تفتحُ عينيك – وأنت بعدُ طفلٌ صغير – لترى إبتسامة حانية عذبة ترفرفُ على وجهك.. إنّها إبتسامة أمّك الرحيمة الرفيقة المحبّة لك.
وتبدأ مشاعرك بالإحساس بما حولك، فترى أباً يحدب عليك، وإخوة يلاطفونك، وجدّاً أو جدّة يفيضون حناناً عليك.
ثمّ تدرجُ في مدارج الحياة فتلتقي أناساً كثيرين يحبّونك ويحترمونك.. تألفهم ويألفونك.. فيهم الأصدقاء وفيهم الزملاء وفيهم الإخوان.
وتبلغ مبلغ الرجولة فيهفو قلبك إلى فتاة تتمّنى أن تشاركك الحياة وتكون لك زوجةً مخلصةً أمينة حبيبة مطيعة، فيكونُ لك ما تريد، ويجعل الله بينكما مودّة ورحمة، فيهنأ العيش وترغد الحياة وتصفو الأيام بنعيم القرب والمعاشرة والمشاطرة في الأفراح وفي الأحزان.
وتُرزقُ بالبنين وبالبنات فتجدُ في قلبك حبّاً طافحاً ورحمة جارفة تعذقها على كلِّ واحدٍ منهم..
مرّت امرأة – ذات يوم – من أمام المسجد النبويّ، وهي تحتضن طفلها الذي شغفها حبّاً، فقال النبي 6 لأصحابه: "اُنظروا إلى رحمة هذه المرأة بابنها.. إنّ الله أرحمُ بعبادة من الأمّ بوليدها".
ويمرّ 6يوماً آخر بحمامة تحتضن بيضها برفق وحنوّ مؤمّلة نفسها بفراخ يحومون حولها، ويفتحون مناقيرهم الصغيرة طلباً للرحمة بهم، فتلقي في فمّ كلِّ منهم حبّة يختلط طعمها اللذيذ بطعم الحبّ الألذّ..
فيقول رسول الله 6: "اُنظر إلى رحمة هذه الحمامة ببيضها.. إنّ رحمة الله بعباده لأشدُّ من رحمتها بفراخها".
هذا إذن عالمٌ أُسس على (الرحمة) وقام عليها.
والرحمة تعني العطف والرقّة والخير والنعمة، وهي لا تفيضُ إلاّ من قلبٍ صافٍ محبّ.
أحببْ غيرَك تكن رحيماً به.
وإذا أحبّك كان رحيماً بك.
وإذا أحببتما بعضكما فاحت الرحمة وانتشرت.. وتنشِّق الناسُ أريجها.
وتسأل: لماذا إذن هذه القسوة أينما ندير وجوهنا.. فقسوةٌ في بعض البيوت.. وقسوة بين بعض الأصدقاء.. وقسوة في بعض الحكام والمسؤولين.. وقسوة بين الأنظمة والدول؟!
إنّ الرحمة إذا نزعت ومن قلب لم يبق إلاّ الحجارة القاسية، وفخار الطين البليد، والأشواك المدبّبة، والمخاطب والأنياب.
فالجلاّد، والظالم، والمجرم، والعنيف البليد الإحساس المتحجر العاطفة، ربّما يجدون لذّتهم في قسوتهم، فيما يجد المحبّ الحنون الرقيق الرفيق المرهف العاطفة، النقّي المشاعر، لذّته في أن يُحِبُّ ويُحَبُّ، ويَرحم ويُرحم.
أين تجدُ نفسك بين هؤلاء وهؤلاء؟
فالتصنيف هنا مهمّ، وعليه يتوقف الفرز بين (القساة) و(الرحماء).. بين مَنْ تجري ينابيع المودّة في قلوبهم، وبين مَنْ تغلي قلوبهم كغلي الحميم، حتى إذا دنوت منهم سمعت لها تغيّظاً وزفيراً!
ولكن..
هل الرحمة هي الحب واالعطف واللطف والإحسان فقط؟
فأبوك حينما يشدّد عليك في المراقبة والمحاسبة والكلمات الشديدة المحذِّرة أو المتوعدة، وحتى حينما يعنّفك ويؤنّبك بأكثر من ذلك، قد يبدو في نظرك قاسياً.
إنّ رحمته بك هي التي تدفعه إلى تأنيبك إذا أخطأت، أو إذا تماديت في الخطأ، ورحمته بك هي التي تجعله يشدّد في حسابه إذا تراخيت وتقاعست وأهملت واجباتك ومسؤولياتك.
رحمتُه بك هي التي تحمله على إسماعك بعض الكلمات الشديدة اللهجة من أجل أن تعي تقصيرك وتصحّح أخطاءك، وهو لا يعمد إلى هذا الاسلوب مباشرة، بل ينبّهك ويحذّرك مراراً قبل أن يلجأ إلى اسلوب التعنيف.
إنّ الجرّاح الذي يقطع عضواً تالفاً من أعضاء البدن، أو عضواً يمكن أن يعرّض بقية الأعضاء للخطر، لهوَ طبيبٌ رحميٌ بمريضه وليس قاسياً عليه.
إنّه يرفق بباقي الجسد مخافة أن يمتدّ الخطرٌ إليه. لهذا فهو رحيم حتى ولو استعمل المباضع والسكاكين وأدوات التشريح.
وكذلك هي رحمة ربّنا (الرّحمن) (الرّحيم) فحينما يبتلينا بالآلام والمتاعب والامتحانات الكثيرة، فليس ذلك نقمة منه أو رغبة بالتعدّي علينا، لأنّ الذي يحتاج إلى الانتقام الضعيف، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
الإبتلاء هو أيضاً رحمة من الله حتى ولو لم نقدّر آثار تلك الرحمة ونتائجها.. هو رسالة تنبية وانذار وتذكير، مثلما هو اكتشاف للمواهب والطاقات والمعادن، أي أنّ الابتلاء محكّ لفرز الصالح من الطالح، والقويّ من الضعيف، والثابت من المنهار.
يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت/ 2-3).
وهو أعلم بما فينا قبل وبعد اختبارنا، لكنّه فرزٌ وغربلة نحتاجها نحنُ البشر في حياتنا حتى لا تضيع ولا تختلط علينا المقاييس ويتساوى المحسنُ والمسيء.
