إطلالة على إيران
فهمي هويدي
لا يغرنك الثلج الذي يغطي إيران هذه الأيام، فتحت ملاءته البيضاء ركام من التفاعلات التي تتراوح بين الصخب والسخونة والدفء والحيوية. وقد تستغرب اذا علمت أن الصخب والسخونة مصدرهما حالة الحيرة والبلبلة في الداخل، أما الدفء والحبور فراجعان إلى الحاصل خارج الحدود، خصوصا في العراق.
هذا الانطباع فاجأني شخصيا. اذ حين ذهبت إلى طهران كانت أخبار الاستعدادات الأميركية للقيام بعمل عسكري ضد إيران قد احتلت مكانها في صدارة الصحف العالمية، خصوصا بعدما نشرت مجلة <<نيويوركر>> في 16/1 الماضي تقرير محررها <<سيمون هيرش>> عن عمليات تجسس أميركية استمرت طيلة الصيف الماضي، لمراقبة الأنشطة النووية في أكثر من 30 موقعاً، تحسباً وتمهيداً للعمليات العسكرية المحتملة. ليس ذلك فحسب وإنما كان معي تقرير مجلة <<اتلانتيك>> الذي نشرته في وقت سابق، في الأسبوع الأول من شهر كانون الاول الماضي (2004) وعرضت فيه بتفصيل مثير سيناريو الغزو كما نوقش في جلسة <<محاكاة>> لمجلس الأمن القومي الأميركي. وحضره عدد من الجنرالات المخضرمين والمسؤولين رفيعي المستوى كممثلين لمختلف الجهات المعنية بقرار الحرب.
كان تقرير هيرش في <<نيويوركر>> عن ترتيبات استطلاعية تمت. أما تقرير <<اتلانتيك>> فقد فصل في ما ينبغي أن يتم. فقد تحدث عن <<سيناريو>> يستهدف ضرب إيران على ثلاث مراحل. في الأولى يتم قصف معسكرات الحرس الثوري، الذي قالت الاستخبارات انها تعرف مواقعهم، وتعتقد أن القضاء عليهم لن يستغرق سوى يوم واحد. المرحلة الثانية تحدثت عن ضرب المفاعلات النووية التي تشمل 300 موقع منها 125 موقعاً ادعوا أن لها صلة بالأسلحة النووية والكيمائية والجرثومية. أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في إرسال قوات من منطقة الخليج والعراق واذربيحان وجورجيا وأفغانستان، لتحويل أنظار الايرانيين وتطويقهم، ثم الزحف نحو العاصمة طهران، التي قدروا أنه يستغرق أسبوعين. ولا تتضمن الخطة دخول طهران، غير انها تتحدث عن تعيين حكومة <<صديقة>> على غرار ما جرى في أفغانستان والعراق.
حذر السيناريو من أن ايران اذا ما استشعرت الخطر، فإنها قد تستبق خطة غزوها بضرب القوات الأميركية في الخليج، وفتح جبهة شيعية داخل العراق ضد القوات الأميركية هناك. ومما يلفت الانتباه في وقائع الاجتماع أن مناقشة جرت حول قيام اسرائيل بضرب المفاعلات الايرانية (في تكرار لما حدث مع العراق قبل 20 عاما). ولكن مندوب وزراة الخارجية ذكر أن اسرائيل تضغط بشدة لتدمير المفاعلات الايرانية، لكنها تفضل أن يقوم الأميركيون بهذه المهمة. لكن أهم ما في الاجتماع، حسبما ذكرت >>اتلانتيك>> أن المشاركين فيه انتهوا، بعد تقليب مختلف وجهات النظر، الى توجيه توصية إلى الرئيس بوش بعدم غزو إيران في ظل الاوضاع الراهنة.
