الخلاف في مسألة تحريف القرآن الكريم(1)
من كتاب أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد لآية الله الشيخ محمّد جميل حمّود:2/5 ـ 57
قال الرافعي وهو أحد أكابر علماء العامة: "ذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلاّ الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفية جمعه".
وهنا يجدر بنا أن نبحث في نقطتين:
النقطة الأولى: في صنوف النَّسخ في القرآن.
وقبل بيانها، نعيد مجملاً ما قلناه سابقاً في معنى التحريف وأقسامه، فنقول: إن التحريف لغة:
"هو إمالة الشيء والعدول عن موضعه إلى جانب آخر" وهو بهذا واقع على ستة معانٍ على سبيل الاشتراك، خمسة صحيحة وواقعة، وواحدة وقع الخلاف فيها.
(الأول): تفسير القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه، وهذا من أبرز مصاديق التحريف، وقد أبدع فيه كثير من أهل الضلالة والمذاهب الفاسدةحيث حرّفوا القرآن بتأويل آياته على آرائهم وأهوائهم، لا سيّما الآيات المتعلقة بإمامة أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السَّلام)، وهو بهذا نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غير وجهته الحقيقية ومنه قوله تعالى:]مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ[ وقال تعالى: ]وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[.
]يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ[.
ولا ريب أن المورد لا يخصص الوارد، فالآية وإن كان مورد نزولها اليهود إلا أنّها واردة على كل من إتصف بصفاتهم وتقمّص شمائلهم، فلا يقتصر التحريف عليهم بل يعم النصارى والمسلمين ممن انحرف عن جادة الأنبياء والأوصياء (عليهم السَّلام).
فهذا المعنى من التحريف ورد المنع عنه كما في ظاهر الآيات المتقدمة لكونه كذباً على اللَّه تعالى، وقد ذم فاعله أيضاً في عدة من أخبارنا، منها: ما رواه الكليني (قدّس سره) بإسناده عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير:
"وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية".
(الثاني): النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، ويشمل فيزماننا هذا التجويد بشكل مجمل حيث إني أعتبر إدغام حرف بحرف نوع تحريف للقرآن الكريم باعتبار حذف بعض الحروف ليتلائم مع قواعد التجويد التي هي في الواقع من مبتدعات أعداء آل البيت، وليس عليه شاهد من آية أو رواية.
وهذا التحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً وذلك لوجود قراءات سبعة بل أكثر من سبعة، وقد ثبُت عدم تواتر القراءات عن النبيّ والعترة الطاهرة بل ولا عن القراء أنفسهم، فأكثرها اجتهادات من القراء أنفسهم، ومعلوم عدم حجية هذه الاجتهادات مهما أوتي أصحابها من الاحتياط والورع، فلا تصلح أن يُستدل بها على الحكم الشرعي، والدليل على ذلك أن كل واحد من هؤلاء القرّاء يحتمل فيه الغلط والاشتباه، ولم يرد دليل من العقل، ولا من الشرع على وجوب إتّباع قارىء منهم بالخصوص، وقد استقل العقل، وحكم الشرع بالمنع عن إتّباع غير العلم.
ودعوى أن القراءات _ وإن لم تكن متواترة _ إلا أنها منقولة عن النبيّ بخبر الواحد "فتشملها الأدلة القطعية الدالة على جواز الأخذ بأخبار الآحاد، فيخرج الاستناد إليها عن العمل بالظن بالورود أو الحكومة أو التخصيص" مردودة وذلك:
أولاً: إن القراءات لم يثبت كونها رواية، لتشملها هذه الأدلة، بل هي اجتهادات من القرّاء، ويؤيد هذا ما ورد عن ثلة من محققي علماء العامة، منهم القرطبي، فقال:
"قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي سفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القرّاء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، ذكره ابن النحّاس وغيره، وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القرّاء.
وقال الزركشي في البرهان:
"للقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمّد للبيان والإعجاز، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، وكيفيتها من تخفيف وتشديد غيرهما، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل بل هي مشهورة، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبيّ ففيه نظر، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد".
