إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي(2)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي(2)

    مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي(2)
    ياسين الحاج صالح




    ننشر اليوم الجزء الثاني والاخير من دراسة ياسين الحاج عن <<مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي>>
    في أوروبا ذاتها، مثلت النازية مشكلة مقلقة في بدايات الثلث الثاني من القرن العشرين بسبب عقيدتها اللاعقلانية ونزعتها الحربوية المتأصلة التي لا تبالي إلا تكتيكياً ووقتياً بقاعدة توازن القوى، وتطيح بإمكانية تكوّن نظام دولي على أساسها. وكذا كانت الشيوعية السوفياتية (كعقيدة وليس كسياسة فعلية)، مشكلة لهذا المذهب السياسي الواقعي في بعض الأوقات، بسبب نزعتها الثورية المضادة للأمر الواقع وتصورها المختلف للتقدم. لكن المشكلة الأكبر ستمثلها حركات التحرر الوطني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم <<التنظيمات الإرهابية>> بعد نهاية الحرب الباردة.
    المشكلة التي تطرحها هذه الأطراف الجديدة والمستجدة أنها أضعف بكثير من أن يلائمها القبول بتوازن القوى كأساس للنظام الدولي، وهي كذلك أضعف بكثير من أن ترى في عقلانية ميزان القوى شيئاً غير إيديولوجية تسوّغ سيطرة محتكري القوة. وقد تفجرت هذه المشكلة بالفعل بعد عقدين أو ثلاثة من نهاية الحرب العالمية الثانية حين تبين أن طريق التقدم ليس متاحاً للجميع، وأن فرص السيادة وحيازة القوة ليست موزعة بالتساوي على جميع الدول. وخلافاً لقراءة غربية مهيمنة، ليست هذه الأطراف قليلة العقلانية لأنها تصدر عن مواريث وثقافات و<<حضارات>> مختلفة عن التراث والثقافة الغربية أو معادية لهما، بل إن عجزها عن الاندماج في النظام الدولي من موقع فاعل هو الذي يجعلها، أو بالأحرى يجعل أطرافاً من مستوى ما دون الدولة فيها، تجد النظام الدولي القائم على توازن القوى غير مقبول وغير عقلاني. وهو بالفعل غير مقبول وغير عقلاني: غير مقبول لأنه يتجاهل ضعف القادمين الجدد في عالم مؤسس على القوة ويعتبر الضعف عاهة وعاراً، وغير عقلاني لأنه يتغافل عن حقيقة ان حاجتهم إلى القوة مطلب حيوي للتوازن العالمي نفسه.
    والمشكلة في الواقع ناجمة عن عدم ملاءمة قاعدة توازن القوى بين الدول لتأسيس النظام العالمي إثر دخول عدد كبير من الفاعلين الجدد نادي الدول السيدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه الدول الجديدة تعيش تناقضاً ممزقاً: فهي مبرمجة بحكم مفهومها كدول سيدة على السعي وراء حيازة القوة ومراكمتها، لكنها ممنوعة بحكم ما سيسمى في زمن الحرب الباردة بالاستقطاب الدولي من امتلاك القوة الذاتية. ففي ظل نظام القطبين ستستخدم هذه الدول لضبط لعبة التوازن على مستوى القمة. ولذلك ستستفيد من تحويلات قوة، على شكل أسلحة وخبراء ودعم دبلوماسي ومساعدات اقتصادية من هذا القطب أو ذاك، بما يحافظ على التوازن بين الجبارين.
    والولايات المتحدة، وليس هؤلاء الفاعلين، هي التي ستتخلى بعد نهاية الحرب الباردة عن قاعدة التوازن، وذلك عبر التحول الامبراطوري (احتكار القوة والشرعية) وتبني سياسات نشطة لمنع تبلور أقطاب قوة جدد ولمعاقبة من لا ينضبط بالشريعة الامبراطورية. كانت السياسة الأميركية (والغربية) متناقضة على الأقل: فهي مؤسسة على القوة، لكنها لا تتيح للدول الضعيفة فرصة أن تنمي قواها وتعدل الميزان شيئاً فشيئاً. بمعنى آخر، إن عقلانيتها في التعامل مع الدول الجديدة منقوصة أو هي عقلانية محافظة. فهي تقبل بمتغير القوة مقياساً لتفاوت مواقع الدول في النظام الدولي، لكنها تستغل قوتها بأشكال متنوعة لإبقاء بعض الدول ضعيفة. إنها بعبارة أخرى تجمد الدينامية الدولية بما يبقيها في موقع امتيازي ويغلق آفاق تقدم دول أخرى.
    وهكذا لم تعد ثمة عقلانية مرجعية يمكن للأطراف أن تتفاهم وتتفاوض على أرضيتها وتستند إليها في شرح مطالبها وهواجسها.
    قواعد مضادة!
    ما البديل عن مذهب توازن القوى الذي تفجر في نهاية الحرب العالمية الثانية وحل محله توازن الرعب على مستوى القمة الدولية؟ ولدت نهاية الحرب الباردة مذهباً، وولد 11 ايلول مذهباً آخر: نظرية <<صراع الحضارات>> ومذهب الضربات الاستباقية. وكلا المذهبين أميركي، الأمر الذي ربما يقول لنا شيئا، لا عمن يهيكل العالم فقط بل من يقترح نماذج لتفسيره أيضا.
    بيد أن هذين المذهبين، كما سنرى للتو، يمثلان رفضاً تحكمياً لأية قاعدة أكثر مما هما محاولات للبحث عن قواعد جديدة. لكن بينما يتيح رفض القانون أن تديم الولايات المتحدة أسبقيتها غير المقيدة في مجال القوة، فإن هذا الرفض ذاته يحت القدرة القيادية للدولة الأعظم. فالقيادة قوة وشرعية، أو سلطة و<<دستور>>، وإلا لكان كل طاغية قائداً لشعبه.
    لا تصلح نظرية هنتنغتون قاعدة للنظام الدولي. فنظرية <<صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي>> (وهو العنوان الكامل لكتاب هنتنغتون) تدخل عاملا غير عقلاني وغير قابل للتعميم، هو <<الحضارة>>، وهو عامل يجعل <<الصدام>> أساساً للنظام الدولي من جهة، ويرتب الصدام ترتيباً محتوماً على اختلاف الحضارات من جهة أخرى، لكنه لا يفسر لنا لماذا العلاقة بين بعض الحضارات أشد عدائية من بعضها الآخر. أما مذهب الضربات الاستباقية فينفض اليد مقدماً من أية مسؤولية عن لا عقلانية العدو، ويكتفي بإبادة <<الإرهابيين>>. بل إن هذا المذهب يجعل لاعقلانية العدو خصيصة ذاتية له يحملها معه أينما ذهب، إنها علة ذاتها. وبدلا من محاولة تفسير هذه اللاعقلانية يكتفي بوصف العدو بأنه شرير، وربما يشتق شره من <<حضارته>>. وتشكل الأخلاقوية (مبدأ <<الوضوح الأخلاقي>> الخاص بالرئيس بوش) أرضية لتشريع مذهب الضربات الاستباقية، بقدر ما هي بحد ذاتها <<ضربة استباقية>> ضد أي تحليل عقلاني للإرهاب والعنف السياسي.
    على أن المحدد الأساسي لمذهب الضربات الاستباقية هو، في تقديرنا، التأثير المفسد لفائض القوة غير المسبوق الذي تتمتع به الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. فالقوة تصنع مذاهبها وعقلانيتها وأخلاقيتها. والقوة التي لا تقف بوجهها قوة أو قوى موازنة تنمو نمواً سرطانياً قد يقضي في النهاية على صاحبها نفسه. (هل هذا رجم بالغيب؟ ربما. لكن ليس ثقل الحاضر ومجد المنتصرين أفضل من ينبغي استشارته لتقدير اتجاهات عالم اليوم).
    كان لمبدأ توازن القوة على الصعيد الدولي والمنظمات الدولية المتعددة الأطراف التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية مفعولاً مقارباً لمبدأ انفصال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية من حيث الحد من توسع السلطة وتركيزها، وضمان الحقوق الليبرالية للأفراد، وصولا إلى ديموقراطيات دولة الرفاه في النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب. من المفهوم، لذلك، أن اختلال التوازن الدولي أفضى إلى سلطة عالمية تنزع نحو الدكتاتورية حتى في تعاملها مع حلفائها، ونحو تطبيع الضربات الوقائية حيال أي خصوم محتملين.
    ولعل ما يؤكد أن مذهب الضربات الاستباقية يدين لحالة اختلال التوازن الجذرية في النظام هو أننا نجدها كممارسة لا كنظرية ومذهب في غير منطقة وفي غير مرحلة الحرب الباردة، وبالخصوص في <<الشرق الأوسط>>. فقد اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها ممارسة الضربات الاستباقية لإجهاض أي خطر عربي مقدر، سواء كانت حوامله دولا أو منظمات أو أفراداً (علماء فيزياء نووية مثلا). وهي تستند في ذلك إلى قوتها المتفوقة بالطبع، لكن كذلك إلى اعتبار عدم الاعتراف العربي بها ثم باحتلالها أراضي عام 1967 شيئاً غير عقلاني بل مستحيلا.
