الاستبداد الجوي: القصف وبناء الأمم (1)
طارق الدليمي
خلال المعارك الضارية التي حدثت في الأشهر المنصرمة وتحديداً وراء تسلم حكومة الدمية سلطاتها الشكلية في بغداد، بدأت المراكز الاستعمارية في لندن واشنطن تعيد ضخ المعلومات القديمة الجديدة حول إمكان صمود العراق بوحدته السياسية الجغرافية الحالية، وتشكك بخصوص بقاء وحدته الوطنية الاجتماعية الداخلية. إن التقرير الذي أصدره مركز <<تشاتام هاوس>> في الشهر المنصرم (أيلول) حول المرحلة الانتقالية للعراق وما هي احتمالات نتائجها الملموسة تعيد إلى الأذهان الدراسة التي كتبها غراهام فولر عام 1993 لمؤسسة <<راند>> لصالح البنتاغون، حول مدى إمكان صمود العراق إلى سنة 2002!! أي قبل الحرب والاحتلال بسنة كاملة!!.. العقل الأنغلوسكسوني واحد حتى اذا وجدت هناك بعض الفوارق الانتقائية والتي تستمد قوتها ليس فقط من التجربة التاريخية وإنما من الطبيعة الخاصة للرأسمالية البريطانية وتجربتها الاستعمارية الكولونيالية العريقة في القرون الصاعدة وبين التجربة الأميركية الإمبريالية الحديثة في القرن السابق، وتحديداً منذ 1899 وبالحرب الإسبانية الأميركية.
لقد كان لتقرير تشاتام هاوس صداه الخاص في معاهد ومراكز البحوث الاوروبية والأميركية ولكنه عملياً، بالرغم من كونه روج لمفاهيم قديمة جديدة حول إعادة <<صياغة>> العراق، إلا أنه مارس قدراً كبيراً من التضليل وتزويد دراسته بالأكاذيب التي من شأنها طمس معالم التحليل السليم ولطبيعة الصراع الحقيقية بين العراق وشعبه من جانب وبين التدخلات والغزوات والاحتلالات الأجنبية ومن ضمنها الاحتلال البريطاني في العام 1914، والاحتلال الأنغلوسكسوني عام 2003، من الجانب الثاني.
ولا بد من الإشارة إلى أن المشرفة روز ماري هوليس لا يمكنها الادعاء بالحيادية والعلمية والموضوعية في مقارباتها، ما دامت قد اعتمدت فعلياً في صياغة الأفكار الأساسية للتقرير على عناصر ثقافية سياسية مهمة وخطيرة مختزلة ومضغوطة لدى كتب حديثة صادرة عن عقول نظرية إمبراطورية جديدة، تتلبس أردية معينة في ظل العولمة الراهنة وجوانبها العسكرية المنفلتة. ولعل أهم وأخطر هذه الكتب (توب دودج، <<اختراع العراق>>)، (غاريت ستانسفيلد، ليام أندرسون، <<مستقبل العراق>>). وقد صدرت هذه الكتب مباشرة بعد احتلال العراق الأخير. ان المؤلفين المذكورين ساهموا بدرجة معينة في كتابة أو إغناء أو مناقشة التقرير المومأ إليه. إن المخاطر الناجمة عن مثل هذا التقرير ليس الدور الإعلامي المزدوج المعايير أو الاتجاه التفتيتي الذي يرمي إليه برنامج التقرير الفعلي، بقدر ما يمثل التقرير محطة مهمة من العقل السياسي الذي يدير الاحتلال الآن في العراق، بمناطقه البريطانية في الجنوب وتحديداً البصرة والعمارة، أو الأميركية في الأصقاع الأخرى، ولكن في أنه يسلط الضوء على الخيارات المطروحة فعلياً على الإدارتين البريطانية والأميركية من أجل الخلاص من مأزقهما الراهن ومعالجة هزائمهما العسكرية والسياسية ومن أجل رسم سياسة جديدة لحل هذه الأزمات عن طريق البقاء في العراق لا الخروج منه كما يدعي البعض أو يزوّر الآخر أو يكذب الجميع، بمن فيهم أقسام مهمة من النظام العربي الرسمي، المنهار والمندحر. يندرج المخطط العام لاحتمالات المرحلة الانتقالية إلى عدة سيناريوهات منها الحرب الأهلية أو مفهوم (الديموقراطية الهشة الفيدرالية المركزية)، أو الاحمال الثالث وهو تقسيم العراق. ويتضمن الاحتمال الأخير عدة خيارات أيضاً، من أهمها وجهة نظر (توب دودج) القائلة بأهمية الرجوع القهقرى بالعراق إلى الوضع العثماني حين كان يتكون من ثلاث ولايات (الموصل وبغداد والبصرة)، لذلك فإن دودج يعتقد أن إعلان العراق الملكي الدستوري في العام 1921 هو فشل حقيقي في مفهوم سياسي صاعد لدى الإدارة البريطانية، وكانت تتمثله في تلك الفترة القسم الهندي من المستعمرات، يسمى <<بناء الأمم>>.
