الصبر
وهو : احتمال المكاره مِن غير جزَع ، أو بتعريفٍ آخر هو : قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً ، وهو دليل رَجاحة العقل ، وسِعة الأفق ، وسموّ اخلق ، وعظمة البطولة والجَلَد ، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه ، وسبَب الظفَر والنجاح ، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد .
وناهيك في شرف الصبر ، وجلالة الصابرين ، أنّ اللّه عزّ وجل ، أشاد بهما ، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم :
بشّر الصابرين بالرضا والحبّ ، فقال تعالى : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )(1) .
ووعدهم بالتأييد : ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )(2) .
وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*
ـــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران : 146 .
(2) الأنفال: 46 .
(3) الزمر : 10 .
الصفحة 151
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )(1) .
وهكذا تواترت أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) في تمجيد الصبر والصابرين .
قال الصادق ( عليه السلام ) :
( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد ، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد ، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(2) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة ، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات ، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(3) .
وقال ( عليه السلام ) : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره ، وقال : يا بُني ، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً ، تُوفّ أجرك بغير حساب )(4) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه ، كان له أجرُ ألف شهيد )(5) .
_____________________
(1) البقرة : ( 155 - 157 ) .
(2) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(3) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(4) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(5) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي ) .
الصفحة 152
ورُبَّ قائلٍ يقول : كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد ، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟
فالمراد : أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء ، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( من لم يُنجه الصبر ، أهلكه الجزع )(1) .
أقسام الصبر
ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها :
(1) الصبر على المكاره والنوائب : وهو أعظم أقسامه ، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس ، وتفتح الوعي ، ورباطة الجأش ، ومضاء العزيمة .
فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء ، تنتابه قسراً واعتباطاً ، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة ، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر ، فإنّه بلسم القلوب الجريحة ، وعزاء النفوس المعذّبة .
ولولاه لانهار الإنسان ، وغدا صريع الأحزان والآلام ، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به :
قال تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
_____________________
(1) نهج البلاغة .
الصفحة 153
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )(1) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور ، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ ، وأنت مأزور )(2) .
وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود ، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها ، كفقد عزيز ، أو اغتصاب مال ، أو اضطهاد عدوّ .
أمّا الاستسلام للنوائب ، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام ، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه ، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق ، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها .
ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر ، ويخرجه عن التجلّد ، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب ، ولطم الخدود ، والإسراف في الشكوى والتذمّر .
أمّا الآلام النفسيّة ، والتنفيس عنها بالبكاء ، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة ، والمشاعر النبيلة ، كما قال ( صلّى اللّه عليه وآله ) عند وفاة ابنه ابراهيم : ( تدمع العين ، ويَحزَن القلب ، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ) .
_____________________
(1) البقرة ( 155 - 157 ) .
(2) نهج البلاغة .
الصفحة 154
وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب ، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار ، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ .
حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ) : فحبَسه في بيتٍ مظلم ، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد ، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال ، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله ، فإذا هو منشرح الصدر ، مطمئنّ النفس ، فقالوا له : أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال . فقال : اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها ، فهي التي ابقتني على ما ترون .
قالوا : صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى ، فقال : نعم .
أمّا الخَلط الأوّل : فالثقة باللّه عزّ وجل .
وأمّا الثاني : فكلّ مقدرٍّ كائن .
وأمّا الثالث : فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن .
وأمّا الرابع : فإذا لم أصبر فماذا أصنع ، ولا أعين على نفسي بالجزَع .
وأمّا الخامس : فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه .
وأمّا السادس ، فمِن ساعة إلى ساعة فرج .
فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه (1) .
وعن الرضا عن أبيه عن أبيه ( عليهم السلام ) قال : ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه : إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي : سخّر لي الريح ، والإنس ، والجنّ ، والطير ، والوحش ، وعلّمني منطق الطير ، وآتاني مِن كلّ شيء ، ومع جميع ما أوتيتُ
_____________________
(1) سفينه البحار ج 2 ص 7 .
الصفحة 155
مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل ، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد ، فأصعَد أعلاه ، وأنظر إلى ممالِكي ، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي . قالوا : فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده ، وصعد إلى أعلى موضع قصره ، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي ، فرِحاً بما أعطي ، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره ، فلمّا بصر به سليمان ( عليه السلام ) ، قال له : من أدخَلك إلي هذا القصر ، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم ، فبإذن مَن دخلت ؟
فقال الشاب : أدخلني هذا القصر ربّه ، وبإذنه دخلت .
