الثلاثاء 2006-11-28
حين قرأت أن سلاحاً مزوداً بكاتم للصوت هو الذي استخدمه المجرمون لاغتيال بيار الجميل، في وضح نهار العاصمة بيروت، وهم مكشوفو الوجوه، دون خوف أو وجل، بحيث إنهم لم يستعجلوا الخطى قبل أو بعد ارتكاب الجريمة، أثار تعبير "كاتم الصوت" انتباهي، فتذكرت الخبر الذي قرأته عن طردٍ ضُبط في مطار بيروت، يحتوي كواتم صوت، والذي ظهر في بعض وسائل الإعلام اللبنانية واختفى كسحابة صيف عابرة دون أية متابعة، ودون أي أثر. ظهر الخبر مرة واحدة، ولم تعره وسائل الإعلام أي اهتمام، تدقيقاً أو متابعة، رغم خطورة مثل هذا الخبر في بلد يتمّ الدفع به إلى شفا حرب أهلية، والذي يستحق وقفة طويلة ومتابعة جادة، ولكن، ولشدة دهشتي، ظهر الخبر ثم اختفى دون أثر. فقد قالت صحيفة "الأخبار" اللبنانية في عددها الصادر في 31/10/2006، وفي تحقيق موسع وموثق لها، أن "عناصر الجمارك في مطار بيروت كشفت في الثالث من فبراير 2006 عن طرد مشبوه مرسل إلى دبلوماسي في السفارة الأمريكية في عوكر يدعى مارك سافاجو، مرسل من بريطانيا عبر شبكة "اليبان بوست"، يحتوي على عتاد حربي، يبدو أن جزءاً منه مخصص لعمليات "كوماندوس"، فوجد عناصر الجمارك في الطرد غطاء بندقية حربية عدد ثلاثة وثلاثة كواتم للصوت من نوعيات مختلفة. وكان الطرد يحتوي أيضاً على مجلة ديبن وهي تعنى ببنادق الخردق، وعلى أعتدة متطورة ميكانيكياً والكترونياً، ومنها مناظير ليلية حربية وأجهزة اتصال وتمويه عسكرية، وبعد أن صادر عناصر جمارك المطار الطرد، أرسلوه لاحقاً إلى المحكمة العسكرية. ورغم وجود وثائق مصورّة لكلّ المضبوطات المذكورة آنفاً، ومعلومات أخرى خطيرة عن هوية المرسل إليه، فإن أحداً لم يتابع مصير التحقيق عن هذه المعلومات الخطيرة في مرحلة يزداد فيها الاستقطاب السياسي في لبنان، وفي مرحلة تزايدت في لبنان النشاطات الأمنية لأجهزة المخابرات الأمريكية والفرنسية، وغيرها من المخابرات الأجنبية المعروفة بأنها مطلقة اليد وواسعة الصلاحية في تنفيذها مهامها، كما ترافق خبر كواتم الصوت "الدبلوماسية" مع كشف شبكة عميل الموساد محمود أبو رافع، واختفاء الحقائب السوداء، التي كشف عن وجودها في التحقيقات، والتي لم يعرف مصيرها، مع أن تفجيرات كثيرة حصلت في الفترة الماضية، قد تمت بوسائط مشابهة. وظلّ اختفاء خبر كواتم الصوت من الصحف اللبنانية لغزاً اقتفي أثره، إلى أن تمّ اغتيال بيار الجميل بكاتم صوت، وسارع بعدها البعض في توجيه التهم إلى سورية، الأمر الذي أوضح حاجتهم لهدر دم أحد السياسيين الموالين لهم، فقط كي يشيروا بأصابع الاتهام إلى سورية في جريمة مفضوحة بأنها ارتكبت من قبل أعداء سورية ولبنان. ومن خلال وصف شهود العيان لجريمة اغتيال بيار الجميل، يبدو أن القتلة، الذين استخدموا كاتم صوت محترفون، كالذين قتلوا كمال عدوان ورفاقه، وأبو جهاد، وغيره من ضحايا الاغتيالات الإسرائيلية. فقد عمدت سيارة القاتل إلى اجتياز سيارة الضحية، ووقفت أمامها فجأة فاصطدمت سيارة "الجميل" بالهوندا، حيث تعطلت على الفور، ونزل مسلح من السيارة الأمامية، وبيده رشاش مجهز بكاتم للصوت من عيار 9 ملم، وأمطر "الجميل" ومرافقه "الشرتوني" بأربع وعشرين رصاصة، ثم عاد إلى سيارته، حيث كان في انتظاره السائق وشخص آخر، ليتواروا عن الأنظار بهدوء. وحسب رواية سيدة شاهدت المنظر من شرفة منزلها، قالت: كان القاتل يرتدي جينزاً وسترة جلد سوداء، لم يكن مقنّعاً، شعره عادي أسود، وليس طويل القامة، ولم يلبس حتى قفازاً و بدا احترافياً لأنه بأعصاب باردة وفي وضح النهار، أطلق النار من دون أن يخفي وجهه، ثم قفز بمهارة إلى سيارة كانت في انتظاره ولاذ بالفرار.
ويبدو من كلّ هذا الوصف، أنه كان من الأجدى البحث عن مرتكبي الجريمة، والذين يجب ألا يكون من الصعب إيجادهم لأسباب عديدة، منها أن القتلة لم يكونوا ملثمين، وأنهم حضروا بسيارتهم، وأن الجريمة ارتكبت في وضح النهار، وأن الرصاصات انهمرت بطريقة احترافية بالغة الدقة. ولذلك وبدلاً من توزيع التهم جزافاً، فإنه من الأجدى والأهم، سياسياً وأخلاقياً وعملياً، تركيز كلّ الجهود للقبض على الجناة، أم أن المطلوب هو عدم القبض عليهم كي يتكرر سيناريو توجيه التهم إلى سورية؟ ولماذا يحيل بلد إلقاء القبض على مجرم وصفه الكثيرون بشكل شبه دقيق إلى نيويورك وباريس، بدلاً من إظهار الكفاءة الأمنية وتطويق المنطقة، وإحضار المجرم للعدالة قبل أن يجفّ دم الضحية؟ لاشك أن هذه الجريمة، كسابقاتها، تهدف إلى الإسراع بدفع لبنان باتجاه نموذج ديمقراطية الأجساد المتطايرة، المطبق حالياً في العراق، والذي يفاخر به الرئيس بوش بأنه نموذج "الديمقراطية" التي يريد نشرها في الشرق الأوسط، والتي تحصد كل يوم مئات الأرواح البريئة من المدنيين العراقيين، بعد أن حولت إدارة بوش العراق إلى مرتع لأجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، وغيرها من أعداء العرب وأعداء حضارتهم وتاريخهم للارتواء من دمائهم، وإشفاء غليلهم العنصري. وكان سيمون هيرش قد رصد في جريدة النيويوركر منذ العام الأول من احتلال العراق، في مقاله الشهير عن حركة الموساد الإسرائيلي من الشمال إلى باقي مدن وآثار العراق. ولا أحد يفتك بالشعب العراقي بهذه القسوة إلا حاقد على العرب جميعاً، ومستهدف لهم مسيحيين ومسلمين، لا فرق بين شيعة وسنّة، وبين عربيّ وكردي.
وجاء الاستثمار في الجريمة المخابراتية الأخيرة مكروراً ومتوقعاً ومعداً مسبقاً، وكما كان الحال في كلّ الجرائم السابقة، بدءاً بجريمة اغتيال رفيق الحريري، لنقل النموذج المأساوي المدّمر في العراق إلى لبنان، من خلال تشجيع الانقسامات والفرقة الطائفية، وإذكاء أوار الحقد ضدّ سورية، علماً أن بوش هو الذي أمدّ إسرائيل بجسر جويّ من القنابل العنقودية، والعتاد الفتّاك، والوقت اللازم للعدوان والتغطية الدبلوماسية، كي تستكمل إسرائيل جريمتها بقتل وجرح الآلاف من المدنيين اللبنانيين، وتدمير مدنهم وقراهم، وتغطية تربته بالقنابل العنقودية المجرمة. إذ كيف يمكن لمسؤول في العالم أن يعبّر عن دعمه لبعض السياسيين في بلد مثل لبنان، بينما يضع كلّ إمكانات الدمار في يد أعداء البلد ذاته؟. لقد بدا واضحاً لكلّ عاقل أن جريمة اغتيال بيار الجميل، كغيرها من الجرائم المماثلة، استهدفت زرع الفتنة بين سورية ولبنان، وبين اللبنانيين أنفسهم، واستهدفت هذه المرّة تعطيل مظاهرات المعارضة، وشوشت على الأجواء الدولية، التي ركّزت في الأسبوعين الأخيرين، بعد فوز الديمقراطيين في مجلس النواب والشيوخ، على أخطاء إدارة بوش في العراق، التي أدت إلى تضحية بوش بصديقه رامسفيلد، وهذا درس للذين يصدقون إدعاءه بأنه صديقهم! أما إسرائيل فإنها هي المتربصة بكلّ العرب دون استثناء، والتي تريد اغتصاب المزيد من أرضهم ومياههم ونفطهم، ولا تقبل بعد أن دخلت العراق مع الاحتلال الأمريكي، لا تقبل بأي شيء أقلّ من تقسيمه. فهذا هو الهدف الإسرائيلي من الاحتلال الأمريكي للعراق، وكذلك من الفتنة في لبنان، ومن محاولات زعزعة النظام القومي في سورية. كما استهدفت جريمة اغتيال بيار الجميل أيضاً، إفشال التحرك الأوروبي الأخير لوضع مبادرة للسلام العادل والشامل، ووضع حدّ لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل يومياً على الشعب الفلسطيني، وكذلك لوضع حدّ لدعوات الحوار مع سورية. وأتت جريمة اغتيال بيار الجميل لتعيد كلّ هذه الأمور إلى نقطة الصفر، كما تريد إسرائيل فعلاً، ومن الواضح أن أعداء لبنان وسورية والعرب هم المستفيدون من هذه الجريمة، فهل سيستمر تجاهل أمور خطيرة، كشبكة عملاء إسرائيل التي تتحرك بحرّية لممارسة الاغتيالات والتفجيرات؟ وهل سيتواصل وضع أخبار شحنات الأسلحة إلى لبنان طيّ الكتمان، وإحالة التحقيق في الجرائم إلى مجلس الأمن بدلاً من كشف المجرمين فوراً؟ وهل تستمر التغطية على كلّ هذا بتوجيه أصابع الاتهام نحو سورية بدلاً من توجيهها حيث يجب أن تتجه، نحو أعداء سورية ولبنان الممتلئين حقداً على كلّ عربيّ؟
لقد أعلن أعداء هذه الأمة خططهم بنشر "الفوضى البناءة" في الشرق الأوسط، وها هم قد نشروا هذه الفوضى الدموية في العراق، ويواصلون محاولاتهم المتكررة لنشرها في لبنان منذ اغتيالهم للرئيس رفيق الحريري، مستهدفين في المحصلة لبنان وسورية. ولكنّ مدى نجاحهم سوف يعتمد على مستوى الوعي وكفاءة القيادة والحكمة التي يظهرها جميع العرب، لأن وقوف بعض العرب على الحياد لا يعني أنهم في منأى عن مخطط هذه الديمقراطية الدموية والمدمرّة للعرب جميعاً. أو لم يستفد هؤلاء من تجربة العراق؟ أو يريدون فتح بلدهم لتجار السلاح وكواتم الصوت والمجرمين المحترفين، والذين يزرعون الموت في شوارع مدن العراق، مرّة في أحياء السنّة وأخرى في أحياء الشيعة!!؟
متى يستفيق العرب ويتيقنون أن أعداءهم قد استباحوا دماءهم، ودنسوا أرضهم، ونهبوا ثرواتهم، وزرعوا الفتنة بين صفوفهم، كأسلوب وحيد لإضعافهم وإفساح المجال للمتربصين بهم لبناء ديمقراطيتهم على أنقاض حضارة وتاريخ وعراقة هذه الأمة العظيمة؟
د.بثينة شعبان