وبالرغم من أن دودج يكشف بصورة مذهلة الأداة التاريخية التي اعتمد عليها في آلية بناء الأمم في تلك الفترة، وبكونها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها، إلا أنه بحكم عقليته الاستعمارية لا يستنتج منها منطقياً الوصول إلى حل ديموقراطي عراقي موحد مستقل، لكنه يجنح إلى الاعتماد على البديل المطروح وهو التقسيم الإداري الفعلي. وعلى نفس الإيقاع ومن منطلقات <<العلوم السياسية التطبيقية>> المغايرة، يلجأ ستانسفيلد واندرسون الى حلول أخرى تختلف نوعيا عن الاقتراحات السابقة. فالشيء الذي يطرحه ستانسفيلد (بالتحديد) هو أحد أمرين:
1 تقسيم العراق إلى كيان كردي مستقل تماماً (ملحق بإدارة بناء الأمم).
2 والباقي تشكيل ميسوبوتوميا عربية يكون للشيعة الدور المركزي ويكون لإدارة بناء الأمم الرأي الأخير في كل شيء.
وبرأي هؤلاء، فإن الاحتلال القصير الأمد يؤدي إلى الاحتقانات العرقية والصدامات الطائفية. وعليه فالاحتلال الطويل هو الشكل المطلوب وهو الذي يمثل غطاءه السياسي بالتقسيم المشار إليه ضمن دراسة خاصة للخيارات المطروحة. ومن الواضح أن هذه الحلول تستند إلى خلل فكري كامل، يتمثل بالترحيل الكلي والقسري للمشكلة المركزية في التحليل، وهي الإضافة الكردية إلى الوطن العربي العراقي، بافتعال الانقسام الطائفي والترويج الكاذب لأسطورة الدولة الشيعية.
أما النقطة المهمة الثانية فهي تتحدد في الانغماس الليبرالي الكاذب حول التحليل العمودي السكوني للمجتمع بالنسبة لقواه الإثنية والطائفية والتركيز على مخاطرها والمبالغة في عقابيلها، مع إدارة الظهر للوضع الاجتماعي التاريخي، أي المحرك الأساسي للتطور السياسي والاجتماعي للعراق، من خلال دراسة الصراع الاجتماعي ضد الطغيان المركزي الداخلي، أو/والصراع الوطني ضد طغيان الغزو والاحتلال الخارجي. لكن المسألة الخطيرة التي يكشفها دودج تحديداً، هي الجانب العسكري من خطط الاحتلال والارتباط العضوي بينه وبين الخطة السياسية الشاملة للاحتلال وعلاقته مع مفهوم وفكرة <<بناء الأمم>>. ويفضح الكاتب الأميركي إدوارد بيك هذه المسألة بتراتبية مقنعة وبتسلسل متماسك. فهو يقتنص مقطعاً معبراً من خطاب لأحد أعضاء البرلمان البريطاني في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، ليوبولد أميري، حين قال: إن سجل الملك فيصل الأول في العراق مليء بعدة أشياء من أهمها القدرات غير المحدودة للقوة الجوية الملكية البريطانية في صياغة وبناء الدولة الجديدة، العراق. ويتناول هذا الكاتب بالنقد الصارم كل الانسيابات العفوية للمعلومات التي يوردها دودج حول دور سلاح الجو الملكي البريطاني في غزو العراق واحتلاله وإعلان دولته والخروج منه، منذ العام 1914 وإلى العام 1921 وحتى العام 1932 تاريخ انتهاء الانتداب البريطاني على العراق. فالقصف المركز والوحشي والذي صاحبه استعمال الغازات السامة ومنها الخردل ولأول مرة في أثناء ثورة العشرين، لا يوازيه سوى القصف الذي استعمل بعد ذلك في أماكن عديدة في الحرب العالمية الثانية. وتتضمن معلوماته عن القصف المركز والمنظم على مدينة السماوة أيضاً في عام 1923 وإبادة ست قرى بكاملها وقتل المئات من أفرادها العزل.