(الرّحمن) (الرّحيم):
من صفات الله وأسمائه الحسنى أنّه (الرّحمن) (الرّحيم).
و(الرّحمن) كما في اللغة، هو كثير الرحمة.
و(الرّحيم) كما في اللغة أيضاً، دائم الرحمة.
ولو كانت رحمة الله كثيرة ولم تكن دائمة لكان الخطر يتهددنا في بعض الأوقات، فقد تكون كثيرة في وقت وغائبة في وقت.
لكنّنا إذا أدركنا أنّها كثيرة ودائمة وملازمة لنا في كلّ وقت وكلّ مكان وكلّ موقف شعرنا بالراحة والاطمئنان، كمن يحمل الماءَ معه دائماً، لن يشعر بالخوف من الموت عطشاً.
فحتى لو كنّا مثل يونس 7 في بطن الحوت، وتذكّرنا رحمة الله الكثيرة والدائمة، فإنّها ستدركنا. ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء/ 87)، أي لن نبخل عليه برحمتنا ولا نضيِّق عليه بشيء منها. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء/ 88)، الذين يؤمنون برحمة الله.
هي رحمة ممتدّة.. في الدنيا.. وفي القبر.. وفي الآخرة، فلقد كتب الله تعالى على نفسه الرحمة، وحسبنا أملاً ورجاءً بهذه الرحمة الواسعة الدائمة، أنّ الله كتبها على نفسه، أي جعلها صفة ملازمة لا تنفكّ عن ذاته.
نعم، هو شديد العقاب، لكنّ رحمته سبقت غضبه، وانّ مغفرته وحلمه أوسع من غضبه وانتقامه وسخطه.
يقول أحد الأدباء[1]:
"لقد عشتُ طوال عمري خائفاً من الله،
وأخيراً.. اكتشفتُ أنّه ملاذي"!
ومن التربية الخاطئة أن يركِّز الآباء والمربّون على صفة (شديد العقاب) فقط، ويرسمون لله تعالى وجهاً متجهّماً، قاسي الملامح، حادّ النظرات ينظر للإنسان شزراً، بل ويتطاير الشرر من عينيه، وليس له إلاّ رغبة واحدة هي الثأر والانتقام[2].
ولا نريد أن نقلّل من عذاب الله وعقابه، فكما أنّ الجنّة واسعة ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ﴾ (آل عمران/ 133). فكذلك جهنم واسعة، حتى أنّ ربّها الذي سجّر نارها لغضبه يخاطبها، ﴿.. هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ (ق/ 30).
لكنّنا نريد التذكير بما قاله تعالى عن رحمته وعذابه، ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف/ 156)، فكفّه الرحمة راجحة، ولهذا قال عليّ بن أبي طالب 7: "الفقيه، كلُّ الفقيه، مَنْ لم يقنّط الناس من رحمة الله".
فربّ أمل يزرعه معلّم أو مربّ أو أخ أو صديق شفيق في نفسي، من خلال تذكيري برحمة الله وسعتها ودوامها وشمولها، يجعلني أتوب إلى الله متاباً، وأصحّح – على ضوء ذلك – مسيرتي، وأبدأ بفتح صفحة جديدة، استنشق من خلالها نسائم عذبة رحبة، غير تلك الريح السموم التي كنتُ أشمّها وأنا بعيد عن رحمة الله.
دعونا نتأمل بعمق في هذه القصّة:
فلقد رأى عليّ بن الحسين 7 شخصاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يبكي ويصيح: أللهمّ اغفرلي، وإنِّي لأعلمُ أنّك لا تغفر لي!
فتعجّب الإمام من قوله واستنكره، وقال له: أراك يائساً من رحمة الله، فما بالك؟ فقال له الشخص القانط الباكي: لو كنت تعلم فعلي لعرفت سبب يأسي من رحمة الله.
فقال له: وماذا فعلت؟
فقال له: لقد كنتُ ممّن خرج لقتال أبيك.
فقال له عليّ ابن الحسين 7: إنّ يأسك من رحمة الله لأشدّ من خروجك لقتال أبي!!
ويمكن تعميم ذلك..
فيأسُك من رحمة الله لأيّ شيء أو سبب، مهما كان ذلك الشيء والسبب عظيماً، هو كبيرة من الكبائر، وهو جهل بسعة رحمة الله، وهو حكم بالإعدام على النفس. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر/ 53).
من ذلك كلّه نخلص إلى أنّ:
1- رحمة الله كثيرة، فهو رحمن.
2- رحمة الله دائمة، فهو رحيم.
3- رحمة الله واسعة، ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ (الأنعام/ 147).
4- رحمة الله كتبها على نفسه، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام/ 54).
5- رحمة الله سبقت غضبه.
6- لو لا رحمة الله لكنّا من الخاسرين، ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (البقرة/ 64).
7- لو لا رحمته لانعدم الأمل، ولكانت الحياة جحيماً لا يطاق.
8- الله غنيّ عن عذابنا، ونحن فقراء إلى رحمته، ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ (الأنعام/ 133).
9- اليأس من رحمة الله كفر: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف/ 87).
والقنوط من رحمة الله ضلال: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾ (الحجر/ 56).
مظاهر الرحمة الإلهيّة:
لما كانت الرحمة الإلهية كثيرة واسعة فإنّ مظاهرها كثيرة واسعة أيضاً، وإذا كنّا نشير إلى بعضها هنا، فلمجرد التذكير وليس الحصر، فرحمته سبحانه وتعالى كنعمه لا تعدّ ولا تحصى:
1- فمن رحمته تعالى أنّه فتح باباً لنا أسماه (التوبة) وفي الدعاء: "فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه؟!".
فأنا أُذنب وأتوب وأستغفر فأجد الله تواباً رحيماً، ومَنْ تاب تابَ الله عليه، وقيل له: استأنف العمل، أي ابدأ من جديد، والتوبة – كما هو معلوم – هي النصوح التي لا نعود فيها إلى ممارسة الذنب، وحتى لو تبنا وأخطأنا ثمّ عدنا لرأينا الباب مفتوحاً، لكننا يجب أن لا ننسى أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة.
