رسالة الذي جرى في طابا
فهمي هويدي
أرجو أن نؤجل لبعض الوقت محاولة الإجابة عن السؤال <<من فعلها في طابا>>، لكي نفكر ملياً في إجابة السؤال: لماذا؟ ثم إنني أحذر في الوقت ذاته من المبالغات التي أثارت غباراً كثيفاً حول الموضوع، فسلطت الضوء على الجريمة فيه، وصرفت الانتباه عن القضية.
أولى قذائف الغبار أطلقتها إسرائيل، حين أعلنت أن تنظيم <<القاعدة>> وراء العملية. وهو الفخ الذي وقع فيه آخرون، ممن انساقوا وراء ذلك الخيط، ومضوا يقارنون بين ما جرى في طابا وبين الممارسات المنسوبة إلى القاعدة في أماكن أخرى، حتى قال أحدهم إن ثمة تشابهاً في الأسلوب يشير إلى أن الأصابع التي تحرك عمليات العراق هي نفسها وراء الجريمة في طابا، هكذا بمنتهى البساطة.
لست من أنصار تحويل القاعدة إلى وحش هائل له ألف ذراع ممدودة على نحو أسطوري في أنحاء الكرة الأرضية، ومن ثم قادرة على ضرب أي هدف وإشعال أي حريق في أي مكان. وهو تهويل لم تثبت صحته، فضلاً عن أن ثمة شواهد عدة على أنه يمثل مشجباً ومخرجاً مريحاً لأطراف عدة، يسوغ لها أن تقول ما معناه: ماذا نفعل إذا كنا بصدد <<عفريت>> مثل القاعدة قادر على التجلي في كل مكان وفي أي أوان؟
إسرائيل كان موقفها مريباً حين سارعت إلى اتهام تنظيم القاعدة، وتبرئة الفلسطينيين من العملية. وهو أمر غير مألوف. لذلك أزعم أنها أرادت أن تحقق هدفين، أولهما إشاعة أن الفعل قامت به تلك المنظمة الدولية الخطرة، التي أصبحت تشيع الإرهاب في العالم، ومن ثم فلا علاقة لما جرى بممارساتها وجرائمها الوحشية في الأرض المحتلة. أما الهدف الثاني فهو أنها أرادت أن تقنع الولايات المتحدة بأنها مثلها ضحية للارهاب، وأن الذين قاموا بتفجيرات 11 سبتمبر لاحقوا السائحين الإسرائيليين في طابا.
لم تنطل الحملة على السلطات المصرية، فأعلن المتحدث باسم رئاسة الجمهورية (في 8/10) أن اتهام إسرائيل للقاعدة بمثابة <<تقدير متسرع جداً>>. ورغم ذلك التصريح الموزون، فإن بعض التحليلات التي تصدى لها بعض زملائنا في الصحافة المصرية ظلوا أكثر انجذاباً للموقف الإسرائيلي، وبالتالي أكثر ميلاً إلى تسليط الضوء على تنظيم القاعدة، متجاهلين أية عناصر أو عناصر أخرى خارج تلك الدائرة.
قذيفة الغبار الثانية تمثلت في الإشارة إلى ان مصر هي المستهدفة من العملية. ومن أسف أن وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي عبر عن هذه الفكرة في تصريح بثه التلفزيون يوم الجمعة 10/10، حيث قال إن الهدف <<هو دفع مصر لأن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه أشقائها العرب>>. وهي فكرة رددها آخرون من مسؤولي الصحف القومية، فقال أحدهم إن الهدف هو أمن مصر واستقرارها، والتأثير على عمليات الإصلاح والتطوير الجارية فيها. وقرأت لآخر قوله ان هدفهم الاسمى هو ضرب مصر، واستقرار مصر، واعتدالها، وتقطيع شرايينها الاقتصادية.
ذلك بدوره ادعاء لم تثبت صحته، ليس فقط لأن الجماعات المتطرفة التي استهدفت زعزعة استقرار مصر، إما تم القضاء عليها أو انها تراجعت عن هذا المسلك وأدانته في كتابات معلنة، ولكن أيضاً لأن كل ملابسات الحادث تشير إلى أن الإسرائيليين هم المستهدفون، وليس الاقتصاد المصري. ذلك أن الذي رتب عملية بذلك الحجم الكبير والدقيق في طابا، كان بوسعه أن يفعلها في أي مكان آخر بشبه جزيرة سيناء، الحافلة بالمنتجعات المكتظة بالسياح. ولكن اختيار طابا دون غيرها من المنتجعات ليس له إلا تفسير واحد، هو أنها المكان الأثير لدى الإسرائيليين، باعتبار أنه لا يبعد سوى خطوات عن حدود الدولة العبرية، يمكن قطعها مشياً على الأقدام.
اللافت للنظر في هذا الصدد أن منظمي الرحلات السياحية إلى مصر أنفسهم أدركوا هذه الحقيقة، بدليل ما نشر بالأهرام يوم السبت الماضي (10/10) عن أن السياحة المصرية لم تتأثر بما جرى، وأن حجوزات أفواج السائحين لم تلغ، وأن جميع الرحلات المنتظمة والعارضة ظلت كما هي دون أي تغيير، وأنه خلال اليومين الذين أعقبا الحادث، استقبلت مطارات شرم الشيخ والغردقة والأقصر وأسوان وطابا 342 رحلة طيران، أقلت نحو 40 ألف سائح من مختلف الجنسيات.
إذا كان ذلك قد حدث، فلماذا إذن يصر البعض على أن الهدف هو ضرب مصر باستقرارها و<<اعتدالها>> واقتصادها؟ وألا يؤدي الإلحاح على هذه الفكرة إلى صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء الإقدام على التفجيرات التي وقعت؟
يوم الثلاثاء الماضي (5/10) أفرغ أحد ضباط وحدة <<شاكيد>> التابعة لفرقة <<جفعاتي>>، التي تعتبر من أقسى وأشرس وحدات الجيش الإسرائيلي، 20 رصاصة في جسد طفلة فلسطينية تبلغ من العمر 13 عاماً اسمها إيمان الهمص، قرب مركز مراقبة إسرائيل في رفح (قطاع غزة). وحسب ما نشرته صحيفة <<يديعوت احرونوت>> (في 8/10) نقلاً عن جنود شهدوا الواقعة، فإن إيمان كانت عائدة من مدرستها، لا تحمل على كتفها سوى حقيبة دفاترها. وإذ لاحظ الجنود الواقفون في مراكز المراقبة اقتراب جسم متحرك نحوهم من بُعد، فإنهم أبلغوا قيادتهم بذلك، فإن التعليمات صدرت بإطلاق النار نحوه فوراً. كان الجسم قد تقدم بضع خطوات، ولاحظ أحد الجنود أنه ليس سوى فتاة صغيرة، فأبلغ الجميع بذلك، لكن أحد زملائه لم يأبه بما قاله، وأطلق عليها الرصاص فسقطت على الأرض، ولكن أحد ضباط الوحدة لم يكتف بذلك، فتوجه صوب الفتاة وأطلق عليها طلقتين إضافيتين، ثم تراجع خطوتين، وواصل إطلاق النار عليها حتى أفرغ في جسدها الصغير كل ما احتوته خزانة بندقيته الاوتوماتيكية!
يوم الخميس 7/10 تكرر المشهد نفسه مع صبيين من مخيم جباليا بقطاع غزة، هما سليمان ابو فول وابن شقيقته زياد أبو زيد، والاثنان أقل من 14 عاماً. كانا قد خرجا يلعبان سوياً في منطقة نادي شباب جباليا، الذي دمره الجيش الإسرائيلي، لكنهما سمعا صوت إطلاق النار فاحتميا بأحد الجدران. التصقا بالجدار في فزع، ولكن القتلة الإسرائيليين لم يرحموهما، فأطلقوا عليهما قذيفة دبابة حولتهما إلى أشلاء في ثوان. وبعدما نقلت أشلاؤهما إلى مستشفى <<كمال عدوان>> في جباليا، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن عدد الأطفال دون الثامنة عشرة من العمر الذين استشهدوا في قطاع غزة خلال الاسبوع الماضي فقط بلغ 28 صبياً وفتاة، منهم 25 من مخيم جباليا وحده، وهو الأكثر ازدحاماً بالسكان والأكثر عناداً في المقاومة. كما جرح أكثر من 130 طفلاً، منهم 110 من المخيم ذاته.
ليست هذه حوادث استثنائية، ولكنها لقطات دامية من المذبحة المستمرة في غزة منذ عشرة أيام، والتي لا يمكن أن توصف بأقل من أنها حرب إبادة بطيئة.
ثمة طبعة أخرى من المذبحة في العراق، الذي يتساقط أبناؤه بالعشرات يومياً من جراء القصف المكثف الذي يستهدف الفلوجة وكربلاء والرمادي ومدينة الصدر. وهي الأجواء التي تستثمرها الجماعات مجهولة الهوية لكي تضاعف من الترهيب والترويع، من خلال التفجيرات العشوائية التي أصبح المدنيون الأبرياء على رأس قائمة ضحاياها. أحدث ضحايا القصف الأميركي في الفلوجة عشرة أشخاص قتلوا أثناء حضورهم حفلة عرس، كان العريس والعروس من بينهم!
طيلة الأسبوع الماضي كنت خارج مصر، لكنني ظللت طول الوقت أتابع ما يجري في فلسطين والعراق من خلال الفضائيات، التي نقلت صور الدمار وأشلاء الضحايا وآهات الجرحى ودموع الثكالى وصيحاتهم الهستيرية. ولأن البعد يثير حنين المشاهد ويهيج مشاعره بدرجة أكبر، فإن تلك المشاهد تحولت إلى كوابيس مفزعة، سربت إليّ شعوراً إضافياً اختلط فيه الحزن بالغضب.
في تلك الأثناء استفزني أكثر ورفع لدي وتيرة الغضب والنقمة، أنني قرأت ذات صباح أن الأمين العام للأمم المتحدة أصدر قراراً بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في دارفور، ضمت بين أعضائها رجلاً ترأس محكمة جرائم الحرب في رواندا. قرأت أيضاً في يوم لاحق أن مجلس النواب الأميركي أصدر قراراً باعتبار الحاصل في دارفور حملة إبادة، وطالب بمعاقبة المسؤولين ومصادرة أموالهم.
لم أجد أحداً مشغولاً بالحاصل في فلسطين أو العراق، وكأن المذبحة الحاصلة هناك من قبيل الأخبار العادية، التي تقرأ دون أن تلفت الانتباه أو تحرك الضمير. وخطر ببالي للحظة أن يكون هؤلاء الذين يقررون مصائر العالم ويتلاعبون بمقدرات الشعوب، قد اعتبروا أن الفلسطينيين بشر لا يستحقون الحياة لأنهم يرفضون الركوع أمام الاسرائيليين، وأن العراقيين بدورهم غير جديرين بالحياة لأنهم يتحدون الإرادة الاميركية.
لا يعيب ما جرى سوى أمرين، أولهما أنه وقع على أرض مصر، والثاني أن من بين الضحايا بعض المصريين والروس والإنكليز. أما الاسرائيليون فإن ما جرى لهم يتحمل مسؤوليته شارون وأمثاله، ممن بددوا لدينا بسياساتهم أي تعاطف مع الإسرائيليين، وملأوا قلوبنا بالنفور والكراهية لهم، خصوصاً تلك الأغلبية التي صوتت لهم، وجاءت بهم إلى السلطة لافتراس الفلسطينيين والتمثيل بهم. ومن أسف أن معارضيهم أخذوا بجريرة الأغلبية، تماماً كما دفع الشعب الألماني كله ثمن جرائم هتلر وحزبه النازي. أضف إلى ذلك أن الممارسات الاسرائيلية بما اتسمت به من وحشية، جففت الدمع في مآقينا، حتى لم يعد لدينا مزيد من الدمع نذرفه على غير العرب.
لا يسعدنا الذي جرى بطبيعة الحال. رغم أنه قد يشفي بعض ما في صدورنا من غل، لن يقدر له أن يزول إلا إذا توقفت أساليب القهر والإبادة، وسلم الإسرائيليون بأن الفلسطينيين بشر أمثالهم، لهم الحق في الحياة والكرامة. أدري أن تلك مشاعر سلبية وغير صحية، ولكنها جزء من المرارات المفروضة، التي لا سبيل للتخلص منها إلا بعد استئصال مصادرها وأسبابها.
قل ما شئت في وصف ما جرى في طابا، ولكنك لن تستطيع أن تنكر أن ثمة وضعاً متأزماً ومختنقاً لن يستبعد معه أن تتكرر العملية في أي مكان آخر. وهو وضع لا يحتاج إلى جهد تنظيم القاعدة، لأن الممارسات الاسرائيلية تكفلت باستنساخ خلايا ومجموعات عديدة لا علاقة لها بالقاعدة. وحسناً فعلت حركتا حماس والجهاد حين أعلنتا أن ساحة معركتهما ضد إسرائيل لا تتجاوز حدود الدولة العبرية، ولكن ينبغي أن ندرك أن الأجواء الاسرائيلية التي فرخت هاتين المجموعتين، ساءت كثيراً الآن على نحو يهيئ مناخاً مواتياً لتخريج نظراء لهما، ربما أكثر حدة وانفعالاً. ثم لا تنس أن إسرائيل هي التي بادرت بانتهاك جانب من قواعد اللعبة، حين بادرت إلى اغتيال قيادي حماس عز الدين الشيخ خليل في دمشق، الأمر الذي يثير سؤالاً هو: إذا كانت إسرائيل قد فعلتها في دمشق، فلماذا يستغرب أن يرد عليهم في طابا؟
() كاتب مصريش
فهمي هويدي
أرجو أن نؤجل لبعض الوقت محاولة الإجابة عن السؤال <<من فعلها في طابا>>، لكي نفكر ملياً في إجابة السؤال: لماذا؟ ثم إنني أحذر في الوقت ذاته من المبالغات التي أثارت غباراً كثيفاً حول الموضوع، فسلطت الضوء على الجريمة فيه، وصرفت الانتباه عن القضية.
أولى قذائف الغبار أطلقتها إسرائيل، حين أعلنت أن تنظيم <<القاعدة>> وراء العملية. وهو الفخ الذي وقع فيه آخرون، ممن انساقوا وراء ذلك الخيط، ومضوا يقارنون بين ما جرى في طابا وبين الممارسات المنسوبة إلى القاعدة في أماكن أخرى، حتى قال أحدهم إن ثمة تشابهاً في الأسلوب يشير إلى أن الأصابع التي تحرك عمليات العراق هي نفسها وراء الجريمة في طابا، هكذا بمنتهى البساطة.
لست من أنصار تحويل القاعدة إلى وحش هائل له ألف ذراع ممدودة على نحو أسطوري في أنحاء الكرة الأرضية، ومن ثم قادرة على ضرب أي هدف وإشعال أي حريق في أي مكان. وهو تهويل لم تثبت صحته، فضلاً عن أن ثمة شواهد عدة على أنه يمثل مشجباً ومخرجاً مريحاً لأطراف عدة، يسوغ لها أن تقول ما معناه: ماذا نفعل إذا كنا بصدد <<عفريت>> مثل القاعدة قادر على التجلي في كل مكان وفي أي أوان؟
إسرائيل كان موقفها مريباً حين سارعت إلى اتهام تنظيم القاعدة، وتبرئة الفلسطينيين من العملية. وهو أمر غير مألوف. لذلك أزعم أنها أرادت أن تحقق هدفين، أولهما إشاعة أن الفعل قامت به تلك المنظمة الدولية الخطرة، التي أصبحت تشيع الإرهاب في العالم، ومن ثم فلا علاقة لما جرى بممارساتها وجرائمها الوحشية في الأرض المحتلة. أما الهدف الثاني فهو أنها أرادت أن تقنع الولايات المتحدة بأنها مثلها ضحية للارهاب، وأن الذين قاموا بتفجيرات 11 سبتمبر لاحقوا السائحين الإسرائيليين في طابا.
لم تنطل الحملة على السلطات المصرية، فأعلن المتحدث باسم رئاسة الجمهورية (في 8/10) أن اتهام إسرائيل للقاعدة بمثابة <<تقدير متسرع جداً>>. ورغم ذلك التصريح الموزون، فإن بعض التحليلات التي تصدى لها بعض زملائنا في الصحافة المصرية ظلوا أكثر انجذاباً للموقف الإسرائيلي، وبالتالي أكثر ميلاً إلى تسليط الضوء على تنظيم القاعدة، متجاهلين أية عناصر أو عناصر أخرى خارج تلك الدائرة.
قذيفة الغبار الثانية تمثلت في الإشارة إلى ان مصر هي المستهدفة من العملية. ومن أسف أن وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي عبر عن هذه الفكرة في تصريح بثه التلفزيون يوم الجمعة 10/10، حيث قال إن الهدف <<هو دفع مصر لأن تتخلى عن مسؤولياتها تجاه أشقائها العرب>>. وهي فكرة رددها آخرون من مسؤولي الصحف القومية، فقال أحدهم إن الهدف هو أمن مصر واستقرارها، والتأثير على عمليات الإصلاح والتطوير الجارية فيها. وقرأت لآخر قوله ان هدفهم الاسمى هو ضرب مصر، واستقرار مصر، واعتدالها، وتقطيع شرايينها الاقتصادية.
ذلك بدوره ادعاء لم تثبت صحته، ليس فقط لأن الجماعات المتطرفة التي استهدفت زعزعة استقرار مصر، إما تم القضاء عليها أو انها تراجعت عن هذا المسلك وأدانته في كتابات معلنة، ولكن أيضاً لأن كل ملابسات الحادث تشير إلى أن الإسرائيليين هم المستهدفون، وليس الاقتصاد المصري. ذلك أن الذي رتب عملية بذلك الحجم الكبير والدقيق في طابا، كان بوسعه أن يفعلها في أي مكان آخر بشبه جزيرة سيناء، الحافلة بالمنتجعات المكتظة بالسياح. ولكن اختيار طابا دون غيرها من المنتجعات ليس له إلا تفسير واحد، هو أنها المكان الأثير لدى الإسرائيليين، باعتبار أنه لا يبعد سوى خطوات عن حدود الدولة العبرية، يمكن قطعها مشياً على الأقدام.
اللافت للنظر في هذا الصدد أن منظمي الرحلات السياحية إلى مصر أنفسهم أدركوا هذه الحقيقة، بدليل ما نشر بالأهرام يوم السبت الماضي (10/10) عن أن السياحة المصرية لم تتأثر بما جرى، وأن حجوزات أفواج السائحين لم تلغ، وأن جميع الرحلات المنتظمة والعارضة ظلت كما هي دون أي تغيير، وأنه خلال اليومين الذين أعقبا الحادث، استقبلت مطارات شرم الشيخ والغردقة والأقصر وأسوان وطابا 342 رحلة طيران، أقلت نحو 40 ألف سائح من مختلف الجنسيات.
