الاستبداد الجوي: القصف والانتداب السري (2)
طارق الدليمي
جاء في جريدة <<الصباح>>، الصحيفة المركزية للاحتلال في 31/7 الماضي تحت عنوان: <<دعوة لإقامة فيدرالية في الجنوب>>: أوصى مؤتمر للمنطقة الجنوبية لإقرار الفيدرالية واللامركزية بإقامة إقليم الجنوب استناداً إلى الفقرة ج من المادة 53 من قانون إدارة الدولة <<تال>> الموقت. وقد قال عضو الهيئة التأسيسية عادل العبادي بأن السيد محمد حسن الخضري ممثل السيد السيستاني ألقى كلمة في المؤتمر أكد فيها موافقة ومباركة السيستاني على قرار المؤتمر بإقامة إقليم الجنوب ضمن العراق الفيدرالي والديموقراطي. (جريدة <<الغد>> البغدادية في عددها 19 بتاريخ 2 آب 2004).
وقد أكدت جريدة <<الرافدين>> البغدادية بتاريخ 29/9 أن مراسلها محمد البهادلي يشير إلى أن البصرة تديرها حكومة سرية بإشراف المخابرات الإيرانية. فهل هذا طريق من أجل الحكم المشترك (كوندومينوم) بريطاني إيراني للفيدرالية الجنوبية.
لم يكن بالنسبة لوزارة الخارجية الأميركية من مجال في الاحتلال المباشر، إلا بأن تطرح كل تحفظاتها السابقة وبصورة مفصلة وتختلف عن حالة السجال التي دانت دائرة في مرحلة الإعداد للحرب والاحتلال. وبما أن هذه الإدارة متضامنة فعلياً مع واحدة من أهم المسائل الموجودة لدى قادة واشنطن والتي لا يمكن التفاهم معها أو التفاوض حولها، أي مسألة قرارهم بالبقاء في العراق ولفترة طويلة وبالرغم من كل العقبات أو مهما كانت التكاليف الباهظة التي يمكن أن تدفع. ومن الجلي أيضاً أن اللجوء إلى أشكال متعددة بخصوص صياغة الوضع العراقي هو انعكاس مباشر لأشكال متعددة للمأزق الأنغلوساكسوني في العراق وليس له ارتباط عضوي ومادي بالوضع الحقيقي للعراق. والمداخلات والخطابات التي طرحت في المؤتمرين الوطنيين، الجمهوري والديموقراطي، هي قصور من رمال سرعان ما انهارت على اثر العواصف اليومية للصراع العسكري الدموي في العراق. وقد عبر عن ذلك بدقة السيناتور جيم كولبي، رئيس لجنة الاعتمادات في الكونغرس الأميركي، حين قال بأن الإدارة أحبطت من فشل مشروعها في تحقيق الديموقراطية الأميركية في العراق، وبأنها باتت تريد أي شكل من الديموقراطية حتى لو كان من الطراز الروماني!! لكن هذا الصراع القبلي بين الخارجية والبنتاغون يسير أيضاً على سكتين، الأولى سياسية والثانية عسكرية. فالبنتاغون منذ اقتناعه، في الشهر 11 من العام الفائت، بأن المقاومة جادة وبأنها متينة ومنتشرة، ابتدأ بأسلوب استعمال السياسة الأمنية الجوية. هكذا بدأ القصف الجوي بكافة أشكاله وفي مختلف المناطق، وقد زاد في هذا القصف حصول عمليات عسكرية مهمة، لم يعلن عنها البنتاغون في بعض الأماكن الصحراوية من العراق وباتجاه قطاعات عسكرية مهمة وذات أهداف استراتيجية بعيدة المدى منها الفرقة الرابعة الميكانيكية التي كانت رابضة ضمن خطة الهجوم على سوريا. وقد أشارت الخبيرة المهمة لورين تومبسون في أوراق معهد <<ليكسينيغستن>> إلى أن الاحتلال يعتقد أن الضربات الجوية تؤدي إلى التدمير العسكري والسياسي والمعنوي لشبكات المقاومة، وهي أيضاً تتضمن شراء الوقت