2- ومن رحمته تعالى (حلمه) أي أنّه لم يعاجلنا بالعقوبة على أعمالنا، فهو يمهلنا ويفسح لنا المجال، ويتيح لنا الفرصة تلو الأخرى للاستغفار والتوبة والعودة إلى الطريق الصحيح. وفي الدعاء: "فم أرَ موليً كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليَّ يا ربّ، إنّك تدعوني فأولِّي عنك، وتتحبّبُ إليَّ فأتبغّضُ إليك، وتتودّد إليَّ فلا أقبل منك كأنّ لي التطوّل عليك، ثمّ لم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إليَّ والتفضّل عليَّ بجودك وكرمك، فارحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل إحسانك، إنّك جواد كريم".
3- ومن رحمته (المداولة) فليس هناك شيء ثابت من المحن والآلام والمصائب والأسقام والنوائب والكوارث والانكسارات والهزائم، ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران/ 140). فلو كان المرض بلا شفاء، والألم بلا زوال، والمصيبة بلا تهوين، والكارثة مقيمة لا تبرح، لكنّا عشنا حياة سوداء مظلمة خانقة مدعاة لليأس والاحباط والتبرم.
4- ومن رحمته تعالى المكافأة على أدنى عمل بشرط أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، فإذا قلت قولاً أو عملت عملاً طلباً لمرضاته أعطاك ما لا يخطر على بال.
إنّ أقراصاً من خبز الشعير يتطوّع بها عليّ بن أبي طالب 7 وزوجته ابنة النبي فاطمة 3 ليتيم ومسكين وأسير لوجه الله يجازيهم عنها الله (جنّة وحريرا) ويلقّيهم نضرةً وسروراً في يوم الفزع الأكبر.
وعن النبي 6: "اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة"، تتصدّقون بها على فقير، أو تفطّرون بها صائماً، او تطعمونها لحيوان أو طير جائع.
وعنه 6: "الكلمة الطيبة صدقة"، فحتى الفقراء والمساكين بإمكانهم أن يتصدّقوا، فليست الصدقة بالمال فقط، بل بالكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكلمة الحق والصدق وزرع الأمل وحسن الظنّ بالله والترغيب برحمته والتثبيت على شريعته ومنهجه. ولذا قيل: "لا تحقرنّ من المعروف شيئاً" مهما صغر في نظرك أو نظر الآخرين، وقبل أيضاً: "لا تستح من القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه".
بل الأجر – عند الله – حتى على النيّة الحسنة، فإذا نويت القيام بعمل صالح وحبسك عنه العذر، وأقعدتك عن القيام به الظروف والموانع، فأنت مثاب عليه.
5- ومن رحمته تعالى مضاعفة الأجر أضعافاً كثيرة، وإليك بعض الأمثلة:
أ.الواحد بعشرة: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا﴾ (الأنعام/ 160).
ب.الواحد بسبعمائة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/ 261).
وقد ضاعف الله العطاء في أوقات وأمكنة معيّنة، كشهر رمضان وليلة القدر وليالي الجمع، وأيام الجمع، وأوقات الصلاة، والأماكن المقدّسة. وكلّ ذلك دليل الرحمة بالإنسان واللطف به.
6- اقتران (اليسر) بـ(العسر): فليس هناك شيء يقال عنه أنّه عسر مطلق، فلابدّ أن يكون ثمة يسر ولطف ورحمة قد لا نتبيّنها في حينها، فهي كالشمس في يوم غائم، تلوح من بين شقوق الغيم آناً فآناً. وذلك مما يشرح الصدر ويريح الكاهل ويخفف من اضطراب النفس وقلقها: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح/ 5-6). ومن الّلافت هنا أنّ التكرار لتأكيد الملازمة والارتباط الوثيق بين اليسر وبين العسر.
7- ومن مظاهر رحمته تعالى استجابته للدعاء وطلبات الناس المحتاجين والمضطرين، وهو وعد غير مكذوب، يقول تبارك وتعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/ 60)، ويقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ (البقرة/ 186)، ويقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل/ 62).
8- ومن رحمته أن لا يهتك الستر والسريرة، فلا يفضحنا رغم إحاطته علماً سيِّئات أعمالنا وذنوبنا، ولو شاء لفعل، إنّه يضرب بين عيوبنا وآثامنا وبين الناس ستراً فلا يعرفون ما نحن فيه من معاصي، بل ويدعوهم إلى الستر والسريرة، فلا يفضحنا رغم إحاطته علماً بكل سيِّئات أعمالنا وذنوبنا، ولو شاء لفعل، إنّه يضرب بين عيوبنا وآثامنا وبين الناس ستراً فلا يعرفون ما نحن فيه من معاصي، بل ويدعوهم إلى الستر أيضاً، فهو ستّار ويحبّ الساترين، وفي الحديث: "مَنْ تتبّع عثرات الناس فضحه الله ولو في جوف داره".
9- ومن رحمته إنزال الفرج والمخرج في أوقات الضيق وساعات العسرة وانسداد الأبواب والآفاق، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3).
لقد أنقذ يوسف 7 من محنته حينما دعي من قبل النسوة إلى ممارسة الفحشاء ﴿إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (يوسف/ 33-34).
وأنقذ (مريم) من ألسنة المتقوّلين عليها حينما حملت بعيسى المسيح 7.
وأنقذ (أمّ موسى) من خوفها الشديد على وليدها الذي ألقته في صندوق في النهر، بأن ربط على قلبها ووعدها بإرجاعه إليها.
وأنقذ (يونس) من بطن الحوت الذي التقمه.
والانقاذ ليس حصراً على الأنبياء والرسل بل لكلّ إنسان مؤمن صالح، أما ترى قوله تعالى بعدما أنقذ يونس 7 كيف يطمئن المؤمنين أنّ رحمته ستشملهم أيضاً، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء/ 88).
10-ومن رحمته أنّه أخفى ساعة ومكان وكيفية موتنا، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ (لقمان/ 34)، حتى لا يشغلنا ذلك عن ممارسة حياتنا ومسؤولياتنا، أو يشلّ قدرتنا على التعاطي مع الحياة بإيجابية.