وكان <<البطل>> الأساسي لهذا القصف هو قائد السرب الطيار آرثر هاريس، مبتدع فكرة <<قصف السجادة>> الذي طوره لاحقاً وطبق بالتفصيل في قصف هامبورغ ودرسدن في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وقد تم اعتماد أسلوب القصف هذا رسمياً حتى العام 1926، وكان هو المهيمن على الخطة العسكرية السياسية للاحتلال. ومن الواضح أن هذه الخطة الأمنية كانت ترمي إلى عدة أهداف متضافرة ومتوافقة في آن واحد. وتعتبر هذه السياسة الأمنية الجوية بالنسبة لإدارة الاحتلال ومن ورائها لندن طبعاً هي بداية النهاية لحقبة سياسية سابقة قديمة الاحتلال العثماني بنظر بريطانيا والولوج إلى حقبة جديدة هي بناء العراق الجديد. ولم يكن في نظر القادة البريطانيين، مسألة الفشل السياسي في مواجهة استحقاق الانتداب، أي سياستهم الانتدابية الخاصة، ولا الإخفاق العسكري في تحقيق منجزاتهم المرتبطة به، وبالتعاون مع الحكومة الملكية الدمية. فحتى الأزمة التي حدثت في صفوف الحركة السياسية العراقية، لم تكن تشمل عملياً الجانب الوطني منها، بل كمنت وتطورت وتفاقمت في القسم المرتبط مع الإدارة الانتدابية والمتعاون معها ومع القصر الملكي. وهذا ما يفسر انتحار عبد المحسن السعدون وليس أحد القادة الوطنيين مثلاً. وفي النتيجة وحين شعرت بريطانيا بأن هذه المهمة الثقيلة <<بناء الأمم>> قد أصابها الدوار، وأن ميزانيتها أرهقت، وتكاليف الحرب البشرية تصاعدت، ومكانتها اهتزت، وتوسعت مدارك وتساؤلات الرأي العام البريطاني بالذات، اضطرت إلى التحايل على برنامجها التاريخي، في حل المسألة الشرق أوسطية بالتنسيق مع اللجنة الضعيفة للانتداب في عصبة الأمم، وقد أقنعتها بأهمية إنهاء الانتداب، كونها قد أنجزت مسؤولياتها الشاملة (الحقيقة أعباؤها!!)، وكانت بالأساس قد زودتها بهذه التقارير الكاذبة منذ عام 1927 وحتى تم إقرار انتهاء الانتداب البريطاني في عام 1932 حيث أقلع العراق الجديد نحو الغرق أو السباحة ضد التيارات المتلاطمة!! ومن الجدير بالذكر أن التكوين المصطنع الذي يتحدث عنه بعض القيادات الكردية للعراق الحديث ومنهم جلال الطالباني، كان قد تم أيضاً بالقصف الجوي المركز وبموت المئات من المواطنين الأكراد الأبرياء. فبعد اتفاقية مودس في عام 1918 أبرق الجيش التركي إلى محمود الحفيد، بضرورة السيطرة على السليمانية واعتباره ممثلاً للأتراك في حكمه لها. لكن الشيخ الحفيد سلمها إلى إدارة الجيش البريطاني في كركوك الذي أناط إليه إدارتها العملية، وحين استتب الأمر للحفيد <<قلب ظهر المجن>> لأبي ناجي وأعلن مملكته الكردية في حينها، وسارعت القوات الجوية البريطانية الملكية إلى معالجة الوضع مباشرة، فبعد طلعات مكثفة همجية وقتل وإبادة لعدة أيام، استسلم الحفيد ونفي إلى الهند وتم إلحاق السليمانية بكتاب رسمي إلى دولة العراق الحديثة على طريقة يبقى القديم مع القديم ومن يتمرد يذهب إلى الهند!!
