الحلقة الأولى: بقلم عدنان البديري نحاول في هذا البحث أن نتطرق إلى بيان دوافع نشوء الطائفية و المشكلات التي أثارتها عبر التاريخ , مع مناقشة ما أحدثته من مواقف على صعيد الساحة العراقية , و كيف تعامل السيد محمد باقر الصدر و السيد الحسني معها , و ما هي الطروحات التي تبنوها لتفادي هذه الإشكالية. و يكون البحث على شكل حلقات , و هذه هي الحلقة الأولى منه. تعد الاختلافات القومية و الطائفية و المذهبية من أهم القضايا التي كان لها بالغ الأثر في تحديد مسار الإنسانية و صياغة التفاعلات الاجتماعية على مدى مشوارها الطويل , و لعل ما واجهته البشرية من أزمات و حروب و ويلات مختلفة كان نتاجاَ واضحاَ لهذه الافرازات المستمرة التي تتحرك في عروق دعاتها و منضريها , الذين ما برحوا من استخدمها كوقود لتأجيج التناحر و الاحتراب بين مكونات المجتمع الواحد. و يكاد لا يخلو مكان من العالم لم يكتوي بهذه النار المحرقة و يتذوق طعمها المر سواء في الماضـي أو الحاضر , و الامثله على ذلك كثيرة و متعددة بتعدد الأطياف و القوميات و المذاهب. و لعل الجميع أيضا يلمس و بشكل واضح تلك التركة الثقيلة التي خلفتها تلك النزاعات من عداوة و بغضاء , تمثل عقبة كأود تقف حائلا في طريق تحسين العلاقات البشرية و تطبيعها. و في خضم تلك الإحداث المتكررة على مر الأجيال يبين لنا التاريخ إن المغذي و المخطط الرئيسي للضرب على الوتر الطائفي هم أصحاب المصالح الخاصة و الفئوية الضيقة التي لا ترى إلا بعين مصالحها و لا تفكر إلا على ضوء منافعها. و على الرغم من إن هؤلاء النفعيين حاولوا التغطية على توجهاتهم الطائفية و العنصرية أثناء ألازمات و الحروب التي أشعلوا فتيلها مستترين بشعارات براقة كدعاوى الديمقراطية و حرية الفرد و ردع الإرهاب و غير ذلك , إلا انه سرعان ما تنكشف تلك الشعارات الكاذبة و تظهر الحقيقة إلى السطح و بشكل لا ينتابه أدنى شك.و خير دليل هو ما انطوت عليه الحروب الصليبية التي شنتها أوربا على الدول الإسلامية من توجه طائفي و تطهير عرقي و على مدى قرنين من الزمن استمرت من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي , حيث احتل الصليبيون على أثرها مدينة القدس و ارتكبوا بحق سكانها المسلمين أسوء مجازر التاريخ ,(لقد كان البعد المسيحي من احتلال القدس بعدا دينيا , فليس في القدس نفط و لا معادن ثمينة. و هي لا تقع على ممر بحري للتجارة الدولية. و ليس فيها شي يذكر سوى أهميتها الروحية للمسلمين , فكان من المهم للصليبين تجريد المسلمين من هذه الرمزية الروحية التي تعنيها القدس, و في هذا دليل تاريخي على إن الغرب ينظر للإسلام على انه خطر جيوستراتيجي , كما فيه دليلا على إن الغرب ليس علمانيا بالمعنى الذي يحاول أن يشيعه بيننا, و انه ثمة بعدا دينيا حادا لسياساته و حـــملاته العسكرية )(1). و الجولة الجديدة للغرب على الصحوة الإسلامية لم تتغير (فقد دعا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي في أوائل 1995 إلى إجراء اتصالات و تعاون بين الحلف و الدول المطلة على البحر المتوسط خشية حدوث عدم استقرار عند الجناح الجنوبي للحلف حيث أعلن صراحة إن خطر التطرف الإسلامي على الغرب يعادل الخطر الذي تشكله الشيوعية في فترة ما)(2). و وصل الغرب بنهجه الطائفي وحقده العنصري إلى ذروته عندما أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الحرب على الإسلام و المسلمين عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001 و صرح بأنه سيجعلها حرب صليبية ( فقد أجرى الرئيس الأمريكي اتصالا هاتفيا طويلا مع الرئيس الفرنسي قبيل الاعتداء الأمريكي الصهيوني على العراق , و كان الأمريكي يريد إقناع الفرنسي المشاركة الفعلية في الحرب , و من وسائل الإقناع إن الأمريكي ينقل لنظيره الفرنسي بعض ما ورد في الكتب المقدسة عندهم من تمكن العرب و المسلمين الغزو و السيطرة على الغـرب و أمريكا , و كان يصور له بشاعة و قبح ما يترتب على ذلك من جرائم و فساد حسب ادعائه حيث يعتبر العرب و المسلمين هم قوم ياجوج و ماجوج الذين ينشرون و يفعلون القبح و الفساد)(3). وإن المتتبع للواقع الإسلامي يجد بأنه على الرغم من كل ما جاءت به الرسالة الإسلامية من قيم و مثل عليا مارستها على ارض الواقع بهدف صهر الذات البشرية و إنقاذها من الأنا و الانتماءات الضيقة و الإنجازات الكبيرة التي تحققت على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه و اله وسـلم ) و الطليعة من أصحابة البررة, الذين جسدو وبكل وضوح المضامين الإلهية و النموذج القرآني الذي أراده الله عز وجل للبشرية ((يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم )) (4) و (( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)) فكانوا بحق كما أرادهم الرسول الكريم (ص ) (( مثل المؤمنون كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى)) . فعلى الرغم من ذلك كله, لم تخل الساحة الإسلامية من وباء الطائفة و التحزب و العشيرة فقد سرى فيها و على مستويات متباينة مصحوبا بحب البروز و بقايا النزعة القبلية المتأصلة التي لم تكن مستعدة للذوبان في روح الإسلام العالية.يذكر الطبري في تاريخه عن ما جرى من أحداث بعد وفاة النــــبي (ص) ( فأتيناهم و هم مجتمعون في سقيفة بني ساعده .قال و إذا بين أظهرهم رجل مزمل قال : قلت من هذا , قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شانه؟ قالوا: وجع , فقام رجل منهم فحمد الله و قال: أما بعد فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام . وانتم يا معشر قريش رهط رآه وقد دفت إلينا من قومكم دافة) (5) . و يبين ابن أبي الحديد هذا النزاع فيقــــــــــول ( تكررت الدعوات بتقاسم السلطة بين المهاجرين و الأنصار , ووصل النزاع إلى حد احتمال حصول التصادم بين المهاجرين و الأنصار . وضمن السجال الدائر و الدعوة إلى تقاسم السلطة , قام الحباب بن منذر, فقال :يا معشر الأنصار , ملكوا عليكم أيديكم , إنما الناس في فيكم وظلكم , ولن يجترئ مجترئ على خلافكم , و لا يصدر الناس إلا عن أمركم , انتم أهل الإيواء و النصرة , واليكم كانت الهجرة , وانتم أصحاب الدار و الإيمان , و الله ما عبد الله علانية إلا عندكم و في بلادكم , ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم , و لا عرف الإيمان إلا من أسيافكم , فاملكوا عليكم أمركم , فان أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير) (6). فقد كان للخلافات القبلية تأثيره الواضح على طبيعة سير الأمور بعد وفاة الرسول (ص), فلولا حنكة القيادة الإسلامية وقت ذاك و إيثارها المصلحة العامة للإسلام لكانت الصورة الإسلامية قد تغيرت و الأمور قد تعقدت. إن ما أراده الإسلام ليس إلغاء الانتماءات بقدر ما أراد أن يكون الولاء الأول و الأخير للعقيدة و المبدأ وليس للعشيرة أو التكتل , فمن حق الفرد أن يفتخر بنسبه و انتمائه و لكن ليس على حساب الإسلام و مبادئه . هذه هي المعادلة التي وضعتها شريعة السماء. إلا إن مجريات الأحداث كانت على العكس من ذلك التشريع الإلهي ( فقد خلقت سياسات الدكتاتورية الحاكمة حالة من الإحساس الجماعي داخل طوائف و مجموعات عرقية و قومية و دينية , بكونها مستهدفة من قبل طائفة أخرى . وينجم عن الأمر إحساس بالغبن و المظلومية. في حين إن جوهر هذه السياسات نابعة أساسا من تفرد طغمة أو مجموعة بالحكم , تمارس القمع و التنكيل باسم القومية السائدة و الطائفة المعينة , دون أن تكون بالأساس مخولة من تلك الطائفة و القومية . والأكثر من هذا إن تخلق تلك الطغمة الحاكمة من انتمائها لتلك الطائفة أو القومية سياجا واقيا لتبرير سياساتها للمضي قدما في اقتراف الجرائم , وسلاح أساسي لإذكاء النعرات الطائفية و المذهبيــــــــــــــــــــــة و القومية )(7) . إن هؤلاء الذين استخدموا ورقة الانتماء الطائفي وسيلة للحصول على مكاسبهم الخاصة و قمع الأخر , لا يمكن أن ننسبهم إلى هذا المذهب أو ذاك, فهم لا يمثلون إلا نفوسهم المريضة و عقائدهم المشبوهة. فلم يكن الحجاج الذي استباح الكعبة و هتك حرمتها في الماضي, و صدام الذي اعدم الشيعة في الجنوب و الأكراد في الشمال , ممثلين لمذهب أبناء السنة في يوم ما. كذلك لم يكن الصفوين الذين حاربوا حتى الشيعة أنفسهم في الماضي , و شاة إيران ربيب الصهيونية العالمية الذي اضطهد الحريات في الحاضر ممثلين لمذهب شيعة أهل البيت في يوما ما أيضا . و عليه يمكن القول بأن مسالة الطائفية هي مسالة عامة وشاملة لا تختص بدين دون أخر أو طائفة دون أخرى أو مذهب دون مذهب أخر . والسبب في ذلك يرجع دائما إلى جدل الإنسان الذي يفرز العديد من التناقضات التي يحاول ملئها بالانتصار للعشيرة أو المذهب أو الطائفة أو استخدام هذه الانتماءات للانتصار للذات و مصالحها الخاصة. (1)د.عبد الله فهد النفيسي،/ هل يشكل الإسلام خطرا على الغرب/ص34 . (2)صحيفة الجهاد العراقية بتاريخ 6/3/1995 . (3)السيد محمود الحسني/ كتاب الدجال /ص11. (4) الحجرات/13. (5)تاريخ الطبري /ج2 ص233 . (6)ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة /ج 6ص528. (7)هادي محمود / التوظيف السياسي للفكر الديني /ص32.
X
اقرأ في منتديات يا حسين
تقليص
لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.