السؤال: إناطة تصحيح الحديث بالعلماء لا ينافي قيام الإمام المهدي (عج) بوظيفته
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
طرح أحد المخالفين في أحد المنتديات شبهة لم أستطع الرد عليها و أرجو من الأخوة أيدهم الله في المركز إفادتنا بجواب شافي .وهذا هو السؤال منقول مباشرة من المنتدى بدون أي تعديل- كما كُتِب-:
*************************
لماذا قام الكليني بالعدول عن اللجوء إلى إمام زمانه - الثاني عشر - ولا شك أنه بعمله هذا قد فوت على الأمة خيرا عظيما
والسوال الان لكن ماذا عن دور الإمام نفسه ؟؟؟
هل انه لم يصحح كتاب الكافي و كتمه للعلم و عدم قيامه بدوره في هداية شيعته. وقد قال المولى عز و جل (( إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَبَيَّنُوا )) (البقرة)
فهب أن الكليني - و هو غير معصوم - قد ذهل و أخطأ هذا الخطأ الشنيع في اختياره المنهجي الكارثي هذا. فلم يراجع إمام زمانه مكتفيا بروايات المجهولين و الضعفاء و كأنه لا يؤمن أصلا بوجود معصوم في زمانه.
لكن بماذا ُيفسرهذا العمل من الإمام المعصوم إذن ؟
*************************
الجواب:
يلزم لتفنيد هذا الإشكال أن نعقد له البحث من جهتين:
الأولى: في تحقيق حال الشيخ الكليني بلحاظ تصنيفه للكافي، وبيان أن عمله في جمع الأحاديث وتبويبها لم يكن عملاً تصنيفياً مجرداً عن القواعد والأصول المعتد بها لديه فيكون تصنيفاً من دون منهج كما هي دعوى المستشكل.
والثانية: في تحقيق حال الإمام المهدي(عج) بلحاظ ظروف الغيبة وملابساتها وما يحيط بالإمام(ع) من أوضاع استثنائية لا يتسنى معها التفرغ لتصحيح ما يؤلفه علماء الشيعة أو النظر فيه، بل إيكال ذلك إلى ما لديهم من ضوابط وقواعد وأصول، فإن ذلك طبقاً للنظر الدقيق نافع في فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، إذ لو استلزم كل تأليف أو تصنيف لعلماء الشيعة مصادقة الإمام ونظرة لا نسد باب الاجتهاد ولتوقف النظر العقلي ـ كما حصل ذلك بالفعل عند أهل السنة.
الأول : تحقيق حال الكليني (رحمه الله).
1- لم يكن علم الحديث وعلم الجرح والتعديل في عصر الشيخ الكليني قد نضج إلى الدرجة التي يتمكن معها أن يصنف الروايات طبقاً لأصنافها التي اشتهرت بعد ذلك في عصر كل من النجاشي والطوسي، وبالتالي فإن وجود جملة من الروايات الضعيفة السند في كتاب الكافي لا يدل على ان الكليني كان ينظر إليها كذلك أي بوصفها روايات ضعيفة، بل إن جمعه لها يدل على العكس تماماً أي أنه كان لا يرى فيها بأساً من جهة السند إن لم نقل بأنه كان يعتقد بصحتها.
2- لم يثبت أن الشيخ الكليني كان متصلاً بالإمام المهدي(ع) سواء بصورة مباشرة من خلال اللقاء به أو بصورة غير مباشرة عن طريق السفراء، ويدلك على ذلك خلو الكافي من الروايات المسندة إلى الإمام المهدي سوى بضع روايات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
3- كان الكليني من أجلة علمائنا، ولعظيم منزلته لقب بـ (ثقة الإسلام)، وقد اتفق جميع علماء علم الرجال على وثاقته، وليس ذلك مقصوراً على من ترجم له من علماء الرجال، بل إن جميع من ترجم له قد أثنى عليه وأطراه، مما يدل ان لهذا المحدّث الشهير منزلة عند العلماء لا يمسها أحد بسوء إلا كذب وافتضح أمره. وعليه فإن موقفه في تأليف الكافي كان سليماً من جهة وثاقته، واتهامه بأنه كان متعمداً في اختيار الروايات الضعيفة وأنه كان قاصداً للرواية عن الضعفاء والمجهولين مجرد تحكم لا واقع له.
4- إن لعلماء الشيعة ـ قديماً وحديثاً ـ إزاء أحاديث الكافي أحد موقفين:
الأول: النظر إلى روايات الكافي سنداً ودلالة والتعامل معها على أساس معطيات علمي الرجال والحديث دراية ورواية، وهذا هو رأي الأصوليين وأكثر العلماء والفقهاء والمحققين.
الثاني: الاطمئنان والوثوق بصحة أحاديث الكافي بالمعنى المتعارف عليه قبل تقسيم الأخبار إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف، وهذا هو قول الإخباريين الذين يذهبون إلى قطعية صدور أحاديث الكافي عن المعصومين(عليهم السلام)، وهذا القول يماثل قول العامة (أهل السنة) بشأن أحاديث البخاري ومسلم ولا دليل عليه سوى بعض القرائن التي لا تنهض في مقام الدلالة.
الثاني: تحقيق حال الإمام المهدي(عج) في عصر الشيخ الكليني.
1- لقد كان ديدن الخلفاء ابتداءاً من أول عهد بني أمية وحتى آخر عهد بني العباس هو التشديد والتضييق والحصار على الأئمة الأطهار(عليهم السلام) والتنكيل بشيعتهم الأبرار، وقد تفاقم الأمر كثيراً في عصر الأئمة الثلاثة (ع) (الهادي والعسكري والمهدي) حيث اشتد الخناق على الأئمة والزموا بالإقامة الجبرية وسلطت عليهم العيون للحد من نشاطهم العلمي والإرشادي، وأصبح الشيعة معرضين لأبشع أشكال الظلم والاضطهاد... وفي مثل هذه الظروف القاسية لم يتسن للأئمة الثلاثة الاتصال بقواعدهم الشعبية فلجأوا إلى انتخاب مندوبين خاصين موصوفين بالتقوى والإيمان والكتمان الشديد لكي يكونوا وسطاء بينهم وبين شيعتهم في تبليغ الأحكام وإيصال الحقوق واستلامها ونحو ذلك, وكذلك من أجل تهيئة الشيعة وإعدادهم لمرحلة جديدة وهي الفترة المتمثلة بعصر الغيبة.
وحيث قد اتضح أن الأئمة السابقين على الإمام المهدي(ع) لم يكن من شأنهم التدخل في أعمال شيعتهم ذات السمة العلمية إلا على نحو الإرشاد والنصحية فمن باب أولى أن يحصل ذلك في عصر الغيبة، لأن الحضور أولى من الغيبة في التصدي لمثل هذه الأمور أعني الرقابة والتصحيح للكتب المصنفة.
2- تقدم أن الأئمة (ع) كانوا لا يتدخلون في أعمال علماء الشيعة إلا على نحو الإرشاد والنصحية, فمن جملة ذلك أنهم (عليهم السلام) أسسوا كثيراً من الأصول النافعة في شتى العلوم(ع) ولم يذهبوا إلى أبعد من ذلك من أجل إتاحة الفرصة للعلماء كي يأخذوا دورهم، ولذلك نسمع الإمام الصادق(عليه السلام) يقول ما معناه: ((علينا التأصيل وعليك التفريع)) وفي ذلك تشجيع واضح للعلم وأهله وفي مقام علم الحديث أكدوا على أمر هام وهو عرض الروايات على كتاب الله تعالى فإن وافقت القرآن عمل بها وإلا ضرب بها عرض الجدار، وكذا توجيهاتهم بوجوب التثبت وعدم المبادرة بإنكار الروايات إن لم تتفق مع ما يألفه الناس بل ردها إلى العالمين بها ولنا أن نستنتج من كل ذلك أن الكليني وغيره من متقدمي المحدثين إنما ساروا على هذا المنهج الذي رسمه أهل البيت أعني التثبت والعرض على كتاب الله. وقد كان ذلك مناسب جداً لتلك المرحلة بكل ما فيها من ظروف استثنائية وملابسات شاقة، فمن هذه الجهة فإن الإمام قد فتح الطريق للأجيال اللاحقة كي تنهض بتحقيق الروايات وتنقيحها، ولو كانت رقابة الإمام على ما يدون لازمة في كل تصنيف او تدوين للزم أن لا تظهر ثمرة تطور العلوم وخاصة علوم الدين ولتحجّرت العقول ولجمدنا على النصوص كما جمد عليها السلفية وخلفهم من الوهابية ولأفضى الأمر إلى هذه الكوارث الفضيعة التي تشهدها اليوم في بلاد المسلمين. فالمنهج الكارثي الذي اشار إليه هذا المتحذلق ليس هو منهج الشيخ الكليني بل هو منهج أولئك المتعصبين والمتزمتين من أهل السنة.
3- لقد اشتهر في بعض الأوساط حديث نسب إلى الإمام المهدي(ع) وهو: ((الكافي كاف لشيعتنا)) وهذا الحديث لم يثبت، بل ان الثابت والمقطوع به هو عدم صدوره عن الإمام المهدي(ع) وذلك لعدم وروده في الكتب المعتبرة، وقد كان ظهور هذا الحديث بعد زمان مديد يربو على السبعة قرون عن عصر الكليني، فقد كان أول من ذكره هو الشيخ خليل بن غازي وذلك سنة 1089هـ، أي أن هذا الخبر لم يسمع به الكليني بل لم يسمع به أعلام هذا الفن كالشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد وأضرابهم من علماء الشيعة . ولذا لا يصح الاحتجاج بهذا الحديث من الخصم علينا، بحيث يعد بمثابة المصادقة والقبول من قبل الإمام المهدي(ع) على كل ما ورد في كتاب الكافي، بعد أن ثبت أنه موضوع لا أصل له.
4- وأخيراً نشير إلى أن الإمام المهدي(ع) وإن كان قد فسح المجال للعلماء في تدوين وتصنيف ما أشتهر من أحاديث أهل البيت(ع) من دون أن يتدخل مباشرة في تصحيح وتنقيح الكتب المصنفة في هذا الغرض، فإنه(عليه السلام) في بعض المواقف التي تحتاج إلى حسم فيما يتعلق بادعاء البعض للعلم أو للسفارة كان صارماً وحاسماً,ونذكر على سبيل المثال ما كان من أمر الشلمغاني وهو أحد العلماء المشهورين وله تصانيف كثيرة، فقد ادعى هذا الرجل السفارة عن الإمام المهدي(ع) فظهرت التوقيعات من الإمام المهدي(ع) بلعنه والبراءة منه لئلا يكون فتنة للناس,ولذلك أخضعت كثير من تصانيفه إلى المراجعة من قبل السفراء لئلا يكون اعتقاده الفاسد دخيلاً في تلبيس الحق بالباطل ما يؤدي إلى ضرر فادح في العقيدة قد يتفاقم أثره.
5- قد أشرنا أنفاً بأن الإمام المهدي(عج) بسبب ظروف الغيبة لا يتسنى له التفرغ لمراجعة الكتب المصنفة في الحديث فهو علاوة ما يحيط به من صعوبات من الطواغيت في ذلك العصر فإن وقته لا يتسع لمثل هذه المهمة إذ فإن لديه مهام أعظم لابد له من التصدي لها، ومع تزاحم الأهم والمهم فلابد له من ترجيح الأهم بطبيعة الحال وإلاّ كان مخلاً بشرط الحكمة وحاشاه. ثم إن تركه لهذا المهم مع وجود من يتصدى له من سائر العلماء لا يعتبر إخلالاً بالواجب غاية الأمر أن الثمرة المترتبة على التصدي للمهم من قبل العلماء سوف تكون متأخرة والطريق أطول وإن كان موصلاً إلى الغاية أيضاً.
ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإمام قطعاً كما أن الردع عن الأحكام الخاطئة المفتى بها إجماعاً واجب على الإمام(ع) كذلك، غير أن نفس احتجاب الإمام في عصر الغيبة مسقط لذلك الوجوب، لا سيما مع نيابة العلماء عنه في أغلب مهماته الشرعية بنصه، فتأمل.
وفي الختام نرجو أن نكون قد وفقنا في الإجابة عن هذا الإشكال، حيث اتضح أن الرقابة والإشراف على الروايات لم تكن من جملة المهام التي عني بها الإمام المهدي(ع) إذ لو جاز أن يكون دور الإمام هو الرقابة على الأخبار لما جاز المناقشة في سندها ومتنها طبقاً لقواعد علم الحديث والدراية بل لما أمكن أن يظهر لدى الشيعة علم الحديث ولا علم الجرح والتعديل أصلاً، لأن المفروض ان الإمام المهدي(ع) قد انيطت به هذه المهمة اعني تصحيح الأحاديث وتنقيحها من خلال الإشراف على ما يدون من كتب فيها,فتأمل.
المصدر / موقع مركز الابحاث العقائدية
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
طرح أحد المخالفين في أحد المنتديات شبهة لم أستطع الرد عليها و أرجو من الأخوة أيدهم الله في المركز إفادتنا بجواب شافي .وهذا هو السؤال منقول مباشرة من المنتدى بدون أي تعديل- كما كُتِب-:
*************************
لماذا قام الكليني بالعدول عن اللجوء إلى إمام زمانه - الثاني عشر - ولا شك أنه بعمله هذا قد فوت على الأمة خيرا عظيما
والسوال الان لكن ماذا عن دور الإمام نفسه ؟؟؟
هل انه لم يصحح كتاب الكافي و كتمه للعلم و عدم قيامه بدوره في هداية شيعته. وقد قال المولى عز و جل (( إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَبَيَّنُوا )) (البقرة)
فهب أن الكليني - و هو غير معصوم - قد ذهل و أخطأ هذا الخطأ الشنيع في اختياره المنهجي الكارثي هذا. فلم يراجع إمام زمانه مكتفيا بروايات المجهولين و الضعفاء و كأنه لا يؤمن أصلا بوجود معصوم في زمانه.
لكن بماذا ُيفسرهذا العمل من الإمام المعصوم إذن ؟
*************************
الجواب:
يلزم لتفنيد هذا الإشكال أن نعقد له البحث من جهتين:
الأولى: في تحقيق حال الشيخ الكليني بلحاظ تصنيفه للكافي، وبيان أن عمله في جمع الأحاديث وتبويبها لم يكن عملاً تصنيفياً مجرداً عن القواعد والأصول المعتد بها لديه فيكون تصنيفاً من دون منهج كما هي دعوى المستشكل.
والثانية: في تحقيق حال الإمام المهدي(عج) بلحاظ ظروف الغيبة وملابساتها وما يحيط بالإمام(ع) من أوضاع استثنائية لا يتسنى معها التفرغ لتصحيح ما يؤلفه علماء الشيعة أو النظر فيه، بل إيكال ذلك إلى ما لديهم من ضوابط وقواعد وأصول، فإن ذلك طبقاً للنظر الدقيق نافع في فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، إذ لو استلزم كل تأليف أو تصنيف لعلماء الشيعة مصادقة الإمام ونظرة لا نسد باب الاجتهاد ولتوقف النظر العقلي ـ كما حصل ذلك بالفعل عند أهل السنة.
الأول : تحقيق حال الكليني (رحمه الله).
1- لم يكن علم الحديث وعلم الجرح والتعديل في عصر الشيخ الكليني قد نضج إلى الدرجة التي يتمكن معها أن يصنف الروايات طبقاً لأصنافها التي اشتهرت بعد ذلك في عصر كل من النجاشي والطوسي، وبالتالي فإن وجود جملة من الروايات الضعيفة السند في كتاب الكافي لا يدل على ان الكليني كان ينظر إليها كذلك أي بوصفها روايات ضعيفة، بل إن جمعه لها يدل على العكس تماماً أي أنه كان لا يرى فيها بأساً من جهة السند إن لم نقل بأنه كان يعتقد بصحتها.
2- لم يثبت أن الشيخ الكليني كان متصلاً بالإمام المهدي(ع) سواء بصورة مباشرة من خلال اللقاء به أو بصورة غير مباشرة عن طريق السفراء، ويدلك على ذلك خلو الكافي من الروايات المسندة إلى الإمام المهدي سوى بضع روايات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
3- كان الكليني من أجلة علمائنا، ولعظيم منزلته لقب بـ (ثقة الإسلام)، وقد اتفق جميع علماء علم الرجال على وثاقته، وليس ذلك مقصوراً على من ترجم له من علماء الرجال، بل إن جميع من ترجم له قد أثنى عليه وأطراه، مما يدل ان لهذا المحدّث الشهير منزلة عند العلماء لا يمسها أحد بسوء إلا كذب وافتضح أمره. وعليه فإن موقفه في تأليف الكافي كان سليماً من جهة وثاقته، واتهامه بأنه كان متعمداً في اختيار الروايات الضعيفة وأنه كان قاصداً للرواية عن الضعفاء والمجهولين مجرد تحكم لا واقع له.
4- إن لعلماء الشيعة ـ قديماً وحديثاً ـ إزاء أحاديث الكافي أحد موقفين:
الأول: النظر إلى روايات الكافي سنداً ودلالة والتعامل معها على أساس معطيات علمي الرجال والحديث دراية ورواية، وهذا هو رأي الأصوليين وأكثر العلماء والفقهاء والمحققين.
الثاني: الاطمئنان والوثوق بصحة أحاديث الكافي بالمعنى المتعارف عليه قبل تقسيم الأخبار إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف، وهذا هو قول الإخباريين الذين يذهبون إلى قطعية صدور أحاديث الكافي عن المعصومين(عليهم السلام)، وهذا القول يماثل قول العامة (أهل السنة) بشأن أحاديث البخاري ومسلم ولا دليل عليه سوى بعض القرائن التي لا تنهض في مقام الدلالة.
الثاني: تحقيق حال الإمام المهدي(عج) في عصر الشيخ الكليني.
1- لقد كان ديدن الخلفاء ابتداءاً من أول عهد بني أمية وحتى آخر عهد بني العباس هو التشديد والتضييق والحصار على الأئمة الأطهار(عليهم السلام) والتنكيل بشيعتهم الأبرار، وقد تفاقم الأمر كثيراً في عصر الأئمة الثلاثة (ع) (الهادي والعسكري والمهدي) حيث اشتد الخناق على الأئمة والزموا بالإقامة الجبرية وسلطت عليهم العيون للحد من نشاطهم العلمي والإرشادي، وأصبح الشيعة معرضين لأبشع أشكال الظلم والاضطهاد... وفي مثل هذه الظروف القاسية لم يتسن للأئمة الثلاثة الاتصال بقواعدهم الشعبية فلجأوا إلى انتخاب مندوبين خاصين موصوفين بالتقوى والإيمان والكتمان الشديد لكي يكونوا وسطاء بينهم وبين شيعتهم في تبليغ الأحكام وإيصال الحقوق واستلامها ونحو ذلك, وكذلك من أجل تهيئة الشيعة وإعدادهم لمرحلة جديدة وهي الفترة المتمثلة بعصر الغيبة.
وحيث قد اتضح أن الأئمة السابقين على الإمام المهدي(ع) لم يكن من شأنهم التدخل في أعمال شيعتهم ذات السمة العلمية إلا على نحو الإرشاد والنصحية فمن باب أولى أن يحصل ذلك في عصر الغيبة، لأن الحضور أولى من الغيبة في التصدي لمثل هذه الأمور أعني الرقابة والتصحيح للكتب المصنفة.
2- تقدم أن الأئمة (ع) كانوا لا يتدخلون في أعمال علماء الشيعة إلا على نحو الإرشاد والنصحية, فمن جملة ذلك أنهم (عليهم السلام) أسسوا كثيراً من الأصول النافعة في شتى العلوم(ع) ولم يذهبوا إلى أبعد من ذلك من أجل إتاحة الفرصة للعلماء كي يأخذوا دورهم، ولذلك نسمع الإمام الصادق(عليه السلام) يقول ما معناه: ((علينا التأصيل وعليك التفريع)) وفي ذلك تشجيع واضح للعلم وأهله وفي مقام علم الحديث أكدوا على أمر هام وهو عرض الروايات على كتاب الله تعالى فإن وافقت القرآن عمل بها وإلا ضرب بها عرض الجدار، وكذا توجيهاتهم بوجوب التثبت وعدم المبادرة بإنكار الروايات إن لم تتفق مع ما يألفه الناس بل ردها إلى العالمين بها ولنا أن نستنتج من كل ذلك أن الكليني وغيره من متقدمي المحدثين إنما ساروا على هذا المنهج الذي رسمه أهل البيت أعني التثبت والعرض على كتاب الله. وقد كان ذلك مناسب جداً لتلك المرحلة بكل ما فيها من ظروف استثنائية وملابسات شاقة، فمن هذه الجهة فإن الإمام قد فتح الطريق للأجيال اللاحقة كي تنهض بتحقيق الروايات وتنقيحها، ولو كانت رقابة الإمام على ما يدون لازمة في كل تصنيف او تدوين للزم أن لا تظهر ثمرة تطور العلوم وخاصة علوم الدين ولتحجّرت العقول ولجمدنا على النصوص كما جمد عليها السلفية وخلفهم من الوهابية ولأفضى الأمر إلى هذه الكوارث الفضيعة التي تشهدها اليوم في بلاد المسلمين. فالمنهج الكارثي الذي اشار إليه هذا المتحذلق ليس هو منهج الشيخ الكليني بل هو منهج أولئك المتعصبين والمتزمتين من أهل السنة.
3- لقد اشتهر في بعض الأوساط حديث نسب إلى الإمام المهدي(ع) وهو: ((الكافي كاف لشيعتنا)) وهذا الحديث لم يثبت، بل ان الثابت والمقطوع به هو عدم صدوره عن الإمام المهدي(ع) وذلك لعدم وروده في الكتب المعتبرة، وقد كان ظهور هذا الحديث بعد زمان مديد يربو على السبعة قرون عن عصر الكليني، فقد كان أول من ذكره هو الشيخ خليل بن غازي وذلك سنة 1089هـ، أي أن هذا الخبر لم يسمع به الكليني بل لم يسمع به أعلام هذا الفن كالشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد وأضرابهم من علماء الشيعة . ولذا لا يصح الاحتجاج بهذا الحديث من الخصم علينا، بحيث يعد بمثابة المصادقة والقبول من قبل الإمام المهدي(ع) على كل ما ورد في كتاب الكافي، بعد أن ثبت أنه موضوع لا أصل له.
4- وأخيراً نشير إلى أن الإمام المهدي(ع) وإن كان قد فسح المجال للعلماء في تدوين وتصنيف ما أشتهر من أحاديث أهل البيت(ع) من دون أن يتدخل مباشرة في تصحيح وتنقيح الكتب المصنفة في هذا الغرض، فإنه(عليه السلام) في بعض المواقف التي تحتاج إلى حسم فيما يتعلق بادعاء البعض للعلم أو للسفارة كان صارماً وحاسماً,ونذكر على سبيل المثال ما كان من أمر الشلمغاني وهو أحد العلماء المشهورين وله تصانيف كثيرة، فقد ادعى هذا الرجل السفارة عن الإمام المهدي(ع) فظهرت التوقيعات من الإمام المهدي(ع) بلعنه والبراءة منه لئلا يكون فتنة للناس,ولذلك أخضعت كثير من تصانيفه إلى المراجعة من قبل السفراء لئلا يكون اعتقاده الفاسد دخيلاً في تلبيس الحق بالباطل ما يؤدي إلى ضرر فادح في العقيدة قد يتفاقم أثره.
5- قد أشرنا أنفاً بأن الإمام المهدي(عج) بسبب ظروف الغيبة لا يتسنى له التفرغ لمراجعة الكتب المصنفة في الحديث فهو علاوة ما يحيط به من صعوبات من الطواغيت في ذلك العصر فإن وقته لا يتسع لمثل هذه المهمة إذ فإن لديه مهام أعظم لابد له من التصدي لها، ومع تزاحم الأهم والمهم فلابد له من ترجيح الأهم بطبيعة الحال وإلاّ كان مخلاً بشرط الحكمة وحاشاه. ثم إن تركه لهذا المهم مع وجود من يتصدى له من سائر العلماء لا يعتبر إخلالاً بالواجب غاية الأمر أن الثمرة المترتبة على التصدي للمهم من قبل العلماء سوف تكون متأخرة والطريق أطول وإن كان موصلاً إلى الغاية أيضاً.
ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإمام قطعاً كما أن الردع عن الأحكام الخاطئة المفتى بها إجماعاً واجب على الإمام(ع) كذلك، غير أن نفس احتجاب الإمام في عصر الغيبة مسقط لذلك الوجوب، لا سيما مع نيابة العلماء عنه في أغلب مهماته الشرعية بنصه، فتأمل.
وفي الختام نرجو أن نكون قد وفقنا في الإجابة عن هذا الإشكال، حيث اتضح أن الرقابة والإشراف على الروايات لم تكن من جملة المهام التي عني بها الإمام المهدي(ع) إذ لو جاز أن يكون دور الإمام هو الرقابة على الأخبار لما جاز المناقشة في سندها ومتنها طبقاً لقواعد علم الحديث والدراية بل لما أمكن أن يظهر لدى الشيعة علم الحديث ولا علم الجرح والتعديل أصلاً، لأن المفروض ان الإمام المهدي(ع) قد انيطت به هذه المهمة اعني تصحيح الأحاديث وتنقيحها من خلال الإشراف على ما يدون من كتب فيها,فتأمل.
المصدر / موقع مركز الابحاث العقائدية