استوقفني في أسماء المشاركين بجلسة المحاكاة أن الذي مثل مستشار بوش للأمن القومي هو الكولونيل المتقاعد سام غاردنر، الذي وضع قبل عشرين عاما سيناريو لغزو العراق، استفاد منه الجنرال تومي فرانكس، قائد القوات التي غزت العراق مؤخراً. كما مثل مدير المخابرات المركزية ديفيد كاي مدير فريق الأمم المتحدة للبحث عن أسلحة العراق النووية. أما الذي مثل وزير الخارجية فقد كان كينيث بولاك خبير الشؤون الايرانية بمعهد <<بروكنغز>> في واشنطن، الذي أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان <<الأحجية الفارسية>>، كانت الفكرة الاساسية فيه هي أن ساعة الصفر لتغيير النظام الايراني تقترب باطرد.
هذه المعلومات التي قد يكون لدى السلطات الايرانية أكثر منها، وحدها كافية لإشاعة قدر كاف في التوتر والقلق في طهران، وحين تحريت الأمر، وتحدثت مع بعض وثيقي الصلة بدوائر تلقى تلك الاشارات، قيل لي ان طهران استقبلت هذا الكلام >>باهتمام>> لكنها لا تستشعر إزاءه توتراً أو قلقاً. أدهشتني الاجابة فأوضحوا الأمر على النحو التالي:
أن طهران لا تستبعد محاولات التجسس والاستطلاع التي أشار اليها تقرير مجلة <<نيويوركر>>. وترجح أن تكون تلك المحاولات قد تمت من خلال وفود رجال الاعمال التي تتردد على ايران، أو من خلال بعض الايرانيين من عناصر منظمة مجاهدي خلق.
أن طهران على علم بأمرين: أولهما ان اسرائيل تلح منذ سنوات في ضرب المفاعلات النووية الايرانية، متصورة أن ايران أصبحت التحدي الأكبر الذي يواجهها، بعد تدمير العراق وتكبيل النشاط النووي في باكستان. الأمر الثاني أن ثمة تياراً قوياً بين المحافظين الجدد النافذين في الادارة الاميركية يؤيدون ذلك الاتجاه، ويرونه خطوة ضرورية لبسط الهيمنة الاميركية في المنطقة فضلا عن أهميته لما يسمى بأمن إسرائيل.
ان بعض عناصر المعارضة الايرانية المقيمين في الولايات المتحدة والمدعومة من ابن الشاه السابق، تحاول القيام بذات الدور الذي أدته المعارضة العراقية التي أسهمت في تحريض واشنطن على غزو العراق، وقدمت لها المعلومات التي تساعدها على ذلك، وكانت قوام الحكومة <<الصديقة>> التي نصبت في بغداد.
ان طهران مقتنعة بأن الحكومة الأميركية لن تقدم على عمل عسكري ضد ايران طالما لم تستقر الاوضاع لها في العراق على الاقل. وإلى أن يتحقق لها ذلك فإن واشنطن ستواصل عمليات لي الذراع والترهيب والتخويف، فضلا عن الضغوط السياسية التي تستخدم ورقة <<الملف النووي>>، وذلك هو الحاصل الآن.
في كل الأحوال فإن طهران مدركة أن الولايات المتحدة ستظل حريصة على <<تسكين>> الوضع في ايران، طالما كانت لها قوات أو مصالح في العراق. وهو حرص متبادل، لان القيادة الايرانية حريصة بدورها على <<طمأنة>> الأميركيين الذين أصبحوا <<جيراننا>> في العراق ولو بشكل مؤقت، حيث لا مصلحة لأي من الطرفين في استفزاز الآخر، حتى ينجلي الأمر، ويحدد الشعب العراقي اختياره النهائي.
هذه النقطة الأخيرة كانت خيطاً حاولت من خلاله تتبع حقيقة الموقف الايراني من الحاصل في العراق، خصوصا أن ثمة أجنحة في بغداد ما برحت تنتقد التدخل الايراني، بالتصريح حيناً والتلميح في أحيان كثيرة.