وقد يكون من الخطأ الذي يرتكبه بعض الأطبّاء إخبار مرضاهم بمواعيد وفياتهم، فعلاوة على أنّ الأجل بيد الله وهو وحده العارف به متى؟ وأين؟ وكيف؟ وبالإضافة إلى أنّ علامات بعض المرضى قد تدلّل على قرب الوفاة، إلاّ أنّ التعلق بحبل الأمل وطوق النجاة يجب أن لا يعدم في أيّة لحظة من لحظات حياتنا مهما كانت عصيبة، وما يدرينا فقد يكتب الله لمن يئس طبيبهُ من حياته حياة أخرى، وكم فتح الأمل بالرحمة أبواباً كانت موصدة، وكم عجّل اليأس بقتل الناس والقضاء عليهم قبل فوات الأوان.
لقد قضى بعض عمّال المناجم عشرة أيام في منجم تحت الأرض بعد تسرّب الماء إليه، ورغم الاختناق والرطوبة وانقطاع الماء والطعام، إلاّ أنّ رحمة الله أدركتهم ونجوا جميعاً.
11-ومن مظاهر رحمته إرسال الأنبياء والرسل والكتب حتى يقودوا البشرية إلى ما فيه صلاحها وسعادتها وخيرها ومرضاة الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/ 107).
ولو لا ما جاء به الأنبياء : وخاصة خاتمهم محمد 6 لكنّا نعيش الجاهلية إلى اليوم، ولكنّا في أتعس حال من البؤس والضلال والمآسي، ولا نتهينا إلى أسوأ مآل.
إنّ رحمة نبيّنا محمد 6 لم تنته برحيله فلقد ترك فينا كتاب الله الذي هو دستورنا الحياتيّ، وترك لنا سنّته المطهّرة وأوصانا باتباع أهل بيته : الأدلاّء على القرآن وعلى السّنة، فكانوا الرحمة الممتدة من بعده.
12-ومن رحمته تعالى أنّه لا يكلّفنا فوق ما نطيق، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة/ 286)، فما من تكليف أو فريضة إلاّ وهي مندرجة ضمن طاقة الإنسان المكلف وقدرته واستطاعته، فإذا خرج التكليف عن ذلك رفع القلم عنه، أو خفِّف التكليف عنه، فالذي لا يستطيع الصلاة عن قيام يمكنه أداؤها من جلوس، والذي لا يمكن أن يتوضّأ – سبب أو لآخر – فإن بإمكانه التيمم، ومَنْ لا قدرة مالية لديه سقط عنه تكليف الحج، ومَنْ كان أعمى أو مريضاً أو أعرج فلا حرج عليه، فإن بعض التكاليف تسقط تماماً، وإن بعضها يمكن تأجيله فيقضى في وقت لاحق، وبعضها قابل للتخفيف، وكل ذلك آيات رحمة ولطف وتقدير للطاقة ووضع التكاليف بحسب الوسع والاستطاعة.
13-ومن رحمته تعالى أن علّمنا القراءة، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق/ 1)، كما علّمنا الكتابة، ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق/ 3-5). وهو يربط بين تعليمنا القراءة والكتابة وبين رحمته فيعتبر ذلك – كما هو واقع الحال – دليلاً على الرحمة: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن/ 1-4). وتعليم القراءة والكتابة لنا يعني ايداعه امكانية ذلك في نفوسنا وعقولنا وألسنتنا وجوارحنا.
فلو لا الكتابة والتدوين لضاع التأريخ واندثر التراث وسير الأوّلين وانطمست الحضارات، ولكان على كلّ جيل أن يبدأ من الصفر، ولانعدم الرقّي كحلقات متسلسلة.
ولكما – عزيزي الشاب، عزيزتي الفتاة – أن تستعرضا وجوه ومظاهر وآفاق رحمة الله في نعمه وكرمه وتفضّله وإحسانه وألطافه الظاهرة والخفيّة، والأبواب التي فتحها للرزق والمغفرة والعلم والعمل، فكلّنا من المرحومين، وإذا تلمّسنا آثار رحمة ربّنا كلّ على نفسه وشخصيته لازددنا حبّاً لله وتعلّقاً به وطاعة له.
الرحمة الإنسانية:
خلق الله الإنسان على مثاله، أي أراد له أن يتخلّق بأخلاقه ليكون خليفته الجدير بالاستخلاف في الأرض.
ولعلّ أهم وأعظم صفة وخلق من أخلاق الله بعد (العدل) هو (الرّحمة) التي كتبها على نفسه، وإن كانت كلّ أخلاقه وصفاته حسنى وعظيمة.
فلقد أراد سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله – وهم الوسطاء والسفراء بينه وبين الناس – أن يكونوا مظهر (الرّحمة) المهداة إلى العالمين، فقوله سبحانه لنبيّه المصطفى محمّد 6: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/ 107)، يصدق على الأنبياء الآخرين، وإن كان النبي محمّد 6 أشرفهم، لكنّ كلّ واحد منهم كان مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية المجسّدة في إنسان كامل. وهكذا كان الأئمة من أهل بيت النبي رحمة للأمّة فيما حملوه من علم وأخلاق وسيرة رسول الله 6 وفيما عملوا به بصدق وأمانة من نهج الإسلام الذي انتهجه جدّهم 6.
وأصحاب النبي 6 الأبرار باسلامهم، كانوا (رحماء بينهم) فيما وصفهم به المولى العزيز في كتابه الكريم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح/ 29). فكما كانوا أشدّاء على الكفار يخيفونهم ويُرهبونهم، كانوا دمثي الأخلاق، رقيقي الحاشية، لطيفي المعشر فيما بينهم، حتى إذا رآهم مَنْ لا يعرفهم، قال عنهم: هذه تربية الإسلام، تريبة رسول الله 6 وربّما كان ذلك سبباً في هدايتهم وانجذابهم إلى الإسلام والدخول فيه.
ومن سيرة النبي 6 الحافلة بالرحمة، وسيرة الأئمة الذين أشاعوا الرحمة في الأوساط، وسيرة أتباعه المخلصين الأتقياء، ذاع صيت الرحمة الإسلامية حتى طمع بها البعيد، سواء من أهل الكتاب أو الأقليات الدينية والعرقية، بل حتى الأعداء الذين يقعون في أسرهم.
ولذا فقد أصبح شعار المسلمين: "إرحم مَنْ في الأرض يرحمك مَنْ في السماء". فالترابط بين الرحمتين الإلهية والإنسانية وثيق، وما رحمة الإنسان إلاّ نفحة من نفحات رحمة الرحمن. والإنسان الرحمانيّ هو عبد من (عباد الرّحمن) ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان/ 63).