إذا كان ذلك قد حدث، فلماذا إذن يصر البعض على أن الهدف هو ضرب مصر باستقرارها و<<اعتدالها>> واقتصادها؟ وألا يؤدي الإلحاح على هذه الفكرة إلى صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء الإقدام على التفجيرات التي وقعت؟
يوم الثلاثاء الماضي (5/10) أفرغ أحد ضباط وحدة <<شاكيد>> التابعة لفرقة <<جفعاتي>>، التي تعتبر من أقسى وأشرس وحدات الجيش الإسرائيلي، 20 رصاصة في جسد طفلة فلسطينية تبلغ من العمر 13 عاماً اسمها إيمان الهمص، قرب مركز مراقبة إسرائيل في رفح (قطاع غزة). وحسب ما نشرته صحيفة <<يديعوت احرونوت>> (في 8/10) نقلاً عن جنود شهدوا الواقعة، فإن إيمان كانت عائدة من مدرستها، لا تحمل على كتفها سوى حقيبة دفاترها. وإذ لاحظ الجنود الواقفون في مراكز المراقبة اقتراب جسم متحرك نحوهم من بُعد، فإنهم أبلغوا قيادتهم بذلك، فإن التعليمات صدرت بإطلاق النار نحوه فوراً. كان الجسم قد تقدم بضع خطوات، ولاحظ أحد الجنود أنه ليس سوى فتاة صغيرة، فأبلغ الجميع بذلك، لكن أحد زملائه لم يأبه بما قاله، وأطلق عليها الرصاص فسقطت على الأرض، ولكن أحد ضباط الوحدة لم يكتف بذلك، فتوجه صوب الفتاة وأطلق عليها طلقتين إضافيتين، ثم تراجع خطوتين، وواصل إطلاق النار عليها حتى أفرغ في جسدها الصغير كل ما احتوته خزانة بندقيته الاوتوماتيكية!
يوم الخميس 7/10 تكرر المشهد نفسه مع صبيين من مخيم جباليا بقطاع غزة، هما سليمان ابو فول وابن شقيقته زياد أبو زيد، والاثنان أقل من 14 عاماً. كانا قد خرجا يلعبان سوياً في منطقة نادي شباب جباليا، الذي دمره الجيش الإسرائيلي، لكنهما سمعا صوت إطلاق النار فاحتميا بأحد الجدران. التصقا بالجدار في فزع، ولكن القتلة الإسرائيليين لم يرحموهما، فأطلقوا عليهما قذيفة دبابة حولتهما إلى أشلاء في ثوان. وبعدما نقلت أشلاؤهما إلى مستشفى <<كمال عدوان>> في جباليا، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن عدد الأطفال دون الثامنة عشرة من العمر الذين استشهدوا في قطاع غزة خلال الاسبوع الماضي فقط بلغ 28 صبياً وفتاة، منهم 25 من مخيم جباليا وحده، وهو الأكثر ازدحاماً بالسكان والأكثر عناداً في المقاومة. كما جرح أكثر من 130 طفلاً، منهم 110 من المخيم ذاته.
ليست هذه حوادث استثنائية، ولكنها لقطات دامية من المذبحة المستمرة في غزة منذ عشرة أيام، والتي لا يمكن أن توصف بأقل من أنها حرب إبادة بطيئة.
ثمة طبعة أخرى من المذبحة في العراق، الذي يتساقط أبناؤه بالعشرات يومياً من جراء القصف المكثف الذي يستهدف الفلوجة وكربلاء والرمادي ومدينة الصدر. وهي الأجواء التي تستثمرها الجماعات مجهولة الهوية لكي تضاعف من الترهيب والترويع، من خلال التفجيرات العشوائية التي أصبح المدنيون الأبرياء على رأس قائمة ضحاياها. أحدث ضحايا القصف الأميركي في الفلوجة عشرة أشخاص قتلوا أثناء حضورهم حفلة عرس، كان العريس والعروس من بينهم!
طيلة الأسبوع الماضي كنت خارج مصر، لكنني ظللت طول الوقت أتابع ما يجري في فلسطين والعراق من خلال الفضائيات، التي نقلت صور الدمار وأشلاء الضحايا وآهات الجرحى ودموع الثكالى وصيحاتهم الهستيرية. ولأن البعد يثير حنين المشاهد ويهيج مشاعره بدرجة أكبر، فإن تلك المشاهد تحولت إلى كوابيس مفزعة، سربت إليّ شعوراً إضافياً اختلط فيه الحزن بالغضب.
في تلك الأثناء استفزني أكثر ورفع لدي وتيرة الغضب والنقمة، أنني قرأت ذات صباح أن الأمين العام للأمم المتحدة أصدر قراراً بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في دارفور، ضمت بين أعضائها رجلاً ترأس محكمة جرائم الحرب في رواندا. قرأت أيضاً في يوم لاحق أن مجلس النواب الأميركي أصدر قراراً باعتبار الحاصل في دارفور حملة إبادة، وطالب بمعاقبة المسؤولين ومصادرة أموالهم.
لم أجد أحداً مشغولاً بالحاصل في فلسطين أو العراق، وكأن المذبحة الحاصلة هناك من قبيل الأخبار العادية، التي تقرأ دون أن تلفت الانتباه أو تحرك الضمير. وخطر ببالي للحظة أن يكون هؤلاء الذين يقررون مصائر العالم ويتلاعبون بمقدرات الشعوب، قد اعتبروا أن الفلسطينيين بشر لا يستحقون الحياة لأنهم يرفضون الركوع أمام الاسرائيليين، وأن العراقيين بدورهم غير جديرين بالحياة لأنهم يتحدون الإرادة الاميركية.
لا يعيب ما جرى سوى أمرين، أولهما أنه وقع على أرض مصر، والثاني أن من بين الضحايا بعض المصريين والروس والإنكليز. أما الاسرائيليون فإن ما جرى لهم يتحمل مسؤوليته شارون وأمثاله، ممن بددوا لدينا بسياساتهم أي تعاطف مع الإسرائيليين، وملأوا قلوبنا بالنفور والكراهية لهم، خصوصاً تلك الأغلبية التي صوتت لهم، وجاءت بهم إلى السلطة لافتراس الفلسطينيين والتمثيل بهم. ومن أسف أن معارضيهم أخذوا بجريرة الأغلبية، تماماً كما دفع الشعب الألماني كله ثمن جرائم هتلر وحزبه النازي. أضف إلى ذلك أن الممارسات الاسرائيلية بما اتسمت به من وحشية، جففت الدمع في مآقينا، حتى لم يعد لدينا مزيد من الدمع نذرفه على غير العرب.
لا يسعدنا الذي جرى بطبيعة الحال. رغم أنه قد يشفي بعض ما في صدورنا من غل، لن يقدر له أن يزول إلا إذا توقفت أساليب القهر والإبادة، وسلم الإسرائيليون بأن الفلسطينيين بشر أمثالهم، لهم الحق في الحياة والكرامة. أدري أن تلك مشاعر سلبية وغير صحية، ولكنها جزء من المرارات المفروضة، التي لا سبيل للتخلص منها إلا بعد استئصال مصادرها وأسبابها.
قل ما شئت في وصف ما جرى في طابا، ولكنك لن تستطيع أن تنكر أن ثمة وضعاً متأزماً ومختنقاً لن يستبعد معه أن تتكرر العملية في أي مكان آخر. وهو وضع لا يحتاج إلى جهد تنظيم القاعدة، لأن الممارسات الاسرائيلية تكفلت باستنساخ خلايا ومجموعات عديدة لا علاقة لها بالقاعدة. وحسناً فعلت حركتا حماس والجهاد حين أعلنتا أن ساحة معركتهما ضد إسرائيل لا تتجاوز حدود الدولة العبرية، ولكن ينبغي أن ندرك أن الأجواء الاسرائيلية التي فرخت هاتين المجموعتين، ساءت كثيراً الآن على نحو يهيئ مناخاً مواتياً لتخريج نظراء لهما، ربما أكثر حدة وانفعالاً. ثم لا تنس أن إسرائيل هي التي بادرت بانتهاك جانب من قواعد اللعبة، حين بادرت إلى اغتيال قيادي حماس عز الدين الشيخ خليل في دمشق، الأمر الذي يثير سؤالاً هو: إذا كانت إسرائيل قد فعلتها في دمشق، فلماذا يستغرب أن يرد عليهم في طابا؟
() كاتب مصريش