    واعتمدت المبدأ نفسه جميع الدول العربية في تعاملها مع خصومها السياسيين في الداخل، وأحيانا في الخارج. وكما وجهت إسرائيل ضربة استباقية إلى المفاعل النووي العراقي عام 1981 (كمثال واحد بين عشرات)، كان نظام صدام حسين (كمثال بين عشرات أيضا) يسدد ضرباته الاستباقية إلى خصومه السياسيين في العراق وخارج العراق. وتصدر هذه السياسة هنا أيضا عن فارق القوة المطلق بين الطرفين كما عن اعتبار أنظمتنا الحاكمة أن أي اعتراض عليها هو خروج على العقل والمنطق معا. ومن الطريف المأساوي أن المعتقلين السياسيين يسمون في بعض الدول العربية <<موقوفين احترازيين>>، رغم أنهم يمكن أن يقضوا عقداً أو عقوداً من السنين في السجن، لا مجرد أيام.
    الخلاصة أن مذهب الضربات الاستباقية يؤسس للسلطة التحكمية وغير الشرعية، سواء على الصعيد العالمي أو الإقليمي أو المحلي.
    ولعل عبارة الضربات الاستباقية بحد ذاتها تعطي فكرة دقيقة عن النظام العالمي اليوم. فالحديث عن ضربات (استباقية) يوجهها طرف محدد، لا عن حرب (استباقية) بين طرفين، لا يضمر غياب التوازن بين الطرفين فقط بل غياب الطرف الآخر ذاته. وما يغيب بغياب الطرف الآخر هو الطرف الأول: فهو يكف عن كونه طرفاً ليصبح هو الحكم والسلطة الشرعية. هذا هو معنى الامبراطورية. والامبراطوريات وحدها هي التي توجه الضربات الاستباقية. ومن يحدد أن الاستباق ضروري أو واجب؟ إنه بالطبع القوي القادر على الضرب. هذا يمنح القوي العقل والعدل معاً، ويضع الشرعية والسلطة في يد واحدة. وليس هناك، في ما نعلم، تعريف للدكتاتورية يتفوق على توحيد ومركزة السلطة والشرعية في اليد ذاتها.
    إن عصراً من التحكم والعسف ينسبط أمام عالم مطلع القرن الحادي والعشرين.
    نافذة للطوبى
    ما نريده ختاماً هو أن القوة لم تعد تصلح أساساً لتوازن النظام الدولي. فحيث القوة ثمة الامبراطورية واللاتوازن بالضرورة، وحيث التوازن ثمة عالم ما بعد القوة. بعبارة أخرى، فات وقت تأسيس التوازن على القوة. وهو ما يعني الحاجة إلى مفهوم جديد للتوازن يتسع للتعدد والوحدة العالمية في الوقت نفسه: لتعدد لا ينزلق إلى الفوضى، ولوحدة لا تنزلق نحو الطغيان الامبراطوري. هذا هو الأفق الذي تقمع استكشافه عقيدة القوة والتفوق الامبراطوري.
    لعل الأمر الأكثر إلحاحاً على الصعيد الفكري إعادة ترتيب العلاقة بين مفاهيم القوة (السلطة) والعقلانية والشرعية. وبالخصوص تأسيس الشراكة العالمية على شرعية لا تنفي العدالة وليس على عقلانية شكلية وأداتية. العالم مكون من أطراف فاعلة ومتفاعلة، من ذوات مقابل ذوات، وليس من ذوات ومواضيع أو أدوات. ولا ينبغي لتقادم مفهوم السيادة، التعبير السياسي عن تكافؤ <<ذوات>> العالم، أن يحرر العلاقة بين الذوات من أي شكل من أشكال التكافؤ. إنه دافع، بالأحرى، للسعي وراء تعاقد عالمي جديد وعدالة عالمية جديدة.لقد دفع انفصال العقلانية عن الشرعية نحو فهم أداتي للعقلانية، أي إلى تسخير العقلانية لخدمة القوة أو السلطة. وبالمقابل دفع حلم القوة إلى طرد الطوبى من آفاق التفكير والسياسة كأنها روح شريرة.
    لكن <<حين تجف الواحات الطوباوية، تنتشر صحراء من التفاهة والحيرة>> في الوعي والاجتماع الإنساني كما يقول هابرماس عن حق. وهناك ما هو أسوأ أيضا: فطرد الطوبى لم يقد إلى العقلانية بل إلى احتلال تحكم الأقوياء وأصوليات من كل الأنواع نوافذ العالم.
    لقد انتقل نظام القوة بمنطقه الذاتي من التوازن الأوليغارشي إلى التحكم الامبراطوري. إن رؤية لعهد من الديموقراطية العالمية هي وحدها التي يمكن أن تمنح للعالم أفقا ولإرادة الحرية فرصة جديدة.
    () كاتب سوري
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 07:21 AM
ردود 2
13 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ibrahim aly awaly
بواسطة ibrahim aly awaly
 
أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, 02-05-2025, 09:44 PM
استجابة 1
12 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ibrahim aly awaly
بواسطة ibrahim aly awaly
 
يعمل...
X