وهلّموا نرى كيف يتصرّف الإنسان الرحمانيّ؟
وتبدأ مشاعرك بالإحساس بما حولك، فترى أباً يحدب عليك، وإخوة يلاطفونك، وجدّاً أو جدّة يفيضون حناناً عليك.
ثمّ تدرجُ في مدارج الحياة فتلتقي أناساً كثيرين يحبّونك ويحترمونك.. تألفهم ويألفونك.. فيهم الأصدقاء وفيهم الزملاء وفيهم الإخوان.
وتبلغ مبلغ الرجولة فيهفو قلبك إلى فتاة تتمّنى أن تشاركك الحياة وتكون لك زوجةً مخلصةً أمينة حبيبة مطيعة، فيكونُ لك ما تريد، ويجعل الله بينكما مودّة ورحمة، فيهنأ العيش وترغد الحياة وتصفو الأيام بنعيم القرب والمعاشرة والمشاطرة في الأفراح وفي الأحزان.
وتُرزقُ بالبنين وبالبنات فتجدُ في قلبك حبّاً طافحاً ورحمة جارفة تعذقها على كلِّ واحدٍ منهم..
مرّت امرأة – ذات يوم – من أمام المسجد النبويّ، وهي تحتضن طفلها الذي شغفها حبّاً، فقال النبي 6 لأصحابه: "اُنظروا إلى رحمة هذه المرأة بابنها.. إنّ الله أرحمُ بعبادة من الأمّ بوليدها".
ويمرّ 6يوماً آخر بحمامة تحتضن بيضها برفق وحنوّ مؤمّلة نفسها بفراخ يحومون حولها، ويفتحون مناقيرهم الصغيرة طلباً للرحمة بهم، فتلقي في فمّ كلِّ منهم حبّة يختلط طعمها اللذيذ بطعم الحبّ الألذّ..
فيقول رسول الله 6: "اُنظر إلى رحمة هذه الحمامة ببيضها.. إنّ رحمة الله بعباده لأشدُّ من رحمتها بفراخها".
هذا إذن عالمٌ أُسس على (الرحمة) وقام عليها.
والرحمة تعني العطف والرقّة والخير والنعمة، وهي لا تفيضُ إلاّ من قلبٍ صافٍ محبّ.
أحببْ غيرَك تكن رحيماً به.
وإذا أحبّك كان رحيماً بك.
وإذا أحببتما بعضكما فاحت الرحمة وانتشرت.. وتنشِّق الناسُ أريجها.
وتسأل: لماذا إذن هذه القسوة أينما ندير وجوهنا.. فقسوةٌ في بعض البيوت.. وقسوة بين بعض الأصدقاء.. وقسوة في بعض الحكام والمسؤولين.. وقسوة بين الأنظمة والدول؟!
إنّ الرحمة إذا نزعت ومن قلب لم يبق إلاّ الحجارة القاسية، وفخار الطين البليد، والأشواك المدبّبة، والمخاطب والأنياب.
فالجلاّد، والظالم، والمجرم، والعنيف البليد الإحساس المتحجر العاطفة، ربّما يجدون لذّتهم في قسوتهم، فيما يجد المحبّ الحنون الرقيق الرفيق المرهف العاطفة، النقّي المشاعر، لذّته في أن يُحِبُّ ويُحَبُّ، ويَرحم ويُرحم.
أين تجدُ نفسك بين هؤلاء وهؤلاء؟
فالتصنيف هنا مهمّ، وعليه يتوقف الفرز بين (القساة) و(الرحماء).. بين مَنْ تجري ينابيع المودّة في قلوبهم، وبين مَنْ تغلي قلوبهم كغلي الحميم، حتى إذا دنوت منهم سمعت لها تغيّظاً وزفيراً!
ولكن..
هل الرحمة هي الحب واالعطف واللطف والإحسان فقط؟
فأبوك حينما يشدّد عليك في المراقبة والمحاسبة والكلمات الشديدة المحذِّرة أو المتوعدة، وحتى حينما يعنّفك ويؤنّبك بأكثر من ذلك، قد يبدو في نظرك قاسياً.
إنّ رحمته بك هي التي تدفعه إلى تأنيبك إذا أخطأت، أو إذا تماديت في الخطأ، ورحمته بك هي التي تجعله يشدّد في حسابه إذا تراخيت وتقاعست وأهملت واجباتك ومسؤولياتك.
رحمتُه بك هي التي تحمله على إسماعك بعض الكلمات الشديدة اللهجة من أجل أن تعي تقصيرك وتصحّح أخطاءك، وهو لا يعمد إلى هذا الاسلوب مباشرة، بل ينبّهك ويحذّرك مراراً قبل أن يلجأ إلى اسلوب التعنيف.
إنّ الجرّاح الذي يقطع عضواً تالفاً من أعضاء البدن، أو عضواً يمكن أن يعرّض بقية الأعضاء للخطر، لهوَ طبيبٌ رحميٌ بمريضه وليس قاسياً عليه.
إنّه يرفق بباقي الجسد مخافة أن يمتدّ الخطرٌ إليه. لهذا فهو رحيم حتى ولو استعمل المباضع والسكاكين وأدوات التشريح.
وكذلك هي رحمة ربّنا (الرّحمن) (الرّحيم) فحينما يبتلينا بالآلام والمتاعب والامتحانات الكثيرة، فليس ذلك نقمة منه أو رغبة بالتعدّي علينا، لأنّ الذي يحتاج إلى الانتقام الضعيف، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
الإبتلاء هو أيضاً رحمة من الله حتى ولو لم نقدّر آثار تلك الرحمة ونتائجها.. هو رسالة تنبية وانذار وتذكير، مثلما هو اكتشاف للمواهب والطاقات والمعادن، أي أنّ الابتلاء محكّ لفرز الصالح من الطالح، والقويّ من الضعيف، والثابت من المنهار.
يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت/ 2-3).
وهو أعلم بما فينا قبل وبعد اختبارنا، لكنّه فرزٌ وغربلة نحتاجها نحنُ البشر في حياتنا حتى لا تضيع ولا تختلط علينا المقاييس ويتساوى المحسنُ والمسيء.
(الرّحمن) (الرّحيم):
من صفات الله وأسمائه الحسنى أنّه (الرّحمن) (الرّحيم).