() سياسي وكاتب عراقي
طارق الدليمي
خلال المعارك الضارية التي حدثت في الأشهر المنصرمة وتحديداً وراء تسلم حكومة الدمية سلطاتها الشكلية في بغداد، بدأت المراكز الاستعمارية في لندن واشنطن تعيد ضخ المعلومات القديمة الجديدة حول إمكان صمود العراق بوحدته السياسية الجغرافية الحالية، وتشكك بخصوص بقاء وحدته الوطنية الاجتماعية الداخلية. إن التقرير الذي أصدره مركز <<تشاتام هاوس>> في الشهر المنصرم (أيلول) حول المرحلة الانتقالية للعراق وما هي احتمالات نتائجها الملموسة تعيد إلى الأذهان الدراسة التي كتبها غراهام فولر عام 1993 لمؤسسة <<راند>> لصالح البنتاغون، حول مدى إمكان صمود العراق إلى سنة 2002!! أي قبل الحرب والاحتلال بسنة كاملة!!.. العقل الأنغلوسكسوني واحد حتى اذا وجدت هناك بعض الفوارق الانتقائية والتي تستمد قوتها ليس فقط من التجربة التاريخية وإنما من الطبيعة الخاصة للرأسمالية البريطانية وتجربتها الاستعمارية الكولونيالية العريقة في القرون الصاعدة وبين التجربة الأميركية الإمبريالية الحديثة في القرن السابق، وتحديداً منذ 1899 وبالحرب الإسبانية الأميركية.
لقد كان لتقرير تشاتام هاوس صداه الخاص في معاهد ومراكز البحوث الاوروبية والأميركية ولكنه عملياً، بالرغم من كونه روج لمفاهيم قديمة جديدة حول إعادة <<صياغة>> العراق، إلا أنه مارس قدراً كبيراً من التضليل وتزويد دراسته بالأكاذيب التي من شأنها طمس معالم التحليل السليم ولطبيعة الصراع الحقيقية بين العراق وشعبه من جانب وبين التدخلات والغزوات والاحتلالات الأجنبية ومن ضمنها الاحتلال البريطاني في العام 1914، والاحتلال الأنغلوسكسوني عام 2003، من الجانب الثاني.
ولا بد من الإشارة إلى أن المشرفة روز ماري هوليس لا يمكنها الادعاء بالحيادية والعلمية والموضوعية في مقارباتها، ما دامت قد اعتمدت فعلياً في صياغة الأفكار الأساسية للتقرير على عناصر ثقافية سياسية مهمة وخطيرة مختزلة ومضغوطة لدى كتب حديثة صادرة عن عقول نظرية إمبراطورية جديدة، تتلبس أردية معينة في ظل العولمة الراهنة وجوانبها العسكرية المنفلتة. ولعل أهم وأخطر هذه الكتب (توب دودج، <<اختراع العراق>>)، (غاريت ستانسفيلد، ليام أندرسون، <<مستقبل العراق>>). وقد صدرت هذه الكتب مباشرة بعد احتلال العراق الأخير. ان المؤلفين المذكورين ساهموا بدرجة معينة في كتابة أو إغناء أو مناقشة التقرير المومأ إليه. إن المخاطر الناجمة عن مثل هذا التقرير ليس الدور الإعلامي المزدوج المعايير أو الاتجاه التفتيتي الذي يرمي إليه برنامج التقرير الفعلي، بقدر ما يمثل التقرير محطة مهمة من العقل السياسي الذي يدير الاحتلال الآن في العراق، بمناطقه البريطانية في الجنوب وتحديداً البصرة والعمارة، أو الأميركية في الأصقاع الأخرى، ولكن في أنه يسلط الضوء على الخيارات المطروحة فعلياً على الإدارتين البريطانية والأميركية من أجل الخلاص من مأزقهما الراهن ومعالجة هزائمهما العسكرية والسياسية ومن أجل رسم سياسة جديدة لحل هذه الأزمات عن طريق البقاء في العراق لا الخروج منه كما يدعي البعض أو يزوّر الآخر أو يكذب الجميع، بمن فيهم أقسام مهمة من النظام العربي الرسمي، المنهار والمندحر. يندرج المخطط العام لاحتمالات المرحلة الانتقالية إلى عدة سيناريوهات منها الحرب الأهلية أو مفهوم (الديموقراطية الهشة الفيدرالية المركزية)، أو الاحمال الثالث وهو تقسيم العراق. ويتضمن الاحتمال الأخير عدة خيارات أيضاً، من أهمها وجهة نظر (توب دودج) القائلة بأهمية الرجوع القهقرى بالعراق إلى الوضع العثماني حين كان يتكون من ثلاث ولايات (الموصل وبغداد والبصرة)، لذلك فإن دودج يعتقد أن إعلان العراق الملكي الدستوري في العام 1921 هو فشل حقيقي في مفهوم سياسي صاعد لدى الإدارة البريطانية، وكانت تتمثله في تلك الفترة القسم الهندي من المستعمرات، يسمى <<بناء الأمم>>.
