(4) الأئمة المحسودون!
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة109]
يرغب كثيرٌ من أهل الكتاب أن يعود المؤمنون كفاراً، لماذا يا ترى؟
تصرّح الآية الشريفة بسبب ذلك: ﴿حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾.
فهل يحسدونهم على إيمانهم بالله تعالى؟
إنّ اليهود والنصارى يقولون أنّهم مؤمنون بالله تعالى، ويعدّوُن أنفسهم من الموحدين، على ماذا إذا يحسدون المؤمنين؟
لا بدّ وأن يكون شيئاً سوى التوحيد والايمان بالله سبحانه وتعالى.
لقد بيّن ذلك الامام العسكريّ عليه السلام في التفسير المنسوب اليه: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكُمْ بِأَنْ أَكْرَمَكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَآلِهِمَا الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفَضْلِ عَلِيٍّ(ص515).
يودُّ أهل الكتاب إذاً أن يردوا المؤمنين عن إيمانهم بمحمد وعليٍّ والأئمة عليهم السلام.
من يؤمن من المسلمين بالأئمة سوى الشيعة؟ فمن سيكون محسوداً سواهم من أهل الكتاب؟!
لقد سعى أهل الكتاب هؤلاء ليردوا المؤمنين عن إيمانهم: بِمَا يُورِدُونَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الشُّبَهِ!
ينبّه الإمام إلى شُبَهِ أهل الكتاب.. فما هي؟ لبحثها محلٌّ آخر..
ما هو الحسد؟
لو أردنا أن ننظر في كتب اللغة لنتعرّف على معنى الحسد لتعجّبنا، من أن أغلبها لا تُعَرِّف الحسد، بل تكتفي بالقول أنه معنىً معروف، وذلك لشدة وضوحه..
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين:
حسد: الحَسَد: معروفٌ (كتاب العين ج3 ص130).
والمعروف هذا قد ذكره بعض علماء اللغة فقالوا:
الحَسَد: أن تتمنَّى زوال نعمة المحسود إليكَ.
الحسد: تمنّي زوال نعمة من مستحقٍ لها، وربما كان مع ذلك سَعيٌ في إزالتها.
هو إذاً صفةٌ نفسانيةٌ ذميمةٌ قبيحةٌ بنفسها ولو لم يتعقبها فعلٌ آخر كالسعي في سلب نعم الله عن الآخرين.
وههنا أمران أو مرتبتان: أولاهما حالة نفسانية وهي تمني زوال النعمة عن الغير، والآخر السعي لسلب تلك النعمة عمن استحقها أو وصلت إليه.
فهل الحالة الأولى التي لا تستتبع عملاً جوارحياً محرماً قولاً أو لفظاً محرمةٌ بنفسها كما هو ظاهر جملة من النصوص؟
أم أنّها مذمومةٌ وإن لم تكن محرّمة كما يشير إليه الحديث الشريف: وضع عن أمتي.. الْحَسَدُ مَا لَمْ يُظْهِرْ بِلِسَانٍ أَوْ يَدٍ..
في المسألة خلافٌ وتفصيلٌ ليس هنا محل بحثه..
لكن المهم هو أن الحسد يدعو بنفسه الى ارتكاب القبائح والمحرمات بلا شك، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف:
والْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ.
فالحسد يدعو صاحبه للتقحم في الذنوب، سعياً في سلب النعم عن الآخرين، إما للحصول عليها لنفسه، أو لمجرد سلبهم إياها.
وأهل الكتاب في الآية المباركة يحسدون المؤمن على إيمانه، لا ليؤمنوا، فإنّهم عرفوا الحق ولم يرغبوا باتباعه، وباب الحقّ مفتوحٌ لهم كما هو مفتوح للمؤمن.
لماذا إذاً يريدون سلب الإيمان من المؤمن؟
لأن للمؤمن فضلاً خلا منه الحسود.. الفضل والنعمة التي حصل عليها المؤمن استدعت حسداً من الكافر ورغبة في زوالها.. وسعياً لذلك..
متى بدأ الحسد؟ أوله؟
من أين بدأ الحسد يا ترى؟ متى كانت بدايته؟
يقول الإمام عليه السلام:
فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَعَبْدٌ خَلَقَهُ لِيَعْبُدَهُ وَيُوَحِّدَهُ، وَقَدْ عَلِمَ حِينَ خَلَقَهُ مَا هُوَ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ حَتَّى امْتَحَنَهُ بِسُجُودِ آدَمَ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَسَداً وَشَقَاوَةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. (الإحتجاج ج2 ص339).