و(الرّحمن) كما في اللغة، هو كثير الرحمة.
و(الرّحيم) كما في اللغة أيضاً، دائم الرحمة.
ولو كانت رحمة الله كثيرة ولم تكن دائمة لكان الخطر يتهددنا في بعض الأوقات، فقد تكون كثيرة في وقت وغائبة في وقت.
لكنّنا إذا أدركنا أنّها كثيرة ودائمة وملازمة لنا في كلّ وقت وكلّ مكان وكلّ موقف شعرنا بالراحة والاطمئنان، كمن يحمل الماءَ معه دائماً، لن يشعر بالخوف من الموت عطشاً.
فحتى لو كنّا مثل يونس 7 في بطن الحوت، وتذكّرنا رحمة الله الكثيرة والدائمة، فإنّها ستدركنا. ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء/ 87)، أي لن نبخل عليه برحمتنا ولا نضيِّق عليه بشيء منها. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء/ 88)، الذين يؤمنون برحمة الله.
هي رحمة ممتدّة.. في الدنيا.. وفي القبر.. وفي الآخرة، فلقد كتب الله تعالى على نفسه الرحمة، وحسبنا أملاً ورجاءً بهذه الرحمة الواسعة الدائمة، أنّ الله كتبها على نفسه، أي جعلها صفة ملازمة لا تنفكّ عن ذاته.
نعم، هو شديد العقاب، لكنّ رحمته سبقت غضبه، وانّ مغفرته وحلمه أوسع من غضبه وانتقامه وسخطه.
يقول أحد الأدباء[1]:
"لقد عشتُ طوال عمري خائفاً من الله،
وأخيراً.. اكتشفتُ أنّه ملاذي"!
ومن التربية الخاطئة أن يركِّز الآباء والمربّون على صفة (شديد العقاب) فقط، ويرسمون لله تعالى وجهاً متجهّماً، قاسي الملامح، حادّ النظرات ينظر للإنسان شزراً، بل ويتطاير الشرر من عينيه، وليس له إلاّ رغبة واحدة هي الثأر والانتقام[2].
ولا نريد أن نقلّل من عذاب الله وعقابه، فكما أنّ الجنّة واسعة ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ﴾ (آل عمران/ 133). فكذلك جهنم واسعة، حتى أنّ ربّها الذي سجّر نارها لغضبه يخاطبها، ﴿.. هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ (ق/ 30).
لكنّنا نريد التذكير بما قاله تعالى عن رحمته وعذابه، ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف/ 156)، فكفّه الرحمة راجحة، ولهذا قال عليّ بن أبي طالب 7: "الفقيه، كلُّ الفقيه، مَنْ لم يقنّط الناس من رحمة الله".
فربّ أمل يزرعه معلّم أو مربّ أو أخ أو صديق شفيق في نفسي، من خلال تذكيري برحمة الله وسعتها ودوامها وشمولها، يجعلني أتوب إلى الله متاباً، وأصحّح – على ضوء ذلك – مسيرتي، وأبدأ بفتح صفحة جديدة، استنشق من خلالها نسائم عذبة رحبة، غير تلك الريح السموم التي كنتُ أشمّها وأنا بعيد عن رحمة الله.
دعونا نتأمل بعمق في هذه القصّة:
فلقد رأى عليّ بن الحسين 7 شخصاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يبكي ويصيح: أللهمّ اغفرلي، وإنِّي لأعلمُ أنّك لا تغفر لي!
فتعجّب الإمام من قوله واستنكره، وقال له: أراك يائساً من رحمة الله، فما بالك؟ فقال له الشخص القانط الباكي: لو كنت تعلم فعلي لعرفت سبب يأسي من رحمة الله.
فقال له: وماذا فعلت؟
فقال له: لقد كنتُ ممّن خرج لقتال أبيك.
فقال له عليّ ابن الحسين 7: إنّ يأسك من رحمة الله لأشدّ من خروجك لقتال أبي!!
ويمكن تعميم ذلك..
فيأسُك من رحمة الله لأيّ شيء أو سبب، مهما كان ذلك الشيء والسبب عظيماً، هو كبيرة من الكبائر، وهو جهل بسعة رحمة الله، وهو حكم بالإعدام على النفس. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر/ 53).
من ذلك كلّه نخلص إلى أنّ:
1- رحمة الله كثيرة، فهو رحمن.
2- رحمة الله دائمة، فهو رحيم.
3- رحمة الله واسعة، ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ (الأنعام/ 147).
4- رحمة الله كتبها على نفسه، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام/ 54).
5- رحمة الله سبقت غضبه.
6- لو لا رحمة الله لكنّا من الخاسرين، ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (البقرة/ 64).
7- لو لا رحمته لانعدم الأمل، ولكانت الحياة جحيماً لا يطاق.
8- الله غنيّ عن عذابنا، ونحن فقراء إلى رحمته، ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ (الأنعام/ 133).
9- اليأس من رحمة الله كفر: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف/ 87).
والقنوط من رحمة الله ضلال: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾ (الحجر/ 56).
مظاهر الرحمة الإلهيّة:
لما كانت الرحمة الإلهية كثيرة واسعة فإنّ مظاهرها كثيرة واسعة أيضاً، وإذا كنّا نشير إلى بعضها هنا، فلمجرد التذكير وليس الحصر، فرحمته سبحانه وتعالى كنعمه لا تعدّ ولا تحصى:
1- فمن رحمته تعالى أنّه فتح باباً لنا أسماه (التوبة) وفي الدعاء: "فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه؟!".
فأنا أُذنب وأتوب وأستغفر فأجد الله تواباً رحيماً، ومَنْ تاب تابَ الله عليه، وقيل له: استأنف العمل، أي ابدأ من جديد، والتوبة – كما هو معلوم – هي النصوح التي لا نعود فيها إلى ممارسة الذنب، وحتى لو تبنا وأخطأنا ثمّ عدنا لرأينا الباب مفتوحاً، لكننا يجب أن لا ننسى أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة.