وقال الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد في الشافي:
"التمسُّك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سُنّة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، لم يكن قرأ بأكثر من السبع، فصنّف كتاباً وسمّاه كتاب السبعة، فانتشر ذلك في العامة..".
وقال الجزائري في موضع آخر:
"لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها، حتى قام الإمام أبو بكر أحمد ابن موسى بن العباس بن مجاهد فوكان على رأس الثلاثمائة ببغدادف فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام وهم: نافع، وعبداللَّه ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وعبداللَّه بن عامر، وعاصم وحمزة، وعلي الكسائي، وقد توهم بعض أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة، وليس الأمر كذلك.. وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة، لما فيه من الإيهام.. قال أحمد بن عمار المهدوي: لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قلّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة..". بل إذا لاحظنا السبب الذي من أجله اختلف القرّاء في قراءاتهم فوهو خلو المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقط والشكلف يقوى هذا الاحتمال جداً.
قال ابن أبي هاشم: "إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها، إن الجهاتالتي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً عن الصحابة، بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، فمن ثمّ نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار".
ويذكر الزرقاني السبب في عدم تنقيط القرآن قبل إرساله إلى الجهات فقال: "كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفاً من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه.. ولكنّ الزمان تغيّر، فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب، أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف، وخوفاً من أن يؤدي تجرّده من النقط والشكل إلى التغيير فيه".
ثانياً: إن رواة كل قراءة من هذه القراءات، لم تثبت وثاقتهم أجمع، فلا تشمل أدلة حجية خبر الثقة روايتهم.
ثالثاً: إنّا لو سلّمنا أن القراءات كلها تستند إلى الرواية، وأن جميع رواتها ثقات، إلاّ أنّا نعلم علماً إجمالياً أن بعض هذه القراءات لم تصدر عن النبيّ قطعاً، ومن الواضح أن مثل هذا العلم يوجب التعارض بين تلك الروايات وتكونكل واحدة منها مكذّبة للأخرى، فتسقط جميعها عن الحجية، فإن تخصيص بعضها بالاعتبار ترجيح بلا مرجح، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة، وبدونه لا يجوز الاحتجاج على الحكم الشرعي بواحدة من تلك القراءات.
إشكال:
لمّا كانت القراءات اجتهادات من نفس القرّاء، فإنه يدل على عدم حجيتها، في حين ورد الأمر عن أئمة أهل البيت (عليهم السَّلام) بالقراءة كما يقرأ الناس وقد كانت هذه القراءات شائعة في عهودهم (عليهم السَّلام)، فكيف الخلاص؟
والجواب:
1إنّ أمرهم لشيعتهم أن يقرأوا كما يقرأ الناس أي العامة محمولٌ على التقية، وذلك لشيوع تلك القراءات في عهودهم بحيث يعتبر المتخلّف عنها بحكم الكافر آنذاك، وصدور الأحكام منهم (عليهم السَّلام) تقية حفاظاً على قواعدهم الشعبية من الاستئصال والإبادة.
2 وصدور الأمر بالقراءة كما يقرأ الناس لعلّه يُحمل على القراءة المشهورة بين المسلمين يومذاك، التي قد تكون موافقة لنظرهم الشريف.
وبهذا يندفع ما أفاده المحقّق الخوئي حيث قال:
"وأما بالنظر إلى ما ثبت قطعياً من تقرير المعصومين (عليهم السَّلام) شيعتهم على القراءة بأية واحدة من القراءات في زمانهم، فلا شك في كفاية كل واحدة منها، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ولا أقل من نقله بالآحاد، بل ورد عنهم (عليهم السَّلام) إمضاء هذه القراءات بقولهم "اقرأ كما يقرأ الناس، اقرأوا كما عُلمتم" وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء السنة، ولا موضوعة.. ثم قال:
وصفوة القول: إنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت (عليهم السَّلام)".