من أجل منح الفرص للقوات العراقية الجديدة والمدربة من قبل الاحتلال كي تتمكن من تحقيق أهدافها البرية في الهجوم على قواعد المقاومة وإبادتها. وهذه العمليات التي حدثت في أماكن مهمة (الفلوجة، النجف، مدينة الصدر، بعقوبة، كركوك، سامراء، بلد، الموصل، تلعفر... إلخ)، كلها تصب في الإطار السياسي التاريخي الذي تسمى شيفرته السياسية عملية <<بناء الأمم>>. وتقول المعلقة تومبسون بأن للإدارة الأميركية في ظل هذه الاحتقانات العسكرية والاختلاطات السياسية خيارا واحدا فقط، البقاء والتقسيم، وكل شيء في حينه يتوضح ويتحقق، مرددة كلام تشرتشل المتهافت بأن الأميركيين يخطئون دائماً وفي النهاية ينجحون بعد تجارب عديدة. أما المنظر المسؤول في كلية الحرب الاميركية ستيفن ميتز فهو مقتنع أيضاً بأن قرار التدمير العسكري عن طريق القصف الجوي يتعدى حدوده العسكرية والسياسية وأنه يصل إلى مداه المرحلي في إعادة بناء الدولة والمجتمع. وهو يؤكد أن الفشل المباشر قمين بالحدوث في حالة من يجعل الوضع الوطني بمثابة الصراع الاجتماعي، ومن يضع الصراع الوطني بمثابة الوضع الاجتماعي. ويقول مثلاً: لقد فشلنا في الفلوجة وخلقنا لواء الفلوجة الخاص الذي استدار عنا والتحق مع المقاومة واضطررنا إلى حله مرة ثاني... ولم يحصل ذلك!!
ويطالعنا بعد ذلك ديفيد بروكس بالمفارقة التاريخية الحالية بخصوص الانسجام من جهة والتناقض الحاد العدائي من الجهة الثانية، بين اتجاهين: الأول الخارجية والثاني البنتاغون. ولن ننسى أن القصف الجوي كان هو العمود المركزي في المعالجة العسكرية في التجربتين. صحيح أن القصف الجوي هو مقاربة عسكرية سهلة بالنسبة للاحتلال وأقل خسارة من الأسلوب المباشر عن طريق المشاة أو الدبابات والدروع، ولكن التأثير النفسي الهائل للقصف لا بد من أن يفسح المجال أمام تغيير سياسي نفسي عميق وباتجاه تهديم البنية التحتية الفكرية التراثية للمواطن، وهي بتزويرهم البنية العقلية للإرهاب، وإعادة بناء بنية ثقافية فوقية جديدة عن طريق الإعلام الرسمي والتكرار الصوتي والتدريس النمطي للديموقراطية وأشكالها في السيارات النقالة والمعاهد الصغيرة الطيارة!! وسَوق المئات من الشباب والنساء إلى مخيمات التعليم القسري ووسائل الإيضاح الصوتية والمرئية الفجة للمعهد الثلاثي الشهير الذي صرف الملايين ضمن عقود لمدة ثلاث سنوات من أجل بناء الديموقراطية. وقد دفع بريمر قبل مغادرته العراق خمسة ملايين دولار إلى رجل الدين فرقد الحسيني في الحلة لإدارة العملية الديموقراطية في الجامع الكبير الذي بني لسُنة الحلة في العهد السابق. هكذا تكون الديموقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان هي أيديولوجية التدخل العسكري والاحتلال والقصف الجوي المركز. وهكذا يتحضر رامسفيلد علاوي لتأسيس ست فرق عسكرية بحلول كانون الثاني 2005 وذلك من أجل اجتياح المدن العاصية والإبادة الشاملة للمقاومة والبؤر المعروفة والمشخصة إضافة إلى العلاج المركزي، القصف الجوي المكثف والشامل. هكذا قال دوغلاس فيث، مسؤول برنامج بناء العراق في البنتاغون، بأنه يجب تحطيم البلد