2- ومن رحمته تعالى (حلمه) أي أنّه لم يعاجلنا بالعقوبة على أعمالنا، فهو يمهلنا ويفسح لنا المجال، ويتيح لنا الفرصة تلو الأخرى للاستغفار والتوبة والعودة إلى الطريق الصحيح. وفي الدعاء: "فم أرَ موليً كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليَّ يا ربّ، إنّك تدعوني فأولِّي عنك، وتتحبّبُ إليَّ فأتبغّضُ إليك، وتتودّد إليَّ فلا أقبل منك كأنّ لي التطوّل عليك، ثمّ لم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إليَّ والتفضّل عليَّ بجودك وكرمك، فارحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل إحسانك، إنّك جواد كريم".
3- ومن رحمته (المداولة) فليس هناك شيء ثابت من المحن والآلام والمصائب والأسقام والنوائب والكوارث والانكسارات والهزائم، ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران/ 140). فلو كان المرض بلا شفاء، والألم بلا زوال، والمصيبة بلا تهوين، والكارثة مقيمة لا تبرح، لكنّا عشنا حياة سوداء مظلمة خانقة مدعاة لليأس والاحباط والتبرم.
4- ومن رحمته تعالى المكافأة على أدنى عمل بشرط أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، فإذا قلت قولاً أو عملت عملاً طلباً لمرضاته أعطاك ما لا يخطر على بال.
إنّ أقراصاً من خبز الشعير يتطوّع بها عليّ بن أبي طالب 7 وزوجته ابنة النبي فاطمة 3 ليتيم ومسكين وأسير لوجه الله يجازيهم عنها الله (جنّة وحريرا) ويلقّيهم نضرةً وسروراً في يوم الفزع الأكبر.
وعن النبي 6: "اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة"، تتصدّقون بها على فقير، أو تفطّرون بها صائماً، او تطعمونها لحيوان أو طير جائع.
وعنه 6: "الكلمة الطيبة صدقة"، فحتى الفقراء والمساكين بإمكانهم أن يتصدّقوا، فليست الصدقة بالمال فقط، بل بالكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكلمة الحق والصدق وزرع الأمل وحسن الظنّ بالله والترغيب برحمته والتثبيت على شريعته ومنهجه. ولذا قيل: "لا تحقرنّ من المعروف شيئاً" مهما صغر في نظرك أو نظر الآخرين، وقبل أيضاً: "لا تستح من القليل فإنّ الحرمان أقلّ منه".
بل الأجر – عند الله – حتى على النيّة الحسنة، فإذا نويت القيام بعمل صالح وحبسك عنه العذر، وأقعدتك عن القيام به الظروف والموانع، فأنت مثاب عليه.
5- ومن رحمته تعالى مضاعفة الأجر أضعافاً كثيرة، وإليك بعض الأمثلة:
أ.الواحد بعشرة: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا﴾ (الأنعام/ 160).
ب.الواحد بسبعمائة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/ 261).
وقد ضاعف الله العطاء في أوقات وأمكنة معيّنة، كشهر رمضان وليلة القدر وليالي الجمع، وأيام الجمع، وأوقات الصلاة، والأماكن المقدّسة. وكلّ ذلك دليل الرحمة بالإنسان واللطف به.
6- اقتران (اليسر) بـ(العسر): فليس هناك شيء يقال عنه أنّه عسر مطلق، فلابدّ أن يكون ثمة يسر ولطف ورحمة قد لا نتبيّنها في حينها، فهي كالشمس في يوم غائم، تلوح من بين شقوق الغيم آناً فآناً. وذلك مما يشرح الصدر ويريح الكاهل ويخفف من اضطراب النفس وقلقها: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح/ 5-6). ومن الّلافت هنا أنّ التكرار لتأكيد الملازمة والارتباط الوثيق بين اليسر وبين العسر.
7- ومن مظاهر رحمته تعالى استجابته للدعاء وطلبات الناس المحتاجين والمضطرين، وهو وعد غير مكذوب، يقول تبارك وتعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/ 60)، ويقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ (البقرة/ 186)، ويقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل/ 62).
8- ومن رحمته أن لا يهتك الستر والسريرة، فلا يفضحنا رغم إحاطته علماً سيِّئات أعمالنا وذنوبنا، ولو شاء لفعل، إنّه يضرب بين عيوبنا وآثامنا وبين الناس ستراً فلا يعرفون ما نحن فيه من معاصي، بل ويدعوهم إلى الستر والسريرة، فلا يفضحنا رغم إحاطته علماً بكل سيِّئات أعمالنا وذنوبنا، ولو شاء لفعل، إنّه يضرب بين عيوبنا وآثامنا وبين الناس ستراً فلا يعرفون ما نحن فيه من معاصي، بل ويدعوهم إلى الستر أيضاً، فهو ستّار ويحبّ الساترين، وفي الحديث: "مَنْ تتبّع عثرات الناس فضحه الله ولو في جوف داره".
9- ومن رحمته إنزال الفرج والمخرج في أوقات الضيق وساعات العسرة وانسداد الأبواب والآفاق، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3).
لقد أنقذ يوسف 7 من محنته حينما دعي من قبل النسوة إلى ممارسة الفحشاء ﴿إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (يوسف/ 33-34).
وأنقذ (مريم) من ألسنة المتقوّلين عليها حينما حملت بعيسى المسيح 7.
وأنقذ (أمّ موسى) من خوفها الشديد على وليدها الذي ألقته في صندوق في النهر، بأن ربط على قلبها ووعدها بإرجاعه إليها.
وأنقذ (يونس) من بطن الحوت الذي التقمه.
والانقاذ ليس حصراً على الأنبياء والرسل بل لكلّ إنسان مؤمن صالح، أما ترى قوله تعالى بعدما أنقذ يونس 7 كيف يطمئن المؤمنين أنّ رحمته ستشملهم أيضاً، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء/ 88).
10-ومن رحمته أنّه أخفى ساعة ومكان وكيفية موتنا، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ (لقمان/ 34)، حتى لا يشغلنا ذلك عن ممارسة حياتنا ومسؤولياتنا، أو يشلّ قدرتنا على التعاطي مع الحياة بإيجابية.
وقد يكون من الخطأ الذي يرتكبه بعض الأطبّاء إخبار مرضاهم بمواعيد وفياتهم، فعلاوة على أنّ الأجل بيد الله وهو وحده العارف به متى؟ وأين؟ وكيف؟ وبالإضافة إلى أنّ علامات بعض المرضى قد تدلّل على قرب الوفاة، إلاّ أنّ التعلق بحبل الأمل وطوق النجاة يجب أن لا يعدم في أيّة لحظة من لحظات حياتنا مهما كانت عصيبة، وما يدرينا فقد يكتب الله لمن يئس طبيبهُ من حياته حياة أخرى، وكم فتح الأمل بالرحمة أبواباً كانت موصدة، وكم عجّل اليأس بقتل الناس والقضاء عليهم قبل فوات الأوان.
لقد قضى بعض عمّال المناجم عشرة أيام في منجم تحت الأرض بعد تسرّب الماء إليه، ورغم الاختناق والرطوبة وانقطاع الماء والطعام، إلاّ أنّ رحمة الله أدركتهم ونجوا جميعاً.
11-ومن مظاهر رحمته إرسال الأنبياء والرسل والكتب حتى يقودوا البشرية إلى ما فيه صلاحها وسعادتها وخيرها ومرضاة الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/ 107).
ولو لا ما جاء به الأنبياء : وخاصة خاتمهم محمد 6 لكنّا نعيش الجاهلية إلى اليوم، ولكنّا في أتعس حال من البؤس والضلال والمآسي، ولا نتهينا إلى أسوأ مآل.
إنّ رحمة نبيّنا محمد 6 لم تنته برحيله فلقد ترك فينا كتاب الله الذي هو دستورنا الحياتيّ، وترك لنا سنّته المطهّرة وأوصانا باتباع أهل بيته : الأدلاّء على القرآن وعلى السّنة، فكانوا الرحمة الممتدة من بعده.
12-ومن رحمته تعالى أنّه لا يكلّفنا فوق ما نطيق، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة/ 286)، فما من تكليف أو فريضة إلاّ وهي مندرجة ضمن طاقة الإنسان المكلف وقدرته واستطاعته، فإذا خرج التكليف عن ذلك رفع القلم عنه، أو خفِّف التكليف عنه، فالذي لا يستطيع الصلاة عن قيام يمكنه أداؤها من جلوس، والذي لا يمكن أن يتوضّأ – سبب أو لآخر – فإن بإمكانه التيمم، ومَنْ لا قدرة مالية لديه سقط عنه تكليف الحج، ومَنْ كان أعمى أو مريضاً أو أعرج فلا حرج عليه، فإن بعض التكاليف تسقط تماماً، وإن بعضها يمكن تأجيله فيقضى في وقت لاحق، وبعضها قابل للتخفيف، وكل ذلك آيات رحمة ولطف وتقدير للطاقة ووضع التكاليف بحسب الوسع والاستطاعة.
13-ومن رحمته تعالى أن علّمنا القراءة، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق/ 1)، كما علّمنا الكتابة، ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق/ 3-5). وهو يربط بين تعليمنا القراءة والكتابة وبين رحمته فيعتبر ذلك – كما هو واقع الحال – دليلاً على الرحمة: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن/ 1-4). وتعليم القراءة والكتابة لنا يعني ايداعه امكانية ذلك في نفوسنا وعقولنا وألسنتنا وجوارحنا.
فلو لا الكتابة والتدوين لضاع التأريخ واندثر التراث وسير الأوّلين وانطمست الحضارات، ولكان على كلّ جيل أن يبدأ من الصفر، ولانعدم الرقّي كحلقات متسلسلة.
ولكما – عزيزي الشاب، عزيزتي الفتاة – أن تستعرضا وجوه ومظاهر وآفاق رحمة الله في نعمه وكرمه وتفضّله وإحسانه وألطافه الظاهرة والخفيّة، والأبواب التي فتحها للرزق والمغفرة والعلم والعمل، فكلّنا من المرحومين، وإذا تلمّسنا آثار رحمة ربّنا كلّ على نفسه وشخصيته لازددنا حبّاً لله وتعلّقاً به وطاعة له.
الرحمة الإنسانية:
خلق الله الإنسان على مثاله، أي أراد له أن يتخلّق بأخلاقه ليكون خليفته الجدير بالاستخلاف في الأرض.
ولعلّ أهم وأعظم صفة وخلق من أخلاق الله بعد (العدل) هو (الرّحمة) التي كتبها على نفسه، وإن كانت كلّ أخلاقه وصفاته حسنى وعظيمة.
فلقد أراد سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله – وهم الوسطاء والسفراء بينه وبين الناس – أن يكونوا مظهر (الرّحمة) المهداة إلى العالمين، فقوله سبحانه لنبيّه المصطفى محمّد 6: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/ 107)، يصدق على الأنبياء الآخرين، وإن كان النبي محمّد 6 أشرفهم، لكنّ كلّ واحد منهم كان مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية المجسّدة في إنسان كامل. وهكذا كان الأئمة من أهل بيت النبي رحمة للأمّة فيما حملوه من علم وأخلاق وسيرة رسول الله 6 وفيما عملوا به بصدق وأمانة من نهج الإسلام الذي انتهجه جدّهم 6.
وأصحاب النبي 6 الأبرار باسلامهم، كانوا (رحماء بينهم) فيما وصفهم به المولى العزيز في كتابه الكريم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح/ 29). فكما كانوا أشدّاء على الكفار يخيفونهم ويُرهبونهم، كانوا دمثي الأخلاق، رقيقي الحاشية، لطيفي المعشر فيما بينهم، حتى إذا رآهم مَنْ لا يعرفهم، قال عنهم: هذه تربية الإسلام، تريبة رسول الله 6 وربّما كان ذلك سبباً في هدايتهم وانجذابهم إلى الإسلام والدخول فيه.
ومن سيرة النبي 6 الحافلة بالرحمة، وسيرة الأئمة الذين أشاعوا الرحمة في الأوساط، وسيرة أتباعه المخلصين الأتقياء، ذاع صيت الرحمة الإسلامية حتى طمع بها البعيد، سواء من أهل الكتاب أو الأقليات الدينية والعرقية، بل حتى الأعداء الذين يقعون في أسرهم.
ولذا فقد أصبح شعار المسلمين: "إرحم مَنْ في الأرض يرحمك مَنْ في السماء". فالترابط بين الرحمتين الإلهية والإنسانية وثيق، وما رحمة الإنسان إلاّ نفحة من نفحات رحمة الرحمن. والإنسان الرحمانيّ هو عبد من (عباد الرّحمن) ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان/ 63).
وهلّموا نرى كيف يتصرّف الإنسان الرحمانيّ؟