حين ناقشت أحد الباحثين الاستراتيجيين في الموضوع، قال ان ايران رغم ثأرها وخصومتها للرئيس صدام حسين، فإنها كانت تتمنى إضعافه فقط لا إسقاط نظامه. لان الاضعاف كان من شأنه أن يقلل من ميوله العدوانية ضد طهران، وأن يحقق للشيعة ما يريدون منه. ومن الاسرار التي لم تعرف في ذلك الصدد ان ايران لم تكن مؤيدة لانتفاضة شيعة الجنوب ضد الرئيس صدام حسين، التي أعقبت هزيمته وانسحابه من الكويت في عام 91. وانما كانت نصيحة الشيخ هاشمي رفسنجاني، أهم لاعب في الساحة السياسية الايرانية، ان يتفاهم معه الشيعة العراقيون في ضعفه آنذاك، لا أن يثوروا عليه. ولكنهم استجابوا للتشجيع والتحريض الاميركيين وقاموا بانتفاضتهم، وتخلى عنهم الاميركيون فاستأسد عليهم صدام حسين وسحقهم.
من ناحية اخرى أضاف محدثي فمن وجهة نظر المصلحة الايرانية البحتة، فإن النظام العراقي السابق كان يمثل ساتراً أو حاجزاً بين ايران واسرائيل، التي اعتبرت بغداد وطهران خصمين لدودين وعدوين خطرين، وان اختلفت الاسباب بالنسبة لكل منهما. لكن الموقف تغير بصورة جذرية بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث انكشفت الجبهة الايرانية، وأصبحت هدفاً مباشراً لإسرائيل، التي تقف وراء كل الضجيج المثار حول الملف النووي، والادعاء بأن ايران ستملك قنبلة نووية خلال سنتين أو ثلاث. وهذا الموقف المستجد أفرز وضعاً استراتيجياً مغايراً، كان من الضروري أن تتحسب له ايران.
سألت عن الحقيقة في التدخل الايراني في العراق فقيل لي بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما يلي:
ان ثمة واقعاً تاريخياً ومذهبياً وسكانياً فرض تداخلاً بين الشعبين لا يمكن تجاهله. ولسبب ذلك الواقع الناشئ عن الجوار الجغرافي، وظروف الحكم العثماني، وأخيراً ضغوط النظام البعثي السابق، فإن بعض العوائل لها أبناء يعيشون على الجانبين ويتوزعون على جنسيتي البلدين. كما ان هناك مسؤولين إيرانيين ولدوا وعاشوا في العراق (منهم رئيس السلطة القضائية آية الله هاشمي شهروردي)، وهناك مسؤولون عراقيون لهم أصولهم الايرانية (آل الحكيم الذين أسسوا المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بالعراق، ويمثلهم السيد عبد العزيز الحكيم الآن، ينحدرون من أسرة جاءت الى العراق من أصفهان).
ان العراق يعد من الناحية الاستراتيجية أهم جار لإيران (الحدود بين البلدين بطول 630 كيلومتراً). بالتالي فإن طهران لا يمكن أن تغمض أعينها عما يجري في داخله، خصوصاً في وجود القوات الاميركية، التي هي ليست <<صديقة>> بأي معيار، فضلاً عن ان الكل يعلم ان واشنطن لا تضمر ولا تتمنى خيراً لإيران. ولذلك فمن الطبيعي أن تتصرف طهران في ظل هذه الظروف بما يؤمن نظامها ويحمي مصالحها. وهو الموقف الذي تلتزم به كل دولة إزاء أي خطر محتمل يقف بباها ووراء حدودها.