من أجل إنقاذه! وهذا ما كانت تطمح إليه الإدارة في حربها الصاعقة على النجف من أجل تركيعها وتحطيمها قبل انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري. ولكن ما هي الانعكاسات المباشرة لهذا القصف الجوي على صعيد الإنتاج الحيوي للمؤسسات الفكرية في المتربول الأميركي. يمكن التمييز بين اتجاهين واضحين، الأول طرحه فرنسيس فوكوياما والثاني عالجه بيتر غالبريث. الأول غني عن التعريف ويعتبر من المحافظين الجدد الذين ارتدوا عن الخطة العامة التي طرحها هؤلاء، وهو منذ مقالته الشهيرة <<اللحظة التاريخية>> في <<ناشونال أنتريست>> 2004 بمعرض رده على تشارلز كراوتهامر بدأ يشن هجوما مركزا على هذه العصابة مفنداً الأسس الفكرية لبرنامجهم الفاشل داعياً إلى التراجع عنه ورسم سياسة ناجحة ومتفائلة أكثر بدلاً عن عمارتهم المنهارة. ويعتقد فوكوياما أن المسألة الأساسية تكمن في فكرة بناء الأمم نفسها، وأن الولايات المتحدة ليس لها تجربة تاريخية في هذا المضمار وأنها ليست لديها معلومات حقيقية عن العراق، وأنها ضُللت عمداً من قبل العديد من المراكز المهمة الأميركية أو من المتعاونين معها من العراقيين. فقد انخرطت أميركا منذ 1899 باحتلال الفيليبين في 18 مشروعا لبناء الأمم لم تنجح إلا في اليابان وألمانيا، والأسباب معروفة. صحيح أن نقده كان بالأساس على تشارلز كراوتهامر إلا أنه تعدى ذلك إلى بودهوريتز نفسه وهو أهم منظر للمحافظين الجدد، مما استفز الأخير في مطالعته الأخيرة الواسعة حول الحرب الرابعة. لكن فوكوياما الذي حاول اتهام المحافظين الجدد بضيق الأفق وبعدم المعرفة الشمولية يقع في الأخطاء التجريبية المماثلة. ونجده أيضاً مرتبكاً في مناقشة العلاقة العضوية بين مسألة الاستقرار السياسي والاجتماعي ومسألة بناء الديموقراطية ولمن تكون الأولوية. ولأنه أيضاً مضلَّل (أو مضلِّل) بخصوص المشاكل الأثنية (الأكراد) والطائفية (الشيعة) وربط ذلك مع الحالة الاقتصادية وكون هذه الأطراف تجلس على بحيرات من النفط، وبأن المثلث السني فقير وأجدب ومعزول حضارياً، نجده بسذاجة منقطعة النظير يطرح مقايضة سطحية مع السنة من أجل شرائهم بالريع النفطي نسبة إلى تعدادهم السكاني، كي ينضموا سلمياً إلى العملية السياسية الديموقراطية. ومع أنه يجد صعوبة في معالجة المناطق المختلطة، وفي مقدمتها بغداد العاصمة، لكنه يقترح المعادل الموضوعي لهذه المشكلة بالسعي الجاد لخلق كتلة سنية ليبرالية تتعاون مع شيوخ عشائر متجاوبين ومع قيادات دينية معتدلة، وذلك لعزل المقاومة المسلحة وقياداتها القومية والدينية المتطرفة!! أما المسائل العملية التي تواكب الحل العسكري من جهة والمآزق السياسية من الجانب الآخر، فإن الأكاديمي فوكوياما يتقاطع مع عقلية المخطط الدبلوماسي. فهو إذ يعتقد أن المشكلة تكمن في المنظمات السياسية المسلحة، لكنه عملياً حائر في إيجاد المخرج الملائم لها، فكما أنه يفكر بأنه لا يمكن للدولة أن تنهض بوجود الميليشيات المسلحة، كذلك لا يمكنها أن تنهض بدون التعاون ومساندة هذه الميليشيات!! إنها إشكالية الدجاجة البيضة بامتياز!!