وبالرغم من أن دودج يكشف بصورة مذهلة الأداة التاريخية التي اعتمد عليها في آلية بناء الأمم في تلك الفترة، وبكونها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها، إلا أنه بحكم عقليته الاستعمارية لا يستنتج منها منطقياً الوصول إلى حل ديموقراطي عراقي موحد مستقل، لكنه يجنح إلى الاعتماد على البديل المطروح وهو التقسيم الإداري الفعلي. وعلى نفس الإيقاع ومن منطلقات <<العلوم السياسية التطبيقية>> المغايرة، يلجأ ستانسفيلد واندرسون الى حلول أخرى تختلف نوعيا عن الاقتراحات السابقة. فالشيء الذي يطرحه ستانسفيلد (بالتحديد) هو أحد أمرين:
1 تقسيم العراق إلى كيان كردي مستقل تماماً (ملحق بإدارة بناء الأمم).
2 والباقي تشكيل ميسوبوتوميا عربية يكون للشيعة الدور المركزي ويكون لإدارة بناء الأمم الرأي الأخير في كل شيء.
وبرأي هؤلاء، فإن الاحتلال القصير الأمد يؤدي إلى الاحتقانات العرقية والصدامات الطائفية. وعليه فالاحتلال الطويل هو الشكل المطلوب وهو الذي يمثل غطاءه السياسي بالتقسيم المشار إليه ضمن دراسة خاصة للخيارات المطروحة. ومن الواضح أن هذه الحلول تستند إلى خلل فكري كامل، يتمثل بالترحيل الكلي والقسري للمشكلة المركزية في التحليل، وهي الإضافة الكردية إلى الوطن العربي العراقي، بافتعال الانقسام الطائفي والترويج الكاذب لأسطورة الدولة الشيعية.
أما النقطة المهمة الثانية فهي تتحدد في الانغماس الليبرالي الكاذب حول التحليل العمودي السكوني للمجتمع بالنسبة لقواه الإثنية والطائفية والتركيز على مخاطرها والمبالغة في عقابيلها، مع إدارة الظهر للوضع الاجتماعي التاريخي، أي المحرك الأساسي للتطور السياسي والاجتماعي للعراق، من خلال دراسة الصراع الاجتماعي ضد الطغيان المركزي الداخلي، أو/والصراع الوطني ضد طغيان الغزو والاحتلال الخارجي. لكن المسألة الخطيرة التي يكشفها دودج تحديداً، هي الجانب العسكري من خطط الاحتلال والارتباط العضوي بينه وبين الخطة السياسية الشاملة للاحتلال وعلاقته مع مفهوم وفكرة <<بناء الأمم>>. ويفضح الكاتب الأميركي إدوارد بيك هذه المسألة بتراتبية مقنعة وبتسلسل متماسك. فهو يقتنص مقطعاً معبراً من خطاب لأحد أعضاء البرلمان البريطاني في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، ليوبولد أميري، حين قال: إن سجل الملك فيصل الأول في العراق مليء بعدة أشياء من أهمها القدرات غير المحدودة للقوة الجوية الملكية البريطانية في صياغة وبناء الدولة الجديدة، العراق. ويتناول هذا الكاتب بالنقد الصارم كل الانسيابات العفوية للمعلومات التي يوردها دودج حول دور سلاح الجو الملكي البريطاني في غزو العراق واحتلاله وإعلان دولته والخروج منه، منذ العام 1914 وإلى العام 1921 وحتى العام 1932 تاريخ انتهاء الانتداب البريطاني على العراق. فالقصف المركز والوحشي والذي صاحبه استعمال الغازات السامة ومنها الخردل ولأول مرة في أثناء ثورة العشرين، لا يوازيه سوى القصف الذي استعمل بعد ذلك في أماكن عديدة في الحرب العالمية الثانية. وتتضمن معلوماته عن القصف المركز والمنظم على مدينة السماوة أيضاً في عام 1923 وإبادة ست قرى بكاملها وقتل المئات من أفرادها العزل.
وكان <<البطل>> الأساسي لهذا القصف هو قائد السرب الطيار آرثر هاريس، مبتدع فكرة <<قصف السجادة>> الذي طوره لاحقاً وطبق بالتفصيل في قصف هامبورغ ودرسدن في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وقد تم اعتماد أسلوب القصف هذا رسمياً حتى العام 1926، وكان هو المهيمن على الخطة العسكرية السياسية للاحتلال. ومن الواضح أن هذه الخطة الأمنية كانت ترمي إلى عدة أهداف متضافرة ومتوافقة في آن واحد. وتعتبر هذه السياسة الأمنية الجوية بالنسبة لإدارة الاحتلال ومن ورائها لندن طبعاً هي بداية النهاية لحقبة سياسية سابقة قديمة الاحتلال العثماني بنظر بريطانيا والولوج إلى حقبة جديدة هي بناء العراق الجديد. ولم يكن في نظر القادة البريطانيين، مسألة الفشل السياسي في مواجهة استحقاق الانتداب، أي سياستهم الانتدابية الخاصة، ولا الإخفاق العسكري في تحقيق منجزاتهم المرتبطة به، وبالتعاون مع الحكومة الملكية الدمية. فحتى الأزمة التي حدثت في صفوف الحركة السياسية العراقية، لم تكن تشمل عملياً الجانب الوطني منها، بل كمنت وتطورت وتفاقمت في القسم المرتبط مع الإدارة الانتدابية والمتعاون معها ومع القصر الملكي. وهذا ما يفسر انتحار عبد المحسن السعدون وليس أحد القادة الوطنيين مثلاً. وفي النتيجة وحين شعرت بريطانيا بأن هذه المهمة الثقيلة <<بناء الأمم>> قد أصابها الدوار، وأن ميزانيتها أرهقت، وتكاليف الحرب البشرية تصاعدت، ومكانتها اهتزت، وتوسعت مدارك وتساؤلات الرأي العام البريطاني بالذات، اضطرت إلى التحايل على برنامجها التاريخي، في حل المسألة الشرق أوسطية بالتنسيق مع اللجنة الضعيفة للانتداب في عصبة الأمم، وقد أقنعتها بأهمية إنهاء الانتداب، كونها قد أنجزت مسؤولياتها الشاملة (الحقيقة أعباؤها!!)، وكانت بالأساس قد زودتها بهذه التقارير الكاذبة منذ عام 1927 وحتى تم إقرار انتهاء الانتداب البريطاني في عام 1932 حيث أقلع العراق الجديد نحو الغرق أو السباحة ضد التيارات المتلاطمة!! ومن الجدير بالذكر أن التكوين المصطنع الذي يتحدث عنه بعض القيادات الكردية للعراق الحديث ومنهم جلال الطالباني، كان قد تم أيضاً بالقصف الجوي المركز وبموت المئات من المواطنين الأكراد الأبرياء. فبعد اتفاقية مودس في عام 1918 أبرق الجيش التركي إلى محمود الحفيد، بضرورة السيطرة على السليمانية واعتباره ممثلاً للأتراك في حكمه لها. لكن الشيخ الحفيد سلمها إلى إدارة الجيش البريطاني في كركوك الذي أناط إليه إدارتها العملية، وحين استتب الأمر للحفيد <<قلب ظهر المجن>> لأبي ناجي وأعلن مملكته الكردية في حينها، وسارعت القوات الجوية البريطانية الملكية إلى معالجة الوضع مباشرة، فبعد طلعات مكثفة همجية وقتل وإبادة لعدة أيام، استسلم الحفيد ونفي إلى الهند وتم إلحاق السليمانية بكتاب رسمي إلى دولة العراق الحديثة على طريقة يبقى القديم مع القديم ومن يتمرد يذهب إلى الهند!!
() سياسي وكاتب عراقي