في جلسة مصارحة، مع بعض القريبين من المطبخ السياسي الايراني، علمت انه بعد الاحتلال الاميركي للعراق، شكل الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص المصلحة فريقاً لإدارة الازمة العراقية، ومتابعة خيوط المشهد وراء الحدود. وقال أكثر من واحد ان طهران هي أكثر الرابحين من الحاصل في العراق، وإن حاولت أن تخفي سعادتها وارتياحها لما يجري هناك. وحين قلت ان ايران أصبحت الآن محاصرة ومهددة من جانب الاميركيين، علق أحد الجالسين قائلاً ان الملاحظة أبديت أمام الشيخ رفسنجاني ذات مرة، فابتسم وقال: ترى من يحاصر من، نحن ام هم؟ وذكرني أحدهم بأن رياح السياسة الدولية مواتية لإيران الآن، بأكثر مما كانت عليه قبل عشر سنوات مثلاً. فأوروبا التي تجاهلتها واشنطن وقللت من شأنها قبل الغزو وأثناءه، أصبحت أكثر جرأة الآن في عدم الانصياع للسياسة الاميركية، خصوصاً بعد فشلها في العراق. ثم ان روسيا التي أدركت ان واشنطن تكيد لها وتعبث في حياضها (كما حدث في أوكرانيا وجورجيا)، أصبحت الآن أقرب الى ايران، على نحو يكاد يستعيد حرارة العلاقات التي قامت في الثمانينيات بين طهران وموسكو.
في جرد الموقف بعد الغزو قالوا ان ايران ربحت حتى الآن ست جوائز، تتحفظ عليها ولا تريد الاعلان عنها هي:
انها تخلصت من نظام صدام حسين الذي ناصبها العداء منذ قامت الثورة، واستنفد في حرب السنوات الثماني طاقاتها البشرية والعسكرية، وظل بعد زوال تهديده مصدر إزعاج لها.
انها أصبحت مطمئنة في ظل تزايد الثقل الشيعي وفاعلية الدور الكردي في إدارة العراق، الى ان أي حكومة منتخبة في بغداد ستكون صديقة لإيران، وفي أسوأ أحوالهم فلن تكون معادية لها. حيث المعروف ان طهران تحتفظ طيلة ربع القرن الاخير على الاقل بعلاقات وطيدة مع القيادات الشيعية والكردية العراقية.
ان وجود الاحتلال الاميركي في العراق، الذي ترى طهران انه سيستمر لبعض الوقت، سيحفظ لإيران مكانتها كقبلة للشيعة. وكان البعض قد تساءلوا بعد سقوط نظام بغداد عما اذا كانت حوزة النجف الاشرف، المقامة حول ضريح الامام علي، سوف تسترد مكانتها التقليدية والتاريخية التي كانت قد انحسرت لصالح مدينة <<قم>> بسبب ضغوط النظام البعثي، إلا ان ذلك التساؤل لم يعد مثاراً الآن. اذ تشير دلائل عدة الى انه يجري الآن إلحاق حوزة النجف ذاتها بحوزة قم. وقد تقاطر علماء قم على مدينة النجف بعد سقوط النظام السابق ولا يزالون لتحقيق هذه المهمة.
ان طهران لم تعد تتخوف كثيراً من التهديد الاميركي، الذي عمل على تطويقها بالقواعد العسكرية التي زرعت في دول وسط آسيا، منذ احتلال أفغانستان في عام 2001. ذلك ان وجود 150 الف جندي أميركي في العراق من شأنه أن يجعل ذلك العدد الضخم من القوات في متناول الايرانيين اذا ما حدث أي تهديد. حتى ان أحدهم قال ان هؤلاء الجنود سيصبحون <<رهائن>> لدى الايرانيين في هذه الحالة. والذي لا شك فيه ان ايران تحسبت لذلك الاحتمال. وأغلب الظن ان المسؤولين العراقيين الذين تحدثوا عن التدخل الايراني في العراق، كانوا يقصدون الاشارة الى الأعداد الكبيرة من ذوي الاصول المختلطة التي عبرت الحدود الى العراق، و<<كمنت>> فيها لمواجهة أي موقف يزعج ايران مستقبلاً.
() كاتب مصري
فهمي هويدي
لا يغرنك الثلج الذي يغطي إيران هذه الأيام، فتحت ملاءته البيضاء ركام من التفاعلات التي تتراوح بين الصخب والسخونة والدفء والحيوية. وقد تستغرب اذا علمت أن الصخب والسخونة مصدرهما حالة الحيرة والبلبلة في الداخل، أما الدفء والحبور فراجعان إلى الحاصل خارج الحدود، خصوصا في العراق.
هذا الانطباع فاجأني شخصيا. اذ حين ذهبت إلى طهران كانت أخبار الاستعدادات الأميركية للقيام بعمل عسكري ضد إيران قد احتلت مكانها في صدارة الصحف العالمية، خصوصا بعدما نشرت مجلة <<نيويوركر>> في 16/1 الماضي تقرير محررها <<سيمون هيرش>> عن عمليات تجسس أميركية استمرت طيلة الصيف الماضي، لمراقبة الأنشطة النووية في أكثر من 30 موقعاً، تحسباً وتمهيداً للعمليات العسكرية المحتملة. ليس ذلك فحسب وإنما كان معي تقرير مجلة <<اتلانتيك>> الذي نشرته في وقت سابق، في الأسبوع الأول من شهر كانون الاول الماضي (2004) وعرضت فيه بتفصيل مثير سيناريو الغزو كما نوقش في جلسة <<محاكاة>> لمجلس الأمن القومي الأميركي. وحضره عدد من الجنرالات المخضرمين والمسؤولين رفيعي المستوى كممثلين لمختلف الجهات المعنية بقرار الحرب.
كان تقرير هيرش في <<نيويوركر>> عن ترتيبات استطلاعية تمت. أما تقرير <<اتلانتيك>> فقد فصل في ما ينبغي أن يتم. فقد تحدث عن <<سيناريو>> يستهدف ضرب إيران على ثلاث مراحل. في الأولى يتم قصف معسكرات الحرس الثوري، الذي قالت الاستخبارات انها تعرف مواقعهم، وتعتقد أن القضاء عليهم لن يستغرق سوى يوم واحد. المرحلة الثانية تحدثت عن ضرب المفاعلات النووية التي تشمل 300 موقع منها 125 موقعاً ادعوا أن لها صلة بالأسلحة النووية والكيمائية والجرثومية. أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في إرسال قوات من منطقة الخليج والعراق واذربيحان وجورجيا وأفغانستان، لتحويل أنظار الايرانيين وتطويقهم، ثم الزحف نحو العاصمة طهران، التي قدروا أنه يستغرق أسبوعين. ولا تتضمن الخطة دخول طهران، غير انها تتحدث عن تعيين حكومة <<صديقة>> على غرار ما جرى في أفغانستان والعراق.
حذر السيناريو من أن ايران اذا ما استشعرت الخطر، فإنها قد تستبق خطة غزوها بضرب القوات الأميركية في الخليج، وفتح جبهة شيعية داخل العراق ضد القوات الأميركية هناك. ومما يلفت الانتباه في وقائع الاجتماع أن مناقشة جرت حول قيام اسرائيل بضرب المفاعلات الايرانية (في تكرار لما حدث مع العراق قبل 20 عاما). ولكن مندوب وزراة الخارجية ذكر أن اسرائيل تضغط بشدة لتدمير المفاعلات الايرانية، لكنها تفضل أن يقوم الأميركيون بهذه المهمة. لكن أهم ما في الاجتماع، حسبما ذكرت >>اتلانتيك>> أن المشاركين فيه انتهوا، بعد تقليب مختلف وجهات النظر، الى توجيه توصية إلى الرئيس بوش بعدم غزو إيران في ظل الاوضاع الراهنة.
استوقفني في أسماء المشاركين بجلسة المحاكاة أن الذي مثل مستشار بوش للأمن القومي هو الكولونيل المتقاعد سام غاردنر، الذي وضع قبل عشرين عاما سيناريو لغزو العراق، استفاد منه الجنرال تومي فرانكس، قائد القوات التي غزت العراق مؤخراً. كما مثل مدير المخابرات المركزية ديفيد كاي مدير فريق الأمم المتحدة للبحث عن أسلحة العراق النووية. أما الذي مثل وزير الخارجية فقد كان كينيث بولاك خبير الشؤون الايرانية بمعهد <<بروكنغز>> في واشنطن، الذي أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان <<الأحجية الفارسية>>، كانت الفكرة الاساسية فيه هي أن ساعة الصفر لتغيير النظام الايراني تقترب باطرد.
هذه المعلومات التي قد يكون لدى السلطات الايرانية أكثر منها، وحدها كافية لإشاعة قدر كاف في التوتر والقلق في طهران، وحين تحريت الأمر، وتحدثت مع بعض وثيقي الصلة بدوائر تلقى تلك الاشارات، قيل لي ان طهران استقبلت هذا الكلام >>باهتمام>> لكنها لا تستشعر إزاءه توتراً أو قلقاً. أدهشتني الاجابة فأوضحوا الأمر على النحو التالي:
أن طهران لا تستبعد محاولات التجسس والاستطلاع التي أشار اليها تقرير مجلة <<نيويوركر>>. وترجح أن تكون تلك المحاولات قد تمت من خلال وفود رجال الاعمال التي تتردد على ايران، أو من خلال بعض الايرانيين من عناصر منظمة مجاهدي خلق.
أن طهران على علم بأمرين: أولهما ان اسرائيل تلح منذ سنوات في ضرب المفاعلات النووية الايرانية، متصورة أن ايران أصبحت التحدي الأكبر الذي يواجهها، بعد تدمير العراق وتكبيل النشاط النووي في باكستان. الأمر الثاني أن ثمة تياراً قوياً بين المحافظين الجدد النافذين في الادارة الاميركية يؤيدون ذلك الاتجاه، ويرونه خطوة ضرورية لبسط الهيمنة الاميركية في المنطقة فضلا عن أهميته لما يسمى بأمن إسرائيل.
ان بعض عناصر المعارضة الايرانية المقيمين في الولايات المتحدة والمدعومة من ابن الشاه السابق، تحاول القيام بذات الدور الذي أدته المعارضة العراقية التي أسهمت في تحريض واشنطن على غزو العراق، وقدمت لها المعلومات التي تساعدها على ذلك، وكانت قوام الحكومة <<الصديقة>> التي نصبت في بغداد.
ان طهران مقتنعة بأن الحكومة الأميركية لن تقدم على عمل عسكري ضد ايران طالما لم تستقر الاوضاع لها في العراق على الاقل. وإلى أن يتحقق لها ذلك فإن واشنطن ستواصل عمليات لي الذراع والترهيب والتخويف، فضلا عن الضغوط السياسية التي تستخدم ورقة <<الملف النووي>>، وذلك هو الحاصل الآن.
في كل الأحوال فإن طهران مدركة أن الولايات المتحدة ستظل حريصة على <<تسكين>> الوضع في ايران، طالما كانت لها قوات أو مصالح في العراق. وهو حرص متبادل، لان القيادة الايرانية حريصة بدورها على <<طمأنة>> الأميركيين الذين أصبحوا <<جيراننا>> في العراق ولو بشكل مؤقت، حيث لا مصلحة لأي من الطرفين في استفزاز الآخر، حتى ينجلي الأمر، ويحدد الشعب العراقي اختياره النهائي.
هذه النقطة الأخيرة كانت خيطاً حاولت من خلاله تتبع حقيقة الموقف الايراني من الحاصل في العراق، خصوصا أن ثمة أجنحة في بغداد ما برحت تنتقد التدخل الايراني، بالتصريح حيناً والتلميح في أحيان كثيرة.
حين ناقشت أحد الباحثين الاستراتيجيين في الموضوع، قال ان ايران رغم ثأرها وخصومتها للرئيس صدام حسين، فإنها كانت تتمنى إضعافه فقط لا إسقاط نظامه. لان الاضعاف كان من شأنه أن يقلل من ميوله العدوانية ضد طهران، وأن يحقق للشيعة ما يريدون منه. ومن الاسرار التي لم تعرف في ذلك الصدد ان ايران لم تكن مؤيدة لانتفاضة شيعة الجنوب ضد الرئيس صدام حسين، التي أعقبت هزيمته وانسحابه من الكويت في عام 91. وانما كانت نصيحة الشيخ هاشمي رفسنجاني، أهم لاعب في الساحة السياسية الايرانية، ان يتفاهم معه الشيعة العراقيون في ضعفه آنذاك، لا أن يثوروا عليه. ولكنهم استجابوا للتشجيع والتحريض الاميركيين وقاموا بانتفاضتهم، وتخلى عنهم الاميركيون فاستأسد عليهم صدام حسين وسحقهم.
من ناحية اخرى أضاف محدثي فمن وجهة نظر المصلحة الايرانية البحتة، فإن النظام العراقي السابق كان يمثل ساتراً أو حاجزاً بين ايران واسرائيل، التي اعتبرت بغداد وطهران خصمين لدودين وعدوين خطرين، وان اختلفت الاسباب بالنسبة لكل منهما. لكن الموقف تغير بصورة جذرية بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث انكشفت الجبهة الايرانية، وأصبحت هدفاً مباشراً لإسرائيل، التي تقف وراء كل الضجيج المثار حول الملف النووي، والادعاء بأن ايران ستملك قنبلة نووية خلال سنتين أو ثلاث. وهذا الموقف المستجد أفرز وضعاً استراتيجياً مغايراً، كان من الضروري أن تتحسب له ايران.
سألت عن الحقيقة في التدخل الايراني في العراق فقيل لي بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما يلي:
ان ثمة واقعاً تاريخياً ومذهبياً وسكانياً فرض تداخلاً بين الشعبين لا يمكن تجاهله. ولسبب ذلك الواقع الناشئ عن الجوار الجغرافي، وظروف الحكم العثماني، وأخيراً ضغوط النظام البعثي السابق، فإن بعض العوائل لها أبناء يعيشون على الجانبين ويتوزعون على جنسيتي البلدين. كما ان هناك مسؤولين إيرانيين ولدوا وعاشوا في العراق (منهم رئيس السلطة القضائية آية الله هاشمي شهروردي)، وهناك مسؤولون عراقيون لهم أصولهم الايرانية (آل الحكيم الذين أسسوا المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بالعراق، ويمثلهم السيد عبد العزيز الحكيم الآن، ينحدرون من أسرة جاءت الى العراق من أصفهان).
ان العراق يعد من الناحية الاستراتيجية أهم جار لإيران (الحدود بين البلدين بطول 630 كيلومتراً). بالتالي فإن طهران لا يمكن أن تغمض أعينها عما يجري في داخله، خصوصاً في وجود القوات الاميركية، التي هي ليست <<صديقة>> بأي معيار، فضلاً عن ان الكل يعلم ان واشنطن لا تضمر ولا تتمنى خيراً لإيران. ولذلك فمن الطبيعي أن تتصرف طهران في ظل هذه الظروف بما يؤمن نظامها ويحمي مصالحها. وهو الموقف الذي تلتزم به كل دولة إزاء أي خطر محتمل يقف بباها ووراء حدودها.
في جلسة مصارحة، مع بعض القريبين من المطبخ السياسي الايراني، علمت انه بعد الاحتلال الاميركي للعراق، شكل الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص المصلحة فريقاً لإدارة الازمة العراقية، ومتابعة خيوط المشهد وراء الحدود. وقال أكثر من واحد ان طهران هي أكثر الرابحين من الحاصل في العراق، وإن حاولت أن تخفي سعادتها وارتياحها لما يجري هناك. وحين قلت ان ايران أصبحت الآن محاصرة ومهددة من جانب الاميركيين، علق أحد الجالسين قائلاً ان الملاحظة أبديت أمام الشيخ رفسنجاني ذات مرة، فابتسم وقال: ترى من يحاصر من، نحن ام هم؟ وذكرني أحدهم بأن رياح السياسة الدولية مواتية لإيران الآن، بأكثر مما كانت عليه قبل عشر سنوات مثلاً. فأوروبا التي تجاهلتها واشنطن وقللت من شأنها قبل الغزو وأثناءه، أصبحت أكثر جرأة الآن في عدم الانصياع للسياسة الاميركية، خصوصاً بعد فشلها في العراق. ثم ان روسيا التي أدركت ان واشنطن تكيد لها وتعبث في حياضها (كما حدث في أوكرانيا وجورجيا)، أصبحت الآن أقرب الى ايران، على نحو يكاد يستعيد حرارة العلاقات التي قامت في الثمانينيات بين طهران وموسكو.
في جرد الموقف بعد الغزو قالوا ان ايران ربحت حتى الآن ست جوائز، تتحفظ عليها ولا تريد الاعلان عنها هي:
انها تخلصت من نظام صدام حسين الذي ناصبها العداء منذ قامت الثورة، واستنفد في حرب السنوات الثماني طاقاتها البشرية والعسكرية، وظل بعد زوال تهديده مصدر إزعاج لها.
انها أصبحت مطمئنة في ظل تزايد الثقل الشيعي وفاعلية الدور الكردي في إدارة العراق، الى ان أي حكومة منتخبة في بغداد ستكون صديقة لإيران، وفي أسوأ أحوالهم فلن تكون معادية لها. حيث المعروف ان طهران تحتفظ طيلة ربع القرن الاخير على الاقل بعلاقات وطيدة مع القيادات الشيعية والكردية العراقية.
ان وجود الاحتلال الاميركي في العراق، الذي ترى طهران انه سيستمر لبعض الوقت، سيحفظ لإيران مكانتها كقبلة للشيعة. وكان البعض قد تساءلوا بعد سقوط نظام بغداد عما اذا كانت حوزة النجف الاشرف، المقامة حول ضريح الامام علي، سوف تسترد مكانتها التقليدية والتاريخية التي كانت قد انحسرت لصالح مدينة <<قم>> بسبب ضغوط النظام البعثي، إلا ان ذلك التساؤل لم يعد مثاراً الآن. اذ تشير دلائل عدة الى انه يجري الآن إلحاق حوزة النجف ذاتها بحوزة قم. وقد تقاطر علماء قم على مدينة النجف بعد سقوط النظام السابق ولا يزالون لتحقيق هذه المهمة.
ان طهران لم تعد تتخوف كثيراً من التهديد الاميركي، الذي عمل على تطويقها بالقواعد العسكرية التي زرعت في دول وسط آسيا، منذ احتلال أفغانستان في عام 2001. ذلك ان وجود 150 الف جندي أميركي في العراق من شأنه أن يجعل ذلك العدد الضخم من القوات في متناول الايرانيين اذا ما حدث أي تهديد. حتى ان أحدهم قال ان هؤلاء الجنود سيصبحون <<رهائن>> لدى الايرانيين في هذه الحالة. والذي لا شك فيه ان ايران تحسبت لذلك الاحتمال. وأغلب الظن ان المسؤولين العراقيين الذين تحدثوا عن التدخل الايراني في العراق، كانوا يقصدون الاشارة الى الأعداد الكبيرة من ذوي الاصول المختلطة التي عبرت الحدود الى العراق، و<<كمنت>> فيها لمواجهة أي موقف يزعج ايران مستقبلاً.
() كاتب مصري