فقال : ربّه أحقّ به منّي ، فمَن أنت ؟
قال : أنا ملَك الموت ، قال : وفيما جئت ؟
قال : جئت لأقبض روحك .
قال : إمض لِما أُمِرت به ، فهذا يومُ سروري ، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه . فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(1) .
_____________________
(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون أخبار الرضا .
الصفحة 156
(2) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه :
مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها ، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات ، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها .
فهي لا تنصاع لتلك النظُم ، والضوابط ، إلاّ بالإغراء ، والتشويق ، أو الإنذار والترهيب . وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل ، ومجافاة عصيانه ، شاقّين على النفس ، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات ، وأجلّ القُرُبات .
وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( اصبروا على طاعة اللّه ، وتصبّروا عن معصيته ، فإنّما الدنيا ساعة ، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً ، وما لم يأتِ فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة ، فكأنّك قد اغتبطت )(1) .
وقال ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، يقوم عُنقٌ مِن الناس ، فيأتون باب الجنّة فيضربونه ، فيُقال لهم : مَن أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
الصفحة 157
الصبر . فيُقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنّا نصبر على طاعة اللّه ، ونصبر عن معاصي اللّه ، فيقول اللّه تعالى : صدَقوا أدخلوهم الجنّة ، وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )( الزمر : 10 )(1)
وقال ( عليه السلام ) :
( الصبر صبران : فالصبر عند المصيبة ، حَسَنٌ جميل ، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل ، ليكون لك حاجزاً )(2) .
(3) الصبر على النِّعَم :
وهو : ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان ، وذلك من سِمات عظمة النفس ، ورجاحة العقل ، وبُعد النظر .
فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها ، ومفاتنها ، كالجاه العريض ، والثراء الضخم ، والسلطة النافذة ، ونحو ذلك . حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر ، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان : ( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )( العلق : 6 - 7 ) وكلاهما ذميمٌ مقيت .
والمراد بالصبر على النِّعَم هو : رعاية حقوقها ، واستغلالها في مجالات
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الفقيه .
الصفحة 158
العطف والإحسان المادّية ، أو المعنويّة : كرعاية البؤساء ، وإغاثة المُضطهدين ، والاهتمام بحوائج المؤمنين ، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر .
وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى :
فالصبر في الحرب : شجاعة ، وضدّه الجُبْن .
والصبر عن الانتقام : حِلم ، وضدّه الغضب .
والصبر عن زخارف الحياة : زُهد ، وضدّه الحِرص .
والصبر على كتمان الأسرار : كتمان ، وضدّه الإذاعة والنشر .
والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج : عفّة ، وضدّه الشرَه .
فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل ، وقُطبها الثابت ، وأساسها المكين .
محاسن الصبر :
نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل ، وقُطب المكارم ، ورأس المفاخر .
فهو عصمة الواجد الحزين ، يخفّف وَجده ، ويلطّف عناءه ، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان .
وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر ، والهلَع الفاضح ، ولولاه لانهار المصاب ، وغدا فريسة العلل والأمراض ، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد .
وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين ، من عظيم المكافآت ، وجزيل الأجر والثواب .
الصفحة 159
كيف تكسب الصبر :
وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به :
1 - التأمّل في مآثر الصبر ، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص ، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا ، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة .
2 - التفكّر في مساوئ الجزَع ، وسوء آثاره في حياة الإنسان ، وأنّه لا يشفي غليلاً ، ولا يردُّ قضاءً ، ولا يُبدّل واقعاً ، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء . يقول ( دليل كارنيجي ) : ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب ، وكلّ مجلّة ، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق ، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة ، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها : ( إرض بما ليس منه بدّ ) .
3 - تفهم واقع الحياة ، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم :
طبعت على كدر وأنت تريدها صـفواً مِن الأقذار
والأكدار
فليست الحياة دار هناء وارتياح ، وإنّما هي : دار اختبار وامتحان للمؤمن ، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي ، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه .
قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الصفحة 160
الكاذبين ) ( العنكبوت : 2 - 3 ) .
4 - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء ، والأولياء ، من صنوف المآسي والأرزاء ، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها ، في ذات اللّه ، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود .
5 - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس ، ويُنَهنِه عن الوجد : كتغير المناخ ، وإرتياد المناظر الجميلة ، والتسلّي بالقصَص الممتعة ، والأحاديث الشهيّة النافعة .
وهو : احتمال المكاره مِن غير جزَع ، أو بتعريفٍ آخر هو : قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً ، وهو دليل رَجاحة العقل ، وسِعة الأفق ، وسموّ اخلق ، وعظمة البطولة والجَلَد ، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه ، وسبَب الظفَر والنجاح ، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد .
وناهيك في شرف الصبر ، وجلالة الصابرين ، أنّ اللّه عزّ وجل ، أشاد بهما ، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم :
بشّر الصابرين بالرضا والحبّ ، فقال تعالى : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )(1) .
ووعدهم بالتأييد : ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )(2) .
وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*
ـــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران : 146 .
(2) الأنفال: 46 .
(3) الزمر : 10 .
الصفحة 151
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )(1) .
وهكذا تواترت أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) في تمجيد الصبر والصابرين .
قال الصادق ( عليه السلام ) :
( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد ، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد ، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(2) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة ، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات ، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(3) .
وقال ( عليه السلام ) : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره ، وقال : يا بُني ، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً ، تُوفّ أجرك بغير حساب )(4) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه ، كان له أجرُ ألف شهيد )(5) .
_____________________
(1) البقرة : ( 155 - 157 ) .
(2) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(3) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(4) الوافي : ( ج 3 ص 65 عن الكافي ) .
(5) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي ) .
الصفحة 152
ورُبَّ قائلٍ يقول : كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد ، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟
فالمراد : أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء ، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( من لم يُنجه الصبر ، أهلكه الجزع )(1) .
أقسام الصبر
ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها :
(1) الصبر على المكاره والنوائب : وهو أعظم أقسامه ، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس ، وتفتح الوعي ، ورباطة الجأش ، ومضاء العزيمة .
فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء ، تنتابه قسراً واعتباطاً ، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة ، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر ، فإنّه بلسم القلوب الجريحة ، وعزاء النفوس المعذّبة .
ولولاه لانهار الإنسان ، وغدا صريع الأحزان والآلام ، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به :
قال تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
_____________________
(1) نهج البلاغة .
الصفحة 153
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )(1) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور ، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ ، وأنت مأزور )(2) .
وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود ، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها ، كفقد عزيز ، أو اغتصاب مال ، أو اضطهاد عدوّ .
أمّا الاستسلام للنوائب ، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام ، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه ، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق ، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها .
ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر ، ويخرجه عن التجلّد ، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب ، ولطم الخدود ، والإسراف في الشكوى والتذمّر .
أمّا الآلام النفسيّة ، والتنفيس عنها بالبكاء ، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة ، والمشاعر النبيلة ، كما قال ( صلّى اللّه عليه وآله ) عند وفاة ابنه ابراهيم : ( تدمع العين ، ويَحزَن القلب ، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ) .
_____________________
(1) البقرة ( 155 - 157 ) .
(2) نهج البلاغة .
الصفحة 154
وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب ، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار ، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ .
حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ) : فحبَسه في بيتٍ مظلم ، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد ، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال ، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله ، فإذا هو منشرح الصدر ، مطمئنّ النفس ، فقالوا له : أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال . فقال : اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها ، فهي التي ابقتني على ما ترون .
قالوا : صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى ، فقال : نعم .
أمّا الخَلط الأوّل : فالثقة باللّه عزّ وجل .
وأمّا الثاني : فكلّ مقدرٍّ كائن .
وأمّا الثالث : فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن .
وأمّا الرابع : فإذا لم أصبر فماذا أصنع ، ولا أعين على نفسي بالجزَع .
وأمّا الخامس : فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه .
وأمّا السادس ، فمِن ساعة إلى ساعة فرج .
فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه (1) .
وعن الرضا عن أبيه عن أبيه ( عليهم السلام ) قال : ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه : إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي : سخّر لي الريح ، والإنس ، والجنّ ، والطير ، والوحش ، وعلّمني منطق الطير ، وآتاني مِن كلّ شيء ، ومع جميع ما أوتيتُ
_____________________
(1) سفينه البحار ج 2 ص 7 .
الصفحة 155
مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل ، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد ، فأصعَد أعلاه ، وأنظر إلى ممالِكي ، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي . قالوا : فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده ، وصعد إلى أعلى موضع قصره ، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي ، فرِحاً بما أعطي ، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره ، فلمّا بصر به سليمان ( عليه السلام ) ، قال له : من أدخَلك إلي هذا القصر ، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم ، فبإذن مَن دخلت ؟
فقال الشاب : أدخلني هذا القصر ربّه ، وبإذنه دخلت .
فقال : ربّه أحقّ به منّي ، فمَن أنت ؟
قال : أنا ملَك الموت ، قال : وفيما جئت ؟
قال : جئت لأقبض روحك .
قال : إمض لِما أُمِرت به ، فهذا يومُ سروري ، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه . فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(1) .
_____________________
(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون أخبار الرضا .
الصفحة 156
(2) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه :
مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها ، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات ، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها .
فهي لا تنصاع لتلك النظُم ، والضوابط ، إلاّ بالإغراء ، والتشويق ، أو الإنذار والترهيب . وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل ، ومجافاة عصيانه ، شاقّين على النفس ، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات ، وأجلّ القُرُبات .
وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( اصبروا على طاعة اللّه ، وتصبّروا عن معصيته ، فإنّما الدنيا ساعة ، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً ، وما لم يأتِ فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة ، فكأنّك قد اغتبطت )(1) .
وقال ( عليه السلام ) : ( إذا كان يوم القيامة ، يقوم عُنقٌ مِن الناس ، فيأتون باب الجنّة فيضربونه ، فيُقال لهم : مَن أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .
الصفحة 157
الصبر . فيُقال لهم : على ما صبرتم ؟ فيقولون : كنّا نصبر على طاعة اللّه ، ونصبر عن معاصي اللّه ، فيقول اللّه تعالى : صدَقوا أدخلوهم الجنّة ، وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )( الزمر : 10 )(1)
وقال ( عليه السلام ) :
( الصبر صبران : فالصبر عند المصيبة ، حَسَنٌ جميل ، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل ، ليكون لك حاجزاً )(2) .
(3) الصبر على النِّعَم :
وهو : ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان ، وذلك من سِمات عظمة النفس ، ورجاحة العقل ، وبُعد النظر .
فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها ، ومفاتنها ، كالجاه العريض ، والثراء الضخم ، والسلطة النافذة ، ونحو ذلك . حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر ، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان : ( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )( العلق : 6 - 7 ) وكلاهما ذميمٌ مقيت .
والمراد بالصبر على النِّعَم هو : رعاية حقوقها ، واستغلالها في مجالات
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الفقيه .
الصفحة 158
العطف والإحسان المادّية ، أو المعنويّة : كرعاية البؤساء ، وإغاثة المُضطهدين ، والاهتمام بحوائج المؤمنين ، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر .
وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى :
فالصبر في الحرب : شجاعة ، وضدّه الجُبْن .
والصبر عن الانتقام : حِلم ، وضدّه الغضب .
والصبر عن زخارف الحياة : زُهد ، وضدّه الحِرص .
والصبر على كتمان الأسرار : كتمان ، وضدّه الإذاعة والنشر .
والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج : عفّة ، وضدّه الشرَه .
فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل ، وقُطبها الثابت ، وأساسها المكين .
محاسن الصبر :
نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل ، وقُطب المكارم ، ورأس المفاخر .
فهو عصمة الواجد الحزين ، يخفّف وَجده ، ويلطّف عناءه ، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان .
وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر ، والهلَع الفاضح ، ولولاه لانهار المصاب ، وغدا فريسة العلل والأمراض ، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد .
وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين ، من عظيم المكافآت ، وجزيل الأجر والثواب .
الصفحة 159
كيف تكسب الصبر :
وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به :
1 - التأمّل في مآثر الصبر ، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص ، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا ، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة .
2 - التفكّر في مساوئ الجزَع ، وسوء آثاره في حياة الإنسان ، وأنّه لا يشفي غليلاً ، ولا يردُّ قضاءً ، ولا يُبدّل واقعاً ، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء . يقول ( دليل كارنيجي ) : ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب ، وكلّ مجلّة ، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق ، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة ، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها : ( إرض بما ليس منه بدّ ) .
3 - تفهم واقع الحياة ، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم :
طبعت على كدر وأنت تريدها صـفواً مِن الأقذار
والأكدار
فليست الحياة دار هناء وارتياح ، وإنّما هي : دار اختبار وامتحان للمؤمن ، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي ، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه .
قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الصفحة 160
الكاذبين ) ( العنكبوت : 2 - 3 ) .
4 - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء ، والأولياء ، من صنوف المآسي والأرزاء ، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها ، في ذات اللّه ، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود .
5 - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس ، ويُنَهنِه عن الوجد : كتغير المناخ ، وإرتياد المناظر الجميلة ، والتسلّي بالقصَص الممتعة ، والأحاديث الشهيّة النافعة .