ويعلق الكاتب الهندي الأصل، ديليب هيرو، على هذه المشاريع المتعددة بأنها جزء من الأكاذيب التي تتردد في الأروقة الرسمية والتي هي قناع شفاف للأسرار المتواردة في صفوف هذه الإدارة وقياداتها الدموية والحمقاء. فالرويديون (البراغماتيون) الذين يقودهم باول هم أصحاب مشروع مستقبل العراق، ومن ضمنهم الدكتور ليث كبة وهو قيادي سابق في حزب الدعوة، ويمثله في الحكم اياد علاوي. أما المهاجمون، الذين يمثلهم الجلبي، ويقودهم رامسفيلد في البنتاغون، فيدعون الآن معسكر السنة صفر، أي الانطلاق فورا لتنفيذ فكرة بناء الأمم. وهم يعتمدون في دعاويهم على مبررات عملية ميدانية مهمة، منها أنه لا يمكن الثقة بنموذج الفلوجة، إذ لا يوجد فيها سيستاني معتدل يمكن التفاهم معه، ولا يمكن الاطمئنان إلى نموذج النجف، إذ لا توجد فيها هيئة علماء دينية موحدة وشارع متماسك وراءها. هكذا ترسم سيناريوهات الوضع الجغرافي السياسي: تقسيم، كانتونات، حروب أهلية على قاعدة التحليل التي طرحها الخبير الاقتصادي جوزف ستيغليتز، القصف الجوي الوحشي زائد الصدمات الاقتصادية للخصخصة الجديدة. والتقسيمات الإدارية المختلفة لقيادة الوضع الجديد، الذي يقتنع فيه الاعلامي الاميركي جيمس فالوز بأنه يقود عملياً إلى جعل العراق الجديد الولاية 51 من الولايات المتحدة، ذلك المقال الذي ترجمه رضا هلال في <<الأهرام>> المصرية قبل الحرب في 23 كانون الثاني 2003 واختفى بعده نهائيا!! ويمكن الإشارة بدون مجازفة إلى دور القيادات الكردية في تنفيذ المخططات الاحتلالية لا سيما مواقفها الأخيرة في كركوك وتلعفر. ويتميز البارزاني في كونه ينفخ في بوقين في آن واحد: الحرب والتقسيم!! وقاعدتهما التطهير العرقي والتنسيق مع المحور الإسرائيلي. وهذا النفير الذي أعلنه كان متطابقاً مع الحوار الكردي العربي الذي برمجه الداعية الإسرائيلي صلاح بدر الدين وانعقد في أربيل تحت مسمى هولير وبحضور رهط من المثقفين العرب الذين أغدق عليهم البارزاني أوسمة معينة، ومنهم <<المعارض>> نزار نيوف. فالنيوفية كما فضحها أحد الكتاب انتقلت إلى شمال العراق. أما اللازمة الحالية للقصف الجوي الوحشي على سامراء والفلوجة ومدينة الصدر فهي المظاهرات الداعية الى الانفصال الكردي وتثبيت كركوك عاصمة أبدية له.
() سياسي وكاتب عراقي
طارق الدليمي
جاء في جريدة <<الصباح>>، الصحيفة المركزية للاحتلال في 31/7 الماضي تحت عنوان: <<دعوة لإقامة فيدرالية في الجنوب>>: أوصى مؤتمر للمنطقة الجنوبية لإقرار الفيدرالية واللامركزية بإقامة إقليم الجنوب استناداً إلى الفقرة ج من المادة 53 من قانون إدارة الدولة <<تال>> الموقت. وقد قال عضو الهيئة التأسيسية عادل العبادي بأن السيد محمد حسن الخضري ممثل السيد السيستاني ألقى كلمة في المؤتمر أكد فيها موافقة ومباركة السيستاني على قرار المؤتمر بإقامة إقليم الجنوب ضمن العراق الفيدرالي والديموقراطي. (جريدة <<الغد>> البغدادية في عددها 19 بتاريخ 2 آب 2004).
وقد أكدت جريدة <<الرافدين>> البغدادية بتاريخ 29/9 أن مراسلها محمد البهادلي يشير إلى أن البصرة تديرها حكومة سرية بإشراف المخابرات الإيرانية. فهل هذا طريق من أجل الحكم المشترك (كوندومينوم) بريطاني إيراني للفيدرالية الجنوبية.
لم يكن بالنسبة لوزارة الخارجية الأميركية من مجال في الاحتلال المباشر، إلا بأن تطرح كل تحفظاتها السابقة وبصورة مفصلة وتختلف عن حالة السجال التي دانت دائرة في مرحلة الإعداد للحرب والاحتلال. وبما أن هذه الإدارة متضامنة فعلياً مع واحدة من أهم المسائل الموجودة لدى قادة واشنطن والتي لا يمكن التفاهم معها أو التفاوض حولها، أي مسألة قرارهم بالبقاء في العراق ولفترة طويلة وبالرغم من كل العقبات أو مهما كانت التكاليف الباهظة التي يمكن أن تدفع. ومن الجلي أيضاً أن اللجوء إلى أشكال متعددة بخصوص صياغة الوضع العراقي هو انعكاس مباشر لأشكال متعددة للمأزق الأنغلوساكسوني في العراق وليس له ارتباط عضوي ومادي بالوضع الحقيقي للعراق. والمداخلات والخطابات التي طرحت في المؤتمرين الوطنيين، الجمهوري والديموقراطي، هي قصور من رمال سرعان ما انهارت على اثر العواصف اليومية للصراع العسكري الدموي في العراق. وقد عبر عن ذلك بدقة السيناتور جيم كولبي، رئيس لجنة الاعتمادات في الكونغرس الأميركي، حين قال بأن الإدارة أحبطت من فشل مشروعها في تحقيق الديموقراطية الأميركية في العراق، وبأنها باتت تريد أي شكل من الديموقراطية حتى لو كان من الطراز الروماني!! لكن هذا الصراع القبلي بين الخارجية والبنتاغون يسير أيضاً على سكتين، الأولى سياسية والثانية عسكرية. فالبنتاغون منذ اقتناعه، في الشهر 11 من العام الفائت، بأن المقاومة جادة وبأنها متينة ومنتشرة، ابتدأ بأسلوب استعمال السياسة الأمنية الجوية. هكذا بدأ القصف الجوي بكافة أشكاله وفي مختلف المناطق، وقد زاد في هذا القصف حصول عمليات عسكرية مهمة، لم يعلن عنها البنتاغون في بعض الأماكن الصحراوية من العراق وباتجاه قطاعات عسكرية مهمة وذات أهداف استراتيجية بعيدة المدى منها الفرقة الرابعة الميكانيكية التي كانت رابضة ضمن خطة الهجوم على سوريا. وقد أشارت الخبيرة المهمة لورين تومبسون في أوراق معهد <<ليكسينيغستن>> إلى أن الاحتلال يعتقد أن الضربات الجوية تؤدي إلى التدمير العسكري والسياسي والمعنوي لشبكات المقاومة، وهي أيضاً تتضمن شراء الوقت من أجل منح الفرص للقوات العراقية الجديدة والمدربة من قبل الاحتلال كي تتمكن من تحقيق أهدافها البرية في الهجوم على قواعد المقاومة وإبادتها. وهذه العمليات التي حدثت في أماكن مهمة (الفلوجة، النجف، مدينة الصدر، بعقوبة، كركوك، سامراء، بلد، الموصل، تلعفر... إلخ)، كلها تصب في الإطار السياسي التاريخي الذي تسمى شيفرته السياسية عملية <<بناء الأمم>>. وتقول المعلقة تومبسون بأن للإدارة الأميركية في ظل هذه الاحتقانات العسكرية والاختلاطات السياسية خيارا واحدا فقط، البقاء والتقسيم، وكل شيء في حينه يتوضح ويتحقق، مرددة كلام تشرتشل المتهافت بأن الأميركيين يخطئون دائماً وفي النهاية ينجحون بعد تجارب عديدة. أما المنظر المسؤول في كلية الحرب الاميركية ستيفن ميتز فهو مقتنع أيضاً بأن قرار التدمير العسكري عن طريق القصف الجوي يتعدى حدوده العسكرية والسياسية وأنه يصل إلى مداه المرحلي في إعادة بناء الدولة والمجتمع. وهو يؤكد أن الفشل المباشر قمين بالحدوث في حالة من يجعل الوضع الوطني بمثابة الصراع الاجتماعي، ومن يضع الصراع الوطني بمثابة الوضع الاجتماعي. ويقول مثلاً: لقد فشلنا في الفلوجة وخلقنا لواء الفلوجة الخاص الذي استدار عنا والتحق مع المقاومة واضطررنا إلى حله مرة ثاني... ولم يحصل ذلك!!
ويطالعنا بعد ذلك ديفيد بروكس بالمفارقة التاريخية الحالية بخصوص الانسجام من جهة والتناقض الحاد العدائي من الجهة الثانية، بين اتجاهين: الأول الخارجية والثاني البنتاغون. ولن ننسى أن القصف الجوي كان هو العمود المركزي في المعالجة العسكرية في التجربتين. صحيح أن القصف الجوي هو مقاربة عسكرية سهلة بالنسبة للاحتلال وأقل خسارة من الأسلوب المباشر عن طريق المشاة أو الدبابات والدروع، ولكن التأثير النفسي الهائل للقصف لا بد من أن يفسح المجال أمام تغيير سياسي نفسي عميق وباتجاه تهديم البنية التحتية الفكرية التراثية للمواطن، وهي بتزويرهم البنية العقلية للإرهاب، وإعادة بناء بنية ثقافية فوقية جديدة عن طريق الإعلام الرسمي والتكرار الصوتي والتدريس النمطي للديموقراطية وأشكالها في السيارات النقالة والمعاهد الصغيرة الطيارة!! وسَوق المئات من الشباب والنساء إلى مخيمات التعليم القسري ووسائل الإيضاح الصوتية والمرئية الفجة للمعهد الثلاثي الشهير الذي صرف الملايين ضمن عقود لمدة ثلاث سنوات من أجل بناء الديموقراطية. وقد دفع بريمر قبل مغادرته العراق خمسة ملايين دولار إلى رجل الدين فرقد الحسيني في الحلة لإدارة العملية الديموقراطية في الجامع الكبير الذي بني لسُنة الحلة في العهد السابق. هكذا تكون الديموقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان هي أيديولوجية التدخل العسكري والاحتلال والقصف الجوي المركز. وهكذا يتحضر رامسفيلد علاوي لتأسيس ست فرق عسكرية بحلول كانون الثاني 2005 وذلك من أجل اجتياح المدن العاصية والإبادة الشاملة للمقاومة والبؤر المعروفة والمشخصة إضافة إلى العلاج المركزي، القصف الجوي المكثف والشامل. هكذا قال دوغلاس فيث، مسؤول برنامج بناء العراق في البنتاغون، بأنه يجب تحطيم البلد من أجل إنقاذه! وهذا ما كانت تطمح إليه الإدارة في حربها الصاعقة على النجف من أجل تركيعها وتحطيمها قبل انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري. ولكن ما هي الانعكاسات المباشرة لهذا القصف الجوي على صعيد الإنتاج الحيوي للمؤسسات الفكرية في المتربول الأميركي. يمكن التمييز بين اتجاهين واضحين، الأول طرحه فرنسيس فوكوياما والثاني عالجه بيتر غالبريث. الأول غني عن التعريف ويعتبر من المحافظين الجدد الذين ارتدوا عن الخطة العامة التي طرحها هؤلاء، وهو منذ مقالته الشهيرة <<اللحظة التاريخية>> في <<ناشونال أنتريست>> 2004 بمعرض رده على تشارلز كراوتهامر بدأ يشن هجوما مركزا على هذه العصابة مفنداً الأسس الفكرية لبرنامجهم الفاشل داعياً إلى التراجع عنه ورسم سياسة ناجحة ومتفائلة أكثر بدلاً عن عمارتهم المنهارة. ويعتقد فوكوياما أن المسألة الأساسية تكمن في فكرة بناء الأمم نفسها، وأن الولايات المتحدة ليس لها تجربة تاريخية في هذا المضمار وأنها ليست لديها معلومات حقيقية عن العراق، وأنها ضُللت عمداً من قبل العديد من المراكز المهمة الأميركية أو من المتعاونين معها من العراقيين. فقد انخرطت أميركا منذ 1899 باحتلال الفيليبين في 18 مشروعا لبناء الأمم لم تنجح إلا في اليابان وألمانيا، والأسباب معروفة. صحيح أن نقده كان بالأساس على تشارلز كراوتهامر إلا أنه تعدى ذلك إلى بودهوريتز نفسه وهو أهم منظر للمحافظين الجدد، مما استفز الأخير في مطالعته الأخيرة الواسعة حول الحرب الرابعة. لكن فوكوياما الذي حاول اتهام المحافظين الجدد بضيق الأفق وبعدم المعرفة الشمولية يقع في الأخطاء التجريبية المماثلة. ونجده أيضاً مرتبكاً في مناقشة العلاقة العضوية بين مسألة الاستقرار السياسي والاجتماعي ومسألة بناء الديموقراطية ولمن تكون الأولوية. ولأنه أيضاً مضلَّل (أو مضلِّل) بخصوص المشاكل الأثنية (الأكراد) والطائفية (الشيعة) وربط ذلك مع الحالة الاقتصادية وكون هذه الأطراف تجلس على بحيرات من النفط، وبأن المثلث السني فقير وأجدب ومعزول حضارياً، نجده بسذاجة منقطعة النظير يطرح مقايضة سطحية مع السنة من أجل شرائهم بالريع النفطي نسبة إلى تعدادهم السكاني، كي ينضموا سلمياً إلى العملية السياسية الديموقراطية. ومع أنه يجد صعوبة في معالجة المناطق المختلطة، وفي مقدمتها بغداد العاصمة، لكنه يقترح المعادل الموضوعي لهذه المشكلة بالسعي الجاد لخلق كتلة سنية ليبرالية تتعاون مع شيوخ عشائر متجاوبين ومع قيادات دينية معتدلة، وذلك لعزل المقاومة المسلحة وقياداتها القومية والدينية المتطرفة!! أما المسائل العملية التي تواكب الحل العسكري من جهة والمآزق السياسية من الجانب الآخر، فإن الأكاديمي فوكوياما يتقاطع مع عقلية المخطط الدبلوماسي. فهو إذ يعتقد أن المشكلة تكمن في المنظمات السياسية المسلحة، لكنه عملياً حائر في إيجاد المخرج الملائم لها، فكما أنه يفكر بأنه لا يمكن للدولة أن تنهض بوجود الميليشيات المسلحة، كذلك لا يمكنها أن تنهض بدون التعاون ومساندة هذه الميليشيات!! إنها إشكالية الدجاجة البيضة بامتياز!!
ويعلق الكاتب الهندي الأصل، ديليب هيرو، على هذه المشاريع المتعددة بأنها جزء من الأكاذيب التي تتردد في الأروقة الرسمية والتي هي قناع شفاف للأسرار المتواردة في صفوف هذه الإدارة وقياداتها الدموية والحمقاء. فالرويديون (البراغماتيون) الذين يقودهم باول هم أصحاب مشروع مستقبل العراق، ومن ضمنهم الدكتور ليث كبة وهو قيادي سابق في حزب الدعوة، ويمثله في الحكم اياد علاوي. أما المهاجمون، الذين يمثلهم الجلبي، ويقودهم رامسفيلد في البنتاغون، فيدعون الآن معسكر السنة صفر، أي الانطلاق فورا لتنفيذ فكرة بناء الأمم. وهم يعتمدون في دعاويهم على مبررات عملية ميدانية مهمة، منها أنه لا يمكن الثقة بنموذج الفلوجة، إذ لا يوجد فيها سيستاني معتدل يمكن التفاهم معه، ولا يمكن الاطمئنان إلى نموذج النجف، إذ لا توجد فيها هيئة علماء دينية موحدة وشارع متماسك وراءها. هكذا ترسم سيناريوهات الوضع الجغرافي السياسي: تقسيم، كانتونات، حروب أهلية على قاعدة التحليل التي طرحها الخبير الاقتصادي جوزف ستيغليتز، القصف الجوي الوحشي زائد الصدمات الاقتصادية للخصخصة الجديدة. والتقسيمات الإدارية المختلفة لقيادة الوضع الجديد، الذي يقتنع فيه الاعلامي الاميركي جيمس فالوز بأنه يقود عملياً إلى جعل العراق الجديد الولاية 51 من الولايات المتحدة، ذلك المقال الذي ترجمه رضا هلال في <<الأهرام>> المصرية قبل الحرب في 23 كانون الثاني 2003 واختفى بعده نهائيا!! ويمكن الإشارة بدون مجازفة إلى دور القيادات الكردية في تنفيذ المخططات الاحتلالية لا سيما مواقفها الأخيرة في كركوك وتلعفر. ويتميز البارزاني في كونه ينفخ في بوقين في آن واحد: الحرب والتقسيم!! وقاعدتهما التطهير العرقي والتنسيق مع المحور الإسرائيلي. وهذا النفير الذي أعلنه كان متطابقاً مع الحوار الكردي العربي الذي برمجه الداعية الإسرائيلي صلاح بدر الدين وانعقد في أربيل تحت مسمى هولير وبحضور رهط من المثقفين العرب الذين أغدق عليهم البارزاني أوسمة معينة، ومنهم <<المعارض>> نزار نيوف. فالنيوفية كما فضحها أحد الكتاب انتقلت إلى شمال العراق. أما اللازمة الحالية للقصف الجوي الوحشي على سامراء والفلوجة ومدينة الصدر فهي المظاهرات الداعية الى الانفصال الكردي وتثبيت كركوك عاصمة أبدية له.
() سياسي وكاتب عراقي