اعتراف وندم
وكان من دعائه عليه السلام:
هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ، وَقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَعْزِيراً، كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتَّى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً، وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً.
17
تمهيد:
بعد أنْ مجّد الإمام عليه السلام الله تعالى وأثنى عليه, بدأ بالاعتراف له تعالى بما فعل بحقّ نفسه, مع الإشارة إلى أنّ الإمام بهذا يعلّمنا, ومن المعلوم لدينا أنّ الإمام معصوم لا يرتكب الذنوب, إلّا أنّ بعض المسائل الّتي تخالف المحبّة بين أهل القرب يعتبرونها- بالنسبة إلى مقام قربهم- من المعاصي, وهذا حالهم مع الله تعالى.
فبعد التمجيد اعتراف, فلماذا الاعتراف, والإقرار له تعالى بما فعلنا؟ أليس هو العليم الخبير العالم بالسرائر, وما نفعله في إعلاننا وإسرارنا؟
هذا ما سنجيب عنه هنا وذلك ضمن عناوين عديدة, وسنتطرّق في نهاية الدرس إلى شرح مبسّط للجمل الواردة في هذا المقطع من الدعاء المبارك.
ما هو الإقرار؟
أن يملك المرء جرأة الإقرار بما أقدم عليه من العمل الشائن أمر يتطلّب كسراً لكبرياء النفس, أن تقف أمام الصديق الّذي أسأت بحقّه لتقول له سامحني فقد اقترفت بحقّك كذا وكذا لهي مسألة لا يستطيعها الكثيرون.
جرأة الاعتراف هذه لا مفرّ منها أمام الله تعالى, فما هي كبرياء الناس أمام كبريائه؟ وما هي عظمة النفس أمام عظمة ذاته جلّ وعلا؟
قد يبرّر بعض الناس هروبه من الإقرار بالذنب أمام الناس, لكن لا مجال لتبرير ذلك أمام الله تعالى.
ثمّ إنّ الإقرار بالذنب هو اعتراف، وهو أيضاً ضرب من ضروب الاعتذار, كما روي
19
ذلك عن أمير المؤمنين علي ّعليه السلام: "الإقرار اعتذار، والإنكار إصرار"1.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "رُبّ جرم أغنى عن الاعتذار عنه الإقرار به"2 .
وهذا المقطع الّذي قدّمنا به الدرس هو أرقى أنواع الاعتراف لله تعالى بما ارتكبه الإنسان من ظلم بحقّ نفسه, ولكن هل يكفي الإقرار فقط؟
إقرار وندم
إنّ الإقرار لا يعني شيئاً فيما لو كان الإنسان مقرّاً بما فعل وهو في نفس الوقت مفتخر به, لذا فإنّ المطلوب زيادة عن الإقرار الندم, وهو إظهار حالة الأسى والحسرة على سوء ما ارتكبه. وبدون الندم فإنّ الإقرار يُعتبر مجاهرة وجرأة على الّذي قد عُصيَ أمره.
وهذا ما أشار له أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في الحديث المشهور: "إنّ الاستغفار درجة العليّين، وهو اسم واقع على ستة معان ٍ: أوّلها الندم على ما مضى. .."3.
هل من مهلة؟
على المذنب أن يتوب, وأن يحقّق معنى التوبة الكامل بالإقرار والندم وسائر الشروط الّتي سنمرّ على ذكرها لاحقاً, ولكن هل للتوبة مهلة؟
في الأساس على المذنب أن يتوب بعد ذنبه مباشرة, ولكن لو أخّر التوبة فإنّ الله تعالى برحمته ترك له باب التوبة مفتوحاً حتّى آخر لحظات عمره, وقد جاء في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تاب قبل موته بسنة قبلَ الله توبته، ثمّ قال: إنّ السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبلَ الله
20
توبته،ثمّ قال: "إنّ يوماً لكثير، من تاب قَبْلَ أن يعاين قَبِلَ الله توبته"4 .
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام5 قال: "إنّ آدم عليه السلام قال: يا ربّ سلّطت عليَّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً، فقال: يا آدم جعلت لك أنّ من همَّ من ذرّيتك بسيّئة لم تُكتب عليه، فإنّ عملها كُتبت عليه سيّئة، ومن همَّ منهم بحسنة فإنّ لم يعملها كُتبت له حسنة، فإنّ هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لك أنّ من عمل منهم سيّئة ثمّ استغفر له غفرت له، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتّى تبلغ النفس هذه، قال: يا ربّ حسبي"6
.
وقفة مع الإقرار
يقول عليه السلام في هذا المقطع: "هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ". وكأنّه شبّه الإنسان بالدمية الّتي تتراماها الأيدي, فمن يدٍ إلى أخرى, وكذا من يلجأ للذنوب على أنواعها فينتقل من معصية إلى أخرى.
ثمّ قال عليه السلام: "وَقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا". والانقياد هو المشي خلف الشيء. والذنوب حقيقتها انجرار الإنسان وراء الشهوة والغضب وتركه نهي العقل والشرع عن المسارعة في تلبية نداء الهوى.
فليتخيّل الواحد منّا نفسه. أنا ذو الجاه وأنا ذو المنصب, وأنا المعروف بين الناس بالتقوى, ولكنّ الله يعلم بحالي حينما أسعى نحو الشهوات ذليلاً تقودني رغباتي الجامحة أسيراً لها, وأنا أدّعي في العلن أنّي من عباده المؤمنين. أليس هذا بالمؤسف والمشين؟!
ثم قال عليه السلام: "وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ". والاستحواذ مرحلة أشدّ من الانقياد, فقد
21
لا يكون الانقياد كليّاً, وقد تكون حالة الانقياد في حالة الضغط الشديد, لكنّ الاستحواذ هو الهيمنة الكاملة على كامل القوّة العقلية بحيث تغلب الشهوات العقل بشكل لا تترك له بعد ذلك مجالاً للتحرّك في خلافها ومعارضتها.
ثمّ يتابع الدعاء: "فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَغرِيراً".
وهذا هو الاعتراف بالتقصير أوّلاً فيما أمر الله تعالى بأدائه, والإقدام على ما نهى سبحانه عن الإقدام عليه.
والتفريط هو التقصير وتضييع الأمر, والتغرير: بمعنى أنّه غرّر بنفسه فأقدمها على ما أمر فيه خطر عليها7 .
وقفة مع الندم
ثمّ تابع الدعاء: "كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتَّى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ".
هنا كان توقّف لمعاتبة النفس، فبعد أن اعترف بما اقترف, واستيقظ الضمير ليعاتب حامله, واستعاد المذنب عقله محرّراً من أسر الشهوات, وجد نفسه من العصاة, وعرف أنّه أرتكب أمرين لا أمراً واحداً, الأوّل ظلمه لنفسه إذ جعلها نفساً آثمة ميّالة لكلّ دنيّ, وثانياً جرأته على من وهبه كلّ خير وفتح له كلّ دروب الهداية فعصاه وخالف أمره.
وأمّا التشبيه بالجاهل في قوله عليه السلام"كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ" فالمراد من هذا التشبيه الاعتراف باجترائه على ما ارتكب مع العلم بقدرة الله عليه، والاعتراف بفضل إحسانه إليه حتّى كأنَّه جاهل أو منكر لذلك، وحاصله: "مزيد من الإقرار بالذنب والعصيان، المندوب8 إليه عند طلب العفو والغفران"9.
22
ومن ثمّ قال: "فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً، وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً".
الكبير هنا بمعنى العظيم, أي فرأى عظيم معصيته وأنّ ما ارتكبه ليس بالأمر السهل والعاديّ، وهذا ما أوحى به الشيطان قبل إقدامه على المعصية, لكي يوقعه فيها ويجرّئه عليها.
والمعنى: أنّه بسبب إحصائه ما ظلم به نفسه، وتفكّره فيما خالف به ربّه، علم كبر كبيرِ عصيانه أو كثرة كثيره، وعلم جلالة جليل مخالفته، بعد جهله بذلك أو غفلته عنه، لعدم ضبطه له وتفكّره فيه10.
23
المفاهيم الأساس
بعد تمجيد الله تعالى ينبغي الاعتراف بالذنب أمامه جلّ وعلا.
بعد الاعتراف لا بدّّ من الشعور بالندم أيضاً, لأنّ من لا يندم فإنّما هو متجرّئ على الذنب
لا بدّ من الاستعجال بالتوبة, ومن أخّرها فإنّ الله برحمته ترك بابها مفتوحاً إلى آخر لحظات عمر الإنسان.
كيف أعصي الله تعالى بما أنعم عليّ من النعم, وأتجرّأ عليه كالجاهل بأنّي أعصيه بما قدّرني عليه؟!
للمطالعة
كان في بني اسرائيل شابّ عَبَدَ الله عشرين سنة، ثمّ عصاه عشرين سنة، ثمّ نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال:
إلهيّ!.. أطعتك عشرين سنة، ثمّ عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟.. فسمع قائلاً يقول:
أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت قبلناك.
هذه الرحمة الإلهيّة كانت لجميع الأمم، ولهذه الأمّة أكثر من تلك ألف مرّة.
و على كلّ حال يجب أن يكون للمرء أمل بالله.
أوصى لقمان الحكيم ابنه: "يا بنيّ خف الله خوفاً لو أتيت يوم القيامة ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك".
يقول أبو بصير: سألت الصادق عليه السلام: ما معنى التوبة النصوح الّتي أمرنا؟.. قال: "يتوب العبد من ذنب ثمّ لا يعود فيه"
قلت: وأيّنا لا يعود؟..
فقال: "يا أبا محمّد!.. إنّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب".
جاء في "حقائق الأسرار" أنّ رسول الله صلّى الله عليه وﺁله قال:
"... يا بن ﺁدم !.. إنّك إن تذنب حتّى يبلغ ذنبك عنان السماء ثمّ تستغفرني أغفر لك ولا أبالي".
قال الشاعر:
ألا مَن لنفسي بالهوى قد تمـــادتِ إذا قلت قد مالت عن الجهل عــادت ِ
وحسب امرئ شرّاً بإهمال نفسه وﺇمكـانها مـن كلّ شــيء أرادتِ
تزاهدت في الدنيا وإنّي لــراغب أرى رغـــبتي ممزوجةً بزهـادتي
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 3 ص 1860.
2- م.ن.
3- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج2 ص 431.
4- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 440.
5- الترديد من الراوي.
6- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 440.
7- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
8- المندوب بمعنى المستحب وقد تقدم أنه من آداب الدعاء.
9- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
10- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 395.
وكان من دعائه عليه السلام:
هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ، وَقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَعْزِيراً، كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتَّى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً، وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً.
17
تمهيد:
بعد أنْ مجّد الإمام عليه السلام الله تعالى وأثنى عليه, بدأ بالاعتراف له تعالى بما فعل بحقّ نفسه, مع الإشارة إلى أنّ الإمام بهذا يعلّمنا, ومن المعلوم لدينا أنّ الإمام معصوم لا يرتكب الذنوب, إلّا أنّ بعض المسائل الّتي تخالف المحبّة بين أهل القرب يعتبرونها- بالنسبة إلى مقام قربهم- من المعاصي, وهذا حالهم مع الله تعالى.
فبعد التمجيد اعتراف, فلماذا الاعتراف, والإقرار له تعالى بما فعلنا؟ أليس هو العليم الخبير العالم بالسرائر, وما نفعله في إعلاننا وإسرارنا؟
هذا ما سنجيب عنه هنا وذلك ضمن عناوين عديدة, وسنتطرّق في نهاية الدرس إلى شرح مبسّط للجمل الواردة في هذا المقطع من الدعاء المبارك.
ما هو الإقرار؟
أن يملك المرء جرأة الإقرار بما أقدم عليه من العمل الشائن أمر يتطلّب كسراً لكبرياء النفس, أن تقف أمام الصديق الّذي أسأت بحقّه لتقول له سامحني فقد اقترفت بحقّك كذا وكذا لهي مسألة لا يستطيعها الكثيرون.
جرأة الاعتراف هذه لا مفرّ منها أمام الله تعالى, فما هي كبرياء الناس أمام كبريائه؟ وما هي عظمة النفس أمام عظمة ذاته جلّ وعلا؟
قد يبرّر بعض الناس هروبه من الإقرار بالذنب أمام الناس, لكن لا مجال لتبرير ذلك أمام الله تعالى.
ثمّ إنّ الإقرار بالذنب هو اعتراف، وهو أيضاً ضرب من ضروب الاعتذار, كما روي
19
ذلك عن أمير المؤمنين علي ّعليه السلام: "الإقرار اعتذار، والإنكار إصرار"1.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "رُبّ جرم أغنى عن الاعتذار عنه الإقرار به"2 .
وهذا المقطع الّذي قدّمنا به الدرس هو أرقى أنواع الاعتراف لله تعالى بما ارتكبه الإنسان من ظلم بحقّ نفسه, ولكن هل يكفي الإقرار فقط؟
إقرار وندم
إنّ الإقرار لا يعني شيئاً فيما لو كان الإنسان مقرّاً بما فعل وهو في نفس الوقت مفتخر به, لذا فإنّ المطلوب زيادة عن الإقرار الندم, وهو إظهار حالة الأسى والحسرة على سوء ما ارتكبه. وبدون الندم فإنّ الإقرار يُعتبر مجاهرة وجرأة على الّذي قد عُصيَ أمره.
وهذا ما أشار له أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في الحديث المشهور: "إنّ الاستغفار درجة العليّين، وهو اسم واقع على ستة معان ٍ: أوّلها الندم على ما مضى. .."3.
هل من مهلة؟
على المذنب أن يتوب, وأن يحقّق معنى التوبة الكامل بالإقرار والندم وسائر الشروط الّتي سنمرّ على ذكرها لاحقاً, ولكن هل للتوبة مهلة؟
في الأساس على المذنب أن يتوب بعد ذنبه مباشرة, ولكن لو أخّر التوبة فإنّ الله تعالى برحمته ترك له باب التوبة مفتوحاً حتّى آخر لحظات عمره, وقد جاء في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تاب قبل موته بسنة قبلَ الله توبته، ثمّ قال: إنّ السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبلَ الله
20
توبته،ثمّ قال: "إنّ يوماً لكثير، من تاب قَبْلَ أن يعاين قَبِلَ الله توبته"4 .
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام5 قال: "إنّ آدم عليه السلام قال: يا ربّ سلّطت عليَّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً، فقال: يا آدم جعلت لك أنّ من همَّ من ذرّيتك بسيّئة لم تُكتب عليه، فإنّ عملها كُتبت عليه سيّئة، ومن همَّ منهم بحسنة فإنّ لم يعملها كُتبت له حسنة، فإنّ هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لك أنّ من عمل منهم سيّئة ثمّ استغفر له غفرت له، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتّى تبلغ النفس هذه، قال: يا ربّ حسبي"6
.
وقفة مع الإقرار
يقول عليه السلام في هذا المقطع: "هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ". وكأنّه شبّه الإنسان بالدمية الّتي تتراماها الأيدي, فمن يدٍ إلى أخرى, وكذا من يلجأ للذنوب على أنواعها فينتقل من معصية إلى أخرى.
ثمّ قال عليه السلام: "وَقَادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطَايَا". والانقياد هو المشي خلف الشيء. والذنوب حقيقتها انجرار الإنسان وراء الشهوة والغضب وتركه نهي العقل والشرع عن المسارعة في تلبية نداء الهوى.
فليتخيّل الواحد منّا نفسه. أنا ذو الجاه وأنا ذو المنصب, وأنا المعروف بين الناس بالتقوى, ولكنّ الله يعلم بحالي حينما أسعى نحو الشهوات ذليلاً تقودني رغباتي الجامحة أسيراً لها, وأنا أدّعي في العلن أنّي من عباده المؤمنين. أليس هذا بالمؤسف والمشين؟!
ثم قال عليه السلام: "وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ". والاستحواذ مرحلة أشدّ من الانقياد, فقد
21
لا يكون الانقياد كليّاً, وقد تكون حالة الانقياد في حالة الضغط الشديد, لكنّ الاستحواذ هو الهيمنة الكاملة على كامل القوّة العقلية بحيث تغلب الشهوات العقل بشكل لا تترك له بعد ذلك مجالاً للتحرّك في خلافها ومعارضتها.
ثمّ يتابع الدعاء: "فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَغرِيراً".
وهذا هو الاعتراف بالتقصير أوّلاً فيما أمر الله تعالى بأدائه, والإقدام على ما نهى سبحانه عن الإقدام عليه.
والتفريط هو التقصير وتضييع الأمر, والتغرير: بمعنى أنّه غرّر بنفسه فأقدمها على ما أمر فيه خطر عليها7 .
وقفة مع الندم
ثمّ تابع الدعاء: "كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتَّى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ".
هنا كان توقّف لمعاتبة النفس، فبعد أن اعترف بما اقترف, واستيقظ الضمير ليعاتب حامله, واستعاد المذنب عقله محرّراً من أسر الشهوات, وجد نفسه من العصاة, وعرف أنّه أرتكب أمرين لا أمراً واحداً, الأوّل ظلمه لنفسه إذ جعلها نفساً آثمة ميّالة لكلّ دنيّ, وثانياً جرأته على من وهبه كلّ خير وفتح له كلّ دروب الهداية فعصاه وخالف أمره.
وأمّا التشبيه بالجاهل في قوله عليه السلام"كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ" فالمراد من هذا التشبيه الاعتراف باجترائه على ما ارتكب مع العلم بقدرة الله عليه، والاعتراف بفضل إحسانه إليه حتّى كأنَّه جاهل أو منكر لذلك، وحاصله: "مزيد من الإقرار بالذنب والعصيان، المندوب8 إليه عند طلب العفو والغفران"9.
22
ومن ثمّ قال: "فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً، وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً".
الكبير هنا بمعنى العظيم, أي فرأى عظيم معصيته وأنّ ما ارتكبه ليس بالأمر السهل والعاديّ، وهذا ما أوحى به الشيطان قبل إقدامه على المعصية, لكي يوقعه فيها ويجرّئه عليها.
والمعنى: أنّه بسبب إحصائه ما ظلم به نفسه، وتفكّره فيما خالف به ربّه، علم كبر كبيرِ عصيانه أو كثرة كثيره، وعلم جلالة جليل مخالفته، بعد جهله بذلك أو غفلته عنه، لعدم ضبطه له وتفكّره فيه10.
23
المفاهيم الأساس
بعد تمجيد الله تعالى ينبغي الاعتراف بالذنب أمامه جلّ وعلا.
بعد الاعتراف لا بدّّ من الشعور بالندم أيضاً, لأنّ من لا يندم فإنّما هو متجرّئ على الذنب
لا بدّ من الاستعجال بالتوبة, ومن أخّرها فإنّ الله برحمته ترك بابها مفتوحاً إلى آخر لحظات عمر الإنسان.
كيف أعصي الله تعالى بما أنعم عليّ من النعم, وأتجرّأ عليه كالجاهل بأنّي أعصيه بما قدّرني عليه؟!
للمطالعة
كان في بني اسرائيل شابّ عَبَدَ الله عشرين سنة، ثمّ عصاه عشرين سنة، ثمّ نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال:
إلهيّ!.. أطعتك عشرين سنة، ثمّ عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟.. فسمع قائلاً يقول:
أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت قبلناك.
هذه الرحمة الإلهيّة كانت لجميع الأمم، ولهذه الأمّة أكثر من تلك ألف مرّة.
و على كلّ حال يجب أن يكون للمرء أمل بالله.
أوصى لقمان الحكيم ابنه: "يا بنيّ خف الله خوفاً لو أتيت يوم القيامة ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك".
يقول أبو بصير: سألت الصادق عليه السلام: ما معنى التوبة النصوح الّتي أمرنا؟.. قال: "يتوب العبد من ذنب ثمّ لا يعود فيه"
قلت: وأيّنا لا يعود؟..
فقال: "يا أبا محمّد!.. إنّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب".
جاء في "حقائق الأسرار" أنّ رسول الله صلّى الله عليه وﺁله قال:
"... يا بن ﺁدم !.. إنّك إن تذنب حتّى يبلغ ذنبك عنان السماء ثمّ تستغفرني أغفر لك ولا أبالي".
قال الشاعر:
ألا مَن لنفسي بالهوى قد تمـــادتِ إذا قلت قد مالت عن الجهل عــادت ِ
وحسب امرئ شرّاً بإهمال نفسه وﺇمكـانها مـن كلّ شــيء أرادتِ
تزاهدت في الدنيا وإنّي لــراغب أرى رغـــبتي ممزوجةً بزهـادتي
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 3 ص 1860.
2- م.ن.
3- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج2 ص 431.
4- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 440.
5- الترديد من الراوي.
6- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 440.
7- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
8- المندوب بمعنى المستحب وقد تقدم أنه من آداب الدعاء.
9- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
10- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 395.