ذيل كلامه الأخير حق، لكنه ينقض صدره حيث جوّز القراءة بكل واحدة منها مما يستلزم بحسب هذه الدعوى صحة القراءة حتى بالشاذة منها، كما يستلزم هذا الحكم على كل القراءات السبعة أو العشرة بالصحة، واشتراطه "في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء السنّة ولا موضوعة" أول الكلام، إذ من أين يثبت لنا أن جلّ هذه القراءات ليست شاذة، وهل المعيار في شذوذ القراءة عدم نقل علماء العامة لها وعدم اعتقادهم بها؟ وإذا كان كذلك فما الدليل عليه؟ وهل نقْل الخصم لهذه القراءات يعتبر عنده نقلاً صحيحاً يجوز العمل على طبقه؟ لا أدري إن كان يعتقد بهذا رحمه اللَّه؟!
هذا مضافاً إلى أنه إنْ كان يقصد بأنّ كل هذه القراءات كانت متواترة في عهودهم (عليهم السَّلام) فيعني أنها ممضاة من قبلهم، فتصبح كلها حجة في حين أن أكثرها فاسدٌ، وقد اعترف هو في كتابه البيان بأنها من اجتهادات القرّاء أنفسهم ولا حجية في اجتهاداتهم، ولا ملازمة بين تواترها وحجيتها، فكونها معروفة مع سكوتهم وعدم إنكارهم على بعضها لا يدل على حجيتها كلها، إذ من الواضح أن تقرير المعصوم (عليه السَّلام) يعتبر حجة إذا لم يكن هناك مانع عن الكشف عن الحكم الشرعي، وفي مثل تلك الأجواء العصيبة التي عاشها أئمة آل البيت (عليهم السَّلام) كيف يمكن تصوُّر حجية تقريرهم لهذه المسألة آنذاك، وهي كبعضها من الأحكام التي صدرت منهم تقية خوفاً من سلاطين زمانهم.
هذا مع التأكيد على أنه قد صدر ردع من الأئمة عن أغلب تلك القراءات بما رواه هو عن الأئمة (عليهم السَّلام) بقولهم: "اقرأ كما يقرأ الناس، اقرأوا كما عُلمتم" أي اقرأوا كما علّمناكم، ومن لم يصلهعلمنا فليقرأ كما يقرأ المشهور من الناس. ويشهد لما قلتُ ما ذكر في نفس الحديث الذي رواه السيّد المذكور حيث يشهد صدره وذيله على أن المأمور به هو القراءة المشهورة بين الناس حتى يقوم القائم (عليه السَّلام) مما دل على أن حكم الإمام الصادق (عليه السَّلام) بالقراءة المشهورة إنما هو آنيٌّ ومرحليٌّ حتى لا يُتهم الشيعة بالكفر والزندقة لو قراؤوا بالقراءة المخالفة لطريقة الناس آنذاك، وكان ينبغي على السيّد رحمه اللَّه أن يذكر الحديث بتمامه حتى لا يخفى الحق على ذي حجى، وإلى القارىء العزيز الحديث بتمامه:
فعن سالم بن سلمة قال:
قرأ رجل على أبي عبدفاللَّه (عليه السَّلام) وأنا أستمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأها الناس، فقال أبو عبدفاللَّه (عليه السَّلام):
كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم (عليه السَّلام)، فإذا قام القائم (عليه السَّلام) قرأ كتاب اللَّه عزّ وجلّ على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ (عليه السَّلام) وقال: أخرجه عليّ (عليه السَّلام) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب اللَّه عزّ وجل كما أنزله اللَّه على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وقد جمعته من اللّوحين فقالوا: هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما واللَّه ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه.
ولو كان كما ادّعاه المحقّق الخوئي(ره) صحيحاً لم يكن لتكذيب الإمام الصادق للقراءات أي معنىً كما ورد في حسنة الفضل بن يسار قال:
قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السَّلام): إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: كذبوا أعداء اللَّه ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد.