كان سبب امتناع ابليس عن السجود لآدم وعن طاعة الله سبحانه وتعالى رغبته بأن ينال النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على آدم.
بدأ حالةً نفسيةً قبيحةً ذميمةً وتطوّرت للامتناع عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وقد ورد أنّ هذا الحسد صيّر ابليس إلى الكفر والشرك وجعل إبليس في مرتبة الردّ على الله تعالى عندما أبى عن السجود لآدم عليه السلام (تحف العقول ص371).
لذا ورد في الحديث: إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قَبْلَ الْإِنْسِ (دعائم الإسلام ج2 ص352).
لقد فتح إبليس باب الحسد واستمر ذلك.. واعترف بنفسه بهذا الامر، ففي حديثٍ شريفٍ أنّه: لَمَّا هَبَطَ نُوحٌ ع مِنَ السَّفِينَةِ أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: مَا فِي الْأَرْضِ رَجُلٌ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيَّ مِنْكَ، دَعَوْتَ اللَّهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ فَأَرَحْتَنِي مِنْهُمْ.
تأملوا ايها الأحبة، إبليس يشكر نوحاً عليه السلام على دعائه حيث أراحه الله بدعائه من هؤلاء الفساق، وهؤلاء كانوا أتباع إبليس قتَلَةً لأئمة الهدى!
ثم يقول إبليس لنوح عليه السلام:
أَ لَا أُعَلِّمُكَ خَصْلَتَيْنِ:
إِيَّاكَ وَالْحَسَدَ فَهُوَ الَّذِي عَمِلَ بِي مَا عَمِلَ.
وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ فَهُوَ الَّذِي عَمِلَ بِآدَمَ مَا عَمِلَ (الخصال ج1 ص51).
تسرّب هذا الحسد من الجنّ الى الانس، حيث حسد ابنُ آدم أخاه فقتله، وكان أوّل حسدٍ على هذه الأرض بين أبناء آدم، ثم استشرى بين الشعوب والأقوام وفي أمم الانبياء والمعصومين، حتى قالوا عليهم السلام: وَكَانَتْ أَوَّلُ بَلْوَى نَزَلَتْ بِيَعْقُوبَ وَآلِ يَعْقُوبَ الْحَسَدَ لِيُوسُفَ لَمَّا سَمِعُوا مِنْهُ الرُّؤْيَا (علل الشرائع ج1ص46).
وهكذا نرى ان للحسد دخالة في كثير من أحداث التاريخ وفي أهمّ مفاصله بدءً من السجود لآدم مروراً بأولاده عليه السلام وإلى يومنا الحاضر.
آثار الحسد وخطورته
فما هي آثار الحسد؟ وما خطورته؟ وبم يتميّز عن غيره من الرذائل؟ ولماذا أوصل إبليس إلى الكفر؟
لقد روينا عن الصادق عليه السلام قوله: إِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ (الكافي ج2 ص306).
فسّر العلماءُ هذا المعنى بانه نوعٌ من الاستعارة يراد منه أنّ الحسد يُخرِجُ صاحبه عن طاعته لله تعالى وينقله الى ساحة المعاصي، فيحوّله من عزّ الطاعة الى ذلّ المعصية، ويخسر شرف الثواب ويسقط في مهاوي الرذيلة، فيكون شبيهاً بالنار التي تأكل الحطب، حينما يأكل حسنات الانسان، لمّا يأخذ بيده ويورده كل معصية وذنب ومهلكة.
لذا ورد عن الباقر عليه السلام: الْحَسَدُ هُوَ أَصْلُ الْكُفْرِ (الكافي ج5 ص505)
فهل أن كثرة المعاصي الناتجة عن الحسد وتتابعها قد يُخرج الإنسان إلى حدّ الكفر؟ أم أنّ هناك معنى آخر؟
لماذا صار الحسدُ أصل الكفر؟
1. الحاسد ساخط لنعمة الله
يبيّن الامام الصادق عليه السلام أمراً في غاية اللطافة والدقة والأهمية حين ينقل حديثاً قدسياً فيه قولُ الله عز وجلّ لموسى ابن عمران:
يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَا تَحْسُدَنَّ النَّاسَ عَلَى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ:
هي إشارةٌ الى مقدار ما يتعرّض له الحاسد من أذىً في نفسه حتى لكأنّ نفسه تموت على ما يرى في يد الآخرين، فجاء الأمر الإلهي: لا تجعل نفسك تذهب حسرات على ما آتيتُ الاخرين من فضلي.
وتألُّمُ الحسود يجعله في حالةٍ تكاد نفسه تخرج منه لذلك!
فَإِنَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي:
ههنا محطّ الرحال، الحاسد ساخطٌ لنعم الله، غير راضٍ بما أنعم الله به على غيره!
النعمةُ نعمةُ الله وليست نعمة هذا العبد، والله يخص من يشاء من فضله، لكن هذا العبد يسخط من إنزال الله سبحانه وتعالى لنعمه على من يشاء من عباده!
صَادٌّ لِقَسْمِيَ الَّذِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي، وَمَنْ يَكُ كَذَلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنِّي (الكافي ج2 ص307).
الله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، الرحيم العطوف، يتبرأ من هذا الحاسد، لاعتراضه على مشيئته تعالى، ورفضه لما قسمه الله سبحانه وتعالى وسخطه على توزيع نعم الله سبحانه وتعالى.
2. الحاسد جاحدٌ لفضل الله
روي عن الصادق عليه السلام: الْحَاسِدُ يُضِرُّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُضِرَّ بِالْمَحْسُودِ كَإِبْلِيسَ أَوْرَثَ بِحَسَدِهِ لِنَفْسِهِ اللَّعْنَةَ وَلِآدَمَ ع الِاجْتِبَاءَ وَالْهُدَى.. وَالْحَسَدُ أَصْلُهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ وَالْجُحُودِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى (مصباح الشريعة ص 104).
اجتمعَ في الحاسد إضراره بنفسه، وعمى قلبه، وسخطه لنعم الله، وجحوده لفضل الله، فأيُّ داء هو هذا؟!
داء الأمم دب في هذه الأمة
هذا حال الحسد منذ إبليس وامتناعه عن السجود، مروراً بابني آدم، وصولاً الى بني إسرائيل حُسّاد المؤمنين.. ثم لما تصل النوبة إلى بعثة النبيّ (ص) يحصل تطوُّرٌ خطير، يحيط بأمّة الإسلام.. لا يتمثل بحسد اليهود والنصارى فحسب.. بل بما تفشى في أمة النبي | قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ:
أَلَا إِنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَهُوَ الْحَسَدُ، لَيْسَ بِحَالِقِ الشَّعْرِ لَكِنَّهُ حَالِقُ الدِّين (مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها ص337).
لقد تفشّى الحسد في هذه الأمّة والنبي (ص) لا يزال بين ظهراني قومه، فكان حالقاً للأديان!
تسعة أعشار الحسد في قريش
ههنا ننقل الكلام إلى المخالفين لنرى ما عندهم حول الحسد.. وليظهر مقدار تفشي الحسد بلسان الحُسّاد أنفسهم..
لقد روى علماء العامة كابن ابي الحديد وغيره قول المغيرة:
فَوَالله لَوْ كَانَ هَذَا الْحَسَدُ يُدْرَكُ بِحِسَابٍ لَكَانَ لِقُرَيْشٍ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَلِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عُشْر..
لماذا يرى المغيرة ذلك؟ ألأنّه عاش بين قومٍ حُسّادٍ فرأى منهم ما جعله يدرك أن ليس على وجه البسيطة من حَسَدٍ بمقدار حسد قريش؟!
لم يقتصر الأمر على هذا، حيث يردّ عمر بن الخطاب على المغيرة فيقول له:
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُغِيرَةَ! وَمَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْحَسَدِ! بَلْ َ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعُشْرِ، وَفِي النَّاسِ كُلِّهِمْ عُشْرُ الْعُشْرِ، بَلْ وَقُرَيْشٌ شُرَكَاؤُهُمْ أَيْضاً فِيهِ!
لم يكتفِ عمر بن الخطاب بكلام المغيرة بل زاد عليه ما زاد.. فما الذي يقوله عمر ابن الخطاب؟! وما الذي يريد الوصول اليه؟
ثُمَّ قَالَ: أَ لَا أُخْبِرُكُمَا بِأَحْسَدِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا؟.. كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعَقَّ، وَهُوَ الَّذِي سَأَلْتُمَا عَنْهُ، كَانَ وَاللَّهِ أَحْسَدَ قُرَيْشٍ كُلِّهَا (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص31)
لا يقصدُ عمر ابن الخطاب أن أبا بكرٍ حَسَدَ أمير المؤمنين على الخلافة، إنما يقصد أن أبا بكر حسده هو وأخّره عن الخلافة، فعمرٌ يريد الخلافة لنفسه، ويعتقد أن أبا بكرٍ حسده فنحّاه عنها!
قلنا أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن مستحقّها أو عن من هي عنده، ولكنّ عمر ليس خليفة للمسلمين، ولا يستحق أن يكون خليفةً، ولم يتسنم هذا المنصب في السقيفة، لكن رغم ذلك يرى أن أبا بكرٍ قد حسده.
فأبو بكرٍ عنده أحسد قريشٍ كلّها، وفيها أكثر من 99% من حسد الدنيا، فكان عمر يرى أن أعظم حاسدٍ في الوجود هو أبو بكر، وأنّه سلبه الخلافة حسداً منه له! هذه هي نظرة عمر بن الخطاب..
يتبيّن هذا المعنى جلياً عندما يقول عمر: أما سمعت نداءهم من كل ناحيةٍ عند عرضها عليّ: لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها! فرددتها إليه عند ذلك، فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سروراً (شرح النهج ج2 ص33)
يُدرك عمر أن أبا بكرٍ رمى الكرة إليه لكي يرجعها إليه، ولكي تظهر كوامنُ نفسه، ويصرِّح عمر بحقيقة موقفه من أبي بكر قائلاً: لقد تقدمني ظالماً وخرج إلي منها آثماً!
نحن المحسودون
يؤكدّ الإمام الصادق أن الحسد أهلك قريشاً، فيقول:
إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشاً لَتَعْرِفُ مَا أَعْطَانَا الله، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ أَهْلَكَهُمْ كَمَا أَهْلَكَ إِبْلِيس (كامل الزيارات ص329)
وقد أصاب المغيرة وعمر في أن عند قريشٍ حسداً عظيماً جداً، وفي أنّ أحسد قريش هو أبو بكر، ولعلّ عمراً أصاب في أن أبا بكرٍ يحسده، لكن المحسود الحقيقي ليس عمر بن الخطاب، فإنّه يشترك مع أبا بكرٍ في حسد المحسودين حقيقة..
المحسود الحقيقي هو صاحب منصب الإمامة والخلافة والولاية حقاً، وليسا من أهلها..
لذا فسّر الأئمة عليهم السلام قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) بقولهم:
نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَنَحْنُ الْمَحْسُودُونَ (الكافي ج1 ص186).
على ماذا حُسدتم يا آل محمد؟
نَحْنُ النَّاسُ الْمَحْسُودُونَ عَلَى مَا آتَانَا الله الْإِمَامَةَ دُونَ خَلْقِ الله (بصائر الدرجات ج1 ص35)
قالها الباقر عليه السلام.. فصارت الإمامة إذاً محور الخلاف وإليها يرجع كثيرٌ من البلاء حتىّ الحسد..
لماذا هم المحسودون؟
إذاً توفُّرَ أحدٌ على الفضل صار ذلك مدعاةً لحسد الأدنى منه له..
فيحسد الفقيرُ الغني، والجاهلُ العالم، والضعيف القوي، والكافر المؤمن، وهكذا.. الفاقد لخصلةٍ وفضيلةٍ يحسد الواجد لها..
فما بالك بمن جمع الفضل كله؟!
قال إمامنا الرضا عليه السلام في وصف الإمام بأنه:
مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ!
أي فضل هذا؟ كلُّ فضلٍ، وذلك باختصاص الواحد الوهّاب! فلا يقفُ عند غنى النفس والروح ولا عند العلم والإيمان والقوة والقرب من الله تعالى، فكلُّ ما يتصور ولا يتصور من فضلٍ قد جمعه الله في الإمام!
(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران74]
الله العظيم يصفُ الفضل بالعظيم، فيخصُّ اللهُ الإمام بالفضل كلّه: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
جمع الإمامُ الفضل من أطرافه.. صفاته النفسانية والجسدية.. العلم والحلم والكرم والسخاء والشجاعة.. ما شئت من صفات الكمال وأدركت وجدتها مجتمعةً فيهم عليهم السلام.
أفلا تحسدهم هذه الأمة بعد ذلك؟!
لقد ذكر الإمام عليه السلام موسى والخضر عليهما السلام فقال عنهما:
لَا وَاللَّهِ مَا حَسَدَ مُوسَى الْعَالِمَ.. بَل أَقَرَّ لَهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ كَمَا حَسَدَتْنَا هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ الله ص (الإختصاص ص259)
فمن حسدهم من هذه الأمّة؟
وما هي أصناف الحاسدين لمحمد وآله؟
من هم حساد الإمامة؟ هل كلهم مخالفون؟ أم أن فيهم المخالف والمؤالف؟ هذا ما نتعرض له في البحث القادم إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة109]
يرغب كثيرٌ من أهل الكتاب أن يعود المؤمنون كفاراً، لماذا يا ترى؟
تصرّح الآية الشريفة بسبب ذلك: ﴿حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾.
