مكفرات الذنوب
في الحديث القدسيّ
"أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي، وأهل معصيتي لا أوسعهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن دعوا فأنا مُجبيبهم وإن مرضوا فأنا طبيبهم أداويهم بالمحن والمصائب، لأطهّرهم من الذنوب والمعاييب"1
121
تمهيد
يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه الكريم:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾2.
لا بدّ للإنسان المؤمن أن لا يُصاب باليأس والقنوط من روح الله ورحمته التي وسعت كلّ شيء؛ لأنّ ذلك من أكبر الكبائر كما ورد في الرواية الشريفة.
وفي مقابل ذلك لا بدّ أن لا يستهين بغضب الله وقهره فيأمن مكره وعقابه بتسويف من الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء.
ولذا لا بدّ أن يعيش العبد بين حالتي الخوف من العقاب، والرجاء لعفو الله ورحمته ومغفرته.
إنّنا رغم ابتلائنا بالذنوب والمعاصي وابتعادنا عن الله وإدبارنا عنه، واطاعة الشيطان والكفر بالنعم الإلهيّة، إلّا أنّ الله برحمته الواسعة الرحمانيّة والرحيميّة ما زال ولا يزال يتلطّف بعباده ويتحبّب إليهم ويدعوهم إلى العودة والإنابة والتوبة والاستغفار، وأعطانا الأمل بقبولها وهيّأ لنا أعمالاً إن نحن قُمنا بها استوجبنا بتفضّله ولطفه كفّارة ذنوبنا وسيّئاتنا، وما قصّرنا في جنبه وحقّه. وهي كثيرة ومتعدّدة إلّا أنّه سنقتصر على بعضٍ منها:
1- الطاعات والحسنات
ولا سيّما الصلاة التي هي عمود الدين "إن قُبلت قبل ما سواها وإن رُدّت ردّ ما
123
سواها"3، وهي أفضل الأعمال والفرائض بعد المعرفة4 وهي التي رحمنا الله بها لتردعنا عن الفحشاء والمنكر:
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾5.
وهذه قاعدة ذهبيّة لا بدّ من اغتنامها والظفر بها؛ إذ إنّ أيَّ مؤمن يرتكب الفحشاء والمنكر والمعاصي لا بدّ له أن يفتِّش عن الخلل في صلاته سواء من ناحية الإجزاء أو القبول.
وبناءً عليه لو صلّى العبد الصلاة المطلوبة والمقبولة، فسوف يحصِّل مغانمها وآثارها الهامّة في الدنيا والبرزخ والآخرة.
رُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه:
"لو كان على باب دار أحدكم نهرٌ فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرات أكان يبقى في جسده من الدرن شيءٌ، قلنا: لا.
قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري؛ كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب"6.
أرجى آية في القرآن
رُوي أنّ عليّاً عليه السلام أقبل على الناس فقال لهم:
"أيَّة آيةٍ في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾، قال: حسنة وليست إيّاها، وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾.. الآية، قال: حسنة وليست إيّاها، وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْهُ﴾، قال: حسنة وليست إيّاها، قال: ثمّ أحجم الناس، فقال عليه السلام: ما لكم يا معشر المسلمين قالوا: لا والله ما عندنا
124
شيء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ﴾ وقرأ الآية كلّها7، وقال: يا عليّ والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيءٌ؛ كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدَّ الخمس"8.
ولكن عليكم الحذر، فليس معنى ذلك أن يعصي الإنسان ربَّه اتكالاً على الصلاة، وإلّا أصبحت الصلاة وسيلة شيطانيّة للوقوع في الذنوب.
2- تعجيل العقوبة في الدنيا
وهذا بابٌ من أبواب لطف الله بعباده في الدنيا، لأنّ العقوبة الدنيويّة مهما بلغت فهي بمثابة الرحمة والفضل على العبد أمام عقوبات الآخرة وأهوالها ونارها، والتي ورد أنّ حلقة من تلك الحلقات التي طولها سبعون ذراعاً لو أُنزلت إلى الدنيا لاحترقت بما فيها. وقد ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمةٍ ويذكّره الاستغفار..."9.