إنْ قيل:
إن المراد من نزوله على سبعة أحرف أي على سبع لغاتمن لغات العرب بمعنى أنها متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن.
قلنا:
1 إن قوله (عليه السَّلام): "نزل على حرف واحد.." لا يلائم هذا التفسير بل إنما يناسب اختلاف القراءة من الفتح والجر وأمثال ذلك بحيث يتغير المعنى بتغير القراءة كما هو شاهد الحال بين العامة والخاصة حيث اختلفوا على كلمة "وأرجلكم" في آية الوضوء، فنصبها العامة عطفاً لها على غسل الوجه واليدين، بعكس الخاصة حيث عطفوها على مسح الرأس. ففرق واضح بين القراءتين، لذا كذّب الإمام (عليه السَّلام) الذين نسبوا إلى اللَّه تعالى إنزال القرآن باختلاف القراءات لكونه سبباً حينئذٍ لإغراء المكلّفين بالجهل والخطأ هو قبيح صدوره من المولى عزّ وجلّ.
ويؤكد ما قلنا ما روي أيضاً في خبر زرارة عن الإمام أبي جعفر (عليه السَّلام) قال: "إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيىء من قبل الرواة.
2 إن تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها أن تتبع ما أوحي إلى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد، فعلى قارىء القرآن أن يتحرى ما أنزله عليه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة.
3 رواية السبعة أحرف المروية في كتب العامة معارضة لروايات أخرى، فتسقط الأولى عن الحجية، إذ بعضهم يؤوّل السبعة أحرف بمعاني القرآن كما ورد في مستدرك الحاكم على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبيّ قال: نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجراً وآمراً وحلالاً وحراماً ومحكماً ومتشابهاً وأمثالاً فأحلوا حلاله، وروى ابن جرير مرسلاً عن أبي قلابة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف: آمر وزاجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل.
هذه الأخبار معارضة بأخبار أُخر، مثل ما رواه ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الأنباري عن ابن عبّاس عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إن القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام.. وعن الإمام عليّ (عليه السَّلام): أنزل القرآن على عشرة أحرف: بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام.
وفي رواية أحمد من حديث أبي بكر أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) استزاد من جبرائيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف، قال يعني جبرائيل: كلها شاف كافٍ ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب.
وزاد في حديث آخر قولك: تعال واقبل وهلم واذهب واسرع وعجّل. ونحوه فيرواية الطبراني عن أبي بكرة.
وفي الإتقان أخرج نحوه أحمد والطبراني عن ابن مسعود، وأخرج أبو داود في سننه عن أُبي عن رسول اللَّه قوله حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلاّ شاف كافٍ إن قلت سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب.
وعن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. وأخرج أحمد من حديث عمر: القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة.
انظرإلى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس.
الثالث: الإخلال بترتيب الآيات والسور كما أنزلها اللَّه تعالى، بمعنى إثبات السور أو الآيات على خلاف ترتيب نزولها، وهذا ملحوظ في المصاحف اليوم من اختلاط المدني بالمكي وبالعكس لا سيّما في عامة السور، أما الآيات فقليل أمثال آية الإكمال والتطهير.
الرابع: النقص والزيادة في الآية والسورة.
والتحريف لهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً، فالبسملة مثلاً مما تسالم المسلمون على أن النبيّ قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة، وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة، فاختار جمع منهم أنها ليست من القرآن، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلا إذا نوى به المصلي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة أخرى إلى أن البسملة من القرآن. وأما الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كل سورة غير سورة التوبة، واختار هذا القول جماعة من علماء السنة أيضاً، إذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقيناً بالزيادة أو بالنقيصة.
الخامس: التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل.
والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة.
السادس: التحريف بالنقيصة، بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس.
والتحريف بهذا المعنى هو ما وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون.