فهل يحسدونهم على إيمانهم بالله تعالى؟
إنّ اليهود والنصارى يقولون أنّهم مؤمنون بالله تعالى، ويعدّوُن أنفسهم من الموحدين، على ماذا إذا يحسدون المؤمنين؟
لا بدّ وأن يكون شيئاً سوى التوحيد والايمان بالله سبحانه وتعالى.
لقد بيّن ذلك الامام العسكريّ عليه السلام في التفسير المنسوب اليه: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكُمْ بِأَنْ أَكْرَمَكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَآلِهِمَا الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفَضْلِ عَلِيٍّ(ص515).
يودُّ أهل الكتاب إذاً أن يردوا المؤمنين عن إيمانهم بمحمد وعليٍّ والأئمة عليهم السلام.
من يؤمن من المسلمين بالأئمة سوى الشيعة؟ فمن سيكون محسوداً سواهم من أهل الكتاب؟!
لقد سعى أهل الكتاب هؤلاء ليردوا المؤمنين عن إيمانهم: بِمَا يُورِدُونَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الشُّبَهِ!
ينبّه الإمام إلى شُبَهِ أهل الكتاب.. فما هي؟ لبحثها محلٌّ آخر..
ما هو الحسد؟
لو أردنا أن ننظر في كتب اللغة لنتعرّف على معنى الحسد لتعجّبنا، من أن أغلبها لا تُعَرِّف الحسد، بل تكتفي بالقول أنه معنىً معروف، وذلك لشدة وضوحه..
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين:
حسد: الحَسَد: معروفٌ (كتاب العين ج3 ص130).
والمعروف هذا قد ذكره بعض علماء اللغة فقالوا:
الحَسَد: أن تتمنَّى زوال نعمة المحسود إليكَ.
الحسد: تمنّي زوال نعمة من مستحقٍ لها، وربما كان مع ذلك سَعيٌ في إزالتها.
هو إذاً صفةٌ نفسانيةٌ ذميمةٌ قبيحةٌ بنفسها ولو لم يتعقبها فعلٌ آخر كالسعي في سلب نعم الله عن الآخرين.
وههنا أمران أو مرتبتان: أولاهما حالة نفسانية وهي تمني زوال النعمة عن الغير، والآخر السعي لسلب تلك النعمة عمن استحقها أو وصلت إليه.
فهل الحالة الأولى التي لا تستتبع عملاً جوارحياً محرماً قولاً أو لفظاً محرمةٌ بنفسها كما هو ظاهر جملة من النصوص؟
أم أنّها مذمومةٌ وإن لم تكن محرّمة كما يشير إليه الحديث الشريف: وضع عن أمتي.. الْحَسَدُ مَا لَمْ يُظْهِرْ بِلِسَانٍ أَوْ يَدٍ..
في المسألة خلافٌ وتفصيلٌ ليس هنا محل بحثه..
لكن المهم هو أن الحسد يدعو بنفسه الى ارتكاب القبائح والمحرمات بلا شك، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف:
والْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ.
فالحسد يدعو صاحبه للتقحم في الذنوب، سعياً في سلب النعم عن الآخرين، إما للحصول عليها لنفسه، أو لمجرد سلبهم إياها.
وأهل الكتاب في الآية المباركة يحسدون المؤمن على إيمانه، لا ليؤمنوا، فإنّهم عرفوا الحق ولم يرغبوا باتباعه، وباب الحقّ مفتوحٌ لهم كما هو مفتوح للمؤمن.
لماذا إذاً يريدون سلب الإيمان من المؤمن؟
لأن للمؤمن فضلاً خلا منه الحسود.. الفضل والنعمة التي حصل عليها المؤمن استدعت حسداً من الكافر ورغبة في زوالها.. وسعياً لذلك..
متى بدأ الحسد؟ أوله؟
من أين بدأ الحسد يا ترى؟ متى كانت بدايته؟
يقول الإمام عليه السلام:
فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَعَبْدٌ خَلَقَهُ لِيَعْبُدَهُ وَيُوَحِّدَهُ، وَقَدْ عَلِمَ حِينَ خَلَقَهُ مَا هُوَ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُهُ مَعَ مَلَائِكَتِهِ حَتَّى امْتَحَنَهُ بِسُجُودِ آدَمَ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَسَداً وَشَقَاوَةً غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. (الإحتجاج ج2 ص339).
كان سبب امتناع ابليس عن السجود لآدم وعن طاعة الله سبحانه وتعالى رغبته بأن ينال النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على آدم.
بدأ حالةً نفسيةً قبيحةً ذميمةً وتطوّرت للامتناع عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وقد ورد أنّ هذا الحسد صيّر ابليس إلى الكفر والشرك وجعل إبليس في مرتبة الردّ على الله تعالى عندما أبى عن السجود لآدم عليه السلام (تحف العقول ص371).
لذا ورد في الحديث: إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قَبْلَ الْإِنْسِ (دعائم الإسلام ج2 ص352).
لقد فتح إبليس باب الحسد واستمر ذلك.. واعترف بنفسه بهذا الامر، ففي حديثٍ شريفٍ أنّه: لَمَّا هَبَطَ نُوحٌ ع مِنَ السَّفِينَةِ أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: مَا فِي الْأَرْضِ رَجُلٌ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيَّ مِنْكَ، دَعَوْتَ اللَّهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ فَأَرَحْتَنِي مِنْهُمْ.
تأملوا ايها الأحبة، إبليس يشكر نوحاً عليه السلام على دعائه حيث أراحه الله بدعائه من هؤلاء الفساق، وهؤلاء كانوا أتباع إبليس قتَلَةً لأئمة الهدى!
ثم يقول إبليس لنوح عليه السلام:
أَ لَا أُعَلِّمُكَ خَصْلَتَيْنِ:
إِيَّاكَ وَالْحَسَدَ فَهُوَ الَّذِي عَمِلَ بِي مَا عَمِلَ.
وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ فَهُوَ الَّذِي عَمِلَ بِآدَمَ مَا عَمِلَ (الخصال ج1 ص51).
تسرّب هذا الحسد من الجنّ الى الانس، حيث حسد ابنُ آدم أخاه فقتله، وكان أوّل حسدٍ على هذه الأرض بين أبناء آدم، ثم استشرى بين الشعوب والأقوام وفي أمم الانبياء والمعصومين، حتى قالوا عليهم السلام: وَكَانَتْ أَوَّلُ بَلْوَى نَزَلَتْ بِيَعْقُوبَ وَآلِ يَعْقُوبَ الْحَسَدَ لِيُوسُفَ لَمَّا سَمِعُوا مِنْهُ الرُّؤْيَا (علل الشرائع ج1ص46).
وهكذا نرى ان للحسد دخالة في كثير من أحداث التاريخ وفي أهمّ مفاصله بدءً من السجود لآدم مروراً بأولاده عليه السلام وإلى يومنا الحاضر.
آثار الحسد وخطورته
فما هي آثار الحسد؟ وما خطورته؟ وبم يتميّز عن غيره من الرذائل؟ ولماذا أوصل إبليس إلى الكفر؟
لقد روينا عن الصادق عليه السلام قوله: إِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ (الكافي ج2 ص306).
فسّر العلماءُ هذا المعنى بانه نوعٌ من الاستعارة يراد منه أنّ الحسد يُخرِجُ صاحبه عن طاعته لله تعالى وينقله الى ساحة المعاصي، فيحوّله من عزّ الطاعة الى ذلّ المعصية، ويخسر شرف الثواب ويسقط في مهاوي الرذيلة، فيكون شبيهاً بالنار التي تأكل الحطب، حينما يأكل حسنات الانسان، لمّا يأخذ بيده ويورده كل معصية وذنب ومهلكة.
لذا ورد عن الباقر عليه السلام: الْحَسَدُ هُوَ أَصْلُ الْكُفْرِ (الكافي ج5 ص505)
فهل أن كثرة المعاصي الناتجة عن الحسد وتتابعها قد يُخرج الإنسان إلى حدّ الكفر؟ أم أنّ هناك معنى آخر؟
لماذا صار الحسدُ أصل الكفر؟
1. الحاسد ساخط لنعمة الله
يبيّن الامام الصادق عليه السلام أمراً في غاية اللطافة والدقة والأهمية حين ينقل حديثاً قدسياً فيه قولُ الله عز وجلّ لموسى ابن عمران:
يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَا تَحْسُدَنَّ النَّاسَ عَلَى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ:
هي إشارةٌ الى مقدار ما يتعرّض له الحاسد من أذىً في نفسه حتى لكأنّ نفسه تموت على ما يرى في يد الآخرين، فجاء الأمر الإلهي: لا تجعل نفسك تذهب حسرات على ما آتيتُ الاخرين من فضلي.
وتألُّمُ الحسود يجعله في حالةٍ تكاد نفسه تخرج منه لذلك!
فَإِنَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي:
ههنا محطّ الرحال، الحاسد ساخطٌ لنعم الله، غير راضٍ بما أنعم الله به على غيره!
النعمةُ نعمةُ الله وليست نعمة هذا العبد، والله يخص من يشاء من فضله، لكن هذا العبد يسخط من إنزال الله سبحانه وتعالى لنعمه على من يشاء من عباده!
صَادٌّ لِقَسْمِيَ الَّذِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي، وَمَنْ يَكُ كَذَلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنِّي (الكافي ج2 ص307).
الله سبحانه وتعالى ذو الجلال والإكرام، الرحيم العطوف، يتبرأ من هذا الحاسد، لاعتراضه على مشيئته تعالى، ورفضه لما قسمه الله سبحانه وتعالى وسخطه على توزيع نعم الله سبحانه وتعالى.
2. الحاسد جاحدٌ لفضل الله
روي عن الصادق عليه السلام: الْحَاسِدُ يُضِرُّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُضِرَّ بِالْمَحْسُودِ كَإِبْلِيسَ أَوْرَثَ بِحَسَدِهِ لِنَفْسِهِ اللَّعْنَةَ وَلِآدَمَ ع الِاجْتِبَاءَ وَالْهُدَى.. وَالْحَسَدُ أَصْلُهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ وَالْجُحُودِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى (مصباح الشريعة ص 104).
اجتمعَ في الحاسد إضراره بنفسه، وعمى قلبه، وسخطه لنعم الله، وجحوده لفضل الله، فأيُّ داء هو هذا؟!
داء الأمم دب في هذه الأمة
هذا حال الحسد منذ إبليس وامتناعه عن السجود، مروراً بابني آدم، وصولاً الى بني إسرائيل حُسّاد المؤمنين.. ثم لما تصل النوبة إلى بعثة النبيّ (ص) يحصل تطوُّرٌ خطير، يحيط بأمّة الإسلام.. لا يتمثل بحسد اليهود والنصارى فحسب.. بل بما تفشى في أمة النبي | قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ:
أَلَا إِنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَهُوَ الْحَسَدُ، لَيْسَ بِحَالِقِ الشَّعْرِ لَكِنَّهُ حَالِقُ الدِّين (مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها ص337).
لقد تفشّى الحسد في هذه الأمّة والنبي (ص) لا يزال بين ظهراني قومه، فكان حالقاً للأديان!
تسعة أعشار الحسد في قريش
ههنا ننقل الكلام إلى المخالفين لنرى ما عندهم حول الحسد.. وليظهر مقدار تفشي الحسد بلسان الحُسّاد أنفسهم..
لقد روى علماء العامة كابن ابي الحديد وغيره قول المغيرة:
فَوَالله لَوْ كَانَ هَذَا الْحَسَدُ يُدْرَكُ بِحِسَابٍ لَكَانَ لِقُرَيْشٍ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَلِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عُشْر..
لماذا يرى المغيرة ذلك؟ ألأنّه عاش بين قومٍ حُسّادٍ فرأى منهم ما جعله يدرك أن ليس على وجه البسيطة من حَسَدٍ بمقدار حسد قريش؟!
لم يقتصر الأمر على هذا، حيث يردّ عمر بن الخطاب على المغيرة فيقول له:
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُغِيرَةَ! وَمَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْحَسَدِ! بَلْ َ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعُشْرِ، وَفِي النَّاسِ كُلِّهِمْ عُشْرُ الْعُشْرِ، بَلْ وَقُرَيْشٌ شُرَكَاؤُهُمْ أَيْضاً فِيهِ!
لم يكتفِ عمر بن الخطاب بكلام المغيرة بل زاد عليه ما زاد.. فما الذي يقوله عمر ابن الخطاب؟! وما الذي يريد الوصول اليه؟
ثُمَّ قَالَ: أَ لَا أُخْبِرُكُمَا بِأَحْسَدِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا؟.. كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعَقَّ، وَهُوَ الَّذِي سَأَلْتُمَا عَنْهُ، كَانَ وَاللَّهِ أَحْسَدَ قُرَيْشٍ كُلِّهَا (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص31)
لا يقصدُ عمر ابن الخطاب أن أبا بكرٍ حَسَدَ أمير المؤمنين على الخلافة، إنما يقصد أن أبا بكر حسده هو وأخّره عن الخلافة، فعمرٌ يريد الخلافة لنفسه، ويعتقد أن أبا بكرٍ حسده فنحّاه عنها!
قلنا أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن مستحقّها أو عن من هي عنده، ولكنّ عمر ليس خليفة للمسلمين، ولا يستحق أن يكون خليفةً، ولم يتسنم هذا المنصب في السقيفة، لكن رغم ذلك يرى أن أبا بكرٍ قد حسده.
فأبو بكرٍ عنده أحسد قريشٍ كلّها، وفيها أكثر من 99% من حسد الدنيا، فكان عمر يرى أن أعظم حاسدٍ في الوجود هو أبو بكر، وأنّه سلبه الخلافة حسداً منه له! هذه هي نظرة عمر بن الخطاب..
يتبيّن هذا المعنى جلياً عندما يقول عمر: أما سمعت نداءهم من كل ناحيةٍ عند عرضها عليّ: لا نريد سواك يا أبا بكر، أنت لها! فرددتها إليه عند ذلك، فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سروراً (شرح النهج ج2 ص33)
يُدرك عمر أن أبا بكرٍ رمى الكرة إليه لكي يرجعها إليه، ولكي تظهر كوامنُ نفسه، ويصرِّح عمر بحقيقة موقفه من أبي بكر قائلاً: لقد تقدمني ظالماً وخرج إلي منها آثماً!
نحن المحسودون
يؤكدّ الإمام الصادق أن الحسد أهلك قريشاً، فيقول:
إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشاً لَتَعْرِفُ مَا أَعْطَانَا الله، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ أَهْلَكَهُمْ كَمَا أَهْلَكَ إِبْلِيس (كامل الزيارات ص329)
وقد أصاب المغيرة وعمر في أن عند قريشٍ حسداً عظيماً جداً، وفي أنّ أحسد قريش هو أبو بكر، ولعلّ عمراً أصاب في أن أبا بكرٍ يحسده، لكن المحسود الحقيقي ليس عمر بن الخطاب، فإنّه يشترك مع أبا بكرٍ في حسد المحسودين حقيقة..
المحسود الحقيقي هو صاحب منصب الإمامة والخلافة والولاية حقاً، وليسا من أهلها..
لذا فسّر الأئمة عليهم السلام قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) بقولهم:
نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَنَحْنُ الْمَحْسُودُونَ (الكافي ج1 ص186).
على ماذا حُسدتم يا آل محمد؟
نَحْنُ النَّاسُ الْمَحْسُودُونَ عَلَى مَا آتَانَا الله الْإِمَامَةَ دُونَ خَلْقِ الله (بصائر الدرجات ج1 ص35)
قالها الباقر عليه السلام.. فصارت الإمامة إذاً محور الخلاف وإليها يرجع كثيرٌ من البلاء حتىّ الحسد..
لماذا هم المحسودون؟
إذاً توفُّرَ أحدٌ على الفضل صار ذلك مدعاةً لحسد الأدنى منه له..
فيحسد الفقيرُ الغني، والجاهلُ العالم، والضعيف القوي، والكافر المؤمن، وهكذا.. الفاقد لخصلةٍ وفضيلةٍ يحسد الواجد لها..
فما بالك بمن جمع الفضل كله؟!
قال إمامنا الرضا عليه السلام في وصف الإمام بأنه:
مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ!
أي فضل هذا؟ كلُّ فضلٍ، وذلك باختصاص الواحد الوهّاب! فلا يقفُ عند غنى النفس والروح ولا عند العلم والإيمان والقوة والقرب من الله تعالى، فكلُّ ما يتصور ولا يتصور من فضلٍ قد جمعه الله في الإمام!
(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران74]
الله العظيم يصفُ الفضل بالعظيم، فيخصُّ اللهُ الإمام بالفضل كلّه: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
جمع الإمامُ الفضل من أطرافه.. صفاته النفسانية والجسدية.. العلم والحلم والكرم والسخاء والشجاعة.. ما شئت من صفات الكمال وأدركت وجدتها مجتمعةً فيهم عليهم السلام.
أفلا تحسدهم هذه الأمة بعد ذلك؟!
لقد ذكر الإمام عليه السلام موسى والخضر عليهما السلام فقال عنهما:
لَا وَاللَّهِ مَا حَسَدَ مُوسَى الْعَالِمَ.. بَل أَقَرَّ لَهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ كَمَا حَسَدَتْنَا هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ الله ص (الإختصاص ص259)
فمن حسدهم من هذه الأمّة؟
وما هي أصناف الحاسدين لمحمد وآله؟
من هم حساد الإمامة؟ هل كلهم مخالفون؟ أم أن فيهم المخالف والمؤالف؟ هذا ما نتعرض له في البحث القادم إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي