القدس عروس عروبتكم
الياس سحاب
يحلو لي أحيانا ان أطارد، في بطون كتب التاريخ، نصوصا تحمل معلومات عن احوال عرب فلسطين الذين انتشروا في الاقاليم العربية المحيطة بفلسطين خلال قرني الاحتلال الاوروبي الذي حمل عنوان <<الحروب الصليبية>>، وكذلك احوال العرب الذين تشبثوا وقتها بالبقاء في فلسطين، حتى تحت نير الاحتلال الاوروبي الذي امتد قرنين من الزمن. ولعل اكثر ما ابحث عنه في تلك النصوص، المقارنة بين احوال عرب فلسطين في زمن الحروب الصليبية، (من تشبث منهم بالارض، ومن انتشر في جوارها) واحوال عرب فلسطين في النصف الثاني من القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين، في عصر الكيان الصهيوني، الذي ما زال منذ نصف قرن ونيف، يلتهم مزيدا من المساحة التاريخية لارض فلسطين (حتى كاد يقضي عليها بالكامل)، ويكاد ينجح في العام الخامس من القرن الجديد، تحت سمع الفلسطينيين والعرب والعالم اجمع، في استكمال تهويد القدس، وفصلها عن الضفة الغربية، حتى اذا اضطرت المفاوضات السياسية اسرائيل لاحقا الى الجلاء عن مساحات ضئيلة من الضفة الغربية، لا تكون القدس بين هذه المساحات.
ولعل ابرز ما يسيطر عليّ من أفكار عند الغوص في مثل هذه المقارنات، الفكرة التي تقول ان القدس كانت محور الصراع على فلسطين في العصور الغابرة كما هي في العصر الحديث، وان الصراع على فلسطين كان محور التحدي التاريخي، في العصور الغابرة كما في العصر الحديث، الذي يواجه الامة العربية كلها، سواء في مواجهة عوامل تخلفها وتقدمها، وحدتها وتفككها، وعوامل المطامع الاجنبية بها، أكانت هذه المطامع قادمة من الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط (اوروبا) ام عبر المحيطات (العالم الجديد في الولايات المتحدة الاميركية).
إذاً، لم يكن القصد من اختيار العبارة الشعرية لمظفر النواب عنوانا لهذا المقال، لفتَ النظر الى كثافتها الشعرية الفنية (على روعتها)، بل لفت النظر الى كثافتها السياسية، وهي الأهم في رأيي.
لقد انتقل العرب فجأة، منذ مطلع عقد السبعينيات في القرن العشرين، الى تبني اكثر المعاني سطحية وفراغا، لعبارة: <<فلسطين، قضية العرب الاولى>>، فنزلوا بها الى مستوى ادنى حتى من المفهوم الذي اسبغه على القضية المجتمع الدولي وهو يحاول تصفيتها، وهو مفهوم الاحسان لمجموعة بشرية من اللاجئين.
ولا أزعم ان الانظمة العربية نزلت بالقضية الى مستوى ادنى من مستواها الدولي، من باب المبالغة او التشهير، بل من باب التذكير بأن عرب فلسطين الذين لجأوا الى بلاد غير عربية، يتمتعون هناك بحقوقهم الانسانية والمعيشية، بمستوى ارقى بكثير من احوال ابناء بلدهم الذين لجأوا الى معظم البلاد العربية المحيطة بفلسطين.
لكننا نعود الى المحتوى السياسي للموضوع، وهو الأهم والأخطر. فحتى عقد السبعينيات، كان تصرف بعض الانظمة العربية يشير الى التخلي عمليا عن اي دور في الصراع، بل ان الاحداث كما الوثائق، تؤكد ان بعض هذه الانظمة تصرف بما جعله يقف عمليا في الخندق الآخر من الصراع، لا الخندق العربي.
حتى جاء عقد السبعينيات، بعد هزيمة 1967، ورحيل عبد الناصر، ليعلن بقية العرب غسل ايديهم من اي دور حقيقي في الصراع، عندما اعلن باسمهم الرئيس الراحل بومدين اننا <<نقبل ما يقبله الفلسطينيون لانفسهم>>.
ولكن، حتى بعد سريان مفعول هذا الشعار نظريا وعمليا في السياسة العربية الرسمية، ظل هناك شعور طاغ، بأن حالة التخلي هذه، لا يمكن ان تتحول لمسار دائم وقابل للانحدار الى اسفل، امام موضوع القدس بالذات. فالقدس ليست مجرد امتار اضافية من الضفة الغربية لنهر الاردن، انها خلاصة مركّزة لكل مسيرة الاديان السماوية على وجه الكرة الارضية (هذا بالنسبة للمجتمع الدولي)، والموقع المقدس المشترك للعرب من أتباع كل الديانات السماوية، فهل يعقل ان يشملها التخلي العربي الرسمي بهذه السهولة والبساطة؟ وألا يثير هذا التخلي الرسمي اي رد فعل عند الشعوب العربية، مسلمين ومسيحيين؟
لم يقتصر الامر على آخر حلقات السلسلة: محاولة الاستيلاء بالتحايل والفساد المالي على شارع عمر بن الخطاب الذي تملكه الطائفة المسيحية الارثوذكسية، بل ان خطط اسرائيل لتهويد القدس، تنفيذا للشعار الصهيوني المرفوع علنا <<القدس الموحدة عاصمة اسرائيل الابدية>>، بدأ تنفيذها منذ دخول الجيش الاسرائيلي القدس العربية عام 1967.
ومع ان القدس مشمولة في قرار التقسيم الصادر عام 1947 بخطة لتدويلها، ومع ان القدس العربية، هي في القرار 242 (سنة 1967) جزء من الاراضي العربية المحتلة، التي لا بد لاسرائيل من الانسحاب الفوري منها، فان الولايات المتحدة الاميركية لم تكف يوما عن تشجيع اسرائيل على استكمال عملية تهويد القدس، تمهيدا لتحويلها لعاصمة ابدية لها.
صحيح ان القدس لم تكتسب عند المجتمع الدولي صفة العاصمة الابدية لاسرائيل، لكن التحولات الاسرائيلية الناشطة في القدس (والتسليم العربي التام) لا تؤدي إلا الى ذلك.
أما الدول العربية، المعنية في عنوان هذا المقال، فانها سحبت كل شروطها المسبقة للاعتراف باسرائيل وتطبيع العلاقات الكاملة معها، من حقوق الفلسطينيين بإقامة دولتهم على جزء ولو يسير من فلسطين، الى شرط عدم المساس بعروبة القدس الشرقية على الاقل (هناك وثائق تؤكد نسبة عالية جدا من ملكية العرب لاراضي القدس الغربية ايضا).
ان التخلي العربي الرسمي عن القدس، بعد التخلي المتدرج عن سائر بقاع فلسطين الساحلية والداخلية، إنما هو، بلا اي مبالغة، قرار عربي رسمي بالاستقالة من التاريخ بما هو ماض وحاضر ومستقبل. ومن يستقل من التاريخ، لا يحق له الاحتفاظ في الوقت نفسه بمواقع القرار في تحديد مصير شعبه وأمته.
() كاتب لبناني
الياس سحاب
يحلو لي أحيانا ان أطارد، في بطون كتب التاريخ، نصوصا تحمل معلومات عن احوال عرب فلسطين الذين انتشروا في الاقاليم العربية المحيطة بفلسطين خلال قرني الاحتلال الاوروبي الذي حمل عنوان <<الحروب الصليبية>>، وكذلك احوال العرب الذين تشبثوا وقتها بالبقاء في فلسطين، حتى تحت نير الاحتلال الاوروبي الذي امتد قرنين من الزمن. ولعل اكثر ما ابحث عنه في تلك النصوص، المقارنة بين احوال عرب فلسطين في زمن الحروب الصليبية، (من تشبث منهم بالارض، ومن انتشر في جوارها) واحوال عرب فلسطين في النصف الثاني من القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين، في عصر الكيان الصهيوني، الذي ما زال منذ نصف قرن ونيف، يلتهم مزيدا من المساحة التاريخية لارض فلسطين (حتى كاد يقضي عليها بالكامل)، ويكاد ينجح في العام الخامس من القرن الجديد، تحت سمع الفلسطينيين والعرب والعالم اجمع، في استكمال تهويد القدس، وفصلها عن الضفة الغربية، حتى اذا اضطرت المفاوضات السياسية اسرائيل لاحقا الى الجلاء عن مساحات ضئيلة من الضفة الغربية، لا تكون القدس بين هذه المساحات.
ولعل ابرز ما يسيطر عليّ من أفكار عند الغوص في مثل هذه المقارنات، الفكرة التي تقول ان القدس كانت محور الصراع على فلسطين في العصور الغابرة كما هي في العصر الحديث، وان الصراع على فلسطين كان محور التحدي التاريخي، في العصور الغابرة كما في العصر الحديث، الذي يواجه الامة العربية كلها، سواء في مواجهة عوامل تخلفها وتقدمها، وحدتها وتفككها، وعوامل المطامع الاجنبية بها، أكانت هذه المطامع قادمة من الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط (اوروبا) ام عبر المحيطات (العالم الجديد في الولايات المتحدة الاميركية).
إذاً، لم يكن القصد من اختيار العبارة الشعرية لمظفر النواب عنوانا لهذا المقال، لفتَ النظر الى كثافتها الشعرية الفنية (على روعتها)، بل لفت النظر الى كثافتها السياسية، وهي الأهم في رأيي.
لقد انتقل العرب فجأة، منذ مطلع عقد السبعينيات في القرن العشرين، الى تبني اكثر المعاني سطحية وفراغا، لعبارة: <<فلسطين، قضية العرب الاولى>>، فنزلوا بها الى مستوى ادنى حتى من المفهوم الذي اسبغه على القضية المجتمع الدولي وهو يحاول تصفيتها، وهو مفهوم الاحسان لمجموعة بشرية من اللاجئين.
ولا أزعم ان الانظمة العربية نزلت بالقضية الى مستوى ادنى من مستواها الدولي، من باب المبالغة او التشهير، بل من باب التذكير بأن عرب فلسطين الذين لجأوا الى بلاد غير عربية، يتمتعون هناك بحقوقهم الانسانية والمعيشية، بمستوى ارقى بكثير من احوال ابناء بلدهم الذين لجأوا الى معظم البلاد العربية المحيطة بفلسطين.
لكننا نعود الى المحتوى السياسي للموضوع، وهو الأهم والأخطر. فحتى عقد السبعينيات، كان تصرف بعض الانظمة العربية يشير الى التخلي عمليا عن اي دور في الصراع، بل ان الاحداث كما الوثائق، تؤكد ان بعض هذه الانظمة تصرف بما جعله يقف عمليا في الخندق الآخر من الصراع، لا الخندق العربي.
حتى جاء عقد السبعينيات، بعد هزيمة 1967، ورحيل عبد الناصر، ليعلن بقية العرب غسل ايديهم من اي دور حقيقي في الصراع، عندما اعلن باسمهم الرئيس الراحل بومدين اننا <<نقبل ما يقبله الفلسطينيون لانفسهم>>.
ولكن، حتى بعد سريان مفعول هذا الشعار نظريا وعمليا في السياسة العربية الرسمية، ظل هناك شعور طاغ، بأن حالة التخلي هذه، لا يمكن ان تتحول لمسار دائم وقابل للانحدار الى اسفل، امام موضوع القدس بالذات. فالقدس ليست مجرد امتار اضافية من الضفة الغربية لنهر الاردن، انها خلاصة مركّزة لكل مسيرة الاديان السماوية على وجه الكرة الارضية (هذا بالنسبة للمجتمع الدولي)، والموقع المقدس المشترك للعرب من أتباع كل الديانات السماوية، فهل يعقل ان يشملها التخلي العربي الرسمي بهذه السهولة والبساطة؟ وألا يثير هذا التخلي الرسمي اي رد فعل عند الشعوب العربية، مسلمين ومسيحيين؟
لم يقتصر الامر على آخر حلقات السلسلة: محاولة الاستيلاء بالتحايل والفساد المالي على شارع عمر بن الخطاب الذي تملكه الطائفة المسيحية الارثوذكسية، بل ان خطط اسرائيل لتهويد القدس، تنفيذا للشعار الصهيوني المرفوع علنا <<القدس الموحدة عاصمة اسرائيل الابدية>>، بدأ تنفيذها منذ دخول الجيش الاسرائيلي القدس العربية عام 1967.
ومع ان القدس مشمولة في قرار التقسيم الصادر عام 1947 بخطة لتدويلها، ومع ان القدس العربية، هي في القرار 242 (سنة 1967) جزء من الاراضي العربية المحتلة، التي لا بد لاسرائيل من الانسحاب الفوري منها، فان الولايات المتحدة الاميركية لم تكف يوما عن تشجيع اسرائيل على استكمال عملية تهويد القدس، تمهيدا لتحويلها لعاصمة ابدية لها.
صحيح ان القدس لم تكتسب عند المجتمع الدولي صفة العاصمة الابدية لاسرائيل، لكن التحولات الاسرائيلية الناشطة في القدس (والتسليم العربي التام) لا تؤدي إلا الى ذلك.
أما الدول العربية، المعنية في عنوان هذا المقال، فانها سحبت كل شروطها المسبقة للاعتراف باسرائيل وتطبيع العلاقات الكاملة معها، من حقوق الفلسطينيين بإقامة دولتهم على جزء ولو يسير من فلسطين، الى شرط عدم المساس بعروبة القدس الشرقية على الاقل (هناك وثائق تؤكد نسبة عالية جدا من ملكية العرب لاراضي القدس الغربية ايضا).
ان التخلي العربي الرسمي عن القدس، بعد التخلي المتدرج عن سائر بقاع فلسطين الساحلية والداخلية، إنما هو، بلا اي مبالغة، قرار عربي رسمي بالاستقالة من التاريخ بما هو ماض وحاضر ومستقبل. ومن يستقل من التاريخ، لا يحق له الاحتفاظ في الوقت نفسه بمواقع القرار في تحديد مصير شعبه وأمته.
() كاتب لبناني