أوّلاً: قد يصل العبد العارف العاقل إلى البكاء والطلب والدعاء من ربّه ولسان حاله يقول: يا ربّ أنا واثق من رحمتك وعفوك ومغفرتك وإلّا تغفر لي فقد هلكت، فعجِّل لي العقوبة في الدنيا لتكفِّر سيّئاتي وأتخلّص من ذنوبي لئلّا يشملني غضبك ونقمتك في الآخرة.
وثانياً: إنّ الله إذا عاقبنا تفضّلاً ورحمة في هذه الدنيا فلن يعاقبنا بما لا نطيق، ولكن العياذ بالله ممّا لا يُطاق من عذاب الآخرة وأهوالها: "يا ربَّ وأنت تعلم ضعفي عن قليلٍ من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها على أنّ ذلك
125
بلاء ومكروه، قليل مكثه يسير بقاؤه قصير مدته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها؛ وهو بلاء تطول مدته ويدوم مقامه ولا يخفّف عن أهله لأنّه لا يكون إلّا عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض..."10.
ورُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد الله بعبدٍ سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يُوافي بها يوم القيامة"11.
وعنه وعن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما من الشيعة عبدٌ يُقارف أمراً نَهينا عنه فيموت حتى يُبتلى ببليّة تُمحِّص عنه ذنوبه؛ إمّا في مالٍ وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتّى يلقى الله عزَّ وجلَّ وما له ذنب. وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيشدّد به عليه عند موته"12.
3- الأمراض:
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "المرض للمؤمن تطهيرٌ ورحمة وللكافر تعذيب ولعنة، وإنّ المرض لا يزال بالمؤمن حتّى لا يكون عليه ذنبٌ"13.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا مرض المسلم كتب الله له بأحسن ما كان يعمل في صحته وتساقطت ذنوبه كما تُساقط ورق الشجر"14.
4- الأحزان والهموم والغموم:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفِّرها به ابتلاه الله بالحُزن في الدنيا ليكفِّرها به..."15.
وعن زكريّا بن آدم قال دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: "... يا زكريّا بن
126
آدم ما أحدٌ من شيعة علي عليه السلام أصبح بصبيحةٍ أتى سيئةً أو ارتكب ذنباً إلّا أمسى وقد ناله غمٌّ حطَّ عنه سيّئته..."16.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمنٍ إلّا وهو يُذكر في كلّ أربعين يوماً ببلاء؛ إمّا في ماله أو في ولده أو في نفسه. فيُؤجر عليه، أو همّ لا يدري من أين هو"17.
5- حـُسن الخلق
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ حُسن الخُلُق يُذيب الخطيئة كما تُذيب الشمس الجليد، وإنّ سوء الخُلق ليُفسد العمل كما يُفسد الخلُ العسلَ"18.
6 ـ الصلاة على محمـّد وآل محمـّد
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من لم يقدر على ما يكفِّر به ذنوبه فليُكثر من الصلاة على محمّد وآله فإنّها تَهدِم الذنوب هدماً"19.
وسوف نشير ها هنا ورعاية للاختصار إلى عناوين بعض مكفِّرات الذنوب، كما وردت في الروايات الشريفة عن أهل البيت سلام الله عليهم وهي:
-الاستغفار.
- كثرة السجود.
- صوم شعبان.
- إجابة المؤذِّن.
- غمُّ الموت.
- إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب.
- قراءة القرآن.
127
- الحجّ والعمرة.
- تفطير المؤمن الصائم.
- ذكر "لا إله إلّا الله".
- الذكر عشر مرّات يوميّاً: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويُميت ويُميت ويُحيي، وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير".
الخوف والرجاء
عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
"كان فيها (وصية لقمان) الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خَفِ الله عزَّ وجلَّ خيفة لو جئته ببرِّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال عليه السلام:
كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران نور خِيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا"20.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في مجال شرحه لهذا الحديث إنّ للمؤمن العارف بالحقائق نظرتين:
الأولى: نظرته إلى نفسه من حيث نقصانه وضعفه وافتقاره واحتياجه...
والثانية: نظرته إلى كمال الله تعالى وبسط رحمته...
وعلى الإنسان أن يتردّد بين هاتين النظرتين فلا يغمض عينيه عمّا فيه من نقصٍ وقصور في القيام بواجب العبوديّة، ولا هو ينسى سعة رحمة الحقّ جلّ جلاله وعنايته وشمولها... ويذكر قدس سره عن سبب تعادل الخوف والرجاء في الروايات فيقول: إنّ الإنسان عندما يُدرك قصوره في النهوض بالعبوديّة ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة يُصاب بالخوف، وعندما يجد ذنوبه ويرى بعينه كيف أنّ هناك بعض الأشخاص الذين كانت بدايتهم حسنة ثمّ انقلبوا وكانت عاقبة أمرهم الموت دون إيمان أو عمل صالح،
128
يُصاب بالهلع، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يَدري ما صنع الله فيه، وعمرٌ قد بقي لا يَدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يُصبح إلّا خائفاً ولا يُصلحه إلّا الخوف".
ولكنّه في المقابل يرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال وسعة الرحمة والعطاء، وحيث إنّ الله تعالى حاضرٌ في قلب ال مؤمن بجميع صفاته حيث تتجلّى أسماء الجلال والجمال في قلب العارف بصورة متعادلة لا يترجّح كلّ من الخوف والرجاء على الآخر .
وما أجملَ كلام الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام حينما يقول في دعاء السحر: "أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت، فإن عَفوت فخير راحمٍ، وإن عَذّبت فغير ظالمٍ...".
129
المفاهيم الأساس
1- بالرغم من ابتلاء الإنسان بالذنوب، إلّا أنّ أبواب الرحمة الإلهيّة تبقى مفتوحة أمامه.
2- من الأعمال التي تؤدّي إلى تكفير ذنوبنا وسيّئاتنا، القيام بالطاعات وأداء الواجبات وغيرها.
3- إنّ بعض الابتلاءات والمحن والمصائب التي يبتلي بها المؤمن، هي في واقعها رحمة إلهيّة تهدف إلى غسل قلب الإنسان من الذنوب، قبل الرحيل إلى دار الآخرة.
للمطالعة
دخل معاذ بن جبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكياً فسلّم فرد عليه السلام ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله إنّ بالباب شاباً طريَّ الجسد، نقيَّ اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها، يريد الدخول عليك، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أدخِل عليَّ الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلَّم فردَّ عليه السلام، ثم قال: ما يُبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزَّ وجلَّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل أشركت بالله شيئاً: قال: أعوذ بالله أن أُشرِك بربي شيئاً، قال: أقتلت النفس التي حرَّم الله؟ قال: لا، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، قال: فإنّها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق! فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي، قال: فإنّها أعظم من ذلك، قال: فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربُّك؟ فخرَّ الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربُّ العظيم؟ قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشابُّ فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال: بلى أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أُخرج الأموات، وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حُمِلت إلى قبرها ودُفِنت وانصرف عنها أهلها، وجنَّ عليهم الليل أتيت قبرها فنَبشتُها، ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرِّدة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزيِّنها لي، ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتّى رَجِعتُ إليها، ولم أملك نفسي حتّى جامَعْتُها وتركتُها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويلٌ لك من ديّان يوم الدين، يوم يقفني وإيّاك؛ كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار!. فما أظنّ أنّي أشمُّ ريح الجنّة أبداً فما ترى لي يا رسول الله؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تنحَّ عنّي يا فاسق، إنّي أخاف أن أحترقَ بنارك، فما أقربك من النار! ثمّ لم يزلصلى الله عليه وآله وسلميقول ويشير إليه حتّى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها، ولبس مسحاً وغلَّ يديه جميعاً إلى عُنقه، ونادى: يا ربِّ هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني، وزلّ منّي ما تعلم، سيّدي! يا ربّ أصبحت من النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي، سيدي! ولا تبطل دعائي ولا تُقنطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلمّا تمّت له أربعون يوماً وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كُنتَ استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوحِ إلى نبيّك، وإن لم تَستجب لي دعائي ولم تَغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجِّل بنارٍ تُحرقني، أو عقوبة في الدنيا تُهلكني، وخلِّصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً{ يعني الزنا }أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ{ يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا، ونبش القبور، وأخذ الأكفان ﴿ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾ يقول: خافوا الله فعجَّلوا التوبة ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾ يقول عزَّ وجلَّ: أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته، فأين يذهب؟ وإلى من يقصد؟ ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري؟ ثمّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان ﴿أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يتلوها ويتبسّم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشاب التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله بَلغَنا أنّه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب؛ فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، قد اسودّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، وهو يقول: سيّدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي؟ أفي النار تُحرقني؟ أو في جوارك تُسكنني؟ اللهمّ إنّك قد أكثرت الاحسان إليّ وأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري؟ إلى الجنّة تزفّني؟ أم إلى النار تسوقني؟ اللّهمّ إنّ خطيئتي أعظم من السماوات والأرض ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه وقد أحاطت به السباع! وصفّت فوقه الطير! وهم يبكون لبكائه! فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول! أبشر فإنّك عتيق الله من النار. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول. ثمّ تلا عليه ما أنزل الله عزَّ وجلَّ فيه وبشّره بالجنة.
هوامش
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص42.
2- سورة الطلاق، الآية: 5.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص34.
4- الكليني، الكافي، ج3، ص264.
5- سورة العنكبوت، الآية: 45.
6- ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين﴾ سورة هود، الآية: 164.
7- مستدرك الوسائل، ج3، ص39.
8- الكافي، ج2، ص452.
9- مقطع من دعاء كميل للإمام علي عليه السلام.
10- الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص20.
11- مستدرك الوسائل، ج2، ص53.
12- وسائل الشيعة، ج2، ص401.
13- م. ن، ص402.
14- مستدرك الوسائل، ج2، ص52.
15- بحار الأنوار، ج65، ص146.
16- م. ن، ج64، ص237.
17- م. ن، ج68، ص395.
18- روضة الواعظين، ج2، ص322.
19- الكافي، ج2، ص67.
20- مقتبس من كتاب الأخلاق من "الأربعون حديثاً"، جمعية المعارف الإسلامية، الدرس الخامس، ص34 ـ 40.
في الحديث القدسيّ
"أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي، وأهل معصيتي لا أوسعهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن دعوا فأنا مُجبيبهم وإن مرضوا فأنا طبيبهم أداويهم بالمحن والمصائب، لأطهّرهم من الذنوب والمعاييب"1
121
تمهيد
يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه الكريم:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾2.
لا بدّ للإنسان المؤمن أن لا يُصاب باليأس والقنوط من روح الله ورحمته التي وسعت كلّ شيء؛ لأنّ ذلك من أكبر الكبائر كما ورد في الرواية الشريفة.
وفي مقابل ذلك لا بدّ أن لا يستهين بغضب الله وقهره فيأمن مكره وعقابه بتسويف من الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء.
ولذا لا بدّ أن يعيش العبد بين حالتي الخوف من العقاب، والرجاء لعفو الله ورحمته ومغفرته.
إنّنا رغم ابتلائنا بالذنوب والمعاصي وابتعادنا عن الله وإدبارنا عنه، واطاعة الشيطان والكفر بالنعم الإلهيّة، إلّا أنّ الله برحمته الواسعة الرحمانيّة والرحيميّة ما زال ولا يزال يتلطّف بعباده ويتحبّب إليهم ويدعوهم إلى العودة والإنابة والتوبة والاستغفار، وأعطانا الأمل بقبولها وهيّأ لنا أعمالاً إن نحن قُمنا بها استوجبنا بتفضّله ولطفه كفّارة ذنوبنا وسيّئاتنا، وما قصّرنا في جنبه وحقّه. وهي كثيرة ومتعدّدة إلّا أنّه سنقتصر على بعضٍ منها:
1- الطاعات والحسنات
ولا سيّما الصلاة التي هي عمود الدين "إن قُبلت قبل ما سواها وإن رُدّت ردّ ما
123
سواها"3، وهي أفضل الأعمال والفرائض بعد المعرفة4 وهي التي رحمنا الله بها لتردعنا عن الفحشاء والمنكر:
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾5.
وهذه قاعدة ذهبيّة لا بدّ من اغتنامها والظفر بها؛ إذ إنّ أيَّ مؤمن يرتكب الفحشاء والمنكر والمعاصي لا بدّ له أن يفتِّش عن الخلل في صلاته سواء من ناحية الإجزاء أو القبول.
وبناءً عليه لو صلّى العبد الصلاة المطلوبة والمقبولة، فسوف يحصِّل مغانمها وآثارها الهامّة في الدنيا والبرزخ والآخرة.
رُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه:
"لو كان على باب دار أحدكم نهرٌ فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرات أكان يبقى في جسده من الدرن شيءٌ، قلنا: لا.
قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري؛ كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب"6.
أرجى آية في القرآن
رُوي أنّ عليّاً عليه السلام أقبل على الناس فقال لهم:
"أيَّة آيةٍ في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾، قال: حسنة وليست إيّاها، وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾.. الآية، قال: حسنة وليست إيّاها، وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْهُ﴾، قال: حسنة وليست إيّاها، قال: ثمّ أحجم الناس، فقال عليه السلام: ما لكم يا معشر المسلمين قالوا: لا والله ما عندنا
124
شيء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ﴾ وقرأ الآية كلّها7، وقال: يا عليّ والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيءٌ؛ كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدَّ الخمس"8.
ولكن عليكم الحذر، فليس معنى ذلك أن يعصي الإنسان ربَّه اتكالاً على الصلاة، وإلّا أصبحت الصلاة وسيلة شيطانيّة للوقوع في الذنوب.
2- تعجيل العقوبة في الدنيا
وهذا بابٌ من أبواب لطف الله بعباده في الدنيا، لأنّ العقوبة الدنيويّة مهما بلغت فهي بمثابة الرحمة والفضل على العبد أمام عقوبات الآخرة وأهوالها ونارها، والتي ورد أنّ حلقة من تلك الحلقات التي طولها سبعون ذراعاً لو أُنزلت إلى الدنيا لاحترقت بما فيها. وقد ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمةٍ ويذكّره الاستغفار..."9.
أوّلاً: قد يصل العبد العارف العاقل إلى البكاء والطلب والدعاء من ربّه ولسان حاله يقول: يا ربّ أنا واثق من رحمتك وعفوك ومغفرتك وإلّا تغفر لي فقد هلكت، فعجِّل لي العقوبة في الدنيا لتكفِّر سيّئاتي وأتخلّص من ذنوبي لئلّا يشملني غضبك ونقمتك في الآخرة.
وثانياً: إنّ الله إذا عاقبنا تفضّلاً ورحمة في هذه الدنيا فلن يعاقبنا بما لا نطيق، ولكن العياذ بالله ممّا لا يُطاق من عذاب الآخرة وأهوالها: "يا ربَّ وأنت تعلم ضعفي عن قليلٍ من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها على أنّ ذلك
125
بلاء ومكروه، قليل مكثه يسير بقاؤه قصير مدته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها؛ وهو بلاء تطول مدته ويدوم مقامه ولا يخفّف عن أهله لأنّه لا يكون إلّا عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض..."10.
ورُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد الله بعبدٍ سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يُوافي بها يوم القيامة"11.
وعنه وعن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما من الشيعة عبدٌ يُقارف أمراً نَهينا عنه فيموت حتى يُبتلى ببليّة تُمحِّص عنه ذنوبه؛ إمّا في مالٍ وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتّى يلقى الله عزَّ وجلَّ وما له ذنب. وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيشدّد به عليه عند موته"12.
3- الأمراض:
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "المرض للمؤمن تطهيرٌ ورحمة وللكافر تعذيب ولعنة، وإنّ المرض لا يزال بالمؤمن حتّى لا يكون عليه ذنبٌ"13.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا مرض المسلم كتب الله له بأحسن ما كان يعمل في صحته وتساقطت ذنوبه كما تُساقط ورق الشجر"14.
4- الأحزان والهموم والغموم:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفِّرها به ابتلاه الله بالحُزن في الدنيا ليكفِّرها به..."15.
وعن زكريّا بن آدم قال دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: "... يا زكريّا بن
126
آدم ما أحدٌ من شيعة علي عليه السلام أصبح بصبيحةٍ أتى سيئةً أو ارتكب ذنباً إلّا أمسى وقد ناله غمٌّ حطَّ عنه سيّئته..."16.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمنٍ إلّا وهو يُذكر في كلّ أربعين يوماً ببلاء؛ إمّا في ماله أو في ولده أو في نفسه. فيُؤجر عليه، أو همّ لا يدري من أين هو"17.
5- حـُسن الخلق
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ حُسن الخُلُق يُذيب الخطيئة كما تُذيب الشمس الجليد، وإنّ سوء الخُلق ليُفسد العمل كما يُفسد الخلُ العسلَ"18.
6 ـ الصلاة على محمـّد وآل محمـّد
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من لم يقدر على ما يكفِّر به ذنوبه فليُكثر من الصلاة على محمّد وآله فإنّها تَهدِم الذنوب هدماً"19.
وسوف نشير ها هنا ورعاية للاختصار إلى عناوين بعض مكفِّرات الذنوب، كما وردت في الروايات الشريفة عن أهل البيت سلام الله عليهم وهي:
-الاستغفار.
- كثرة السجود.
- صوم شعبان.
- إجابة المؤذِّن.
- غمُّ الموت.
- إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب.
- قراءة القرآن.
127
- الحجّ والعمرة.
- تفطير المؤمن الصائم.
- ذكر "لا إله إلّا الله".
- الذكر عشر مرّات يوميّاً: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويُميت ويُميت ويُحيي، وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير".
الخوف والرجاء
عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
"كان فيها (وصية لقمان) الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خَفِ الله عزَّ وجلَّ خيفة لو جئته ببرِّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال عليه السلام:
كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران نور خِيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا"20.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في مجال شرحه لهذا الحديث إنّ للمؤمن العارف بالحقائق نظرتين:
الأولى: نظرته إلى نفسه من حيث نقصانه وضعفه وافتقاره واحتياجه...
والثانية: نظرته إلى كمال الله تعالى وبسط رحمته...
وعلى الإنسان أن يتردّد بين هاتين النظرتين فلا يغمض عينيه عمّا فيه من نقصٍ وقصور في القيام بواجب العبوديّة، ولا هو ينسى سعة رحمة الحقّ جلّ جلاله وعنايته وشمولها... ويذكر قدس سره عن سبب تعادل الخوف والرجاء في الروايات فيقول: إنّ الإنسان عندما يُدرك قصوره في النهوض بالعبوديّة ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة يُصاب بالخوف، وعندما يجد ذنوبه ويرى بعينه كيف أنّ هناك بعض الأشخاص الذين كانت بدايتهم حسنة ثمّ انقلبوا وكانت عاقبة أمرهم الموت دون إيمان أو عمل صالح،
128
يُصاب بالهلع، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يَدري ما صنع الله فيه، وعمرٌ قد بقي لا يَدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يُصبح إلّا خائفاً ولا يُصلحه إلّا الخوف".
ولكنّه في المقابل يرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال وسعة الرحمة والعطاء، وحيث إنّ الله تعالى حاضرٌ في قلب ال مؤمن بجميع صفاته حيث تتجلّى أسماء الجلال والجمال في قلب العارف بصورة متعادلة لا يترجّح كلّ من الخوف والرجاء على الآخر .
وما أجملَ كلام الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام حينما يقول في دعاء السحر: "أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأيت كرمك طمعت، فإن عَفوت فخير راحمٍ، وإن عَذّبت فغير ظالمٍ...".
129
المفاهيم الأساس
1- بالرغم من ابتلاء الإنسان بالذنوب، إلّا أنّ أبواب الرحمة الإلهيّة تبقى مفتوحة أمامه.
2- من الأعمال التي تؤدّي إلى تكفير ذنوبنا وسيّئاتنا، القيام بالطاعات وأداء الواجبات وغيرها.
3- إنّ بعض الابتلاءات والمحن والمصائب التي يبتلي بها المؤمن، هي في واقعها رحمة إلهيّة تهدف إلى غسل قلب الإنسان من الذنوب، قبل الرحيل إلى دار الآخرة.
للمطالعة
دخل معاذ بن جبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكياً فسلّم فرد عليه السلام ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله إنّ بالباب شاباً طريَّ الجسد، نقيَّ اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها، يريد الدخول عليك، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أدخِل عليَّ الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلَّم فردَّ عليه السلام، ثم قال: ما يُبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزَّ وجلَّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل أشركت بالله شيئاً: قال: أعوذ بالله أن أُشرِك بربي شيئاً، قال: أقتلت النفس التي حرَّم الله؟ قال: لا، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق، قال: فإنّها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق! فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي، قال: فإنّها أعظم من ذلك، قال: فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربُّك؟ فخرَّ الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربُّ العظيم؟ قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثم سكت الشابُّ فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال: بلى أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أُخرج الأموات، وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حُمِلت إلى قبرها ودُفِنت وانصرف عنها أهلها، وجنَّ عليهم الليل أتيت قبرها فنَبشتُها، ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرِّدة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزيِّنها لي، ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتّى رَجِعتُ إليها، ولم أملك نفسي حتّى جامَعْتُها وتركتُها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويلٌ لك من ديّان يوم الدين، يوم يقفني وإيّاك؛ كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار!. فما أظنّ أنّي أشمُّ ريح الجنّة أبداً فما ترى لي يا رسول الله؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تنحَّ عنّي يا فاسق، إنّي أخاف أن أحترقَ بنارك، فما أقربك من النار! ثمّ لم يزلصلى الله عليه وآله وسلميقول ويشير إليه حتّى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها، ولبس مسحاً وغلَّ يديه جميعاً إلى عُنقه، ونادى: يا ربِّ هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني، وزلّ منّي ما تعلم، سيّدي! يا ربّ أصبحت من النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي، سيدي! ولا تبطل دعائي ولا تُقنطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلمّا تمّت له أربعون يوماً وليلة رفع يديه إلى السماء، وقال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كُنتَ استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوحِ إلى نبيّك، وإن لم تَستجب لي دعائي ولم تَغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجِّل بنارٍ تُحرقني، أو عقوبة في الدنيا تُهلكني، وخلِّصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً{ يعني الزنا }أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ{ يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا، ونبش القبور، وأخذ الأكفان ﴿ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾ يقول: خافوا الله فعجَّلوا التوبة ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾ يقول عزَّ وجلَّ: أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته، فأين يذهب؟ وإلى من يقصد؟ ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري؟ ثمّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان ﴿أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يتلوها ويتبسّم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشاب التائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله بَلغَنا أنّه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب؛ فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، قد اسودّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء، وهو يقول: سيّدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي؟ أفي النار تُحرقني؟ أو في جوارك تُسكنني؟ اللهمّ إنّك قد أكثرت الاحسان إليّ وأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري؟ إلى الجنّة تزفّني؟ أم إلى النار تسوقني؟ اللّهمّ إنّ خطيئتي أعظم من السماوات والأرض ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه وقد أحاطت به السباع! وصفّت فوقه الطير! وهم يبكون لبكائه! فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول! أبشر فإنّك عتيق الله من النار. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول. ثمّ تلا عليه ما أنزل الله عزَّ وجلَّ فيه وبشّره بالجنة.
هوامش
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص42.
2- سورة الطلاق، الآية: 5.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص34.
4- الكليني، الكافي، ج3، ص264.
5- سورة العنكبوت، الآية: 45.
6- ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين﴾ سورة هود، الآية: 164.
7- مستدرك الوسائل، ج3، ص39.
8- الكافي، ج2، ص452.
9- مقطع من دعاء كميل للإمام علي عليه السلام.
10- الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص20.
11- مستدرك الوسائل، ج2، ص53.
12- وسائل الشيعة، ج2، ص401.
13- م. ن، ص402.
14- مستدرك الوسائل، ج2، ص52.
15- بحار الأنوار، ج65، ص146.
16- م. ن، ج64، ص237.
17- م. ن، ج68، ص395.
18- روضة الواعظين، ج2، ص322.
19- الكافي، ج2، ص67.
20- مقتبس من كتاب الأخلاق من "الأربعون حديثاً"، جمعية المعارف الإسلامية، الدرس الخامس، ص34 ـ 40.