القلب المؤمل
وكان من دعائه عليه السلام:
فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ، مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ، وَوَجَّهَ رَغْبَتَهُ إلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمَّكَ بِطَمَعِهِ يَقِيناً، وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إخْلاَصَاً، قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوع فِيهِ غَيْركَ، وَأَفْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُور مِنْهُ سِوَاكَ.
27
تمهيد:
عندما أتّخذُ القرار بالعودة والتراجع والتوبة إلى الله تعالى فلماذا أتّخذُ هذا القرار؟
لا بدّ أن أحد هذه الدوافع هو الّذي حدا بي للعودة إلى الجادة الصواب:
1 - علمي اليقينيّ بأنّي في مكان غير صحيح، ولا بدّ من تصحيح الوضع القائم. فكوني عبداً لله يحتّم عليّ الالتزام بأوامر مولاي, وانسجاماً منّي مع نفسي الّتي تحبّ الاستقامة.
2 – خوفي من العقوبة الإلهيّة، والّتي أوعد الله تعالى بها العاصين من العباد, وهذا الدافع هو أكثر الدوافع الّتي تُلجئ العاصين لطلب المغفرة.
وقد تكون هنالك دوافع أخرى غير تلك الّتي ذكرناها. ولكنّ حالة التائب في حال التوبة لا تختلف بين دافع وآخر, فكلّ التائبين لهم حالات قلبيّة خاصّة، وقد ذكرها دعاء التوبة، وسنتعرّض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
الحياء من الحقّ
يقول عليه السلام: " فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ, مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ".
الحياء من الله تعالى هو أكبر الموانع الّتي تمنع الإنسان من الوقوع في الذنب, ولذا ربط الكثير من الروايات الشريفة الحياء بالإيمان, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"1 .
وقد يُظنّ أنّ الحياء المقصود في الرواية الشريفة هو الحياء من الناس, وهو الحالة
29
النفسيّة الّتي تحصل بين رجل وامرأة, إلّا أنّ هنالك حياء آخر وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى، وقد أشار له العديد من الروايات الشريفة أيضاً, فقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أكلّكم يحبّ أن يدخل الجنّة؟" قالوا: نعم يا رسول الله ! قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قصّروا من الأمل، وثبّتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حقّ الحياء"2 .
وفي شرح عميق لمعنى الحياء أشار الإمام الصادق عليه السلام له فيما روي عنه: "الحياء نور جوهره صدر الإيمان، وتفسيره التثبت عند كلّ شيء ينكره التوحيد والمعرفة"3 .
فإذا كان الواحد منّا يعمل في مكان وقد نبّهه صاحب العمل إلى أمور لا ينبغي الإقدام عليها في عمله, فحينما يخالف أمره يردعه الحياء عن ذلك, ولو تجرّأ وخالف الأمر وطالبه ربّ العمل وساءله عن تصرّفه لأحسّ بالخجل والحياء منه, فهذه المقاربة البسيطة توضح الحدّ الأدنى من الحياء المطلوب من العبد أمام ربّه, فكيف إذا كان الله تعالى هو صاحب المنّة علينا بكلّ ما ننعم به في الوجود, بل مدينون له تعالى بأصل الوجود, وفي استمرار الوجود, وتوالي النعم؟ أفلا يجدر بالعبد أن يستحيي ممَّن أفاض عليه كلّ تلك النعم الّتي لا تحصى؟
ولهذا أكّدت الروايات العديدة على الحياء من الله تعالى على وجه الخصوص، كما يستحيي الواحد من جيرانه من التضييق عليهم, أو التسبّب بأذاهم, فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنّ فيها زيادة اليقين"4 .
بل هو أفضل الحياء وأشرفه، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"5 .
30
وهذا الحياء يكون من خلال الترجمة العمليّة لما يستتبعه ويلحق به ليتحقّق معناه الحقيقيّ الّذي أشارت له الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حقّ الحياء، فقيل: يا رسول الله ومن يستحيي من الله حقّ الحياء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من استحيا من الله حقّ الحياء فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ولا ينسى المقابر والبلى"6 .
والحياء من الله بعد الذنب مطلوب أيضاً, لا سيّما في طلب التوبة منه تعالى, وكأنّ الإنسان يخاطب ربّه وقد طأطأ رأسه حياء منه قائلاً: يا إلهيّ إنّي خجل منك ومن نفسي لأنيّ قد وضعت نفسي في موضع سخط, ولكنّ الشيطان قد غلبني هذه المرّة, فتب عليّ يا خير الراحمين. وهذا النوع من الحياء ألمح له أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا"7 .
الطمع المحمود
يقول عليه السلام: "قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوع فِيهِ غَيْرِكَ".
الطمع في المغفرة هي الحالة الّتي يشير إليها الإمام عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء. ولعلّ الطمع هنا يتجلّى بأفضل ما يمكن تصويره, فالمتبادر من لفظ الطمع غالباً هو ذلك المعنى السيّئ المعروف المرادف للجشع, أمّا هذا الطمع فهو الطمع المحمود, وهو الأمل الوحيد لدى العاصي في إزالة آثار ما ارتكبه من الذنوب.
حينما يقع الإنسان في ورطة ما أو مشكلة لا يقدر على الفكاك منها, يتوجّه دائماًً لأقرب الناس إليه الأب أو الأمّ أو الأخ أو الصديق, وقد يلجأ للجار, وقد يفكّر بمن هو أقدرهم على تخليصه ممّا وقع فيه, ولكن حين يظلم نفسه ويقحمها في دائرة السخط الإلهيّّ, فإلى مَن يلتجئ؟
31
لن يفيدك الصديق شيئاً، ولا قرابة أحد ستنفعك. إنّ أكبر قوّة في الدنيا لن تغنيك حينها ولن تستطيع غفران ذنبك.
فقط من اجترأت عليه, قادر على الاقتصاص منك، يستطيع أن يعفو عنك, فلا تفكّر في اللجوء لغيره. أخلِ قلبك من الآخرين, لأنّهم لن يغنوا عنك شيئاً. لن يدرأوا عنك العذاب, ولن يتحمّلوا عنك وخز الضمير, ولن يشفعوا لك لأنّهم يحتاجون لمن يشفع لهم, توجّه بكلّك إلى الله تعالى الّذي قال:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾8 .وقال أيضاً:﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾9 نعم هو يحبّك حينما تلجأ إليه لتعتذر من جرمك, يحبّك حينما لا تتمادى في إشباع رغباتك فيما حرّم عليك, ويحبّك حينما يرى ضميرك ما زال يقظاً وحيّاً, فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق)عليه السلام: "﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾10 قال عليه السلام: هو الذنب الّذي لا يعود فيه أبداً. قلت: وأيـّنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمّد إنَّ الله يحبُّ من عباده المفتن التوّاب"11 .
بل إنّ الله تعالى يفرح بتوبتنا كما في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"12 .
32
المفاهيم الأساس
استحيِ من الله تعالى كما تستحي من ربّ عملك حين تخالف أمره.
الحياء من الحقّ من الموانع الّتي تصدّ المرء عن الوقوع في الذنب.
اطمع بالله فقط, ولا تطمع بكلّ من لا يقدر على نفعك حين الحساب.
لا تخشَ من طلب التوبة, فالله تعالى يحبّ التوّابين.
للمطالعة
اعلم أنّ التوبة عند رؤية اَيات العذاب، وعند دنوّ الأجل غير مقبولة، وهي كتوبة فرعون عند غرقه اذ لم يقبل توبته، كما جاء في الاَية الشريفة:
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾13
وكما يستفاد أيضاً من قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾14 .
إنّ أبواب التوبة تغلق عند نزول العذاب، ومثل هذه التوبة توبة اضطرارية ولا تقبل.. قال محمّد الهمدانيّ: سألت الإمام الرضا عليه السلام: لأيّ علّة أغرق الله فرعون، وقد اَمن به وأقرّ بتوحيده؟.. قال: "لأنّه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول"15 .
إذاً يجب على المرء أن يبادر للتوبة عمّا سلف من ذنوبه قبل أن يرى آيات العذاب، وقبل أن ينزل به الموت.
قال الشاعر:
ســبحان ربّك مـا أراك تـتوب والرأس مـنك بشـيبه مـخضوب
سـبحان ربّك ذي الجلال أما ترى نـُوَبَ الزمـان عـليك تـــنوب
سبحان ربّك كيف يغلبك الهــوى ســبحانه إنّ الهــوى لغــلوب
ســبحان ربّك مـا تزال ومـنك عن إصلاح نفسك فترة ونكـــوب
سـبحان ربّك كـيف يلـتذّ امرؤ بالعيش وهــو بنفسه مطلـوب
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 106.
2- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 1 ص 427.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج8، ص464.
4- م.ن.
5- م.ن.
6- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 1 ص 719.
7- م.ن.
8- سورة النور: الآية 31.
9- سورة البقرة: الآية 222.
10- التحريم: 8.
11- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 16 ص 72.
12- م.ن. ج 16 ص 73, وعقّب قدّس سرّه على الحديث قائلاً: أقول: الفرح هنا مجاز وهو ظاهر.
13- سورة النساء: الآية 18.
14- سورة يونس: الآيتان50، 51.
15- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6 ص23.
وكان من دعائه عليه السلام:
فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ، مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ، وَوَجَّهَ رَغْبَتَهُ إلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمَّكَ بِطَمَعِهِ يَقِيناً، وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إخْلاَصَاً، قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوع فِيهِ غَيْركَ، وَأَفْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُور مِنْهُ سِوَاكَ.
27
تمهيد:
عندما أتّخذُ القرار بالعودة والتراجع والتوبة إلى الله تعالى فلماذا أتّخذُ هذا القرار؟
لا بدّ أن أحد هذه الدوافع هو الّذي حدا بي للعودة إلى الجادة الصواب:
1 - علمي اليقينيّ بأنّي في مكان غير صحيح، ولا بدّ من تصحيح الوضع القائم. فكوني عبداً لله يحتّم عليّ الالتزام بأوامر مولاي, وانسجاماً منّي مع نفسي الّتي تحبّ الاستقامة.
2 – خوفي من العقوبة الإلهيّة، والّتي أوعد الله تعالى بها العاصين من العباد, وهذا الدافع هو أكثر الدوافع الّتي تُلجئ العاصين لطلب المغفرة.
وقد تكون هنالك دوافع أخرى غير تلك الّتي ذكرناها. ولكنّ حالة التائب في حال التوبة لا تختلف بين دافع وآخر, فكلّ التائبين لهم حالات قلبيّة خاصّة، وقد ذكرها دعاء التوبة، وسنتعرّض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
الحياء من الحقّ
يقول عليه السلام: " فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ, مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ".
الحياء من الله تعالى هو أكبر الموانع الّتي تمنع الإنسان من الوقوع في الذنب, ولذا ربط الكثير من الروايات الشريفة الحياء بالإيمان, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"1 .
وقد يُظنّ أنّ الحياء المقصود في الرواية الشريفة هو الحياء من الناس, وهو الحالة
29
النفسيّة الّتي تحصل بين رجل وامرأة, إلّا أنّ هنالك حياء آخر وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى، وقد أشار له العديد من الروايات الشريفة أيضاً, فقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أكلّكم يحبّ أن يدخل الجنّة؟" قالوا: نعم يا رسول الله ! قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قصّروا من الأمل، وثبّتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حقّ الحياء"2 .
وفي شرح عميق لمعنى الحياء أشار الإمام الصادق عليه السلام له فيما روي عنه: "الحياء نور جوهره صدر الإيمان، وتفسيره التثبت عند كلّ شيء ينكره التوحيد والمعرفة"3 .
فإذا كان الواحد منّا يعمل في مكان وقد نبّهه صاحب العمل إلى أمور لا ينبغي الإقدام عليها في عمله, فحينما يخالف أمره يردعه الحياء عن ذلك, ولو تجرّأ وخالف الأمر وطالبه ربّ العمل وساءله عن تصرّفه لأحسّ بالخجل والحياء منه, فهذه المقاربة البسيطة توضح الحدّ الأدنى من الحياء المطلوب من العبد أمام ربّه, فكيف إذا كان الله تعالى هو صاحب المنّة علينا بكلّ ما ننعم به في الوجود, بل مدينون له تعالى بأصل الوجود, وفي استمرار الوجود, وتوالي النعم؟ أفلا يجدر بالعبد أن يستحيي ممَّن أفاض عليه كلّ تلك النعم الّتي لا تحصى؟
ولهذا أكّدت الروايات العديدة على الحياء من الله تعالى على وجه الخصوص، كما يستحيي الواحد من جيرانه من التضييق عليهم, أو التسبّب بأذاهم, فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنّ فيها زيادة اليقين"4 .
بل هو أفضل الحياء وأشرفه، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"5 .
30
وهذا الحياء يكون من خلال الترجمة العمليّة لما يستتبعه ويلحق به ليتحقّق معناه الحقيقيّ الّذي أشارت له الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حقّ الحياء، فقيل: يا رسول الله ومن يستحيي من الله حقّ الحياء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من استحيا من الله حقّ الحياء فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ولا ينسى المقابر والبلى"6 .
والحياء من الله بعد الذنب مطلوب أيضاً, لا سيّما في طلب التوبة منه تعالى, وكأنّ الإنسان يخاطب ربّه وقد طأطأ رأسه حياء منه قائلاً: يا إلهيّ إنّي خجل منك ومن نفسي لأنيّ قد وضعت نفسي في موضع سخط, ولكنّ الشيطان قد غلبني هذه المرّة, فتب عليّ يا خير الراحمين. وهذا النوع من الحياء ألمح له أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا"7 .
الطمع المحمود
يقول عليه السلام: "قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوع فِيهِ غَيْرِكَ".
الطمع في المغفرة هي الحالة الّتي يشير إليها الإمام عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء. ولعلّ الطمع هنا يتجلّى بأفضل ما يمكن تصويره, فالمتبادر من لفظ الطمع غالباً هو ذلك المعنى السيّئ المعروف المرادف للجشع, أمّا هذا الطمع فهو الطمع المحمود, وهو الأمل الوحيد لدى العاصي في إزالة آثار ما ارتكبه من الذنوب.
حينما يقع الإنسان في ورطة ما أو مشكلة لا يقدر على الفكاك منها, يتوجّه دائماًً لأقرب الناس إليه الأب أو الأمّ أو الأخ أو الصديق, وقد يلجأ للجار, وقد يفكّر بمن هو أقدرهم على تخليصه ممّا وقع فيه, ولكن حين يظلم نفسه ويقحمها في دائرة السخط الإلهيّّ, فإلى مَن يلتجئ؟
31
لن يفيدك الصديق شيئاً، ولا قرابة أحد ستنفعك. إنّ أكبر قوّة في الدنيا لن تغنيك حينها ولن تستطيع غفران ذنبك.
فقط من اجترأت عليه, قادر على الاقتصاص منك، يستطيع أن يعفو عنك, فلا تفكّر في اللجوء لغيره. أخلِ قلبك من الآخرين, لأنّهم لن يغنوا عنك شيئاً. لن يدرأوا عنك العذاب, ولن يتحمّلوا عنك وخز الضمير, ولن يشفعوا لك لأنّهم يحتاجون لمن يشفع لهم, توجّه بكلّك إلى الله تعالى الّذي قال:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾8 .وقال أيضاً:﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾9 نعم هو يحبّك حينما تلجأ إليه لتعتذر من جرمك, يحبّك حينما لا تتمادى في إشباع رغباتك فيما حرّم عليك, ويحبّك حينما يرى ضميرك ما زال يقظاً وحيّاً, فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق)عليه السلام: "﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾10 قال عليه السلام: هو الذنب الّذي لا يعود فيه أبداً. قلت: وأيـّنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمّد إنَّ الله يحبُّ من عباده المفتن التوّاب"11 .
بل إنّ الله تعالى يفرح بتوبتنا كما في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"12 .
32
المفاهيم الأساس
استحيِ من الله تعالى كما تستحي من ربّ عملك حين تخالف أمره.
الحياء من الحقّ من الموانع الّتي تصدّ المرء عن الوقوع في الذنب.
اطمع بالله فقط, ولا تطمع بكلّ من لا يقدر على نفعك حين الحساب.
لا تخشَ من طلب التوبة, فالله تعالى يحبّ التوّابين.
للمطالعة
اعلم أنّ التوبة عند رؤية اَيات العذاب، وعند دنوّ الأجل غير مقبولة، وهي كتوبة فرعون عند غرقه اذ لم يقبل توبته، كما جاء في الاَية الشريفة:
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾13
وكما يستفاد أيضاً من قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾14 .
إنّ أبواب التوبة تغلق عند نزول العذاب، ومثل هذه التوبة توبة اضطرارية ولا تقبل.. قال محمّد الهمدانيّ: سألت الإمام الرضا عليه السلام: لأيّ علّة أغرق الله فرعون، وقد اَمن به وأقرّ بتوحيده؟.. قال: "لأنّه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول"15 .
إذاً يجب على المرء أن يبادر للتوبة عمّا سلف من ذنوبه قبل أن يرى آيات العذاب، وقبل أن ينزل به الموت.
قال الشاعر:
ســبحان ربّك مـا أراك تـتوب والرأس مـنك بشـيبه مـخضوب
سـبحان ربّك ذي الجلال أما ترى نـُوَبَ الزمـان عـليك تـــنوب
سبحان ربّك كيف يغلبك الهــوى ســبحانه إنّ الهــوى لغــلوب
ســبحان ربّك مـا تزال ومـنك عن إصلاح نفسك فترة ونكـــوب
سـبحان ربّك كـيف يلـتذّ امرؤ بالعيش وهــو بنفسه مطلـوب
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 106.
2- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 1 ص 427.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج8، ص464.
4- م.ن.
5- م.ن.
6- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى، ج 1 ص 719.
7- م.ن.
8- سورة النور: الآية 31.
9- سورة البقرة: الآية 222.
10- التحريم: 8.
11- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 16 ص 72.
12- م.ن. ج 16 ص 73, وعقّب قدّس سرّه على الحديث قائلاً: أقول: الفرح هنا مجاز وهو ظاهر.
13- سورة النساء: الآية 18.
14- سورة يونس: الآيتان50، 51.
15- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6 ص23.