· رأي المسلمين الشيعة:
المشهور بين علماء الشيعة الإمامية، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف بالمعنى السادس، وقد صرّح بذلك كثير من الأعلام، منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق محمد بن بابويه في كتاب الاعتقاد فقال: اعتقادنا أن القرآن الذي أنزل اللَّه على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك، ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في مقدمة تفسيره التبيان، وثلة من المتقدمين والمتأخرين.
وذهب جمع من الشيعة والعامة إلى وقوع التحريف، وقد نسب الرازي القول بالتحريف إلى الظاهريين منهم، بل ما عليه التحقيق أن أول من قال بالتحريف هو جماعة من الصحابة، على رأسهم عمر بن الخطّاب، والعجب من العامة كيف أثاروا على المسلمين الشيعة حملة إعلامية مكثّفة ينسبون إليهم القول بالتحريف، في حين يتناسون ما ذكرته مصادرهم من نسبة التحريف إلى جماعة منهم.
وها هو أبو الفضل جلال الدين السيوطي يذكر لنا الكثير من اعتقاد بعض الصحابة في القرآن.
1 قال حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر.
2 وروى عن ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبيّ مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن.
3 وعن اسماعيل بن جعفر بسند معنعن عن ذر بن حبيش: قال لي أُبي بن كعب: كأين تعد سورة الأحزاب؟
قلت: اثنتين وسبعين آية أو ثلاثة وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم، قلت: وما آية الرجم قال: إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم.
4 حدثنا عبد اللَّه بن صالح... عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول اللَّه آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.
5 وقال حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إن اللَّه وملائكته يصلّون على النبيّ، يا أيُّها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسملوا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأول. قالت: قبل أن يغيّر عثمان المصاحف.
6 وحدثنا عبد اللَّه بن صالح بسند معنعن إلى أبي واقد الليثي قال:
كان رسول اللَّه إذا أوحي إليه أتيناه فعلمنا مما أوحي إليه، قال: فجئت ذات يوم فقال: إن اللَّه يقول: "إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم وادياً لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب اللَّه على من تاب".
7 وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال:
قال لي رسول اللَّه إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: ]لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ[ ومن بقيتها "لو ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه سأل ثانياً، وإن سأل ثانياً فأعطيه سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب، وإن ذات الدين عند اللَّه الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره".
8 وقال أبو عبيدة حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها: "إن اللَّه سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو ان لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب اللَّه على من تاب".
9 وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى السبحات ما نسيناها، غير أني حفظت منها: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة".
10 وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن سعيد عن الحكم بن عتيبة عن عديّ بن عديّ قال: قال عمر: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم. ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم. وقال: حدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن عمر الجمحي، حدّثنيابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمان بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها قال: سقطت فيما أسقط من القرآن.
11وقال: حدّثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال: ابن مسلمة: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب اللَّه عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.
12وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول اللَّه(ص) فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول اللَّه(ص) فذكرا ذلك له فقال: إنها مما نسخ فالهوا عنها.
13 وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا وقنت يدعو على قاتليهم قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: أن بلغوا عنّاقومنا أنا ليقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وفي المستدرك عن حذيفة قال: ما تقرؤون ربعها: يعني براءة. قال الحسين بن المناري في كتابه "الناسخ والمنسوخ": ومما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر وتسمى سورتي الخلع والحفد.
14 وقال في البرهان في قول عمر: لولا أن تقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها: يعني آية الرجم.
15 وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف فمرّا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول اللَّه(ص)يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فقال عمر: لمّا نزلت أتيت النبي(ص) فقلت: أكتبها، فكأنه كره ذلك، فقال عمر ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟.
16 وأخرج النسائي أن مروان بن المحكم قال لزيد بن ثابت: "ألا تكتبها في المصحف؟ فقال: ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر: أنا أكفيكم فقال: يا رسول اللَّه اكتب لي آية الرجم، فقال: لا تستطيع. قوله اكتب لي: أي ائذن في كتابتها ومكني من ذلك.
17 وأخرج ابن الضريس في فضائلالقرآن عن يعلى بن حكيم عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم فإنه حقّ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبيّ بن كعب فقال: أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول اللَّه(ص)؟ فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر؟.
18 روى ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال فيما قال، وهو على المنبر:
"إن اللَّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللَّه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول اللَّه ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه على من زنى إذا أحصن من الرجال... ثم إنّا كنا نقرأ من كتاب اللَّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو: إنّ كُفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم..".
وذكر السيوطي: أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد، قال: "أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده".
فآية يالرجم بنظر الصحابي عمر بن الخطّاب قد سقطت منالقرآن لا محالة.
19 أخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعاً:
"القرآن الف الف وسبعة وعشرون الف حرف".
بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.
20وروى زرّ، قال: قال أُبي بن كعب يا زرّ:
"كأيّن تقرأ سورة الأحزاب، قلت: ثلاث وسبعين آية، قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة..".
21 وروى ابن أبي داود وابن الأنباري عن ابن شهاب، قال:
"بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب...".
22 وروى عمرة عن عائشة أنها قالت:
"كان فيما أنزل من القرآن: "عشرُ رضعاتٍ معلومات يُحرّمن" ثم نسخن ب: "خمسٍ معلومات"، فتوفى رسول اللَّه وهن فيما يقرأ من القرآن.
23 وروى المسور بن مخرمة، قال:
قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فإنّا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.
24 وروى أبو سفيان الكلاعي: أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: "أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة:
"إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب اللَّه عليهم اولئك لا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون".
وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأُبي بن كعب: "اللهم إنّا نستعينك ونستغفركونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهم إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق".
وهناك آيات أُخر زعم ابن الخطّاب أنها من القرآن ثم أسقطت منه، هي آية الجهاد، قال عمر لابن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا "أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة" فإنّا لا نجدها؟ قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.
وآية الفراش "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فقد ورد أنه خاطب أُبي بن كعب: أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه "أن انتفاءكم من آبائكم كفربكم"؟ فقال: بلى.. ثم قال: أوليس كنّا نقرأ "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فيما فقدنا من كتاب اللَّه؟ فقال أُبي: بلى.
"الولد للفراش" حديث مروي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ظنه ابن الخطّاب آيةً قرآنية.
وهناك العديد من هذه الروايات، ذكرها السيوطي في الإتقان وغيره عن مفسري العامة، حيث ادّعوا أن القرآن الكريم ذهب منه كثير بذهاب حملته يوم اليمامة.
وغير خفي أن القسم الأخير من أقسام التحريف هو نفسه ما يسميه جمهور العامة "بنسخ التلاوة" وهو بعينه القول بالتحريف والإسقاط، فتسميته بنسخ التلاوة تمويهاً على السذج حتى لا يُقدح بعمر بن الخطاب وعائشة وأمثالهما ممن يحسن العامة بهم الظن، وهذه التسمية لا تُخرجه عن أقسام التحريف، وعليه يمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء العامة، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة.
ومن العجيب أن جماعة من علماء العامة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم حتى أن الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية، وقال: "إن أحداً من علماء السنّة لم يذهب إلى ذلك" وأعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد أصحابه بالتحريف، فالتجأ هو إلى إنكاره" مع أنك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة.
وبالجملة: إنّ نسخ التلاوة باطل وذلك:
لأنه إما أن يكون قد وقع من رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإما أن يكون ممن تصدّى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول اللَّه فهو أمر يحتاج إلى إثبات، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، منهم أبو إسحاق الشاطبي، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه، والمشهور عند الظاهريين بإمتناع نسخ الكتاب بالسنَّة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه، وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبيّ بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الإسقاط قد وقع بعده، وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبي فهو عين القول بالتحريف الذي يقول به أكثر علماء أهل السنّة.
انتهينا هنا من بيان معنى التحريف وأقسامه، والآن نشرع في النقطة التي وعدنا البحث فيها وهي: