطقتنا إلا من خلاله.

    وبدل الوقوف لحظة صدق مع الذات، ومراجعة الخيارات وتعديل التوجهات على ضوء تجارب الماضي وحصاد الفشل الذي جنته في كل محطة وساحة، ها هي السعودية، ويا للأسف، تصر على غيها وتمضي في نفس الطريق الخاطئ، بالرغم من علمها أنه لن يقودها إلا إلى نفس المحطة في اللازمان واللامكان، وتقرر فجأة إيجار 100 ألف جندي باكستاني بمليارات الدولارات، بعد أن استقدمت عشرات الآلاف من عناصر الجيش المصري والأردني لحماية حدودها من عدو وحشي صنعته بنفسها فانقلب ضدها (30 ألف عنصر): – في الشمال، تحسبا من هزيمة “داعش” في العراق وتنفيذ تهديده باحتلال مكة والمدينة.. – وفي الجنوب، خوفا من هزيمة “القاعدة” و”داعش” في اليمن وارتداد خطرها إلى الداخل السعودي تحت ضربات أنصار الله وحلفائهم الثوار الشرفاء.

    وبموازاة هذه الإجراءات العسكرية الوقائية، تحولت الرياض إلى قطب لكبار الزوار القادمين من القاهرة وأنقرة وواشنطن وتل أبيب ومشيخات الخليج والأردن، بل وكوريا الجنوبية أيضا، في محاولة محمومة لبناء تحالف إقليمي سعودي – توركي – مصري لمواجهة إيران التي لا تهدد أحدا بالاجتياح العسكري، وتمد يدها للجميع من موقع قوة واقتدار للتعاون في مواجهة الأخطار الداهمة التي تتربص بالأمة، وتقترح الشراكة في إقامة مشاريع تنموية عملاقة كفيلة بتحقيق النهضة الإسلامية الحقيقية لكل شعوب المنطقة، وحل كافة القضايا الخلافية بين الدل العربية والإسلامية بالحوار الإيجابي البناء، لا بمنطق الإلغاء والاستعداء والتحريض والحقد والكراهية واستئجار الجيوش والبوارج الأطلسية وشراء الصواريخ الباليستية وفتح المجال الجوي للطائرات الحربية الإسرائيلية لتدمير المنشآت النووية السلمية الإيرانية، خدمة لأهداف لم تعد خافية على أحد.

    نحن نعيش اليوم في زمن متغير يمهل ولا يهمل، زمن لا مكان فيه لفكر ابن تيمية وفكر محمد بن عبد الوهاب المستورد من ثقافة القبور، زمن العلم والمعرفة وثورة الاتصالات، زمن بناء المستقبل انطلاقا من تغيير الحاضر بدل إلغائه والارتداد نحو الماضي السحيق زمن الجاهلية الأولى، إنه زمن إعادة بناء الهوية الإسلامية الجامعة وفق الثوابت المشتركة التي أوصى بها القرآن وحثنا عليها نبي الرحمة في خطبة الوداع، خصوصا بعد أن تفجرت كل الهويات القومية الهجينة وأصبح مشروع بناء الأمة في مفترق طرق، فإما أن نكون أو لا نكون ونرحل لمزبلة التاريخ وننتهي كأمة عربية وإسلامية..

    إن التاريخ لا يرحم أحدا، ولا يجامل أحدا، ولا ينتظر أحدا.. وحده من يأخذ بأسباب القوة ويتمسك بالمبادىء والقيم والأخلاق، ويدافع عن الحق ضد الباطل هو من سيكون له مكان تحت شمس المنطقة.. وبهذا المعنى، نستطيع الجزم، أن إيران وحلفائها الأوفياء هم حصان المستقبل الرابح، وقريبا سيحصدون ما زرعوه في معركة الوجود والمصير من انتصارات، بفضل الإيمان الصادق، والإرادة التي لا تنكسر، والعزيمة التي لا تلين، فيبزغ فجر جديد لعصر الشعوب يرونه بعيدا ونراه قريبا..
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X